تلخيص التمهيد الجزء ٢

تلخيص التمهيد10%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 579

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 106151 / تحميل: 10831
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

٤ - مصطفى الرافعي:

وقال الأُستاذ مصطفى صادق الرافعي: وقد كان من عادة العرب أن يتحدّى بعضهم بعضاً في المساجلة والمقارضة بالقصيد والخطب؛ ثقة منهم بقوّة الطبع، ولأنّ ذلك مذهب من مفاخرهم، يستعلون به ويذيع لهم حسن الذكر وعلوّ الكلمة، وهم مجبولون عليه فطرةً، ولهم فيه المواقف والمقامات في أسواقهم، ومجامعهم، فتحدّاهم القرآن في آيات كثيرة أن يأتوا بمثله أو بعضه، وسلك إلى ذلك طريقاً كأنّها قضية من قضايا المنطق التاريخي، فإنّ حِكمة هذا التحدّي وذِكره في القرآن إنّما هي أن يشهد التاريخ في كلّ عصر بعجز العرب عنه وهم الخطباء اللدّ والفصحاء اللُسْن، وهم كانوا في العهد الذي لم يكن للغتهم خير منه ولا خير منهم في الطبع والقوّة، فكانوا مظنّة المعارضة والقدرة عليها، حتّى لا يجيء بعد ذلك فيما يجيء من الزمن، مولّد أو أعجمي أو كاذب أو منافق أو ذو غفلة، فيزعم أنّ العرب كانوا قادرين على مثله.

أمّا الطريقة التي سلكها إلى ذلك فهي أنّ التحدّي كان مقصوراً على طلب المعارضة بالمثل، ثمّ قرن التحدّي بالتأنيب والتقريع، ثمّ استفزّهم بعد ذلك جملةً واحدة، كما يَنفج الرماد الهامد (١) ، فقال: ( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) (٢) فقطع لهم أنّهم لن يفعلوا، وهي كلمة يستحيل أن تكون إلاّ من الله ولا يقولها عربيّ في العرب أبداً، وقد سمعوها واستقرّت فيهم ودارت على الألسنة، وعرفوا أنّها تنفي عنهم الدهر نفياً وتعجزهم آخر الأبد، فما فعلوا ولا طمعوا قطّ أن يفعلوا، وطارت الآية بعجزهم وأسجلته عليهم ووسمتهم على ألسنتهم.

تأمّل نظم الآية تجد عجباً، فقد بالغ في اهتياجهم واستفزازهم ليثبت أنّ

____________________

(١) نفجت الريح: هاجت وجاءت بشدّة.

(٢) البقرة: ٢٣ و٢٤.

٦١

القدرة فيهم على المعارضة كقدرة الميّت على أعمال الحياة، لن تكون ولن تقع! فقال لهم: لن تفعلوا! أي هذا منكم فوق القوّة وفوق الحيلة وفوق الاستعانة وفوق الزمن، ثمّ جعلهم وقوداً، ثمّ قرنهم إلى الحجارة، ثمّ سمّاهم كافرين، فلو أنّ فيهم قوّة بعد ذلك لانفجرت، ولكن الرماد غير النار.

فلمّا رأوا هممهم لا تسموا إلى ذلك، ولا تقارب المطمعة فيه، وقد انقطعت بهم كلّ سبيل إلى المعارضة، بذلوا له السيف كما يبذل المُحرَج آخر وسعه (آخر الدواء الكيّ) وأخطروا بأنفسهم وأموالهم، وانصرفوا عن توهّن حجّته إلى تهوينها على أنفسهم بكلام من الكلام، فقالوا: ساحر، ومجنون، ورجل يكتتب أساطير الأوّلين، وإنّما يعلّمه بشر، وأمثال ذلك ممّا أخذت به الحجّة عليهم وكان إقراراً منهم بالعجز (١) .

قال: وكان أُسلوب الكلام عند العرب قبيلاً واحداً وجنساً معروفاً، ليس إلاّ الحر من المنطق والجزل من الخطاب، وإلاّ اطّراد النسق وتوثيق السرد وفصاحة العبارة وحسن ائتلافها، فلمّا ورد عليهم أُسلوب القرآن رَأوا ألفاظهم بأعيانها متساوقة فيما أَلفوه من طرق الخطاب وألوان المنطق، ليس في ذلك إعنات ولا معاياة، غير أنّهم ورد عليم - من طرق نظمه، ووجوه تركيبه، ونسق حروفه في كلماتها، وكلماته في جملها، ونسق هذه الجمل في جملته، ما أذهلهم عن أنفسهم، من هيبة رائعة وروعة مخوفة، وخوف تقشعرّ منه الجلود، حتّى أحسّوا بضعف الفطرة وتخلّف المَلَكة، ورأى بلغاؤهم أنّه جنس من الكلام غير ما هم فيه فاستيأسوا من حقّ المعارضة؛ إذ وجدوا من القرآن ما يغمر القوّة ويحيل الطبع ويخاذل النفس، مصادمة لا حيلة، لا خدعة، ولهذا انقطعوا عن المعارضة (٢) .

ثم أخذ في بيان وجه هذا الإعجاز وسّره الكامن وراء جمال لفظه وروعة بيانه، قال: ذلك بعض ما تهيّأ لنا من القول في الجهات التي اختصّ بها أُسلوب القرآن، فكانت أسباباً لانقطاع العرب دونه وانخذالهم عنه، وتلك أسباب لا يمكن أن

____________________

(١) إعجاز القرآن: ص١٦٩ - ١٧٠.

(٢) المصدر: ص١٨٨ - ١٨٩.

٦٢

يكون شيء منها في كلام بلغاء الناس من أهل هذه اللغة؛ لأنّها خارجة عن قُوى العقول وجماع الطبائع، ولا أثر لها في نفس كلّ بليغ إلاّ استشعار العجز عنها والوقوف من دونها، وإنّما تلك الجهات صفات من نظم القرآن وطريقة تركيبه، فنحن الآن قائلون في سرّ الإعجاز الذي قامت عليه هذه الطريقة وانفرد به ذلك النظم، وهو سرّ لا ندّعي أنّنا نكشفه أو نستخلصه أو ننتظم أُسلوبه، وإنّما جهدنا أن نومئ إليه من ناحية ونُعيّن بعض أوصافه من ناحية، فإنّ هذا القرآن هو ضمير الحياة، وهو من اللغة كالروح الإلهية التي تستقرّ في مواهب الإنسان فتضمن لآثاره الخلود.

والكلام بالطبع يتركّب من ثلاثة: حروف هي من الأصوات، وكلمات هي من الحروف، وجمل هي من الكَلِم، وقد رأينا سرّ الإعجاز في نظم القرآن يتناول هذه كلّها، ولهذا النظم طريقة خاصّة اتّبعها القرآن الكريم كانت غريبةً على العرب وفي نفس الوقت رائعةً تستأنس إليها النفوس.

إنّ طريقة النظم التي اتّسقت بها ألفاظ القرآن وتألّفت لها حروف هذه الألفاظ إنّما هي طريقة يُتوخى بها إلى أنواع من المنطق وصفات من اللهجة لم تكن على هذا الوجه من كلام العرب، ولكنّها ظهرت فيه أَوّل شيء على لسان النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، فجعلت المسامع لا تنبو عن شيء من القرآن، ولا تلوي من دونه حجاب القلب، حتّى لم يكن لمَن سمعه بُدّ من الاسترسال إليه والتوفّر على الإصغاء، لا يستمهله أمر من دونه وإن كان أمر العادة، ولا يستنسئه الشيطان وإن كانت طاعته عندهم عبادة، فإنّه إنّما يسمع ضرباً خالصاً من (الموسيقى اللغوية) في انسجامه واطّراد واتّزانه على أجزاء النفس مقطعاً مقطعاً ونبرةً نبرةً كأنّها توقعه توقيعاً ولا تتلوه تلاوة!

وهذا نوع من التأليف لم يكن منه في منطق أبلغ البلغاء وأفصح الفصحاء إلاّ الجمل القليلة، التي إنّما تكون روعتها وصيغتها وأوزان توقيعها من اضطراب النفس الحاصل في بعض مقامات الحماسة أو الفخر أو الغزل أو نحوها، فتنتزي بكلام تلفظه العاطفة أحياناً.

٦٣

وكان العرب يترسّلون أو يحذمون (١) في منطقهم كيفما اتّفق لهم، لا يراعون أكثر من تكييف الصوت دون تكييف الحروف، اللهم إلاّ بتعمّل يأتونه على نمط الموسيقى، وهي غاية ما عرفوه من نظم الكلام.

فلمّا قُرئ عليهم القرآن رأوا حروفه في كلماته وكلماته في جمله، ألحاناً لغويّة رائعة، كأنّها لائتلافها وتناسبها قطعة واحدة، قراءتها هي توقيعها - (وكلّ الذين يدركون أسرار الموسيقى وفلسفتها النفسية اليوم لا يَرون في الفنّ العربي بجملته شيئاً يعدل هذا التناسب الذي طبيعي في كلمات القرآن وأصوات حروفها، وما منهم مَن يستطيع أن يغتمز في ذلك حرفاً واحداً، ويعلو القرآن على الموسيقى، إنّه مع هذه الخاصّية العجيبة ليس من الموسيقي) - والعرب لم يفتهم هذا المعنى، وإنّه أمرٌ لا قِبَل لهم به، وكان ذلك أبين في عجزهم، حتّى أنّ مَن عارضه منهم - كمُسيلمة - جنح في خرافاته إلى ما حسبه نظماً موسيقياً أو باباً منه، وطوى عمّا وراء ذلك من التصرّف في اللغة وأساليبها ومحاسنها ودقائق التركيب البياني، كأنّه فطن إلى أنّ الصدمة الأُولى للنفس العربية إنّما هي في أوزان الكلمات وأجراس الحروف دون ما عدها، وليس يتّفق ذلك في شيء من كلام العرب إلاّ أن يكون وزناً من الشعر أو السجع.

وأنت تتبيّن ذلك إذا أنشأت تُرتّل قطعةً من نثر فصحاء العرب أو غيرهم على طريقة التلاوة في القرآن - ممّا تُراعى فيه أحكام القراءة وطرق الأداء - فإنّك لابدّ ظاهر بنفسك على النقص في كلام البلغاء وانحطاطه في ذلك عن مرتبة القرآن، بل ترى كأنّك بهذا التحسين قد نكّرت الكلام وغيّرته، فأخرجته من صفة الفصاحة، وجرّدته من زينة الأُسلوب.. لأنّك تزنه على أوزان لم يتّسق عليها.

وحسبك بهذا اعتباراً في إعجاز النظم الموسيقي في القرآن، وأنّه ممّا لا يتعلق به أحد، ولا يتّفق على ذلك الوجه الذي هو فيه إلاّ فيه، لترتيب حروفه باعتبار من أصواتها ومخارجها، ومناسبة بعض ذلك لبعضه مناسبة طبيعية في الهمس والجهر،

____________________

(١) الحذم في القراءة: الإسراع.

٦٤

والشدّة والرخاوة، والتفخيم والترقيق، والتفشّي والتكرير، وغير ذلك ممّا جاء في صفات الحروف.

ولقد كان هذا النظم عينه هو الذي صفّى طباع البلغاء بعد الإسلام، وتولّى تربية الذوق الموسيقيّ اللغويّ فيهم، حتّى كان لهم من محاسن التركيب في أساليبهم - ممّا يرجع إلى تساوق النظم واستواء التأليف - ما لم يكن مثله للعرب من قبلهم، وحتّى خرجوا عن طرق العرب في السجع والترسّل - على جفاء كان فيهما - إلى سجع وترسّل تتعرّف في نظمهما آثار الوزن والتلحين.

وليس يخفى أن مادّة الصوت هي مظهر الانفعال النفسي، وأنّ هذا الانفعال بطبيعته إنّما هو سبب في تنويع الصوت، بما يخرجه فيه مدّاً أو غنّةً أو ليناً أو شدّةً، وبما يُهيّئ له من الحركات المختلفة في اضطرابه وتتابعه على مقادير تناسب ما في النفس من أصولها، ثمّ هو يجعل الصوت إلى الإيجاز والاجتماع، أو الإطناب والبسط، بمقدار ما يكسبه من الحدوة والارتفاع والاهتزاز وبُعد المدى ونحوها، ممّا هو بلاغة الصوت في لغة الموسيقى.

وهذه هي طريق الاستهواء الصوتيّ في اللغة، وأثرها طبيعيّ في كلّ نفس، فهي تشبه في القرآن الكريم أن تكون صوت إعجازه الذي يخاطب به كلّ نفس تفهمه، وكلّ نفس لا تفهمه، ثمّ لا يجد من النفوس على أيّ حال إلاّ الإقرار والاستجابة، وقد انفرد بهذا الوجه للعجز، فتألّفت كلماته من حروف، لو سقط واحد منها أو أُبدل بغيره أو أُقحم معه حرف آخر لكان ذلك خللاً بيّناً، أو ضعفاً ظاهراً في نسق الوزن وجرس النغمة، وفي حسّ السمع وذوق اللسان، وفي انسجام العبارة وبراعة المخرج، وتساند الحروف وإفضاء بعضها إلى بعض، ولرأيت لذلك هُجنة في السمع.

وممّا انفرد به القرآن على سائر الكلام أنّه لا يُخلق على كثرة الردّ وطول التكرار، ولا تملّ منه الإعادة، وكلّما أخذت فيه على وجه ولم تُخلّ بأدائه رأيته غضّاً طريّاً وجديداً مونقاً، وصادفت من نفسك نشاطاً مستأنفاً وحسّاً موفوراً.

٦٥

وهذا لعَمرو الله أمر يُوسّع فكر العاقل ويملأ صدر المُفكّر، ولا نرى جهة تعليله ولا نُصحّح منه تفسيراً إلاّ ما قدّمنا من إعجاز النظم بخصائصه الموسيقية، وتساوق هذه الحروف على أُصول مضبوطة من بلاغة النغم بالهمس والجهر والقلقلة والصفير والمدّ والغنّة... على اختلاف أنحائها بسطاً وإيجازاً، وابتداءً وردّاً، وإفراداً وتكريراً.

والكلمة في حقيقة وصفها إنّما هي صوت للنفس؛ لأنّها تُلبّس قطعة من المعنى فتختصّ به على مناسبة لَحِظتها النفس فيها حين فصّلت تركيب الكلام.

وصوت النفس أَوّل الأصوات الثلاثة التي لابدّ منها في تركيب النسق البليغ، حتّى يستجمع الكلام بها أسباب الاتّصال بين الألفاظ ومعانيها، وبين هذه المعاني وصورها النفسيّة، والأصوات الثلاثة هي:

١ - صوت النفس ، وهو الصوت الموسيقي الذي يكون من تأليف النغم بالحروف ومخارجها وحركاتها، ومواقع ذلك من تركيب الكلام ونظمه.

٢ - صوت العقل ، وهو الصوت المعنويّ الذي يكون من لطائف التركيب في جملة الكلام ومن الوجوه البيانية التي يُداور بها المعنى في أيّ جهة انتحى إليها.

٣ - صوت الحسّ ، وهو أَبلغهنّ شأناً، لا يكون إلاّ من دقّة التصورّ المعنوي والإبداع في تلوين الخطاب، ومجاذبة النفس مرّة وموادعتها أُخرى.

وعلى مقدار ما يكون في الكلام البليغ من هذا الصوت يكون فيه من روح البلاغة، بل صار كأنّه روح للكلام ذاته، يبادرك الروعة في كلّ جزء منه كما تبادرك الحياة في كلّ حركة للجسم الحيّ، كأنّه تمثيل بألفاظ لخلقة النفس، في دِقة التركيب وإعجاز الصنعة.

ولو تأمّلت هذا المعنى فضلاً من التأمّل وأحسنت في اعتباره على ذلك الوجه لرأيته روح الإعجاز في هذا القرآن الكريم.

وأعجب شيء في أمر هذا الحسّ الذي يتمثّل في كلمات القرآن أنّه لا يسرف على النفس ولا يستفرغ مجهودها، بل هو مقتصد في كلّ أنواع التأثير عليها، فلا

٦٦

تضيق به ولا تنفر منه ولا يتخوّنها المِلال ولا يُسوّغها من لذّتها ويرفّه عليها بأساليبه وطرقه في النظم والبيان.

ولو تدبّرت ألفاظ القرآن في نظمها لرأيت حركاتها الصرفية واللغوية تجري في الوضع والتركيب مجرى الحروف أنفسها فيما هيئ له من أمر الفصاحة فيهيّئ بعضها لبعض، ويساند بعضاً، ولن تجدها إلاّ مؤتلفة مع أصوات الحروف، مساوقة لها في النظم الموسيقي، حتّى أنّ الكلمة ربّما كانت ثقيلةً في نفسها لسبب من أسباب الثقل أيّها كان، فلا تعذب ولا تساغ، وربّما كانت أوكس النصيبينِ في حظّ الكلام من الحرف والحركة، فإذا هي استُعملت في القرآن رأيت لها شأناً عجيباً، ورأيت أصوات الأحرف والحركات التي قبلها قد امتهدت لها طريقاً في اللسان، واكتنفتها بضروب من النغم الموسيقي، حتّى إذا خرجت فيه كانت أعذب شيء وأرقّه، وجاءت متمكّنة في موضعها، وكانت لهذا الموضع أولى الحركات بالخفّة والروعة.

من ذلك لفظ ( النُذُر ) جمع نذير، فإنّ الضمّة ثقيلة فيها لتواليها على النون والذال معاً فضلاً عن جسأة هذا الحرف ونبوّه في اللسان، وخاصّة إذا جاءت فاصلة للكلام، فكلّ ذلك ممّا يكشف عنه ويفصح عن موضع الثقل فيه، ولكنّه جاء في القرآن، على العكس وانتفى من طبيعته في قوله تعالى: ( وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ ) (١) ، فتأمّل هذا التركيب وأمعن ثمّ أمعن على تأمّله، وتذوّق مواقع الحروف واجرِ حركاتها في حسّ السمع، وتأمّل مواضع القلقلة في دال (لقد)، وفي الطاء من ( بَطْشَتَنَا ) ، وهذه الفتحات المتوالية فيما وراء الطاء إلى واو ( فَتَمَارَوْا ) ، مع الفصل بالمدّ، ثمّ اعجب لهذه الغنّة التي سبقت الطاء في نون ( أَنذَرَهُمْ ) وفي ميمها، وللغنّة الأُخرى التي سبقت الذال في ( النُّذُرِ ) .

وما من حرف أو حركة في الآية إلاّ وأنت مصيب من كلّ ذلك عجباً في موقعه والقصد به.

____________________

(١) القمر: ٣٦.

٦٧

قال: إنّما تلك طريقةٌ في النظم قد انفرد به القرآن، وليس من بليغ يعرف هذا الباب إلاّ وهو يتحاشى أن يلمّ به من تلك الجهة أو يجعل طريقه عليها، فإن اتّفق له شيء منه كان إلهاماً ووحياً، لا تقتحم عليه عليه الصناعة ولا يتيسّر له الطبع بالفكر والنظر، فلا يتهيّأ لأحد من البلغاء في عصور العربية كلّها من مَعارض الكلام وألفاظه ما يتصرّف به هذا التصرّف في طائفة أو طوائف من كلامه، على أن يضرب بلسانه ضرباً موسيقياً، وينظم نظماً مطّرداً، فهذا إن أمكن أن يكون في كلام ذي ألفاظ فليس يستقيم في ألفاظ ذات معانٍ، فهو لغو من إحدى الجهتين ولو أنّ ذلك ممكن، لقد كان اتّفق في عصر خلا من ثلاثة عشر قرناً، ونحن اليوم في القرن الرابع عشر من تاريخ تلك المعجزة (١) .

ثمّ أخذ في ضرب أمثلة من ألفاظ وكلمات كانت غريبة وثقيلة، لكنّها جاءت في القرآن في مواقعها الخاصّة أليفة وخفيفة في أبدع ما يكون وأورع ما يتصوّر، ( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) (٢) ، وسنذكر تفاصيلها في مجاله الآتي إن شاء الله.

٥ - كاشف الغطاء:

ولعلاّمة الأُدباء وفقيه الحكماء الشيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء (توفّي سنة ١٣٧٣) كلام تحقيقيّ عميق وبيان تفصيليّ رشيق حول إعجاز القرآن، أتى به على أُسلوبه الفنّي البديع وسبك إنشاءه الأدبي الرفيع حبى به موسوعته القيّمة (الدين والإسلام) التي وضعها لترصيص قواعد الدعوة وترصيف مباني الشريعة في ضوء الحكمة العالية وهدى العقل الرشيد. فكان من الحريّ أن نقتطف من رياحين حدائقه الغنّاء أزهاراً، ونجتني من رياض حقوله الخصباء أنواراً.

قال (قدس سرّه): قد ثبتت التواترات القطعية وقامت الضرورة البتية أنّ صاحب

____________________

(١) إعجاز القرآن للرافعي: ص٢٠٩ - ٢٢٩.

(٢) هود: ١.

٦٨

الشريعة الإسلامية محمّد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله) قد ادّعى النبوّة، وتحدّى بالمعجزة وطلب المعارضة، وأتى بما هو الشائع على أهل زمانه، والمتنافس عليه عند قومه، وكانت بلدته أخصب البلاد لإيناع تلك الثمرة المنضجة، وتربية أساطين تلك الصنعة الرائجة... ولمّا دعاهم إلى تلك الدعوة المقدّسة، طغوا وبغوا عليه، وشقّ عليهم ذلك حتّى تخاوصوا بحماليق الحنق إليه (١) .

وما تحدّاهم إلاّ بالمألوف لهم، المأخوذ عنهم والمسوق إليهم، ولم يزل يلحّ عليهم بأنحاء شتّى وعبارات متفاوتة، حتّى اعترف بالعجز عريفهم، وتلدَّد تَليدهم وطريفهم، وصقع مصاقعهم (٢) ، وعاد لبيدهم بليداً وشيبتهم وليداً، وقائمهم حصيداً، وعالمهم أبا جهل، وسهيلهم على السهل، وعتبتهم اعتاهم، وأبو لهبهم أخمدهم وأخواهم، وعبد شمسهم آفلاً، ونابغتهم خاملاً، وحيّ أخطبهم ميّتاً، وهشامهم مخزوماً، ومخزومهم مهشوماً، وسراتهم اُسارى، وكبّارهم من الصَغار صغارا.

ثمّ قنع منهم بعشر سور من سوره المُنزلة، ثم تنزّل معهم - وهو الرفيع - إلى أدنى منزلة، فقنع منهم بأن يأتوا بعشر آيات، رضي منهم بسورة واحدة... فالتجأوا إلى مفاوضة الحتوف عن معارضة الحروف، وعقلوا الألسنة والعقول واعتقلوا الأسنّة والنصول، ورضوا بكلم الجراح عن الكلم الفصاح، وفرّوا إلى سعة آجالهم من ضيق مجالهم... فما انجلت غبرة الضلال عن جبهة الحقّ إلاّ وهم بأَسرهم أسرى أو قتلى، إلى أن عادت كلمة الله هي العليا، وكلمة أعدائه هي السفلى.

وهكذا ما تصدّى في الأزمنة المتأخّرة لمعارضته إلاّ مأفون الرأي مايق العقل (٣) ، ومن الأعاجيب أنّك ترى الرجل في جميع المقامات فارس يليلها (٤)

____________________

(١) التخاوص: النظر الشزر. والحَملقة: والتحديق والنظر بشدّة.

(٢) التلدّد: التحيّر، التَليد: الأصيل، الطريف: الحديث الشرف، صُقع: صُرع. والمصقع: البليغ في خطابتة.

(٣) أفن: ضعف رأيه فهو أفين ومأفون، وماق الرجل: حمق في غباوة.

(٤) يَليل: اسم جبل معروف بالبادية، وموضع قرب وادي الصفراء من أعمال المدينة، وإليه نُسب عمرو بن عبدود: فارس يليل.

٦٩

حتى إذا تصدّى - من ضعف في دينه، أو خور في عود يقينه، أو زندقة في هواه، أو وصم عهّار في عصاه - إلى مقاومة ذلك المقام ومعارضة معجز ذلك النظام، أفحم وتبلّد، وأبكم وتلدّد (١) هذا مسيلمة وسجاح من الأوّلينَ.. والمتنبّي والمعرّي وأضرابهم من الآخرين، كلَّ يزعم أنّه أتى بما يضاهي القرآن، فهل تجد فيه إلاّ ما يُضحك الصبيان... ( مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (٢) .

ثمّ أخذ في بيان أوجه إعجازهنّ:

أوّلاً: ارتفاع فصاحته واعتلاء بلاغته، بما لا يدانيه أيّ كلام بشريّ على الإطلاق... وضرب (رحمه الله) لذلك أمثلة من جلائل آياته العظام وأطنب بما بلغ الغاية القصوى.

ثانياً: صورة نظمه العجيب وأُسلوبه الغريب المخالف لأساليب كلام العرب ومناهج نظمها ونثرها، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير، ولا استطاع أحد مماثلة شيء منه، بل حارت فيه عقولهم، وتدلّهت دونه أحلامهم، ولم يهتدوا إلى مثله في جنس كلامهم من نثر أو نظم أو سجع أو رجز أو شعر، هكذا اعترف له أفذاذ العرب وفصحاؤهم الأوّلون....

ثالثاً: ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيّبات ممّا لم يكن، فكان كما قال، ووقع كما أَخبر، في آياتٍ كثيرةٍ معروفة.

رابعاً: ما أنبأ من أخبار القرون السالفة والأُمم البائدة والشرائع الداثرة، ممّا كان لا يَعلم به إلاّ الفذّ من أحبار أهل الكتاب في صورة ناقصة ومشوّهة، فأتى به القرآن على وجهه الناصع المضيء، بما يشهد صدقَه وصحّتَه كلّ عالم وجاهل، في حين أنّه (صلّى الله عليه وآله) لم يقرأ ولم يكتب، ولم يعهد دراسته لأحوال الماضين.

وأخيراً، أتمّ كلامه ببيان البلاغة وشأنها الرفيع وشأوها البعيد، وأنّ العرب مهما أُوتوا من إحكام مبانيها وإتقان رواسيها فإنّ القرآن هو الذي روّج من هذا الفنّ وأشاد من منزلته، بل وعرّف البلغاء البلاغة والكتابة والبيان، وبذلك أسدى

____________________

(١) تلدّد: تلجلج وأفحم عن التكلّم.

(٢) الحج: ٧٤.

٧٠

إلى العربية جسيم نعمه، وأسبغ عليها عميم رحمة وفضل وكرامة (١) .

وفي تعقيب كلامه تعرّض لشبهات هي نزعات بل نزغات، سوف نعرضها في مجالها المناسب الآتي إن شاء الله.

٦ - الحجّة البلاغي:

وللحجّة البلاغي الشيخ محمّد جواد - صاحب تفسير (آلآء الرحمان) - اختيار مذهب السلف في وجه الإعجاز، فقد خصّ العرب بجانب بيانه السحري العجيب في مثل نظمه البديع وأُسلوبه الغريب وإن اشتركوا مع سائر الناس بوجوه أُخرى غيره.

منها: سرده حوادث تاريخية ماضية كانت معروفة في كتب السالفين بوجه محرّف، فجاء بها القرآن نقيةً لامعة، ممّا لا يمكن الإتيان به من مثل النبيّ الأُمّيّ العربيّ.

ومنها: احتجاجاته المضيئة وبراهينه الحكيمة، التي كشفت النقاب عن حقائق ومعارف كانت خفية ومستورة لذلك العهد، حجبتها ظلمات الضلال المتراكمة في تلك العصور المظلمة، تلك الظلمات التي استولت على أرجاء العالم.

ومنها: استقامة بيانه وسلامته من النقض والاختلاف: ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) (٢) ، ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ) (٣) .

فقد خاض القرآن في فنون المعارف وشتّى العلوم ممّا يتخصّص به الممتازون من علماء البشر، فقد طرق أبواب الفلسفة والسياسة والإدارة وأصلح من علم اللاهوت والأخلاق والسُنن والآداب، وأتى بالتشريع المدني والنظام الإداري والفنّ الحربي، وأرشد وذكّر ووعظ، وهدّد وأنذر، في أحسن أُسلوب

____________________

(١) راجع الدين والإسلام: ج٢، ص٥٣ - ١٢٧.

(٢) الإسراء: ٩.

(٣) النساء: ٨٢.

٧١

وأقوم منهج وأبلغ بيان، لم تشنه زلّة ولم تنقضه عثرة، ولا وهن ولا اضطرب ولا سقط في حجة وبرهان، الأمر الذي لا يمكن صدوره من مثل إنسان عاش في تلك البيئة الجاهلة البعيد عن معالم الحضارة وأُسس الثقافات.

ومنها: إعجازه من وجهة التشريع العادل ونظام المدنية الراقية، ممّا يترفّع بكثير عن مقدرة البشر الفكرية والعقلية ذلك العهد، ولا سيّما إذا قارنّاه مع شرائع كانت دارجة في أوساط البشر المتديّنة أو المتمدّنة فيما زعموا.

ومنها: استقصاؤه للأخلاق الفاضلة ومبادئ الآداب الكريمة، ممّا كانت تنبو عن مِثل تلك العادات والرسوم التي كانت سائدةً إلى ذلك العهد.

ومنها: إخباراته الغيبية وإرهاصاته بتحكيم هذا الدين وإعلاء كلمة الله في الأرض في صراحة ويقين.

قال: هذا شيء قليل من البيان في الوجهات المذكورة، وهَب أنّ الوساوس تقتحم على الحقائق وتُخالط الأذهان بواهيات الشكوك، ولكن الزَبد يَذهب جفاءً فأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، وهل يسوغ لذي شعور أن يختلج في ذهنه الشكّ بعد هذا في إعجاز القرآن؟ وهو الكتاب الجامع بفضيلته لهذه الكرامات الباهرة، وخروجه عن طوق البشر مطلقاً، وخصوماً في ذلك العصر وفي تلك الأحوال، وهل يسمح عقله إلاّ بأن يقول: ( إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) (١) وصدق الله العظيم (٢) .

٧ - العلاّمة الطباطبائي:

وهكذا ذهب سيّدنا الطباطبائي مذهب شيخه البلاغي في وجوه الإعجاز، قال: وقع التحدّي الصريح بوجه عامّ، ولم يخصّ جانب بلاغته فحسب ليختصّ بالعرب العرباء أو المخضرمين قبل أن يفسد لسانهم بالاختلاط مع الأجانب، وكذا

____________________

(١) النجم: ٤.

(٢) راجع تفصيل ما اقتضبناه من مقدّمة تفسيره (آلاء الرحمان): ص٣ - ١٦.

٧٢

كلّ صفة خاصّة اشتمل عليها القرآن، كالمعارف الحقيقة والأخلاق الفاضلة والأحكام التشريعية، وإخباره بالمغيّبات وغيرها ممّا لم تبلغها البشرية ولم يمكنها بلوغ كنهها إطلاقاً، فالتحدّي يشمل الجميع، وفي جميع ما يمكن فيه التفاضل من الصفات.

فالقرآن آية للبليغ في بلاغته، وللحكيم في حكمته، وللعالم في علمه، وللمتشرّعينَ في تشريعاتهم، وللسياسيّين في سياساتهم، وللحكّام في أحكامهم وقضاياهم، ولجميع أرباب الفنون والمعارف فيما لا يبلغون مداه ولا ينالون قصواه.

وهل يجترئ عاقل أن يأتي بكتاب يدّعي فيه هدىً للعالمين وإخباراً عن الغيب، ويستطرق أبواباً مختلفة من دون ما اختلافٍ أو تناقضٍ أبداً، فلا يشكّ لبيب أنّ تلك مزايا كلّها فوق مستطاع البشرية ووراء الوسائل المادّية البحتة.

فقد تحدّى بالعلم والمعرفة الخاصة ( تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ ) (١) .

وتحدّى بمَن أُنزل عليه ( قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) (٢) .

وتحدّى بالإخبار بالغيب ( تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ ) (٣) .

وتحدّى بعدم الاختلاف ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ) .

وتحدّى ببلاغته ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ ) (٤) .

وقد مضت القرون والأحقاب ولم يأتِ بما يناظره آتٍ ولم يعارضه أحد

____________________

(١) النحل: ٨٩.

(٢) يونس: ١٦.

(٣) هود: ٤٩.

(٤) هود: ١٣ و١٤.

٧٣

بشيء إلاّ أخزى نفسه وافتضح في أمره (١) .

٨ - السيد الخوئي:

وعلى نفس المنهج ذهب سيّدنا الأُستاذ الخوئي دام ظلّه، وإذ قد عرفت أنّ القرآن معجزة إلهية، في بلاغته وأُسلوبه، فاعلم أنّ إعجازه لا ينحصر في ذلك، بل هو معجزة ربّانية، وبرهان صدق على النبوّة من جهات شتّى: من جهة اشتماله على معارف حقيقية نزيهة عن شوائب الأوهام والخرافات، التي كانت رائجة ذلك العهد، ولا سيّما عند أهل الكتاب، ومن جهة استقامته في البيان وسلامته عن الاختلاف، مع كثرة تطرّقه لمختلف الشؤون، وتكرّر القَصص والحِكم فيه مع الاشتمال كلّ مرّة على حكمة ومزيّة فيها لذّة ومتعة، ومن جهة ما أتى به من نظام قويم وتشريع حكيم، ومن جهة إتقانه في المعاني وإحكامه في المباني، ومن جهة إخباره عن مغيّبات وأنباء عمّا سلف أو يأتي وظهور صدقه للملأ، وكذا من جهة اشتماله على بيان أسرار الخليقة ممّا يرتبط وسنن الكون ونواميس الطبيعة، ممّا لا سبيل إلى العلم به ولا سيّما في ذلك العهد.

وأخيراً قال دام ظلّه: بل أعود فأقول: إنّ تصديق مثل أمير المؤمنين علي (عليه السلام) - وهو بطل العلم والمعرفة والبيان - لإعجاز القرآن لشاهد صدقٍ على أنّه وحيُ إلهي، تصديقاً حقيقياً مطابقاً للواقع وناشئاً عن الإيمان الصادق، وهو الحقّ المطلوب (٢) .

* * *

____________________

(١) راجع الميزان في تفسير القرآن: ج١، ص٥٧ - ٦٧.

(٢) البيان في تفسير القرآن: المقدّمة ص٤٣ - ٩١.

٧٤

حقيقة القول بالصِّرفة

هناك قول في وجه الإعجاز - لعلّه يخالف رأي الجمهور - هو: أنّ الآية والمعجزة في القرآن إنّما هي لجهة صرف الناس عن معارضته، صرفَهم الله تعالى أن يأتوا بحديث مثله، وأمسك بعزيمتهم دون القيام بمقابلته، ولولا ذلك لاستطاعوا الإتيان بسورة مثله، وهذا التثبيط في نفسه إعجاز خارق للعادة، وآية دالّة على صدق نبوّته (صلّى الله عليه وآله).

وهذا المذهب فضلاً عن مخالفته لآراء جمهور العلماء فإنّه خطير في نفسه، قد يُوجب طعناً في الدين والتشنيع بمعجزة سيد المرسلين (صلّى الله عليه وآله) الطاهرين أن لا آية في جوهر القرآن ولا معجزة في ذاته، وإنّما هو لأمر خارج هو الجبر وسلب الاختيار، وهو ينافي الاختيار الذي هو غاية التشريع والتكليف، وغير ذلك من التوالي الفاسدة (١) .

____________________

(١) قال الرافعي - بشأن الآثار السيّئة التي خلّفها القول بالصِّرفة -: على أنّ القول بالصِّرفة هو المذهب الناشئ من لدن قال بن النظّام، يصوّبه فيه قوم ويشايعه عليه آخرون، ولولا احتجاج هذا البليغ لصحّته وقيامه عليه وتقلّده أمره لكان لنا اليوم كتب ممتعة في بلاغة القرآن وأسلوبه وإعجازه اللغوي وما إلى ذلك، ولكن القوم عفا الله عنهم أخرجوا أنفسهم من هذا كلّه، وكفوها مؤونته بكلمة واحدة تعلّقوا عليها، فكانوا فيها جميعاً كقول هذا الشاعر الظريف =

٧٥

الأمر الذي استدعى تفصيل الكلام حوله والتحقيق عن جوانبه بما يتناسب مع وضع الكتاب.

حقيقة مذهب الصرف:

الصَّرف: مصدر (صرفه) بمعنى ردّه، والأكثر استعماله في ردّ العزيمة، قال تعالى: ( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ ) (١) .

قال السيّد شبّر: أي عن إبطال دلائلي، ومعناه - كما ذكره الطبرسي في المجمع -: سأفسخ عزائمهم على إبطال حججي بالقدح فيها وإمكان تكذيبها؛ وذلك بوفرة الدلائل الواضحة والتأييد الكثير، بما لا يدع مجالاً لتشكيك المعاندين ولا ارتياب المرتابين، كما يقال: فلان أخرسَ أعداءه عن إمكان ذمّه والطعن فيه، بما تحلّى من أفعاله الحميدة وأخلاقه الكريمة.

ومنه قوله تعالى - بشأن المنافقين -: ( ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون ) (٢) وهذا دعاء عليهم بصرف قلوبهم عن إرادة الخير؛ لكونهم قوماً حاولوا التعمية على أنفسهم فضلاً عن الآخرين..

* * *

وعلى ذلك فقد اختلفت الأنظار في تفسير مذهب الصرف على ما أراده أصحابه، قال الأمير يحيى بن حمزة العلوي الزيدي (توفّي سنة ٧٤٩ هـ): واعلم أنّ قول أهل الصرفة يمكن أن يكون له تفسيرات ثلاثة، لما فيه من الإجمال وكثرة الاحتمال.

التفسير الأوّل: أن يُريدوا بالصرفة أنّ الله تعالى سلب دواعيهم إلى المعارضة

____________________

= الذي يقول:

كأَنّنا والماء من حولنا

قومٌ جلوس حولهم ماء

(الإعجاز: ص١٤٦).

(١) الأعراف: ١٤٦.

(٢) التوبة: ١٢٧.

٧٦

مع أنّ أسباب توفّر الدواعي في حقّهم حاصلة من التقريع بالعجز، والاستنزال عن المراتب العالية والتكليف بالانقياد والخضوع، ومخالفة الأهواء.

التفسير الثاني: أن يريدوا بالصرفة أنّ الله تعالى سلبهم العلوم التي لابدّ منها في الإتيان بما يشاكل القرآن ويقاربه.

ثمّ أنّ سلب العلوم يمكن تنزيله على وجهين:

أحدهما أن يقال : إنّ تلك العلوم كانت حاصلة لهم على جهة الاستمرار لكن الله تعالى أزالها عن أفئدتهم ومحاها عنهم.

وثانيهما أن يقال : إنّ تلك العلوم ما كانت حاصلةً لهم: خلا أنّ الله تعالى صرف دواعيهم عن تجديدها مخافةَ أن تحصل المعارضة.

التفسير الثالث: أن يراد بالصرفة أن الله تعالى منعهم بالإلجاء على جهة القسر عن المعارضة مع كونهم قادرين وسلب قُواهم عن ذلك؛ فلأجل هذا لم تحصل من جهتهم المعارضة، وحاصل الأمر في هذه المقالة: أنّهم قادرون على إيجاد المعارضة للقرآن، إلاّ أنّ الله تعالى منعهم بما ذكرناه... (١) .

وحاصل الفرق بين هذه التفاسير الثلاثة، أنّ الصرف على الأَوّل: عبارة عن عدم إثارة الدواعي الباعثة على المعارضة، كانوا مع القدرة عليها، ووفرة الدواعي إليها، خائري القُوى وخاملي العزائم عن القيام بها، وهذا التثبيط من عزائمهم وصرف إراداتهم كان من لطيف صنعه تعالى، ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون.

وعلى التفسير الثاني: كانوا قد أعوزتهم عمدة الوسائل المُحتاج إليها في معارضة مثل القرآن، وهي العلوم والمعارف المشتمل عليها آياته الحكيمة، حتّى إنّهم لو كانت عندهم شيء منها فقد أُزيلت عنهم ومُحيت آثارها عن قلوبهم، أَو لَم تكن عندهم ولكنّهم صُرفوا عن تحصيلها من جديد خشيةَ أن تقوم قائمتهم بالمعارضة.

وعلى الثالث: أنّ الدواعي كانت متوفّرة، والأسباب والوسائل المحتاج إليها

____________________

(١) الطراز: ج٣، ص٣٩١ - ٣٩٢.

٧٧

للمعارضة كانت حاضرةً لديهم، لكنّهم مُنعوا عن القيام بالمعارضة منع إلجاءٍ، وقد أمسك الله بعنان عزيمتهم قهراً عليهم رغم الأُنوف.

قلت: والعقول من هذه التفاسير - نظراً لموقع أصحاب هذا الرأي من الفضيلة والكمال - هو التفسير الوسط، لكن بمعنى أنّهم افتقدوا وسائل المعارضة لقصورهم بالذات من جانب، وشموخ موضع القرآن من جانب آخر.. ومن المحتمل القريب إرادة هذا المعنى، حسبما جاء في عرض كلامهم ولا سيّما في كلام الشريف المرتضى ما ينبّه عليه.

وهكذا رجّح ابن ميثم البحراني (توفّي سنة ٦٩٩ هـ) إرادة هذا المعنى من كلام السيّد، قال: وذهب المرتضى (رحمه الله) إلى أنّ الله تعالى صرف العرب عن معارضته، وهذا الصرف يُحتمل أن يكون لسلب قُدَرهم، ويُحتمل أن يكون لسلب دواعيهم، ويُحتمل أن يكون لسلب العلوم التي يتمكّنون بها من المعارضة، نقل عنه أنّه اختار هذا الاحتمال الأخير (١) .

وقد تنظّر سعد الدين التفتازاني (توفّي سنة ٧٩٣ هـ) في صحّة التفاسير الثلاثة جميعاً، قال: الصرفة إمّا بسلب قدرتهم، أو بسلب دواعيهم، أو بسلب العلوم التي لابدّ منها في الإتيان بمثل القرآن، بمعنى أنّها لم تكن حاصلةً لهم، أو بمعنى أنّها كانت حاصلةً فأزالها الله.

قال: وهذا (الأخير الذي هو أوسط التفاسير) هو المختار عند المرتضى، وتحقيقه أنّه كان عنده العلم بنظم القرآن والعلم بأنّه كيف يؤلّف كلام يساويه أو يدانيه، والمعتاد أنّ مَن كان عنده هذان العِلمان يتمكّن من الإتيان بالمثل، إلا أنّهم كلّما حاولوا ذلك أزال الله تعالى عن قلوبهم تلك العلوم، وفيه نظر... (٢) .

قال عبد الحكيم السيالكوتي الهروي - في تعليقته على شرح المواقف بعد نقل

____________________

(١) قواعد المرام: ص١٣٢.

(٢) شرح المقاصد: ج٢، ص١٨٤.

٧٨

كلام التفتازاني هذا -: لعلّ وجه النظر استبعاد بعض الأقسام، أو كون سلب القدرة عبارة عن سلب العلوم (١) .

وعلى أيّ حال، فالأجدر هو النظر في تفاصيل مقالاتهم، ماذا يريدون؟

مقالة أبي إسحاق النظّام (٢) :

لم نعثر على مقالته بالتفصيل، سِوى ما ينقل عنه هنا وهناك من مقتطفات،

____________________

(١) شرح المواقف (بالهامش): ج٣، ص١١٢.

(٢) هو أبو إسحاق إبراهيم بن سيّار بن هاني البصري ابن أُخت أبي الهذيل العلاّف شيخ المعتزلة (توفّي سنة ٢٣١هـ٩، كانت له معرفة بالكلام وكان رأساً في الاعتزال، وكان له آراء تخصّه، منها رأيه في الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وأنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) نَصّ عليه بالإمامة وكتمته الصحابة، ورفض حجّية الإجماع، وقال: الحجّة هو نصّ المعصوم، وقد اشتهر قوله في أمر المؤمنين: علي بن أبي طالب (عليه السلام) محنة على المتكلّم، إن وفى حقّه غلا! وإن بخسه حقّه أساء، والمنزلة الوسطى دقيقة الوزن، حائرة الشأن، صعب المراقي إلاّ على الحاذق الديّن... نقله صاحب المناقب. وذكر الشهرستاني ميله إلى التشيّع ورفضه بِدع الطواغيت، قائلاً: لا إمامة إلاّ بالنصّ والتعيين ظاهراً مكشوفاً، وقد نصّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) على عليّ (عليه السلام) في مواضع، وأظهره إظهاراً لم يشتبه على الجماعة، إلاّ أنّ عمر كَتم ذلك لصالح أبي بكر يوم السقيفة، ونَسب إلى عمر شكّة في الرسالة وقال: إنّه هو الذي ضرب فاطمة (عليها السلام) يوم هجم على دارها لأخذ البيعة من عليّ، وكان مُتحصّناً في الدار، فجاءت فاطمة لتحول دون هجومه عليها فأصاب بطنها فأسقطت جنينها (محسناً)، وكان عمر يومذاك يصيح: احرقوا دارها بمَن فيها، وكان في الدار الحسنان سبطا رسول الله (صلّى الله عليه وآله)... إلى آخر ما سرده من مطاعن ابن الخطّاب. (الملل والنحل: ج١، ص٥٧).

قلت: ويتأيّد قوله في قضيّة الدار بما ذَكره ابن عبد ربّه - في (العقد الفريد): ج٣، ص٦٢ الطبعة الثانية القاهرة المطبعة الأزهرية (١٣٤٦هـ - ١٩٢٨م) في الباب الرابع عشر (في الخلفاء وتواريخهم وأخبارهم) في الذين تخلّفوا عن بيعة أبي بكر (وهم عليّ والعبّاس والزبير وسعد بن عبادة)... قال: فأمّا علي والعبّاس والزبير فقعدوا في بيت فاطمة حتّى بعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطّاب ليخرجهم من البيت، وقال: إن أبوا فقاتلهم، فأقبل عمر بقبس من نار، على أن يُضرم عليهم الدار، فلقيته فاطمة فقالت: يا ابن الخطّاب أَجئت لتُحرق دارنا؟ قال عمر: نعم، أَو تدخلوا فيما دخلت فيه الأُمّة... فخرج عليّ حتّى دخل على أبي بكر فبايعه. =

٧٩

منها ما ذكره عبد الواحد بن عبد الكريم الزملكاني (توفّي سنة ٦٥١هـ)، قال:

____________________

= وما ذكره ابن قتيبة - في كتابه (الإمامة والسياسة): ج١، ص١٩ تحقيق طه محمّد الزيني، في باب (كيف كانت بيعة عليّ بن أبي طالب) - قال: وإنّ أبا بكر تفقّد قوماً تخلّفوا عن بيعته عند عليّ كرّم الله وجهه، فبعث إليهم عمر، فجاء فناداهم وهم في دار عليّ، فأبوا أن يخرجوا. فدعا بالحطب وقال: والذي نفس عمر بيده لتخرجنّ أو لأُحرقنّها على مَن فيها، فقيل له: يا أبا حفص، إنّ فيها فاطمة! فقال: وإن، فخرجوا فبايعوا إلاّ علياً؛ لأنّه حلف أن لا يضع ثيابه على عاتقه حتّى يجمع القرآن، فوقفت فاطمة (عليها السلام) على بابها فقالت: (لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم، تركتم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) جنازةً بين أيدينا، وقطعتم أمركم بينكم، لم تستأمرونا ولم تردّوا لنا حقّاً!) فأتى عمر أبا بكر، فقال له: أَلا تأخذ هذا المتخلّف عنك بالبيعة؟! - يريد علياً (عليه السلام) - فأرسل أبو بكر قنفذاً مولاه ليُبلغه دعوته، فأبى عليّ (عليه السلام) أن يخرج، فكرّر عليه حتّى رفع عليّ صوته، فقال: (سبحان الله، لقد ادّعى ما ليس له)، فرجع قنفذ، ثمّ قام عمر ومشى معه جماعة حتّى أتوا باب فاطمة فدقّوا الباب، فلمّا سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها: (يا أبت يا رسول الله، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطّاب وابن أبي قحافة!) فلمّا سمع القوم صوتها وبكاءها انصرفوا باكين، وكادت قلوبهم تنصدع، وأكبادهم تنفطر، وبقي عمرو معه قوم (من الرجّالة) فأخرجوا عليّاً فمضوا به إلى أبي بكر، فقالوا له: بايع، فقال: (إن أنا لم أفعل فمه؟) قالوا: إذاً والله نضرب عنقك، فقال: (إذاً تقتلون عبد الله وأخا رسوله؟) قال عمر: أمّا عبد الله فنعم، وأمّا أخو رسوله فلا، وأبو بكر ساكت لا يتكلّم، فقال له عمر: ألا تأمر فيه بأمرك؟ فقال: لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه، ثمّ انطلقا إلى فاطمة وقالا: إنّا قد أغضبناها فاستأذنّا عليها، فلم تأذن لهما فأتيا علياً فكلّماه فأدخلهما عليها، فلمّا قعدا عندها حوّلت وجهها إلى الحائط، فسلّما عليها، فلم تردّ عليهما السلام... إلى آخر ما جرى بينها (عليها السلام) وبينهما.

وقال المسعودي: وكان عروة بن الزبير يعذر أخاه عبد الله في حصر بني هاشم في الشعب، وجمعه الحطب ليحرقهم، ويقول: إنّما أراد بذلك إن لا تنتشر الكلمة، ولا يختلف المسلمون، وأن يدخلوا في الطاعة، فتكون الكلمة واحدة، كما فعل عمر بن الخطّاب ببني هاشم لما تأخروا عن بيعة أبي بكر، فإنّه أحضر الحطب ليحرق عليهم الدار. (شرح النهج لابن أبي الحديد: ج٢٠، ص١٤٧، عن مروج الذهب: ج٣، ص٨٦).

ونقل أبو جعفر عن بعض الزيدية احتجاجاً جاء فيه: وصار كشف بيت فاطمة والدخول عليها منزلها وجمع حطب ببابها وتهدّدها بالتحريق من أَوكد عُرى الدين! (شرح النهج: ج٢٠ ص ١٧).

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وترجم له الخطيب البغدادي، فقال « 2 / 230 »: « محمد بن الحسين بن حفص بن عمر، أبو جعفر الخثعمي الأشناني الكوفي: قدم بغداد وحدث بها عن عباد بن يعقوب الرواجني، وعباد بن أحمد العزرمي، وأبي كريب محمد بن العلاء الهمداني، وموسى بن عبد الرحمن المسروقي، ومحمد بن عبيد المحاربي، وفضالة بن الفضيل التميمي. روى عنه محمد بن سليمان الباغندي، والقاضي أبو عبد الله المحاملي، وأبو عمرو بن السماك، ومحمد بن عمر الجعابي، ومحمد بن زيد بن مروان، وأبو الحسين بن البواب المقرئ، ومحمد بن المظفر الحافظ، وغيرهم ...

أبو الحسن محمد بن أحمد بن حماد بن سفيان الحافظ، قال: سنة خمس عشرة وثلاث مائة، فيها مات أبو جعفر محمد بن الحسين بن حفص بن عمر الخثعمي مولى الأشناني لسبع خلون من صفر يوم الخميس. وأخبرني بعض أصحابنا أنه سمعه يقول: إنه ولد سنة إحدى وعشرين ومائتين، وكان ثقة حجة ».

2. وفي تاريخ الطبري « 9 / 185 »: « ذكر خبر هدم قبر الحسين بن علي: وفيها « سنة 236 » أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي، وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأن يحرث ويبذر ويسقى موضع قبره، وأن يمنع الناس من إتيانه. فذُكر أن عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية: من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة بعثنا به إلى المطبق « سجن مظلم تحت الأرض » فهرب الناس، وامتنعوا من المصير إليه، وحُرث ذلك الموضع، وزُرع ما حواليه ».

١٢١

3. وقال المسعودي في مروج الذهب « 4 / 52 »: « وكان آل أبي طالب قبل خلافته « المنتصر » في محنة عظيمة وخوفٍ على دمائهم، قد مُنعوا زيارة قبر الحسين والغري من أرض الكوفة، وكذلك منع غيرهم من شيعتهم حضور هذه المشاهد، وكان الأمر بذلك من المتوكل سنة ست وثلاثين ومائتين.

وفيها أمر المعروف بالذيريج بالسَّيْر إلى قبر الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما وهَدْمِه ومَحْو أرضه وإزالة أثره، وأن يعاقب من وجد به، فبذل الرغائب لمن تقدم على هذا القبر، فكلٌّ خشي العقوبة وأحْجَمَ، فتناول الذيريج مِسْحاةً وهدم أعالي قبر الحسين، فحينئذ أقدم الفعلة فيه، وإنهم انتهوا إلى الحفرة وموضع اللحد، فلم يروا فيه أثر رِمَّةٍ ولا غيرها! ولم تزل الأمور على ما ذكرنا إلى أن استخلف المنتصر فأمَّن الناس، وتقدم بالكف عن آل أبي طالب، وترك البحث عن أخبارهم، وأن لا يمنع أحد زيارة الحير لقبر الحسين رضي الله تعالى عنه ولا قبر غيره من آل أبي طالب، وأمر برد فدَكَ إلى ولد الحسن والحسين وأطْلَقَ أوقاف آل أبي طالب، وترك التعرض لشيعتهم ودفع الأذى عنهم، وفي ذلك يقول البحتري، من أبيات له:

وإن علياً لأوْلى بكمْ

وأزكى يداً عندكم من عُمَرْ

وكلٌّ له فَضْلُه والحُجُو

لُ يومَ التَّراهُنِ دونَ الغَرَرْ

وفي ذلك يقول يزيد بن محمد المهلبي وكان من شيعة آل أبي طالب، وما كان امتحن به الشيعة في ذلك الوقت، وأغريت بهم العامة:

ولقد بَرَرْتَ الطالبيةَ بعد ما

ذُمُّوا زماناً بعدها وزمانا

ورَدَدْتَ ألفةَ هاشم فرأيتَهُمْ

بعد العداوة بينهم إخوانا

١٢٢

آنستَ ليلَهُمُ وجُدْتَ عليهمُ

حتى نسُوا الأحقادَ والأضغانا

لو يعلمُ الأسلاف كيف بَرَرْتهم

لرأوك أثقلَ من بها ميزانا »

4. وفي النجوم الزاهرة « 2 / 283 »: « أمر بهدم قبر الحسين رضي الله عنه وهدم ما حوله من الدور، وأن يعمل ذلك كله مزارع. فتألم المسلمون لذلك، وكتب أهل بغداد شتم المتوكل على الحيطان والمساجد، وهجاه الشعراء دعبل وغيره ».

5. وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي / 374: « فتألم المسلمون من ذلك، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد، وهجاه الشعراء، فمما قيل في ذلك:

بالله إن كانت أميةُ قد أتَتْ

قتلَ ابن بنت نبيِّهَا مظلومَا

فلقد أتاهُ بنوأبيه بمثله

هذا لعمري قبرُه مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا

في قتلهِ فَتَتَّبعُوهُ رميما ».

6. وقال ابن الأثير في تاريخه « 6 / 108 »: « في هذه السنة « 236 » أمرالمتوكل بهدم قبر الحسين بن علي وهَدْم ما حوله من المنازل والدور، وأن يُبذر ويُسقى موضع قبره، وأن يمنع الناس من إتيانه، فنادى بالناس في تلك الناحية من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة حبسناه في المطبق، فهرب الناس وتركوا زيارته، وخُرب وزُرع »!

7. وقال في مآثر الإنافة « 1 / 230 »: « بلغ من بغضه لعلي وأهل بيته أنه في سنة 236 أمر بهدم قبر الحسين بن علي وما حوله من المنازل، ومنع الناس من زيارته »!

8. وفي أمالي الطوسي / 325: « حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن فرج الرخجي قال: حدثني أبي، عن عمه عمر بن فرج، قال: أنفذني المتوكل في تخريب قبر

١٢٣

الحسين فصرت إلى الناحية، فأمرت بالبقر فَمُرَّ بها على القبور، فمرَّت عليها كلها، فلما بلغت قبر الحسين (ع) لم تمرَّ عليه! قال عمي عمر بن فرج: فأخذت العصا بيدي فما زلت أضربها حتى تكسرت العصا في يدي! فوالله ما جازت على قبره ولا تخطته!قال لنا محمد بن جعفر: كان عمر بن فرج شديد الإنحراف عن آل محمد (ص) فأنا أبرأ إلى الله منه. وكان جدي أخوه محمد بن فرج شديد المودة لهم رحمه الله ورضي عنه، فأنا أتولاه لذلك وأفرح بولادته ». أي بولادتي منه.

9. وفي أمالي الطوسي / 326: « حدثنا علي بن محمد بن سليمان النوفلي، عن أبي علي الحسين بن محمد بن مسلمة بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، قال: حدثني إبراهيم الديزج قال: بعثني المتوكل إلى كربلاء لتغيير قبر الحسين (ع) وكتب معي إلى جعفر بن محمد بن عمار القاضي: أعلمك أني قد بعثت إبراهيم الديزج إلى كربلاء لنبش قبر الحسين، فإذا قرأت كتابي فقف على الأمر حتى تعرف فعل أولم يفعل. قال الديزج: فعرفني جعفر بن محمد بن عمار ما كتب به إليه، ففعلت ما أمرني به جعفر بن محمد بن عمار ثم أتيته، فقال لي: ما صنعت؟ فقلت: قد فعلت ما أمرتَ به، فلم أر شيئاً، ولم أجد شيئاً! فقال لي: أفلا عمقته؟ قلت: قد فعلت وما رأيت، فكتب إلى السلطان: إن إبراهيم الديزج قد نبش فلم يجد شيئاً، وأمرته فمخره بالماء، وكَرَبَهُ بالبقر.

قال أبوعلي العماري: فحدثني إبراهيم الديزج وسألته عن صورة الأمر فقال لي: أتيت في خاصة غلماني فقط، وإني نبشت فوجدت باريةً جديدة وعليها بدنُ الحسين بن علي

١٢٤

ووجدت منه رائحة المسك، فتركت البارية على حالتها وبدن الحسين على البارية، وأمرتُ بطرح التراب عليه، وأطلقت عليه الماء، وأمرت بالبقر لتمخره وتحرثه فلم تطأه البقر، وكانت إذا جاءت إلى الموضع رجعت عنه! فحلفت لغلماني بالله وبالأيمان المغلظة: لئن ذكر أحد هذا لأقتلنه ».

10. في أمالي الطوسي / 327: « قال: حدثني أبو برزة الفضل بن محمد بن عبد الحميد، قال: دخلت على إبراهيم الديزج وكنت جاره، أعوده في مرضه الذي مات فيه، فوجدته بحال سوء، وإذا هوكالمدهوش وعنده الطبيب، فسألته عن حاله وكانت بيني وبينه خلطة وأنس يوجب الثقة بي والإنبساط إليَّ، فكاتمني حاله وأشار لي إلى الطبيب، فشعر الطبيب بإشارته ولم يعرف من حاله ما يصف له من الدواء ما يستعمله، فقام فخرج وخلا الموضع، فسألته عن حاله فقال: أخبرك والله وأستغفر الله: إن المتوكل أمرني بالخروج إلى نينوى إلى قبر الحسين، فأمرنا أن نكربه ونطمس أثر القبر، فوافيت الناحية مساء معنا الفعلة والروزكاريون « العمال الميامون » معهم المساحي والمرور، فتقدمت إلى غلماني وأصحابي أن يأخذوا الفعلة بخراب القبر وحرث أرضه، فطرحت نفسي لما نالني من تعب السفر ونمت، فذهب بي النوم فإذا ضوضاء شديدة وأصوات عالية وجعل الغلمان ينبهونني، فقمت وأنا ذَعِرٌ فقلت للغلمان: ما شأنكم؟ قالوا: أعجب شأن! قلت: وما ذاك؟ قالوا: إن بموضع القبر قوماً قد حالوا بيننا وبين القبر وهم يرموننا مع ذلك بالنشاب، فقمت معهم لأتبين الأمر فوجدته كما وصفوا! وكان ذلك في أول الليل من ليالي البيض فقلت: إرموهم، فرموا

١٢٥

فعادت سهامنا إلينا فما سقط سهمٌ منها إلا في صاحبه الذي رمى به فقتله! فاستوحشت لذلك وجزعتُ وأخذتني الحُمَّى والقَشعريرة!

ورحلت عن القبر لوقتي، ووطنت نفسي على أن يقتلني المتوكل لماَّ لم أبلغ في القبر جميع ما تقدم إلي به!

قال أبو برزة: فقلت له: قد كفيتَ ما تحذر من المتوكل، قد قتل بارحة الأولى وأعان عليه في قتله المنتصر فقال لي: قد سمعت بذلك وقد نالني في جسمي مالا أرجو معه البقاء! قال أبو برزة: كان هذا في أول النهار، فما أمسى حتى مات!

قال ابن خشيش: قال أبوالفضل: إن المنتصر سمع أباه يشتم فاطمة (ع) فسأل رجلاً من الناس عن ذلك فقال له: قد وجب عليه القتل إلا أنه من قتل أباه لم يطل له عمر. قال: ما أبالي إذا أطعت الله بقتله أن لا يطول لي عمر، فقتله وعاش بعده سبعة أشهر »!

11. وفي أمالي الطوسي / 326: « حدثني أبوعبد الله الباقطاني، قال: ضمني عبيد الله بن يحيى بن خاقان إلى هارون المعري، وكان قائداً من قواد السلطان، أكتب له، وكان بدنه كله أبيض شديد البياض حتى يديه ورجليه كانا كذلك، وكان وجهه أسود شديد السواد كأنه القير، وكان يتفقأ مع ذلك مادة منتنة، قال: فلما آنس بي سألته عن سواد وجهه، فأبى أن يخبرني، ثم إنه مرض مرضه الذي مات فيه، فقعدت فسألته، فرأيته كأنه يحب أن يكتم عليه، فضمنت له الكتمان فحدثني قال: وجهني المتوكل أنا والديزج لنبش قبر الحسين وإجراء الماء عليه،

١٢٦

فلما عزمت على الخروج والمسير إلى الناحية رأيت رسول الله (ص) في المنام، فقال: لا تخرج مع الديزج ولا تفعل ما أمرتم به في قبر الحسين.

فلما أصبحنا جاؤوا يستحثونني في المسير، فسرت معهم حتى وافينا كربلاء، وفعلنا ما أمرنا به المتوكل، فرأيت النبي (ص) في المنام فقال: ألم آمرك ألا تخرج معهم ولا تفعل فعلهم، فلم تقبل حتى فعلت ما فعلوا! ثم لطمني وتفل في وجهي، فصار وجهي مسوداً كما ترى، وجسمي على حالته الأولى »!

ملاحظات على نصوص هدم القبرالشريف

1. استمرت محاولة المتوكل هدم القبرالشريف نحو سنة من شعبان سنة 236 الى شعبان 237، حتى استطاع أن يمنع الزوار من زيارته ويهدمه.

لكن الشيعة واصلوا تحدي السلطة والذهاب الى الزيارة أكثر من عشر سنين حتى هلك المتوكل، وواصل هو منع الزوار ومطاردتهم، وحرث مكان القبر!

2. كان أكبر تجمع لزيارة الناس لقبر الحسين (ع) في شهر شعبان. ففي أمالي الطوسي / 328: « بلغ المتوكل جعفر بن المعتصم أن أهل السواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين (ع) فيصير إلى قبره منهم خلق كثير، فأنفذ قائداً من قواده، وضم إليه كتفاً من الجند كثيراً، ليشعب قبر الحسين (ع) ويمنع الناس من زيارته والإجتماع إلى قبره (ع)، فخرج القائد إلى الطف وعمل بما أمر، وذلك في سنة سبع وثلاثين ومائتين، فثار أهل السواد به، واجتمعوا عليه وقالوا: لوقتلنا عن آخرنا لما أمسك من بقي منا عن زيارته، ورأوا من الدلائل ما

١٢٧

حملهم على ما صنعوا، فكتب بالأمر إلى الحضرة، فورد كتاب المتوكل إلى القائد بالكف عنهم والمسير إلى الكوفة، مظهراً أن مسيره إليها في مصالح أهلها، والإنكفاء إلى المصر! فمضى الأمر على ذلك حتى كانت سنة سبع وأربعين، فبلغ المتوكل أيضاً مصير الناس من أهل السواد والكوفة إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين (ع)، وأنه قد كثر جمعهم كذلك وصار لهم سوق كبير، فأنفذ قائداً في جمع كثير من الجند، وأمر منادياً ينادي ببراءة الذمة ممن زار قبر الحسين، ونَبَشَ القبر وحرث أرضه، وانقطع الناس عن الزيارة. وعمل على تتبع آل أبي طالب والشيعة رضي الله عنهم، فقتل ولم يتم له ما قَدَّر ».

وفي أمالي الطوسي / 329: « حدثني عبد الله بن دانية الطوري، قال: حججت سنة سبع وأربعين ومائتين، فلما صدرت من الحج صرت إلى العراق فزرت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) على حال خيفة من السلطان، وزرته ثم توجهت إلى زيارة الحسين (ع) فإذا هوقد حرثت أرضه ومُخِر فيها الماء، وأُرسلت الثيران العوامل في الأرض، فبعيني وبصري كنت أرى الثيران تساق في الأرض فتنساق لهم حتى إذا حاذت مكان القبر حادت عنه يميناً وشمالاً، فتُضرب بالعصي الضرب الشديد فلا ينفع ذلك فيها، ولا تطأ القبر بوجه ولا سبب! فما أمكنني الزيارة، فتوجهت إلى بغداد، وأنا أقول في ذلك:

تالله إن كانت أميةُ قد أتتْ

قتلَ ابن بنت نبيها مظلوما

فلقد أتاكَ بنوأبيه بمثلها

هذا لعمرُك قبره مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شايعوا

في قتله فتتبعوه رميما

١٢٨

فلما قدمت بغداد سمعت الهائعة فقلت: ما الخبر؟ قالوا: سقط الطائر بقتل جعفر المتوكل، فعجبت لذلك وقلت: إلهي ليلة بليلة ».

أقول: يدل استشهاد الشاعر بشعر ابن بسام على أنه كان منتشراً بين المسلمين. ويدل ما تقدم على أن المتوكل بدأ حملته على كربلاء سنة 236، وهدمَ القبر الشريف ومنع زيارته لكن المسلمين من أهل الكوفة وغيرهم كسروا المنع، ورأوا المعجزات، فأصروا على زيارة قبر الحسين (ع) وتحضروا للمواجهة في السنة الثانية، ووجه اليهم المتوكل جيشاً كثيفاً، لكن لما رأى إصرارهم على قتاله، أمر قائده أن يرجع ويدعي أنه جاء في مهمة تتعلق بولاية الكوفة! واستمر الأمر على هذا نحوعشر سنين، وكان المنع من الزيارة سارياً، لكنه غير محترم. وبلغ المتوكل في آخر عمره توافد الناس الى كربلاء: « وأنه قد كثر جمعهم وصار لهم سوق كبير، فأنفذ قائداً في جمع كثير من الجند، وأمر منادياً ينادي ببراءة الذمة ممن زار قبر الحسين »! واستطاعت قواته أن تهدم القبر الشريف، لكن الله تعالى هدم عمره وسقط طائر الحمام الزاجل في بغداد بقتله، كما قالت الرواية.

ومعنى هذا أن محاولات المتوكل لهدم القبر الشريف استمرت إحدى عشرة سنة فقد بدأت سنة 236، واستمرت حتى هلك في الرابع من شوال سنة 247.

3. واجه الإمام الهادي (ع) خطة المتوكل. وعند صدور المنع أمر الشيعة في بغداد أن يتجنبوا المواجهة، ثم وجههم الى الزيارة وتحدي منع السلطة.

ففي الكافي « 1 / 525 »: « خرج نهيٌ عن زيارة مقابر قريش « الكاظمين » والحاير « كربلا » فلما كان بعد أشهر دعا الوزير الباقطائي فقال له: إلق بني الفرات والبرسيين وقل لهم: لايزوروا مقابر قريش، فقد أمر الخليفة أن يُتفقد كل من زار فيقبض

١٢٩

عليه » ثم أمر الإمام (ع) الشيعة بزيارة قبر الحسين (ع) وجعلها أولوية قبل غيره. قال المفيد في المقنعة / 482: « روى إبراهيم بن عقبة قال: كتبت إلى أبي الحسن الثالث: « الإمام الهادي (ع) » أسأله عن زيارة أبي عبد الله الحسين (ع)، وزيارة أبي الحسن موسى وأبي جعفرمحمد بن علي (ع) ببغداد؟ فكتب إليَّ: أبوعبد الله (ع) المقدم، وهذان أجمع وأعظم ثواباً ». وكامل الزيارة / 500.

ثم قام الإمام الهادي (ع) بعمل ملفت في الحث على زيارة قبر جده الحسين (ع) فقد كان مريضاً فأمر أن يرسلوا له شخصاً يزور الحسين (ع) ويدعو له.

ففي الكافي « 4 / 568 »: « عن أبي هاشم الجعفري قال: بعث إليَّ أبو الحسن (ع) في مرضه وإلى محمد بن حمزة فسبقني إليه محمد بن حمزة وأخبرني محمد ما زال يقول: إبعثوا إلى الحير، إبعثوا إلى الحير، فقلت لمحمد: ألا قلت له: أنا أذهب إلى الحير، ثم دخلت عليه وقلت له: جعلت فداك: أنا أذهب إلى الحير؟ فقال: انظروا في ذاك، ثم قال لي: إن محمداً ليس له سر من زيد بن علي، وأنا أكره أن يسمع ذلك، قال: فذكرت ذلك لعلي بن بلال فقال: ما كان يصنع ب‍الحير وهو الحير فقدمت العسكر فدخلت عليه فقال لي: أجلس حين أردت القيام، فلما رأيته أنس بي ذكرت له قول علي بن بلال فقال لي: ألا قلت له: إن رسول الله (ص) كان يطوف بالبيت ويقبل الحجر وحرمة النبي والمؤمن أعظم من حرمة البيت، وأمره الله عز وجل أن يقف بعرفة، وإنما هي مواطن يحب الله أن يذكر فيها. فأنا أحب أن يدعي الله لي حيث يحب الله أن يدعى فيها ».

١٣٠

وروى في الحبل المتين / 228، ومصباح المتهجد / 788 ، عن الإمام الهادي (ع) قال: « علامات المؤمن خمس: صلاة الإحدى والخمسين، وزيارة الأربعين، والتختم في اليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ».

ورُوِيَ ذلك عن الإمام الحسن العسكري (ع)، وهويدل على أن الإمام الهادي وابنه الحسن العسكري (ع) قاوما معاً هجمة المتوكل لهدم قبر الحسين (ع).

4. نسب بعضهم الأبيات: تالله إن كانت أمية قد أتت الخ. الى ابن السكيت، والصحيح أنها لابن بسام، أو البسامي.

قال السمعاني في الأنساب « 1 / 346 »: « البسامي: بفتح الباء الموحدة والسين المهملة المشددة بعدهما الألف وفي آخرها الميم، هذه النسبة إلى بسام، وهو إسم لجد أبي الحسن علي بن محمد بن منصور بن نصر بن بسام الشاعر البسامي، من أهل بغداد، سائر الشعر، مشهورٌ عند أهل الأدب، روى عنه محمد بن يحيى الصولي، وأبوسهل أحمد بن محمد بن زياد القطان، وغيرهما مات البسامي في صفر سنة اثنتين وثلاث مائة ». فقد كان في مطلع شبابه عندما هجا المتوكل لهدمه قبر الحسين (ع).

وفي وفيات الأعيان « 3 / 363 »: « كانت أمه أمامة ابنة حمدون النديم وكان من أعيان الشعراء، ومحاسن الظرفاء، لَسِنَاً مطبوعاً في الهجاء، لم يسلم منه أمير ولا وزير، ولا صغير ولا كبير ولما هَدم المتوكل على الله قبر الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما في سنة ست وثلاثين ومائتين، عمل البسامي:

تالله إن كانت أميةُ قد أتتْ

قتلَ ابن بنت نبيها مظلوما

فلقد أتاهُ بنوأبيه بمثله

هذا لعمرك قبرُه مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا

في قتله فتتبعوه رميما!

١٣١

وكان المتوكل كثير التحامل على علي وولديه الحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين، فهدم هذا المكان بأصوله ودوره وجميع ما يتعلق به، وأمر أن يبذر ويسقى موضع قبره، ومنع الناس من إتيانه. هكذا قال أرباب التواريخ.

ولابن بسام المذكور من التصانيف: أخبار عمر بن أبي ربيعة، ولم يستقص أحد في بابه أبلغ منه، وكتاب أخبار الأحوص، وكتاب مناقضات الشعراء ».

5. ذكر المؤرخون أن دعبلاً الخزاعي هجا المتوكل لهدمه قبر الحسين (ع)، ولم أجد شعره في ذلك، إلا بيتاً واحداً يتهم فيه المتوكل بالتخنث، كما في ديوانه / 48:

ولستُ بقائل قَذَعاً ولكنْ

لأمْرٍ مَّا تَعَبَّدَكَ العبيدُ

وأبياتاً في الحث على زيارة قبر الحسين (ع) وذم الناهين، في ديوانه / 114:

زُرْ خيرَ قبرٍ بالعراق يُزَارُ

وَاعْصِ الِحمَارَ فمَنْ نَهَاكَ حِمَارُ

لم لا أزوركَ يا حسينُ لك الفدا

قومي ومن عطفت عليه نزار

ولك المودةُ في قلوب ذوي النهى

وعلى عدوك مَقْتَةٌ ودَمارُ

يا ابنَ الشهيدِ ويا شهيداً عَمُّهُ

خيرُ العمومة جعفرُ الطيَّار

عجباً لمصقولٍ أصابكَ حَدُّهُ

في الوجه منك وقد عَلاك غُبَارُ

هدم قبر الحسين (ع) قبل المتوكل

في كامل الزيارات لابن قولويه / 221: « عن الحسين ابن بنت أبي حمزة الثمالي، قال: خرجت في آخر زمان بني مروان إلى زيارة قبر الحسين (ع) مستخفياً من أهل الشام حتى انتهيت إلى كربلا، فاختفيت في ناحية القرية حتى إذا ذهب من الليل نصفه أقبلت نحوالقبر، فلما دنوت منه أقبل نحوي رجل فقال لي: إنصرف مأجوراً فإنك لا تصل إليه، فرجعت فزعاً حتى إذا كان يطلع الفجر أقبلت

١٣٢

نحوه، حتى إذا دنوت منه خرج إليَّ الرجل فقال لي: يا هذا إنك لا تصل إليه! فقلت له: عافاك الله ولم لا أصل إليه وقد أقبلت من الكوفة أريد زيارته، فلا تَحُلْ بيني وبينه، وأنا أخاف أن أصبح فيقتلوني أهل الشام إن أدركوني هاهنا، قال فقال لي: إصبر قليلاً فإن موسى بن عمران (ع) سأل الله أن يأذن له في زيارة قبر الحسين بن علي (ع) فأذن له، فهبط من السماء في سبعين ألف ملك، فهمَّ بحضرته من أول الليل ينتظرون طلوع الفجر، ثم يعرجون إلى السماء.

قال فقلت له: فمن أنت عافاك الله، قال: أنا من الملائكة الذين أمروا بحرس قبر الحسين (ع) والإستغفار لزواره! فانصرفت وقد كاد أن يطير عقلي لما سمعت منه. قال: فأقبلت حتى إذا طلع الفجر أقبلت نحوه فلم يحل بيني وبينه أحد، فدنوت من القبر وسلمت عليه ودعوت الله على قَتَلتِهِ، وصليت الصبح، وأقبلت مسرعاً مخافة أهل الشام ».

أقول: هذا الحديث وغيره يدل على أن الأمويين كانوا يمنعون الشيعة من التجمع عند قبر الحسين (ع) ومن زيارته، وكان المنع متفاوتاً حسب تشدد والي الكوفة وتساهله، وحسب قوة الخليفة الأموي أوضعفه.

لكن الأمويين لم يهدموا قبر الحسين (ع)، وأول من ارتكب جريمة هدمه: المنصور الدوانيقي، وذلك بعد ثورة الحسنيين عليه وانتصاره عليهم سنة 145، فقد أمر والي الكوفة عيسى بن موسى أن يهدمه!

روى الطوسي في أماليه / 321: « حدثنا يحيى بن عبد الحميد الِحَّماني أملاه عليَّ في منزله، قال: خرجت أيام ولاية موسى بن عيسى الهاشمي في الكوفة، من منزلي

١٣٣

فلقيني أبو بكر بن عياش، فقال لي: إمض بنا يا يحيى إلى هذا فلم أدر من يعني، وكنت أجل أبا بكر عن مراجعة، وكان راكباً حماراً له، فجعل يسير عليه وأنا أمشي مع ركابه، فلما صرنا عند الدار المعروفة بدار عبد الله بن حازم، التفت إليَّ فقال لي: يا بن الحِمَّاني، إنما جررتك معي وجَشَّمتك معي أن تمشي خلفي، لأُسمعك ما أقول لهذا الطاغية! قال: فقلت: من هويا أبا بكر؟ قال هذا الفاجر الكافر موسى بن عيسى!

فسكت عنه، ومضى وأنا أتبعه حتى إذا صرنا إلى باب موسى بن عيسى، وبصر به الحاجب وتبينه، وكان الناس ينزلون عند الرحبة، فلم ينزل أبوبكر هناك، وكان عليه يومئذ قميص وإزار، وهومحلول الإزار. قال: فدخل على حمار وناداني: تعالى يا ابن الحماني، فمنعني الحاجب فزجره أبوبكر وقال له: أتمنعه يا فاعل وهومعي؟ فتركني فما زال يسير على حماره حتى دخل الإيوان، فبصر بنا موسى وهوقاعد في صدر الإيوان على سريره، وبجنبي السرير رجال متسلحون، وكذلك كانوا يصنعون، فلما أن رآه موسى رحب به وقربه وأقعده على سريره، ومُنعتُ أنا حين وصلت إلى الإيوان أن أتجاوزه.

فلما استقر أبوبكر على السرير التفت فرآني حيث أنا واقف فناداني: تعال ويحك فصرت إليه ونعلي في رجلي وعليَّ قميص وإزار فأجلسني بين يديه، فالتفت إليه موسى فقال: هذا رجل تُكَلِّمُنَا فيه؟ قال: لا، ولكني جئت به شاهداً عليك.

١٣٤

قال: في ماذا؟ قال: إني رأيتك وما صنعت بهذا القبر. قال: أيُّ قبر؟ قال: قبر الحسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله (ص)!

وكان موسى قد وجه إليه من كربه وكرب جميع أرض الحائر، وحرثها وزرع الزرع فيها، فانتفخ موسى حتى كاد أن يَنْقَدَّ، ثم قال: وما أنت وذا؟

قال: إسمع حتى أخبرك، إعلم أني رأيت في منامي كأني خرجت إلى قومي بني غاضرة، فلما صرت بقنطرة الكوفة اعترضني خنازير عشرة تريدني، فأغاثني الله برجل كنت أعرفه من بني أسد فدفعها عني، فمضيت لوجهي فلما صرت إلى شاهي ضللت الطريق، فرأيت هناك عجوزاً فقالت لي: أين تريد أيها الشيخ؟ قلت: أريد الغاضرية. قالت لي: تَبَطَّنْ هذا الوادي فإنك إذا أتيت آخره اتضح لك الطريق. فمضيت ففعلت ذلك فلما صرت إلى نينوى إذا أنا بشيخ كبير جالس هناك، فقلت: من أين أنت أيها الشيخ؟ فقال لي: أنا من أهل هذه القرية. فقلت: كم تعدُّ من السنين؟ فقال: ما أحفظ ما مضى من سني وعمري، ولكن أبعدُ ذكري أني رأيت الحسين بن علي (ع) ومن كان معه من أهله ومن تبعه، يمنعون الماء الذي تراه، ولا يمنع الكلاب ولا الوحوش شربه! فاستفظعت ذلك وقلت له: ويحك أنت رأيت هذا؟ قال: إي والذي سمك السماء، لقد رأيت هذا أنها الشيخ وعاينته، وإنك وأصحابك هم الذين يعينون على ما قد رأينا مما أقرح عيون المسلمين، إن كان في الدنيا مسلم! فقلتُ: ويحك وما هو؟ قال: حيث لم تنكروا ما أجرى سلطانكم إليه. قلت: ما أجرى إليه؟ قال:

١٣٥

أيكرب قبر ابن النبي (ص) وتحرث أرضه؟ قلت: وأين القبر؟ قال: ها هوذا أنت واقف في أرضه، فأما القبر فقد عميَ عن أن يعرف موضعه!

قال أبو بكر بن عياش: وما كنت رأيتُ القبر قبل ذلك الوقت قطُّ، ولا أتيته في طول عمري، فقلت: من لي بمعرفته؟ فمضى معي الشيخ حتى وقف بي على حير له باب وآذن، له إذا جماعة كثيرة على الباب، فقلت للآذن: أريد الدخول على ابن رسول الله (ص) فقال: لا تقدر على الوصول في هذا الوقت. قلت: ولمَ؟ قال: هذا وقت زيارة إبراهيم خليل الله ومحمد رسول الله، ومعهما جبرئيل وميكائيل، في رعيل من الملائكة كثير.

قال أبوبكر بن عياش: فانتبهت وقد دخلني روعٌ شديد وحزنٌ وكآبةٌ، ومضت بي الأيام حتى كدت أن أنسى المنام، ثم اضطررت إلى الخروج إلى بني غاضرة لدينٍ كان لي على رجل منهم، فخرجت وأنا لا أذكر الحديث حتى إذ صرت بقنطرة الكوفة لقيني عشرة من اللصوص، فحين رأيتهم ذكرت الحديث ورعبت من خشيتي لهم، فقالوا لي: ألق ما معك وانج بنفسك وكانت معي نفيقة، فقلت: ويحكم أنا أبو بكر بن عياش، وإنما خرجت في طلب دينٍ لي، والله الله لا تقطعوني عن طلب ديني وتضرُّوا بي في نفقتي فإني شديد الإضاقة، فنادى رجل منهم: مولاي ورب الكعبة لا يعرض له. ثم قال لبعض فتيانهم: كن معه حتى تصير به إلى الطريق الأيمن.

١٣٦

قال أبوبكر: فجعلت أتذكر ما رأيته في المنام، وأتعجب من تأويل الخنازير حتى صرت إلى نينوى، فرأيت والله الذي لا إله إلا هوالشيخ الذي كنت رأيته في منامي بصورته وهيئته، رأيته في اليقظة كما رأيته في المنام سواء، فحين رأيته ذكرت الأمر والرؤيا فقلت: لا إله إلا الله ما كان هذا إلا وحياً، ثم سألته كمسألتي إياه في المنام، فأجابني ثم قال لي: إمض بنا فمضيت فوقفت معه على الموضع وهومكروب، فلم يفتني شئ في منامي إلا الآذن والحير، فإني لم أر حِيراً ولم أر آذناً؟ فاتق الله أيها الرجل، فإني قد آليت على نفسي ألا أدعَ إذاعة هذا الحديث، ولا زيارةَ ذلك الموضع وقصدَه وإعظامَه، فإن موضعاً يأتيه إبراهيم ومحمد وجبرئيل وميكائيل (ع) لحقيقٌ بأن يرغب في إتيانه وزيارته، فإن أبا حصين حدثني أن رسول الله (ص) قال: من رآني في المنام فإياي رأى، فإن الشيطان لا يتشبه بي.

فقال له موسى: إنما أمسكت عن إجابة كلامك لأستوفي هذه الحمقة التي ظهرت منك، وبالله لئن بلغني بعد هذا الوقت أنك تتحدث بهذا لأضربن عنقك، وعنق هذا الذي جئت به شاهداً علي! فقال أبوبكر: إذن يمنعني الله وإياه منك، فإني إنما أردت الله بما كلمتك به!

فقال له: أتراجعني يا عامر وشتمه! فقال له: أسكت أخزاك الله وقطع لسانك!

فأرعد موسى على سريره ثم قال: خذوه!

١٣٧

فأخذ الشيخ عن السرير، وأخذت أنا، فوالله لقد مر بنا من السحب والجرِّ والضرب، ما ظننت أننا لا نكثر الأحياء أبداً، وكان أشد ما مرَّ بي من ذلك أن رأسي كان يُجَرُّ على الصخر، وكان بعض مواليه يأتيني فينتف لحيتي، وموسى يقول: أقتلوهما بني كذا وكذا بالزاني لا يكني!

وأبو بكر يقول له: أمسك قطع الله لسانك وانتقم منك، اللهم إياك أردنا، ولولد وليك غضبنا، وعليك توكلنا.

فصيَّر بنا جميعاً إلى الحبس، فما لبثنا في الحبس إلا قليلاً، فالتفت إليَّ أبوبكر ورأي ثيابي قد خرقت وسالت دمائي، فقال: يا حِمَّاني قد قضينا لله حقاً، واكتسبنا في يومنا هذا أجراً، ولن يضيع ذلك عند الله ولا عند رسوله (ص).

فما لبثنا إلا مقدار غدائةٍ ونومة، حتى جاءنا رسوله فأخرجنا إليه، وطلب حمار أبي بكر فلم يوجد، فدخلنا عليه فإذا هو في سرداب له يشبه الدور سعة وكبراً، فتعبنا في المشي إليه تعباً شديداً، وكان أبوبكر إذا تعب في مشيه جلس يسيراً، ثم يقول: اللهم إن هذا فيك فلا تَنْسَهْ، فلما دخلنا على موسى، وإذا هوعلى سرير له فحين بصر بنا قال: لا حيا الله ولا قرب، من جاهل أحمق يتعرض لما يكره، ويلك يا دعي، ما دخولك فيما بيننا معشر بني هاشم!

فقال له أبوبكر: قد سمعت كلامك، والله حسبك! فقال له: أخرج قبحك الله، والله لئن بلغني أن هذا الحديث شاع، أوذكر عنك لأضربن عنقك!

١٣٨

ثم التفت إليَّ وقال: يا كلب وشتمني وقال: إياك ثم إياك أن تظهر هذا، فإنه إنما خُيِّلَ لهذا الشيخ الأحمق شيطانٌ يلعب به في منامه، أخرجا عليكما لعنة الله وغضبه، فخرجنا وقد يئسنا من الحياة!

فلما وصلنا إلى منزل الشيخ أبي بكر وهو يمشي وقد ذهب حماره، فلما أراد أن يدخل منزله التفت إليَّ وقال: إحفظ هذا الحديث وأثبته عندك، ولا تحدثن هؤلاء الرعاع، ولكن حدث به أهل العقول والدين ».

ملاحظات

1. أبوبكر بن عياش، من كبار أئمة السنة وقرائهم وعُبَّادهم: « روى له البخاري في صحيحه ومسلم في مقدمة كتابه وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة. وتوفي سنة اثنتين وتسعين ومائة ». « الكواكب النيرات / 102 ».

قال الذهبي في سيره: « 8 / 495 »: « أبوبكر بن عياش بن سالم الأسدي، مولاهم الكوفي الحناط بالنون، المقرئ، الفقيه، المحدث، شيخ الإسلام، وبقيه الأعلام مولى واصل الأحدب لم يضع جنبه على الأرض أربعين سنة ».

وقد روى عنه كبار أئمة المذاهب، قال ابن حجر في تهذيب التهذيب « 12 / 31 »: « وعنه الثوري، وابن المبارك، وأبوداود الطيالسي، وأسود بن عامر شاذان، ويحيى بن آدم، ويعقوب القمي، وابن مهدي، وابن يونس، وأبونعيم، وابن المديني، وأحمد بن حنبل، وابن معين، وابنا أبي شيبة، وإسماعيل بن أبان الوراق، ويحيى بن يحيى النيسابوري، وخالد بن يزيد الكاهلي وآخرون ».

١٣٩

ويظهر من غضبه لهدم قبر الحسين (ع) ومبادرته الى النهي عن المنكر، أنه صاحب دين، لكن طريقته في الإستنكار ساذجة، ثم نراه تراجع وسكت! وقد كانت له مكانة واحترام في الناس، فلو أنه وقف في المسجد ودعا المسلمين الى الإعتراض لأجابه الكثيرون، لكنه اعترض بطريقة بدائية، فزجره الوالي العباس بأسلوب فرعون، وقال له: قصتك ومنامك خيال وحماقة، وأنت فارسي مولى بني أسد، ونحن والحسين هاشميون، فلا تدخل بيننا!

وقصته تدل على أن مؤسس جريمة هدم قبر الحسين (ع) المنصور الدوانيقي! وأن المسلمين حتى غير الشيعة نقموا عليه واعترضوا.

2. أعاد المسلمون مشهد الحسين (ع) بعد الدوانيقي، وعادوا الى زيارته حتى جاء حفيده هارون، الذي سموه الرشيد، فهدمه مرة ثانية!

روى الطوسي في أماليه / 321: « حدثني يحيى بن المغيرة الرازي، قال: كنت عند جرير بن عبد الحميد، إذ جاءه رجل من أهل العراق، فسأله جرير عن خبر الناس، فقال: تركت الرشيد وقد كرب قبر الحسين (ع) وأمر أن تقطع السدرة التي فيه فقطعت! قال: فرفع جرير يديه، فقال: الله أكبر، جاءنا فيه حديث عن رسول الله (ص) أنه قال: لعن الله قاطع السدرة، ثلاثاً، فلم نقف على معناه حتى الآن، لأن القصد بقطعه تغيير مصرع الحسين حتى لايقف الناس على قبره ».

أقول: معنى: تغيير مصرعه، تغيير قبره ومكان قتله (ع). وقد قطعت قبل تلك السدرة سدرتان: سدرة البقيع وكانت تستظل بها الزهراء (ع)، وسدرة الحديبية التي بايع النبي (ص) تحتها المسلمين. وقاطعهما واحد، ولا مجال للتفصيل.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579