أصول الخطابة الحسينية

أصول الخطابة الحسينية42%

أصول الخطابة الحسينية مؤلف:
الناشر: المؤلف
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 140

أصول الخطابة الحسينية
  • البداية
  • السابق
  • 140 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80481 / تحميل: 10007
الحجم الحجم الحجم
أصول الخطابة الحسينية

أصول الخطابة الحسينية

مؤلف:
الناشر: المؤلف
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

الباب الرابع

الصوت

١ - الصوت

٢ - صوت الإنسان

٣ - خصائص الصوت

٤ - عيوب الصوت

٥ - التحكم في الصوت

٦ - الإشارات

٧ - الجلوس

٦١

الصوت

إنّ للأصوات أثراً كبيراً في حسن وقع الكلام أو قبحه، وليس المرجع في ذلك جمالها وقبحها، ولكن عمقها وركوزها ورياضتها على تصوير المعاني، وجودة نقل الخواطر؛ فإنّ الألفاظ والأصوات متعاونات في الدلالة على المعاني النفسيّة، فألفاظ التألّم والحزن والغم مثلاً إذا سمعتها مجردة ما أثارت في نفسك شيئاً.

أمّا إذا سمعتها من متألم، واشترك صوت متأثر بالآلام مع اللفظ، أثارت في نفسك خواطر الأسى ومواضع الحزن، وأحسست بالألم العميق، تشترك فيه مع مَنْ حكى لك آلام نفسه في نغمات صوته.

وليعلم الخطيب أنّه لا شيء كالصوت يعطي الألفاظ قوّة حياةٍ، وإنّه إذا أحسن استخدامه خلق جواً عاطفياً يظُلّ السامعين، وبه يستولي عليهم(١) .

أمّا جمال الصوت وقبحه فله وقع آخر في النفس من نوع آخر. فمن الناس مَنْ يسمع الإنسان صوته محدّثاً أو قارئاً أو خطيباً فيشعر بنغماته تثير ارتياحه، وبرنينه يهزّ إحساسه، وبعمقه يصل إلى أبعد غور في نفسه، وبتشكيله بأشكال مختلفة يتّضح المعنى، وينكشف المبهم، ومن الناس مَنْ تسمع منه أجمل العبارات، وأجود الألفاظ الدالّة على المعاني، فترى العبارات قد فقدت جزءاً كبيراً من بهجتها، وذهب من المعاني أكثر روعتها(٢) .

____________________

(١) المصدر نفسه / ١٧٠.

(٢) الخطابة - اُصولها، تاريخها / ١٧٠.

٦٢

فلمّا كان الإنسان مجبولاً بفطرته على الميل نحو الجميل والنفور عن القبيح، فيمكن أن يكون الصوت سبباً لقبول الدعوة إذا كان حسناً، ويمكن أن يكون سبباً للنفور والابتعاد عنها إذا كان قبيحاً.

قيل: إنّ رجلاً مسلماً كان يؤذّن في المسجد يومياً، جاءه رجل يهودي يشكره على الخدمة الجليلة التي أسداها له، فأنكر المسلم ذلك؛ لأنّه لم يسبق بمعرفته، ولم يقدّم له أيّ خدمة استحقت الشكر والثناء، غير أنّ اليهودي أجابه: بأنّ له بنتاً اعتنقت الدين الإسلامي، وأصرّت عليه قبال محاولاته المتكرّرة في إرجاعها لليهودية، ولمّا سمعت ذلك الصوت المزعج من ذلك المؤذّن دخل في قلبها الاشمئزاز والنفور؛ ممّا خفّف وطأة إصرارها على الإسلام حتّى عادت فيما بعد إلى اليهودية! فَكان هذا العمل من هذا المؤذّن استحق الشكر في نظر اليهودي؛ لأنّه صنع ما لم يصنعه(١) .

وقد ورد في الفقه الإسلامي استحباب أن يتقدّم للأذان مَنْ كان صوته جميلاً؛ لأنّ طبع الإنسان ميّال إلى الجميل، وكذلك في قراءة القرآن أمام الناس؛ فإنّ اللحن الحسن والصوت الجميل لهما أثر في القلوب.

إنَّ من أبرز الاُمور التي ميّزت الخطابة المنبرية عن غيرها تضمّنها لجزء واسع من الأداء الصوتي، فعلى الخطيب أن يراعي

____________________

(١) حكايت ها وهدايت ها در آثار شهيد مطهري / ٣٢٠. (فارسي)

٦٣

هذين الأمرين:

أ - أن يتقن أطوار الخطابة الحسينيّة المختلفة، ويستفيد منها بحسب أذواق الحاضرين، فإنّ لكلّ جماعة ذوقاً ينبغي مراعاته والقراءة على طبقه؛ فإنّ ذلك ضامن لامتلاك نفوسهم وعواطفهم.

ب - أنَّ المنبر الحسيني كما إنّه وسيلة للهداية والإصلاح، فهو عبرة تمتزج العواطف مع أهل البيتعليهم‌السلام تعبيراً عن الولاء والإخلاص لهم؛ ولهذا فإنّ غالبية الناس لا يفرّطون بهذه الدموع، فيرجّحون غالباً المنبر الذي فيه ذلك، وإن كان بسيطاً في موضوعه على المجلس الذي يخلو من ذكر مصائب أهل البيتعليهم‌السلام ، وإن كان المتحدّث يأتي بالجديد والغريب.

إضافة إلى ذلك أنّ الناس يرجّحون الخطيب الذي يتمتّع بصوت حسن، وأداء جيد على الخطيب الذي ليس لديه حظّ من ذلك؛ لما تقدّم في أنّ الخطيب مهمّته تقريب القلوب من صاحب المصاب.

فالخطيب الذي ليس لديه ما ترغب به الناس أن لا يقحم نفسه معهم؛ فإنّ النتيجة سوف لا تكون بصالحه، والتجربة شاهد على ذلك، إلاّ إذا علم توافقهم مع ما عنده.

صوت الإنسان

إنّ مصدر حدوث الصوت في الإنسان هما الحبلان الصوتيّان في الحنجرة، والحبلان الصوتيّان غشاءان عضليّان مثبّتان بين الغضروف العلوي والخلفي للحنجرة، وبينهما فتحة ضيّقة، ويتحكّم في شدّ وارتخاء هذين الغشاءين عضلات خاصة، فإذا كان الإنسان صامتاً فإنَّ الحبلين الصوتيين يكونان مرتخيين، وإذا تحدّث الإنسان فإنّ الحبلين

٦٤

الصوتيين يصبحان مشدودين، وتضيق الفتحة بينهما، وعندما يندفع الهواء بين الحبلين الصوتيين فإنّهما يهتزّان، وبمساعدة الحلق واللسان، والشفتين والأسنان يتشكّل صوت الإنسان وتُسمع الكلمات.

خصائص الصوت

وهي ثلاث:

أ - القوّة (شدّة الصوت)

هي سعة اهتزازات الآلة الصوتية، وهي تتعلّق بالقوّة التي يطرد فيها الهواء الرئتين، كما إنّ قوّة الصوت الخارج من أوتار العود مرجعها قوّة ضرب الأنامل.

ب - النبرة (درجة الصوت)

وهي في درجة شدّ الأوتار، أو ما ينجم عنها من تغيّر في مدى الاهتزاز، وهذا الشدّ تقوم به عضلات الحنجرة التي تشدّ أو ترخى، والتي قد يصيبها الشلل كما في بعض الأمراض العصبية فيبحّ الصوت أو ينطفئ.

ج - الرنّة (نوع الصوت)

وهي التي تميّز الأصوات بعضها عن بعض؛ لأنّها تتعلّق بتجويف الفم، وتختلف في كلّ واحد باختلاف هذا التجويف؛ إذ لا علاقة للرنّة في قوّة الصوت ونبرته، وقد يصل الإنسان بالتمرين إلى تبديل رنّة صوته، كما يفعل المقلّدون في محاكاة غيرهم من الناس، أو محاكاة أصوات الحيوانات.

٦٥

عيوب الصوت وعلاجها

عيوب الصوت كأن تكون رنّات الصوت مزعجة، أو لا تكون من القوّة بحيث تسترعي الانتباه، أو يكون بالخطيب ضيق نفس بحيث لا يستطيع أن يقول كلاماً مفيداً من غير أن يقطع النفس بيانه، ويفسد عليه استرساله، وهذه العيوب بعضها يعالج بالمران، وبعضها يستعان عليه بالطبّ مع المران.

وقد وضعوا بعض المحاولات في تحسين رنّة الصوت أو قوّته، كما إنّه ليس هناك أنفع أثراً من المران.

فإذا كنت تحسّ أنّ كلامك مضطرب، ونبرات صوتك تثير السخرية للسامع، أو لا تسترعي التفاته، فجرّب التمرينات التالية عشر دقائق كلّ يوم لمدّة شهر:

أ - خذ نفساً عميقاً ثمّ الهث بسرعة ونشاط حتّى تتعب، ثمّ حاول أن تضحك وأن تستنشق الهواء ببطء عدّة مرّات، وحاول عند الزفير أن تكرّر كلمتي (هوت) (هات)، ولا تيأس أذا أجهدتك هذه التمرينات في الأيام الأولى؛ فإنّ ذلك يدلّ على أنّ عضلة الحجاب الحاجز عندك في حاجة إلى تنشيط.

ب - لتنشيط عضلات الفكّين حوّل رأسك في حركات دائرية، ثمَّ تثاءب وأَدر فكَّيك ببطء من جانب إلى جانب، ثمَّ اقرأ في همس وبسرعة حتّى تتعب الأوتار.

إنّ بعض العيوب ترجع إلى ضعف نبرات الصوت، وإلى سوء نطق الحروف التي تتكوّن بتحريك اللسان والشفتين، والأسنان وسقف

٦٦

الحلق والفكين في أوضاع مختلفة، وهذه التمرينات مفيدة لتلافي هذه العيوب.

ج - إذا كنت (أخنب)، كلامك يبدو من أنفك، فإنّ ذلك يرجع إلى أنّك تسدّ أنفك أثناء الحديث، فتحرم نفسك بذلك من تكبّر وترشّح مهم للصوت.

حاول أن (تدندن) لبضع دقائق، وأن تعود إخراج الصوت من الأنف بالإكثار من ترديد كلمات تنتهي بالحرفين (م، ن) أو المقطع (إنچ).

د - إذا كان الصوت ضعيفاً فعلاجه بتقوية الرئتين بالصياح كما فعل (ديموستين)؛ فقد كان ضعيف الصوت، فلمّا أراد أن يصبح خطيباً راض نفسه، فصعد على الجبال الوعرة، ووقف قرب ساحل البحر، محاولاً أن يكون صوته أعلى من صخب أمواج البحر. وقد كان له ما أراد بتلك المحاولات(١) .

التحكّم في الصوت

أ - أن يجعل الخطيب صوته مناسباً لسعة المكان، ولعدد السامعين، فلا ينخفض حتّى يصير همساً في آذانهم، ولا يعلو حتّى يكون صياحاً، بل يكون بين هذا وذاك.

ب - وعند الابتداء يبتدئ بصوت منخفض، ثمّ يعلو شيئاً فشيئاً؛ فإنّ العلوّ بعد الانخفاض سهل، ووقعه على السامعين مقبول،

____________________

(١) كيف تكسب الثروة والقيادة.

٦٧

أمّا الانخفاض بعد الارتفاع فلا يحسن وقعه(١) .

ج - على الخطيب أن يوازن بين الزمن الذي تستغرقه خطبته والمجهود الصوتي الذي يجب بذله، وليجعل هذا على قدر تلك المدّة؛ وإلاّ أصابه الإعياء قبل الوصول إلى الغاية، وهذه مشكلة حقيقية يعاني منها الكثير من الخطباء، خاصّة الخطباء المبتدئين، فإنّ صوته لا يعينه على إتمام خطبته، وكثيراً ما تتغيّر نبرة الصوت في آخر الخطبة فيبحّ ممّا لا يسعفه على إتمام الخطبة إلاّ بعناء ومشقّة.

____________________

(١) الخطابة - اُصولها، تاريخها - محمد أبو زهره / ١٧٠.

٦٨

الإشارات

الإشارات هي المخاطبة الصامتة، أو هي لغة التفاهم العامّة، وهي في كثير من الأحيان صوت الشعور وعبارة الوجدان. فالغاضب ينغض جبينه، ويعبس وجهه، ويقبض أصابعه بدافع شعوري من غير إرادة؛ لهذا كان للإشارة أثر في إثارة الانتباه والشعور، وتقوية الدلالة؛ لأنّ للمعنى ثلاث دلالات:

١ - لفظيّة

٢ - صوتيّة

٣ - إشارات بيانيّة

والإشارات البيانيّة بعضها شعوري اندفاعي لا يكون بالإرادة، بل بدافع الإحساس الوقتي للخطيب الذي يثيره موقفه الخطابي، كتحريك الحاجبين للدهشة، وبعضها إرادي قصدي يعمد إليه الخطيب للتأثير.

والإشارات على نحو عام ذات أثر في تأكيد الكلام في نفس السامع وتقويته، غير أنّه يجب أن يلاحظ إنّ للإشارات قيوداً لا تحسن إلاّ بها:

أ - يجب أن تكون ملائمة للمعنى، موافقة له؛ يشعر السامعون بقوّة دلالتها عليها، وإلاّ كانت حركات عابثة لا معنى لها.

ب - أن تكون الإشارة مقارنة للقول أو تسبقه قليلاً؛ لتكون ممهّدة ومنبّهة له، فينتبه السامعون ويترقّبونه ليجئ في وقت الحاجة إليه فيثبت بأحسن ثبات.

ج - لا يصح أن تتكرّر الإشارة؛ فإنّ في تكرارها ما يدعو إلى السأم والملل، وما يوهن موقف الخطيب، ويضعف تأثير قوله، ويذهب

٦٩

بسمت الخطيب ومهابته عند السامعين، فعلى الخطيب أن يتقيّد في اعتدال استخدام الإشارات وبحسب الحاجة(١) .

د - الإشارات عادة وبحسب المألوف تكون باليدين، وبتعبيرات الوجه، ولا تليق بتحريك تمام البدن.

الجلوس

الهيئة التي تتلائم مع الخطابة المنبرية هي الجلوس، فعلى الخطيب أن يحسن جلوسه على المنبر الذي لا بدّ أن يكون مرتفعاً؛ ليشرف على السامعين، وليصل صوته إليهم ليتمكنوا من رؤيته؛ فإنّ الرؤية تعين على حسن الاستماع.

وقبل الشروع في الخطبة في أوّل ارتقائه المنبر يحسن بالخطيب النظر قليلاً إلى المستمعين حتّى يتمّ سكوتهم، ويلفت انتباههم نحوه، أو يدعوهم إلى الصلاة على النبي وآله الطاهرين.

____________________

(١) المصدر نفسه / ١٧٣.

٧٠

الباب الخامس

الحالة النفسيّة للخطيب

١ - الحالة النفسيّة للخطيب

٢ - آثار الانفعال

٣ - رباطة الجأش

٤ - أسباب المخاوف وعلاجها

٥ - تأثير العادات على الخطيب

٦ - أسباب الشرود الذهني عند السامع

٧١

الحالة النفسيّة للخطيب

إنَّ جميع أعمال الإنسان تحتاج إلى عنصر نفسي نابع من ذات الإنسان، به يؤدي تلك الأعمال بمستواها الطبيعي والمألوف، وكلّما ازدادت الأعمال تعقيداً احتاجت إلى قوّة نفسية مقابلة لها. فالفوز والفشل، والنصر والهزيمة منبعهم الأول هو ذات الإنسان نفسه.

فالجندي مثلاً إذا كان مهزوماً في أعماق نفسه فإنّه لا ينال النصر على أعدائه، ولو كانت بين يديه الأسلحة الفتّاكة؛ فالمنهزم في ذاته يعجز عن أداء أبسط الأعمال.

وإذا كان للعامل النفسي هذا الدور والتأثير العظيم في أعمال الإنسان، فقد دأب أساتذة الفنّ على تصحيحه، وتقويته في نفوس المتعلّمين.

ففي الفنون القتاليّة مثلاً يمارس المتعلّم الحركات القتاليّة أمام خصم مفترض، وفي الوقت نفسه يخضع لعمليّة نفسيّة تزرع وتحفر في ذاته الثقة بقدراته وقابليّاته، بحيث توثق أركان النصر على أعدائه في أعماق نفسه، قبل المباراة معهم في الواقع.

ومن هذا نستطيع القول أنّ الخطابة شأنها في ذلك كشأن تلك الفنون، تحتاج في تربية الخطيب المبتدئ إلى جانبين:

أ - تعليم اُصول وقواعد فن الخطابة الحسينيّة.

ب - تدريب العامل النفسي عند الخطيب.

الغالبيّة من المبتدئين يساورهم الخوف حينما يرتقي المنبر، وتضطرب نفسه، ويختلّ سلوكه، ويتخبّط في أدائه.

فالبعض لا يقوي

٧٢

على التغلّب على هذه العقدة، فينهزم عن هذا الميدان بانهزام ذاته، أو إنّ البعض لا يتجرّأ منذ البدء على الممارسة العمليّة في الخطابة؛ لتوغّل الخوف في أعماقه، أمّا البعض الآخر يقاوم تلك المخاوف ويصارعها إلى أن ينال مراده.

ولمّا كانت لهذه المخاوف هذا التأثير العظيم على سير الخطيب، ينبغي أن يقف الخطيب المبتدئ على أسباب وآثار تلك المخاوف، وكيفية علاجها.

آثار الانفعال

عندما يتعرّض الخطيب لموقف فيه آثاره للمخاوف تحدث في جسمه عدّة تغيّرات فسيولوجية هامّة تؤثر على وضعه النفسي؛ فيؤدّي به إلى اضطراب ملحوظ.

ومن هذه التغيّرات:

أ - التغيّرات الحاصلة في الدورة الدمويّة

عندما ينفعل الإنسان بنحو عام عند تعرّضه لموقف فيه إثارة للمخاوف، يزداد سرعة خفقان القلب كما تزداد شدّته. وقد لوحظ أنّ سرعة النبض تزيد أثناء الانفعال من (٧٢) إلى (١٥٠) نبضة في الدقيقة، وينتج عن سرعة نبضات القلب وشدّتها زيادة في كمية الدم التي يرسلها القلب إلى أجزاء البدن المختلفة؛ وهذا يؤدّي إلى ازدياد ضغط الدم.

ويحدث أثناء الانفعال انقباض الأوعية الدمويّة الموجودة في الأحشاء، واتّساع في الأوعية الدمويّة الموجودة في الجلد وفي الأطراف؛ ويؤدّي ذلك إلى اندفاع الدم الموجود من الأحشاء إلى

٧٣

الأجزاء الخارجية في البدن وإلى الأطراف؛ ولذلك يحمر وجه الإنسان، ويشعر بالحرارة تتدفق في وجهه وفي بدنه(١) .

ب - التغيّرات التي تحصل في الغدد

يزداد نشاط العرق أثناء الانفعال ممّا يسبب تصبب العرق بشدّة، وخاصة في الجبهة وفي اليدين، ويقلّ نشاط الغدد اللعابية ممّا يسبب جفاف الحلق(٢) .

ج - تغيّرات اُخرى

يلاحظ أثناء الانفعال أيضاً اضطراب في التنفّس، واتّساع في شعبتي القصبة الهوائيّة، كما يحدث اتّساع في بؤبؤ العين، ويزداد التوتر العضلي(٣) .

د - تغيّرات في نبرة الصوت

ويحدث الانفعال تغيّراً هاماً في نبرات الصوت، ويعبّر عادة عن حالة الشعور بالفشل واليأس بخفوت الصوت وببطء الكلام، ويعبّر عن حالة التهيّج والتحمّس بارتفاع الصوت وحدّته.

إنّ الانفعال يحدث عادة حالة من التوتّر في البدن، ويمتدّ هذا التوتّر إلى الأوتار الصوتيّة، والحجاب الحاجز، ويؤدّي ازدياد توتّر الأوتار الصوتيّة والحجاب الحاجز إلى ازدياد حدّة الصوت

____________________

(١) علم النفس - الدكتور اُميمة علي خان / ١٢٤.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه / ١٢٥.

٧٤

وعلوّه وارتفاعه، كما يشاهد في حالات الخوف أو الغضب(١) .

ﻫ - تأثيرات الانفعال في العمليّات العقليّة

لا تسلم العمليّات العقليّة من أسباب الانفعال؛ فهي تتأثّر كما يتأثّر أعضاء البدن، ومن تأثيرات الانفعال:

أ - حصول النسيان: لا يتذكَّر أحياناً حتّى الأشياء التي انطباعها قويّ في ذاكرته.

ب - فقدان القدرة على تنظيم الفكر: تبدو أفكاره وحركاته غير مترابطة، فترى مثلاً المناقش الهادئ الرزين يلجأ حين يفحم ويرتج عليه إلى الصياح، أو اللحاح، أو المكابرة، وإذا به أضحى عاجزاً عن الفهم، عاجزاً عن إخفاء ما تنطوي عليه نفسه من شكّ وارتياب، أو خوف أو بغض(٢) .

ج - الحبسة في اللسان: وهي ثقل النطق عليه، وهي ناتجة من عدم وضوح ما يريد أن يقوله، أو من الحياء والخجل(٣) .

د - إدخال بعض الكلام في بعض: ومنشأ هذا العيب في بعض الأحوال إنّ الألفاظ بسبب سعة المخيّلة تسبق القصد، فالمتكلّم يستعمل اللفظ ثمّ يتركه إلى سواه قبل أن يتمّ تكوّنه(٤) .

تبين لنا في هذا الكلام أهم ما يعتري الخطيب المبتدئ، الذي يعاني من الخجل

____________________

(١) المصدر نفسه / ١٢٧.

(٢) اُصول علم النفس - أحمد عزّت / ١٦٦.

(٣) الخطابة - اُصولها، تاريخها / ٦٣.

(٤) المصدر نفسه.

٧٥

والخوف والاضطراب، ولكن المبتدئين يختلفون في نسبة تأثّرهم بذلك من جهة الشدّة؛ لاختلاف طبائعهم.

رباطة الجأش

نستطيع القول الآن بعد بيان ما تقدّم بأنَّ الخطيب لا يكون خطيباً حقّاً إلاّ ببلوغ مرحلة الاستقرار النفسي، والثقة بها ورباطة الجأش، بحيث تزول عن نفسه المخاوف التي كانت تنتابه في مرحلة البدء أثناء مقابلة الناس وهو على المنبر.

فالخطيب المقتدر هو الذي لا يتعلّق في نفسه وجل ولا اضطراب، إنّما يتلذّذ في أدائه حينما يكون على المنبر أكثر من بقيّة أحواله العاديّة.

فالخطيب الذي يُقال عنه خطيب هو الذي يقف أمام الجالسين مطمئن النفس، غير مضطرب ولا وجل، وإلاّ لم يستطع ملاحظة السامعين، ولم يؤثّر كلامه فيهم. وهم إن أحسّوا بضعفه واضطرابه صغر في نظرهم، وهان هو وكلامه في أعينهم، فيذهب كلامه هباءً منثوراً.

ولا بدّ أن نلفت الانتباه [ إلى ] أنّ قولنا: (الذي بلغ مرحلة الثبات والاستقرار النفسي ورباطة الجأش حقّ عليه القول بأنّه خطيب)، قولنا هذا يتفق مع إتقان وأحكام الجانب الأول من علم قواعد فنّ الخطابة وأدائها بالنحو الصحيح؛ وإلاّ فالكثير ممّنْ ارتقى المنبر ساعدته قواه النفسيّة وثقته بها على الظهور بالثبات ورباطة الجأش، ولكنّه طبق المحاكمة مع قواعد فنّ الخطابة لم يكن خطيباً بالمعنى الذي يراد من فنّ الخطابة.

٧٦

أسباب المخاوف وعلاجها

١ - إنّ السبب العميق الذي يبعث الفرد على الشعور بالنجاح أو الفشل هو ما يحمله من صورة ذهنيّة عن نفسه، فالذي تمتلئ نفسه بالمخاوف إنّما تتمركز في ذهنه صورة الفشل والنقص، فلن ينفع طبيب ولا دواء لمعالجة هذا الخوف المتمكّن في أعماق الذات إلاّ إذا تغلّب الفرد على شعوره بالنقص والفشل؛ فإنّ سرّ النجاح عند اُولئك الذين ليسوا أكثر خبرة ومعرفة من غيرهم، هو كامن في الصورة التي يحملونها في أذهانهم لأنفسهم، لقد تمثّلوا في أنفسهم رجالاً ناجحين.

أمّا اُولئك الذين توفّرت لهم مؤهّلات النجاح، ومع ذلك أخفقوا، فالأغلب أنّ نفوسهم حافلة بالمخاوف والشكوك، وأنّ أسباب تلك المخاوف إيحاءات وهميّة غير واقعيّة يتفاعل معها الفرد الخائف فتثبط عزيمته عن مواجهة المواقف(١) .

فخلع صورة الفشل من أعماق النفس واستبدالها بالثقة بالقدرات والطاقات، وإحلال محلّها الثقة بالنجاح، خطوة أولى في معالجة تلك المخاوف.

حدِّث نفسك دائماً بأنّك تخطب أمام جمهور غفير، وبخطاب بليغ، حدِّث نفسك دائماً بأنّ التوفيق رفيق لك لا يفارقك، ولا تدع غير هذا يتسرّب إلى ذهنك فيثبط عزيمتك ويخذلك.

____________________

(١) كيف تكسب الثروة والقيادة.

٧٧

٢ - بعد التغلّب على المخاوف النفسيّة، وخلع صورة الفشل أن يشخّص المبتدئ هدفه منذ البدء - هدفه في الخطابة -، وأن يعتقد به اعتقاداً راسخاً.

٣ - أن يجمع المبتدئ عزمه وإرادته، ويحمل نفسه على الخوض في ميدان الممارسة العملية؛ فإنّ أنفع طريق لقتل وخلع تلك المخاوف الكامنة في الذات هو اقتحام الأمر المخوف بعد القناعة بغلبته، كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : «إذا هبت أمراً فقع فيه؛ فإنّ شدّة توقّيه أعظم ممّا تخاف منه»(١) .

فالذي اعتقد بهدف وغاية الخطابة ما عليه إلاّ أن يمارس في الواقع ما يصبو إليه، فقد اقترن مع النكوص الحرمان، ومع الشجاعة والاقتحام التوفيق والنجاح، كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : «قُرنت الهيبة بالخيبة، والحياء بالحرمان»(٢) .

وعليك أن تكون أصعب من الصعوبات التي تواجهك أثناء الممارسة العمليّة؛ فإن كنت كذلك سهلت الاُمور، وذلَّ لك كلّ شيء. أمّا لو كنت خلاف هذا، صار كلّ شيء أقوى من قواك، فيتعذّر عليك التغلّب عليه، وكان الفشل عاقبة أمرك.

٤- جُبل الإنسان على حبّ ذاته ومتعلّقاتها، ففي جانب من هذا الحبّ يحرص أن تظهر علاقاته الاجتماعيّة بصورة تتلاءم وتتناسب مع هذا الحبّ؛ فهو يجلب لها كلّ ما يزين صورته ويحسّنها أمام الناس، ويدفع عنها ما يسيء إليها ويخدشها.

وكلّما ارتفع شأن الفرد ومنزلته في اُمور الحياة الاجتماعيّة تكوّرت حوله هالة عظيمة من

____________________

(١) نهج البلاغة ١٨ / ١٧٧.

(٢) نهج البلاغة ١٨ / ١٣١.

٧٨

المخاوف، فيراقب سلوكه ضمن المجتمع مراقبة شديدة يخاف أن تخدش هذه المنزلة، فيشدّد العزم ويجتهد على الحفاظ عليها، فيحذر ويتجنّب أصغر الاُمور التي لا تعدّ في الحياة العاديّة ما يسيء إليه، ويرفض أيضاً من الآخرين أيّ سلوك يظنّ فيه ما يخدش تلك المنزلة.

البعض من الخطباء المبتدئين يأتي إلى الخطابة وهو يحمل هذه الصورة، صورته ضمن المجتمع، فتنشأ عنده مخاوف من هذا السبب حينما يرتقي المنبر تعتلج في صدره مخاوف الفشل، وما يترتب على هذا الفشل من الظهور أمام الآخرين بصورة تقدح في منزلته بينهم، فتأخذ هذه الصورة من ذاته مأخذاً عظيماً تسبب له الاضطراب والحيرة والقلق.

أمّا علاج هذا التوهّم: ينبغي للخطيب المبتدئ أن يقلع سبب هذا التوهّم، فالمبتلي به عليه أن يصحح نظرته اتّجاه بعض أنماط السلوك الاجتماعي.

أولاً: أن لا يبالغ الفرد مهما كان شأنه بقيمته ومنزلته؛ فهو في مجال تعلّم الخطابة، فعليه أن يعرف أنّ شأنه في ذلك شأن المتعلّم الذي ليس له في البدء غير استعداد التعلّم، وهذا لا يقدح أصلاً في مقامه، ولا في شأنه، أمّا أن يضع نفسه أعلى من ذلك فعليه أن يتحمّل أسباب الفشل.

ثانياً: الإنسان ما عدا مَنْ عصمهم الله تعالى ممزوج بالنقص والعيوب، ولكنّها متفاوتة بين الأفراد نوعاً وشدّة، فكما إنّ الإنسان فيه

٧٩

القابلية على النكوص فيه القابلية على التكامل والعلوّ، ولا يخرج ذلك إلاّ بالتجربة والعمل؛ فبالعمل المناسب للنكوص يتراجع الفرد، وبالعمل المناسب للنجاح يعلو الفرد ويسمو.

فالنقص والعيب في القابليات والقدرات ليست اُموراً قادحة في الفرد، ولا مُحِطّة لقيمته، فهي ليست ما يشكّل خطراً في الوضع الاجتماعي إذا نظر إليها الفرد نظرة واقعية.

ثالثاً: لا يحكم الخطيب المبتدئ على نفسه بالفشل القطعي إذا لم يوفّق في محاولة واحدة أو عدّة محاولات؛ فإنّ الخطابة منهجها التكرار والمواصلة فلا تظهر الثمرة فيها دفعة واحدة.

ولنعلم أنّ كثيراً ممّن تفوّقوا في كثير من الاختصاصات العلميّة والفنيّة إنّما اتّخذوا من الفشل منطلقاً.

لم يقعد بهم الفشل إلى اليأس والقنوط والتراجع، إنّما حفّز إرادتهم وشجَّعهم على المواصلة والجدّ والسعي والمثابرة، فنالوا أهدافهم، وتفوّقوا على أقرانهم، ولعلَّ هذا هو المستفاد من قول أمير المؤمنينعليه‌السلام : «سيئة تسوءك خير عند الله من حسنة تعجبك»(١) .

فقد يخرج الفشل كوامن الطاقات، وقد يخلد الفوز والنجاح إلى الكسل والغرور والجمود؛ فعليك أن تتقبّل الفشل كما تتقبّل النجاح، كلاهما يدفعان بك إلى العمل والنشاط والمثابرة.

٥ - من الأسباب المهمّة التي تنشأ الاضطراب في نفس الخطيب

____________________

(١) نهج البلاغة ١٨ / ١٧٤.

٨٠

المقصد الثاني

وهو يشتمل على وقائع الطريق حتى ورود الرَّكْب الحسيني أرض الشام

ويكون على فصلين:

الفصل الأول

الركب الحسينيّ في الكوفة

٨١

٨٢

الفصل الأول

« الرَّكْب الحسينيّ في الكوفة »

الرأس المقدّس يسبق الركْب إلى الكوفة:

مرّ بنا أنّ الطبري من المؤرّخين الذين رووا أنّ عمر بن سعد أرسل برأس الإمامعليه‌السلام - بعد قتله مباشرة - مع خولّي بن يزيد، وحميد بن مسلم الأزدي إلى عبيد الله ابن زياد، لكنّه حينما يواصل روايته(١) . يقول: (فأقبل به خولّي، فأراد القصر فوجد باب القصر مُغلقاً، فأتى منزله(٢) ، فوضعه تحت أُجانه في منزله، وله امرأتان، امرأة من بني أسد، والأُخرى من الحضرميين، يُقال لها: النوّار ابنة مالك بن عقرب، وكانت تلك الليلة ليلة الحضرميّة.

قال هشام: فحدّثني أبي، عن النوّار بنت مالك قالت: أقبل خوّلي برأس الحسين فوضعه تحت أُجانة في الدار، ثمّ دخل البيت فأوى إلى فراشه، فقلت له: ما الخبر عندك؟ قال: جئتك بغنى الدهر! هذا رأس الحسين معك في الدار! قالت:

____________________

(١) تُلاحَظ هنا ثغرة تأريخية؛ إذ لا نعلم كيف انفرد خولّي بالرأس، وكيف اختفى حميد بن مسلم الأزدي عن مسرح قصّة حمْل الرأس إلى ابن زياد!

(٢) وكان منزله على فرسخ من الكوفة. (راجع مقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم: ٣٠٤، ورياض الأحزان: ١٦).

٨٣

فقلت: ويلَك! جاء الناس بالذهب والفضّة، وجئت برأس ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ! لا والله، لا يجمع رأسي ورأسك بيتٌ أبداً!

قالت: فقمت من فراشي فخرجت إلى الدار، فدعا الأسدية فأدخلها إليه، وجلست انظر، فوالله، ما زلت أنظر إلى نور يسطع مثل العمود من السماء إلى الأُجانة! ورأيت طيراً بيضاً تُرفرف حولها!

قال: فلما أصبح غدا بالرأس إلى عبيد الله بن زياد ...)(١).

أمّا السيّد هاشم البحراني فيقول: (إنّ عبيد الله بن زياد لعنه الله، بعدما عُرِض عليه رأس الحسينعليه‌السلام ، دعا بخولّي بن يزيد الأصبحي وقال له: خُذْ هذا الرأس حتّى أسألك عنه.

فقال: سمعاً وطاعة.

فأخذ الرأس وانطلق به إلى منزله، وكان له امرأتان، إحداهما ثعلبية، والأُخرى مُضَرية، فدخل على المضريّة، فقالت: ما هذا؟!

فقال: هذا رأس الحسين بن عليّ وفيه مُلك الدنيا!

فقالت له: أبشِر! فإنّ خصمك غداً جدّه محمّد المصطفى!

ثم قالت: والله، لا كنت لي ببعْل، ولا أنا لك بأهل! ثمّ أخذت عموداً من حديد وأوجعت به دماغه!

فانصرف من عندها وأتى به إلى الثعلبية، فقالت: ما هذا الرأس الذي معك؟

قال: هذا رأس خارجيّ، خرج على عبيد الله بن زياد.

فقالت: وما اسمه؟

فأبى أن يُخبرها ما اسمه، ثمّ تركه على التراب وجعل عليه أُجانة.

قال: فخرجت امرأته في الليل، فرأت نوراً ساطعاً من الرأس إلى عنان السماء! فجاءت إلى الأجانة، فسمعت أنيناً وهو يقرأ! إلى طلوع الفجر! وكان آخر ما قرأ:

____________________

(١) تأريخ الطبري: ٣: ٣٣٥.

٨٤

( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) ، وسمعت حول الرأس دويّاً كدويّ الرعد! فعلمت أنّه تسبيح الملائكة!

فجاءت إلى بعْلها وقالت: رأيت كذا وكذا، فأيّ شيء تحت الأجانة؟!

فقال: رأس خارجي، فقتله الأمير عبيد الله بن زياد، وأُريد أن أذهب به إلى يزيد بن معاوية؛ ليُعطيني عليه مالاً كثيراً!

قالت: ومَن هو؟!

قال: الحسين بن عليّ!

فصاحت وخرّت مغشيّة عليها! فلما أفاقت قالت: يا ويلك! يا شرّ المجوس! لقد آذيت محمّداً في عترته! أما خفت من إله الأرض والسماء؛ حيث تطلب الجائزة على رأس ابن سيّدة نساء العالمين؟!

ثمّ خرجت من عنده باكية، فلما قامت رفعت الرأس وقبّلته ووضعته في حِجْرها وجعلت تُقبّله وتقول: لعن الله قاتلك! وخصمه جدّك المصطفى!

فلما جَنّ الليل غلب عليها النوم، فرأت كأنّ البيت قد انشقّ بنصفين وغشيَه نور! فجاءت سحابة بيضاء، فخرج منها امرأتان، فأخذتا الرأس من حِجْرها وبكَتا!

قالت: فقلت لهما: بالله، مَن أنتما؟

قالت إحداهما: أنا خديجة بنت خويلد! وهذه ابنتي فاطمة الزهراء! ولقد شكرناك، وشكر الله لك عملك، وأنت رفيقتنا في درجة القدس في الجنّة!

قال: فانتبهت من النوم والرأس في حِجرها، فلما أصبح الصبح جاء بعْلُها لأخذ الرأس، فلم تدفعه إليه وقالت: ويلك! طلّقني! فوالله، لا جمعني وإيّاك بيت!

فقال: ادفعي لي الرأس وافعلي ما شئت!

فقالت: لا والله، لا أدفعه إليك!

٨٥

فقتلها وأخذ الرأس، فعجّل الله بروحها إلى الجنّة في جوار سيّدة النساء)(١).

منازل الطريق من كربلاء إلى الكوفة (٢) :

لم نجد في المصادر التأريخيّة - في ضوء مُتابعتنا - ذكراً وتفصيلاً لما جرى على الركب الحسيني في الطريق بين كربلاء والكوفة، غير أنّ هناك خبراً كاشفاً، عن أنّ (الحنّانة) كانت أحد هذه المنازل، يقول الشهيد الأوّل (ره): (فإذا نزلتَ الثويّة، وهي الآن تلّ بقُرب الحنّانة، عن يسار الطريق لمن يقصد من الكوفة إلى المشهد، فصلّ عندها ركعتين، كما روي أنّ جماعة من خواصّ أمير المؤمنينعليه‌السلام دُفنوا هناك، وقُلْ ما تقوله عند رؤية القبّة الشريفة، فإذا بلغت العَلَمَ وهي الحنّانة، فصلّ ركعتين، فقد روى محمّد بن أبي عمير، عن المفضّل قال: جاز الصادقعليه‌السلام بالقائم المائل في طريق الغريّ فصلّى ركعتين، فقيل له: ما هذه الصلاة؟

____________________

(١) مدينة المعاجز: ٤: ١٢٤ رقم ١٨٥، وانظر: ص١١٤، وهذه الرواية بهذا النحو رواها المرحوم السيّد البحراني مُرسلة، ولعلّه قد انفرد بها.

(٢) قال البراقي: كانت الكوفة واسعة كبيرة تتّصل قُراها وجباباتها إلى الفرات الأصلي وقُرى العذار، فهي تبلغ ستّة عشر ميلاً وثُلُثي ميل.

وقال البراقي أيضاً: أحد حدودها خندق الكوفة المعروف (بكري سعد)، والحدّ الآخر القاضي الذي هو بقرب القائم إلى أن يصل قريباً من القرية المعروفة اليوم بـ (الشنافيّة)، والحدّ الآخر الفرات، الذي هو مُمتدّ من الديوانية إلى الحسكة إلى القرية المعروفة اليوم بـ (أبو قوارير) وهي منزل الرماحيّة، والحدّ الرابع قرى العذار التي هي من نواحي الحلّة السيفيّة. (راجع: تاريخ الكوفة: ١٣٤).

وقال ياقوت الحموي: ذكر أنّ فيها من الدور خمسين ألف دار للعرب من ربيعة ومضر، وأربعة وعشرين ألف دار لسائر العرب، وستّة آلاف دار لليمن. (مُعجم البلدان: ٤: ٤٩٢).

٨٦

فقال:(هذا موضع رأس جدّي الحسين بن عليّ عليهما‌السلام ، وضعوه هاهنا لما توجّهوا من كربلاء، ثمّ حملوه إلى عبيد الله بن زياد لعنة الله عليه ...) (١) .

وقال الشيخ محمّد مهدي الحائري: (وقال المرحوم - وحيد عصره - شيخنا النوري نوّر الله مضجعه: إنّه كان قريباً من النجف الأشرف ميل من الجص والآجر، ويقال له: القائم. ويسمّونه: بالعَلَمْ. فلما قُبض أمير المؤمنينعليه‌السلام وجاءوا إلى النجف الأشرف، فلما وصلوا إلى العَلَم والقائم انحنى تعظيماً لأمير المؤمنين كالراكع فسمّوه بالحنّانة، وزيد في شرفه أنّه لما جيء برأس الحسينعليه‌السلام إلى الكوفة ووصل هناك وقد مضى من الليل شطره، فوضع اللعين الحامل الرأس المبارك في ذلك المقام، وهذا أوّل منزل نزل به رأس الحسينعليه‌السلام في طريق الكوفة، بقي غريباً وحيداً في ذلك المقام، ثمّ بنوا مسجداً في ذلك المكان وسُمِّي بمسجد الحنّانة، ويُستحب فيه الدعاء والزيارة وقيل: سُمّي بالحنانة؛ لأنّه لما وضِع رأس الحسينعليه‌السلام في ذلك الموضع سُمِع من الرأس الشريف حنين وأنين إلى الصباح، والله العالم)(٢) .

بقيّة الركب الحسينيّ:

تفاوتت المصادر التأريخية في عدد الباقين من الركب الحسينيّ، وفي أسماء الأسرى منهم، حينما أُخذوا من كربلاء إلى الكوفة، فقد قال ابن سعد في طبقاته: (ولم يفلت من أهل بيت الحسين بن عليّ الذين معه إلاّ خمسة نفر: عليّ بن

____________________

(١) المزار: ٦٩، وانظر: جواهر الكلام: ٢٠: ٩٣.

(٢) معالى السبطين: ٢: ٩٦.

٨٧

الحسين الأصغر، وهو أبو بقيّة وِلْد الحسين بن عليّ اليوم، وكان مريضاً فكان مع النساء، وحسن بن حسن بن عليّ،(١) وله بقيّة، وعمرو بن حسن بن عليّ ولا بقيّة له، والقاسم بن عبد الله بن جعفر، ومحمّد بن عقيل الأصغر، فإنّ هؤلاء استُضعفوا، فقدم بهم وبنساء الحسين بن عليّ وهنّ: زينب، وفاطمة ابنتا عليّ بن أبي طالب، وفاطمة، وسكينة ابنتا الحسين بن علي، والرباب بنت أنيف(٢) الكلبية امرأة الحسين بن علي، وهي أمّ سكينة وعبد الله المقتول ابنَي الحسين بن علي، وأمّ محمّد بنت حسن بن عليّ امرأة عليّ بن حسين، وموالي لهم ومماليك عبيد وإماء، قدم بهم على عبيد الله بن زياد مع رأس الحسين بن علي ورؤوس مَن قُتِل معه رضي الله عنه وعنهم)(٣) .

وقال الطبري: (وأقام عمر بن سعد يومه ذلك والغد، ثمّ أمر حميد بن بكير الأحمري، فأذّن في الناس بالرحيل إلى الكوفة، وحمل معه بنات الحسين وأخواته

____________________

(١) قال السيّد ابن طاووس (ره): (وروى مُصنِّف كتاب المصابيح: أنّ الحسن بن الحسن المثنّى قَتل بين يدي عمّه الحسينعليه‌السلام في ذلك اليوم سبعة عشر نفساً، وأصابته ثماني عشرة جراحة، فوقع فأخذه خاله أسماء بن خارجة، فحمله إلى الكوفة وداواه حتّى برئ وحملَه إلى المدينة) (راجع: اللهوف: ١٩١).

ومفاد ظاهر هذا الخبر، أنّ الحسن المثنّى لم يكن مع الأسرى في الركب الحسينيّ، الذين أُخذوا من كربلاء إلى الكوفة.

(٢) المشهور أنّ الربابّ بنت امرئ القيس.

(٣) ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام ومقتله / من القسم غير المطبوع من كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد / تحقيق السيّد عبد العزيز الطباطبائي (ره): ص٧٨، وانظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: ٣: ٣٠٣ في نقله عن طبقات ابن سعد. وانظر: تسمية مَن قُتِل مع الحسينعليه‌السلام : ١٥٧.

٨٨

ومَن كان معه من الصبيان وعليّ بن الحسين مريض)(١) .

وفي مقاتل الطالبيين: (وحمل أهله أسرى، وفيهم عمرو، وزيد، والحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام ، وكان الحسن بن الحسن بن عليّ قد ارتثّ جريحاً، فحُمل معهم، وعليّ بن الحسين الذي أمّه أمّ ولد، وزينب العقيلة، وأمّ كلثوم بنت علي بن أبي طالب، وسكينة بنت الحسين ...)(٢) .

وقال الشيخ عماد الدين الطبري في كامل البهائي: (وكنّ جميعهنّ عشرين نسوة، وكان لزين العابدين في ذلك اليوم اثنان وعشرون سنة، ولمحمّد الباقر أربع، وكانا كلاهما في كربلاء وحفظهما الله تعالى)(٣) .

ويُستفاد من (الفائدة الثالثة) التي ذكرها المحقِّق السماوي في كتابه إبصار العين: أنّ زوجة الشهيد جنادة بن الحرث السلمانيرضي‌الله‌عنه كانت في الركب الحسيني أيضاً، وهي أمّ الشهيد عمرو بن جنادةرضي‌الله‌عنه الغلام ذي الإحدى عشرة سنة من العمر، وكذلك كانت عائلة الشهيد مسلم بن عوسجةرضي‌الله‌عنه (٤) في هذا الركب، وأمّ الشهيد وهب الذي كان نصرانيّاًرضي‌الله‌عنه (٥) ، وآخرون قد يكشف عنهم التحقيق الدقيق.

____________________

(١) تاريخ الطبري: ٣: ٣٣٥، وانظر: الكامل في التاريخ: ٣: ٢٩٦، ومقتل الحسينعليه‌السلام / للخوارزمي: ٢: ٤٤، ومُثير الأحزان: ٨٣ وفيه أيضاً في ص ٩٨: (قال علي بن الحسينعليه‌السلام :(أُدخلنا على يزيد ونحن اثنا عشر رجلاً مغلَّلون ...) .

(٢) مقاتل الطالبيين: ١١٩، وانظر: اللهوف: ١٩١، وانظر: تاريخ أبي الفداء: ١: ٢٦٦ وفيه: (ثمّ بعث ابن زياد بالرؤوس وبالنساء والأطفال إلى يزيد بن معاوية وفيهنّ ابنة عقيل بن أبي طالب ...).

(٣) الكامل البهائي لعماد الدين الطبري: ٢٩٠.

(٤) راجع: إبصار العين: ٢٢٠.

(٥) راجع: أمالي الصدوق: ١٣٧ المجلس ٣٠، حديث رقم ١.

٨٩

متى دخل الركب الحسينيّ الكوفة؟

أكثر المصادر التأريخيّة، تذكر أنّ عمر بن سعد كان قد ارتحل من كربلاء إلى الكوفة في اليوم الحادي عشر بعد الزوال، حاملاً معه بقايا الركب الحسينيّ، وفي ضوء حساب المسافة وسرعة الدوابّ في ذلك العصر، فإنّ الأرجح أنّ عمر بن سعد ومَن معه يُمسون عند مشارف الكوفة أوّل الليل - أيّ ليلة الثاني عشر - هذا إذا كان قد جدّوا السير إلى الكوفة.

من هنا؛ فإنَّ الأرجح أنَّ الركب الحسينيّ قد بات ليلة الثاني عشر في صحبة عسكر ابن سعد، في منزل من منازل الطريق القريبة جدّاً من الكوفة أو على مشارفها، والظاهر أنّ عمر بن سعد كان قد دخل الكوفة نهار اليوم الثاني عشر مع عسكره وبقيّة الركب الحسيني أسرى وسبايا، ودخوله الكوفة نهاراً لا ليلاً أمرٌ يقتضيه العامل الإعلامي، وزهو الانتصار، والمباهاة بالظفر، في صدر كلٍّ من ابن زياد وابن سعد وأعوانهما.

وهناك أيضاً إشارات تأريخية، تؤكِّد أنّ دخول عمر بن سعد الكوفة كان في النهار، منها: ما رواه سهل بن حبيب الشهرزوري قال: فدخلتُ الكوفة فوجدت الأسواق مُعطّلة، والدكاكين مُغلّقة، والناس مجتمعون خلقاً كثيراً، حلقاً حلقاً، منهم مَن يبكي سرّاً، ومنهم مَن يضحك جهراً، فتقدّمت إلى شيخ منهم وقلت له: يا شيخ، ما نزل بكم؟! أراكم مُجتمعين كتائب! ألكم عيد لستُ أعرفه للمسلمين؟!

فأخذ بيدي وعدل بي ناحية عن الناس، وقال: يا سيّدي، ما لنا عيد! ثمّ بكى بحرقة ونحيب!

فقلت: أخبرني يرحمك الله؟!

قال: بسبب عسكرين أحدهما منصور، والآخر مهزوم مقهور!

فقلت: لمن هذان العسكران؟!

٩٠

فقال: عسكر ابن زياد، وهو ظافر منصور! وعسكر الحسين بن عليّعليهما‌السلام ، وهو مهزوم مكسور!

ثمّ قال: وا حرقتاه! أن يدخل علينا رأس الحسين!

فما استتمّ إذ سمعت البوقات تُضرب، والرايات تخفق قد أقبلت، فمددت طرْفي وإذا بالعسكر قد أقبل ودخل الكوفة)(١) .

إعلان حالة الطوارئ القصوى في الكوفة!

لما وصل إلى ابن زياد خبر عودة جيشه، بقيادة عمر بن سعد إلى الكوفة، أمر أن لا يحمل أحدٌ من الناس السلاح في الكوفة، كما أمر عشرة آلاف فارس أن يأخذوا السكك والأسواق، والطرُق والشوارع؛ خوفاً من النّاس أن يتحرّكوا حميّة وغيرة على أهل البيتعليهم‌السلام ، إذا رأوا بقيّتهم بتلك الحالة من الأسر والسبي، وأمر أن تُجعل الرؤوس في أوساط المحامل أمام النساء، وأن يُطاف بهم في الشوارع والأسواق؛ حتّى يغلب على الناس الخوف والخشية.(٢)

كما أمر عبيد الله بن زياد أن يضعوا الرأس المقدّس على الرمح، ويُطاف به في سكك الكوفة وقبائلها، واجتمع مئة ألف إنسان للنظر إليه، منهم مَن كان يُهنِّئ، ومنهم مَن كان يُعزّي!(٣).

____________________

(١) مدينة المعاجز: ٤: ١٢١.

(٢) راجع: معالي السبطين: ٢: ٥٧، وروضة الشهداء: ٢٨٨.

(٣) راجع: كامل البهائي: ٢٩٠ / ولا يخفى على المتتبّع العارف أنّ عدد نفوس أهل الكوفة آنذاك (سنة ٦١ هـ ق) قد يربو على ثلاثمئة ألف نسمة؛ ذلك لأنّ الكوفيين الذين كاتبوا الإمام الحسينعليه‌السلام في سنة ٦٠ هـ بعد موت معاوية، ذكروا له عن وجود مئة ألف مقاتل! فلو أنّ كلّ =

٩١

كيف استقبلت الكوفة بقيّة الركب الحسينيّ؟!

كانت الكوفة قد خرجت عن بكرة أبيها؛ لتشهد احتفال ابن زياد بمقدم جيشه الظافر في الظاهر! ولتشهد بقايا العسكر الذي قاتله جيش عمر بن سعد، ولتتصفّح وجوه السبايا!

ومن أهل الكوفة مَن كان يعلم بحقيقة مجرى الأحداث، ويُدرك عُظم المصاب وفظاعة الجناية التي ارتكبتها الكوفة بالأساس، ويدري أنّ السبايا المحمولين مع عمر بن سعد هم بقيّة آل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ الرؤوس المشالات على أطراف الأسنّة هي رؤوس ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته وأصحابه، وهم خير أهل الأرض يومذاك، فكان يبكي لعُظم الرزيّة!

ومنهم مَن كان أُمويّ الميل والهوى، أو جاهلاً لم يعلم بحقائق الأحداث، مُتوهّماً أنّ والي الكوفة وأميرها قد فتح فتحاً جديداً على ثغْر من ثغور المسلمين! وجيء إليه بسبايا من غير المسلمين، فكان يضحك جهراً ويُهنِّئ مَن يلقاه بهذه المناسبة!!

قال صاحب رياض الأحزان: (وقد مُلئت شوارعها - أي الكوفة - وسككها وأزقَّتها من الرجال والنسوان، والشيوخ والشبّان، والصبايا والصبيان، من الموالف

____________________

= واحد من هؤلاء ينتمي إلى عائلة من ثلاثة أفراد (في ضوء حساب المعدّل)، لكان مجموع نفوس الكوفة آنذاك حوالي ثلاثمئة ألف نسمة، ويُساعد على ما ذهبنا إليه، أنّ عمر بن الخطّاب في سنة ٢٢ هـ. ق كان قد صرّح بصدد أهل الكوفة قائلاً: وأيّ شيء أعظم من مئة ألف لا يرضون عن أمير ولا يرضى عنهم أمير؟! وأُحيطت الكوفة على مئة ألف مقاتل. (راجع: الكامل في التاريخ: ٣: ٣٢)، وهذا في سنة ٢٢ هـ؛ فلا شكّ أن نفوسهم بعد ٣٨ سنة قد بلغ حوالي ثلاثة أمثال عددهم سنة ٢٢ هـ.

٩٢

والمخالف، وحزب الرحمان، وأولياء الشيطان، منهم باكٍ ومُنتحب، ومنهم ضاحك وطرِب، منهم عارف بالواقعة العظمى، وأنّها جرت على آل النبيّ محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومنهم جاهل غافل عن البلوى)(١) .

وروى الشيخ الطوسي بسنده، عن حذلم بن ستير(٢) ، قال: (قدمت الكوفة في المحرّم سنة إحدى وستّين، مُنصرف عليّ بن الحسينعليهما‌السلام بالنسوة من كربلاء، ومعهم الأجناد يُحيطون بهم، وقد خرج الناس للنظر إليهم، فلما أقبل على الجِمال بغير وطاء جعل نساء الكوفة يبكين ويلتدمْن!(٣) ، فسمعت عليّ بن الحسينعليهما‌السلام وهو يقول بصوت ضئيل - وقد نهكته العلّة! وفي عنُقه الجامعة! ويده مغلولة إلى عنقه! -:(إنّ هؤلاء النسوة يبكين! فمَن قتلنا؟!) (٤) .

ويقول اليعقوبي في تاريخه: (وحملوهنّ إلى الكوفة، فلما دخلن إليها خرجت نساء الكوفة يصرخن ويبكين! فقال عليّ بن الحسين:(هؤلاء يبكين! فمَن

____________________

(١) رياض الأحزان: ٤٨ /، ونقل أيضاً عن تذكرة الأئمّة للعلاّمة المجلسي أنهّ (قال بعض النظّار والمتفرّجين لبعض شماتةً بهم: إنّ الله تعالى نِعْمَ ما كافى هؤلاء به عمّا أحدثوه وأبدعوه وفعلوه!

وكان هو في ذلك، إذ طارت من السماء حجارة وأصابت فمه وسقط ميّتاً لعنه الله).

(٢) في رجال الشيخ الطوسي: ١١٣ ورد اسمه (حذيم بن شريك الأسدي)، وروى الطبرسي في كتابه الاحتجاج عنه حديث ورد الإمام السجّادعليه‌السلام الكوفة مع أهل البيت، وخطبة زينب الكبرى في الكوفة. (راجع: الاحتجاج: ٢: ٣٢٠ رقم ٣٢٢)، وفي البحار: ٤٥: ١٠٨ (بشير بن خزيم الأسدي)، وفي مُستدركات علم رجال الحديث: ٢: ٣٧: (بشير بن جزيم الأسدي: لم يذكروه، وهو راوي خطبة مولاتنا زينبعليها‌السلام بالكوفة.).

(٣) التدمتْ المرأة: ضربت صدرها في النياحة، وقيل: ضربت وجهها في المآتم.

(٤) أمالي الطوسي: ٩١، واللهوف: ١٩٢، وأمالي المفيد: ٣٢٠، والفصول المهمّة: ١٩٢، والمنتخب للطريحي: ٣٥٠.

٩٣

قتلَنا؟!) (١) .

ويقول ابن أعثم الكوفي: (وساق القوم حُرَم رسول الله من كربلاء، كما تُساق الأُسارى! حتّى إذا بلغوا بهم إلى الكوفة خرج الناس إليهم فجعلوا يبكون وينوحون ...)(٢) .

وقال السيد ابن طاووس (ره): (قال الراوي: فأشرفت امرأة من الكوفيّات فقالت: من أيّ الأُسارى أنتنّ؟ فقلن: نحن أُسارى آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله !!

فنزلت المرأة من سطحها، فجمعت لهنّ مُلاء وأُزُراً ومقانع، وأعطتهنّ فتغطّين)(٣) .

ويصف حاجب عبَيد الله بن زياد حال الناس ذلك اليوم فيقول: (.. ثمّ أمر بعليّ بن الحسينعليه‌السلام فغُلّ، وحُمل مع النسوة والسبايا إلى السجن، وكنت معهم، فما مررنا بزقاق إلاّ وجدناه ملاء رجالاً ونساء يضربون وجوههم ويبكون ...!!)(٤) .

مسلم الجصّاص يصف حال الكوفة يومذاك!

قال العلاّمة المجلسي (ره): (رأيت في بعض الكُتب المعتبرة(٥) ، روى مُرسلاً عن مسلم الجصاص، قال: دعاني ابن زياد لإصلاح دار الإمارة بالكوفة، فبينما أنا

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي: ٢: ١٧٧.

(٢) الفتوح: ٥: ١٣٩.

(٣) اللهوف: ١٩١.

(٤) أمالي الشيخ الصدوق: ١٤٠ المجلس ٣١ حديث رقم ٣.

(٥) لا يُعرَف السرّ في عدم ذكر العلاّمة المجلسي (ره) اسم هذا الكتاب الذي وصفه من الكُتب المعتبرة.

٩٤

أُجصّص الأبواب، وإذا أنا بالزعقات(١) قد ارتفعت من جنبات الكوفة! فأقبلت على خادم كان معنا، فقلت: ما لي أرى الكوفة تضجّ؟!

قال: الساعة أتَوا برأس خارجيّ خرج على يزيد.

فقلت: مَن هذا الخارجي؟!

فقال: الحسين بن علي!

قال: فتركت الخادم حتّى خرج، ولطمت وجهي حتّى خشيت على عيني أن تذهب!(٢) ، وغسلت يدي من الجصّ، وخرجت من ظَهر القصر وأتيت إلى الكُناس، فبينما أنا واقف والناس يتوقَّعون وصول السبايا والرؤوس، إذ أقبلت نحو أربعين شِقّة(٣) تُحمل على أربعين جَملاً، فيها الحرم والنساء وأولاد فاطمةعليها‌السلام ، وإذا بعليّ بن الحسينعليه‌السلام على بعير بغير وطاء! وأوداجه تشخب دماً! وهو مع ذلك يبكي ويقول:

يا أُمّة السوء لا سَقياً لربعكم

يا أُمّة لم تراعِ جدّنا فينا

لو أنّنا ورسول الله يجمعنا

يوم القيامة ما كنتم تقولونا

تُسيّرونا على الأقتاب عارية

كأنّنا لم نُشيِّد فيكم دينا

بني أُميّة ما هذا الوقوف على

تلك المصائب لا تُلبُّون داعينا(٤)

تُصفِّقون علينا كفَّكم فرحاً

وأنتم في فجاج الأرض تسْبونا

أليس جدّي رسول الله ويلكم

أهدى البريّة من سُبل المضلِّينا

____________________

(١) قال ابن منظور: والزعق: الصياح. (لسان العرب: ٦: ٤٦).

(٢) وفي هذا إشارة إلى أنّ مسلماً الجصّاص كان من مُحبيّ أهل البيتعليهم‌السلام .

(٣) والشِّقّة: الشظيّة أو القطعة المشقوقة من لوح أو خشب أو غيره. (لسان العرب: ١٠: ١٨٢).

(٤) يُلاحَظ في هذا البيت وما بعده ضعف وركاكة ظاهرة، ولعلّ هذه الأبيات من نظم آخرين ثمّ ألحقت بالأبيات الثلاثة الأُولى، والله العالم.

٩٥

يا وقعة الطفّ قد أورثتني حزناً

والله يهتك أستار المسيئينا

قال: وصار أهل الكوفة يُناولون الأطفال الذين على المحامل بعض التمر والخبز والجوز، فصاحت بهم أمّ كلثوم، وقالت: يا أهل الكوفة، إنّ الصدقة علينا حرام!

وصارت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال وأفواهم وترمي به إلى الأرض.

قال: كلّ ذلك والنّاس يبكون على ما أصابهم!

ثمّ إنّ أمّ كلثوم أطلعت رأسها من المحمل، وقالت لهم:

صهٍ يا أهل الكوفة! تقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤكم؟! فالحاكم بيننا وبينكم الله يوم فصل القضاء!

فبينما هي تُخاطبهنّ إذا بضجّة قد ارتفعت، فإذا هم أتوا بالرؤوس يقدمهم رأس الحسينعليه‌السلام (١) ، وهو رأسٌ زهريٌّ قمرىٌّ، أشبه الخلْق برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولحيته كسواد السّبج(٢) قد انتصل منها الخضاب، ووجهه دارة قمر طالع! والرمح تلعب بها (كذا) يميناً وشمالاً، فالتفتت زينب، فرأت رأس أخيها، فنطحت جبينها بمُقدّم المحمِل، حتّى رأينا الدّم يخرج من تحت قناعها، وأومأت إليه بحرقة وجعلت تقول:

يا هلالاً لما استتمّ كمالا

غاله خسفه فأبدى غروبا

ما توهّمت يا شقيق فؤادي

كان هذا مُقدَّراً مكتوبا

يا أخي فاطم الصغيرة كلِّمها

فقد كاد قلبها أن يذوبا

____________________

(١) ظاهر هذا الخبر يُخالف الأخبار التي مضت قبل هذا، والمصرِّحة بأنّ رأس الإمامعليه‌السلام أُخذ من ساعته إلى ابن زياد بيد خولّي وحميد بن مسلم، إلاّ أنّ الرؤوس المقدّسة جيء من القصر بها إلى حيث يمرّ الركب تلك الساعة داخل الكوفة. والله العالم.

(٢) السَّبَج: حجر أسود شديد السواد برّاق.

٩٦

يـا أخـي قـلبك الشفيق علينا

مـا لـه قد قسا وصار صليبا

يا أخي لو ترى عليّاً لدى الأسر

مـع الـيُتْم لا يُـطيق وجوبا

كـلّما أوجـعوه بالضرب نادا

ك بـذلٍّ يـغيض دمعاً سكوبا

يـا أخـي ضُـمَّه إليك وقرِّبه

وسـكِّـن فؤاده الـمرعوبا

مـا أذلّ الـيتيم حـين يُنادي

بـأبيه ولا يراه مُجيبا) (١) .

إشارة:

لا شكّ بأنّ الصدقة الواجبة حرام على أهل البيتعليهم‌السلام وعلى ذراريهم، وهي - كما ورد في الأثر(٢) - أوساخ الناس، وأنّها لا تحلّ على محمّد ولا آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ إنّه لا خلاف في عدم تحريم الصدقة المندوبة، فلماذا منعَتْ السيّدة أمّ كلثوم أو زينبعليها‌السلام الأطفال من أخذ ما كان يُقدِّمه لهم أهل الكوفة من تمر وخبز وجوز؟ ألأنّ ذلك كان صدقة واجبة وهي محرّمة عليهم؟ أمْ كان ذلك احتياطاً، فلرّبما كان بعض ذلك من الصدقة الواجبة؟ أمْ كان ذلك محمولاً على الكراهة أو الحُرمة بتعليل خاص؟

يقول الشيخ الأنصاري (ره) في كتاب الزكاة(٣) ما نصّه: (ثمّ إنّه لا خلاف في عدم تحريم الصدقة المندوبة، وبه وردت أخبار كثيرة، إلاّ أنّ في بعض الأخبار ما يدلّ

____________________

(١) بحار الأنوار: ٤٥: ١١٤ - ١١٥.

(٢) قال ابن عبّاس: (وكان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كثيراً ما يقول عن الصدقة: هي أوساخ النّاس، وأنّها لا تحلّ لمحمّد ولا آل محمّد. (كشف الغمّة عن هذه الأمّة للشعراني: ١٥٤). وانظر: وسائل الشيعة: ٦: ١٨٥ باب ٢٩ من أبواب المستحقّين للزكاة.

(٣) كتاب الزكاة: ٣٥٢.

٩٧

على نهي الإمامعليه‌السلام عن ماء المسجد؛ مُعلّلاً بأنّها صدقة، وقد اشتُهر حكاية منع سيدتنا زينب أو أمّ كلثومعليها‌السلام للسبايا عن أخذ صدقات أهل الكوفة؛ مُعلِّلتين بكونها صدقة، ويمكن حملها على الكراهة أو الحرمة، إذا كان الدفع على وجه المهانة كما احتمله في شرح المفاتيح).

وفي طول ذلك، يمكن أن نقول: بأنّ من المحتمل أيضاً، أنّ سيدتناعليها‌السلام أرادت من وراء ردّ عطايا أهل الكوفة ومنع السبايا منها - مع فرض الكراهة - أن تُعرِّف النّاس بأنّ سبايا هذا الركب ليسوا من أيّ الناس، بل هم آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذين فرض الله مودّتهم واتِّباعهم، وأنّ يزيد بن معاوية وعامله ابن زياد قد عصيا الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله بارتكاب ما ارتكبا من آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتّى ينكشف للنّاس من أهل الكوفة عُظم الجريمة والرزيّة، وفظاعة ما اجترحوه من ذنب الانقياد ليزيد وابن زياد وأتباعهما.

خُطبة بطلة كربلاءعليها‌السلام :

ولما رأت العقيلة زينبعليها‌السلام الحشود الكثيرة من أهالي الكوفة، قد ملأت الشوارع والطرق والسكك، اندفعت إلى الخطابة وإلى التبليغ وإلى تبيان ما جرى على أهل بيت النبوّة، وأخذت تُحمِّل أهل الكوفة مسؤولية نقض العهد والبيعة وقتل ريحانة رسول الله، وتُوخِز ضمائرهم وتُحرق قلوبهم، بتعريفهم عُظم ما اجترحوا من جُرم، وقبح ما ألبسوا أنفسهم من عارٍ لا يُغسَل أبد الدهر!

قال السيّد ابن طاووس (ره): (قال بشير بن خزيم الأسدي: ونظرت إلى زينب بنت عليّ يومئذٍ، ولم أرَ خَفرةً - والله - أنطق منها! كأنّها تُفرغ من لسان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ! وقد أومأت إلى النّاس أن اسكتوا فارتدّت الأنفاس

٩٨

وسكنت الأجراس!! ثمّ قالت:

الحمد لله، والصلاة على أبي محمّد وآله الطيّبين الأخيار! أمّا بعد، يا أهل الكوفة! يا أهل الختل والغدر! أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنّة! إنّما مَثَلكم كمَثل الذي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً، تتّخذون أيمانكم دخَلاً بينكم! ألا وهل فيكم إلاّ الصَّلف النَّطف، والصدر الشّنف، وملق الإماء، وغمز الأعداء، أو كمرعى على دِمنة، أو كفضّة (كقصّة خ ل) على ملحودة!؟! ألا ساء ما قدّمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون!

أتبكون وتنتحبون؟! إي والله، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً! وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوّة، ومعدن الرسالة، وسيّد شباب أهل الجنّة، وملاذ خيرتكم، ومفزع نازلتكم، ومنار حجّتكم، ومدره ألسنتكم؟! ألا ساء ما تزرون، وبُعداً لكم وسحقاً، فلقد خاب السعي، وتبّت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله، وضُربت عليكم الذّلة والمسكنة!

ويلكم يا أهل الكوفة! أتدرون أيّ كبد لرسول الله فريتم؟! وأيّ كريمة له أبرزتم؟! وأيّ دم له سفكتم؟! وأيّ حُرمة له انتهكتم؟! ولقد جئتم بها صلعاء عنقاء سوداء فقماء - وفي بعضها - خرقاء شوهاء، كطلاع الأرض أو ملاء السماء!

أفعجبتم أن مطرت السماء دماً؟! ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تُنصرون! فلا يستخفّنكم المهل، فإنّه لا يَحفزه البدار، ولا يخاف فوت الثار، وإنّ ربّكم لبالمرصاد!

٩٩

قال الراوي: فوالله، لقد رأيت النّاس يومئذٍ حيارى يبكون، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم! ورأيت شيخاً واقفاً إلى جنبي حتّى اخضلّت لحيته! وهو يقول: بأبي أنتم وأمّي! كهولكم خير الكهول! وشبابكم خير الشباب! ونساؤكم خير النساء! ونسلكم خير نسل، لا يخزى ولا يُبزى!)(١) .

____________________

(١) اللهوف: ١٩٢، وانظر: أمالي المفيد: ٣٢١، والفتوح: ٥: ١٣٩، وأمالي الطوسي: ١: ٩٠، ومُثير الأحزان: ٨٦، ومناقب آل أبي طالبعليهم‌السلام ٤: ١١٥، والبحار: ٤٥: ١٦٢.

وروى المرحوم الطبرسي هذه الخطبة الغرّاء، بتفاوت وفيه زيادة: ثمّ أنشأت تقول:

مـاذا تـقولون إنّ قال النبيّ لكم

مـاذا صـنعتم وأنـتم آخر الأُمم

بـأهل بـيتي وأولادي تـكرمتي

مـنهم أُسارى ومنهم ضُرِّجوا بدم

ما كان ذاك جزائي إذ نصحت لكم

أن تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمي

إنّـي لأخشى عليكم أن يحلّ بكم

مثل العذاب الذي أودى على إرَم

ثمّ ولّت عنهم.

وفيه أيضاً: فقال علي بن الحسينعليه‌السلام :

(يا عمّة اسكتي! ففي الباقي عن الماضي اعتبار، وأنت بحمد الله عالمة غير مُعلّمة، فهمةٌ غير مُفهَّمة، إنّ البكاء والحنين لا يردّان مَن قد أباده الدهر!) .

فسكتت، ثمّ نزلعليه‌السلام وضرب فسطاطه، وأنزل نساءه، ودخل الفسطاط.

الاحتجاج: ٢: ١٠٩ / ويُلاحظ في إضافة الطبرسي (ره) أنّ قوله: (ثمّ نزل وضرب فسطاطه وأنزل نساءه ودخل الفسطاط) كاشف عن أنّ ما نقله من قول الإمام السجادعليه‌السلام ، كان قد صدر منه إلى عمّتهعليها‌السلام عند مشارف المدينة المنوّرة حين العودة إليها - على احتمال أقوى - أو في كربلاء، عند عودتهم إليها من الشام.

ذلك؛ لأنّهعليه‌السلام لم يكن له فسطاط في مسير السبي والأسر، ولم يكن له أن يُنزل النساء باختياره حيث يشاء! فتأمّل!

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140