تلخيص التمهيد الجزء ٢

تلخيص التمهيد10%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 579

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 106171 / تحميل: 10833
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

٤- النظام الإسلامي

ويتقاسم العالم اليوم اثنان من هذه الأنظمة الأربعة : فالنظام الديمقراطي الرأسمالي هو أساس الحكم في بقعة كبيرة من الأرض ، والنظام الاشتراكي هو السائد في بقعة كبيرة أُخرى وكلٌّ من النظامين يملك كياناً سياسيّاً عظيماً ، يحميه في صراعه مع الآخر ، ويسلِّحه في معركته الجبّارة التي يخوضها أبطاله في سبيل الحصول على قيادة العالم ، وتوحيد النظام الاجتماعي فيه

وأمّا النظام الشيوعي والإسلامي فوجودهما بالفعل فكري خالص غير أنّ النظام الإسلامي مرّ بتجربة من أروع تجارب النُّظُم الاجتماعية وأنجحها ، ثمّ عصفت به العواصف بعد أن خلا الميدان من القادة المبدئيّين أو كاد ، وبقيت التجربة في رحمة أُناس لم ينضج الإسلام في نفوسهم ، ولم يملأ أرواحهم بروحه وجوهره ، فعجزت عن الصمود والبقاء ، فتقوَّض الكيان الإسلامي ، وبقي نظام الإسلام فكراً في ذهن الأُمّة الإسلامية ، وعقيدةً في قلوب المسلمين ، وأملاً يسعى إلى تحقيقه أبناؤه المجاهدون وأمّا النظام الشيوعي فهو فكرة غير مُجرَّبة حتّى الآن تجربة كاملة ، وإنّما تتّجه قيادة المعسكر الاشتراكي اليوم إلى تهيئة جوٍّ اجتماعي له ، بعد أن عجزت عن تطبيقه حين ملكت زمام الحكم ، فأعلنت النظام الاشتراكي ، وطبّقته كخطوة إلى الشيوعية الحقيقية

فما هو موضعنا من هذه الأنظمة ؟

وما هي قضيّتنا التي يجب أن ننذر حياتنا لها ، ونقود السفينة إلى شاطئها ؟

٢١

الديمقراطية الرأسمالية

ولنبدأ بالنظام الديمقراطي الرأسمالي ، هذا النظام الذي أطاح بلون من الظلم في الحياة الاقتصادية ، وبالحكم الدكتاتوري في الحياة السياسية ، وبجمود الكنيسة وما إليها في الحياة الفكرية ، وهيّأ مقاليد الحكم والنفوذ لفئة حاكمة جديدة حلَّت محلّ السابقين ، وقامت بنفس دورهم الاجتماعي في أسلوب جديد

وقد قامت الديمقراطية الرأسمالية على الإيمان بالفرد إيماناً لا حدّ له ، وبأنّ مصالحه الخاصّة بنفسها تكفل- بصورة طبيعية- مصلحة المجتمع في مختلف الميادين وأنّ فكرة الدولة إنّما تستهدف حماية الأفراد ومصالحهم الخاصّة ، فلا يجوز لها أن تتعدَّى حدود هذا الهدف في نشاطها ومجالات عملها

ويتلخّص النظام الديمقراطي الرأسمالي في إعلان الحرّيات الأربع : السياسية ، والاقتصادية ، والفكرية ، والشخصية

فالحرّية السياسية تجعل لكلّ فرد كلاماً مسموعاً ، ورأياً محترماً في تقرير الحياة العامّة للأُمّة : وضع خططها ، ورسم قوانينها ، وتعيين السلطات القائمة لحمايتها ؛ وذلك لأنّ النظام الاجتماعي للأمّة ، والجهاز الحاكم فيها ، مسألةٌ تتّصل اتّصالاً مباشراً بحياة كلّ فرد من أفرادها ، وتؤثّر تأثيراً حاسماً في سعادته أو شقائه ، فمن الطبيعي ، حينئذٍ ، أن يكون لكلّ فرد حقّ المشاركة في بناء النظام والحكم

وإذا كانت المسألة الاجتماعية ـ كما قلنا ـ مسألة حياة أو موت ، ومسألة سعادة أو شقاء للمواطنين الذين تسري عليهم القوانين والأنظمة العامّة

٢٢

فمن الطبيعي- أيضاً- أن لا يباح الاضطلاع بمسؤوليّتها لفرد أو لمجموعة خاصّة من الأفراد ـ مهما كانت الظروف ـ ما دام لم يوجد الفرد الذي يرتفع في نزاهة قصده ورجاحة عقله على الأهواء والأخطاء

فلابدّ إذن من إعلان المساواة التامّة في الحقوق السياسية بين المواطنين كافةً ؛ لأنّهم يتساوون في تحمُّل نتائج المسألة الاجتماعية ، والخضوع لمقتضيات السلطات التشريعية والتنفيذية وعلى هذا الأساس قام حقّ التصويت ومبدأ الانتخاب العامّ الذي يضمن انبثاق الجهاز الحاكم ، بكلّ سلطاته وشُعَبه ، عن أكثرية المواطنين

والحرّية الاقتصادية ترتكز على الإيمان بالاقتصاد الحرّ ، وتقرّر فتح جميع الأبواب ، وتهيئة كلّ الميادين إمام المواطن في المجال الاقتصادي فيباح التملّك للاستهلاك وللإنتاج معاً ، وتباح هذه الملكية التي يتكوّن منها رأس المال من غير حدٍّ وتقييد ، وللجميع على حدٍّ سواء فلكلّ فرد مطلق الحرّية في انتهاج أيّ أُسلوب وسلوك أيّ طريق لكسب الثروة وتضخيمها ومضاعفتها على ضوء مصالحه ومنافعه الشخصية

وفي زعم بعض المدافعين عن هذه الحرّية الاقتصاديّة أنّ قوانين الاقتصاد السياسي ، التي تجري على أُصول عامّة بصورة طبيعية ، كفيلة بسعادة المجتمع ، وحفظ التوازن الاقتصادي فيه ، وأنّ المصلحة الشخصية التي هي الحافظ القوي والهدف الحقيقي للفرد في عمله ونشاطه ، هي خير ضمان للمصلحة الاجتماعية العامّة وأنّ التنافس الذي يقوم في السوق الحرّة ، نتيجةً لتساوي المنتجبين والمتّجرين في حقّهم من الحرّية الاقتصادية ، يكفي وحده لتحقيق روح العدل والإنصاف في شتّى الاتفاقات والمعاملات فالقوانين الطبيعية للاقتصاد تتدخّل ـ مثلاً ـ في حفظ المستوى الطبيعي للثمن ، بصورة تكاد أن تكون آلية ؛ وذلك أنّ

٢٣

الثمن إذا ارتفع عن حدوده الطبيعية العادلة انخفض الطلب بحكم القانون الطبيعي الذي يحكم بأنّ ارتفاع الثمن يؤثّر في انخفاض الطلب ، وانخفاض الطلب بدوره يقوم بتخفيض الثمن ، تحقيقاً لقانون طبيعي آخر ، ولا يتركه حتّى ينخفض به إلى مستواه السابق ، ويزول الشذوذ بذلك

والمصلحة الشخصية تفرض على الفرد ـ دائماً ـ التفكير في كيفية إزادة الإنتاج وتحسينه ، مع تقليل مصارفه ونفقاته ؛ وذلك يحقّق مصلحة المجتمع ، في نفس الوقت الذي يعتبر مسألة خاصّة بالفرد أيضاً

والتنافس يقتضي ـ بصورة طبيعية ـ تحديد أثمان البضائع ، وأُجور العمال والمستخدمين بشكل عادل ، لا ظلم فيه ولا إجحاف ؛ لأنّ كلّ بائع أو منتج يخشى من رفع أثمان بضائعه ، أو تخفيض أُجور عمّاله ، بسبب منافسة الآخرين له من البائعين والمنتجبين

والحرّية الفكرية تعني : أن يعيش الناس أحراراً في عقائدهم وأفكارهم ، يفكّرون حسب ما يتراءى لهم ويحلو لعقولهم ، ويعتقدون ما يصل إليه اجتهادهم ، أو ما توحيه إليهم مشتهياتهم وأهواؤهم بدون عائق من السلطة فالدولة لا تسلب هذه الحرّية عن فرد ، ولا تمنعه عن ممارسة حقّه فيها ، والإعلان عن أفكاره ومعتقداته ، والدفاع عن وجهات نظره واجتهاده

والحرّية الشخصية تعبّر عن تحرُّر الإنسان في سلوكه الخاصّ من مختلف ألوان الضغط والتحديد ، فهو يملك إرادته وتطويرها وفقاً لرغباته الخاصّة ، مهما نجم عن استعماله لسيطرته هذه على سلوكه الخاصّ من مضاعفات ونتائج ، ما لم تصطدم بسيطرة الآخرين على سلوكهم فالحدّ النهائي الذي تقف عنده الحرّية الشخصية لكلّ فرد : حرّية الآخرين فما لم يمسّها الفرد بسوء

٢٤

فلا جناح عليه أن يكيّف حياته باللون الذي يحلو له ، ويتّبع مختلف العادات والتقاليد والشعائر والطقوس التي يستذوقها ؛ لأنّ ذلك مسألة خاصّة تتّصل بكيانه وحاضره ومستقبله وما دام يملك هذا الكيان ، فهو قادر على التصرّف فيه كما يشاء

وليست الحرّية الدينية ـ في رأي الرأسمالية التي تنادي بها ـ إلاّ تعبيراً عن الحرّية الفكرية في جانبها العقائدي ، وعن الحرّية الشخصية في الجانب العملي الذي يتّصل بالشعائر والسلوك

ويُستخلَص من هذا العرض : أنّ الخطّ الفكري العريض لهذا النظام ـ كما ألمحنا إليه ـ هو : أنّ مصالح المجتمع بمصالح الأفراد ، فالفرد هو القاعدة التي يجب أن يرتكز عليها النظام الاجتماعي ، والدولة الصالحة هي الجهاز الذي يُسخَّر لخدمة الفرد وحسابه ، والأداة القوية لحفظ مصالحه وحمايتها

هذه هي الديمقراطية الرأسمالية في ركائزها الأساسية التي قامت من أجلها جملة من الثورات ، وجاهد في سبيلها كثير من الشعوب والأُمم ، في ظلّ قادة كانوا حين يعبّرون عن هذا النظام الجديد ويعِدونهم بمحاسنه ، يصفون الجنّة في نعيمها وسعادتها ، وما تحفل به من انطلاق وهناء وكرامة وثراء وقد أُجريت عليها بعد ذلك عدّة من التعديلات ، غير أنّها لم تمسّ جوهرها بالصميم ، بل بقيت محتفظةً بأهمّ ركائزها وأُسسها

الاتجاه المادّي في الرأسمالية :

ومن الواضح أنّ هذا النظام الاجتماعي نظامٌ مادّيٌّ خالص ، أُخذ فيه الإنسان منفصلاً عن مبدئه وآخرته ، محدوداً بالجانب النفعي من حياته المادّية ،

٢٥

وافتُرِض على هذا الشكل ولكن هذا النظام في نفس الوقت الذي كان مشبعاً بالروح المادّية الطاغية لم يبنَ على فلسفة مادّية للحياة ، وعلى دراسة مفصّلة لها

فالحياة في الجوّ الاجتماعي لهذا النظام ، فُصِلت عن كلّ علاقة خارجة عن حدود المادّة والمنفعة ، ولكن لم يُهيَّأ لإقامة هذا النظام فهمٌ فلسفيٌّ كامل لعملية الفصل هذه ولا أعني بذلك : أنّ العالم لم يكن فيه مدارس للفلسفة المادّية وأنصار لها ، بل كان فيه إقبال على النزعة المادّية تأثُّراً بالعقلية التجريبية التي شاعت منذ بداية الانقلاب الصناعي(١) ، وبروح الشكّ والتبلبل الفكري الذي أحدثه انقلاب الرأي في طائفة من الأفكار كانت تُعَدُّ من أوضح الحقائق وأكثرها صحّة(٢) ، وبروح

____________________

(١) فإنّ التجربة اكتسبت أهمية كُبرى في الميدان العلمي ، ووفِّقت توفيقاً ـ لم يكن في الحسّبان ـ إلى الكشف عن حقائق كثيرة ، وإزاحة الستار عن أسرار مدهشة ، أتاحت للإنسانية أن تستثمر تلك الأسرار والحقائق في حياتها العملية وهذا التوفيق الذي حصلت عليه التجربة ، أشاد لها قدسيّةً في العقليّة العامّة ، وجعل الناس ينصرفون عن الأفكار العقليّة ، وعن كلّ الحقائق التي لا تظهر في ميدان الحسّ والتجربة ، حتّى صار الحسّ التجريبي في عقيدة كثير من التجْرِيبيين الأساس الوحيد لجميع المعارف والعلوم

وسوف نوضِّح في هذا الكتاب : أنّ التجربة بنفسها تعتمد على الفكر العقلي وأنّ الأساس الأوّل للعلوم والمعارف هو العقل الذي يدرك حقائق لا يقع عليها الحسّ ، كما يدرك الحقائق المحسوسة (المؤلّفقدس‌سره )

(٢) فإنّ جملة من العقائد العامّة كانت في درجة عالية من الوضوح والبداهة في النظر العامّ ، مع أنّها لم تكن قائمةً على أساس من منطق عقلي ، أو دليل فلسفي ، كالإيمان بأنّ الأرض مركز العالم فلمّا انهارت هذه العقائد في ظلّ التجارب الصحيحة ، تزعزع الإيمان العامّ ، وسيطرت موجة من الشكّ على كثير من الأذهان ، فبُعِثت السفسطة اليونانية من جديد متأثّرة بروح الشكّ ، كما تأثّرت في العهد اليوناني بروح الشكّ الذي تولَّد من تناقض المذاهب الفلسفية وشدّة الجدل بها (المؤلّف قدس‌سره )

٢٦

التمرّدوالسخط على الدين المزعوم الذي كان يجمِّد الأفكار والعقول ، ويتملّق للظلم والجبروت ، وينتصر للفساد الاجتماعي في كلّ معركة يخوضها مع الضعفاء والمضطهدين(١)

فهذه العوامل الثلاثة ساعدت على بعث المادّية في كثير من العقليّات الغربية

كلّ هذا صحيح ، ولكنّ النظام الرأسمالي لم يركّز على فهم فلسفي مادّي للحياة ، وهذا هو التناقض والعجز ، فإنّ المسألة الاجتماعية للحياة تتّصل بواقع الحياة ، ولا تتبلور في شكل صحيح إلاّ إذا أُقيمت على قاعدة مركزية ، تشرح الحياة وواقعها وحدودها ، والنظام الرأسمالي يفقد هذه القاعدة ، فهو ينطوي على خداع وتضليل ، أو على عجلة وقلّة أناة ، حين تجمّد المسألة الواقعية للحياة ، وتُدرَس المسألة الاجتماعية منفصلة عنها ، مع أنّ قوام الميزان الفكري للنظام بتحديد نظرته منذ البداية إلى واقع الحياة ، التي تموِّن المجتمع بالمادّة الاجتماعية ـ وهي : العلاقات المتبادلة بين الناس ـ وطريقة فهمه لها ، واكتشاف أسرارها وقيمها فالإنسان في هذا الكوكب إن كان من صنع قوة مدبرة مهيمنة ، عالمة بأسراره وخفاياه ، بظواهره ودقائقه ، قائمة على تنظيمه وتوجيهه ، فمن الطبيعي أن يخضع في توجيهه وتكييف حياته لتلك القوّة الخالقة ؛ لأنّها أبصر بأمره ، وأعلم

____________________

(١) فإنّ الكنيسة لعبت دوراً هاماً في استغلال الدين استغلالاً شنيعاً ، وجعْلِ اسمه أداةَ مآربها وأغراضها ، وخنق الأنفاس العلمية والاجتماعية ، وأقامت محاكم التفتيش ، وأعطت لها الصلاحيّات الواسعة للتصرّف في المقدَّرات ، حتّى تولّد عن ذلك كلّه التبرّم بالدين والسخط عليه ؛ لأنّ الجريمة ارتكبت باسمه ، مع أنّه في واقعه المصفّى وجوهره الصحيح لا يقلّ عن أُولئك الساخطين والمتبرّمين ضيقاً بتلك الجريمة ، واستفظاعاً لدوافعها ونتائجها (المؤلّف قدس‌سره )

٢٧

بواقعه ، وأنزه قصداً ، وأشدّ اعتدالاً منه

وأيضاً ، فإنّ هذه الحياة المحدودة إن كانت بداية الشوط لحياة خالدة تنبثق عنها ، وتتلوّن بطابعها ، وتتوقّف موازينها على مدى اعتدال الحياة الأُولى ونزاهتها ، فمن الطبيعي أن تنظّم الحياة الحاضرة بما هي بداية الشوط لحياة لا فناء فيها ، وتقام على أُسس القِيَم المعنوية والمادّية معاً.

وإذن فمسألة الإيمان بالله وانبثاق الحياة عنه ليست مسألةً فكرية خالصة لا علاقة لها بالحياة ، لتُفصل عن مجالات الحياة ويشرّع لها طرائقها ودساتيرها مع إغفال تلك المسألة وفصلها ، بل هي مسألة تتّصل بالعقل والقلب والحياة جميعاً

والدليل على مدى اتّصالها بالحياة من الديمقراطية الرأسمالية نفسها : أنّ الفكرة فيها تُقدَّم على أساس الإيمان بعدم وجود شخصية أو مجموعة من الأفراد بلغت من العصمة في قصدها وميلها وفي رأيها واجتهادها إلى الدرجة التي تبيح إيكال المسألة الاجتماعية إليها ، والتعويل في إقامة حياة صالحة للأُمّة عليها وهذا الأساس بنفسه لا موضعَ ولا معنىً له إلاّ إذا أُقيم على فلسفة مادّية خالصة ، لا تعترف بإمكان انبثاق النظام إلاّ عن عقل بشري محدود

فالنظام الرأسمالي مادّي بكلّ ما للّفظ من معنىً ، فهو إمّا أن يكون قد استبطن المادّية ، ولم يجرؤ على الإعلان عن ربطه بها وارتكازه عليها وإمّا أن يكون جاهلاً بمدى الربط الطبيعي بين المسألة الوقعية للحياة ومسألتها الاجتماعية وعلى هذا فهو يفقد الفلسفة التي لا بدّ لكلّ نظام اجتماعي أن يرتكز عليها وهو ـ بكلمة ـ نظام مادّي ، وإن لم يكن مقاماً على فلسفة مادّية واضحة الخطوط

٢٨

موضع الأخلاق من الرأسمالية :

وكان من جرّاء هذه المادّية التي زخر النظام بروحها أن أُقصيت الأخلاق من الحسّاب ، ولم يُلحَظ لها وجودٌ في ذلك النظام ، أو بالأحرى تبدّلت مفاهيمها ومقاييسها ، وأُعلنت المصلحة الشخصية كهدف أعلى ، والحرّيات جميعاً كوسيلة لتحقيق تلك المصلحة فنشأ عن ذلك أكثر ما ضجَّ به العالم الحديث من محن وكوارث ، ومآسي ومصائب.

وقد يدافع أنصار الديمقراطية الرأسمالية عن وجهة نظرها في الفرد ومصالحه الشخصية ، قائلين إنّ الهدف الشخصي بنفسه يحقّق المصلحة الاجتماعية ، وإنّ النتائج التي تحقّقها الأخلاق بقيمها الروحية تُحقَّق في المجتمع الديمقراطي الرأسمالي ، لكن لا عن طريق الأخلاق ، بل عن طريق الدوافع الخاصّة وخدمتها ؛ فإنّ الإنسان حين يقوم بخدمة اجتماعية يحقّق بذلك مصلحةً شخصية أيضاً ؛ باعتباره جزءاً للمجتمع الذي سعى في سبيله ، وحين ينقذ حياة شخص تعرَّضت للخطر فقد أفاد نفسه أيضاً ؛ لأنّ حياة الشخص سوف تقوم بخدمة للهيئة الاجتماعية ، فيعود عليه نصيب منها ، وإذن ، فالدافع الشخصي والحسّ النفعي يكفيان لتأمين المصالح الاجتماعية وضمانها ، ما دامت ترجع بالتحليل إلى مصالح خاصّة ومنافع فردية

وهذا الدفاع أقرب إلى الخيال الواسع منه إلى الاستدلال فتصوّر بنفسك أنّ المقياس العملي في الحياة لكلّ فرد في الأُمّة إذا كان هو تحقيق منافعه ومصالحه الخاصّة ، على أوسع نطاق وأبعد مدى ، وكانت الدولة تُوفِّر للفرد حرّياته وتقدِّسه بغير تحفّظ ولا تحديد ، فما هو وضع العمل الاجتماعي من قاموس هؤلاء الأفراد ؟! وكيف يمكن أن يكون اتّصال المصلحة الاجتماعية بالفرد كافياً لتوجيه

٢٩

الأفراد نحو الأعمال التي تدعو إليها القيم الخُلُقية ؟! مع أنّ كثيراً من تلك الأعمال لا تعود على الفرد بشيء من النفع ، وإذا اتّفق أن كان فيها شيء من النفع باعتباره فرداً من المجتمع ، فكثيراً ما يُزاحَم هذا النفع الضئيل ـ الذي لا يُدْرِكه الإنسان إلاّ في نظرة تحليلية ـ بفوات منافع عاجلة أو مصالح فردية تجد في الحرّيات ضماناً لتحقيقها ، فيطيح الفرد في سبيلها بكلّ برنامج الخُلُق والضمير الروحي

مآسي النظام الرأسمالي :

وإذا أردنا أن نستعرض الحلقات المتسلسلة من المآسي الاجتماعية التي انبثقت عن هذا النظام المرتجل- لا على أساس فلسفيٍّ مدروس ـ فسوف يضيق بذلك المجال المحدود لهذا البحث ؛ ولذا نلمّح إليها :

فأوّل تلك الحلقات : تحكُّم الأكثرية في الأقلية ومصالحها ومسائلها الحيوية ؛ فإنّ الحرّية السياسية كانت تعني : أنّ وضع النظام والقوانين وتمشيتها من حقّ الأكثرية ولنتصوّر أنّ الفئة التي تمثِّل الأكثرية في الأُمّة ملكت زمام الحكم والتشريع ، وهي تحمل العقلية الديمقراطية الرأسمالية ، وهي عقلية مادّية خالصة في اتّجاهها ونزعاتها ، وأهدافها وأهوائها ، فماذا يكون مصير الفئة الأُخرى ؟! أو ماذا ترتقب للأقلية من حياة في ظلّ قوانين تُشرَّع لحساب الأكثرية ولحفظ مصالحها ؟! وهل يكون من الغريب حينئذٍ إذا شَرَّعت الأكثرية القوانين على ضوء مصالحها خاصّة ، وأهملت مصالح الأقلية ، واتّجهت إلى تحقيق رغباتها اتّجاهاً مجحفاً بحقوق الآخرين ؟! فمن الذين يحفظ لهذه الأقلية كيانها الحيوي ، ويذبُّ عن وجهها الظلمَ ، ما دامت المصلحة الشخصية هي مسألة كلّ فرد ، وما دامت الأكثرية لا تعرف للقيم الروحية والمعنوية مفهوماً في عقليّتها الاجتماعية ؟! وبطبيعة الحال ، أنّ التحكّم سوف يبقى في ظلّ النظام كما كان

٣٠

في السابق ، وأنّ مظاهر الاستغلال والاستهتار بحقوق الآخرين ومصالحهم ستُحفَظ في الجوّ الاجتماعي لهذا النظام كحالها في الأجواء الاجتماعية القديمة

وغاية ما في الموضوع من فرق : أنّ الاستهتار بالكرامة الإنسانية كان من قِبَل أفراد بأُمّة ، وأصبح في هذا النظام من الفئات التي تمثِّل الأكثريّات بالنسبة إلى الأقلِّيات التي تشكّل بمجموعها عدداً هائلاً من البشر

وليت الأمر وقف عند هذا الحدّ ، إذاً لكانت المأساة هيّنة ، ولكان المسرح يحتفل بالضحكات أكثر ممّا يعرض من دموع ، بل إنّ الأمر تفاقم واشتدّ حين برزت المسألة الاقتصادية من هذا النظام بعد ذلك ، فقرّرت الحرّية الاقتصادية على هذا النحو الذي عرضناه سابقاً ، وأجازت مختلف أساليب الثراء وألوانه مهما كان فاحشاً ، ومهما كان شاذّاً في طريقته وأسبابه ، وضمنت تحقيق ما أعلنت عنه ، في الوقت الذي كان العالم يحتفل بانقلاب صناعي كبير ، والعلم يتمخَّض عن ولادة الآلة التي قلبت وجه الصناعة ، وكسحت الصناعات اليدوية ونحوها ، فانكشف الميدان عن ثراء فاحش من جانب الأقلية من أفراد الأُمّة ، ممّن أتاحت لهم الفرص وسائل الإنتاج الحديث ، وزوَّدتهم الحرّيات الرأسمالية غير المحدودة بضمانات كافية لاستثمارها واستغلالها إلى أبعد حدٍّ ، والقضاء بها على كثير من فئات الأُمّة التي اكتسحت الآلة البخارية صناعتها ، وزعزعت حياتها ، ولم تجد سبيلاً للصمود في وجه التيّار ، ما دام أرباب الصناعات الحديثة مسلّحين بالحرّية الاقتصادية ، وبحقوق الحرّيات المقدَّسة كلّها

وهكذا خلا الميدان إلاّ من تلك الصفوة من أرباب الصناعة والإنتاج ، وتضاءلت الفئة الوسطى ، واقتربت إلى المستوى العامّ المنخفض ، وصارت هذه الأكثرية المحطَّمة تحت رحمة تلك الصفوة التي لا تفكّر ولا تحسب إلاّ على الطريقة الديمقراطية الرأسمالية ومن الطبيعي حينئذٍ أن لا تمدُّ يد العطف

٣١

والمعونة إلى هؤلاء ، لتنتشلهم من الهوَّة ، وتشركهم في مغانمها الضخمة ولماذا تفعل ذلك ؟! ما دام المقياس الخُلُقي هو المنفعة واللذّة ، وما دامت الدولة تضمن لها مطلق الحرّية فيما تعمل ، وما دام النظام الديمقراطي الرأسمالي يضيق بالفلسفة المعنوية للحياة ومفاهيمها الخاصّة

فالمسألة ـ إذاً ـ يجب أن تُدرَس بالطريقة التي يوحي بها هذا النظام ، وهي أن يستغلَّ هؤلاء الكبراء حاجة الأكثرية إليهم ، ومقوِّماتهم المعيشية ، فيفرض على القادرين العملُ في ميادينهم ومصانعهم في مدّة لا يمكن الزيادة عليها ، وبأثمان لا تفي إلاّ بالحياة الضرورية لهم هذا هو منطق المنفعة الخالص الذي كان من الطبيعي أن يسلكوه ، وتنقسم الأُمّة بسبب ذلك إلى فئة في قمّة الثراء ، وأكثرية في المهوى السحيق

وهنا يتبلور الحقّ السياسي للأُمّة من جديد بشكل آخر فالمساواة في الحقوق السياسية بين أفراد المواطنين وإن لم تمح من سجلّ النظام ، غير أنّها لم تعد بعد هذه الزعازع إلاّ خيالاً وتفكيراً خالصاً ؛ فإنّ الحرّية الاقتصادية حين تسجِّل ما عرضناه من نتائج ، تنتهي إلى الانقسام الفظيع الذي مرّ في العرض ، وتكون هي المسيطرة على الموقف والماسكة بالزمام ، وتُقهَر الحرّية السياسية أمامها ؛ فإنّ الفئة الرأسمالية بحكم مركزها الاقتصادي من المجتمع ، وقدرتها على استعمال جميع وسائل الدعاية ، وتمكُّنِها من شراء الأنصار والأعوان ، تهيمن على مقاليد الحكم في الأُمّة ، وتتسلّم السلطة لتسخيرها في مصالحها والسهر على مآربها ، ويصبح التشريع والنظام الاجتماعي خاضعاً لسيطرة رأس المال ، بعد أن كان المفروض في المفاهيم الديمقراطية أنّه من حقّ الأُمّة جمعاء وهكذا تعود الديمقراطية الرأسمالية في نهاية المطاف حُكماً تستأثر به الأقلية ، وسلطاناً يحمي به عدّة من الأفراد كيانهم على حساب الآخرين ، بالعقلية النفعية التي يستوحونها

٣٢

من الثقافة الديمقراطية الرأسمالية

ونصل هنا إلى أفظع حلقات المأساة التي يمثّلها هذا النظام ؛ فإنّ هؤلاء السادة الذين وضع النظامُ الديمقراطي الرأسمالي في أيديهم كلَّ نفوذ ، وزوَّدهم بكلّ قوّة وطاقة ، سوف يمدّون أنظارهم ـ بوحي من عقلية هذا النظام ـ إلى الآفاق ، ويشعرون بوحي من مصالحهم وأغراضهم أنّهم في حاجة إلى مناطق نفوذ جديدة ؛ وذلك لسبيين :

الأوّل : أنّ وفرة الإنتاج تتوقّف على مدى توفّر المواد الأوّلية وكثرتها ، فكلّ من يكون حظّه من تلك المواد أعظم تكون طاقاته الإنتاجية أقوى وأكثر وهذه المواد منتشرة في بلاد الله العريضة وإذا كان من الواجب الحصول عليها ، فاللازم السيطرة على البلاد التي تملك المواد ، لامتصاصها واستغلالها

الثاني : أنّ شِدَّة حركة الإنتاج وقوّتها بدافع من الحرص على كثرة الربح من ناحية ، ومن ناحية أُخرى انخفاض المستوى المعيشي لكثير من المواطنين بدافع من الشره المادّي للفئة الرأسمالية ، ومغالبتها للعامّة على حقوقها بأساليبها النفعية ، التي تجعل المواطنين عاجزين عن شراء المنتجات واستهلاكها ، كلّ ذلك يجعل كبار المنتجين في حاجة ماسّة إلى أسواق جديدة لبيع المنتجات الفائضة فيها ، وإيجاد تلك الأسواق يعني التفكير في بلاد جديدة

وهكذا تُدرَس المسألة بذهنية مادّية خالصة ومن الطبيعي لمثل هذه الذهنية التي لم يرتكز نظامها على القيم الروحية والخُلُقية ، ولم يعترف مذهبها الاجتماعي بغاية إلاّ إسعاد هذه الحياة المحدودة بمختلف المتع والشهوات ، أن ترى في هذين السببين مبرّراً ومسوّغاً منطقيّاً للاعتداء على البلاد الآمنة ، وانتهاك كرامتها ، والسيطرة على مقدّراتها ومواردها الطبيعية الكبرى ، واستغلال ثرواتها لترويج البضائع الفائضة فكلّ ذلك أمر معقول وجائز في عرف المصالح الفردية

٣٣

التي يقوم على أساسها النظام الرأسمالي والاقتصاد الحرّ

وينطلق من هنا عملاق المادّة ، يغزو ويحارب ، ويقيِّد ويكبّل ، ويستعمر ويستثمر ؛ إرضاءً للشهوات وإشباعاً للرغبات فانظر ماذا قاست الإنسانية من ويلات هذا النظام ، باعتباره مادّياً في روحه وصياغته ، وأساليبه وأهدافه ، وإن لم يكن مركّزاً على فلسفة محدَّدة تتّفق مع تلك الروح والصياغة ، وتنسجم مع هذه الأساليب والأهداف كما ألمعنا إليه ؟!!

وقدِّرْ بنفسك نصيب المجتمع الذي يقوم على ركائز هذا النظام ومفاهيمه من السعادة والاستقرار ، هذا المجتمع الذي ينعدم فيه الإيثار والثقة المتبادلة ، والتراحم والتعاطف الحقيقي ، وجميع الاتّجاهات الروحية الخيِّرة ، فيعيش الفرد فيه وهو يشعر بأنّه المسئول عن نفسه وحده ، وأنّه في خطر من قبل كلّ مصلحة من مصالح الآخرين التي قد تصطدم به ، فكأنّه يحيا في صراع دائم ومغالبة مستمرّة ، لا سلاح له فيها إلاّ قواه الخاصّة ، ولا هدف له منها إلاّ مصالحه الخاصّة

٣٤

الاشتراكية والشيوعية

في الاشتراكية مذاهب متعدّدة ، وأشهرها المذهب الاشتراكي القائم على النظرية الماركسية والمادّية الجدلية التي هي عبارة عن فلسفة خاصّة للحياة ، وفهم مادّي لها على طريقة ديالكتيكية وقد طبّق المادّيون الديالكتيكيون هذه المادّية الديالكتيكية على التأريخ والاجتماع والاقتصاد ، فصارت عقيدةً فلسفية في شأن العالم ، وطريقة لدرس التأريخ والاجتماع ، ومذهباً في الاقتصاد ، وخطّة في السياسة

وبعبارة أُخرى : أنّها تصوغ الإنسان كلّه في قالب خاصّ ، من حيث لون تفكيره ووجهة نظره إلى الحياة وطريقته العملية فيها ولا ريب في أنّ الفلسفة المادّية وكذلك الطريقة الديالكتيكية ليستا من بدع المذهب الماركسي وابتكاراته ، فقد كانت النزعة المادّية تعيش منذ آلاف السنين في الميدان الفلسفي ، سافرةً تارة ، ومتواريةً أُخرى وراء السفسطة والإنكار المطلق ، كما أنّ الطريقة الديالكتيكيّة في التفكير عميقة الجذور ببعض خطوطها في التفكير الإنساني ، وقد استكملت كلّ خطوطها على يد (هيجل ) الفيلسوف المثالي المعروف وإنّما جاء (كارل ماركس ) إلى هذا المنطق وتلك الفلسفة فتبنّاهما ، وحاول تطبيقها على جميع ميادين الحياة ، فقام بتحقيقين :

أحدهما : أن فسَّر التأريخ تفسيراً مادّياً خالصاً بطريقة ديالكتيكيّة

والآخر : زعم فيه أنّه اكتشف تناقضات رأس المال والقيمة الفائضة التي يسرقها صاحب المال في عقيدته من العامّل(١) وأشاد على أساس هذين

____________________

(١) شرحنا هذه النظريّات مع دراسة علمية مفصّلة في كتاب (اقتصادنا) (المؤلّف قدس‌سره )

٣٥

التحقيقين إيمانه بضرورة فناء المجتمع الرأسمالي ، وإقامة المجتمع الشيوعي والمجتمع الاشتراكي الذي اعتبره خطوة للإنسانية إلى تطبيق الشيوعية تطبيقاً كاملاً

فالميدان الاجتماعي في هذه الفلسفة ميدان صراع بين المتناقضات ، وكلّ وضع اجتماعي يسود ذلك الميدان فهو ظاهرة مادّية خالصة ، منسجمة مع سائر الظواهر والأحوال المادّية ومتأثّرة بها ، غير أنّه في نفس الوقت يحمل نقيضه في صميمه ، وينشب ـ حينئذٍ ـ الصراع بين النقائض في محتواه ، حتّى تتجمَّع المتناقضات ، وتُحدِث تبدّلاً في ذلك الوضع وإنشاءً لوضع جديد ، وهكذا يبقى العراك قائماً حتّى تكون الإنسانية كلّها طبقةً واحدة ، وتتمثَّل مصالح كلّ فرد في مصالح تلك الطبقة الموحّدة في تلك اللحظة يسود الوئام ، ويتحقّق السلام ، وتزول نهائياً جميع الآثار السيّئة للنظام الديمقراطي الرأسمالي ؛ لأنّها إنّما كانت تتولَّد من تعدّد الطبقة في المجتمع ، وهذا التعدّد إنّما نشأ من انقسام المجتمع إلى منتج وأجير وإذاً فلابدّ من وضع حدٍّ فاصل لهذا الانقسام ، وذلك بإلغاء الملكيّة وتختلف هنا الشيوعية عن الاشتراكية في الخطوط الاقتصادية الرئيسية ؛ وذلك لأنّ الاقتصاد الشيوعي يرتكز :

أوّلاً - على إلغاء المِلْكية الخاصّة ومحوها محواً تاماً من المجتمع ، وتمليك الثروة كلّها للمجموع ، وتسليمها إلى الدولة باعتبارها الوكيل الشرعي عن المجتمع في إدارتها واستثمارها لخير المجموع واعتقاد المذهب الشيوعي بضرورة هذا التأميم المطلق إنّما كان ردّ الفعل الطبيعي لمضاعفات المِلْكية الخاصّة في النظام الديمقراطي الرأسمالي وقد بُرِّر هذا التأميم بأنّ المقصود منه إلغاء الطبقة الرأسمالية ، وتوحيد الشعب في طبقة واحدة ؛ ليُختم بذلك الصراع ، ويُسدّ على الفرد الطريق إلى استغلال شتّى الوسائل والأساليب لتضخيم ثروته ، إشباعاً

٣٦

لجشعه واندفاعاً بدافع الأثرة وراء المصلحة الشخصية

ثانياً - على توزيع السلع المنتجة على حسب الحاجات الاستهلاكية للأفراد ، ويتلخّص في النصّ الآتي : (من كلٍّ حسب قدرته ، ولكلّ حسب حاجته) ؛ وذلك أنّ كلّ فرد له حاجات طبيعية لا يمكنه الحياة بدون توفيرها ، فهو يدفع للمجتمع كلّ جهده ، فيدفع له المجتمع متطلّبات حياته ، ويقوم بمعيشته

ثالثاً ـ على منهاج اقتصادي ترسمه الدولة ، وتوفِّق فيه بين حاجة المجموع والإنتاج : في كمّيته ، وتنويعه ، وتحديده ؛ لئلاً يمنى المجتمع بنفس الأدواء والأزمات التي حصلت في المجتمع الرأسمالي حينما أطلق الحرّيات بغير تحديد

الانحراف عن العملية الشيوعية :

ولكنّ أقطاب الشيوعية الذين نادوا بهذا النظام لم يستطيعوا أن يطبّقوه بخطوطه كلّها حين قبضوا على مقاليد الحكم ، واعتقدوا أنّه لابدّ لتطبيقه من تطوير الإنسانية في أفكارها ودوافعها ونزعاتها ، زاعمين أنّ الإنسان سوف يجيء عليه اليوم الذي تموت في نفسه الدوافع الشخصية والعقلية والفردية ، وتحيا فيه العقلية الجماعية والنوازع الجماعية ، فلا يفكّر إلاّ في المصلحة الاجتماعية ، ولا يندفع إلاّ في سبيلها

ولأجل ذلك كان من الضروري ، في عرف هذا المذهب الاجتماعي ، إقامة نظام اشتراكي قبل ذلك ؛ ليتخلّص فيه الإنسان من طبيعته الحاضرة ، ويكتسب الطبيعة المستعدّة للنظام الشيوعي وهذا النظام الاشتراكي أُجريت فيه تعديلات مهمّة على الجانب الاقتصادي من الشيوعية

٣٧

فالخطّ الأوّل من خطوط الاقتصاد الشيوعي ، وهو : إلغاء الملكية الفردية ، قد بُدِّل إلى حلٍّ وسط ، وهو : تأميم الصناعات الثقيلة والتجارة الخارجية والتجارات الداخلية الكبيرة ، ووضعها جميعاً تحت الانحصار الحكومي وبكلمة أُخرى : إلغاء رأس المال الكبير مع إطلاق الصناعات والتجارات البسيطة وتركها للأفراد ؛ وذلك لأنّ الخطّ العريض في الاقتصاد الشيوعي اصطدم بواقع الطبيعة الإنسانية الذي أشرنا إليه ؛ حيث أخذ الأفراد يتقاعسون عن القيام بوظائفهم والنشاط في عملهم ، ويتهرَّبون من واجباتهم الاجتماعية ؛ لأنّ المفروض تأمين النظام لمعيشتهم وسدِّ حاجاتهم ، كما أنّ المفروض فيه عدم تحقيق العمل والجهد ـ مهما كان شديداً ـ لأكثر من ذلك فعلام إذن يجهد الفرد ويكدح ويجدُّ ما دامت النتيجة في حسابه هي النتيجة في حالي الخمول والنشاط ؟! ولماذا يندفع إلى توفير السعادة لغيره وشراء راحة الآخرين بعرقه ودموعه وعصارة حياته وطاقاته ، ما دام لا يؤمن بقيمة من قيم الحياة ، إلاّ القيمة المادّية الخالصة ؟!!

فاضطرّ زعماء هذا المذهب إلى تجميد التأميم المطلق ، وإلى تعديل الخطّ الثاني من خطوط الاقتصاد الشيوعي أيضاً ، وذلك بجعل فوارق بين الأُجور ؛ لدفع الأعمال إلى النشاط والتكامل في العمل ، معتذرين بأنّها فوارق مؤقّتة سوف تزول حينما يُقضى على العقلية الرأسمالية ، وينشأ الإنسان إنشاءً جديداً وهم لأجل ذلك يجرون التغييرات المستمرّة على طرائقهم الاقتصادية وأساليبهم الاشتراكية ؛ لتدارك فشل كلّ طريقة بطريقة جديدة ولم يوفَّقوا حتّى الآن للتخلّص من جميع الركائز الأساسية في الاقتصاد الرأسمالي ، فلم تلغ ـ مثلاً ـ القروض الربوية نهائياً ، مع أنّها في الواقع أساس الفساد الاجتماعي في الاقتصاد الرأسمالي

٣٨

ولا يعني هذا كلّه أنّ أولئك الزعماء مقصّرون ، أو أنّهم غير جادّين في مذهبهم وغير مخلصين لعقيدتهم ، وإنّما يعني : أنّهم اصطدموا بالواقع حين أرادوا التطبيق ، فوجدوا الطريق مليئاً بالمعاكسات والمناقضات التي تضعها الطبيعة الإنسانية أمام الطريقة الانقلابية للإصلاح الاجتماعي الذي كانوا يبشّرون به ، ففرض عليه الواقع التراجعَ آملين أن تتحقّق المعجزة في وقت قريب أو بعيد

وأمّا من الناحية السياسية ، فالشيوعية تستهدف في نهاية شوطها الطويل إلى محو الدولة من المجتمع حين تتحقّق المعجزة ، وتعمّ العقلية الجماعية كلَّ البشر ، فلا يفكّر الجميع إلاّ في المصلحة المادّية للمجموع وأمّا قبل ذلك ، ما دامت المعجزة غير محقّقة ، وما دام البشر غير موحَّدين في طبقة ، والمجتمع ينقسم إلى قوى رأسمالية وعمّالية ، فاللازم أن يكون الحكم عمّالياً خالصاً ، فهو حكم ديمقراطي في حدود دائرة العمال ، ودكتاتوري بالنسبة إلى العموم وقد علَّلوا ذلك بأنّ الدكتاتورية العمّالية في الحكم ضرورية في كلّ المراحل التي تطويها الإنسانية بالعقلية الفردية ؛ وذلك حمايةً لمصالح الطبقة العامّلة ، وخنقاً لأنفاس الرأسمالية ، ومنعاً لها عن البروز إلى الميدان من جديد.

والواقع : أنّ هذا المذهب الذي تمثَّل في الاشتراكية الماركسية ، ثمّ في الشيوعية الماركسية ، يمتاز على النظام الديمقراطي الرأسمالي بأنّه يرتكز على فلسفة مادّية معيّنة ، تتبنّى فهماً خاصّاً للحياة ، لا يَعترف لها بجميع المثُل والقيم المعنوية ، ويعلِّلها تعليلاً لا موضع فيه لخالق فوق حدود الطبيعة ، ولا لجزاء مرتقب وراء حدود الحياة المادّية المحدودة وهذا على عكس الديمقراطية الرأسمالية ؛ فإنّها وإن كانت نظاماً مادّياً ولكنّها لم تبنَ على أساس فلسفيٍّ محدَّد فالربط الصحيح بين المسألة الواقعية للحياة والمسألة الاجتماعية آمنت به الشيوعية المادّية ، ولم تؤمن به الديمقراطية الرأسمالية أو لم تحوّل إيضاحه

٣٩

وبهذا كان المذهب الشيوعي حقيقاً بالدرس الفلسفي وامتحانه عن طريق اختبار الفلسفة التي ركّز عليها وانبثق عنها ، فإنّ الحكم على كلّ نظام يتوقّف على مدى نجاح مفاهيمه الفلسفية في تصوير الحياة وإدراكها

ومن السهل أن ندرك في أوّل نظرة نلقيها على النظام الشيوعي المخفَّف أو الكامل ، أنّ طابعه العامّ هو إفناء الفرد في المجتمع ، وجعله آلة مسخَّرة لتحقيق الموازين العامّة التي يفترضها فهو على النقيض تماماً من النظام الرأسمالي الحرّ الذي يجعل المجتمع للفرد ويسخّره لمصالحه ، فكأنّه قد قُدِّر للشخصية الفردية والشخصية الاجتماعية ـ في عرف هذين النظامين ـ أن تتصادما وتتصارعا فكانت الشخصية الفردية هي الفائزة في حدّ النظامين الذي أقام تشريعه على أساس الفرد ومنافعه الذاتية ، فمني المجتمع بالمآسي الاقتصادية التي تزعزع كيانه وتشوِّه الحياة في جميع شُعَبِها وكانت الشخصية الاجتماعية هي الفائزة في النظام الآخر الذي جاء يتدارك أخطاء النظام السابق ، فساند المجتمع ، وحكم على الشخصية الفردية بالاضمحلال والفناء ، فأُصيب الأفراد بمحن قاسية قضت على حرّيتهم ووجودهم الخاصّ ، وحقوقهم الطبيعية في الاختيار والتفكير

المؤاخذات على الشيوعية :

والواقع : أنّ النظام الشيوعي وإن عالج جملة من أدواء الرأسمالية الحرّة بمحوه للملكية الفردية ، غير أنّ هذا العلاج له مضاعفات طبيعية تجعل ثمن العلاج باهظاً ، وطريقة تنفيذه شاقّة على النفس لا يمكن سلوكها إلاّ إذا فشلت سائر الطرق والأساليب ، هذا من ناحية ومن ناحية أُخرى هو علاج ناقص لا يضمن القضاء على الفساد الاجتماعي كلّه ؛ لأنّه لم يحالفه الصواب في تشخيص الداء ، وتعيين النقطة التي انطلق منها الشرّ حتّى اكتسح العالم في ظلّ الأنظمة الرأسمالية ،

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ) (١) ، فياء (يسر) حذفت قصداً للانسجام مع (الفجر، وعشر، والوتر، وحجر...).

ومثل ( يَوْمَ يَدْعُ الدّاعِ إِلَى‏ شَيْ‏ءٍ نُكُرٍ * خُشّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ) (٢) فإذا أنت لم تخطف الياء في (الداع) أحسست ما يشبه الكسر في وزن الشعر.

ومثله: ( ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً ) (٣) فلو مددت ياء نبغي - كما هو القياس - لاختلّ الوزن نوعاً من الاختلال.

ومثل هذا يقع عند زيادة هاء السكت على ياء الكلمة أو ياء المتكلّم في مثل: ( وَأَمّا مَنْ خَفّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَاهِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ ) (٤) ، ومثل: ( فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُا كِتَابِيَهْ * إِنّي ظَنَنتُ أَنّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ... ) (٥) .

ومثال الحالة الثانية: أن لا يكون هناك عدول عن صيغة قياسية، ومع ذلك تُلحظ الموسيقى الكامنة في التركيب، والتي تختلّ لو غَيّرت نظامه مثل: ( ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّا * إِذْ نَادَى‏ رَبّهُ نِدَاءً خَفِيّاً * قَالَ رَبّ إِنّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّي وَاشْتَعَلَ الرّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً ) (٦) فلو حاولت مثلاً أن تُغيّر فقط وضع كلمة (منّي) فتجعلها سابقة لكلمة (العظم): قال ربي إني وهن مني العظم، لأحسست بما يشبه الكسر في وزن الشعر؛ ذلك أنّها تتوازن مع (إنّي) في صدر الفقرة هكذا: (قال ربّ إنّي) (وهن العظمُ منّي)، على أنّ هناك نوعاً من الموسيقى الداخلية يُلحظ ولا يشرح - كما أسلفنا - وهو كامن في نسيج اللفظة المفردة

____________________

(١) الفجر: ١ - ٥.

(٢) القمر: ٦ - ٨.

(٣) الكهف: ٦٤.

(٤) القارعة: ٨ - ١١.

(٥) الحاقة: ١٩ - ٢١.

(٦) مريم: ٢ - ٤.

٢٦١

وتركيب الجملة الواحدة، وهو يُدرك بحاسّة خفية وهبة لدُنية.

وهكذا تتبدّى تلك الموسيقى الداخلية في بناء التعبير القرآني، موزونة بميزان شديد الحسّاسية، تُميله أخفّ الحركات والاهتزازات، ولو لم يكن شعراً، ولو لم يتقيد بقيود الشعر الكثيرة، التي تحدّ من الحرّية الكاملة في التعبير الدقيق عن القصد المطلوب (١) .

* * *

وقال الرافعي: كان العرب يتساجلون الكلام ويتقارضون الشعر، وكان أُسلوب الكلام عندهم واحداً: حرّاً في المنطق وجزلاً في الخطاب، في فصاحة كانت تؤاتيهم الفطرة وتمدّهم الطبيعة، فلمّا ورد عليهم أُسلوب القرآن رَأوا ألفاظهم بأعيانها متساوقة، ليس فيها إعنات ولا مُعاياة، ووجوه تركيبه ونسق حروفه ونظم جمله وعبائره، ما أذهلهم هيبةً وروعةً، حتى أحسّوا بضعف الفطرة وتخلّف المَلَكة، ورأى بلغاؤهم جنساً من الكلام غير ما هم فيه، رأوا حروفه في كلماته، وكلماته في جمله، ألحاناً نغمية رائعة، كأنّها لائتلافها وتناسقها قطعة واحدة، قراءتها هي توقيعها، فلمْ يفتهم هذا المعنى وكان أبين لعجزهم.

وكل الذين يُدركون أسرار الموسيقى وفلسفتها النفسية يرون أن ليس في الفنّ العربي بجملته شيء يعدل هذا التناسب الطبيعي في ألفاظ القرآن وأصوات حروفه، وما أحد يستطيع أن يغتمز في ذلك حرفاً واحداً، والقرآن يعلو على الموسيقى إنّه مع هذه الخاصّة العجيبة ليس من الموسيقى.

إنّ مادة الصوت هي مظهر الانفعال النفسي في الأنغام الموسيقية، بسبب تنويع الصوت مدّاً وغنّةً وليناً وشدّةً وما يتهيّأ له من حركات مختلفة، وبمقدار ما يكسبه من الحَدرة والارتفاع والاهتزاز ممّا هو بلاغة الصوت في لغة الموسيقى.

فلو اعتبرنا ذلك في تلاوة القرآن لرأيناه أبلغ ما تبلغ إليه اللغات كلها، في هزّ

____________________

(١) التصوير الفني: ص٨٠ - ٨٣.

٢٦٢

الشعور واستثارة الوجد النفسي، ومن هذه الجهة تراه يغلب على طبع كل عربيّ أو عجميّ، وبذلك يؤوّل ما ورد من الحثّ على تحسين الصوت عند قراءة القرآن.

وما هذه الفواصل التي تنتهي بها آيات القرآن إلاّ صوراً تامّة للأبعاد التي تنتهي بها جمل الموسيقى، وهي متّفقة مع آياتها في قرارات الصوت اتّفاقاً عجيباً يُلاءم نوع الصوت، والوجه الذي يُساق عليه، بما ليس وراءه من العجب مذهب، وتراها أكثر ما تنتهي بالنون والميم، وهما الحرفان الطبيعيان في الموسيقى نفسها، أو المدّ، وهو كذلك طبيعيّ في القرآن (١) .

* * *

وقال بعض أهل الفنّ: كثر في القرآن ختم الفواصل بحروف المدّ واللين وإلحاق النون، وحكمة وجودها التمكّن من التطريب بذلك، كما قال سيبويه: إنّهم - أي العرب - إذا ترنّموا يُلحقون الألف والياء والنون؛ لأنّهم أرادوا مدّ الصوت، ويتركون ذلك إذا لم يترنّموا، وجاء في القرآن على أسهل موقف وأعذب مقطع.

فإن لم تنتِه بواحدة من هذه - كأن انتهت بسكون حرف - كان ذلك متابعة لصوت الجملة وتقطيع كلماتها، ومناسبة للون المنطق بما هو أشبه وأليق بموضعه، وأكثر ما يكون في الجمل القصار، ولا يكون إلاّ بحرف قويّ يستتبع القلقلة أو الصفير أو نحوهما ممّا هو موصوف بضروب أُخرى من النظم الموسيقي.

وهذه هي طريقة الاستهواء الصوتي في اللغة، وأثرها طبيعيّ في كل نفس، فهي تشبه في القرآن الكريم أن تكون صوت إعجازه الذي يُخاطب به كل نفس، سواء كانت تفهمه أو لا تفهمه.

فقد تألّفت كلماته من حروف، لو سقط واحد منها أو أُبدل بغيره أو أُقحم معه حرف آخر لكان ذلك خللاً بيّناً، أو ضعفاً ظاهراً في نسق الوزن وفي جرس النغمة، وفي حسّ السمع وذوق اللسان، وفي انسجام العبارة وبراعة المخرج،

____________________

(١) إعجاز القرآن: ص١٨٨ و٢١٦.

٢٦٣

وتساند الحروف وإفضاء بعضها إلى بعض، ولرأيت لذلك هُجنة في السمع.

* * *

قالوا: إنّ مردّ هذا الإعجاز في القرآن بالدرجة الأُولى هو ما يستثيره في القلب من إحساس غامض لمجرّد أن تصطفّ الحروف في السمع بهذا النمط الفريد، ذلك العزف بلا آلات وبلا قوافٍ وبلا بحور وبلا أوزان.

حينما نصغي إلى ما يقوله زكريّا لربّه - فيما اقتصّ من القرآن -:

( رَبّ إِنّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّي وَاشْتَعَلَ الرّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً ) (١) .

أَو نستمع إلى كلام المسيح في المهد صبيّاً:

( إِنّي عَبْدُ اللّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصّلاَةِ وَالزّكَاةِ مَادُمْتُ حَيّاً ) (٢) .

أو تلك الجملة الموسيقية التي تتحدث عن خشوع الرسل:

( إِذَا تُتْلَى‏ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرّحْمنِ خَرّوا سُجّداً وَبُكِيّاً ) (٣) .

أو تلك النغمة الرهيبة التي تصف اللقاء بالله يوم القيامة:

( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيّ الْقَيّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً ) (٤) .

أو ذلك الإيقاع الرحماني الذي يُخاطب الله به نبيه محمّداً (صلّى الله عليه وآله) في موسيقى عذبة تملك شَغَاف القلب:

( طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى‏ * إِلاّ تَذْكِرَةً لِمَن يَخْشَى * تَنزِيلاً مِمّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسّماوَاتِ الْعُلا‏ * الرّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏ * لَهُ مَا فِي السّماوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَرَى‏ * وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنّهُ

____________________

(١) مريم: ٤.

(٢) مريم: ٣٠ و٣١.

(٣) مريم: ٥٨.

(٤) طه: ١١١.

٢٦٤

يَعْلَمُ السّرّ وَأَخْفَى * اللّهُ لاَ إِلهَ إِلاّ هُوَ لَهُ الأَسْماءُ الْحُسْنَى ) (١) .

أمّا إذا تحوّل القرآن إلى الحديث عن المجرمين وما أُنزل بهم من عذاب، تحوّلت الموسيقى إلى أصوات نحاسية تصكّ الأُذن وتحوّلت الكلمة إلى جلاميد صخر وكأنّها رجم:

( إِنّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمٍ نَحْسٍ مُسْتَمِرّ * تَنزِعُ النّاسَ كَأَنّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنقَعِرٍ ) (٢) .

فإذا سبّحت الملائكة طالبة من الله المغفرة للمؤمنين سالت الكلمات كأنّها سبائك ذهب:

( رَبّنَا وَسِعْتَ كُلّ شَيْ‏ءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلّذِينَ تَابُوا وَاتّبَعُوا سَبِيلَكَ ) (٣) .

فإذا جاء الإنذار بالساعة فإنّ الهول والشؤم يَطلّ من الكلمات المتوتّرة والعبارات المشدودة:

( وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ ) (٤) .

ثمّ العتاب، وأيّ عتاب حينما لا ينفع العتاب:

( يَا أَيّهَا الإِنسَانُ مَا غَرّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ * الّذِي خَلَقَكَ فَسَوّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكّبَكَ ) (٥) .

والبشرى، حينما تُبشّر الملائكة مريم بميلاد المسيح:

( يَا مَرْيَمُ إِنّ اللّهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الْدّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرّبِينَ ) (٦) .

ثمّ ذلك الصراخ في الأُذن بتلك الكلمة العجيبة التي تشبه السكّين:

____________________

(١) طه: ١ - ٨.

(٢) القمر: ١٩ و٢٠.

(٣) غافر: ٧.

(٤) غافر: ١٨.

(٥) الانفطار: ٦ - ٨.

(٦) آل عمران: ٤٥.

٢٦٥

( فَإِذَا جَاءَتِ الصّاخّةُ * يَوْمَ يَفِرّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) (١) .

وبعد، فهذا التشكيل والسبك والتلوين في الحروف والعبارات في معمار القرآن هو نسيج وحده، بلا شبيه - من قبلُ أو من بعدُ - كل ذلك يتمّ في يسر شديد، لا يبدو فيه أثر اعتمال وافتعال واعتساف، وإنّما تسيل الكلمات في بساطة شديدة لتدخل القلب فتثير ذلك الإحساس الغامض بالخشوع، مِن قبل أن يَتيقّظ العقل فيُحلّل ويُفكّر ويتأمّل، مجرّد قرع الكلمة للأُذن وملامستها للقلب تُثير ذلك الشيء الذي لا نجد له تفسيراً.

هذه الصفة في العبارة القرآنية إلى جانب كل الصفات الأُخرى مجتمعة، هي التي تجعل من القرآن ظاهرة لا تفسير لها فيما نعرف من مصادر الكلام المألوف (٢) .

التغنّي بالقرآن

( وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ) :

وإذ قد عرفت الموسيقى الباطنة للقرآن، وصياغته المنتظمة على أنغام صوتية وألحان شعرية ساحرة، فاعلم أنّه قد ورد في دستور تلاوته الترغيب في تحسين الصوت ومدّه وترقيقه، والترجيع بقراءته ومراعاة أنغامه وألحانه، وفيما يلي قائمة نموذجية من روايات وردت بهذا الشأن:

* * *

____________________

(١) عبس: ٣٣ - ٣٧.

(٢) محاولة لفهم عصري للقرآن: ص٢٤٥ - ٢٤٧.

٢٦٦

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (لكلّ شيء حُلية، وحُلية القرآن الصوتُ الحسن).

وقال: (إنّ من أجمل الجمال الشعرَ الحسن، ونغمةَ الصوت الحسن).

وقال: (اقرأوا القرآنَ بألحان العرب وأصواتها، وإيّاكم ولحون أهل الفسوق والكبائر) (١) .

وقال: (إنّ حسنَ الصوت زينة للقرآن).

وقال: (حسّنوا القرآن بأصواتكم، فإنّ الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً).

وقال: (زيّنوا القرآن بأصواتكم).

وقال الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية: (هو أن تتمكّث فيه، وتُحسّن به صوتَك) (٢) .

وقال أبو جعفر الباقر (عليه السلام): (ورجّع بالقرآن صوتك فإنّ الله عزّ وجلّ يُحبّ الصوت الحسن يُرجّعُ فيه ترجيعاً) (٣) .

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إنّ القرآن نزل بالحزن فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، وتغنّوا به، فمَن لم يتغنَّ بالقرآن فليس منّا).

وقال: (ليس منّا مَن لم يتغنَّ بالقرآن) (٤) .

وقال الصادق (عليه السلام): (إنّ القرآن نزل بالحزن فاقرأُوه بالحزن) (٥) .

قال الصدوق (رحمه الله): معنى التغنّي بالقرآن هو الاستغناء به لِما رُوي أنّ قراءة القرآن غنىً لا فقر بعده (٦) .

لكن الاعتبار بالقرائن الحافّة بالكلام دون غيرها، وهذا كلامٌ صادر عقيب

____________________

(١) الكافي الشريف: ج٢ ص٦١٤ - ٦١٦ رقم ٩ و٨ و٣.

(٢) بحار الأنوار: ج٨٩ كتاب القرآن رقم ٢١ ص ١٩٠ - ١٩٥.

(٣) الكافي الشريف: ج٢ ص٦١٦ رقم ١٣.

(٤) بحار الأنوار: ج٨٩ ص١٩١.

(٥) الكافي الشريف: ج٢ ص٦١٤ رقم ٢.

(٦) معاني القرآن: ص ٢٦٤، طبع النجف الأشرف.

٢٦٧

القول بأنّ القرآن نزل بالحزن، فكانت نتيجة مترتّبة عليه.. فالتناسب بين الصدر والذيل هو الملحوظ في الكلام الواحد المتّصل بعضه ببعض.

ويُؤكّد هذا المعنى - الذي ذكرنا - ما ذكره الثقات بشأن صدور هذا الدستور من النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله).

قال ابن الأعرابي (١) : كانت العرب تتغنّى بالرُكبانيّ (٢) إذا رَكبت وإذا جلست في الأفنية وعلى أكثر أحوالها، فلمّا نزل القرآن أحبّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أن تكون هِجِّيراهم (٣) بالقرآن مكان التغنّي بالرُكباني (٤) .

قال الزمخشري: كانت هِجّيري العرب التغنّي بالرُكباني - وهو نشيد بالمدّ والتمطيط - إذا ركبوا الإبل وإذا انبطحوا على الأرض، وإذا قعدوا في أفنيتهم، وفي عامّة أحوالهم، فأحبّ الرسول أن تكون قراءة القرآن هِجّيراهم، فقال ذلك... يعني: (ليس منّا مَن لم يضع القرآن موضع الركباني في اللّهج به والطرب عليه...) (٥) .

قال الفيروز آبادي: غنّاه الشعرُ وغنّى به تغنيةً: تغنّى به.

قال الشاعر:

تغنَّ بالشِعرِ إمّا كنتَ قائلَه

إنّ الغناءَ بهذا الشِّعر مضمارُ (٦)

قال الزبيدي: وعليه حُمل قوله (صلّى الله عليه وآله): ما أذن الله لشيء كإذنه لنبيّ يتغنّى بالقرآن يجهر به.

____________________

(١) هو أبو عبد الله محمد بن زياد الكوفي، مولى بني هاشم، أحد العالمينَ باللغة والمشهورين بمعرفتها، كان يحضر مجلسه خَلقٌ كثير، وكان رأساً في الكلام الغريب، وربّما كان متقدماً على أبي عبيدة والأصمعي في ذلك، وُلد في رجب سنة ١٥٠ وتُوفي في شعبان سنة ٢٣١ هـ. (الكنى والألقاب للقمي: ج١، ص٢١٥).

(٢) هو نشيد بالمدّ والتمطيط.

(٣) الهجّيراء: زمزمة الغناء ورنّته.

(٤) نهاية ابن الأثير: ج٣ ص ٣١٩.

(٥) الفائق: ج٢ ص٣٦ في (رثث).

(٦) قال ابن منظور: أراد أنّ التغنّي... فوضع الاسم موضع المصدر.

٢٦٨

قال الأزهري: أخبرني عبد الملك البغوي عن الربيع عن الشافعي: أنّ معناه (تحزين القراءة وترقيقها) (١) ، ويشهد له الحديث الآخر: (زيّنوا القرآن بأصواتكم).

قال: وبه قال أبو عبيد (٢) .

* * *

وهكذا دأب الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) على ترتيل القرآن ورفع الصوت به وتجويده حيث أحسن الأصوات.

روى محمّد بن علي بن محبوب الأشعري في كتابه بالإسناد إلى معاوية بن عمّار، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل لا يرى أنّه صنع شيئاً في الدعاء وفي القراءة حتى يرفع صوته؟ فقال: (لا بأس، إنّ علي بن الحسين (عليه السلام) كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن، فكان يرفع صوته حتى يسمعه أهلُ الدار، وإنّ أبا جعفر (عليه السلام) كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان إذا قام من الليل وقرأ رفع به صوته، فيمرّ به مارّ الطريق من السقّائين وغيرهم، فيقومون فيتسمعون إلى قراءته) (٣) .

ورُوي أنّ موسى بن جعفر (عليه السلام) كان حَسِن الصوت حَسِن القراءة، وقال يوماً من الأيّام: (إنّ علي بن الحسين (عليه السلام) كان يقرأ القرآن، فربّما مرّ به المارّ فصُعق من حسن صوته، وإنّ الإمام لو أظهر في ذلك شيئاً لَما احتمله الناس. قيل له: أَلم يكن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يصلّي بالناس ويرفع صوته بالقرآن؟ فقال: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان يُحمّل مَن خلفه ما يطيقون) (٤) .

كما ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا عن آبائه عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: (حسّنوا القرآن بأصواتكم، فإنّ الصوت الحسن يَزيد القرآن حسناً)، وقرأ: (يزيد

____________________

(١) في اللسان: ج١٥ ص١٣٦: (تحسين القراءة وترقيقها).

(٢) تاج العروس في شرح القاموس: ج١٠ ص٢٧٢.

(٣) مستطرفات السرائر: ص٤٨٤.

(٤) كتاب الاحتجاج: ج٢ ص١٧٠.

٢٦٩

في الخلق ما يشاء) (١) .

* * *

(ملحوظة) وممّا يجدر التنبّه له أنّ لترجيع الصوت مدخلاً في وصف الصوت بالحسن، وأنّ الصوت لا يكون حسناً إلاّ إذا ترجّع فيه، فيتّحد حينذاك بين الأمر بالتغنّي بالقرآن، وبين الأمر بقراءته بالصوت الحسن، أو قولهم (عليهم السلام): (حسّنوا القرآنَ بأصواتكم فإنّ الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً)... وأمثاله من تعابير.

* * *

____________________

(١) عيون أخبار الرضا: ج٢ ص٦٨ رقم ٢٢٢، والآية ١ من سورة فاطر.

٢٧٠

٥ - تجسيد معانيه في أجراس حروفه

تناسب أجراس حروفه مع صدى معانيه:

من عجيب نظمه وبديع أُسلوبه، ذاك تناسب أجراس حروف كلماته المختارة، مع وقع معانيه في النفوس، وكأنّما اللفظ والمعنى يتواكبان ويتسابقان في السطو على الأسماع ومشاعر القلوب معاً، ذاك على السمع وهذا على الفؤاد في التئام ووئام. فإن كان تكريماً فلفظٌ أنيق، أو تشريفاً فتعبيرٌ رحيق، وإن تهديداً فكلمةٌ غليظة، أو تهويلاً فلفظةٌ شديدة... وهكذا تتجسّد معاني القرآن في قوالب ألفاظه وتتبلور في أجراس حروفه.

ألفاظٌ وتعابير أم قوامع من حديد؟

هو عندما يُهدّد أو يُندّد أو يُخبر عن وقع عذاب أليم - فيما سلف بأقوام ظالمين - تراه يصكّ الآذان بألفاظ ذوات أصوات نحاسية مزعجة، قد تحوّلت الكلم إلى جلاميد صخر أو قوامع من حديد، وكأنّها رُجُم وصواعق ورعود.

* عندما تقرأ ( وَالّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنّمَ لاَ يُقْضَى‏ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفّفُ عَنْهُم مِنْ عَذَابِهَا كَذلِكَ نَجْزِي كُلّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبّنَا

٢٧١

أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الّذِي كُنّا نَعْمَلُ ) (١) يُخيّل إليك جرس اللفظة غلظ الصراخ المختلط المتجاوب من كلّ جانب، المنبعث من حناجر مكتظّة بالأصوات الخشنة، كما يُلقى إليك ظلّ الإهمال لهذا الاصطراخ الذي لا يجد مَن يهتمّ بشأنه أو يلبّيه. وتَلمح من وراء ذلك كلّه صورة ذلك العذاب الغليظ الذي هم فيه يصطرخون.

وحين يستقلّ لفظ واحد بهذه الصور كلّها، ويدلّك اللفظ عليه قبل دلالة المعنى، يكون ذلك فنّاً من التناسق البديع (٢) .

* وعندما تستمع إلى قوله تعالى: ( مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَيَاةِ الدّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرّ (٣) أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ) (٤) ، وكأنّك تحس بسمعك صوت هذه الريح العاتية، ولها صرير وصراخ وقعقعة وهياج، تَنسف وتُدمّر كلّ شيء، فتُصوّر وقع عذاب شديد ألمّ بقوم ظالمين.

* وهكذا عندما تتلى عليك ( إِنّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمٍ نَحْسٍ مُسْتَمِرّ * تَنزِعُ النّاسَ كَأَنّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنقَعِرٍ ) (٥) أو ( وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ) (٦) تجد وقع العذاب وشدّته من مضض هذه اللفظة عند اصطكاكها مع صِماخ أُذنك، واللفظة مضاعفة بجرسها دلالة على مضاعفة العذاب.

* وعندما تقرأ ( فَإِذَا جَاءَتِ الصّاخّةُ * يَوْمَ يَفِرّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ - إلى قوله - وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ) (٧) تجد وقع هذا الصراخ المدهش الذي يُذيب القلوب وتذهل النفوس.

____________________

(١) فاطر: ٣٦ و٣٧.

(٢) التصوير الفني: ص٧٢.

(٣) صاد حرف مستعل ومصمت ذو صفير، وراء حرف مجهور منذلق ذو تكرير.

(٤) آل عمران: ١١٧.

(٥) القمر: ١٩ و٢٠.

(٦) الحاقة: ٦.

(٧) عبس: ٣٣ - ٤٢.

٢٧٢

قال ابن عباس: (الصاخّة) صيحة القيامة، سمّيت بذلك؛ لأنّ صرختها تصخّ الآذان، أي تدكّها دكّاً عنيفاً تصمّها، وهكذا اللفظة دلّت عليه برنَتِها المُرعِدة ذات وقع صوتيّ عنيف، وكأنّك تشهد الموقف، وقد فاجأتك صرخته.

* ونظيرتها ( فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ) (١) ، والطامّة: اسم للداهية الكبرى لا يُستطاع دفعها، وهكذا كانت وقعة القيامة تُفاجِئ بأهوالها ومكابدها، ممّا تُذهب وتُذيب القلوب، واللفظة دلّت عليه برنتها.

قال سيد قطب: ومن الأوصاف التي اشتقّها القرآن ليوم القيامة (الصاخّة) و(الطامّة) والصاخّة لفظة تكاد تخرق صِماخ الأُذن في ثقلها وعنف جرسها، وشقّه للهواء شقاً، حتى يصل إلى الأُذن صاخّاً مُلحّاً، والطامّة لفظة ذات دويّ وطنين، تُخيّل إليك أنّها تطمّ وتعمّ، كالطوفان يغمر كلّ شيء ويطويه (٢) .

* ( كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً ) ويتلو الآية: ( وَجَاءَ رَبّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً * وَجِي‏ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكّرُ الإِنسَانُ وَأَنّى‏ لَهُ الذّكْرَى‏ ) (٣) ... وكأنّه عرض عسكري - الذي تشترك فيه جهنّم - بموسيقاه العسكرية المنتظمة الدقّات، المنبعثة من البناء اللفظي الشديد الأسر (٤) وكأنّها قرعات وقمعات.

* ( وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) (٥) ، ما أهول هذه الكلمة في هذا الموضع، وما أوقع جرسها المدوّي المخوف، المتناسب مع أهوال يوم القيامة، المتطاير شرّها كالبركان الثائر المتقاذف شرارته، لا يَسلم منها قريب ولا بعيد.

* وزاده رعباً وهولاً تكراره بوجه آخر كان أخوف: ( إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ) (٦) ، كأنّه الضيغم الضاري عبس في وجه فريسته عبوساً شديداً،

____________________

(١) النازعات: ٣٤.

(٢) التصوير الفني: ص٧٣.

(٣) الفجر: ٢٢ و٢٣.

(٤) الأسر: القبض على شيء (التصوير: ص٧٦).

(٥) الإنسان: ٧.

(٦) الإنسان: ١٠.

٢٧٣

ولعلّه من طول جوعه وضمور بطنه، فكان أشدّ رعباً - وهو سبع جائع يقصدك لا عن هوادة - من بركان، لا قصد له ولا عزم، والتخلص منه ممكن؛ لأنّه لا يتبعك.

* * *

* وتقرأ: ( وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ ) (١) فترتسم صورة التبطئة في جرس العبارة كلّها، وفي جرس ( ليبطِّئنَّ ) خاصّة. وإنّ اللسان ليكاد يتعثّر، وهو يتخبّط فيها حتى يصل ببطء إلى نهايتها.

* وتتلو حكاية قول هود: ( أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى‏ بَيّنَةٍ مِن رَبّي وآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِندِهِ فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ) (٢) ، فتحسّ أنّ كلمة ( أَنُلْزِمُكُمُوهَا ) تُصوّر جوّ الإكراه، بإدماج كلّ هذه الضمائر في النطق، وشدّ بعضها إلى بعض، كما يُدمج الكارهون مع ما يكرهون، ويشدّون إليه وهم منه نافرون.

قال سيد قطب: وهكذا يبدو لونٌ من التناسق - تناسق جرس اللفظ مع نوعية المعنى - أعلى من البلاغة الظاهرية، وأرفع من الفصاحة اللفظية، اللتين يحسبهما بعض الباحثين في القرآن أعظم مزايا القرآن (٣) .

* انظر إلى هذا التشبيه البديع: ( وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَكَأَنّمَا خَرّ مِنَ السّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرّيحُ فِي مَكَانٍ سَحيقٍ ) (٤) اللفظ يُصوّر السقوط المرير ( خَرّ مِنَ السّماءِ ) صوت تقطع الأنفاس وحسبها في البلعوم من هول هذا السقوط المفاجئ، ثمّ ماذا بعد؟ ( تَخْطَفُهُ الطّيْرُ ) لفوره فيقع فريستها ( أَوْ تَهْوِي بِهِ الرّيحُ فِي مَكَانٍ سَحيقٍ ) متقطّع الأشلاء، فلا يهتدي إليه أحد، هكذا وبهذه السرعة الخاطفة يطوى مسرح حياة المشرك بالله، وبهذه الخاتمة الأليمة (٥) .

* ( عُتُلٍّ بعدَ ذلك زَنيم ) (٦) هذه الكلمة (عتلّ) في مادّتها وهيأتها (ع:

____________________

(١) النساء: ٧٢.

(٢) هود: ٢٨.

(٣) التصوير الفني: ص٧٢.

(٤) الحج: ٣١.

(٥) التصوير الفني: ص١٠٣.

(٦) القلم: ١٣.

٢٧٤

مجهورة مستعلية، تاء: مهموسة شديدة، ل: مجهورة منذلقة) بضمّتين متعاقبتينِ وتشديد اللام الأخيرة، تُمثّل الغلظة الجافية والانهماك في الشهوات وملاذ الحياة السفلى، قبل أن تدلّ عليه الكلمة من المعنى الوضعيّ اللغوي: الأكول، الجافي، الغليظ.

تلك لفظة دلّت أجراسها على معناها قبل أن تدلّ أوضاعها؛ ومِن ثَمّ فقد تعقبها ما يناسبها (زنيم): اللئيم، الدعيّ، الذي لا يبالي بما قال ولا بما قيل فيه.

* ( وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَابِ ) (١) دلّت لفظة الزحزحة على تلك الحركة التدرّجية قبل المعنى.

* ( فَكُبْكِبُوا فِيهَا ) (٢) كأنّ جرس اللفظة أدلّ على تعاقب الكبو في النار، هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون.

قال سيّد قطب: وحقيقةً أنّ وضع هاتين اللفظتينِ اللغوي هو الذي يمنحهما هذه الصور وليس هو استعمال القرآن الخاصّ لهما، كما هو الشأن في الكلمات الماضية، التي اشتقّها خاصّة أو استعملها أَوّل مرّة، ولكن اختيارهما في مكانيهما يُحسب بلا شكّ في بلاغة التعبير.

* ( إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً ) (٣) انظر إلى هذا التعبير الذي ملؤه الامتهان والاحتقار بشأن الطاغين وتصغير جانبهم والإزراء بحالتهم الفظيعة، إنّ جهنم كانت ترصدهم فتتلقّاهم في شرّ مآب، ويلبثون فيه أحقاباً، لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً، نعم ( إِلاَّ حَمِيماً ) ماءً ساخناً يشوى الحلق ويزيد في التهاب البطن، ( وَغَسَّاقاً ) ما يغسق، أي ينصبّ من بدن الحريق، من قيح وصديد، تلك الانصبابة التي تكاد تتقطّع من أعضائه المشويّة تقطّعاً، تلك كؤوس الشراب تُقدّم إلى أُولئك الطواغيت، في مثل ذلك الحرّ القاطع.

____________________

(١) البقرة: ٩٦.

(٢) الشعراء: ٩٤.

(٣) النبأ: ٢٥.

٢٧٥

شارب نتن قذر، مُدّت إليه أعناقهم ليشربوه، رغم استفظاعه واستقذاره، فيا له من فظاعة ومسكنة وتعاسة.

انظر إلى جرس اللفظة ( غسّاقاً ) إنّها تُصوّر حالة التهوّع التي تعتري الشاربين التُعساء يكاد يخنقهم أَلَم شوكه.

( لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاّ مِنْ ضَرِيعٍ ) (١) وما أدراك ما الضريع؟ إنّه طعام ( لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ) لا يسدّ جوعة ولا يمنع نهماً، سوى مضغة مضنية يلوكها الآكل في تَلوٍّ وإرهاق، وتعب ونصب وضمور بطن، يَلحقها ضراعة وتعاسة ومسكنة مزرية، قال الراغب: هو نبات أحمر منتن الريح، يلفظه البحر، فإذا اقتاته الإبل أصنته تخمتُه وأثقلته وخامتُه.

قلت: واللفظة بجرسها المرهق الثقيل (٢) دلّت على ضراعة حالة آكِله قبل دلالة المعنى الوضعي.

( وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ ) (٣) وما أدراك ما الغِسلِين؟ هي غسالة أقذار الأبدان، ومِن ثَمّ فهي حثالة قيح وصديد تسيل من قروح أبدان أهل النار وجروحها، وفي تركيب اللفظة ما يُنبئ عن هذا الاستقذار، يمجّها السمع ويتنفّر منها الطبع.

* * *

____________________

(١) الغاشية: ٦.

(٢) ضاد حرف إجهار رخو مطبق، ومستعل مصمت، وراء حرف إجهار رخو منخفض، ومنذلق متكرر، ياء حرف لين منخفض، عين منفتح مستعل.

(٣) الحاقة: ٣٦.

٢٧٦

٦ - تلاؤم فرائده وتآلف خرائده

الترابط والتناسق المعنوي:

لا شك أنّ حسن الكلام إنّما هو بالتناسب القائم بين أجزائه، من مفتتح لطيف وختام منيف ومقاصد شريفة احتضنها الكلام الواحد، وهكذا كان التناسب بين آيات الذكر الحكيم أنيقاً، والترابط بين جمله وتراكيبه وثيقاً.

وهذا التناسب والترابط بين أجزاء كلامه تعالى قد يُلحظ في ذات آية واحدة من صدر وذيل هي فاصلتها، أو في آيات جمعتها مناسبةٌ واحدة هي التي استدعت نزولهنّ دفعة واحدة في مجموعة آيات يختلف عددهنّ، خمساً أو عشراً أو أقل أو أكثر.

وقد يُلحظ في مجموعة آيات سورة كاملة؛ باعتبارها مجموعة واحدة ذات هدف واحد أو أهداف متضامّة بعضها إلى بعض، هي التي شكّلت الهيكل العظمي للسورة، ذات العدد الخاصّ من الآيات، فإذا ما اكتمل الهدف وتمّ المقصود اكتملت السورة وتمّت أعداد آيها، الأمر الذي يرتبط مع الهدف المقصود؛ ومِن ثَمّ يختلف عدد آيات السور من قصار وطوال.

وهناك مناسبة زعموها قائمة بين خاتمة كل سورة وفاتحة السورة التالية لها

٢٧٧

وقد تكلّفها البعض بغير طائل.

ولننظر في كل هذه المناسبات:

تناسب الآيات مع بعضها

كان القرآن نزل نجوماً، وفي فترات لمناسبات قد يختلف بعضها عن بعض، وكان كل مجموعة من الآيات تنزل لمناسبة تخصّها، تستدعي وجود رابط بينها بالذات، وهو الذي يُشكل سياق الآية في مصطلحهم.

والمناسبة القائمة بين كل مجموعة من الآيات ممّا لا يكاد يخفى، حتى ولو كانت هي مناسبة التضاد، كما أفاده الإمام الزركشي في عدّة من السور جاء فيها ذلك... قال:

وعادة القرآن إذا ذَكر أحكاماً ذكر بعدها وعداً ووعيداً؛ ليكون ذلك باعثاً على العمل، ثُمّ يَذكر آيات التوحيد والتنزيه؛ ليُعلم عِظَم الآمر والناهي، قال: وتأمّل سور البقرة والنساء والمائدة وأمثالها تجده كذلك (١) ، هذا ما ظهر وجه التناسب فيه.

لكن قد يخفى وجه التناسب، فتقع الحاجة إلى تأمّل وتدقيق للوقوف على الجهة الرابطة؛ لأنّه كلام الحكيم، وقد تحدّى به، فلابدّ أنّه عن حكمة بالغة.

* من ذلك قوله تعالى: ( يَسْألونَكَ عَنِ الأَهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنّاسِ وَالحَجّ وَلَيْسَ الْبِرّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا ) (٢) ، فقد يقال: أيّ رابط بين أحكام الأهلّة وبين حكم إتيان البيوت من ظهورها؟

قيل: إنّه من باب الاستطراد - وهو الانتقال من مقصد إلى آخر لأدنى مناسبة يراه المتكلّم أَولى بالقصد - وكأنّه جعل مبدأ كلامه ذريعةً لهذا الانتقال، ولكن

____________________

(١) البرهان: ج١ ص٤٠.

(٢) البقرة: ١٨٩.

٢٧٨

بلطف وبراعة، وهو من بديع البيان (١) .

قال الزمخشري: لمّا ذَكر أنّها مواقيت للحج عمد إلى التعرّض لمسألة كانت أهمّ بالعلاج، وهي عادة جاهلية كانت بدعةً رذيلةً، كان أحدهما إذا أحرم لا يدخل حائطاً ولا داراً ولا فسطاطاً، فإن كان من أهل المَدر نقب في مؤخّرة بيته فيدخل ويخرج منه، وإن كان من أهل الوَبر جعل خلف خبائه مدخله ومخرجه، ولم يدخلوا من الباب... بدعة جاهلية مقيتة لا مبرّر لها... فلمّا وقع سؤالهم عن الأهلّة - وهي مواقيت للناس في شؤون حياتهم، وللحجّ بالذات، ولم يكن كبير فائدة في مثل هذا السؤال - استغلّه تعالى فرصة مناسبة للتعرّض إلى موضع أهم، كان الأجدر هو السؤال عنه، بغية تركه... على عكس ما كانوا يرونه برّاً، وهو عملٌ تافهٌ مستقبح (٢) .

* * *

* وقوله تعالى: ( سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَى‏ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى‏ الْمَسْجِدِ الأَقْصَى ) وعقبه بقوله: ( وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ) (٣) ، فقد يقال: أيّ رابط بين حادث الإسراء وإتيان موسى الكتاب والتعرّض لحياة بني إسرائيل؟!

وهو أيضاً من الاستطراد البديع، كان المقصود الأقصى تذكير بني إسرائيل بسوء تصرّفاتهم في الحياة، وهم في أشرف بقاع الأرض، وفي متناولهم أفضل وسائل الهداية، فبدأ بالكلام عن الإسراء من مكة المكرّمة إلى القدس الشريف؛ وبذلك ناسب الكلام عن هتك هذا التحريم المقدّس على يد أبنائه والذين فُضلوا بالتشرّف فيه؛ تأنيباً وليتذكروا.

وهو من حُسن المدخل ولُطف المستهلّ من أروع البديع.

* * *

____________________

(١) قال الأمير العلوي: عليه أكثر القرآن. (الطراز: ج٣ ص١٤).

(٢) الكشّاف: ج١ ص٢٣٤ نقلاً بالمعنى.

(٣) الإسراء: ١ و٢.

٢٧٩

* وقوله تعالى: ( لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ) (١) ، إذ لا تناسب لها ظاهراً مع سياق السورة الواردة في أحوال القيامة وأهوالها، قال جلال الدين السيوطي: وجه مناسبتها لأَوّل السورة وآخرها عسر جدّاً (٢) .

وفي تفسير الرازي وجوه لبيان التناسب، وقد تعسّف فيها، وبهت قدماء الإمامية أنّهم قالوا بأنّ القرآن قد غيّر وبدّل وزيد فيه ونقص عنه، والآية من ذلك (٣) .

لكن نزول القرآن مُنجّماً وفي فترات متلاحقة يدفع الإشكال برأسه، ولا موجب لارتكاب التأويل، ولا سيّما مع هذا التعسّف الباهت الذي ارتكبه شيخ المتشكّكين.

* * *

* وقوله تعالى: ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى‏ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِنَ النّسَاءِ ) (٤) .

لكن لمّا كانت الآية السابقة عليها حديثاً عن إيتاء اليتامى أموالهم، والنهي عن تبدّل الخبيث بالطيّب، وأن لا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنّه كان حوباً كبيراً، فربّما كان المتكفّلون لأمر اليتامى يتحرّجون التصرّف في أموالهم خشية اختلاطه بأموال أنفسهم فيكون حيفاً لمال اليتيم أحياناً، فكانت قضية الاحتياط في الدين التجنّب عن مقاربة أموال اليتامى رأساً، الأمر الذي كان يوجب اختلالاً بشأن اليتامى فلا يتكفّلهم المؤمنون الصالحون.

هذا إلى جنب وفرة اليتيم في ظلّ الحروب التي شنّتها خصوم الإسلام طول التاريخ، فكان تكفّل أمر اليتيم ضرورة إيمانية. إذاً فما المَخرج من هذا المأزق؟! والآية فنزلت لتُري وجهاً من وجوه المخلص.

____________________

(١) القيامة: ١٧.

(٢) الإتقان: ج٣ ص٣٢٨.

(٣) التفسير الكبير: ج٣٠ ص٢٢٢.

(٤) النساء: ٣.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579