تلخيص التمهيد الجزء ٢

تلخيص التمهيد10%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 579

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 106146 / تحميل: 10831
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

حليف النسيان، أمّا بلوغ الأقصى والكمال الأوفى الذي حدّ الإعجاز فهو خاصّ بذي الجلال المحيط بكلّ الأحوال.

وفي ذلك يقول السكّاكي: البلاغة تتزايد إلى أن تبلغ حدّ الإعجاز، وهو الطرف الأعلى وما يقرب منه (١) ، ومنه أخذ الخطيب القزويني: وللبلاغة في الكلام طرفان، أعلى وهو حدّ الإعجاز وما يقرب منه، وأسفل وهو ما إذا غيّر الكلام إلى ما دونه التحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات (٢) .

إذاً فالطرف الأعلى وما يقرب منه، كلاهما حدّ الإعجاز، على ما حدّده السكّاكي، وبذلك يكون اختلاف مراتب آيات القرآن في الفصاحة والبيان كلّه داخلاً في حدّ الإعجاز الذي لا يبلغه البشر، وهذا هو الصحيح على ما سنبيّن.

وبعد، فالمتلخصّ من هذا البيان: أنّ التفاضل بين كلامينِ أو التماثل بينهما إنّما يتحقّق بهذه الاعتبارات - التي هي مقاييس لدرجة فضيلة الكلام - وهي من قبيل المعنى أكثر مِمّن كونها من قبيل اللفظ، فليس المقصود بالتحدّي المعارضة في التشاكل اللفظي والتماثل في صورة الكلام فحسب، كما حسبه مسيلمة الكذّاب ومَن حذا حذوه من أغبياء القوم.

* * *

____________________

(١) مفتاح العلوم: ص١٩٦ - ١٩٩.

(٢) المطوّل للتفتازاني: ص٣١ طبعة استنبول.

٢١

سرّ الإعجاز

وجوه الإعجاز في مختلف الآراء والنظرات:

اختلفت أنظار العلماء في وجه إعجاز القرآن بين مَن أنهاه إلى عدّة وجوه ومَن اقتصر على وجه واحد، ولا يزال البحث مستمرّاً على هذا السر الذي هو دليل الإسلام.

١ - ذهب أرباب الأدب والبيان إلى أنّها الفصاحة البالغة والبلاغة الفائقة، إنْ في بديع نَظمه أو في عجيب رصفه، الذي لم يسبق له نظير ولن يَخلفه بديل.

قد نُضّدت عباراته نضداً مؤتلفاً، ونُظّمت فرائده نظماً متلائماً، وُضعت كلّ لفظة من في موضعها اللائق بها، ورُصّفت كلّ كلمة منه إلى كلمات تناسبها وتوائمها، وضعاً دقيقاً ورصفاً تامّاً، يجمع بين أناقة التعبير وسلاسة البيان، وجزالة اللفظ وفخامة الكلام، حلواً رشيقاً وعذباً سائغاً، ويستلذّه الذوق ويستطيبه الطبع، ممّا يستشفّ عن إحاطة واسعة ومعرفة كاملة بأوضاع اللغة ومزايا الألفاظ والكلمات والتعابير، ويقصر دونه طوق البشر المحدود!

قالوا في دقّة هذا الرصف والنَضد: لو انتُزعت منه لفظة ثُمّ أُدير بها لغة العرب كلّها على أن يوجد لها نظير في موضعها الخاصّ لم توجد البتة.

٢٢

٢ - وزادوا جانب أُسلوبه وسبكه الجديد على العرب، لا هو شعر كشعرهم ولا هو نثر كنثرهم، ولا فيه تكلّف أهل الكهانة والسجع، قد جمع مزايا أنواع الكلام، فيه أناقة الشعر، وطلاقة النثر، وجزالة السجع الرصين، في حلاوة وطلاوة وزهوٍ وجمال: (إنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة، وإنّه يعلو ولا يُعلى) كلام قاله عظيم العرب وفريدها الوليد.

أو كما قال الراغب: القرآن حاوٍ لمحاسن أنواع الكلام بنظمٍ ليس هو نظم شيء منها.

٣ - وتوسّع المحدثون في البحث وراء نظامه الصوتي العجيب:

أنغام وألحان تبهر العقول وتذهل النفوس، نُظّمت كلماته على أنظمة صوتية دقيقة، ورُصّفت ألفاظه وعباراته على ترصيفات موسيقية رقيقة، متناسبات الأجراس، متناسقات التواقيع، في تقاسيم وتراكيب سهلة سلسلة، عذبة سائغة، ذات رنّة وجذبة شعرية عجيبة، واستهواءٍ سحريّ غريب!

٤ - وأضاف المحقّقون جانب اشتماله على معارف سامية وتعاليم راقية تُنبئك عن لطيف سرّ الخليقة، وبديع فلسفة الوجود، في جلال وجمال وعظمة وكبرياء، بما يترفّع كثيراً عمّا راجت في تعاليم مصطنعة ذلك العهد، سواءٌ في أوساط أهل الكتاب أم الوثنيّين.

٥ - وهكذا تشريعاته جاءت حكيمة ومتينة، متوافقة مع الفطرة ومتوائمة مع العقل السليم، في طهارة وقداسة وسعة وشمول، كانت جامعةً كاملةً كافلةً؛ لإسعاد الحياة في النشأتَينِ.

٦ - وكانت براهينه ساطعة، ودلائله ناصعة، واضحة ولائحة، قامت على صدق الدعوة وإثبات الرسالة، في بيانٍ رصين، ومنطقٍ رزين وفصل خطاب.

٧ - واشتمالُه على على أنباء غيبية، إمّا سالفة كانت محرّفةً سقيمةً فجاءت محرّرة سليمة في القرآن الكريم، أو إخبار عمّا يأتي تحقّق صدقها بعد فترة قصيرة أو

٢٣

طويلة، كانت شاهدة صدق على الرسالة.

٨ - إلى جنب إشارات علمية عابرة إلى أسرار من هذا الكون الفسيح، وإلماعات خاطفة إلى حقائق من خفايا الوجود، ممّا لا تكاد تبلغه معرفة الإنسان العائش يومذاك.

٩ - وأخيراً استقامته في البيان، وسلامته من أيّ تناقض أو اختلاف، في طول نزوله، وكثره تكراره لسرد حوادث الماضين، كلٌّ مشتمل على مزية ذات حكمة لا توجد في أختها، وكذا خلوّه عن الأباطيل وعمّا لا طائل تحتها.

تلك روائع آراء نتجتها أنظار الأُدباء، وبدائع أسرار وصلت إليها أفكار العلماء، كانت مِن وجوه إعجاز القرآن ومزاياه الوسيمة، سوف نسرد عليك تفاصيلها في مجالها الآتي إن شاء الله.

١٠ - لكن هناك وجه آخر يجعل من الإعجاز أمراً خارجيّاً عن جوهر القرآن بعيداً عن ذاته، وإنّما هو لعجزٍ أَحدثه الله في أَنفس العرب والناس جميعاً، ومنعهم دون القيام بمعارضته قهراً عليهم، وهو القول بالصرفة، الذي عليه بعض المتكلّمين الأوائل ومَن لفّ لفّهم من الكُتّاب الأُدباء.

وسنتعرّض لتفنيده وتزييفه على منصّة البحث والاختبار، بعونه تعالى.

وبعد، فإليك تفصيل آراء ونظرات حول إعجاز القرآن، مِن القدماء والمحدثين لها قيمتها في عالم الاعتبار.

* * *

٢٤

آراءٌ ونظراتٌ عن إعجاز القرآن

(أَوّلاً) في دراسات السابقين:

هناك للعلماء - سلفاً وخلفاً - بحوث ودراسات وافية حول مسألة إعجاز القرآن، مُنذ مطالع القرون الأُولى فإلى هذا الدور، ولهم كلمات ومقالات ضافية عن وجه هذا الإعجاز المُتحدّي به من أَوّل يومه، ولا يزال مُستمرّاً عِبر الخلود ولهذه الأبحاث والدراسات قيمتها ووزنها العلمي النظري في كلّ عصر وفي كلّ دور، وأنّ الفضل يرجع إلى الأسبق ممّن فتح هذا الباب وأَسّس أساس هذا البنيان، فكان مَن يأتي مِن بعد، إنّما يجري على منواله ويضرب على ذات وتره، مهما تغيّر اللون أو تنوّع الأُسلوب. ونحن نقدّم من آراء مَن سلف الأهمّ منها فالأهمّ، ثُمّ نعقبها بطرف من آراء المتأخّرين ممّن قاربنا عصره، وعلى أيّ تقدير، فإنّ مساعيهم جميعاً مشكورة، ومواقفهم في استنباط حقائق من الكتاب العزيز مقدّرة، فلله درّهم وعليه أجرهم، وإليك:

* * *

٢٥

١ - رأي أبي سليمان البُستي:

يرى أبو سليمان حمد بن محمّد بن إبراهيم الخطّابي البُستي (١) (توفّي سنة ٣٨٨هـ) في رسالته الوجيزة التي وضعها في بيان إعجاز القرآن - ولعلّه أَسبق مِن توسّع في هذا البحث أفاد وأجاد -: أنّ الإعجاز قائم بنظمه، ذلك المتّسق البديع ورصفه، ذلك المؤتلف العجيب، قد وُضعت كلّ كلمة في موضعها اللائق بدقّة فائقة، ممّا يستدعي إحاطة شاملة تعوزها البشرية على الإطلاق، الأمر الذي أبهر وأعجب.

قال: قد أكثر الناس الكلام في هذا الباب قديماً وحديثاً، وذهبوا فيه كلّ مذهب من القول وما وجدناهم بعدُ، صَدَروا عن ريٍّ؛ وذلك لتعذر معرفة وجه الإعجاز في القرآن، ومعرفة الأمر في الوقوف على كيفيّته، فأمّا أن يكون قد نقبت في النفوس نقبة (٢) بكونه معجزاً للخلق ممتنعاً عليهم الإتيان بمِثله على حال، فلا موضع لها، والأمر في ذلك أَبين مِن أن نحتاج إلى أن نُدِلّ عليه بأكثر من الوجود القائم المستمرّ على وجه الدهر، من لدن عصر نزوله إلى الزمان الراهن الذي نحن فيه، وذلك أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قد تحدّى العرب قاطبةً بأن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا

____________________

(١) نسبة إلى بُست مدينة من بلاد كابل كانت محلّ إقامته، وينتهي نسبه إلى زيد بن الخطّاب أخي عمر بن الخطّاب، أديب لغوي ومحدّث كبير، قيل: هو أوّل من كتب في الإعجاز وطرق هذا الباب.

لكن ذَكَر ابن النديم لمحمّد بن زيد الواسطي - الذي هو من أجلّة المتكلّمين وكبارهم وصاحب كتاب (الإمامة) المُتوفّى سنة ٣٠٧هـ - كتاباً أسماه (إعجاز القرآن في نظمه وتأليفه)، (راجع الفهرست: ص٦٣ و٢٥٩، والذريعة: ج٢، ص٢٣٢، رقم ٩١٧).

وقبله أبو عبيدة معمّر بن المثنّى (توفيّ سنة ٢٠٩هـ) له كتاب (إعجاز القرآن) في جزءَين، وهو مِن أَوّل الدراسات القرآنية التي ظهر فيها الاتجاه إلى الكشف عن أسرار أُسلوب القرآن، وقد نشره الخانجي بمصر سنة ١٩٥٥م (راجع مقدّمة الطبعة الثانية لكتاب (ثلاث رسائل في إعجاز القرآن): ص٥، والتمهيد: ج١، ص٨).

(٢) أَي أُلقيت في النفوس إلقاءً، وهو قول قريب من القول بالصرفة، ومِن ثَمّ رفضه.

٢٦

عنه وانقطعوا دونه، وقد بقيَ (صلّى الله عليه وآله) يُطالبهم به مدّة عشرين سنة، مُظهِراً لهم النكير، زارياً على أديانهم، مُسفِّهاً آراءهم وأحلامهم، حتى نابذوه وناصبوه الحرب فهلكت فيه النفوس، وأُريقت المُهج، وقُطعت الأرحام، وذهبت الأموال.

ولو كان ذلك في وسعهم وتحت أقدارهم لم يتكلّفوا هذه الأُمور الخطيرة، ولم يركبوا تلك الفواقر المبيرة (١) ، ولم يكونوا تركوا السَهل الدَمِث من القول، إلى الحَزِن الوعر من الفعل (٢) .

هذا مالا يفعله عاقل ولا يختاره ذو لبّ، وقد كان قومه قريش خاصّة موصوفين برزانة الأحلام ووفارة العقول والألباب، وقد كان فيهم الخطباء المصاقع والشعراء المفلّقون (٣) ، وقد وصفهم الله تعالى في كتابه بالجدل واللَّدَد، فقال سبحانه: ( مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ) (٤) ، وقال سبحانه: ( وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً ) (٥) ، فكيف كان جوز - على قول العرب ومجرى العادة مع وقوع الحاجة ولزوم الضرورة - أن يغفلوه ولا يهتبلوا الفرصة فيه (٦) وأن يضربوا عنه صَفحاً، ولا يجوزوا الفلح والظفر فيه، لولا عدم القدرة عليه والعجز المانع منه.

قال: وهذا - من وجوه ما قيل فيه - أبينُها دلالةً وأَيسرها مؤونةً، وهو مُقنع لمَن تُنازعه نفسه مطالعة كيفية وجه الإعجاز فيه (٧) .

٢ - اختيار ابن عطيّة:

ولأبي محمّد عبد الحقّ بن غالب المحاربي الغرناطي - الفقيه المفسّر (توفّي

____________________

(١) الفاقرة: الداهية، والإبارة: الإهلاك.

(٢) الدماثة: السهولة، يقال: أرض دمث أي ذَلول، ضد الحزونة والوعورة.

(٣) المصقع: البليغ، وشاعر مفلّق - بزنة اسم الفاعل - مُبدع.

(٤) الزخرف: ٥٨.

(٥) مريم: ٩٧.

(٦) اهتبال الفرصة: اغتنامها.

(٧) أي وهذا أيسر الوجوه لمَن أراد الاقتناع النفسي ولو تقليداً وليس تحقيقاً.

٢٧

سنة ٥٤٢هـ) - اختيار يشبه اختيار أبي سليمان البُستي، ولعلّه اختزال منه، ذَكره في مقدّمة تفسيره (المحرّر) ونقله الإمام بدر الدين الزركشي، مع تصرّف واختصار.

قال ابن عطيّة: إنّ الذي عليه الجمهور والحذّاق - وهو الصحيح في نفسه - أنّ التحدّي إنّما وقع بنظمه، وصحّة معانيه، وتوالي فصاحة ألفاظه، ووجه إعجازه أنّ الله قد أحاط بكلّ شيء علماً، وأحاط بالكلام كلّه علماً، فإذا ترتّبت اللفظة من القرآن علم - بإحاطته - أيّ لفظة تصلح أن تلي الأُولى، ويتبيّن المعنى دون المعنى، ثُمّ كذلك من أَوّل القرآن إلى آخره.

والبشر معهم الجهل والنسيان والذهول، ومعلومٌ ضرورةً أنّ بشراً لم يكن قطّ مُحيطاً، فبهذا جاء نظم القرآن، في الغاية القصوى من الفصاحة، وبهذا النظر يَبطل قول مَن قال: إنّ العرب كان في قدرتها الإتيان بمِثله، فلمّا جاءهم محمّد (صلّى الله عليه وآله) صُرفوا عن ذلك وعَجزوا عنه! والصحيح أنّ الإتيان بمِثل القرآن لم يكن قطّ في قدرة أحد مِن المخلوقين، ويظهر لك قصور البشر، في أنّ الفصيح منهم يضع خطبةً أو قصيدةً يستفرغ فيها جهده، ثُمّ لا يزال يُنقِّها حولاً كاملاً، ثُمّ تُعطى لأحد نظيره فيأخذها بقريحة خاصّة فيُبدّل فيها ويُنقّح، ثُمّ لا تزال كذلك فيها مواضع للنظر والبدل.

وكتاب الله سبحانه لو نُزعت منه لفظة، ثمّ أُدير لسان العرب على لفظة في أن يوجد أحسن منها لم توجد، ونحن تتبيّن لنا البراعة في أكثره، ويخفى علينا وجهها في مواضع؛ لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذٍ في سلامة الذوق، وجودة القريحة، وميز الكلام.

قال: وقامت الحجّة على العالم بالعرب؛ إذ كانوا أرباب الفصاحة وفطنة المعارضة كما قامت الحجّة في معجزة عيسى بالأطبّاء، وفي معجزة موسى بالسَحَرة، فإنّ الله تعالى إنّما جعل معجزات الأنبياء بالوجه الشهير أَبرع ما يكون في زمن النبيّ الذي أراد إظهاره، فكان السحر في مدّة موسى قد انتهى إلى غايته،

٢٨

وكذلك الطبّ في زمن عيسى، والفصاحة في مدّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) (١) .

٣ - رأي عبد القاهر الجرجاني:

يرى الشيخ الإمام عبد القاهر الجرجاني (تُوفّي سنة ٤٧٢هـ) - وهو الواضع الأَوّل لأُسس عِلمَي المعاني والبيان -: أنّ إعجاز القرآن الذي تحدّى به العرب قائم بجانب فصاحته البالغة وبلاغته الخارقة، وبأُسلوب بيانه ذلك البديع، ممّا هو شأن نظم الكلام وتأليفه في ذلك التنافس والتلاؤم العجيب، الأمر الذي لا يمسّ شيئاً من معاني القرآن وحِكَمِه وتشريعاته، وهي كانت موجودةً من ذي قبل في كتب السالفين، وقد أطلق لهم المعاني من أيّ نمط كانت.

وقد وضع كتابَيه (أسرار البلاغة) و(دلائل الإعجاز) تمهيداً لبيان وجوه إعجاز القرآن لمن مارس أسرار هذا العلم. وثَلّثهما برسالته (الشافية) التي خصّصها بالكلام حول إعجاز القرآن والإجابة على أسئلة دارت حول الموضوع.

قال - في مقدّمة كتابه (دلائل الإعجاز) بعد أن أشاد بشأن النَظم في الكلام وتأليفه وتنسيقه -: وإذا كان ذلك كذلك فما جوابنا لخصم يقول لنا: إذا كانت هذه الأُمور الوجوه من التعلّق التي هي محصول النظم موجودة على حقائقها وعلى الصحّة وكما ينبغي في منثور كلام العرب ومنظومه، ورأيناهم قد استعملوها وتصرّفوا فيها وكملوا بمعرفتها، وكانت حقائق لا تتبدّل ولا يختلف بها الحال، إذ لا يكون للاسم بكونه خبراً لمبتدأ أو صفة لموصوف أو حالاً لذي حال أو فاعلاً أو مفعولاً لفعل في كلام حقيقة هي خلاف حقيقته في كلام آخر.

فما هذا الإعجاز الذي تجدّد بالقرآن من عظيم مزيّة، وباهر الفضل، والعجيب من الوصف، حتّى أعجز الخلق قاطبةً، وحتّى قهر من البلغاء والفصحاء القُوَى

____________________

(١) المحرّر الوجيز: المقدّمة ج١، ص٧١ - ٧٢، وراجع الزركشي في البرهان: ج٢، ص٩٧.

٢٩

والقُدَر، وقيّد الخواطر والفكر، حتّى خرست الشقاشق (١) وعدم نطق الناطق، وحتّى لم يجرِ لسان، ولم يبنِ بيان، ولم يساعد إمكان، ولم ينقدح لأحد منهم زند، ولم يمضِ له حدّ، وحتّى أَسال الوادي عليهم عجزاً، وأخذ منافذ القول عليهم أخذاً؟!

أَيلزمنا أن نجيب هذا الخصم عن سؤاله، ونردّه عن ضلاله، وأن نطبّ لدائه، ونزيل الفساد عن رائه (٢) ؟ فإن كان ذلك يلزمنا فينبغي لكلّ ذي دين وعقل أن ينظر في الكتاب الذي وضعناه (يريد نفس كتاب دلائل الإعجاز) ويستقصي التأمّل لما أودعناه (٣) .

وكرّ في الكتاب قائلاً: وإنّه كما يَفضل النظمُ النظمَ، والتأليفُ التأليفَ، والنسجُ النسجَ، والصياغةُ الصياغةَ، ثُمّ يعظُم الفضل، وتكثر المزيّة، حتّى يفوق الشيء نظيره، والمجانس له درجات كثيرة، وحتّى تتفاوت القيم التفاوت الشديد، كذلك يفضل بعضُ الكلام بعضاً، ويتقدّم منه الشيء الشيء، ثُمّ يزداد من فضله ذلك، ويترقّى منزلةً فوق منزلة، ويعلو مرقباً بعد مَرْقب، ويستأنف له غاية بعد غاية، حتّى ينتهي إلى حيث تنقطع الأطماع، وتنحسر الظنون، وتسقط القُوى، وتستوي الأقدام في العجز (٤) .

ثم قال: واعلم أنّه لا سبيل إلى أن تعرف صحّة هذه الجملة حتّى يبلغ القول غايته، وينتهي إلى آخر ما أردت جمعه لك، وتصويره في نفسك، وتقريره عندك، إلاّ أنّ هاهنا نكتة، إن أنت تأمّلتها تأمّل المُتثبّت، ونظرت فيها نظر المُتأنّي، رجوت أن يحسن ظنّك، وأن تنشط للإصغاء إلى ما أورده عليك، وهي: إنّا إذا سقنا دليل

____________________

(١) الشقاشق: جمع شقشقة - بكسر الشين - وهي لهاة البعير أو شيء كالرئة يُخرجه البعير من فيه إذا هاج، ويُقال للفصيح: هدرتْ شقاشقه، يُريدون الانطلاق في القول وقوّة البيان، ويُقال في مقابل ذلك: خرست شقاشقه.

(٢) الراء: الرأي.

(٣) في مقدمة دلائل الإعجاز: ص (ف - ص).

(٤) دلائل الإعجاز: ص٢٥ - ٢٦.

٣٠

الإعجاز فقلنا: لولا أنّهم حين سمعوا القرآن، وحين تحدّوا إلى معارضته، سمعوا كلاماً لم يسمعوا قطّ مِثله، وأنّهم قد رازوا أنفسهم (١) فأحسّوا بالعجز على أن يأتوا بما يوازيه أو يدانيه، أو يقع قريباً منه، لكان محالاً أن يدّعوا معارضته وقد تحدّوا إليه، وقرعوا فيه، وطولبوا به، وأن يتعرّضوا لشبا الأسنّة (٢) ويقتحموا موارد الموت.

فقيل لنا: قد سمعنا ما قلتم، فخبّرونا عنهم، عمّاذا عجزوا، أَعَن معانٍ من دقة معانيه وحسنها وصحّتها في العقول؟ أم عن ألفاظ مِثل ألفاظه؟ فإن قلتم: عن الألفاظ، فماذا أَعجزهم من اللفظ، أم بهرهم منه؟

فقلنا: أَعجزتهم مزايا ظهرت لهم في نَظمه، وخصائص صادفوها في سياق لفظه، وبدائع راعتهم من مبادئ آيه ومقاطعها، ومجاري ألفاظها ومواقعها، وفي مضرب كلّ مثل، ومساق كلّ خبر، وصورة كلّ عظة وتنبيه وإعلام وتذكير وترغيب وترهيب، ومع كلّ حجّة وبرهان، وصفة وتبيان، وبهرهم أنّهم تأمّلوه سورة سورة، وعشراً عشراً، وآية آية، فلم يجدوا في الجميع كلمة ينبو بها مكانها ولفظة ينكر شأنها، أو يَرى أنّ غيرها أصلح هناك أو أشبه، أو أحرى وأخلق، بل وجدوا اتّساقاً بَهر العقول، وأَعجز الجمهور، ونظاماً والتئاماً، وإتقاناً وإحكاماً، لم يدع في نفس بليغ منهم لو حكّ بيافوخه السماء (٣) موضع طمع حتّى خرست الألسن عن أن تدّعي وتقول، وخلدت القُروم (٤) فلم تملك أن تصول (٥) .

ويُعقّب ذلك بأنّ هذه كانت دلائل إعجاز القرآن، ومزايا ظهرت في نَظمه وسياقه، بَهرت العرب الأوائل، فهل ينبغي للفتى الذكي العاقل أن يكون مُقلّداً في

____________________

(١) يقال: رَاز الحجر أي وَزنه ليَعرف ثقله، ورَاز الرجل: جرّب ما عنده ليختبره.

(٢) الشبا: جمع شَبوة، وهي إبرة العقرب، وحدّ كلّ شيء.

(٣) اليافوخ: مقدّمة الدماغ في الرأس وهو مَثل يُضرب لمَن يستعلي ويتكبّر.

(٤) القَرم - بالفتح -: الفحل إذا تُرك عن الركوب والعمل.

(٥) دلائل الإعجاز: ص ٢٧ - ٢٨.

٣١

ذلك؟ أم يكون باحثاً ومتتبّعاً كي يعلم ذلك بيقين؟ ومِن ثَمّ وَضع كتابه الحاضر (دلائل الإعجاز) ليَدلّ الناشدينَ على ضالّتهم، ويضع يدهم على مواقع الإعجاز من القرآن، ويدعم مُدّعاه في ذلك بالحجّة والبرهان، والرائد لا يُكذِّب أهله، قال: وبذلك قد قطعتُ عذرَ المتهاون، ودللت على ما أضاع من حظّه، وهدايته لرشده (١) .

وقال - في رسالته (الشافية): كيف يجوز أن يظهر في صميم العرب وفي مِثل قريش ذوي الأَنفس الأبيّة والهِمم العليّة والأَنفة والحميّة مَن يدّعي النبوّة ويقول: وحجّتي أنّ الله قد أنزل عليّ كتاباً تعرفون ألفاظه وتفهمون معانيه، إلاّ أنّكم لا تقدرون على أن تأتوا بمثله ولا بعشر سورٍ منه ولا بسورة واحدة، ولو جَهدتم جهدَكم واجتمع معكم الجنّ والإنس، ثُمّ لا تدعوهم نفوسهم إلى أن يعارضوه ويبيّنوا سَرَفه في دعواه، لو كان ممكناً لهم، وقد بلغ بهم الغيظ من مقالته حدّاً تركوا معه أحلامهم وخرجوا عن طاعة عقولهم، حتّى واجهوه بكلّ قبيح وَلَقوه بكلّ أذىً ومكروه ووقفوا له بكلّ طريق.

وهل سُمع قطّ بذي عقل استطاع أن يخرس خصمه بكلمة يجيبه بها، فيترك ذلك إلى أُمور ينسب معها إلى ضيق الذَرع، وأنّه مغلوب قد أَعوزته الحيلة وعزّ عليه المَخلص؟ وهل مِثل هذا إلاّ مِثل رجل عَرض له خصم فادّعى عليه دعوى خطيرة وأقام على دعواه بيّنةً، وكان عند المدّعى عليه ما يُبطل تلك البيّنة أو يُعارضها، فيترك إظهار ذلك ويضرب عنه الصفح جملةً، ليصير الحال بينهما إلى جِدال عنيف وإخطار بالمُهج والنفوس؟ قال: هذه شهادة الأحوال، وأمّا شهادة الأقوال فكثيرة (٢) .

ثمّ قال: في وجه التحدّي -: لم يكن التحدّي إلى أن يُعبّروا عن معاني القرآن أنفسها وبأعيانها بلفظ يُشبه لفظه ونَظم يوازي نظمه، هذا تقدير باطل، فإنّ التحدّي

____________________

(١) دلائل الإعجاز: ص٢٩.

(٢) الشافية (المطبوعة ضمن ثلاث رسائل): ص١٢٠ - ١٢٢.

٣٢

كان إلى أن يجيئوا، في أيّ معنى شاءوا من المعاني، بنَظم يبلغ نظم القرآن، في الشرف أو يقرُب منه، يدلّ على ذلك قوله تعالى: ( قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ) (١) أي مِثله في النظم، وليكن المعنى مُفترى لِما قلتم، فلا إلى المعنى دعيتم، ولكن إلى النظم... (٢) .

قال: ويجزم القول بأنّهم تحدّوا إلى أن يجيئوا في أيّ معنى أرادوا مطلقاً غير مقيّد، وموسّعاً عليهم غير مضيّق، بما يشبه نظم القرآن أن يقرب من ذلك (٣) .

٤ - رأي السكّاكي:

يرى أبو يعقوب يوسف بن محمّد بن علي السكّاكي - صاحب (مفتاح العلوم) (توفّي سنة ٥٦٧ هـ) - أنّ الإعجاز في القرآن أمرٌ يُمكن دركه ولا يمكن وصفه، والمَدرك هو الذوق، الحاصل من ممارسة عِلمَي الفصاحة والبلاغة وطول خدمتهما لا غير، فقد جعل للبلاغة طرفينِ، أعلى وأسفل وبينهما مراتب لا تُحصى، والدرجة السُفلى هي التي إذا هبط الكلام عنها شيئاً التَحق بأصوات الحيوانات، ثُمّ تتزايد درجةً درجةً متصاعدة، حتّى تبلغ قمّتها وهو حدّ الإعجاز، وهو الطرف الأعلى وما يقرب منه، فقد جعل من الدرجة القصوى وما يقرب منها كليهما مِن حدّ الإعجاز.

ثُمّ قال بشأن الإعجاز: واعلم أنّ شأن الإعجاز عجيب، يُدرك ولا يُمكن وصفه، كاستقامة الوزن تُدرك ولا يُمكن وصفها، وكالمَلاحة، ومَدرك الإعجاز عندي هو الذوق ليس إلاّ، وطريق اكتساب الذوق طول خدمة هذينِ العِلمَينِ (المعاني والبيان).

ثمّ أخذ في تحديد البلاغة وإماطة اللثام عن وجوهها المُحتجبة، وكذا

____________________

(١) هود: ١٣.

(٢) الشافية: ص١٤١ و١٤٤.

(٣) الشافية: ١٤١ و١٤٤.

٣٣

الفصاحة بقسميها اللفظيّ والمعنويّ، وضرب لذلك مثلاً بآية ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ... ) (١) وبيان جهاتها الأربع من جهتي المعاني والبيان، وهما مَرجعا البلاغة، ومِن جهتي الفصاحة المعنوية واللفظية، وأسهب في الكلام عن ذلك، وقال أخيراً: ولله دَرّ التنزيل، لا يتأمّل العالم آية من آياته إلاّ أدرك لطائف لا تسع الحصر (٢) .

وغرضه من ذلك: أنّ لحدّ الإعجاز ذروةً لا يبلغها الوصف، ولكن يُمكن فهمها ودرك سَنامها؛ بسبب الإحاطة بأسرار هذين العِلمَينِ، فهي حقيقة تُدرك ولا توصف.

٥ - رأي الراغب الأصفهاني:

لأبي القاسم الحسين بن محمّد المعروف بالراغب الأصفهاني (توفّي سنة ٥٠٢ هـ) - صاحب كتاب (المفردات) - رأي في إعجاز القرآن يخصّه، إنّه يرى من الإعجاز قائماً بسبكه الخاصّ الذي لم يألفه العرب لحدّ ذاك، فلا هو نثر كنثرهم المعهود؛ لأنّ فيه الوزن والقافية وأجراس النغم، ولا هو شعر؛ لأنّه لم يجرِ مجرى سائر أشعار العرب ولا على أوزانها المعروفة وإن كانت له خاصّية الشعر من التأثير في النفس بلحنه الشعريّ النغميّ الغريب.

قال - بعد كلام له في وصف إعجاز القرآن قدّمناه آنفاً (٣) -:

وهذه الجملة المذكورة، وإن كانت دالّةً على كون القرآن مُعجزاً، فليس بمقنع إلاّ بتبيين فصلَينِ:

أحدهما: أن يُبيّن ما الذي هو مُعجز: اللفظ أم المعنى أم النظم؟ أم ثلاثتها؟ فإنّ كلّ كلام منظوم مشتمل على هذه الثلاثة.

والثاني: أنّ المُعجز هو ما كان نوعه غير داخل تحت الإمكان، كإحياء الموتى

____________________

(١) هود: ٤٤.

(٢) مفتاح العلوم: ص١٩٦ - ١٩٩.

(٣) في ص ١٢ - ١٤.

٣٤

وإبداع الأجسام.

فأمّا ما كان نوعه مقدوراً، فمحلّه محلّ الأفضل، وما كان من باب الأفضل في النوع فإنّه لا يحسم نسبة ما دونه إليه، وإن تباعدت النسبية حتّى صارت جزءً مِن ألف، فإن النجّار الحاذق وإن لم يُبلغ شَأوُه لا يكون مُعجزاً إذا استطاع غيره جنسَ فِعْلِه، فنقول وبالله التوفيق:

إنّ الإعجاز في القرآن على وجهين: أحدهما إعجاز متعلّق بفصاحته، والثاني بصرف الناس عن معارضته.

فأمّا الإعجاز المتعلّق بالفصاحة: فليس يتعلّق ذلك بعنصريه الذي هو اللفظ والمعنى؛ وذاك أنّ ألفاظه ألفاظهم، ولذلك قال تعالى: ( قُرْآناً عَرَبِيّاً ) (١) وقال: ( ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ ) (٢) تنبيهاً أن هذا الكتاب مُركّب من هذه الحروف التي هي مادّة الكلام.

ولا يتعلّق أيضاً بمعانيه، فإن كثيراً منها موجود في (الكتب المتقدّمة) ولذلك قال تعالى: ( وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ ) (٣) وقال: ( أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى ) (٤) ، وما هو مُعجز فيه من جهة المعنى كالإخبار بالغيب فإعجازه ليس يرجع إلى القرآن بما هو قرآن، بل هو لكونه خبراً بالغيب، وذلك سواء كونه بهذا النظم أو بغيره، وسواء كان مورداً بالفارسيّة أو بالعربيّة أو بلغة أُخرى، أو بإشارة أو بعبارة.

فإذا بالنَظم المخصوص صار القرآن قرآناً، كما أنّه بالنَظم المخصوص صار الشعر شعراً، والخطبة خطبةً.

فالنظم صورة القرآن، واللفظ والمعنى عنصراه، وباختلاف الصور يختلف حكم الشيء واسمه لا بعنصره، كالخاتم والقُرط والخَلخال اختلفت أحكامها وأسماؤها باختلاف صورها لا بعنصرها الذي هو الذهب والفضّة، فإذا ثَبت هذا

____________________

(١) يوسف: ٢.

(٢) البقرة: ١ و٢.

(٣) الشعراء: ١٩٦.

(٤) طه: ١٣٣.

٣٥

ثبت أنّ الإعجاز المختصّ بالقرآن متعلّق بالنظم المخصوص.

وبيان كونه مُعجزاً هو أن نُبيّن نظم الكلام، ثُمّ نُبيّن أنّ هذا النظم مخالف لنظم سائره، فنقول: لتأليف الكلام خمس مراتب:

الأُولى: النظم: وهو ضمّ حروف التهجّي بعضها إلى بعض، حتّى تتركّب منها الكلمات الثلاث: الاسم والفعل والحرف.

والثانية: أن يُؤلِّف بعض ذلك مع بعض حتّى تتركب منها الجمل المفيدة وهي النوع الذي يتداوله الناس جميعاً في مخاطباتهم، وقضاء حوائجهم، ويُقال له: المنثور من الكلام.

والثالثة: أن يضمّ بعض ذلك إلى بعض ضمّاً له مبادٍ ومقاطع ومداخل ومخارج، ويُقال له: المنظوم.

والرابعة: أن يُجعل له في أواخر الكلام مع ذلك تسجيع، ويقال له: المُسجّع.

والخامسة: أن يُجعل له مع ذلك وزن مخصوص، ويُقال له: الشعر، وقد انتهى.

وبالحقّ صار كذلك، فإنّ الكلام إمّا منثور فقط، أو مع النثر نظم، أو مع النظم سجع، أو مع السجع وزن.

والمنظوم: إمّا محاورة ويُقال له: الخطابة، أو مكاتبة ويقال لها: الرسالة، وأنواع الكلام لا تخرج عن هذه الجملة، ولكلّ من ذلك نظم مخصوص.

والقرآن حاوٍ لمحاسن جميعه بنَظم ليس هو نظم شيء منها، بدلالة أنّه لا يصح أن يُقال: (القرآن رسالة، أو خطابة، أو شعر، كما يَصحّ أن يُقال: هو كلام، ومَن قرع سمعه فصل بينه وبين سائر النَظم، ولهذا قال تعالى: ( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ) (١) تنبيهاً أنّ تأليفه ليس على هيئة نظم يتعاطاه البشر، فيمكن أن يزاد فيه كحال الكتب الأخر.

فإن قيل: ولِمَ لمْ يُبلغ بنظم القرآن الوزن الذي هو الشعر، وقد عُلم أنّ للموزون

____________________

(١) فصّلت: ٤١ و ٤٢.

٣٦

من الكلام مرتبةً أعلى مِن مرتبة المنظوم غير الموزون؛ إذ كلّ موزون منظوم وليس كلّ منظوم موزوناً؟

قيل: إنما جُنّب القرآن نظم الشعر ووزنه لخاصّية في الشعر منافية للحِكمة الإلهية، فإنّ القرآن هو مقرّ الصدق، ومعدن الحقّ، وقصوى الشاعر: تصوير الباطل في صورة الحقّ، وتجاوز الحدّ في المدح والذمّ دون استعمال الحقّ في تحرّي الصدق، حتّى أنّ الشاعر لا يقول الصدق ولا يتحرّى الحقّ إلاّ بالعَرض، ولهذا يُقال: مَن كان قوّته الخياليّة فيه أكثر كان على قَرض الشعر أقدر، ومَن كانت قوّته العاقلة فيه أكثر كان في قرضه أقصر.

ولأجل كون الشعر مقرّ الكذب، نزّه الله نبيّه (صلّى الله عليه وآله) عنه؛ لِما كان مُرشّحاً لصدق المَقال، وواسطة بين الله وبين العباد، فقال تعالى: ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ) (١) فنفى ابتغاءه له، وقال: ( وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ) (٢) أي: ليس بقول كاذب، ولم يعنِ أن ذلك ليس بشعر، فإنّ وزن الشعر أَظهر مِن أن يشتبه عليهم حتّى يحتاج إلى أن ينفي عنه. ولأجل شهرة الشعر بالكذب سُميّ أصحاب البراهين الأقيسة المؤدّية في أكثر الأمر إلى البطلان والكذب شعريّة، وما وقع في القرآن من ألفاظ مُتّزنة فذلك بحسب ما يقع في الكلام على سبيل العَرض بالاتّفاق، وقد تكلّم الناس فيه.

وأمّا الإعجاز المتعلّق بصرف الناس عن معارضته فظاهر أيضاً إذا اعتُبر؛ وذلك أنّه ما مِن صناعة ولا فِعلة من الأفعال محمودةً كانت أو مذمومةً إلاّ وبينها وبين قوم مناسبات خفية واتّفاقات إلهية، بدلالة أنّ الواحد يُؤثر حِرفة من الحِرف فينشرح صدره بملابستها وتطيعه قُواه في مزاولتها، فيقبلها باتّساع قلب، ويتعاطاها بانشراح صدر، وقد تَضمّن ذلك قوله تعالى ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ) (٣) وقول النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (اعملوا فكلٌّ مُيسّر لِما خُلق له) (٤) .

____________________

(١) يس: ٦٩.

(٢) الحاقّة: ٤١.

(٣) المائدة: ٤٨.

(٤) مسند أحمد: ج ٤ ص ٦٧.

٣٧

فلما رُئي أهل البلاغة والخطابة الذين يهيمون في كلّ وادٍ من المعاني بسلاطة ألسنتهم، وقد دعا الله جماعتهم إلى معارضة القرآن، وعجزهم عن الإتيان بمِثله، وليس تهتزّ غرائزهم البتة للتصدّي لمعارضته، لم يخفَ على ذي لبّ أنّ صارفاً إلهياً يَصرفهم عن ذلك، وأيّ إعجاز أعظم مِن أن تكون كافّة البلغاء مُخيّرة في الظاهر أن يُعارضوه، ومُجبرة في الباطن عن ذلك، وما أليقهم بإنشاد ما قال أبو تمام:

فإنْ نكُ أُهمِلنا فَأَضعِف بِسَعينا

وإنْ نَكُ أُجبِرنا فَفيمَ نُتَعتِعُ

والله وليّ التوفيق والعصمة (١) .

٦ - رأي الإمام الرازي:

ولأبي عبد الله محمّد بن عمر بن حسين فخر الدين الرازي (توفّي سنة ٦٠٦هـ) - المفسّر المتكلّم الأُصولي الكبير - رأي في إعجاز القرآن طريف، وهو جَمْعه بين أُمور شتّى، كانت تستدعي هبوطاً في فصاحة الكلام، لو كان أحد مِن البشر حاول القيام بها أجمع، لولا أنّ القرآن كلام الله الخارق لَمألوف الناس، فقد جمع بين أفنان الكلام، ومع ذلك فقد بلغ الغاية في الفصاحة، وتسنّم الذروة من البلاغة، وهذا أمرٌ عجيب!

قال: اعلم أنّ كونه (القرآن) معجزاً يُمكن بيانه من طريقينِ:

(الأوَّل) أن يقال: إنّ هذا القرآن لا يخلو حاله من أحد وجوه ثلاثة: إمّا أن يكون مساوياً لسائر كلام الفصحاء، أو زائداً على سائر كلام الفصحاء بقدرٍ لا ينقض العادة، أو زائداً عليه بقدرٍ ينقض، والقسمان الأوّلان باطلان فتعيّن الثالث.

وإنّما قلنا: إنّهما باطلان؛ لأنّه لو كان كذلك لكان من الواجب أن يأتوا بمِثل

____________________

(١) عن مقدّمته على التفسير: ١٠٤ - ١٠٩.

٣٨

سورة منه إمّا مجتمعينَ أو منفردينَ، فإن وقع التنازع وحصل الخوف من عدم القبول فالشهود والحُكّام يُزيلون الشبهة، وذلك نهاية في الاحتجاج؛ لأنّهم كانوا في معرفة اللغة والاطّلاع على قوانين الفصاحة في الغاية، وكانوا في مَحبّة إبطال أمره في الغاية، حتّى بذلوا النفوس والأموال، وارتكبوا ضروب المَهالك والمِحن، وكانوا في الحميّة والأَنَفة على حدّ لا يقبلون الحقّ فكيف الباطل!، وكلّ ذلك يُوجب الإتيان بما يقدح في قوله، والمعارضة أقوى القوادح، فلمّا لم يأتوا بها عِلمنا عَجزهم عنها، فثبت أنّ القرآن لا يُماثل قولهم، وأنّ التفاوت بينه وبين كلامهم ليس تفاوتاً معتاداً، فهو إذاً تفاوت ناقض للعادة، فوجب أن يكون معجزاً.

واعلم أنّه قد اجتمع في القرآن وجوه كثيرة تقتضي نُقصان فصاحته، ومع ذلك فإنّه في الفصاحة بلغ النهاية التي لا غاية لها وراءها، فدلّ ذلك على كونه معجزاً.

أحدها: أنّ فصاحة العرب أكثرها في وصف مشاهدات، مثل وصف بعير أو فرس أو جارية أو مَلِك أو ضربة أو طعنة أو وصف حرب أو وصف غارة، وليس في القرآن من هذه الأشياء شيء، فكان يجب أن لا تحصل فيه الألفاظ الفصيحة التي اتّفقت العرب عليها في كلامهم.

وثانيها: أنّه تعالى راعى فيه طريقةَ الصدق وتنزّه عن الكذب في جميعه، وكلّ شاعر ترك الكذب والتزم الصدق نَزَل شعره ولم يكن جيّداً، أَلا ترى أنّ لبيد بن ربيعة وحسّان بن ثابت لمّا أَسلما نَزَل شعرهما ولم يكن شعرهما الإسلامي في الجودة كشعرهما الجاهلي، وأنّ الله تعالى مع ما تنزّه عن الكذب والمجازفة جاء بالقرآن فصيحاً كما ترى.

وثالثها: أنّ الكلام الفصيح والشعر الفصيح إنّما يتّفق في القصيدة في البيت والبيتينِ والباقي لا يكون كذلك، وليس كذلك القرآن؛ لأنّه كلّه فصيح بحيث يعجز الخَلق عنه كما عجزوا عن جملته.

ورابعها: أنّ كلّ مَن قال شعراً فصيحاً في وصف شيء فإنّه إذا كرّره لم يكن

٣٩

كلامه الثاني في وصف ذلك الشيء بمنزلة كلامه الأَوّل، وفي القرآن التَّكرار الكثير، ومع ذلك كلّ واحد منها في نهاية الفصاحة ولم يظهر التفاوت أصلاً.

وخامسها: أنّه اقتصر على إيجاب العبادات وتحريم القبائح والحثّ على مكارم الأخلاق وترك الدنيا واختيار الآخرة، وأمثالُ هذه الكلمات تُوجب تقليل الفصاحة.

وسادسها: أنّهم قالوا في شعر امرئ القيس: يَحسن عند الطرب وذِكر النساء وصِفة الخَيل، وشِعر النابغة عند الخوف، وشعر الأعشى عند الطلب ووصف الخَمر، وشعر زهير عند الرغبة والرجاء، وبالجملة فكلّ شاعر يحسن كلامه في فنّ، فإنّه يَضعف كلامه في غير ذلك الفنّ، أمّا القرآن فإنّه جاء فصيحاً في كلّ الفنون على غاية الفصاحة.

أَلا ترى أنّه سبحانه وتعالى قال في الترغيب: ( فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) (١) وقال تعالى: ( وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ ) (٢) .

وقال في الترهيب: ( أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ ) (٣) ، وقال: ( أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ ) (٤) ، وقال: ( خَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ - إلى قوله - وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ) (٥) .

وقال في الزجر مالا يبلغه وَهْم البشر، وهو قوله: ( فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ - إلى قوله - وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا ) (٦) .

وقال في الوعظ ما لا مَزيد عليه: ( أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ) (٧) .

وقال في الإلهيّات: ( اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا

____________________

(١) السجدة: ١٧.

(٢) الزخرف: ٧١.

(٣) الإسراء: ٦٨.

(٤) الملك: ١٦ و١٧.

(٥) إبراهيم: ١٥ - ١٧.

(٦) العنكبوت: ٤٠.

(٧) الشعراء: ٢٠٥.

٤٠

ولا تجامع أهلك على سقوف البنيان، فانه إن قضي بينكما ولد يكون منافقاً مرائياً مبتدعاً (1) .

ولكي نختم كلامنا هنا بالمسك نذكر درراً من كلمات المولى زين العابدين وسيد الساجدين الامام علي بن الحسين عليه‌السلام في حقوق الزوجة.

حق الزوجة:

قال عليه‌السلام : وأما حق الزوجة: فان تعلم أنّ الله - عزّ وجل - جعلها لك سكناً وأنساً، فتعلم أنّ ذلك نعمة من الله - عزّ وجل - عليك فتكرمها وترفق بها - وإن كان حقك عليها أوجب، فان لها عليك أن ترحمها لأنها أسيرك، وتطعمها وتكسوها، واذا جهلت عفوت عنها (2) .

* * *

__________________

(1) أنظر للمزيد: الفقيه 3 / 553 باب النوادر، وسائل الشيعة 20 / 252، بحار الأنوار 100 / 282 باب 8 آداب الجماع وفضله، الاختصاص: 134 أحاديث وصايا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام ، أمالي الصدوق: 569 المجلس 84، مكارم الأخلاق: 211 الفصل الرابع في آداب الزفاف.

(2) الفقيه 2 / 621 باب الحقوق ح 3214، وسائل الشيعة 15 / 172 باب 3 ح 20226، أمالي الصدوق: 318 المجلس 59 ح 1، الخصال 2 / 567 الحقوق الخمسون ح 1، مكارم الأخلاق: 419 الفصل الأول في ذكر الحقوق (لزين العابدين عليه‌السلام .

٤١

الفصل السادس

قانون الوراثة

٤٢

قانون الوراثة

لقد نص قانون الوراثة في الاسلام على أنّ ما يقدمه الرجل من خير وفضيلة طلباً لرضا الله - تعالى - يعود عليه وعلى ولده وذريته.

روى في البحار عن تفسير العياشي عن الصادق عليه‌السلام : إنّ الله ليفلح بفلاح الرجل المؤمن ولده وولد ولده، ويحفظه في دويرته ودويرات حوله، فلا يزالون في حفظ الله لكرامته على الله، ثم ذكر الغلامين فقال: ( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ) ألم تر أنّ الله شكر صلاح أبويهما لهما (1) .

وفي الارشاد للدليمي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله يحفظ الرجل في ولده وولد ولده ودويرات حوله.

قال: وجاء في تأويل قوله تعالى ( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ) إنّه كان بينهما وبين أبيهما الصالح سبعة أجداد وقيل: سبعين جداً (2) .

وقد قدّم أبو طالب عليه‌السلام كلّ خدمة، وضحى بكلّ شيء من أجل رعاية يتيم أخيه عبد الله وحفظه والقيام بشؤونه، وكان بذلك أكفأ من نفذ وصية عبد المطلب في

__________________

(1) بحار الأنوار 13 / 312 باب 10 ح 49 عن تفسير العياشي 2 / 337.

(2) الارشاد (للدليمي) 1 / 143.

٤٣

حفيده، فعوّضه الله عن تلك التضحية ولداً فذاً فريداً عقمت عن مثله النساء كأمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، فانك لا ولم ولن تجد له نداً قط. فقد آمن بالنبي ورسالته وهو في العاشرة من عمره، فنال وسام «أول من آمن»، وشارك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في كل مواقفه وأيامه ومصائبه ومحنه، وكان عضده وحامل رايته وسيفه الذي أقام به أسس رسالته، وشيّد بيده أركان دينه، ولم يتخلف عنه في موقف مهما كان صغيراً أو كبيراً.

فدخل معه الشعب وتحمل ما تحمل معه هناك من مضايقات ومصاعب، وختم جهاده في مكة بعد ثلاثة عشر عاماً بالفداء ليلة المبيت حيث فدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه وشراها الباري منه بأغلى ثمن، وأنزل فيه قرآناً يتلى إلى يوم القيامة.

ثم هاجر معه إلى المدينة فكان هناك السبّاق إلى المكرمات والمضحي الأول الذي ذبّ الكرب عن وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكان المقدام الذي اقتحم غمار الموت في كلّ حروب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وغزواته من أجل ترسيخ دعائم الدين الحنيف.

وبعد ذلك كلّه دعا الله مخلصاً أن يؤتيه ولداً شجاعاً وفياً ينصر ابن بنت نبيه كما نصر هو بنفسه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأتاه الله «العباس بن علي عليه‌السلام ». فكان ناصراً ومعيناً لأبي عبد الله الحسين عليه‌السلام .

* * *

٤٤

الفصل السابع

فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام

٤٥

فضائل

أمير المؤمنين عليه‌السلام

لما كان الكتاب الحاضر في حياة أم البنين عليها‌السلام ومكارمها كان المناسب أن نتعرض لشطر من فضائل زوجها مولى المتقين وأمير المؤمنين عليه‌السلام تيمناً وتبركاً، نسمعها من أفواه أعدائه وأحبائه، ثم تعود مرة أخرى للحديث عن أم البنين عليها‌السلام وأبنائها.

* * *

٤٦

الأول

علي عليه‌السلام

في القرآن والسنة

ذكر العلامة الحلي في كتاب «نهج الحق» ثمانية وثمانين دليلاً من القرآن الكريم لاثبات إمامة الامام علي عليه‌السلام حيث شهد أهل السنة أنفسهم أنها نزلت في علي عليه‌السلام .

وأضاف اليها في «ملحقات إحقاق الحق» أربعة وتسعين موضعاً استند فيها إلى كتب العامة.

وقد ورد في كتبهم أنّه ما نزل آية فيها ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) إلّا وكان علي عليه‌السلام سيدهم وأميرهم.

والأحاديث النبوية في فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام قد تجاوزت حدّ الاحصاء والحصر، وقد ذكر في «ملحقات إحقاق الحق» فقط ثمانية مجلدات ضخمة في فضائله المروية عن طريق السنة (1) .

وسنروي لك باقة منها كنموذج ليس إلّا.

__________________

(1) اسلام شناسي (للشيخ أبي طالب تجليلي التبريزي): 192.

٤٧

1 - قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله - تعالى - أوحى إليّ في علي ثلاثة أشياء ليلة أسري بي: أنّه سيد المرسلين، وامام المتقين، وقائد الغر المحجلين (1) .

2 - وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ أخي ووزيري وخير من أخلف بعدي علي بن أبي طالب عليه‌السلام (2) .

3 - عن بريدة قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لكلّ نبي وصي ووارث وإنّ علياً وصي ووارثي (3) .

4 - قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أتاني جبرئيل وقد نشر جناحيه فاذا فيها مكتوب على أحدهما «لا اله الا الله محمد النبي» ومكتوب على الآخر «لا إله إلّا الله علي الوصي» (4) .

5 - قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في تقواه، وإلى إبراهيم في حلمه، وإلى موسى في هيبته، وإلى عيسى في عبادته، فلينظر إلى علي بن أبي طالب عليه‌السلام (5) .

6 - وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : علي بن أبي طالب يزهر في الجنة ككوكب الصبح لأهل الدنيا (6) .

__________________

(1) ميزان الاعتدال 7 / 206، ذخائر العقبى: 70، المستدرك على الصحيحين 3 / 148، مجمع الزوائد 9 / 121، المعجم الصغير 2 / 192 ح 1012.

(2) البحار 38 / 12 باب 56، مودة القربى: 22، ينابيع المودة 2 / 299 الباب 56 ح 855.

(3) ذخائر العقبى: 71 وقال: أخرجه الحافظ أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة، المناقب للخوارزمي: 84 ح 74، المناقب لابن المغازلي: 200 ح 238، ينابيع المودة 1 / 235 باب 15 ح.

(4) كشف الغمة 1 / 297 في ذكر أنّه أقرب الناس إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كشف اليقين: 10 الفصل الاول، الصراط المستقيم 1 / 243 الفصل 24، البحار 27 / 9 باب 10.

(5) البحار 39 / 39 باب 73، عن كتاب المصنف في فضائل الصحابة للبيهقي، إرشاد القلوب 2 / 217، الصراط المستقيم 1 / 212 الفصل 18، كشف الغمة 1 / 114، كشف اليقين: 53 المبحث الثاني: نهج الحق: 236 الثاني العلم، ينابيع المودة 2 / 83 باب 56، الفردوس للديلمي 3 / 90 ح 3997.

(6) البحار 40 / 76 باب 91، العمدة: 363، الجامع الصغير 2 / 178 ح 5599.

٤٨

7 - قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :... يا معشر الأنصار ألا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً؟

قالواو: بلى يا رسول الله.

قال: هذا علي فأحبوه بحبي، وأكرموه بكرامتي، واتبعوه، إنه مع القرآن والقرآن معه، وإنّه يهديكم إلى الهدى ولا يدلكم على الردى، فان جبرئيل أخبرني بالذي قلته لكم عن الله عزّ وجل (1) .

8 - وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : علي خير البشر من شكّ فيه فقد كفر (2) .

9 - قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : مكتوب على باب الجنة قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بألفي عام «لا إله الا الله محمد رسول الله وعلي أخوه» (3) .

10 - عن ابن مسعود قال: خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من بيت زينب بنت جحش وأتى بيت أم سلمة - وكان يومها - فجاء علي فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله :

يا أم سلمة؛ هذا علي أحبيه، لحمه من لحمي، ودمه من دمي، وهو عيبة علمي.

واسمعي واشهدي؛ إنه قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين من بعدي، وهو قاسم أعدائي، ومحيي سنتي.

واسمعي واشهدي؛ لو أنّ عبداً عبد الله ألف عام وألف عام وألف عام بين الركن والمقام، ولقى الله - تعالى - مبغضاً لعلي أكبّه الله على منخريه في جهنم يوم القيامة (4) .

__________________

(1) ذخائر العقبى: 70 فضائل علي 7، ينابيع المودة 2 / 161 الباب 56 ح 455، بحار الانوار 40 / 59 باب 91، تفسير فرات: 163 سورة التوبة.

(2) كنوز الحقائق: 98، الفردوس (للدليمي) 3 / 89 ح 3994، ينابيع المودة 2 / 78 باب 56 ح 80، مودة القربي: 14، منتخب كنز العمال 5 / 35.

(3) المناقب (لابن المغازلي): 91 ح 134، حلية الأولياء 7 / 256، ذخائر العقبى: 66، مجمع الزوائد 9 / 111، منتخب كنز العمال 5 / 35، ينابيع المودة 2 / 237 باب 56 ح 662.

(4) فرائد السمطين 1 / 331 ح 657، ينابيع المودة 1 / 390 باب 44 ح 2، ذيل اللئالي: 65.

٤٩

11 - وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : حق علي على هذه الأمة كحق الوالد على ولده (1) .

12 - وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تزول قدم عن قدم يوم القيامة حتى يسأل الرجل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن جسده فيم أبلاه، وعن ماله ممّ كسبه وفيم أنفقه، وعن حبنا أهل البيت... (2) .

13 - وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : حبّ علي براءة من النار (3) .

14 - وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو أنّ عبداً عبد الله مثل ما قام نوح في قومه وكان له مثل أحد ذهباً فانفق في سبيل الله، ومدّ في عمره حتى يحج ألف عام على قدميه، ثم سعى بين الصفا والمروة، ثم قتل مظلوماً، ثم لم يوالك يا علي لم يشم رائحة الجنة ولم يدخلها (4) .

15 - وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا علي؛ لو أنّ أمتي صاموا حتى يكونوا كالحنايا، وصلّوا حتى يكونوا كالأوتار، ثم أبغضوك لأكبهم الله - تعالى - على وجوههم في النار (5) .

__________________

(1) كنوز الحقائق (للمناوي): 69، الفردوس (للدليمي) 2 / 132 ح 2674، فرائد السمطين 1 / 297 ح 235، ينابيع المودة 1 / 370 باب 41 ح 5، المناقب (للخوارزمي): 310 ح 306، المناقب (لابن المغازلي): 47 ح 70.

(2) المناقب (للخوارزمي): 76 ح 59، جواهر العقدين 2 / 246، المناقب (لابن المغازلي): 119 ح 157، مجممع الزوائد 9 / 346، سنن الترمذي 4 / 36 ح 2532 (كتاب صفة القيامة)، كنز العمال 14 / 379 ح 38982، ينابيع المودة 2 / 360 باب 58 ح 27 و 28.

(3) كنوز الحقائق: 67، الفردوس (للدليمي) 2 / 226 ح 2545، مودة القربى: 20، ينابيع المودة 2 / 75 باب 56 ح 55.

(4) مودة القربى: 21، المناقب (لابن شهر آشوب) 3 / 198، ينابيع المودة 2 / 293 باب 56 ح 845.

(5) فرائد السمطين 1 / 51 باب 4 حديث 16، المناقب (لابن المغازلي): 90 ح 133 و 297 ح 340، مقتل الحسين (للخوارزمي): 108 ح 250، المستدرك (للحاكم) 3 / 160، كفاية الطالب: 318، ترجمة الامام علي (لابن عساكر) 1 / 143 ح 179، ينابيع المودة 1 / 271 ح 5 باب 20.

٥٠

16 - عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو أنّ الرياض أقلام، والبحر مداد، والجن حساب، والانس كتاب، ما أحصوا فضائل علي بن أبي طالب (1) .

17 - عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لما أسري بي في ليلة المعراج فاجتمع عليّ الأنبياء في السماء، فأوحى الله - تعالى - إليّ: سلهم يا محمد بماذا بعثتم؟

فقالوا: بعثنا على شهادة أن لا إله الا الله وحده، وعلى الاقرار بنبوتك، والولاية لعلي بن أبي طالب (2) .

18 - قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا اجتمع الناس على حبّ علي بن أبي طالب ما خلق الله النار (3) .

19 - قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ليلى أسري بي إلى السماء أمر بعرض الجنة والنار عليّ فرأيتهما جميعاً، رأيت الجنة وألوان نعيمها، ورأيت النار وألوان عذابها، وعلى كلّ باب من أبواب الجنة الثمانية: «لا اله الا الله محمد رسول الله علي ولي الله» (4) .

20 - قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رأيت ليلى أسري بي إلى السماء الرابعة ديكاً، بدنه درة بيضاء، وعيناه ياقوتتان حمراوان، ورجلاه من الزبرجد الأخضر، وهو ينادي: «لا إله إلّا الله محمد رسول الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ولي الله فاطمة وولدها الحسن والحسين صفوة الله، يا غافلين اذكروا الله، على مبغضيهم لعنة الله» (5) .

__________________

(1) مائة منقبة (لابن شاذان): ح 99، المناقب (للخوارزمي): 328 ح 341، كفاية الطالب: 151، ينابيع المودة: 2 / 254 باب 56 ح 713.

(2) ينابيع المودة 2 / 246 باب 56 ح 692، الصراط المستقيم: 141، روضة الواعظين 1 / 59.

(3) الفردوس (للدليمي) 3 / 419 ح 5175، ينابيع المودة 2 / 244 باب 56 ح 684.

(4) البحار 27 / 10 باب 10 ح 24.

(5) البحار 37 / 47 باب 50 ح 24، اليقين: 391 باب 141.

٥١

نقش خاتم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله «علي ولي الله»:

التختم من السنن الشرعية، وهو زينة للانسان، وفيه من المنافع المعنوية والنفسية والقيم الجمالية الشيء الكثير.

وكان في سالف الزمان لكلّ فرد خاتم ينقش عليه كلمة أو عبارة خاصة تعد بمثابة «الختم» في العصور المتأخرة، فكما يضرب بالختم في نهاية الكتاب الرسمي أو ما شاكل لتأكيد الانتساب، كان الخاتم في ذلك الزمان يؤدي نفس الدور.

وقد روى لنا المولى أبو عبد الله الحسين عليه‌السلام ذكرى جميلة عن خاتم جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: أعطى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله علياً عليه‌السلام خاتماً لينقش عليه «محمد بن عبد الله» فأخذه أمير المؤمنين عليه‌السلام فأعطاه النقاش فقال له: انقش عليه «محمد بن عبد الله»، فنقش النقاش عليه «محمد رسول الله».

فجاء أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال: ما فعل الخاتم؟

فقال: هو ذا.

فأخذه ونظر إلى نقشه فقال: ما أمرتك بهذا!

قال: صدقت، ولكن يدي أخطأت.

فجاء به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يا رسول الله ما نقش النقاش ما أمرت به، وذكر أنّ يده أخطأت، فأخذه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ونظر اليه فقال: يا علي أنا محمد بن عبد الله وأنا محمد رسول الله، وتختم به.

فلما أصبح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نظر إلى خاتمه فاذا تحته منقوش «علي ولي الله»، فتعجب من ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فجاء جبرئيل عليه‌السلام فقال: كان كذا وكذا.

فقال: يا محمد كتبت ما أردت وكتبنا ما أردنا (1) .

__________________

(1) أمالي الطوسي: 705 المجلس 41 ح 2، البحار 40 / 37 باب 91 ح 72.

٥٢

اعتراف عمر بأن عين علي عليه‌السلام عين الله:

جاء رجل يستعدى عمر على علي عليه‌السلام فقال: يا أمير... إنّ علياً لطم عيني.

فوقف عمر حتى مرّ علي فقال: ألطمت عين هذا يا أبا الحسن؟

فقال علي عليه‌السلام : نعم رأيته يتأمل حرم المؤمنين.

فقال عمر: أحسنت يا أبا الحسن.

ثم قال للرجل: اذهب وقعت عليك عين من عيون الله، وحجاب من حجب الله، تلك يد الله اليمنى يضعها حيث يشاء (1) .

اعتراف معاوية:

قال ابن عبد البر القرطبي في الاستيعاب:

وكان معاوية يكتب فيما ينزل به ليسأل له علي بن أبي طالب عليه‌السلام عن ذلك، فلما بلغه قتله قال: ذهب الفقه والعلم بموت ابن أبي طالب.

فقال له أخوه عتبة: لا يسمع هذا منك أهل الشام.

فقال له: دعني عنك (2) .

وقال معاوية لضرار صف لي علياً.

قال: اعفني يا أمير....

قال: لتصفنه.

قال: أما إذا لابد من وصفه، فكان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، ويستوحش من

__________________

(1) فيض القدير 4 / 357، انظر البحار 39 / 88، المناقب (لابن شهر آشوب) 3 / 272.

(2) الاستيعاب 3 / 44 حرف العين - القسم الاول - ترجمة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، بحار الانوار 33 / 171 باب 7 ح 451، العدد القوية: 250.

٥٣

الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته، وكان غزير العبرة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظم أهل الدين، ويقرّب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله.

وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه، قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكى بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا غري غيري، إليّ تعرضت؟! أم إليّ تشوّقت؟! هيهات! هيهات! قد باينتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك حقير، آه من قلة الزاد، وبعد السفر ووحشة الطريق.

فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا الحسن كان - والله - كذلك (1) ...

وقال معاوية: والله لو كان عند علي جبل من تبن وجبل من تبر لأنفق تبره قبل تبنه.

النظر إلى وجه علي عليه‌السلام عبادة:

روى ابن المغازلي وغيره مسنداً عن عائشة قالت: رأيت أبا بكر يكثر النظر إلى وجهعلي فقلت: يا أبة أراك تكثر النظر إلى وجه علي عليه‌السلام ؟

فقال: يا بنية؛ سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: النظر إلى وجه علي عبادة (2) .

__________________

(1) الاستيعاب 3 / 44 ترجمة الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام .

(2) ابن المغازلي في المناقب: 206 و 244 وما بعدها، الخوارزمي في المناقب: 361 ح 373، فرائد السمطين 1 / 181، مستدرك الحاكم 3 / 141 و 142، حلية الاولياء 5 / 58 و 2 / 183، بحار الانوار 38 / 200 باب 64.

٥٤

وروى ابن كثير من حديث أبي بكر وعمر وعثمان وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وعمران بن حصين وأنس وثوبان وعائشة وأبي ذر وجابر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «النظر إلى وجه علي عبادة».

وعن عائشة «ذكر علي عبادة» (1) .

قال المناوي في فيض القدير:... النظر إلى علي أمير المؤمنين عليه‌السلام عبادة: أي رؤيته تحمل النطق بكلمة التوحيد، لما علاه من سيماء العبادة.

قال الزمخشري عن ابن العربي: إذا برز قال الناس: لا إله الا الله ما أشرق هذا الفتى؟! ما أعلمه؟! ما أكرمه؟! ما أحلمه؟! ما أشجعه؟! فكانت رؤيته تحمل النطق بالعبادة فيالها من سعادة (2) .

وقال المناوي: وكان عمر يتعوذ من كلّ معضلة ليس لها أبو الحسن، ولم يكن أحد من الصحب يقول: «سلوني» إلا هو....

وأخرج أحمد أن عمر أمر برحم امرأة فمر بها علي فانتزعها فأخبر عمر فقال: ما فعله إلّا لشيء، فأرسل اليه فسأله.

فقال: أما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: رفع القلم عن ثلاث... الحديث؟

قال: نعم.

قال: فهذه مبتلاة بني فلان فلعله أتاها وهو بها.

فقال عمر: لو لا علي هلك عمر.

واتفق له مع أبي بكر نحوه - أي أن أبا بكر كان يقول أيضاً - لولا علي لهلك أبو بكر.

فأخرج الدار قطنى عن أبي سعيد أنّ عمر كان يسأل علياً عن شيء فأجابه فقال عمر: أعوذ بالله أن أعيش في قوم ليس فيهم أبو الحسن.

__________________

(1) البداية والنهاية المجلد الرابع / الجزء السابع: 371.

(2) فيض القدير 6 / 299.

٥٥

وفي رواية: لا أبقاني الله بعدك يا علي (1) .

ولا يخفى أنّ عمر قد قال كلمته هذه عشرات المرات أمام الملأ، كما قالها أبو بكر وعثمان كذلك.

فقد أخرج الحافظ العاصمي في كتاب «زين الفتى في شرح سورة هل أتى»: أنّ رجلاً أتى عثمان بن عفان وهو أمير... وبيده جمجمة انسان ميت فقال: إنكم تزعمون النار يعرض على هذا، وإنه يعذب في القبر، وأنا قد وضعت عليها يدي فلا أحسّ منها حرارة النار.

فسكت عنه عثمان، وأرسل إلى علي بن أبي طالب المرتضى يستحضره.

فلما أتاه وهو في ملأ من أصحابه قال للرجل: أعد المسألة فأعادها.

ثم قال عثمان بن عفان: أجب الرجل عنها يا أبا الحسن.

فقال علي: ايتوني بزند وحجر، والرجل السائل والناس ينظرون اليه، فأتي بهما، فأخذهما وقدّح منهما النار، ثم قال للرجل: ضع يدك على الحجر، فوضعها عليه، ثم قال: ضع يدك على الزند، فوضعها عليه.

فقال: هل أحسست منهما حرارة النار، فبهت الرجل.

فقال عثمان: لو لا علي لهلك عثمان (2) .

محبو علي في درجة الأنبياء يوم القيامة:

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام : من أحبك - يا علي - كان مع النبيين في درجتهم يوم القيامة، ومن مات وهو يبغضك فلا يبالي مات يهودياً أو نصرانياً (3) .

__________________

(1) فيض القدير 4 / 357.

(2) الغدير 8 / 256.

(3) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام 2 / 58 باب 31 ح 221، بحار الانوار 27 / 79 باب 4 ح 16، مودة القربي: 220، ينابيع المودة 2 / 291 باب 56 ح 837.

٥٦

الثاني

اسم الامام علي عليه‌السلام

يزيّن الاذان

ينبغي أن نتعرض هنا إلى عظمة وليد الكعبة أمير المؤمنين عليه‌السلام من حيث أنّ الله - تبارك وتعالى - أمر بذكر اسمه الشريف بعد اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الأذان، فنذكر آراء العلماء في ذلك، ونتعرض إلى بدعة التثويب التي ابتدعها عمر وجعلها بدلاً عن قول «حي على خير العمل».

كيف شرّع الأذان؟

عن الحسين بن علي - صوات الله عليه وعلى الأئمة من ولده - أنّه سئل عن قول الناس في الأذان: أنّ السبب كان فيه رؤيا رآها عبد الله بن زيد فأخبر بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأمر بالأذان؟!

فقال الحسين عليه‌السلام : الوحي ينزل على نبيكم وتزعمون أنّه أخذ الأذان عن عبد الله بن زيد، والأذان وجه دينكم، وغضب عليه‌السلام وقال:

بل سمعت أبي علي بن أبي طالب عليه‌السلام يقول: أهبط الله - عزّ وجل - ملكاً حتى عرج برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وساق حديث المعراج بطوله إلى أن قال:

٥٧

فبعث الله ملكاً، لم ير في السماء قبل ذلك الوقت ولا بعده، فاذّن مثنى مثنى، وأقام مثنى، وذكر كيفية الأذان ثم قال:

قال جبرئيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا محمد هكذا أذّن للصلاة (1) .

حي على خير العمل:

قال السيد المرتضى في الانتصار:

«ومما انفردت به الامامية أن يقول في الأذان والاقامة بعد قوله «حي على الفلاح» «حي على خير العمل» والوجه في ذلك إجماع الفرقة المحقّة عليه» (2) .

وأنّ علي بن الحسين عليه‌السلام كان يقول في أذانه إذا قال: «حي على الفلاح» قال: «حي على خير العمل» ويقول: هو الأذان الأول.

إلّا أنّه قال: قال الشيخ: وهذه اللفظة لم تثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله !!!.. ونحن نكره الزيادة فيه (3) .

وعليه ذهب أهل السنة إلى تحريمها في الأذان والاقامة، فيما ذهب الشيعة ألى أنّ تركها عمداً يوجب بطلان الأذان والاقامة باعتبارها جزء مشرع فيهما (4) .

وما رواه البيهقي يؤكد أنّ هذه العبارة كانت في الأذان الأول، وهي تشريع

__________________

(1) مستدرك الوسائل 4 / 17 - 18 باب 1 ح 2، بحار الانوار 81 / 156 باب 13 ح 54، الجعفريات: 42 كتاب الصلاة، دعائم الاسلام 1 / 142 ذكر الاذان والاقامة.

(2) الانتصار: 39.

(3) سنن البيهقي 2 / 197 - 198.

(4) أنظر: وسائل الشيعة.

٥٨

ربّاني أوحاه إلى نبيه الكريم، إلّا أنّ «أهل السنة» اتبعوا في ذلك عمر وتركوا سنة النبي.

والدليل عليه ما ذكره القوشجي المتوفي سنة (879) في «شرح التجريد» في مبحث الامامة: إنّ عمر قال وهو على المنبر: أيها الناس ثلاث كن على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا أنهى عنهن وأحرمهن وأعاقب عليهن: متعة النساء، ومتعة الحج، و «حي على خير العمل» (1) .

ثم اعتذر عنه بقوله: إنّ ذلك ليس مما يوجب قدحاً فيه، فانّ مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهادية ليس ببدع (2) .

ومن العجب أن يقابل النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله بواحد من أمته، ويجعل كلاً منهما مجتهداً، وما ينطقه الرسول الأمين هو عين ما ثبت في اللوح المحفوظ، و ( إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ ) فأين هو عن الاجتهاد برد الفرع إلى الأصل واستعمال الظنون في طريق الاستنباط؟!

هذا؛ بالاضافة إلى أنّ السائغ من المخالفة الاجتهادية إنّما هو ما إذا قابل المجتهد مجتهداً مثله لا من اجتهد تجاه النص المبين، وارتأى أمام تصريحات الشريعة من قول الشارع وعمله (3) .

على أننا لا نعلم للخليفة علماً يقاس بعوام المسلمين فضلاً عن سيد أولى الألباب وخاتم المرسلين، فكيف نقول من ثم باجتهاده؟!

أجل؛ كان ثمة سبب آخر من وراء ذلك سوى قصة الاجتهاد، وهو أنّ الناس التفتوا بعد حين أن خليفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حلقاً أصبح جليس داره، وأنّ الآخرين اغتصبوا

__________________

(1) شرح التجريد (للقوشجي): 484، الغدير 6 / 283.

(2) المصدر نفسه.

(3) انظر الغدير 6 / 283.

٥٩

مقامه، وأنذ حكومتهم تفتقد الشرعية، وأنّ ما تقوم به من فتوح إنّما هو «توسعة» وتوسيع لرقعة الامبراطورية، وليست جهاداً، فتقاعسوا عنهم، فأراد الخليفة أن يعبأ الناس لما يسميه «جهاداً»، ويعظّم الجهاد في نفوسهم؛ لئلا يفكر أحدهم أنّ العبادات والصلاة أهم من الجهاد.

فقد روى أبو حنيفة وأبو يوسف القاضي وغيرهم أنّ «حي على خير العمل» كانت في الأذان على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبي بكر وصدراً من أيام عمر إلّا أنّ عمر أمر بتركها وقال: أخشى أن يتوجه الناس إلى الصلاة ويعرضوا عن الجهاد (1) .

وروي عن الباقر عليه‌السلام قال: كان الأذان «حي على خير العمل» على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبه أمروا أيام أبي بكر وصدراً من أيام عمر، ثم أمر عمر بقطعه وحذفه من الأذان والاقامة، فقيل له في ذلك فقال: اذا سمع عوام الناس أنّ الصلاة خير العمل تهاونوا بالجهاد وتخلفوا عنه (2) .

وعن عكرمة قال:

قلت لابن عباس: أخبرني لأي شيء حذف من الأذان «حي على خير العمل»؟

قال: أراد عمر بذلك أن يا يتّكل الناس على الصلاة ويدعوا الجهاد؛ فلذلك حذفها من الاذان (3) .

قال المجلسي رحمه‌الله : يدلّ هذا على أنّ عمر وأتباعه يزعمون أنهم أعلم من الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنهما لم يفطنا بهذه المفسدة وتفطن بها هذا الشقي الغبي، ولم يمنع ذلك أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في زمانه، وأصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام عن الجهاد، بل كانوا مع مواظبتهم على «حي على خير العمل» أشد اهتماماً بالجهاد من سائر العباد (4) .

__________________

(1) الايضاح: 202.

(2) البحار 81 / 156 باب 35 ح 54 عن دعائم الاسلام.

(3) البحار 81 / 140 باب 35 ح 34، عن علل الشرائع 2 / 56.

(4) البحار 81 / 140 ذيل ح 34.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579