تلخيص التمهيد الجزء ٢

تلخيص التمهيد10%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 579

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 106224 / تحميل: 10835
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

وبصيغة علمية لابد أن نقول: ليس الخلاف في الكلي وإنّما الخلاف هو في تعيين المصداق.

ولأجل حل هذه المشكلة لابد ـ أوّلاً ـ من التعرّف على المفهوم الواقعي للعبادة لنميّز في ضوء ذلك: العبادة عن غيرها.

وهكذا أيضاً يمكن الوقوف على حقيقة الحال في غير موضوع الزيارة من الأُمور التي يعدها الوهابيون من العبادة كالتوسّل بأولياء الله، وطلب الحاجة منهم، في حين يخالفهم المسلمون في ذلك، فيجوّزون هذه التوسّلات، ويعتبرونها نوعاً من الأخذ والتمسك بالأسباب، الذي ورد في الشرع الشريف.

٤٤١

٢

هل العبادة هي مطلق الخضوع أو التكريم ؟

لأئمّة اللغة العربية في المعاجم تعاريف متقاربة للفظة العبادة، فهم يفسرون العبادة بأنّها « الخضوع والتذلّل » وإليك فيما يلي نصَّ أقوالهم :

١. يقول ابن منظور في « لسان العرب »: أصل العبودية: الخضوع والتذلّل.

٢. ويقول الراغب في « المفردات »: العبودية إظهار التذلّل، والعبادة أبلغ منها، لأنّها غاية التذلّل، ولا يستحق إلّا من له غاية الأفضال، وهو الله تعالى، ولهذا قال:( إلّاتَعْبُدُوا إلّا إِيّاه ) (١) ».

٣. وفي « القاموس المحيط » للفيروز آبادي: العبادة: الطاعة.

٤. وقال ابن فارس في المقاييس: العبد له أصلان كأنّهما متضادان، والأوّل من ذينك الأصلين يدل على لين وذل، والآخر على شدة وغلظ.

ثمّ أتى بموارد المعنى الأوّل وقال :

من الباب الأوّل: البعير المعبد أي المهنوء بالقطران، وهذا أيضاً يدل على ما

__________________

(١) يوسف: ٤٠، الإسراء: ٢٣.

٤٤٢

قلناه، لأنّ ذلك يذلّه ويخفض منه. والمعبد: الذلول، يوصف به البعير أيضاً.

ومن الباب: الطريق المعبد، وهو المسلوك المذلّل.

بيد أنّ العبادة وإن فسروها بالطاعة والخضوع والتذلل، أو إظهار نهاية التذلّل، لكن جميع هذه التعاريف ما هي إلّا نوع من التعريف بالمعنى الأعم، لأنّ الطاعة والخضوع وإظهار التذلّل ليست ـ على وجه الإطلاق ـ عبادة، لأنّ خضوع الولد أمام والده، والتلميذ أمام أُستاذه، والجندي أمام قائده، لا يعد عبادة مطلقاً مهما بالغوا في الخضوع والتذلّل، وتدل الآيات ـ بوضوح ـ على أنّ غاية الخضوع والتذلّل، فضلاً عن كون مطلق الخضوع، ليست عبادة، ودونك تلك الآيات :

سجود الملائكة لآدم الذي هو من أعلى مظاهر الخضوع حيث قال سبحانه :

( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ ) (١) .

فالآية تدل على أنّ آدم وقع مسجوداً للملائكة، ولم يحسب سجودهم شركاً وعبادة لغير الله، ولم تصر الملائكة بذلك العمل مشركة، ولم يجعلوا بعملهم نداً لله وشريكاً في المعبودية، بل كان عملهم تعظيماً لآدم وتكريماً لشأنه.

وهذا هو نفسه خير دليل على أنّه ليس كل تعظيم أمام غير الله عبادة له، وأنّ جملة:( اسْجُدُوا لآدَمَ ) وإن كانت متحدة مع جملة:( اسْجُدُوا للهِ ) إلّا أنّ الأوّل لا يعد أمراً بعبادة غيره سبحانه ويعد الثاني أمراً بعبادة الله(٢) .

ويمكن أن يتصور ـ في هذا المقام ـ أنَّ معنى السجود لآدم ـ في هذه الآية ـ

__________________

(١) البقرة: ٣٤.

(٢) وهذا يدل على أنّ الاعتبار إنّما هو بالنيات والضمائر لا بالصور والظواهر.

٤٤٣

هو الخضوع له، لا السجود بمعناه الحقيقي والمتعارف، ومعلوم أنّ مطلق الخضوع ليس عبادة، بل « غاية الخضوع » التي هي السجود، هي التي تكون عبادة.

أو يمكن أن يتصوّر أنّ المقصود بالسجود لآدم هو جعله « قبلة » لا السجود له سجوداً حقيقياً.

ولكن كلا التصوّرين باطلان.

أمّا الأوّل فلأنّ تفسير السجود في الآية بالخضوع خلاف الظاهر، والمتفاهم العرفي إذ المتبادر من هذه الكلمة ـ في اللغة والعرف ـ هو الهيئة السجودية المتعارفة لا الخضوع، كما أنّ التصوّر الثاني هو أيضاً باطل، لأنّه تأويل بلا مصدر ولا دليل.

هذا مضافاً إلى أنّ آدمعليه‌السلام لو كان قبلة للملائكة لما كان ثمة مجال لاعتراض الشيطان، إذ قال :

( ءَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً ) (١) .

لأنّه لا يلزم ـ أبداً ـ أن تكون القبلة أفضل من الساجد ليكون أي مجال لاعتراضه، بل اللازم هو: كون المسجود له أفضل من الساجد، في حين أنّ آدم لم يكن أفضل في نظر الشيطان منه، وهذا ممّا يدلّ على أنّ الهدف هو السجود لآدم.

يقول الجصاص: ومن الناس من يقول إنّ السجود كان لله وآدم بمنزلة القبلة لهم، وليس هذا بشيء، لأنّه يوجب أن لا يكون في ذلك حظ من التفضيل والتكرمة، وظاهر ذلك يقتضي أن يكون آدم مفضلاً مكرماً، ويدل على أنّ الأمر بالسجود قد كان أراد به تكرمة آدمعليه‌السلام وتفضيله، قول إبليس فيما حكى الله عنه :

__________________

(١) الإسراء: ٦١.

٤٤٤

( ءَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً *أَرَأَيْتَكَ هٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ ) (١) ، فأخبر إبليس أنّ امتناعه من السجود لأجل ما كان من تفضيل الله وتكرمته بأمره إيّاه بالسجود له، ولو كان الأمر بالسجود له على أنّه نصب قبلة للساجدين من غير تكرمة له ولا فضيلة لما كان لآدم في ذلك حظ ولا فضيلة تحسد كالكعبة المنصوبة للقبلة(٢) .

وعلى هذا فمفهوم الآية هو أنّ الملائكة سجدوا لآدم بأمر الله سجوداً واقعياً، وانّ آدم أصبح مسجوداً للملائكة بأمر الله، وهنا أظهر الملائكة من أنفسهم غاية الخضوع أمام آدم، ولكنهم ـ مع ذلك ـ لم يكونوا ليعبدوه.

وما ربما يتصور من أنّ سجود الملائكة لما كان بأمره سبحانه صح سجودهم له، إنّما الكلام في الخضوع الذي لم يرد به أمر، فسيوافيك الجواب عن هذا الاحتمال الذي يردّده كثير من الوهابيين في المقام.

انّ القرآن يصرح بأنّ أبوي يوسف وإخوته سجدوا له، حيث قال :

( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَىٰ العَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وقَالَ يَا أَبَتِ هٰذَا تَأْويلُ رُؤيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبّي حَقّاً ) (٣) .

ورؤياه التي يشير إليها القرآن في هذه الآية هو ما جاء في مطلع السورة :

( إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشَّمْسَ وَالقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ) (٤) .

وقد تحققت هذه الرؤيا بعد سنوات طويلة في سجود أخوة يوسف وأبويه

__________________

(١) الإسراء: ٦١ ـ ٦٢.

(٢) أحكام القرآن: ١ / ٣٠٢.

(٣) يوسف: ١٠٠.

(٤) يوسف: ٤.

٤٤٥

له، وعبَّر القرآن ـ في كل هذه الموارد ـ بلفظ السجود ليوسف.

ومن هذا البيان يستفاد ـ جلياً ـ أنّ مجرد السجود لأحد بما هو هو مع قطع النظر عن الضمائم والدوافع ليس عبادة، والسجود كما نعلم هو غاية الخضوع والتذلّل.

٣. يأمر الله تعالى بالخضوع أمام الوالدين وخفض الجناح لهم، الذي هو كناية عن الخضوع الشديد، إذ يقول :

( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) (١) .

ومع ذلك لا يكون هذا الخفض: عبادة.

٤. إنّ جميع المسلمين يطوفون ـ في مناسك الحج ـ بالبيت الذي لا يكون إلّا حجراً وطيناً، ويسعون بين الصفا والمروة وقد أمر القرآن الكريم بذلك، حيث قال :

( وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ ) (٢) .

( إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) (٣) .

فهل ترى يكون الطواف بالتراب والحجر والجبل(٤) عبادة لهذه الأشياء ؟

__________________

(١) الإسراء: ٢٤.

(٢) الحج: ٢٩.

(٣) البقرة: ١٥٨.

(٤) المسلمون كلهم يستلمون الحجر الأسود ـ في الحج ـ واستلام الحجر الأسود من مستحبات الحج، وهذا العمل يشبه من حيث الصورة ( لا من حيث الواقعية ) أعمال المشركين تجاه أصنامهم في حين انّ هذا العمل يعد في صورة شركاً، وفي أُخرى لا يعد شركاً بل يكون معدوداً من أعمال الموحدين المؤمنين، وهذا يؤيد ما ذكرناه آنفاً من أنّ الملاك هو النيات والضمائر لا الصور والظواهر وإلاّ فهذه الأعمال بصورها الظاهرية لا تفترق عن أعمال الوثنيين.

٤٤٦

ولو كان مطلق الخضوع عبادة لزم أن تكون جميع هذه الأعمال ضرباً من الشرك المجاز المسموح به، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

٥. انّ القرآن الكريم يأمر بأن نتخذ من مقام إبراهيم مصلّى عندما يقول:( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهيمَ مُصَلّىً ) (١) .

ولا ريب في أنّ الصلاة إنّما هي لله، ولكن إقامتها في مقام إبراهيم الذي يرى فيه أثر قدميه أيضاً نوع من التكريم لذلك النبي العظيم ولا يتصف هذا العمل بصفة العبادة مطلقاً(٢) .

٦. إنّ شعار المسلم الواقعي هو التذلّل للمؤمن والتعزّز على الكافر كما يقول سبحانه :

( فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَىٰ المُؤْمِنينَ أَعِزةٍ عَلَىٰ الكَافِرينَ ) (٣) .

إنّ مجموع هذه الآيات من جانب ومناسك الحج وأعماله من جانب آخر تدل على أنّ مطلق الخضوع والتذلّل، أو التكريم والاحترام ليس عبادة، وإذا ما رأينا أئمّة اللغة فسّروا العبادة بأنّها الخضوع والتذلّل كان هذا من التفسير بالمعنى الأوسع، أي أنّهم أطلقوا اللفظة وأرادوا بها المعنى الأعم، في حين أنّ العبادة ليست إلّا نوعاً خاصاً من الخضوع سنذكره عما قريب.

__________________

(١) البقرة: ١٢٥.

(٢) ثم إنّ بعض من يفسّر العبادة بمطلق الخضوع يجيب عن الاستدلال بهذه الآيات بأنّ السجود لآدم أو ليوسف حيث كان بأمر الله سبحانه فبذلك خرج عن كونه شركاً.

وسنرجع إلى هذا البحث تحت عنوان « هل الأمر الإلهي يجعل الشرك غير شرك » ؟ فلاحظ.

(٣) المائدة: ٥٤.

٤٤٧

ومن هذا البيان يمكن أيضاً أن نستنتج أنّ تكريم أحد واحترامه ليست ـ بالمرة ـ عبادة، لأنّه في غير هذه الصورة يلزم أن نعتبر جميع البشر حتى الأنبياء مشركين، لأنّهم أيضاً كانوا يحترمون من يجب احترامه.

وقد أشار المرحوم الشيخ جعفر كاشف الغطاء ( وهو أوّل من أدرك ـ في عصره ـ عقائد الوهابية وأخضعها للتحليل ) أشار إلى ما ذكرنا، إذ قال :

لا ريب أنّه لا يراد بالعبادة التي لا تكون إلّا لله، ومن أتى بها لغير الله فقد كفر، مطلق الخضوع والانقياد كما يظهر من كلام أهل اللغة، وإلاّ لزم كفر العبيد والأُجراء وجميع الخدّام للأُمراء، بل كفر الأنبياء في خضوعم للآباء(١) .

تمييز المعنى الحقيقي عن المجازي

نعم ربما تستعمل لفظة العبادة وما يشتق منها في موارد في العرف واللغة، ولكن استعمال لفظ في معنى ليس دليلاً على كونه مصداقاً حقيقياً لمعنى اللفظ، بل قد يكون من باب تشبيه المورد بالمعنى الحقيقي لوجود مناسبة بينهما، وإليك هذه الموارد :

١. العاشق الولهان الذي يظهر غاية الخضوع أمام معشوقته، ويفقد تجاه طلباتها عنان الصبر، ومع ذلك لا يسمّى مثل هذا الخضوع عبادة، وإن قيل في حقّه مجازاً انّه يعبد المرأة.

٢. الأشخاص الذين يأسرهم الهوى فيفلت من أيديهم ـ تحت نداءات

__________________

(١) راجع منهج الرشاد: ٢٤، طبع ١٣٤٣ ه‍ تأليف الشيخ الأكبر المرحوم الشيخ جعفر كاشف الغطاء ( المتوفّى عام ١٢٢٨ ه‍ ). وقد ألّف المرحوم هذا الكتاب في معرض الإجابة على رسالة من أحد أُمراء السعودية الذين كانوا مروّجي الوهابية منذ أول يوم إلى زماننا هذا.

٤٤٨

النفس الأمّارة ـ زمام الاختيار لا يمكن اعتبارهم عبدة واقعيين للهوى، ولا عدهم مشركين، كمن يعبد الوثن، ولو قيل في شأنه أنّه يعبد هواه، فإنّ ذلك نوع من التشبيه وضرب من التجوّز.

فها هو القرآن يسمي الهوى إلهاً، ويلازم ذلك كون الخضوع للهوى: عبادة له، لكن مجازاً، إذ يقول :

( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ) (١) .

فكما أنّ إطلاق اسم الإله على الهوى نوع من التجوّز، فكذا إطلاق العبادة على متابعة الهوى هو أيضاً ضرب من المجاز.

٣. هناك فريق من الناس يضحّون بكل شيء في سبيل الحصول على جاه ومنصب، حتى ليقول الناس في حقّهم: إنّهم يعبدون الجاه والمنصب، ولكنّهم في نفس الوقت لا يعدّون عبدة حقيقيّين للجاه، ولا يصيرون بذلك مشركين.

٤. انّ المتوغّلين في العنصرية ـ كبني إسرائيل ـ وفي الأنانية، الذين لا يهمّهم إلّا المأكل والمشرب رغم أنّهم يطلق عليهم بأنّهم عباد العنصر والنفس والشيطان، ولكن الوجدان يقضي بأنّ عملهم لا يكون عبادة، وأنّ اتباع الشيطان شيء وعبادته شيء آخر.

وإذا ما رأينا القرآن الكريم يسمّي طاعة الشيطان « عبادة »، فذلك ضرب من التشبيه، والهدف منه هو بيان قوة النفرة وشدّة الاستنكار لهذا العمل، إذ يقول :

( ألَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ *وَأَنْ اعْبُدُونِي هٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) (٢) .

__________________

(١) الفرقان: ٤٣.

(٢) يس: ٦٠ ـ ٦١.

٤٤٩

ومثل هذه الآية الآيتان التاليتان :

١.( يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيّاً ) (١) .

٢.( أَنُؤمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ) (٢) .

لا شك في أنّ بني إسرائيل ما كانت تعبد فرعون وملأه، غير أنّ استذلالهم لـمّا بلغ إلى حد شديد صح أن يطلق عليه عنوان العبادة على نحو المجاز.

والقرآن وإن أطلق على هذه الموارد عنوان العبادة، لكن لا بمعنى أنّه جعلهم في عداد المشركين، فلا يمكن التصديق بأنّ كل خضوع وطاعة وكل تكريم واحترام « عبادة »، وعند ذاك يستكشف أن استعمالها في هاتيك الموارد بعناية خاصة، وعلاقة مجازية.

وبعبارة أُخرى: أنّ عبّاد الهوى والنفس والجاه و وإن كانوا يعتبرون مذنبين، تنتظرهم أشدُّ العقوبات إلّا أنّه لا يكونون في عداد المشركين في العبادة الذين لهم أحكام خاصة في الفقه الإسلامي.

كيف لا، ونحن نقرأ في الحديث الشريف :

« من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان ينطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان ينطق عن غير الله فقد عبد غير الله »(٣) .

فالناس يستمعون اليوم إلى وسائل الإعلام ويصغون إلى أحاديث المتحدّثين والمذيعين من الراديو والتلفزيون، وأكثر أُولئك المتحدّثين ينطقون عن غير الله، فهل يمكن لنا أن نصف كل من يستمع إلى تلك الأحاديث بأنّهم عبدة لأُولئك

__________________

(١) مريم: ٤٤.

(٢) المؤمنون: ٤٧.

(٣) سفينة البحار: ج ٢ مادة عبد.

٤٥٠

المتحدّثين ؟

بل الصحيح هو أن نعتبر استعمال لفظ العبادة في مثل هذه الموارد نوعاً من التجوّز، لأجل وجود المناسبة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي.

فلطالما يتردد في لسان العرف بأنّ فلاناً عبد البطن أو عبد الشهوة فهل يكون هؤلاء ـ حقاً ـ عبدة البطن والشهوة، أو لأنّ الخضوع المطلق تجاه نداءات الشهوات النفسانية حيث كان شبيهاً بالخضوع المطلق الذي يمثله الموحّدون أمام خالق الكون، أطلق عنوان العبادة على هذه الموارد.

هل الأمر الإلهي يجعل الشرك غير شرك ؟

ربما يقال أنّ سجود الملائكة لآدم، واستلام الحجر الأسود، وما شابههما من الأعمال لما كان بأمر الله، لا يكون شركاً، ولا يعد فاعلهاً مشركاً(١) .

وبعبارة أُخرى: أنّ حقيقة العبادة وإن كانت الخضوع والاحترام، ولكن لما كانت تلك الأعمال مأتياً بها بأمره سبحانه تعد عبادة للآمر لا لسواه.

ولكن القائل ومن تبعه يغفلون عن نقطة مهمة جداً، وهي :

إنّ تعلق الحكم بموضوع لا يغيّر ـ بتاتاً ـ حقيقة ذلك الموضوع، ولا يوجب تعلّق الأمر الإلهي به تبدل ماهيته.

إنّ العقل السليم يقضي بأنّ سب أحد وشتمه إهانة له ـ طبعاً ـ وذلك شيء تقتضيه طبيعة السباب والفحش والشتم، فإذا أوجب الله سب أحد وشتمه ـ فرضاً ـ فإنّ أمر الله لا يغيرّ ماهية السب والشتم ـ أبداً ـ.

__________________

(١) القائل هو الشيخ عبد العزيز إمام المسجد النبوي في محاورته مع بعض الأفاضل.

٤٥١

كما أنّ الضيافة وإقراء الضيف بطبيعتهما تكريم للوافد، واحترام للضيف، فإذا حرمت ضيافة شخص لم تتبدّل ماهية العمل، أعني: الضيافة التي كانت بطبيعتها احتراماً، لتصير إهانة في صورة تحريمها، بل تبقى ماهية الضيافة على ما كانت عليه ولو تعلّق بها تحريم، فإذا عُدّت أعمال ـ كالسجود واستلام الحجر الأسود وما شابههما ـ عبادة ذاتاً، فإنّ الأمر الإلهي لا يغيّر ماهيتها، فلا تخرج من حال كونها عبادة لآدم أو يوسف أو الحجر، وما يقوله القائل من أنّها عبادة ذاتاً وطبيعة، ولكن حيث تعلّق بها الأمر الإلهي خرجت عن الشرك، يستلزم أن تكون هذه الأعمال من الشرك المجاز، وهو قول لا يقبله أي إنسان.

والخلاصة: أنّ المسألة تدور مدار أمّا أن نعتبر هذه الأعمال خارجة ـ بطبيعتها ـ عن مفهوم الشرك، أو أن نقول إنّها من مصاديق الشرك في العبادة، ولكنّها شرك أذن الله به وأجازه !!

والقول الثاني على درجة من البطلان بحيث لا يمكن أن يحتمله أحد فضلاً عن الذهاب إليه، وسيوافيك أنّ بعض الأعمال يمكن أن تكون باعتبار تعظيماً وتواضعاً، وباعتبار آخر شركاً، فلو كانت الملائكة ـ مثلاً ـ تسجد لآدم باعتقاد أنّه إله كان عملهم شركاً قطعاً، وإن أمر الله به ـ على وجه الافتراض ـ، وأمّا إذا كانت تسجد بغير هذا الاعتقاد لم يكن فعلها شركاً حتى لو لم يأمر به المولى جل شأنه.

نعم ورد في بعض الروايات ـ وإن لم يتحقق سنده ـ عن الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام أنّه لما سئل أيصلح السجود لغير الله ؟

فقال: « لا ».

قيل: فكيف أمر الله الملائكة بالسجود لآدم ؟

٤٥٢

فقال: « إنّ من سجد بأمر الله فقد سجد لله إذ كان عن أمر الله تعالى »(١) .

فإنّ المقصود من هذه الرواية ـ على فرض صحتها سنداً ـ هو أنّ السجود كان تعظيماً لآدم وتكريماً له، وهو في الحقيقة عبادة لله لكونه بأمره.

وتوضيحه أنّ نفس العمل ( أعني: السجود ) كان تعظيماً لآدم غير أنّ الإتيان بهذا العمل حيث كان لامتثال أمر الله كان عبادة له سبحانه، بحيث لولا أمره تعالى لكان العمل ـ في حد نفسه ـ جائزاً لكونه تعظيماً، ونظيره تعظيم العالم واحترامه، فإنّه لا بداعي أمره سبحانه تعظيم للعالم فقط، وبداعي الأمر تعظيم له وطاعة لله سبحانه، وهذا غير القول بأنّ ذات العمل كان شركاً، ولكن أمر الله استلزم تغيره فلم يعد شركاً.

ويؤيد ما قلناه ما عن الإمام موسى بن جعفر عن آبائه: أنّ يهودياً سأل أمير المؤمنين ( علياًعليه‌السلام ) عن سجود الملائكة لآدم، فقال الإمام في جوابه :

« إنّ سجودهم [ أي الملائكة ] لم يكن سجود طاعة [ بمعنى ] أنّهم عبدوا آدم من دون الله عزّ وجلّ، ولكن اعترافاً لآدم بالفضيلة »(٢) .

وأيضاً ما جاء عن الإمام الرضا علي بن موسى بن جعفر، عن آبائه، عن أمير المؤمنين ( عليّ ): قال :

« قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : كان سجودهم لله عز وجلّ ولآدم إكراماً »(٣) .

وبهذا تبيّن انّ السجود كان ـ بطبيعته ـ تعظيماً لآدم وتكرمة له، وهو في

__________________

(١) الاحتجاج للطبرسي: ٣١ ـ ٣٢.

(٢) الاحتجاج للطبرسي: ١١١.

(٣) عيون الأخبار: ٤٥.

نعم لا يوافق مضمون هذا الحديث مضمون ما تقدم من الحديثين حيث إنّ ما تقدمه جعل السجود لآدم، وهذا جعله لله سبحانه، نعم ما يشتركان فيه هو أنّ السجود كان إكراماً وتعظيماً لآدم، ولأجل ذلك ذكرنا الأحاديث في مقام واحد.

٤٥٣

الحقيقة عبادة لله تعالى لكونه بأمره وهو مختار جماعة من المفسّرين.

وتبيّن من ذلك أنّ الأمر الإلهي لا يغيّر ماهية هذا العمل، بل ما يقترن به من الاعتقاد هو الدخيل في كونه شركاً أو لا.

ومن هذا البيان أيضاً علم مفاد الرواية المروية عن الإمام الصادقعليه‌السلام التي نقلناها عما قريب.

نعم أنّ للأمر الإلهي فائدة هي: أنّه لو نسب أحد أفعاله إلى الأمر الإلهي وأتى بها على أنّها فريضة أو سنّة مندوبة شرعاً، وجعلها جزءاً من شريعته وكان الواقع يؤيد تلك النسبة، خرج عمله عن موضوع البدعة، وخرج هو عن كونه مبتدعاً في الدين، لأنّ « البدعة: إدخال ما ليس من الدين في الدين ».

لقد كان الشيخ عبد العزيز إمام المسجد النبوي يحاول توجيه صحة وشرعية هذه الاحترامات بورود الأمر الإلهي بشأنها، ويستشهد بما قاله عمر بن الخطاب حول الحجر الأسود، إذ قال ـ ما مضمونه ـ: إني أعلم أنّك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أنّي رأيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقبّلك لما قبّلتك(١) .

وقد قيل للشيخ: إنّ مفاد كلامكم هو أن تكون هذه الأفعال من الشرك المجاز إذن ؟

ونلفت نظر الشيخ إلى الآية الكريمة:( قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَىٰ اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) (٢) .

فلو كانت ماهية السجود لآدمعليه‌السلام واستلام الحجر الأسود عبادة لآدم والحجر وشركاً لما كان الله سبحانه يأمر بها ـ أبداً ـ.

__________________

(١) صحيح البخاري: ٣ / ١٤٩، كتاب الحج، طبعة عثمان خليفة.

(٢) الأعراف: ٣٨.

٤٥٤

٣

العبادة هي الخضوع عن اعتقاد بإلوهية

المعبود وربوبيته واستقلاله في فعله

لفظ العبادة من المفاهيم الواضحة كالماء والأرض، فهو مع وضوح مفهومه يصعب التعبير عنه بالكلمات رغم حضور هذا المفهوم في الأذهان، والعبادة كما هي واضحة مفهوماً، فهي واضحة ـ كذلك ـ مصداقاً بحيث يسهل تمييز مصاديقها عن مصاديق التعظيم والتكريم وغيرهما من المفاهيم، فتقبيل العاشق الولهان دار معشوقته، واحتضان ثيابها شوقاً، أو تقبيل تراب قبرها بعد الموت، لا يدعى عبادة للمعشوقة.

كما أنّ ذهاب الناس إلى زيارة من يعنيهم من الشخصيات، والوفود إلى مقابرهم لزيارتها والوقوف أمامها احتراماً، وإجراء مراسم وطقوس خاصة لديها لا يعد عبادة ـ أبداً ـ وإن كانت هذه الأفعال تبلغ ـ في بعض الأحايين ـ من حيث شدّة الخضوع إلى درجة كبيرة، إنّ الضمائر اليقظة هي وحدها تقدر على أن تكون الحكم العدل ـ في مثل هذا البحث ـ لتمييز الاحترام والتعظيم عن العبادة، دون حاجة إلى تكلّف، ولكن إذا تقرر أن نعرّف العبادة بتعريف موضوعي أمكننا أن

٤٥٥

نعرّفها بثلاثة تعاريف :

التعريف الأوّل

العبادة: هي الخضوع اللفظي أو العملي الناشئ عن الاعتقاد ب‍ « إلوهية » المخضوع له ; وسيوافيك معنى « الإلوهية ».

وآيات كثيرة تدل على هذا التفسير، فمن ملاحظة هذه الآيات يتضح لنا أمران :

الأوّل: انّ العرب الجاهليين الذين نزل القرآن في أوساطهم وبيئاتهم كانوا يعتقدون بالوهية معبوداتهم.

الثاني: أنّ العبادة عبارة عن القول أو العمل الناشئين من الاعتقاد بإلوهية المعبود، وانّه ما لم ينشأ الفعل أو القول من هذا الاعتقاد لا يكون الخضوع أو التعظيم والتكريم عبادة.

فهنا دعويان :

الأُولى: انّ العرب الجاهليين بل الوثنيين كلّهم وعبدة الشمس والكواكب والجن، كانوا يعتقدون بإلوهية معبوداتهم، ويتخذونهم آلهة صغيرة وفوقهم « الإله الكبير » الذي نسمّيه « الله » سبحانه.

الثانية: انّ الظاهر من الآيات هو انّ العبادة عبارة عن الخضوع المحكي بالقول والعمل الناشئين من الاعتقاد بالإلوهية، إلوهية صغيرة أو كبيرة.

أمّا الدعوى الأُولى، فتدل عليها آيات كثيرة نشير إلى بعضها :

٤٥٦

يقول سبحانه :

( الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) (١) .

( وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ ) (٢) .

( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً ) (٣) .

( أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخرى ) (٤) .

( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً ) (٥) .

فهذه الآيات تشهد على أنّ دعوة المشركين كانت مصحوبة بالاعتقاد بإلوهية أصنامهم، وقد فسر الشرك في بعض الآيات باتخاذ الإله مع الله، وذلك عندما يقول سبحانه:( وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ *إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ *الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) (٦) .

ولذلك يفسّر القرآن حقيقة الشرك ب‍ « اعتقادهم بإلوهية معبوداتهم »، إذ قال سبحانه:( أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (٧) .

__________________

(١) الحجر: ٩٦.

(٢) الفرقان: ٦٨.

(٣) مريم: ٨١.

(٤) الأنعام: ١٩.

(٥) الأنعام: ٧٤.

(٦) الحجر: ٩٤ ـ ٩٦.

(٧) الطور: ٤٢.

٤٥٧

ففي هذه الآية جعل اعتقادهم بإلوهية غير الله هو الملاك للشرك، والمراد هنا « الشرك في العبادة ».

وبمراجعة هذه الآيات ونظائرها التي تعرضت لموضوع الشرك وبالأخص لموضوع شرك الوثنيين تتجلى هذه الحقيقة ـ بوضوح تام ـ أنّ عبادتهم كانت مصحوبة مع الاعتقاد بإلوهيتها، بل يمكن استظهار أن شركهم كان لأجل اعتقادهم بإلوهية معبوداتهم، ولأجل ذاك الاعتقاد كانوا يعبدونهم ويقدّمون لهم النذور والقرابين وغيرهما من التقاليد والسنن العبادية، وبما أنّ كلمة التوحيد تهدم عقيدتهم بإلوهية غيره سبحانه، كانوا يستكبرون عند سماعه كما قال سبحانه :

( إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ ) (١) .

أي يرفضون هذا الكلام لأنّهم يعتقدون بإلوهية معبوداتهم ويعبدونها لأجل أنّها آلهة ـ حسب تصوّرهم ـ.

ولأجل تلك العقيدة السخيفة كانوا إذا دعي الله وحده كفروا به لأنّهم لا يحصرون الإلوهية به وإذا أشرك به آمنوا، لانطباقه على فكرتهم كما قال سبحانه :

( ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ للهِ العَلِيِّ الكَبِيرِ ) (٢) .

إلى هنا ظهرت الدعوى الأُولى بوضوح وجلاء.

وأمّا الدعوى الثانية فتدل عليها الآيات التي تأمر بعبادة الله، وتنهى عن عبادة غيره، مدللاً ذلك بأنّه لا إله إلّا الله، إذ يقول :

( يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَالَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرَهُ ) (٣) .

__________________

(١) الصافات: ٣٥.

(٢) غافر: ١٢.

(٣) الأعراف: ٥٩.

٤٥٨

ومعنى ذلك أنّ الذي يستحق العبادة هو من كان إلهاً، وليس هو إلّا الله، وعندئذ فكيف تعبدون ما ليس بإله ؟! وكيف تتركون عبادة الله وهو الإله الذي يجب أن يُعبد دون سواه ؟!

وقد ورد مضمون هذه الآية في(١٠) موارد أو أكثر في القرآن الكريم، ويمكن للقارئ الكريم أن يراجع ـ لذلك ـ الآيات التالية :

الأعراف: ٦٥، ٧٣، ٨٥، هود: ٥٠، ٦١، ٨٤، الأنبياء: ٢٥، المؤمنون: ٢٣، ٣٢، طه: ١٤.

فهذه التعابير ( التي هي من قبيل تعليق الحكم على الوصف ) تفيد أنّ العبادة هي ذلك الخضوع والتذلّل النابعين من الاعتقاد بإلوهية المعبود، إذ نلاحظ ـ بجلاء ـ كيف أنّ القرآن استنكر على المشركين عبادة غير الله بأنّ هذه المعبودات ليست آلهة، وإنّ العبادة من شؤون الإلوهية، فإذا وجد هذا الوصف ( أي وصف الإلوهية ) في الطرف جاز عبادته واتخاذه معبوداً، وحيث إنّ هذا الوصف لا يوجد إلّا في الله سبحانه لذلك يجب عبادته دون سواه.

سؤال وجواب

أمّا السؤال فهو أنّه لا شك أنّ الدعوى الأُولى ثابتة، فالمشركون كانوا معتقدين بإلوهية الأوثان، وما أورد من الآيات قد أثبتت ذلك بوضوح، غير أنّ الدعوى الثانية غير ثابتة، وقصارى ما يستفاد من هذه الآيات هو أنّ عبادتهم كانت ناشئة من الاعتقاد بالوهيتها، وهذا لا يدل على دخول مفهوم الإلوهية في مفهوم العبادة كما هو المدّعى، أو دخول كون النشوء عن ذلك الاعتقاد، في مفهومها.

٤٥٩

وعلى الجملة فهذه الآيات لا تدل على أكثر من أنّ عبادتهم للأوثان كانت مصحوبة بهذا الاعتقاد أو ناشئة عنه.

وأمّا كون العبادة موضوعة للخضوع الناشئ عن الاعتقاد بالإلوهية، بحيث يكون النشوء عن تلك العقيدة جزءاً لمعنى العبادة فلا يستفاد من الآيات.

وأمّا الجواب فنقول: إنّما يرد الإشكال لو قلنا بأنّ « الاعتقاد بالإلوهية » داخل في « مفهوم العبادة » وضعاً، حتى يقال انّ هذه الآيات لا تعطي أزيد من أنّ العبادة من شؤون الإلوهية، وهذا غير القول باندراج مفهوم الإلوهية في مفهوم العبادة، إنّما المراد أنّ العبادة ليست مطلق الخضوع والتذلّل، بل أضيق وأخص منهما وهذا أمر يعرفه كل إنسان بوجدانه وفطرته، غير أنّنا نشير إلى هذه الخصوصية ونميز هذا الضيق بأنّه خضوع « ناشئ عن الاعتقاد بالإلوهية أو الربوبية » كما سيوافيك في التعريف الثاني، لا أنّ هذه الجملة ( ناشئ عن الاعتقاد بالإلوهية والربوبية ) داخلة بتفصيلها في مفهوم العبادة، ومعناها.

وبعبارة أُخرى: إنّ الإنسان قد لا يقدر على تعريف شيء بنوعه وفصله، أو حدّه ورسمه حتى يحدّه تحديداً عقليّاً لا خدشة فيه، ولكنّه يجد في نفسه ما هو بمنزلة الجنس والفصل فيضعهما مكان الجنس والفصل الواقعيين، والأمر فيما نحن فيه كذلك، إذ نجد أنّ التعظيم والخضوع والتذلّل وما أشبههما أمر مشترك بين العبادة وغيرها فيتصوّره بمنزلة الجنس لها، ويجد أنّ العبادة تتميز بخصوصية عن غيرها، ولكنه لا يقدر على بيان تلك الخصوصية بلفظ بسيط فيتوسل بوضع جملة مكانه وهي ما ذكرناها: « ناشئ عن الاعتقاد بالإلوهية » ويضعها مكان الفصل.

وبعبارة ثالثة: انّ الإنسان يجد أنّ « العبادة » ليست مطلق التعظيم ونهاية

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

والسحاب الممطر لا يَعدو النوعين، والعرب تُسمّي السحاب الممطر باسم (المُزن)؛ ولذلك فمِن الوجهة العلمية هناك المُزن الرُكامي والمُزن البساطي (الطبقي)، قال تعالى، ( أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ) (١) .

السُحب الرُكامية:

والسُحب الرُكامية هي النوع الأهمّ مِن السحب؛ لأنّها قد تمتدّ عمودياً (رأسياً) عبر (١٥) أو (٢٠) كيلومتراً، فتصل إلى طبقات مِن الجوّ بارد جدّاً تنخفض فيها درجة الحرارة إلى (٦٠) أو (٧٠) درجة مئوية تحت الصفر.

وبذلك يتكون (البَرَد) في أعالي تلك السحب، والمعروف علمياً أنّ نموّ البَرَد في أعالي السحب الرُكامية يُعطي انفصال شحنات أو طاقات كهربائية سالبة، وأنّه عندما يتساقط داخل السحابة ويصل في قاعدتها إلى طبقات مرتفعة الحرارة فوق الصفر يذوب ذلك البرد أو يتميّع ويُعطي انفصال شحنات كهربائية موجبة، وعندما لا يقوى الهواء على عزل الشحنة السالبة العليا عن الشحنة الموجبة في أسفل يحدث التفريغ الكهربائي على هيئة برق، وينجم عن التسخين الشديد المفاجئ الذي يُحدثه البرق أن يتمدّد الهواء فجأةً ويتمزّق مُحدِثاً الرعد، وما جلجلة الرعد إلاّ عملية طبيعية بسبب سلسلة الانعكاسات التي تحدث مِن قواعد السحب لصوت الرعد الأصلي.

وقد يحدث في بعض العواصف أن يتكرّر حدوث البرق داخل السحابة ٤٠ مرّة في الدقيقة الواحدة، أمّا إذا حدث التفريغ الكهربائي بين السحابة وأيّ جسم مرتفع على سطح الأرض فإنّه يُسمّى (صاعقة).

وتحدث عواصف الرعد في كافّة أرجاء الأرض ما عدا المناطق القطبية،

____________________

(١) الواقعة: ٦٨ - ٦٩.

٥٠١

حيث ضآلة حجم الهواء بالنسبة إلى خطّ الاستواء.

وقد وُجد بالحساب أنّ عدد عواصف الرعد التي تحدث في جوّ الأرض في يوم واحد يبلغ أكثر من ٤٠ ألفاً، أي بمتوسط قدره ١٨٠٠ عاصفة في الساعة، وتستهلك العاصفة في المتوسط نحو (٢/٢) مليون كيلو وات ساعة (١) .

* * *

____________________

(١) الله والكون: ص١٤٦ - ١٦١.

٥٠٢

التبخّر والإشباع والتكاثف

( أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ ثُمّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ ) (١)

عوامل ثلاث لنزول المطر: لحصول المطر عوامل ثلاث لا غيرها، إذا توفّرت لابدّ من نزول المطر، وإذا نقص عامل منها فلا إمكان لحصوله، وتلك العوامل هي:

١ - التبخّر ، وهو عملية تحوّل ذرّات الماء إلى البخار، ليؤدّي إلى تكوين سحاب.

٢ - وصول الهواء المتحمّل للبخار إلى درجة الإشباع المختلف حسب المناخ.

٣ - التكاثف ، وضدّ عملية التبخّر، ليتحوّل البخار إلى ذرّات الماء.

وهذا الترتيب على التعاقب ممّا لا محيص عنه لتكوين المطر ونزوله، وهو مِن بديهيّات العلم المقطوع به والمفروغ عنه بلا ريب، وإليك شرح هذه العوامل باختصار.

(أَوّلاً) التبخّر ، وهو عملية تحوّل ذرّات الماء إلى البخار، وانتقاله إلى الهواء،

____________________

(١) النور: ٤٣.

٥٠٣

وذلك بتأثير حرارة الشمس على السطوح المائية المتوسّعة، كالمحيطات والبحار والبحيرات والمستنقعات والأنهار، بل وحتّى السطوح الثلجية والجليدية، بل وحتّى على أوراق الأشجار والنباتات وخاصّة الغابات.

(ثانياً) الإشباع ، وهو استمرار التبخّر حتى يبلغ حدّاً معيّناً، ويُسمّى بدرجة التشبّع، وتختلف حسب اختلاف المناخ، فكلّما اختلفت درجة الحرارة اختلفت درجة التشبّع اللازمة لتكوين الأمطار، فالهواء الحارّ في درجة التشبّع يحوي مقداراً مِن البخار أعظم ممّا يمكن أن يحويه الهواء البارد، فكمّية الرطوبة التي تكفي للتشبّع في درجة ١٥ م مثلاً لا تكفي للتشبّع في درجة ٢٠ م، وإذا كان الهواء متشبّعا قيل: إنّ نسبة رطوبته ١٠٠%.

وبعبارة أوضح: إنّه حيثما وُجد الماء والهواء فإنّه يحدث تبادل بين جزئيات أحدهما مع الآخر، فتمرّ جزئيات الماء عن طريق التبخّر إلى الهواء، كما تمرّ جزيئات الهواء إلى الماء؛ ولذلك يوجد دائماً مقدار مِن بخار الماء في الهواء، كما يوجد مقدار مِن الهواء في الماء.

وإذا كان مقدار البخار الذي في الهواء قليلاً فإنّ الجزئيات البخارية التي تتصاعد من الماء تكون أكثر من جزيئات الهواء التي تمرّ إلى الماء، وعلى ذلك فإنّ عملية التبخّر تستمر ولكن إذا كان مقدار ما في الهواء من البخار كثيراً فإنّ تبادل الجزيئات بين الماء والهواء يكون متساوياً، وفي هذه الحالة يقال: إنّ الهواء متشبّع بالبخار المائي، أو إنّه في درجة الإشباع، أي لا يستطيع أن يحمل أكثر ممّا هو معلّق به مِن البخار.

فدرجة الإشباع تتوقّف على التساوي والتعادل في تبادل جزئيات الماء والهواء والتآلف بينهما.

ومن ناحية أُخرى - ذات أَهميّة كبرى - أنّ درجة التشبّع تتوقّف على ظاهرتين طبيعيتين أُخريينِ، لابدّ منهما في وصول الهواء إلى حالة الإشباع الكافي:

٥٠٤

الظاهرة الأُولى: هي التساوي في الضغط، فلبخار الماء المتصاعد ضغط كما لبخار الهواء المتشبّع ضغط، فإذا تساوى الضغطان فالتبخّر والتكاثف يتعادلان، وفي هذه الحالة يقال: إنّ الهواء مشبّع بالبخار الكافي، والمطر نتيجة لازمة لهذا التعادل.

والظاهرة الثانية: هي اتّحاد الكهربائيتين، فإنّ السحب ذوات تكهربٍ، وكل سحاب يحمل نوعاً من نوعي الكهرباء السالبة والموجبة، فإذا ما تقارنت السحب واختلف نوع الكهرباء فيها تجاذبت، وإلاّ تنافرت، شأن الكهرباء عموماً يتجاذب نوعان منه ويتنافران من النوع الواحد.

واجتماع السحب وتأليف بعضها مع بعض إنّما هو بفعل الرياح، تُثير السحب مِن مكان إلى مكان، فإذا جمعت الرياح بين نوعين من الكهربائية ذوات الموجبة وذوات السالبة فعند ذلك تتجاذب بعضها إلى بعض وتتقارب وتتآلف، وبذلك يحصل اللقاح الناتج للإمطار، ( وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السّماءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ) (١) .

يا ترى مَن ذا كان يعرف هذه الظاهرة الطبيعية يومذاك؟! أن تقوم الرياح الباردة فتثير سحاباً، وهي تدفع السحب المُكهرَبة إلى لقاء بعضها مع بعض، وتُلقى بالسحابة السالبة التكهرب بين اذرع سحابة أُخرى موجبة التكهرب، وبذلك يحدث عملية اللقاح، الناتجة للبرق والرعد ونزول المطر الغزير، فيخصب الأرض ويمهّدها للإنبات، وهي عملية أُخرى للّقاح في التربة الصالحة، بين الماء والأرض (٢) .

____________________

(١) الحجر: ٢٢.

(٢) فيكون تلقيح مِن نوع ثالث هذه المرّة، تلقيح بالمعنى الحرفي للآية الكريمة.

فنحن أمام كلمة صادقة مجازاً كما حمله المفسّرون القدامى، وصادقة حرفياً كما أثبته العلم متأخّراً، وعلى أي صورة قلّبتها فهي تصدق معك، وهي بعدُ كلمة جديدة وغريبة، وصفة مبتكرة حينما تُوصف بها الرياح =

٥٠٥

(ثالثاً) التكاثف ، وهو عكس عملية التبخّر؛ ليتحول بخار الماء مِن الحالة الغازية إلى حالة السيلان، فتنقلب ذرّات البخار إلى قطرات مائية دقيقة... إذا كانت درجة الحرارة فوق الصفر المئوي، أو حالة جليدية برداً أو ثلجاً، إذا كانت درجة الحرارة تحت الصفر، الأمر الذي يعجز الهواء عن حمله، فتتساقط القطرات مطراً.

وهذا التكاثف إنّما يحدث إذا ما تصاعد الهواء المتشبّع ببخار الماء في طبقات جوّية ذات الضغط الأعظم، فبأثر الضغط العالي يتمدّد الهواء ويفقد جزءً كبيراً مِن حرارته، وبذلك يبرد وتنخفض درجة حرارته، درجةً واحدةً مئويةً كلّما ارتفع ١٧٠ متراً.

غير أنّ هذه النسبة تَطَّرد حتّى ارتفاع ٥ كيلومترات عن سطح البحر، وبعده تتغيّر هذه النسبة فتأخذ بالنقص باعتبار درجة واحدة مئوية لكل ١٠٠ متراً ارتفاعاً، وتستمرّ هذه النسبة إلى ارتفاع ١٢ كيلو متراً حيث توجد طبقة هوائية ثابتة الحرارة، تبلغ درجة حرارتها ٥٥ درجة مئوية تحت الصفر.

والسحب تنعقد على ارتفاعات لا تزيد على ٦ أو ٧ كيلومترات عن سطح البحر في الأغلب.

وعملية التبريد هذه بالتمدّد هي إحدى العوامل الفعّالة في إحداث التكاثف.

وكذلك يبرد الهواء بشعّ حرارته كلّما لامسَ جسماً بارداً في الجوّ أو على سطح الأرض مثل الثلج والجليد، أو إذا تقابل مع هواء أبرد، والشعّ ذو أثر فعّال في تبريد الهواء وتكاثفه، وخاصّة إذا هبّت الرياح من جهة حارّة إلى جهة باردة.

وفي الحقيقة ليس الهواء هو الذي يبرد بهذه الطريقة، ولكنّه (الهباء) الكثير

____________________

= وهي بعدُ من الناحية الجمالية الإيقاعية ذروة، وفي النطق بها عذبة: ( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ) تنطقها وتلوكها في فمك، فتستوقف السمع وتُطرب الأُذن.

.. وكل هذا العلم التفصيلي في تكهرب السحاب وانتقال حبوب اللقاح لم يكن معلوماً أيام نزول الآية، فتدبّر.

٥٠٦

المنتشر في الهواء، فيتّخذ البخار لنفسه مراكز من هذا الهباء، يلتفّ حولها، ويتكوّن حول كلّ مركز قطرة، فإذا اشتدّت برودة الجوّ الملبّد بالسحب استمرّ التكاثف، فتنضمّ قطرات السحب المائية إلى بعضها، فيعجز الهواء عن حملها، فتتساقط أمطاراً على سطح الأرض بفعل جاذبيّتها.

* * *

فقد تبيّن أنّ المطر لا يحصل إلا إذا توفّرت الشرائط الثلاثة متعاقبة: التبخّر فالتشبّع فالتكاثف.

وهذا هو الذي دلّت عليه الآية الكريمة المنوّه عنها في صدر المقال، فقد جاءت بوصف موجز مدهش، ومحيّر للعقول.

عبّرت أولاً بقوله تعالى: ( يُزْجِي سَحَاباً ) (١) إشارة إلى عملية التبخير وتكوين السحب والإزجاء هو عملية إثارة السحب وانتشالها بصورة أبخرة من البخار.

( اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً... ) (٢) لأنّ الرياح بهبوبها على سطح البحار هي التي تُسبّب التبخير والتدافع بها لتتصاعد وتتكاثف وتتكوّن سحباً.

* ثمّ عبّرت عن عملية التشبّع بقوله تعالى: ( ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ) (٣) لانّ درجة الإشباع الكافي إنّما تتوقّف على حصول التعادل وتساوي تبادل الجزئيات بين الماء والهواء.

وما هذا إلاّ التآلف والتعاضد بين تلك الجزئيات.

ومن ناحية أُخرى، لا يحصل التشبّع إلاّ بالتعادل والتآلف بين ضغطي بخار الماء وبخار الهواء، أو الاتّحاد بين نوعي الكهربائية كما سبق بيانه.

وعليه فإنّ أصدق تعبير عن هذه الظاهرة هو وصف التأليف، الذي جاء وصفه في العلم بالتشبّع.

____________________

(١) النور: ٤٣.

(٢) الروم: ٤٨.

(٣) النور: ٤٣.

٥٠٧

* ثم جاءت بقوله تعالى: ( ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً ) (٢) ، وهذا ابلغ تعبير عن عملية التكاثف الذي حقّقه العلم.. إذ لا تفسير للركام سوى التكاثف وتراكم بعض الشيء على البعض مع ضغطٍ يقال: تراكم الشيء أي اجتمع بعضه مع بعض بكثرة وازدحام، والركام: المتراكم بعضه فوق بعض بضغط.

وبعد، فإذا ما تحقّقت الشرائط الثلاثة فعند ذلك: ( فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ) (٣) الودق: المطر.

* وقد فَصل تعالى بين العمليّات الثلاث بـ (ثمّ)؛ لأنّ كلّ عملية إنّما تحصل بتعاقبٍ مع فترة، أمّا النتيجة - وهو الإمطار - فجاءت بالفاء: تعاقبٌ بلا تأخير، وهو الفور في حصول نتيجة عملية الإمطار.

فيا له من دقيق تعبير، وسبحانه من عليم خبير.

* * *

٥٠٨

الماء الأُجاج

( لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً ) (١)

هل في سنن الكون أن يتحولّ ماء المطر - الذي هو أنقى المياه وأعذبها - إلى ماء أُجاج لا يُستساغ شربه ولا يطيب طعمه؟

الآية قبلها تنصّ على أنّ الماء الذي يشربه الناس والدوابّ - وحتّى الذي يُسقى به الزرع والنبات - هو الماء النازل من السماء: ( أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ (٢) أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ ) (٣) .

* * *

إنّك تعرف أنّ الأرض رُبعها يابس وثلاثة أرباعها ماء، هذا الماء كلّه مالحٌ أُجاج، لكنّ الله تعالى بفضله ورحمته يقطر للإنسان والحيوان النبات من هذا الماء الأُجاج ماءً عذباً فراتاً سائغاً للشاربين، أمّا جهاز التقطير فليس كمثله جهاز، البحار كلّها في ذلك دَست (٤) لا يسخن من تحت، كما يفعل الإنسان في تقطيراته

____________________

(١) الواقعة: ٧٠.

(٢) المزن: السحاب المشبّع بالماء.

(٣) الواقعة: ٧٠.

(٤) أي القدر، وهو كلّ ما يغلى فيه الماء.

٥٠٩

التافهة.. ولكن يسخن من فوق بنار تفوق حجم الأرض بآلاف المرّات، فإذا ما تبخّر الماء بحرارة الشمس تكثّف في مكثف ناهيك من مكثف الجوّ المحيط كله والجبال، والرياح مستمرّة دائبة في حمل هذا البخار المتكاثف ونقلها إلى حيث يشاء الله، فإذا أمطرت السماء وسالت الأودية وفاضت الأنهار وحملت الخصب والنماء إلى الأقطار تبخّر بعض الماء وامتصّت الأرض منه بعضاً وصار باقيه إلى البحر الذي كان منه مصعده، لكن ليس شيء من الماء بضائع! فما تمتصّه الأرض تتفجّر به بعدُ عيوناً، ويتبخّر من الماء العذب أو يصير إلى البحر، فهو في حرز حريز من الضياع؛ إذ مآله أن يصير مرّة أُخرى ماء يحيى به الناس والأنعام، وتحيى به الأرض بعد موتها، فالماء بين البحر والجوّ واليابسة في دورة متّصلة، لا انقطاع فيها ولا تنتهي أبداً، إلا أن يشاء الله، هو ربّ كل شيء.

هكذا يتحوّل الماء من أصلٍ مالحٍ أُجاج إلى مقطّرٍ عذبٍ فرات، في جهاز تقطير كهذا الجهاز العظيم في جوّ السماء.

* * *

وبعد، فهل هناك ما يحول دون هذا التحوّل في الماء؟ فينزل من السماء أُجاجاً لا يُستساغ شربه ولا يطيب طعمه.

أجاب العلماء: نعم، إنّ في الجو من العوامل ما يمكنها الحؤول دون هذا التحوّل والانقلاب، لولا رحمته تعالى بالعباد، وقد جعل حواجز دون هذا الحؤول.

جاء في كتاب (سنن الله الكونية) للعلاّمة محمّد أحمد الغمراوي (١) .

إنّ عذوبة الماء الذي يسقيهم الله إيّاه من السحاب هي بمحض رحمته تعالى، إنّ الماء طبعاً عذب بطبيعته، وماء المطر معروف أنّه أنقى المياه، لكن طبيعة تكوّنه من السحاب تُعرضه لأن ينقلب أُجاجاً لا ينتفع به الإنسان.

____________________

(١) نقلاً عن كتاب بصائر جغرافية: ص٢٢٠.

٥١٠

وذلك لأنّ الهواء خليط عن عناصر عدّة تختلف نسبة وجودها مع البعض، وأهمّ تلك العناصر هو النتروجين (الآزوت)، ونسبة وجوده في الهواء تعادل (٢١/٧٨) بالمئة. ثمّ الأوكسجين، ونسبة وجوده (٩٦/٢٠). والارجون (٧٩%)، وثاني اوكسيد الكاربون (٤%).

وعناصر الهواء موجودة فيه بصورة اختلاط ميكانيكي، وليست ممزوجة امتزاجاً كيماوياً، ومعنى ذلك أنّها لا تتفاعل مع بعضها، وأنّ كلاً منها محتفظ بكيانه مستقلاً كأن لا وجود للعناصر الأُخرى.

وفي هذا من الحكمة البالغة والنعمة السابغة مالا يكاد يخفى... إذ لولا ذلك لاكتسب الهواء مميّزات وخواصّاً كيماوية أُخرى تختلف عن مميّزاته الحالية، فلم تكن تصلح للحياة بشكلها المعروف، وتنوّعاتها التي نشاهدها على سطح الكرة.

خذ مثلاً أنّ غاز الآزوت لا يتّحد مع غيره اتّحاداً كيماوياً إلاّ بصعوبة وبشرائط ملائمة خاصّة، فيتّحد في مثل هذه الظروف مع غاز الأوكسجين مكوّناً ما يُسمّونه بحامض الآزوتيك أو النتريك، وهو ما يُعرف عند القدماء بماء الفضّة، وهو أقوى الحوامض وأضرّها على حياة الإنسان بالذات فلو كان الغازان يمتزجان مع بعضهما امتزاجاً كيماوياً بسهولة ويسر وبلا واسطة أعمال كيماوية، لانقلب الجوّ جهنّم سعيراً؛ لأنّه بذلك كان الغازان يستحيلان في الجوّ حامضاً فتّاكاً، ولأمطرت السماء ماء الفضة بدلاً من الماء العذب الفرات، وما هو إلاّ شواظ من نار ولهيب جهنّم لا يُبقي ولا يذر، فسبحانه وتعالى من رءوف رحيم.

( قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ) (١) .

* * *

وإذ قد عرفت أنّ أربعة أخماس الهواء هو الآزوت (النتروجين) وهذا الغاز لا

____________________

(١) يونس: ٥٨.

٥١١

يكاد يتّحد في العادة بشيء ولا بالأوكسجين الذي يكاد يتّحد بكلّ شيء لكنّ الكيماويين وجدوا أنّهم يستطيعون بالكهربائية أن يُحوّلوا الآزوت غير الفعّال إلى آزوت فعّال يتّحد بأشياء كثيرة في درجة الحرارة العادية، كما وجدوا أنّهم يستطيعون أن يحملوا الآزوت على الاتّحاد بالأكسجين بإمرار الشرر الكهربائي في مخلوط منهما، ومن هذا الاتّحاد ينشأ بعض أكاسيد للآزوت، قابل للذوبان في الماء، وإذا ذاب فيه اتّحد به وكوّن حمضين آزوتيين، أحدهما: حمض الآزوتيك (أو ماء النار) كما كان يُسمّيه القدماء، وإليه يصير الحمض الثاني، وقليلٌ من حمض الآزوتيك في الماء كافٍ لإفساد طعمه.

وأظنّك الآن بدأت تُدرك الطريق الذي يمكن أن ينقلب به ماء المطر ماءً أُجاجاً من غير خرق لنواميس الطبيعة ولا تبديل لسنّة الله التي جرت في الخلق، فهو نفس الطريق الكهربائي الذي يتكوّن به المطر، وكلّ الذي يلزم أن يتعدّل التفريغ الكهربائي أو يتكرّر في الهواء تكراراً يتكوّن به مقدار كافٍ من الأكاسيد الآزوتية يذوب في ماء السحاب ويُحوّله حمضياً لا يستسيغه الناس.

وهذا هو موضعٌ مَنَّ الله على الناس، إنّه يُكيّف التفريغ بالصورة التي يُنزل بها المطر، ولا يَؤجّ بها الماء.

إنّ شيئاً من ذينك الحمضين لابدّ أن ينزل في ماء العواصف، وهذا ضروريّ لحياة النبات، لكنّ الله برحمته وحكمته قدّر تكوينه بحيث لا يتأذّى به إنسان ولا حيوان، ولو شاء الله لكثّره في ماء المطر فأفسده على الناس.

وسواء شكر الناس هذه النعمة أم كفروها فإنّ قوله تعالى: ( لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً ) إشارة إلى تلك العوامل الكهربائية التي يتكوّن بها المطر، يفهمها مَن يفقه تلك الحقائق السابقة، ومَن يعرف أنّ الطريق الكهربائي هو أحد الطرق العلمية التي يمكن بها تحويل الآزوت الجوّي إلى حمضي، فسبحان الذي أتقن صُنع كلّ شيء وأحكمه إحكاماً.

* * *

٥١٢

( وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً ) (١)

( وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِم ) (٢)

عبّر القرآن الكريم عن الجبال بالأوتاد، وأبان عن وجه الحكمة فيها هي محافظة الأرض دون أن تضطرب بأهلها، فكيف هذا الإيتاد؟ وكيف ذاك الميدان الذي حال دونه وجود الجبال؟

ولفهم هذا الجانب من السؤال لابدّ من النظر في تعابير القرآن أوّلاً، ثمّ ما تعرضه معطيات العلم الحديث.

جاء التعبير بالرواسي عن الجبال في تسع آيات (٣) ، وكانت العاشرة قوله تعالى: ( وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ) (٤) .

والوَتد: المِسمار وكلّ ما رُزّ في الحائط أو الأرض من خشب ونحوه ليُمسك به الشيء كالخباء وشبهه.

قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (وأرزّها فيها أوتاداً) (٥) أي أثبت الجبال في الأرض

____________________

(١) النبأ: ٧.

(٢) الأنبياء: ٣١.

(٣) الرعد: ٣، والنمل: ٦١، والحجر: ١٩، وق: ٧، والنحل: ١٥، ولقمان: ١٠، والأنبياء: ٣١، وفصّلت: ١٠، والمرسلات: ٢٧.

(٤) النازعات: ٣٢.

(٥) نهج البلاغة (صبحي الصالح): الخطبة رقم ١٨٦ ص٢٧٥.

٥١٣

ثبوت الأوتاد رسوخاً وإحكاماً.

قال (عليه السلام): (ووتّد بالصخور ميدانَ أرضه) (١) أي ثبّتها فيها لتحول دون اضطرابها، والميد والميدان: الحركة والاضطراب ضدّ السكون والهدوء.

وفي خطبة أُخرى أوضح هذا المعنى بتفصيل أكثر، قال:

(وجبلَ جلاميدها، ونشوز متونها وأطوادها، فأرساها في مراسيها، وألزمها قراراتها، فمضت رؤوسها في الهواء، ورست قواعدها في الماء، فأنهد جبالَها عن سهولها، وأساخ قواعدَها في متون أقطارها، ومواضعَ أنصابها، فأشهق قِلالَها، وأطال أنشازها، وجعلها للأرض عماداً، وأرزّها فيها أوتاداً، فسكنت على حركتها من أن تميد بأهلها، أو تسيخ بحملها، أو تزول عن مواضعها، فسبحان مَن أمسكها بعد موجان...) (٢) .

واليك شرح الغريب من ألفاظ الخطبة:

جلاميد: جمع جلمود، وهو الصخر الصلب. وجَبل الشيء بمعنى خَلقه وفطره، ومنه الجِبلّة بمعنى الفطرة وأصل الخِلقة.

وأنهد الشيء: رفع به وعظّمه. ومنه النهد بمعنى الثدي. يقال: نهد الثدي أي كَعب وانتَبَر وأشرف.

والأنصاب: جمع نصب هي مواضع نصب الجبال.

وساخ في الشيء: غاص فيه ورسب. وساخ بالشيء: انخسف به. والموجان: الهياج.

* * *

وأمّا ما يُستفاد من هذا الكلام الذهبي فشيء كثير، نُشير إلى ما يخصّ المقام من دلائل جلائل:

____________________

(١) نهج البلاغة (صبحي الصالح): الخطب الأُولى ص٣٩.

(٢) المصدر السابق: الخطبة رقم ٢١١ ص٣٢٨.

٥١٤

قوله (عليه السلام): (ورست قواعدها) أي رسخت أُصول الجبال في أعماق الأرض حيث المياه الجوفية، ولعله إشارة إلى جذور الجبال متّصلةً بعضها ببعض، المُعبّر عنها بسلاسل جبلية محيطة بالأرض.

قوله: (فأنهد جبالَها عن سهولها) كأنّه إشارة إلى مبدأ حدوث الجبال على سطح الأرض، بعد أن كان مستوياً، فتجعّد على أثر برودة القشرة، فكانت نتؤات وانخفاضات؛ وبذلك انقسم وجه الأرض إلى مرتفعات شامخات وهضبات، والى وديان وسهول.

وقوله: (وأساخ قواعدها في متون أقطارها ومواضع أنصابها) أصرح في الدلائل على السلاسل الجبلية المكتنفة بالأرض من جميع أقطارها.

قوله: (وجعلها للأرض عماداً، وأرزّها فيها أوتاداً)؛ لأنّها هي التي حالت دون تفتّتها، ودون اضطراب قشرتها، ودون خروجها عن مداراتها..

تلك ثلاث خِلال، جاءت في وصف الإمام (عليه السلام)، لبيان حكمة نتوء الجبال وتسلسلها الماسكة بأكناف الأرض، وإليك شرح هذا الجانب:

قال (عليه السلام): (فسكنت على حركتها مِن أن تميد بأهلها، أو تسيخ بحملها، أو تزول عن مواضعها..) تلك ثلاث فوائد وحِكم جاءت في كلامه:

(أَوّلاً) هدأت - رغم حركتها الانتظامية - من الميدان والاضطراب، فهي تتحرك بهدوء واتّزان، لا ترتعش ولا تميد ولا تضطرب.

(ثانياً) هدأت واطمأنت واستحكمت قشترها وصَلُبت، فلا تسيخ ولا تنخسف ولا تتشقق قشرتها، وإلاّ لأصبحت قشرة الأرض كلّها براكين وفوهات ونافورات بالموادّ المنصهرة والجلاميد المذابة.

(ثالثاً) هدأت وانتظمت في حركاتها الوضعية والانتقالية على أنحائها وأنواعها، والتي بها انتهجت الحياة عليها منهجها الرتيب، فلا تميل عن مواضعها في دوائرها الدائرة فيها بانتظام.

٥١٥

هذه ثلاث حِكم بينّها الإمام (عليه السلام) أثراً لوجود سلاسل الجبال في الأرض، الأمر الذي يدعمه العلم باكتشافاته وبحوثه وتجاربه.

وتوضيحاً لهذا الجانب نقول: إنّ الأثر العظيم للجبال - في إمكان الحياة على وجه الأرض - إنّما يُعلّله جانب صخرية السلسلة الجبلية المنبثّة في القشرة الأرضية الصلبة، والمتشابكة بعضها مع بعض كأطواق محيطة بأكناف الأرض.

ومِن ثَمّ فالذي يلفت إليه كلام الإمام (عليه السلام) في أُولى خطب نهج البلاغة هو تبديل التعبير بالجبال إلى التعبير بالصخور، قال: (ووتدّ بالصخور ميدان أرضه)، تفسيراً لقوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ ) (١) وهو جانب ذو أهمّية كبيرة؛ حيث الأمر مرتبط بصخرية السلاسل الجبلية دون سائر جوانبها، الأمر الذي يستلفت الأنظار.

وإليك بعض الكلام عن السلسلة الصخور الجبلية، ودورها في توازن الأرض وانتظام حركتها.

إنّ لسلسلة الصخور الجبلية - رافعة وخافضة - دورها الخطير في توازن الأرض وتماسك أجزائها، وهكذا ثبات قشرتها وصلابتها دون تلوّيها واضطرابها، رغم توهّج باطنها والتهاب لظاها.

ومَن درس علوم الطبيعة يعلم أنّ الأرض مطوّقة بأطواق من السلاسل الجبلية التي جعلت الأرض أشد تماسكاً، وقد يعرف حكمة وجهة امتدادها وكيفية اتّصالها مع بعضها، بحيث تكوّنت منها أطواقٌ جبلية طوّقت الأرض تطويقاً على نظام بديع متقن ممّا يستلفت الأنظار، فإذا نظرنا إلى خارطة عالمية طبيعية فيها التضاريس الأرضية ظاهرة ظهوراً جلياً نرى السلاسل الجبلية تمتدّ في كلّ قارّة على طولها بصورة عمومية لا على عرضها، فتكون بمثابة عمود فقري لكلّ منها،

____________________

(١) الأنبياء: ٣١.

٥١٦

وحتى إذا لاحظنا أشباه الجزائر في كلّ قارة فلابدّ أن نرى السلاسل ممتدّة على أطول قسم منها، وكذلك الجزائر الجبلية، مهما كانت صغيرة أو كبيرة، امتّدت فيها السلاسل على طولها أيضاً.

وقد ثبت بصورة قطعية، وذلك عن طريق سبر قاعات البحار والمحيطات، إنّ الغالب من الجزائر ومرتفعاتها ما هي إلاّ امتداداً للسلاسل الجبلية وجزءً منها، حيث انغمر قسمٌ بماء البحر وبقي القسم الآخر كجزائر ظاهرةً على سطح الماء.

فالقارّات كلّها تتّصل بعضها ببعض بسلاسل جبلية عن طريق البر أو البحر.

وممّا يستلفت الأنظار أيضاً وجود طوق من السلاسل تحت البحر قليلاً قرب الساحل الشمالي للقارّات الثلاث الشمالية، يُطوّق المحيط المتجمّد القطبي الشمالي تطويقاً، وقد ظهرت منه كثير من الجزر التي تحفّ بهذا الساحل.

ويقابل ذلك من الجهة من الأرض طوق آخر من السلاسل يُطوّق القارّة القطبية المنجمّدة الجنوبية، وترتبط بالطوقين المذكورين ارتباطاً وثيقاً أطواقٌ أُخر لسلاسل جبلية ممتّدة في القارّات وفي المحيطات من الشمال إلى الجنوب، كأنّها إطارات تشابكت بعضها ببعض، فاستمسكت بعُرى الأرض دون التفتّت والانبثاث وتفرّق ذرّاتها هباءً في الفضاء (١) .

* * *

ومن جانب آخر كانت الأرض ذات لهب في باطنها، إنّها نارٌ موقدة ذات تغيّض وزفير، تكاد تميّز من الغيظ، وتحاول تحطيم القشرة المحيطة بها لولا صلابتها وسمكها الثخين، وما هذه الزلازل ونافورات البراكين إلاّ جانباً ضئيلاً من تلك الثورة والفورة النارية والمتوهّجة في باطن الأرض.

إنّ صلابة القشرة الأرضية العليا - التي بردت منذ أحقاب من الزمان - هي التي كفحت من جِماح باطنها المتوقّد، ولولا صلابتها وضخامة سمكها لتلوّت

____________________

(١) بصائر جغرافية: ص١٠٠ - ١٠٤.

٥١٧

واضطربت اضطراب الأَرشية، ولكانت الزلازل والهزّات الأرضية مستمرة على أشدّها، ولعمّت وجه الأرض كلّها، هذا إلى جانب أخطار خسف الأرض بأهلها وتشقّق أكنافها، لولا أنّ الله تعالى أمسكها بفضله وأسكنها برحمته، ( إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا ) (١) .

هكذا قال سيّدنا الأُستاذ الطباطبائي (قدس سرّه) عند قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ ) -: فيه دلالة على أنّ للجبال ارتباطاً بالزلازل، ولولاها لاضطربت الأرض بقشرتها (٢) .

قال سيّد قطب: الآية تُقرّر أنّ هذه الجبال الرواسي تحفظ توازن الأرض، فلا تميد بهم ولا تضطرب وحفظ التوازن يتحقّق في صور شتّى، فقد يكون توازناً بين الضغط الخارجي على الأرض والضغط الداخلي في جوفها، وهو يختلف من بقعة إلى بقعة، وقد يكون بروز الجبال في موضعٍ معادلاً لانخفاض الأرض في موضع آخر... وعلى أيّة حال فهذا النصّ يُثبت للجبال علاقة بتوازن الأرض واستقرارها، فلنترك للبحوث العلمية كشف الطريقة التي يتمّ بها هذا التوازن، فذلك مجالها الأصيل (٣) .

* * *

وقال الأُستاذ الطنطاوي: مرّت على الأرض أدوار ستة مُقسّمة إلى ٢٦ طبقة، والدور الأَوّل منها كان عبارة عن الزمن الذي كُوّن فيه على الكرة الأرضية النارية قشرةٌ صوانية (٤) صُلبة، ومعلوم أنّ الأرض كانت ناراً ملتهبة فبردت قشرتها وصارت صوانية، وهي الغلاف الحقيقي لتلك الكرة النارية، ولا تزال الأرض

____________________

(١) فاطر: ٤١.

(٢) الميزان: ج١٤ ص٣٠٥.

(٣) في ظِلال القرآن: ج٥ ص٥٣١.

(٤) ضَرب من الحجارة فيه صلابة يتطاير منه الشرر عند قدحه بالزند، استعمله الإنسان في عصر ما قبل التاريخ في صناعة أدواته البسيطة وفي آلات الصيد، وهو حجر صلد من المَرو يوجد في شكل عروق بطبقات الحجر الجيري من الأرض.

٥١٨

تُخرج لنا من أنفاسها المتضايقة ونارها المتّقدة في جوفها كل وقت ناراً بالبراكين.

فهذه البراكين أشبه بأفواه تتنفّس بها الأرض لتَخرج بعض النار من باطنها ثمّ يخرب ذلك البركان وينفتح بركان آخر. وهذه البراكين تُخرج ناراً ومواداً ذائبة تدلّنا على أصل أرضنا، وما كانت عليه قبل الدهر.

فهذه القشرة الصلبة (١) لولاها لتفجّرت ينابيع النار من سائر أطرافها كما كانت بعدما انفصلت من الشمس كثيرة الثورات والفوران، وهذه القشرة الصوانية البعيدة المغلّفة للكرة النارية هي التي نبتت منها هذه الجبال التي نراها فوق أرضنا، كما يقوله علماء طبقات الأرض.

فمن هنا ظهر أنّ هذه الجبال جُعلت لحفظها من أن تميل؛ لأنّ الطبقة الصوانية هي الحافظة لكرة النار التي تحتها، والكرة الصوانية هذه نبتت لها أسنان طالت وامتدّت حتى ارتفعت فوق الأرض، فلو زالت هذه الجبال لبقى ما تحتها مفتوحاً، وإذ ذاك تثور البراكين آلافاً مؤلّفة وتضطرب الأرض اضطراباً عظيماً وتتزلزل زلزالاً شديداً؛ لأنّ البراكين وثوراتها زلزلة.

ثمّ إنّ هذه الجبال قطعة من القشرة، غاية الأمر أنّها ارتفعت، فما هي إذاً إلاّ حافظة للكرة النارية التي لو تُركت لشأنها لاضطربت في أقرب من لمح البصر، فأهلكت الحرث والنسل.

هذه هي المعجزة الأُخرى للقرآن العظيم؛ لأنّ السابقين كانوا يؤمنون به فقط، فظهور ذلك اليوم من المعجزات القرآنية.

ولقد أجمع العلماء قديماً وحديثاً أنّ الجبال على الأرض لا قيمة لها بالنسبة للكرة الأرضية (٢) ، فلو فرضنا أنّ الكرة الأرضية كرة قطرها ذراع لم يكن أرفع

____________________

(١) وقُدّر سمك القشرة الصلبة الأرضية العليا بمئات الأميال (مبادئ العلوم: ص٤٣).

(٢) يبلغ أعلا قُلل جبال الأرض هملايا ٨٧٠٠ متراً. بينما قطر الأرض يبلغ ١٢٧٥٠ كيلومتراً =

٥١٩

الجبال فوقها إلاّ كنحو نصف سبع شعيرة فوقها (١) ، ولو أنّ الأرض كرة قطرها مترٌ واحدٌ لم تزد الجبال عليها مليمتراً واحداً ونصفه (٢) فقط، فما هذا الجزء اليسير بالنسبة لتلك الكرة العظيمة حتّى يمنع ميلها وسقوطها!

نعم، كان الناس يؤمنون بظاهره، وقد ظهرت هذه النبوّة فعلاً في العلم الحديث، ولم تظهر إلاّ على يد مَن كفر بدين الإسلام، والمسلمون لا يعلمون إلاّ من الفرنجة، ونحن نكتب ذلك عنهم، فمنهم وإليهم (٣) .

فصدق الله وجاءت المعجزات العلمية في القرآن تترى كلّما تقدم العلم وازدهرت حقائق العلوم وتجلّت أسرار هذا الكون، ولم يُعرف تفسير القرآن على وجه علميّ برهانيّ إلاّ في هذا العصر، وستنكشف حقائق أُخر في مستقبل الأيّام، فلله درّه من معجزة خالدة خلود الزمان.

* * *

وتمخّض البحث بالنتائج الثلاث التالية:

١ - إنّ للجبال (أي الصخور الجبلية المكتنفة بالأرض) أثراً مباشراً في توازن الأرض دون أن تضطرب، فتحيد عن مداراتها المنتظمة المؤثرة في تنظيم الحياة عليها..

وقد أشار إليه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلامه الآنف: (أو تزول عن مواضعها).

____________________

= والنسبة بينهما تعادل ١/١٤٥٠ تقريباً، وهي نسبة ضئيلة جدّاً، (راجع مباني جغرافياى انسانى لجواد صفى نژاد: ص١٧).

(١) الذي ذكره شارح الجغمينية أنّه نسبة سبع عرض شعيرة إلى كرة قطرها ذراع وهو أربعة وعشرون إصبعاً، والإصبع ستة شعيرات قال: ويلزم أن يكون كنسبة الواحد إلى ألف وثمانية (شرح جغميني: ص١٢ - ١٣).

(٢) ولعلّ هنا سهواً، والصحيح أنّ النسبة مليمتر واحد على كرة قطرها متر ونصف تقريباً.

(٣) تفسير الجواهر ج١٠ ص١٩٨ - ١٩٩.

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579