تلخيص التمهيد الجزء ٢

تلخيص التمهيد3%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 579

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 106205 / تحميل: 10834
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

( كأنّما يصعّدُ في السماءِ ) .

ولفظة (التصعّد) تعطي معنىً آخر هو: تضايق النفس وكربة الصدر والتحرّج، يقال: تَصعّد نَفَسه أي صَعُب عليه إخراجه، كما يُطلق (الصعود) و(الصَعَد) على العقبة الكؤودة... ويُستعاران لكلّ أمر شاقّ في المشقّة، قال تعالى: ( وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَداً ) (١) أي شاقّاً أليماً للغاية، وقال: ( سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ) (٢) قال الراغب: أي عقبة شاقّة.

إذاً فمعنى (كأنّما يصعّدُ في السماء) : يُكابد الأمرين وتتضايق عليه الحياة، كمَن يتضايق صدره ويتحرّج عليه التنفّس في جوّ خانق، لا يصل الهواء الكافي إلى رئتيه، وهذا كمَن يُحاول العيشة في جوّ السماء المتخلخل الهواء.

وتوضيحاً لهذا الجانب مِن تفسير الآية وبيان وجه الشبه لابدّ أن نُمهّد مقدّمة.

* * *

كان المُعتَقد قديماً أنّ الهواء لا وزن له، حتّى سنة ١٦٤٣م، التي قد تمّ فيها اختراع آلة المرواز (بارومتر) على يد (تروشللي)، وبواسطتها عُرف وزن الهواء فتبيّن عند ذاك أنّ الهواء مُكوّن مِن مجموعة مِن الغازات، لكل منها وزن معيّن. ويُعرف وزن الهواء فوق أي نقطة معيّنة بالضغط الجوّي، ويُمكن قياسه بواسطة البارومتر، وقد عُرف الآن أنّ هذا الضغط عند مستوى البحر يُعادل ثقل عمود مِن الزئبق، ارتفاعه حوالي ٧٦ سم مكعب، وهذا يساوي مِن الثقل زُهاء ألف غرام على كل سانتيمتر مربّع.

وقُدّر متوسّط ضغط الهواء على إنسان عند سطح البحر ما يعادل ١٤ طناً، أي ١٤ مليون غرام، لكنّه على ارتفاع ٥ كيلو مترات مِن سطح البحر، يقلّ هذا الوزن إلى ٧ ملايين غرام، فكلّما ارتفعنا عن سطح البر، ينقص الضغط، خصوصاً في

____________________

(١) الجنّ: ١٧.

(٢) المدّثر: ١٧.

٤٨١

طبقات عليا مِن الهواء، حيث تقلّ كثافة الهواء فيخفّ وزنه بنسبة هائلة.

والواقع أنّ نصف الغاز الهوائي - أي كثافة الغلاف الهوائي، سواء مِن حيث الوزن أم مِن حيث الضغط - يقع بين سطح البحر وارتفاع ٦ آلاف متر، كما أنّ ثلاثة أرباعه تقع تحت مستوى ١٢٠ ألف متر.

أمّا إذا ارتفعنا إلى مستوى ٨٠ ألف متر فلا يبقى فوق ذلك أكثر من (١/٢٠٠٠٠) مِن الوزن الكلّي للهواء.

وبالجملة أنّ الهواء يخفّ ضغطه كلّما ارتفعنا، فعلى ارتفاع ثلاثة أميال ونصف يكون الضغط نصف الضغط على سطح البحر، وعلى ارتفاع سبعة أميال يكون الربع، وعلى ارتفاع عشرة أميال يكون الثُمن، ثمّ هو لا يَطّرد.

ويرجع نقص الضغط بالارتفاع إلى أُمور أهمّها:

١ - قلّة ارتفاع العمود الهوائي.

٢ - فسحة الفضاء في الطبقات العليا، ممّا يوجب تخلخلاً في الهواء.

٣ - ابتعادها عن قوّة جذب الأرض ، التي كانت تُوجب ضغط الهواء في الطبقات السفلى الملاصقة للأرض خصوصاً.

٤ - توفّر الغازات الخفيفة في الطبقة العليا بدل توفّر الغازات الثقيلة في الطبقة السفلى ، وعوامل أُخرى لا مجال لشرحها (١) .

* * *

وبعد، فإنّ الهواء يضغط على أجسامنا مِن جميع الجوانب، سوى أنّنا لا نشعر بتأثيره ولا بثقله وذلك؛ لانّ الدم الذي يجري في عروقنا يُولّد ضغطاً على الجدران الداخلية للأوعية الدموية، وهذا الضغط الداخلي يُوازن ضغط الهواء الواقع على أجسامنا فلا نشعر به، ولكنّ الناس الذين يتسلّقون الجبال العالية يحسّون بضيق في التنفّس بسبب اختلال التوازن بين ضغط الهواء الخارجي

____________________

(١) راجع التفصيل في كتاب بصائر جغرافية لرشيد رشدي: ص٢٠٥ - ٢٠٨.

٤٨٢

وضغط الدم.

وفي سنة ١٨٦٢م حاول شخصان انگليزيان الصعود بمنطاد إلى أقصى ارتفاع ممكن، فبلغا إلى حدّ سبعة أميال، ولكنّهما عانيا مصاعب جمّة، فتعذّر تنفسهما وأخذا ينزفان دماً مِن آذانهما وعيونهما وأنفيهما وحنجرتيهما، ولم يستطع العلماء في بادئ الأمر تشخيص السبب، حتى عرفوا فيما بعد أنّ الهواء يقلّ ضغطاً كلّما ارتفع، فهو في الطبقات العليا أقلّ ضغطاً منه في الطبقات السفلى (١) .

وحيث إنّ الجلد الذي يُغطّي الأعضاء المذكورة (الأُذن والعين والأنف والحنجرة) رقيق جدّاً (وهو مِن نوع الأغشية الرقيقة) تعذّر عليه مقاومة ضغط الدم عندما يقلّ ضغط الهواء الخارجي فيتدفّق الدم مِن خلاله ويحصل النزيف، ويصعب التنفّس بسبب هذا الضغط الداخلي.

وبذلك يتعسّر تنفّس الإنسان ويتضايق صدره ويكاد يختنق كلّما أخذ في الارتفاع عن سطح البحر متوغّلا في الفضاء.

وذلك بسبب قلّة الهواء وتخلخله الموجب لانخفاض الضغط الخارجي على الجسم، ممّا يؤدّي لنقص معدّل مرور الهواء عبر الأسناخ الرئوية إلى الدم، كما يُؤدّي انخفاض الضغط لتمدّد غازات المعدة والأمعاء التي تدفع الحجاب الحاجز للأعلى، فيضغط على الرئتين ويعيق تمدّدها، وكلّ ذلك يُؤدّي لصعوبة في التنفّس، وضيق يزداد حَرجاً كلّما صَعد الإنسان عالياً، حتى أنّه قد يحصل نزف من الأنف أو الفم يؤدّي أيضاً للوفاة.

وعامل آخر: انخفاض نسبة الأوكسجين في الارتفاعات العالية، فهي تعادل ٢١% تقريباً مِن الهواء فوق سطح الأرض، وتنعدم نهائياً في علو ٦٧ ميلاً، ويبلغ توتّر الأوكسجين في الأسناخ الرئوية عند سطح البحر ١٠٠ ملم، ولا يزيد عن ٢٥ ملم في ارتفاع ٨ آلف متر، حيث يفقد الإنسان وعيه بعد (٢ - ٣) دقائق ثمّ يموت (٢) .

* * *

____________________

(١) مبادئ العلوم العامة: ص ٥٧.

(٢) مع الطبّ في القرآن الكريم: ص ٢١.

٤٨٣

فسبحانه مِن عظيم، في تعبيره هذا الدقيق: ( وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنّمَا يَصّعَدُ فِي السّماءِ ) (١) فهو كمَن يحسّ بحرج في تنفّسه، وتتضايق عليه الحياة بسبب ارتفاعه في طبقات عليا مِن الفضاء، وليس تشبيهاً بمَن يحاول الصعود إلى السماء فيضيق صدره بسبب العجز، هكذا يكشف العلم عن أسرار هذا الكتاب المبين ( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدّبّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكّرَ أُولُوا الأَلْبَابِ ) (٢) .

* * *

____________________

(١) الأنعام: ١٢٥.

(٢) ص: ٢٩.

٤٨٤

الغلاف الهوائي حجابٌ حاجز

( وَجَعَلْنَا السّماءَ سَقْفاً مّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ) (١)

يُحيط بالأرض غلافٌ هوائيّ سميك قد يبلغ ارتفاعه أكثر مِن ٣٥٠ كيلو متراً.

والهواء يتكوّن مِن غاز النتروجين بنسبة (٠٣/٧٨) والأوكسجين (٩٩/٢٠) وثاني اوكسيد الكاربون (٠٤/٠) وبخار الماء وغازات أُخرى (٩٤/٠).

وهذا الغلاف الهوائي بهذا السُمك وبهذه النَسِب مِن تركيبه الغازي يُكوّن تُرساً واقياً للأرض مِن قذائف السماء، وهي تترى على الأرض مِن كلّ جوانبها في عدد هائل (بالملايين يومياً).

وذلك أنّ الفضاء ملؤها الأحجار المتناثرة، على أثر تحطّم كواكب مندثرة، فتتكوّن منها مجموعات حجرية كثيرة مبعثرة دائرة حول الشمس، فإذا ما اقتربت الأرض في دورانها حول الشمس مِن إحدى هذه المجموعات (وكم لها مِن اقتراب منها يومياً) انجذبت إليها كمّيات كبيرة مِن تلك الأحجار بفعل جاذبيّتها (جاذبيّة الأرض) فتنهال عليها وفرة مِن أحجار، منها الصغيرة ومنها الكبيرة، وتبلغ سرعة سقوطها ما بين (٥٠ و٦٠) كيلو متراً في الثانية أو تزيد، وهي سرعة

____________________

(١) الأنبياء: ٣٢.

٤٨٥

هائلة، فإذا دخلت الجوّ الأرضي احترّت فاتّقدت وهي تخترق الهواء، فرسَمت وراءها خطّاً من نور لا يلبث أن ينمحي.

لكنّها لاحتكاكها بأجزاء الهواء أثناء اختراقها الجوّ الأرضي، وبتأثير غاز الأوكسجين وغاز الأزوت (ثاني اوكسيد الكاربون) تحترق فور مرورها خلال الطبقات الجوّية العالية، فتتحوّل إلى ذرّات رمادية تبقى عالقة في الهواء، مكوّنةً الغبار الكوني.

وهذه هي التي دُعيت بالشُهب كأنّها شعلة متوهّجة انقضّت من السماء، ولا تلبث أن تخفى وتذهب هباءً منثوراً.

ومنها ما يكون كبيراً جدّاً فينفجر عند انقضاضه، فيُسمع له دويّ كبير، وتتساقط بعض أجزائه دون احتراقها على سطح الأرض، وتكون مادّتها مِن النيكل والحديد (١) .

فانظر إلى آثار رحمة الله، كيف يكون الجوّ الهوائي تُرساً منيعاً يقي الأرض يوميّاً من ملايين القذائف السماوية التي تذوب قبل وصولها إلى سطح الأرض، فلولا الغلاف الغازي للأرض لتعذّرت الحياة على سطحها، فقد أصبح الهواء بمجموعه - وخاصّة منه الأزوت - وقاءً عامّاً للأرض مِن هذه الرجوم. ولولا هذه الخاصّة والميزة لهذه الغازات لتعسّرت الحياة، كما في القمر الذي لا هواء له أو هو متخلخل جدّاً؛ ولذلك كان سطح القمر معروضاً كلّ يوم لقصف متلاحق لا ينفكّ عنه، لعدم وجود هواء في جوّه يقيه شرّ هذه البليّة!.

( سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ) (٢) .

____________________

(١) قد تكون القذيفة ضخمة بحيث تبلغ بضعة أطنان (كلّ طنّ ألف كيلو غرام) أو أكثر، فلا يمكن لغاز الأزوت وغيره من الغازات مِن تحطيمها، فتصل إلى الأرض كحجر سماوي، مُدمرِّة مُخرِّبة، وقد عثروا على بعضها في أنحاء الأرض وخاصّة في المناطق غير المأهولة.

أليس ذا عجيبا؟! (بصائر جغرافية: ص١١٣ و٢٩٠).

وتُحفظ في إحدى المتاحف كتلة من الحديد والنيكل زنتها ٦٠ طنّاً من النيازك الواقعة من السماء (مع الله في السماء: ص١٦٥).

(٢) الزخرف: ١٣.

٤٨٦

ماسكة الفضاء (الجاذبيّة العامّة)

( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ) (١)

سُئل الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) عن هذه الآية فقال: (هي محبوكة إلى الأرض، وشَبّك بين أصابعه، فقيل له: كيف تكون محبوكة إلى الأرض والله يقول ( السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) (٢) ؟ قال (عليه السلام): ثَمّ عَمَدٌ، ولكن لا ترونها) (٣) .

والحُبك: الشدّ الوثيق، وثوب محبوك وحبيك: متين النسج جيّد الصنع.

وتشبيك الأصابع: تداخل بعضها في البعض، ولعلّه كناية عن الوشائج الوثيقة المترابطة المتشابكة مع بعضها والماسكة بأجرام الفضاء فلا تتبعثر ولا تتهاوى، وحفظاً على التوازن القائم بين أجزاء الكون، وما هي إلاّ قانون الجاذبية العامّة، تفاعلت مع القوّة الطاردة فأمسكت بعُرى السماوات والأرض أن تزولا. وهكذا توازنَ النظام وأمكنت الحياة على الأرض.

والعَمَد: هي الطاقات والقُوى الحاكمة على نظام الكون، إنّها موجودة قد كشفها العلم ولمس آثارها وعثر على حصائلها التي هي الحياة والبقاء.

____________________

(١) الذاريات: ٧.

(٢) الرعد: ٢.

(٣) تفسير القميّ: ج٢ ص٣٢٨.

٤٨٧

فقد عَثر العلم على أنّ الأجسام على نَسِب كُتلها تتجاذب مع بعضها، وهي التي جعلت الشمس تُمسك بالأرض فتدور حولها، وهي التي جعلت الشمس تُمسك بعطارد والزهرة وجعلتهما يدوران حولها، كلاً في مداره، وهي التي أمسكت بالمرّيخ والمشتري وزُحل وجعلتها جميعاً حول الشمس تدور، وهكذا سائر الكواكب في سائر المنظومات، وسائر المنظومات في سائر المجرّات، بل وجميع المجرّات في عرض الفضاء اللامتناهي، هي التي عملت في إمساكهنّ دون التفرّق والاندثار ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السّماءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِه ) (١) ، ( إِنّ اللّهَ يُمْسِكُ السّماوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا ) (٢) .

هذه هي الجاذبية، قد جَهل العلمُ بحقيقتها وعن نشأتها، سوى أنّه عرفها بحدودها وميزاتها وبعض آثارها، هذا فحسب، أمّا كيف حصلت وبِمَ حصلت وما سببها وسرّها الكامن وراء ظاهرها؟! فهذا شيء مجهول، وسيبقى مجهولاً إلى الأبد، شأن سائر مكتشفات العلم التي بقيت خافية السرّ في طيّ الوجود..

في أواخر القرن السابع عشر للميلاد قام إسحاق نيوتن (١٦٤٢ - ١٧٢٧م) بتجارب، وعلى أثرها عَثر على تجاذب عام بين الأجسام، قائم بنسبة كُتلها طردياً، وبنسبة مربّع المسافة بينها عكسياً، وعُرف بقانون (الجاذبية العامّة) (٣) .

وقانون الجاذبية: عبارة عن جذب كلّ كتلة لكلّ كتلة أُخرى (٤) بقوّة تزداد بازدياد كتلتيهما، وتقلّ بنسبة مربّع المسافة بينهما.

ومعنى ذلك أنّه لو زادت المسافة إلى الضعف وكانت الكتلة ثابتة لنقصت القوّة الجاذبة إلى الربع، وإذا زادت المسافة ثلاث مرّات لنقصت الجاذبة بينهما إلى ٩|١

____________________

(١) الروم: ٢٥.

(٢) فاطر: ٤١.

(٣) مبادئ العلوم: ص١٨.

(٤) تُعرَّف كتلة كل جسم بأنّها كمّية المادّة المحتوية في ذلك الجسم، والكتلة هي التي تُعيّن مقدار الوزن، وقد اصطلح على اتّخاذ الغرام وحدة علمية للمقارنة بين الكتل. والغرام: كتلة سنتمتر مكعّب من الماء المقطّر. (مبادئ العلوم: ص٦ - ٧).

٤٨٨

ما كانت عليه، أمّا إذا كانت المسافة ثابتة فإنّ زيادة الكتلتين مِن شأنها أن تزيد القوة الجاذبة زيادة مطّردة.

* * *

وهل الجاذبية بنفسها قدرة فاعلة أم وراءها سرّ أخفى؟

قال إسحاق نيوتن: ولا يمكن أن يَتصوّر المرء أنّ المادّة الهامدة بدون تأثير مِن خارج المادّة هي العاملة بذاتها.. وأرجو أن لا يُنسب ذلك إليّ.. أنّ القول بالجاذبية المادّية، وأنّها مِن خواصّ المادّة الجامدة، وأنّ لكلّ جسم أن يُؤثر على جسم آخر، بينهما الفراغ التام، قول لا يستقيم، ولا يصحّ أن يقول به مَن كانت عقليته عقلية علمية، بل الجاذبية لابدّ أن يكون لها سبب وسيط يعمل وفقاً لقوانين أُخرى لا نعلمها، وهل ذاك الوسيط مادّي أو أمر متعال عن المادّة؟ فهذا ما أتركه إلى فهم القارئ وتقديره (١) .

هذا ما يقوله مكتشف قانون الجاذبية، يُنبئك عن خفاء سرّها، ولكنّه مع ذلك فإنّ هذا القانون رغم الجهل بحقيقته فإنّه ذو أهمّية كبرى في معرفة السرّ العلمي لحفظ التوازن العامّ بين أجزاء الكون، ولولاه لتبعثرت هباءً وانتشرت منثوراً في الفضاء.

وبذلك أيضاً يعلّل قانون الثقل والوزن، ولولاه لطارت الأجسام المستقرّة على الأرض أو المحيطة بها إلى أبعاد السماء، ولَما استقرّت المحيطات والبحار في مستقرّها، ولَما بقي هواء محيط بالأرض، ولانعدمت الحياة على سطح الأرض بانعدام الهواء، وهكذا لم يبقَ سحاب معلّقاً في جوّ السماء، ولَما أمطرت السماء على الأرض وجفّت المياه.

* * *

أمّا القوّة المركزية الطاردة فهي: أنّ كلّ جسم يدور حول مركز فإنّه يكتسب

____________________

(١) بصائر جغرافية: ص٢٧٢ - ٢٧٣.

٤٨٩

بذلك قوّة تدفعه في الابتعاد عن المركز وهي أيضاً بنسبة مربّع السرعة، كلّما كانت الحركة الدورية أسرع فإنّ قوّة الطرد تزداد، وبالعكس تقلّ مع انخفاض السرعة، فلو كانت سرعة الدوران بمقياس ١٠ كيلومترات في الساعة فإنّ قوّة الدفع الطاردة تكون حينذاك بمقياس ١٠ × ١٠ = ١٠٠ كيلومتر في الساعة (١) .

ولكن يجب أن لا يتناسى المسافة بين النقطة المركزية والجسم الدائر، وكذا كتلته، فإنّ ذلك كلّه ذو تأثير على مبلغ قوّة الطرد.

قال الدكتور أحمد زكي: إنّ مِن المهمّ أن نعرف شيئاً عن علاقة هذه القوّة (مِن حيث مقدارها) بالدوران (مِن حيث سرعته ومِن حيث عدد لفّات الشيء الدائر)، لهذا نقول: هب أنّ كرة مِن حديد وزنها ٧ أرطال تدور حول محور، وهي مرتبطة بالمحور بحبل طوله ٣ أقدام، وهب أنّ الكرة تلفّ لفّتين في الثانية حول هذا المحور، إذاً فالقّوة المركزية الطاردة التي بها تشدّ الكرة المحور (هي تساوي القوّة الجاذبة التي يجذب بها المحور الكرة) تساوي بالتقريب: ١ - ٤/١ × كتلة الحديد × طول الحبل (أي نصف قطر الدوران) × ٢ (عدد اللّفات في الثانية = ١ - ٤/١ × ٧ × ٣ × ٢ = ١٠٥) من الأرطال.

ومعنى هذا أنّه كلّما زادت سرعة اللفّ في الثانية زادت القوّة، وكلّما قلّت تلك قلّت هذه (٢) .

* * *

ويستطرد الأُستاذ رشيد رشدي قائلاً: إنّ القوّة الجاذبية للأرض تأخذ بالتناقص كلّما اتّجهنا نحو خطّ الاستواء، حيث تزداد سرعة الأرض المحورية التي تؤدّي إلى زيادة القوّة الطاردة، وهذا النقص عند خطّ الاستواء يكون بنسبة ٢٨٩/١ ولمّا كان العدد ٢٨٩ مربّع العدد ١٧ والقوّة الطاردة تزداد بنسبة مربّع

____________________

(١) بصائر جغرافية: ص٢٧٥.

(٢) مع الله في السماء: ص٧٠ - ٧١.

٤٩٠

السرعة، فلو بلغت سرعة الأرض حول نفسها ١٧ مرّة عمّا عليها الآن لازدادت القوّة الطاردة ٢٨٩ مرّة عمّا هي عليها الآن، ولتساوت القوّة الطاردة مع القوّة الجاذبية للأرض، وحينذاك لآلَ ثقل الأجسام عند خطّ الاستواء إلى صفر، أي فلن يبقى عندئذٍ تأثير مّا للجاذبية الأرضية، ولاختلّ النظام الراهن على وجه الأرض حيث تستحيل الحياة عليها (١) .

إنّ محور الأرض الذي يصل بين قطبيها أصغر مِن محورها الذي عند خطّ الاستواء، الأَوّل طوله ٧٩٠٠ ميل، والثاني طوله ٧٩٢٦ ميلاً، أي يزيد على الأَوّل بـ (٢٦) ميلاً؛ ولذلك برزت الأرض قليلاً عند بطنها (خطّ الاستواء) وتفرطحت عند قطبيها.

والسبب في ذلك يعود إلى حركة الأرض المحورية، فتفعل فيها القوّة المركزية الطاردة التي تفعل في كل جسمٍ دائر. والأرض اليوم جامدة ولكنّها بالأمس كانت أكثر ليونةً، فلم تكن تغييرات تحصل في شكلها، كما هي تقاوم اليوم.

إنّ دورة الأرض المحورية لا تُؤثّر في جميع سطحها تأثيراً سواءً، إنّها عند خطّ الاستواء أكثر بعداً مِن المركز عن خطّ العرض ٣٠ عن عرضها ٦٠، عن عرضها ٩٠، أي عند القطب؛ لأنّ القطب لا يكاد يدور، ومِن أجل هذا اشتدّ بروز الأرض قديماً، وهي ليّنة عند خطّ الاستواء وأخذ يقلّ تدرّجاً، ذهاباً إلى القطبين، وبمقدار ما خرجت الأرض ببطنها دخلت عند الرأس والقدم؛ لتَفرطُح الأرض ودورانها حول محورها، وأيضاً تفاعل القوّتين الجاذبة والطاردة، نتائج كثيرة وخطيرة.

منها: أنّ الأشياء توزن عند القطبين أكبر ممّا توزن عند خطّ الاستواء، وبلفظ علمي: الكتلة الواحدة إذا نقلناها مِن خطّ الاستواء إلى القطب فهي تزداد ثقلاً كلّما سرنا في هذا الطريق؛ لأنّ الثقل أو الوزن ما هو إلاّ قوّة جذب الأرض بجرمها

____________________

(١) بصائر جغرافية: ص٢٧٥.

٤٩١

العظيم، ما على سطحها مِن أشياء.

وأنّ قوّة الجاذبية تتناسب تناسباً عكسياً مع مربّع المسافة بين الشيئين المتجاذبين وجاذبية الأرض متركّزة في مركزها، وتنقص كلّما بعُدت الأشياء عن هذا المركز، والكتلة عند القطب أقرب إلى مركز الأرض منها وهي عند خطّ الاستواء..

وعامل آخر يُؤثر في اختلاف هذا الوزن وفي قوّة هذا الانجذاب، ذلك قوّة الأرض المركزية الطاردة تحاول أن تطرد ما على الأرض بفعل دورانها، تحاول أن تقذف بها بعيداً، وأثر هذه القوّة الطاردة على الأشياء على عكس القوة الجاذبة؛ ومِن ثَمّ فإنّ الطاردة تُضعف مِن الجاذبة وتُنقص منها، والقوّة الطاردة فاعلة أكثر فعلها عند الاستواء، ومعدومة عند القطبين؛ لأنّهما لا يدوران حول المركز.

فهذا العامل الجديد يخفّ بالأوزان عند خطّ الاستواء، وهو لا يُؤثّر عند القطبين... فتَفرطُح الأرض ودورانها يفعلان في الأجسام على سطح الأرض، يفعلان معاً: يزيدان الشدّ معاً، أو يُنقصان منه معاً، وهذا الاختلاف يكون بنسبة ١/٢٨٩، أي أنّ جسماً ما نزنه عند القطب (نقيس مقدار شدّ الأرض له) فنجد أنّ وزنه ٢٨٩ رطلاً - مثلاً - ثمّ نُعيد وزنه عند الاستواء فنجد أنّ وزنه نقص رطلاً، أي صار ٢٨٩ رطلاً، ولا يكون ذلك بالميزان ذي الكفّتين طبعاً؛ لأنّه في هذه الحالة تخفّ السَنجة كما يخفّ الشيء الموزون، أو تزيد كما يزيد، وإنّما يكون الوزن بقياس مقدار الشدّ، فكان يُستخدم ميزان ذو زنبورك، أو نحو ذلك.

* * *

ومِن نتائج زيادة جاذبية الأرض عند القطبين: أنّ الأشياء تنزلق على سطحها إلى حيث الجاذبية أكبر، فكان من المنتظر أن يسير ماء البحار والمحيطات إلى القطبين انزلاقاً وانحداراً.

ولكنّ الأرض كرة تدور حول محورها فيكسبها دورانها هذا قوّة مركزية

٤٩٢

طاردة، يكون اتّجاهها عمودياً على المحور، وهي تعمل في عكس اتّجاه جاذبية الأرض، فهي تميل إلى دفع تلك المياه مِن القطبين إلى خطّ الاستواء.

وبذلك تعادلت القوّتان: قوّة الجاذبية وقوّة الدفع، وبذلك توزّعت المياه على سطح الأرض توزّعاً نعرفه عادلاً.

قال الدكتور أحمد زكي: وهذا تقدير لولاه لتغيّر وجه الأرض. فمَن يا ترى قدّره، وقدّر هذه الدرجة الدقيقة مِن الضبط والربط؟! (١) .

فسبحان مَن ( خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) (٢) ، ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) (٣) .

* * *

____________________

(١) مع الله في السماء ص٧١ - ٧٥.

(٢) الفرقان: ٢.

(٣) القمر: ٤٩.

٤٩٣

الرتق والفتق في السماوات والأرض

( أَوَلَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوا أَنّ السّماوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ) (١) .

( ثُمّ اسْتَوَى‏ إِلَى السّماءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ) (٢) .

اختلف أهل التفسير في المراد مِن الرتق والفتق في الآية على قولين:

الأَوّل: أنّ السماء كانت رتقاً مسدوداً نوافذها لا تمطر، والأرض ملتحماً مساربها لا تنبت، ففتقناهما: ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ) (٣) ( ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً ) (٤) .

قال البيضاوي: وعليه فالمراد بالسماوات هي سماء الدنيا، وجمعها باعتبار الآفاق، أو لعلّ للسماوات بأسرها مدخلاً في الإمطار (٥) ، وكلاهما خلاف التحقيق

____________________

(١) الأنبياء: ٣٠.

(٢) فصّلت: ١١.

(٣) القمر: ١١.

(٤) عبس: ٢٦، ٢٧.

(٥) أنوار التنزيل: ج٤ ص٣٩.

٤٩٤

والتعبير أيضاً.

قال الطبرسي: وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) (١) .

أمّا الرواية عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) فهي التي يرويها الكليني في الروضة بإسناد مجهول (٢) عن رجل شامي جاء إلى الإمام فسأله عن الآية، فقال له الإمام: (فلعلك تزعمُ أنّهما كانت رتقاً ملتزقتين ملتصقتين ففُتقت إحداهما عن الأُخرى؟ قال: نعم. قال: استغفر ربّك، فإنّ قول الله جلّ وعزّ: ( كانتا رتقاً ) يقول: كانت السماء رتقاً لا تُنزل المطر، وكانت الأرض رتقاً لا تُنبت الحبّ، فلمّا خَلق الله تبارك وتعالى الخلق... فتق السماء بالمطر والأرض بنبات الحبّ...) (٣) .

وأيضاً عن أبي الربيع - وهو أيضاً مجهول - قال: حججنا مع أبي جعفر (عليه السلام) في العام الذي حجّ فيها هشام بن عبد الملك، وكان معه نافع مولى عمر بن الخطّاب... فجاء نافع إلى الإمام وسأله عن هذه الآية، فقال: (... وكانت السماوات رتقاً لا تمطر شيئاً، وكانت الأرض رتقاً لا تنبت شيئاً، فلمّا أن تاب الله على آدم أمر السماء فتفطّرت بالغمام ثمّ أمرها فأرخت عزاليها (هي فم المزادة)، ثمّ أمر الأرض فأنبتت الأشجار وأثمرت الثمار وتفتّقت بالأنهار، فكان ذلك رتقها وهذا فتقها...) (٤) .

وأمّا الرواية عن أبي عبد الله (عليه السلام) فهي نفس الرواية الثانية، رواها القمّي والإسناد إليه مقطوع - وأبدل مِن نافع بالأبرش الكلبي، فجاء إلى أبي عبد الله (عليه السلام) وسأله عن الآية فقال: (هو كما وَصَف نفسَه - إلى أن قال: - وكانتا مرتوقتين ليس لهما أبواب، فَفَتق السماءَ بالمطرِ، والأرضَ بالنباتِ) (٥) .

قال المجلسيّ العظيم: وهذا خلاف ما اُثر عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام):

____________________

(١) مجمع البيان: ج٧ ص٤٥.

(٢) لوقوع محمّد بن داود في الطريق.

(٣) الكافي: ج٨ ص٩٥ رقم ٦٧.

(٤) الكافي: ج٨ ص١٢١ رقم ٩٣ وفي نسخ الروضة (وتفهّقت) بدل (وتفتّقت) ولعلّ ما أثبتناه هو الصحيح.

(٥) تفسير القمّي: ج٢ ص٧٠.

٤٩٥

أنّ المراد بالفتق جعل الفرج بين كلّ من السماوات والأرض (١) ، وسنتعرّض له إن شاء الله.

* * *

الثاني: - وهو المعروف قديما وحديثاً -: أنّ السماوات والأرض كانتا رتقاً أي ذات رتق وهو الضمّ والالتحام، أي كانتا شيئاً واحداً وحقيقة متّحدة، ففتقناهما بالتنوع والتمييز.

قال الرازي: كانتا شيئاً واحداً ملتزقتين، ففصل الله بينهما ورفع السماء إلى حيث هي وأقرّ الأرض، وهو قول قتادة وسعيد بن جبير، ورواية عكرمة عن ابن عبّاس.

ولأبي مسلم الأصفهاني رأي أسدّ، قال: يجوز أن يُراد بالفتق الإيجاد والإظهار، كقوله تعالى ( فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) .. فأخبر عن الإيجاد بلفظ الفتق، وعن الحال قبل الإيجاد بلفظ الرتق (٢) .

وفي كثير من الآيات إشارة إلى هذا المعنى، منها ما جاء بلفظ (فطر) (٣) أو (فاطر) (٤) فإنّ الفطر وإن كان المراد به الخلق والإبداع لكنّه بعناية فصله إلى الوجود الخاص، بحدوده وأبعاده، بعد أن كان مُندكّاً في الوجود الكلّي الشامل، لا ميز فيه ولا تحديد.

وهذا كما يفصل الخيّاط البزّة الواحدة إلى قمصان وأثواب، وكما يفعل الفخّار بالطينة أشكالاً مِن الآنية والجِرار، فالكلّ مندمج في الأصل الواحد، وإنّما يُخرجها إلى الوجود فاعل الصور والأشكال.

* * *

____________________

(١) مرآة العقول: ج٢٥ ص٢٣٢.

(٢) التفسير الكبير: ج٢٢ ص١٦٣.

(٣) الأنعام: ٧٩، والأنبياء: ٥٦.

(٤) في ستّ آيات: الأنعام: ١٤، ويوسف: ١٠١، وإبراهيم: ١٠، وفاطر: ١، والزمر: ٤٦، والشورى: ١١.

٤٩٦

وهذا المعنى هو الذي جاء في كلام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قال - في خلق العالم -: (ثمّ أنشأ سبحانه فتقَ الأجواء، وشقّ الأرجاء، وسكائك الهواء - إلى أن قال في خَلق الملائكة: - ثمّ فتقَ ما بين السماوات العلا، فملأهنّ أطواراً مِن ملائكته) (١) .

وقال - في عجيب صنعة الكون -: (فَفَتقها سبعَ سماوات بعد ارتتاقها) (٢) .

وهذا هو الذي أشارت إليه الآية الكريمة في سورة فصّلت: ( ثُمّ اسْتَوَى‏ إِلَى السّماءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ) (٣) .

فالدخان - وهي المادّة الأُولى لخلق السماوات - هو الأصل، ومنه تفرّعت السماوات العلى وخرجت إلى الوجود، وقوله (ائتيا) كناية عن الأمر بالتكوين، ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (٤) .

قوله: ( فَقَضَاهُنّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ) يدلّ على سبق مادّتهنّ على وجودهنّ، فأفاض عليهنّ الصور المائزة بينهنّ.

ويدلّ عليه أيضاً قوله في سورة النازعات: ( رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ) (٥) ، فقد سواهنّ برفع سمكهنّ كنايةً عن تمدّد جوانبها لتأخذ شكلها الخاصّ.

* * *

ولعلّك تقول: هلاّ كان قوله تعالى ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) عقيب قوله ( ... كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا... ) قرينة راجحة لإرادة المعنى الأَوّل مِن الآية؟

قلت: مظاهر أربعة مِن مظاهر الكون جاء هنا من سورة الأنبياء (الآيات

____________________

(١) أُولى خطب من نهج البلاغة. والسكائك: جمع سُكاكة - بالضمّ - وهي الهواء الملاقي لعنان السماء.

(٢) الخطبة رقم ٢١١ ص٣٢٨ بيروت.

(٣) فصّلت: ١١ و١٢.

(٤) يس: ٨٢.

(٥) النازعات: ٢٨.

٤٩٧

رقم ٣٠ - ٣٣) مترادفة مع بعضها البعض، تلك آيات عظمته تعالى في الخلق وجليل قدرته في التدبير، كلّ ظاهرة آية برأسها مستقلّة في حقيقتها وفي تكوينها وفي دلالتها على عظمة الكون.

أَوّلاً: رتق السماوات والأرض وفتقهما.

ثانياً: كون الماء مَنشأ الحياة كلّها.

ثالثاً: جعل الرواسي في الأرض لتحول دون ميدانها.

رابعاً: الغلاف الهوائي جُنّة واقية للأرض عن الخراب وزوال الحياة عن سطحها.

وكلّ واحدة منها آية تدلّ على أنّه واحد، وهم عن آياتها معرضون، وعليه فكما أنّ جعل الجبال أوتاداً لا مساس له بمسألة الفتق والرتق، كذلك جعل الماء مَنشأ الحياة كلّها، سوى أنّ الجميع آيات ربّ العالمين.

* * *

٤٩٨

السحب تكوينها، تنويعها

( وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ) (١)

مصطلحات علمية وُضعت وِفق تعابير القرآن:

قال الدكتور محمّد جمال الدين الفندي: ذكر القرآن أنّ الرياح - ومنها الهواء الصاعد - هي التي تُثير السحاب وتكوّنه، والقرآن حسب عِلمنا أَوّل كتاب يُقرّر تلك الحقيقة (٢) .

أمّا تكوين السُحب، فإنّها تتكوّن بتبريد الهواء تحت درجة الندى، فتقلّ قدرته على حمل بخار الماء، ويتحولّ هذا الأخير إلى نقط مِن الماء أو إلى بلّورات مِن الثلج، تبعاً لدرجة الحرارة السائدة.

ويتمّ تبريد الهواء في الطبيعة بعدّة طرق:

١ - التبريد الذاتي، أي تبريد الهواء بمجرد انتشاره وتقليل الضغط الواقع عليه، ويحدث ذلك عندما يصعد الهواء إلى طبقات عليا مِن الجوّ يقلّ فيها الضغط، فينتشر ويبرد وتقلّ قدرته على حمل بخار الماء، ويتكاثف هذا الأخير إلى نقطة

____________________

(١) الرعد: ١٢.

(٢) الله والكون: ص١٧٣.

٤٩٩

من الماء، أو إلى بلّورة من الثلج.

وتلعب هذه العملية أهمّ دور في تكوين السحب ونزول الأمطار: إذ معدل التبريد في الهواء الصاعد هو درجة سنتجراد لكلّ ١٠٠ مترٍ إذا لم يحدث التكاثف ٦٥% درجة إذا حدث التكاثف.

٢ - التبريد بالإشعاع الحراري أثناء الليل، وهو يُولّد الضباب والشابورة وبعض السحب الطبقية أو البساطية المنخفضة.

٣ - التبريد بالمزج، يعني خلط هواء ساخن رطب بآخر بارد جافّ، بحيث تكون درجة حرارة الخليط تحت نقطة الندى. فيتمّ التكاثف على هيئة ضباب، كما هو الحال عند اختلاط كُتل هواء تيّار الخليج الدافئ في شمال المحيط الأطلسي، ممّا جعل البحّارة يُطلقون عليه اسم (بحر الظلمات) وتصوّروه مأوى الأشباح ومثوى الأرواح.

التقسيم الطبيعي للسُحب:

السحب إمّا أن تنمو رأسيّاً وتشمخ كالجبال، وعندئذٍ تُسمّى (رُكامية)، وإمّا أن تنمو أُفقياً وتمتدّ كالبساط، وعندئذٍ تسمّى (بساطية) * أو (طبقية).

ويُفرّق القرآن بين النوعين، فيُسمّي النّوع الأوّل ركامياً، والثاني بساطياً.

فممّا جاءت الإشارة فيه إلى النّوع الأول قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ ثُمّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزّلُ مِنَ السّماءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَن يَشَاءُ ) (١) .

وجاءت الإشارة إلى النوع الثاني في قوله تعالى: ( اللّهُ الّذِي يُرْسِلُ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السّماءِ كَيْفَ يَشَاءُ ) (٢) .

____________________

(١) النور: ٤٣.

(٢) الروم: ٤٨.

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579