أصول الخطابة الحسينية

أصول الخطابة الحسينية42%

أصول الخطابة الحسينية مؤلف:
الناشر: المؤلف
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 140

أصول الخطابة الحسينية
  • البداية
  • السابق
  • 140 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80440 / تحميل: 9994
الحجم الحجم الحجم
أصول الخطابة الحسينية

أصول الخطابة الحسينية

مؤلف:
الناشر: المؤلف
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

مناقشة أدلّة القوم على أفضلية أبي بكر

هذه عامّة أدلّتهم ، ولو سألتني عن أهمّ هذه الأدلّة لذكرت لك : قضيّة الصلاة أوّلاً ، وحديث « إقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر » ، فهما أهم هذه الأدلّة العشرة.

لكنّا نبحث عن كل هذه الأدلّة واحداً واحداً ، على ضوء كتبهم ، وعلى أساس رواياتهم ، وأقوال علمائهم.

الدليل الأول :

قوله تعالى :( وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى *الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ *وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ ) .

هذه آية قرآنية ، وكما ذكرنا في مباحثنا حول الآيات المستدل بها على إمامة أمير المؤمنينعليه‌السلام : إنّ دلالة الآية على إمامة علي تتوقّف على ثبوت نزولها في علي وبدليل معتبر ، وإلاّ فالآية من

٢١

القرآن ، وليس فيها اسم علي ولا اسم غير علي.

قوله تعالى :( وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى ) يتوقّف الإستدلال به على مقدمات ، حتّى تتمّ دلالة الآية على إمامة أبي بكر

أوّلاً : الإستدلال بهذه الآية على إمامة أبي بكر يتوقّف على سقوط جميع الأدلّة التي أقامها الإمامية على عصمة عليعليه‌السلام ، وإلاّ فالمعصوم أكرم عند الله سبحانه وتعالى ممّن يؤتي ماله يتزكّى ، فإذن ، يتوقّف الإستدلال بهذه الآية على إمامة أبي بكر ـ لو كانت نازلةً فيه ـ على عدم تماميّة تلك الأدلّة التي أقامها الإمامية على عصمة عليعليه‌السلام ، وإلاّ فلو تمّ شيء من تلك الأدلّة لكان علي أكرم عند الله سبحانه وتعالى ، وحينئذ يبطل هذا الاستدلال.

وثانياً : يتوقف الإستدلال بهذه الآية المباركة لأكرميّة أبي بكر ، على أنْ لا يتمّ ما استدلّ به لافضليّة عليعليه‌السلام ، وإلاّ لتعارضا بناء على صحة هذا الإستدلال وحجيّة هذا الحديث الوارد في ذيل هذه الآية المباركة ، ويكون الدليلان حجّتين متعارضتين ، ويتساقطان ، فلا تبقى في الآية هذه دلالة على امامته.

ولكنّ ممّا لا يحتاج إلى أدلّة إثبات هو : أنّ عليّاًعليه‌السلام لم يسجد لصنم قط ، وأبو بكر سجد ، ولذا يقولون ـ إذا ذكروا عليّاً ـ : كرّم الله وجهه ، وهذا يقتضي أن يكون علي أكرم عند الله سبحانه وتعالى.

٢٢

ثالثاً : يتوقف الإستدلال بهذه الآية المباركة على نزول الآية في أبي بكر ، والحال أنّهم مختلفون في تفسير هذه الآية على ثلاثة أقوال :

القول الأول : إنّ الآية عامّة للمؤمنين ولا اختصاص لها بأحد منهم.

القول الثاني : إنّ الآية نازلة في قصّة أبي الدحداح وصاحب النخلة ، راجعوا الدر المنثور في التفسير بالمأثور(1) ، يذكر لكم هذه القصة في ذيل هذه الآية ، وإنّ الآية بناء على هذا القول نازلة بتلك القصة ولا علاقة لها بأبي بكر.

القول الثالث : إنّ الآية نازلة في أبي بكر.

فالقول بنزول الآية المباركة في أبي بكر أحد الأقوال الثلاثة عندهم.

لكن هذا القول ـ أي القول بنزول الآية في أبي بكر ـ يتوقف على صحة سند الخبر به ، وإذا لم يتمّ الخبر الدال على نزول الآية في أبي بكر يبطل هذا القول.

وإليكم المصدر الذي ذكر فيه خبر نزول الآية في أبي بكر

__________________

(1) الدر المنثور في التفسير بالمأثور 6 / 358.

٢٣

وتصريحه بضعف سند هذه الرواية :

الرواية يرويها الطبراني ، ويرويها عنه الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد ، ثمّ يقول : فيه ـ أي في سنده ـ مصعب بن ثابت ، وفيه ضعف(1) .

فالقول الثالث الذي هو أحد الأقوال في المسألة يستند إلى هذه الرواية ، والرواية ضعيفة.

ومصعب بن ثابت هو حفيد عبدالله بن الزبير ، مصعب بن ثابت بن عبدالله بن الزبير ، وآل الزبير منحرفون عن أهل البيت كما هو مذكور في الكتب المفصلة المطولة ، ومصعب بن ثابت : ضعّفه يحيى بن معين ، ضعّفه أحمد بن حنبل ، ضعّفه أبو حاتم قال : لا يحتجّ به ، وقال النسائي : ليس بالقوي ، وهكذا قال غير هؤلاء(2) .

فكيف يستدل بالآية المباركة على أكرميّة أبي بكر وأفضليّته ، وفي المسألة ثلاثة أقوال ، والقول بنزولها في أبي بكر يستند إلى رواية ، وتلك الرواية ضعيفة ؟

مضافاً : إلى أنّ هذا الإستدلال موقوف على عدم تماميّة أدلّة الإماميّة على أفضليّة أمير المؤمنين وإمامته.

__________________

(1) مجمع الزوائد 9 / 50.

(2) تهذيب التهذيب 10 / 144.

٢٤

الدليل الثاني :

الحديث : « إقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ».

هذا الحديث من أحسن أدلّتهم على إمامة الشيخين ، يستدلون بهذا الحديث في كتب الكلام ، وفي كتب الاُصول أيضاً ، واستناداً إلى هذا الحديث يجعلون اتفاق الشيخين حجة ، ويعتبرون سنّة الشيخين إستناداً إلى هذا الحديث حجة ، فالحديث مهمّ جدّاً ، لا سيّما وأنّه في مسند أحمد بن حنبل(1) ، وأيضاً في صحيح الترمذي(2) ، وأيضاً في مستدرك الحاكم(3) ، فهو حديث موجود في كتب معتبرة مشهورة ، ويستدلّون به في بحوث مختلفة.

ولكن بإمكانكم أن ترجعوا إلى أسانيد هذا الحديث ، وتدقّقوا النظر في حال تلك الأسانيد ، على ضوء أقوال علمائهم في الجرح والتعديل ، ولو فعلتم هذا ودقّقتم النظر وتتبعتم في الكتب ، لرأيتم جميع أسانيده ضعيفة ، وكبار علمائهم ينصّون على كثير من رجال هذا الحديث بالضعف ، ويجرحونهم بشتّى أنواع الجرح.

__________________

(1) مسند أحمد 5 / 382 ، 385.

(2) صحيح الترمذي 5 / 572.

(3) المستدرك على الصحيحين 3 / 75.

٢٥

لكنّكم لابدّ وأنْ تطلبون منّي أن أذكر لكم خلاصة ما يقولونه بالنسبة إلى هذا الحديث ، وأُقرّب لكم الطريق ولا تحتاجون إلى مراجعة الكتب ، فأقول :

قال المنّاوي في شرح هذا الحديث في فيض القدير في شرح الجامع الصغير(1) : أعلّه أبو حاتم [ أي قال : هذا الحديث عليل ] وقال البزّار كابن حزم لا يصح(2) .

فهؤلاء ثلاثة من أئمّتهم يردّون هذا الحديث : أبو حاتم ، أبو بكر البزّار ، وابن حزم الأندلسي.

والترمذي حيث أورد هذا الحديث في كتابه بأحسن طرقه ، يضعّفه بصراحة ، فراجعوا كتاب الترمذي وهو موجود(3) .

وإذا ما رجعتم إلى كتاب الضعفاء الكبير لأبي جعفر العُقيلي لرأيتموه يقول : منكر لا أصل له(4) .

وإذا رجعتم إلى ميزان الاعتدال يقول نقلاً عن أبي بكر

__________________

(1) وقد ذكرت لكم من قبل إنّنا في فهم الأحاديث والدقّة في أسانيدها لابدّ وأن نرجع إلى ما قيل في شرحها والكتب المؤلّفة في شروح الأحاديث ، من قبيل المرقاة وفيض القدير وشروح الشفاء للقاضي عياض ، وأمثال ذلك.

(2) فيض القدير شرح الجامع الصغير 2 / 56.

(3) صحيح الترمذي 5 / 572.

(4) كتاب الضعفاء الكبير 4 / 95.

٢٦

النقّاش : وهذا الحديث واهٍ(1) .

ويقول الدارقطني ـ وهو أمير المؤمنين في الحديث عندهم في القرن الرابع الهجري ـ : هذا الحديث لا يثبت(2) .

وإذا رجعتم إلى كتاب العلاّمة العبري الفرغاني المتوفّى سنة 743 ه‍ ، يقول في شرحه على منهاج البيضاوي : إنّ هذا الحديث موضوع(3) .

ولو رجعتم إلى ميزان الاعتدال لرأيتم الحافظ الذهبي يذكر هذا الحديث في مواضع عديدة من هذا الكتاب ، وهناك يردّ هذا الحديث ويكذّبه ويبطله ، فراجعوا(4) .

وإذا رجعتم إلى تلخيص المستدرك ترونه يتعقّب الحاكم ويقول : سنده واه جدّاً(5) .

وإذا رجعتم إلى مجمع الزوائد للهيثمي حيث يروي هذا الحديث عن طريق الطبراني يقول : وفيه من لم أعرفهم(6) .

__________________

(1) ميزان الاعتدال 1 / 142.

(2) لسان الميزان 5 / 237.

(3) شرح المنهاج : مخطوط.

(4) ميزان الاعتدال 1 / 105 ، 141 و 43 / 610.

(5) تلخيص المستدرك ـ ط في ذيل المستدرك 3 / 75.

(6) مجمع الزوائد 9 / 53.

٢٧

وإذا رجعتم إلى لسان الميزان لابن حجر العسقلاني الحافظ شيخ الإسلام لرأيتم يذكر هذا الحديث في أكثر من موضع وينصّ على سقوط هذا الحديث ، فراجعوا لسان الميزان(1) .

وإذا رجعتم إلى أحد أعلام القرن العاشر من الهجرة ، وهو شيخ الإسلام الهروي ، له كتاب الدر النضيد من مجموعة الحفيد ـ وهذا الكتاب مطبوع موجود ـ يقول : هذا الحديث موضوع(2) .

وابن درويش الحوت يورد هذا الحديث في كتابه أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب ، ويذكر الأقوال في ضعف هذا الحديث وسقوطه وبطلانه(3) (4) .

فهذا الحديث ـ إذن ـ لا يليق أنْ يُستدلّ به على مبحث الإمامة ، سواء كان يستدل به الشيعة الإمامية أو السنّة ، حتّى لو

__________________

(1) لسان الميزان 1 / 188 ، 272 و 5 / 237.

(2) الدر النضيد من مجموعة الحفيد : 97.

(3) أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب : 48.

(4) هذا ، وللحافظ ابن حزم الاندلسي في الإستدلال بهذا الحديث كلمة مهمة جدّاً ، إنّه يقول ما هذا نصّه : ولو أننا نستجيز التدليس والأمر الذي لو ظفر به خصومنا طاروا به فرحاً أو أبلسوا أسفاً لاحتججنا بما روي : « اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر » ، ولكنّه لم يصح ويعيذنا الله من الإحتجاج بما لا يصح. الفصل في الملل والنحل 4 / 88.

٢٨

أردنا أن نستدلّ عليهم بمثل هذا الحديث لإمامة عليعليه‌السلام ، وهو حديث تبطله هذه الكثرة من الأئمّة ، فلا يمكن الإحتجاج به على القوم لإثبات الإمامة أصلاً ، ولا يمكن الإستدلال به في مورد من الموارد.

ولذا نرى بعضهم لمّا يرى سقوط هذا الحديث سنداً ، ومن ناحية أُخرى يراه حديثاً مفيداً لاثبات إمامة أبي بكر دلالة ومعنىً ، يضطر إلى أن ينسبه إلى الشيخين والصحيحين كذباً.

فالقاري ـ مثلاً ـ ينسب هذا الحديث في كتابه شرح الفقه الأكبر إلى صحيحي البخاري ومسلم ، وليس الحديث موجوداً في الصحيحين ، ممّا يدلّ على أنّهم يعترفون بسقوط هذا الحديث سنداً ، لكنّهم غافلون عن أنّ الناس سينظرون في كتبهم وسيراجعونها ، وسيحقّقون في المطالب التي يذكرونها.

ثمّ كيف يأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالإقتداء بالشيخين ، مع أنّ الشيخين اختلفا في كثير من الموارد ، فبمن يقتدي المسلمون ؟ وكيف يأمر رسول الله بالإقتداء بالشيخين ، مع أنّ الصحابة خالفوا الشيخين في كثير ممّا قالا وفعلا ؟ وهل بإمكانهم أن يفسّقوا أولئك الصحابة الذين خالفوا الشيخين في أقوالهما وأفعالهما ، وتلك الموارد كثيرة جدّاً ؟!

٢٩

الدليل الثالث :

قول رسول الله لأبي الدرداء : « ما طلعت شمس ولا غربت » إلى آخره.

هذا الحديث ضعيف للغاية عندهم ، فقد رواه الطبراني في الأوسط بسند قال الهيثمي : فيه إسماعيل بن يحيى التيمي وهو كذّاب.

وفيه أيضاً ـ أي في مجمع الزوائد بسند آخر يرويه عن الطبراني ويقول : فيه بقيّة ـ بقيّة بن الوليد ـ وهو مدلّس وهو ضعيف(1) .

وهو ساقط عند علماء الرجال.

الدليل الرابع :

« هما سيّدا كهول أهل الجنّة ».

هذا الحديث يرويه البزّار ، ويرويه الطبراني ، كلاهما عن أبي سعيد.

__________________

(1) مجمع الزوائد 9 / 44.

٣٠

قال الهيثمي حيث رواه عنهما في مجمع الزوائد : فيه علي بن عابس وهو ضعيف.

ويرويه الهيثمي عن البزّار عن عبيدالله بن عمر ويقول في راويه عبد الرحمن بن ملك : هو متروك(1) .

وليس لهذا الحديث سند غير هذين السندين.

الدليل الخامس :

« ما ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أنْ يتقدّم عليه غيره ».

ومن حسن الحظ أنّ الحافظ ابن الجوزي أورد هذا الحديث في كتاب الموضوعات وقال : هذا حديث موضوع على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (2) .

وإذا كانت فتاوى ابن الجوزي معتبرة عند ابن تيميّة وأمثاله ، فليكنْ قوله وفتواه في هذا المورد أيضاً حجة.

الدليل السادس :

وأمّا صلاة أبي بكر ، وهي مسألة مهمة جدّاً لسببين :

__________________

(1) مجمع الزوائد 9 / 53.

(2) كتاب الموضوعات 1 / 318.

٣١

السبب الأول : إنّ خبر صلاة أبي بكر وارد في الصحيحين لا بسند بل أكثر ، ووارد في المسانيد والسنن ، وفي أكثر كتبهم المعتبرة المشهورة.

وثانياً : الصلاة أفضل العبادات ، وإذا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أرسل أبا بكر ليصلّي في مكانه في حال مرضه ودنوّ أجله ، فإنّه سيكون دليلاً على أنّه يريد أنْ يرشّحه للخلافة من بعده ، فيكون هذا الحديث ـ حديث صلاة أبي بكر في مكان رسول الله ـ من أحسن الأدلّة على إمامة أبي بكر.

ولو راجعتم الكتب لرأيتم اهتمامهم بهذا الحديث ، واستدلالهم بهذا الخبر على رأس جميع الأدلّة وفي أوّل ما يحتجّون به لإمامة أبي بكر.

رووا هذا الحديث عن عدّة من الصحابة ، وعلى رأسهم عائشة بنت أبي بكر ، ولكنّك لو تأمّلت في الأسانيد لرأيت الصحابة يروون هذا الخبر مرسلاً ، أو يسمعون الخبر عن عائشة وتكون هي الواسطة في نقل هذا الخبر ، وحينئذ تنتهي جميع أسانيد هذا الخبر إلى عائشة ، وعائشة متّهمة في نقل مثل هذه القضايا لسببين :

الأوّل : مخالفتها لعلي.

الثاني : كونها بنت أبي بكر.

٣٢

ولكنْ بغضّ النظر عن هذه الناحية ، لو نظرنا إلى ملابسات هذه القضية والقرائن الداخلية في ألفاظ الخبر ، وأيضاً القرائن الخارجية التي لها علاقة بهذا الخبر ، لرأيتم أن إرسال أبي بكر إلى الصلاة كان بإيعاز من عائشة نفسها ، ولم يكن من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فمن جملة القرائن المهمة التي لها الأثر البالغ في فهم هذه القضية : قضية أمر رسول الله بخروج القوم مع أُسامة ، قضية بعث أُسامة ، وتأكيدهصلى‌الله‌عليه‌وآله على هذا البعث إلى آخر لحظة من حياته المباركة.

أمّا أنّ النبي كان يؤكّد على بعث أُسامة ، وإلى آخر لحظة من حياته ، فلم يخالف فيه أحد ، ولا خلاف فيه أبداً ، وهو مذكور في كتبنا وفي كتبهم ، فلا خلاف في هذا.

وأمّا أنّ كبار الصحابة وعلى رأسهم أبو بكر وعمر كانا في هذا البعث ، فهذا أيضاً ثابت بالكتب المعتبرة التي نقلت هذا الخبر ، فكيف يأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بخروج أبي بكر في بعث أُسامة ، ويؤكّد على خروجه إلى آخر لحظة من حياته ، ومع ذلك يأمر أبا بكر أنْ يصلّي في مكانه ؟

وهنا يضطرّ مثل ابن تيميّة لأن ينكر وجود أبي بكر في بعث أُسامة ، ويقول هذا كذب ، لأنّه يعلم بأنّ وجود أبي بكر في بعث

٣٣

أُسامة ، يعني كذب خبر إرسال أبي بكر إلى الصلاة ، ولكنّ مسألة الصلاة من أهمّ أدلّتهم على إمامة أبي بكر ، إذن ، لابدّ من الإنكار والحال أنّ وجود أبي بكر في بعث اُسامة لا يقبل الإنكار.

أنقل لكم عبارة واحدة فقط ، يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتاب فتح الباري بشرح البخاري :

قد روى ذلك ـ أي كون أبي بكر في بعث أُسامة ـ الواقدي ، وابن سعد ، وابن إسحاق ، وابن الجوزي ، وابن عساكر ، وغيرهم(1) . أي : وغيرهم من علماء المغازي والحديث.

ولذا لمّا توفّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان أُسامة بجيشه في خارج المدينة ، ولذا لمّا ولّي أبو بكر اعترض أُسامة ولم يبايع أبا بكر قال : أنا أمير على أبي بكر وكيف أُبايعه ؟ ولذا لمّا سيّر أبو بكر أُسامة بما أمره رسول الله به استأذن منه إبقاء عمر في المدينة المنورة ، ليكون معه في تطبيق الخطط المدبرة.

القرائن الداخلية والخارجية تقتضي كذب هذا الخبر ، أي خبر : أنّ النبي أرسل أبا بكر إلى الصلاة.

ولكن لا نكتفي بهذا القدر ، ونضيف أنّ عليّاًعليه‌السلام كان يعتقد ،

__________________

(1) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 8 / 124.

٣٤

وكذا أهل البيت كانوا يعتقدون ، بأنّ خروج أبي بكر إلى الصلاة كان بأمر من عائشة لا من رسول الله.

قال ابن أبي الحديد : سألت الشيخ ـ أي شيخه وأُستاذه في كلام له في هذه القضية ـ أفتقول أنت أنّ عائشة عيّنت أباها للصلاة ورسول الله لم يعيّنه ؟ فقال : أمّا أنا فلا أقول ذلك ، لكن عليّاً كان يقوله ، وتكليفي غير تكليفه ، كان حاضراً ولم أكن حاضراً.

ولا نكتفي بهذا القدر فنقول :

سلّمنا بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي أمر أبا بكر بهذه الصلاة ، فكم من صحابي أمر رسول الله بأنْ يصلّي في مكانه في مسجده وفي محرابه ، ولم يدّع أحد ثبوت الإمامة بتلك الصلاة لذلك الصحابي الذي صلّى في مكانهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

لكنْ لكم أن تقولوا : بأنّ الصلاة في أُخريات حياته تختلف عن الصلاة في الأوقات السابقة ، هذه الصلاة بهذه الخصوصية حيث كانت في أواخر حياته فيها إشعار بالنصب ، بنصب أبي بكر للإمامة من بعده ، لك أنْ تقول هذا ، كما قالوا.

فاسمع لواقع القضية ، واستمع لما يأتي :

إنّه لو كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هو الأمر ، فقد ذكرت تلك الأخبار أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله خرج بنفسه الشريفة ـ معتمداً على رجلين

٣٥

ورجلاه تخطّان على الأرض ـ ونحّى أبا بكر عن المحراب ، وصلّى تلك الصلاة بنفسه.

لكنّهم يعودون فيقولون : بأنّ صلاة أبي بكر كانت أيّاماً عديدة ، وهذا الذي وقع من رسول الله وقع مرّة واحدةً فقط.

قلت :

أوّلاً : لم تكن الصلاة أيّاماً ، بل هي صلاة واحدة ، وهي صلاة الصبح من يوم الإثنين ، فكانت صلاة واحدة.

وثانياً : على فرض أنّه قد صلّى أيّاماً وصلوات عديدة ، ففعل رسول الله ذلك في آخر يوم من حياته ، وخروجه بهذا الشكل معتمداً على رجلين ورجلاه تخطّان على الأرض ، دليل على أنّه عزله بعد أن نصبه لو صحّ هذا النصب.

فلو سلّمنا أنّ الأمر بهذه الصلاة هو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لو سلّمنا هذا ، فرسول الله ملتفت إلى أنّهم سيستدلّون بهذه الصلاة على إمامته من بعده ، وفي هذا الفعل إشعار بالإمامة والخلافة العامة من بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخرج بهذا الشكل ليرفع هذا التوهّم وليزيل هذا الإشعار ، وهذا مذكور وموجود في نفس الروايات التي اشتملت في أوّلها على أنّ رسول الله هو الأمر بهذه الصلاة بزعهم.

٣٦

وهنا نكات :

النكتة الأولى : قالت الروايات : إنّه خرج معتمداً على رجلين ، والراوي عائشة ـ كما ذكرنا ، الأخبار كلّها تنتهي إلى عائشة ـ خرج رسول الله معتمداً على رجلين ورجلاه تخطّان الأرض ، وتنحّى أبو بكر عن المحراب ، وصلّى تلك الصلاة بنفسه الشريفة.

وخروجه بهذه الصورة دليل على العزل لو كان هناك نصّ.

وعائشة ذكرت أحد الرجلين اللذين اعتمد عليهما رسول الله لدى خروجه ، ولم تذكر اسم الرجل الثاني ، والرجل الثاني كان عليعليه‌السلام ، ممّا يدلّ على انزعاجها من هذا الفعل.

يقول ابن عباس للراوي : أسمّتْ لك الرجل الثاني ؟ قال : لا ، قال : هو علي ، ولكنّها لا تطيب نفساً بأن تذكره بخير.

النكتة الثانية : إنّه لمّا رأى بعض القوم أنّ خروج النبي بهذه الصورة وصلاته بنفسه وعزل أبي بكر سيهدم أساس استدلالهم بهذه الصّلاة على إمامة أبي بكر بعد رسول الله ، وضع حديثاً في أنّ رسول الله لم يعزل أبا بكر ، وإنّما جاء إلى الصلاة معتمداً على رجلين ، وصلّى خلف أبي بكر ، فثبتت القضية وقويت.

وبعبارة أُخرى : رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ينصب أبا بكر عملاً ، مضافاً إلى إرساله إلى الصلاة لفظاً وقولاً ، إذ يأتي معتمداً على رجلين

٣٧

حينئذ ورجلاه تخّطان الأرض ويصلّي خلف أبي بكر.

ومن الذي يمكنه حينئذ من أنْ يناقش في إمامة أبي بكر وكونه خليفة لرسول الله ، مع اقتداء رسول الله به في الصلاة ، ألا يكفي هذا لأن يكون دليلاً على إمامة أبي بكر لما عدا رسول الله ؟

نعم ، وضعوا هذه الأحاديث الدالّة على أنّ رسول الله اقتدى بأبي بكر.

لكن الشيخين لم يرويا هذا الحديث ، أي هذه القطعة من الحديث غير موجودة في الصحيحين ، الموجود في الصحيحين : إنّ رسول الله نحّاه أو تنحّى أو تأخّر أبو بكر ، وصلّى رسول الله بنفسه تلك الصلاة.

أمّا هذا الحديث فموجود في مسند أحمد ، وهو حديث كذب قطعاً ، وكذّبه غير واحد من كبار الأئمّة من حفّاظ أهل السنّة ، وحتّى أنّ بعضهم كالحافظ أبي الفرج ابن الجوزي ألّف رسالة خاصة في بطلان حديث اقتداء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأبي بكر ، وهل من المعقول أن يقتدي النبي بأحد أفراد أُمّته ، فيكون ذلك الفرد إماماً للنبي ، هذا غير معقول أصلاً.

رسالة ابن الجوزي مطبوعة منذ عشرين سنة تقريباً لأوّل مرّة ،

٣٨

نشرتها أنا بتحقيق منّي والحمد لله(1) .

النكتة الثالثة : إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن خرج إلى الصلاة وصلّى بنفسه الشريفة ، ونحّى أبا بكر ، لم يكتف بهذا المقدار ، وإنّما جلس على المنبر بعد تلك الصلاة ، وخطب ، وذكر القرآن والعترة ، وأمر الناس باتّباعهما والاقتداء بهما ، فأكّد رسول الله بخطبته هذه ما دلّ عليه فعله ، أي حضوره للصلاة وعزله لأبي بكر عن المحراب ، ثمّ أضاف في هذه الخطبة بعد الصلاة إنّ على جميع المسلمين أن يخرجوا مع أُسامة ، وأكّد على وجوب هذا البعث وعلى الإسراع فيه.

وبعد هذا كلّه لا يبقى مجال للاستدلال بحديث تقديمه في الصلاة.

الدليل السابع :

قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « خير أُمّتي أبو بكر وعمر ».

هذا الحديث بهذا المقدار ذكره القاضي الإيجي وشارحه

__________________

(1) هذه الرّسالة ألّفها الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي الحنبلي ، المتوفى سنة 597 ه‍ ، ردّاً على معاصره الحافظ عبد المغيث الحنبلي ، ولذا أسماها بآفة أصحاب الحديث في الردّ على عبد المغيث ، طبعت لأوّل مرّة بتحقيقنا.

٣٩

وغيرهما أيضاً.

لكن الحديث ليس هكذا ، للحديث ذيل ، وهم أسقطوا هذا الذيل ليتمّ لهم الإستدلال ، فاسمعوا إلى الحديث كاملاً :

عن عائشة ، قلت : يا رسول الله ، من خير الناس بعدك ؟ قال : « أبو بكر » ، قلت : ثمّ مَن ؟ قال : « عمر ».

هذا المقدار الذي استدلّ به هؤلاء.

لكن بالمجلس فاطمة سلام الله عليها ، قالت فاطمة : يا رسول الله ، لم تقل في علي شيئاً !

قال : « يا فاطمة ، علي نفسي ، فمن رأيتيه يقول في نفسه شيئاً ؟ ».

فيستدلّون بصدر الحديث بقدر ما يتعلّق بالشيخين ، ويجعلونه دليلاً على إمامة الشيخين ، ويسقطون ذيله ، وكأنّهم لا يعلمون بأنّ هناك من يرجع إلى الحديث ويقرأه بلفظه الكامل ، ويعثر عليه في المصادر.

لكن الحديث ـ مع ذلك ـ ضعيف سنداً ، فراجعوا كتاب تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة(1) .

__________________

(1) تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة 1 / 367.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

المبتدئ هو عدم إتقانه وإحكامه للجوانب الفنيّة في الخطابة، فينشأ عنده شعور بالمخاوف من عدم أدائه بالنحو الصحيح حال ارتقائه المنبر، وهذا أمر طبيعي في بداية الممارسة، فلا يكون داعياً لتعظيمه حتّى لا يصير عقدة في النفس يصعب علاجها فيما بعد.

فعلى الخطيب المبتدئ أن يوطّد نفسه على الصبر، ويعمل حتّى تزول منه الأخطاء، وتثبت عنده القدرة على الأداء الصحيح.

٦ - على الخطيب المبتدئ أن يراعي مراحل الممارسة العمليّة للخطابة ويتدرّج فيها، فلا يتجاوز مرحلة إلاّ بعد إتقانها وإحكامها بنحو تام؛ فإنّ عدم مراعاة ذلك لا يثمر إلاّ الفشل، ويكون سبباً لتعظيم المخاوف عند البعض.

وإذا أردنا تميّز مراحل الخطابة فهي على النحو التالي:

أ - مرحلة أداء (القريض) بالنحو المتعارف عليه عند أهل الفن وذوق الناس.

ب - مرحلة الجمع بين (القريض)، وقليل من ذكر (مصائب سيّد الشهداء).

ج - مرحلة أداء خطبة كاملة من (قريض - موضوع - وخاتمة).

ولا بدّ أن نلفت الانتباه إلى الاُمور التالية:

أ - على الخطيب المبتدئ أن يتبنّى في البدء المحاضرات القصيرة؛ فهي أيسر له من حيث الإعداد والأداء، ويستمر على هذا النحو إلى أن تكتمل عنده ملكة الخطابة.

٨١

ب - أن يتتلمذ عند أهل الخبرة من أستاذ في الخطابة، أو خطيب متكامل، وأمام حضور محدود من المستمعين؛ فإنّه أخفّ وطأة على النفس.

ج - يجب على الخطيب المبتدئ أن يمارس فعاليته في الخطابة في بدء الممارسة في محافل أعدّت للتدريب، وأمام مجموعة من المستمعين الذين لديهم خبرة في فنّ الخطابة؛ لغرض الانتفاع بتوجيهاتهم، ولا يخرج من دائرة التدريب إلى الممارسة الفعلية في التبليغ إلاّ بعد إذن أستاذ الخطابة أو أهل الخبرة.

٧ - وقد تعود أسباب الخوف والاضطراب إلى عوامل وراثية وتربوية نشأ الفرد عليها حتّى كبر، فمرحلة الطفولة تلعب دوراً كبيراً في صياغة شخصيّة الفرد من حيث يشعر أو لا يشعر، فعلاقة الطفل بوالديه وإخوته لها أثر بالغ في تكوين اتّجاهاته وانفعالاته النفسيّة، وكذلك المجتمع الذي عاش فيه، وما عند المجتمع من تقاليد وأعراف وقوانين وأحداث تؤثّر في تربية الفرد.

وخلاصة الكلام هنا: مَنْ شبَّ على الهرب من المشاكل والصعوبات، استقبل عهد الرجولة خائفاً خانعاً منطوياً(١) .

فعلى الفرد الذي يعاني من أزمة الخوف أن يراجع اتّجاهاته النفسيّة، ويعيد بناء شخصيّته بما يتلاءم مع متطلبات الشخصيّة السويّة.

ما تقدّم كان توسلاً بالأسباب الطبيعيّة يلجأ إليها الخطيب لإصلاح

____________________

(١) علم النفس / ١٥٠.

٨٢

شأنه، وإنّماء قابلياته ورفع عيوبه، ولا ينبغي له أن يعتمد عليها من غير أن يرجع إلى مسبب الأسباب؛ فإنّ الاعتماد عليها فقط يعدّ من أوثق عرى الشيطان.

فعلى الخطيب أن يتوكّل على الله (تعالى) في جميع أموره، ويتضرّع إليه بصدق النيّة، وإخلاص العمل، طالباً منه تعالى التوفيق والتسديد، وإنزال السكينة على القلب، وإلهام العلم، وبلوغ المطالب السامية المقدّسة المطلوبة لوجهه تعالى وحده لا شريك له.

٨٣

تأثير العادات على الخطيب

غالباً ما تنعكس على الخطيب المبتدئ ما اعتاد عليه من السلوك في أفعاله وأقواله وهو في حال أداء خطبة منبريّة، فالذي اعتاد على سرعة الكلام في سلوكه العادي يبدو منه ذلك وهو على المنبر، ومَنْ كان يغلب عليه الهدوء يظهر أيضاً منه ذلك، وهكذا في الإشارات والحركات.

فعلى الخطيب هنا أن يلاحظ أنّ قواعد فنّ الخطابة تقتضي أن ينتزع من سلوكه ما تطبّع عليه من عادات تخالف هذا الفنّ، ونحن نعلم أنّ العادات إذا انطبعت في شخصيّة الفرد تلبّست بها وملكته، وظهرت في سلوكه شاء أم أبى. فترك العادة القبيحة ليس في متناول الفرد إلاّ إذا جدّ واجتهد في الخلاص منها.

وهناك طرق يمكن للخطيب الذي عنده عادات تخالف فنّ الخطابة التوسّل بها لاستبدالها بطبائع هذا الفنّ، منها:

١ - تحويل العادة اللاإراديّة إلى عادة إراديّة:

إنّ العادات تصدر من الفرد من غير احتياج إلى توجيه شعوره ووعيه الكامل؛ لأنّها تنساب منه لشدّة التصاقها بشخصيّته. فعلى الفرد هنا أن يقوم بنحو متعمد على ممارسة العادة السيّئة، وتوجيه الشعور إليها بالتحكّم في الاستجابة لها، وذلك بتغيّر نوع الاستجابة(١) .

٢ - استبدال استجابة قديمة باستجابة جديدة:

أ - أفضل طريقة للتخلّص من العادات السيّئة هو استبدالها بعادة

____________________

(١) بتصرف من كتاب علم النفس ومشكلات الفرد.

٨٤

اُخرى جيدة.

ب - ممارسة العادة الجديدة بكلّ حماس.

ج - عدم السماح للعادة السيّئة بالعودة، وذلك من خلال الإكثار من ممارسة العادة الجديدة، وتكرارها بصفة دائمة؛ لغرض تعزيزها بصفة منتظمة ودائمة؛ فالعادات التي لا تعزز تنطفئ(١) .

____________________

(١) المصدر نفسه.

٨٥

أسباب الشرود الذهني عند السامع

مهمّة الخطيب أن يجذب ويحافظ على انتباه مستمعيه - الذي هو توجيه شعورهم وتركيزه - نحوه؛ استعداداً للتفاعل معه. وليس ذلك أمراً سهلاً؛ فإنّ الخطيب ليس كالمعلّم، فالمعلّم بوسعه أن يقول لتلميذه عند شرود ذهنه (انتبه) أو غير ذلك، ولا يستطيع ذلك الخطيب؛ لاختلاف الحال بين الخطابة والتدريس.

فيحتاج الخطيب التعرّف على العوامل التي تبعث على الشرود الذهني عند السامع، وهي ما توجب الملل والسأم في نفسه والانصراف.

وهناك جملة من العوامل هي:

أ - عدم السير على اُصول وقواعد فنّ الخطابة باعث على انصراف السامعين عن الخطيب، ومن ذلك كون الصوت على وتيرة واحدة، أو السرعة الزائدة وغير ذلك.

فعلى الخطيب أن يتقن ويحكم هذه الاُصول؛ لينال اهتمام الحاضرين وتفاعلهم معه.

واعلم أنّ مع إتقان هذه الاُصول يبقى التفاوت بين الخطباء؛ لاختلاف قدراتهم وقابلياتهم في كيفية توظيف تلك القواعد على المصاديق، والنماذج التي فيها التأثير على السامعين.

ب - ينبغي للخطيب الذي يريد إبقاء انتباه سامعيه أن لا يستطرد في موضوعه كثيراً؛ فإنّ الاستطراد غالباً ما يكون مدعاة إلى حيود الانتباه عن الموضوع الأصلي.

مثال ذلك: الإتيان بشواهد كثيرة متعاقبة على محور واحد، كما لو كان الحديث عن الصبر مثلاً وأتى بقصتين متتاليتين، وأعقبهما بأحاديث شريفة، أو الإتيان بتقسيمات أمر

٨٦

فتكثر تشعّباته، أو مع كثرة هذه التشعّبات يدخل في إبطال بعض وتأييد البعض الآخر؛ فإنّ ذلك ممّا يوجب ضياع المراد من ذهن السامع، فيذهب عنه انتباهه وتشوّقه.

ج - بسبب الولاء لأهل البيتعليهم‌السلام عمل محبّوهم على إبقاء جذوة ذكرهم خالدة على مرّ العصور؛ ولأجل ذلك ضحّوا بالغالي والعزيز من الأرواح والأموال.

وممّا بقي خالداً بهذا الولاء العظيم مجالس ذكر مصاب سيّد الشهداءعليه‌السلام ، حتّى صارت تلك المجالس أماكن شريفة للذكر يقصدها المؤمنون قاصدين القرب من الباري (عزّ وجلّ)، فعلى الخطيب أن يستوعب ذلك جيّداً فيعمل على تقويته وتثبيته.

ففي جانب من هذه المهمّة الملقاة على عاتق الخطيب أن يعرف أحوال الحاضرين الروحية والبدنية؛ ففي أيّام محرّم التي تحتلّ أهميّة خاصة في قلوب وعناية محبّي أبي عبد اللهعليه‌السلام تكثر المجالس، فيحضر العامل والفلاح والكاسب، كما يحضرها الشيخ الكبير والشاب، ويحضرها صحيح البدن وسقيمه، فجميع هؤلاء على الرغم ما فيهم من عناء عملهم اليومي، وما فيهم من وضع صحي، يأتون إلى المجالس؛ لغرض الحفاظ على خلود ذكر سيّد الشهداءعليه‌السلام ، ولغرض الانتفاع بما يقوله الخطيب في أمر دينهم ودنياهم.

فعلى الخطيب هنا أن يلاحظ ذلك فلا يطيل في مجلسه إلى الحد الذي يوجب نفورهم عن المجالس؛ فإنّ الإطالة قد تعمل على

٨٧

إخماد تلك الروح الحسينيّة، وهو خلاف مهمّة الخطيب ووظيفته.

فمراعاة الوقت مع أحوال الحاضرين وتلائمه وتناسبه معهم يجلب انتباههم، ويكسب إقبالهم على الخطيب، ويثبت النفوس على الولاء، ويشجعهم على الحضور والمواصلة، وخلاف ذلك التجربة والواقع شاهدان على فشله، فقد يُسهب الخطيب في كلامه إلى الحد الذي ينفر منه الحاضرون.

وخلاصة ذلك: إنّ من العوامل المهمّة في جلب انتباه السامعين هو عدم الإطالة عن الحدّ المسموح به من رغبتهم، والمطابقة بين المدّة الزمنية للمجلس مع أحوال الحاضرين الروحيّة والبدنيّة.

د - من العوامل الباعثة على انتباه السامع هو ما يحمله من تهيؤ ذهني للخطابة، ويراد من ذلك بأنّ السامع يتمركز في بؤرة شعوره إحساس بأنّ الخطيب سيتناول في خطبته موضوعاً يشبع نفسه بالرضا والقبول، فكلّ سامع يطلب في أعماقه أن يرضيه الخطيب بالحديث عن شيء يثير انتباهه واهتمامه وتفاعله.

فإذا فعل الخطيب ذلك فقد حاز على انتباه سامعيه، وإلاّ فقد خسرهم وصار على طرف مخالف لتوجيههم وانتباههم.

فعلى الخطيب أن يختار الموضوعات التي تتضمّن احتمالاً قويّاً في جلب انتباه السامعين، كما أن يكون دقيقاً في اختيار تفاصيل الموضوع.

٨٨

ومن الجدير بالذكر أنّ الموضوعات المعقّدة، والموضوعات الساذجة والمتكرّرة لا تثير انتباه السامعين، بل هي من أقوى الأسباب الباعثة على انصرافهم وإعراضهم.

أخيراً نودّ أن نذكّر بأنّ بعض أبحاث علم النفس أشارت إلى أن الاستماع الطبيعي لكلّ سامع (١٠) دقائق، وبعدها يحتاج المتكلّم إلى تزويد المخاطبين بالمثيرات التي تحافظ على انتباه السامع وتوجهه.

٨٩

٩٠

الباب السادس

صفات الخطيب

١ - آداب الخطيب

٢ - صفات الخطيب الكامل

٣ - الصفات المتفاوتة

٤ - توجيهات عامة

٩١

صفات الخطيب

بعد أن اكتملت مراحل الخطابة، ومضى عليها الخطيب المبتدئ، فإنّ هناك جملة من الاُمور المكمّلة له ينبغي الاتّصاف بها:

آداب الخطيب

وهي الآداب التي يظهر بها الخطيب عند الخطبة:

أ - سداد الرأي

وهو يكون بدراسته للموضوع الذي يخطب فيه دراسة تامّة؛ فإنّ الرأي المحكم لا يكون إلاّ بدراسة عميقة، وإحاطة تامّة، واطّلاع واسع، وعلم غزير، وفكر قويم.

وليس معنى ذلك إنّه لا يخطب إلاّ إذا كان محضّراً مهيّأ للكلام، بل المراد أن لا يتكلّم إلاّ في موضوع سبقت له دراسته والإحاطة به؛ حتّى يكون كلاماً مسدّداً؛ سواء كان يلقي الخطبة بعد تهيئة، أم يلقي الكلام ارتجالاً من غير سابقة تحضير، وإن كان المرتجل لا يحسن ارتجاله في كلّ الأحوال.

فعلى الخطيب ألاّ يخوض في حديث ليس له به علم؛ حتّى لا يشطّ فيبدي رأياً فطيراً، والرأي الفطير مبتسر لا ينال الحقّ من كلّ نواحيه، وقد يكون مع الحقّ على طريق نقيض.

واعلم أنّ سداد الرأي دعامة الخطيب الأولى؛ لكي يثق الجمهور بفكره ويتّجه إلى رأيه(١) .

____________________

(١) الخطابة - اُصولها، تاريخها - محمد أبو زهرة / ٤٨.

٩٢

ب - صدق اللهجة

وهو أن يظهر الخطيب مخلصاً فيما يدعو إليه، حريصاً على الحقيقة فيما يعمل؛ فإنّه إن ظهر كذلك وثق الناس به وصدّقوه فيما يدعو إليه، وأحسّوا بأنّه شريف تجب إجابته لشرفه وشرف ما يدعو إليه.

ومن أجل أن يكون الإخلاص بادياً يجب أن يكون من حاله ما يطابق مقاله، فلا يتجافى عمله عن قوله، بل يكون أكثر الناس أخذاً بقوله.

ومن علامات صدق اللهجة ألاّ يسرف في مدح ولا ذمّ، ولا في وعد ولا وعيد؛ فإنّ الإسراف مظنّة الكذب، والاعتدال مظنّة الصدق. وأن يكون نزيه اللسان مستقيم العمل؛ فلا يكون فاحشاً في تعبيره، ولا متّجهاً إلى الألفاظ الماجنة في خطبته(١) .

ج - التودّد مع السامعين

أن يكون الخطيب متواضعاً لهم، وأن يكون ممّن يألِفون ويُؤلَفون، فلا يكون جافياً خشناً قاسياً، وإن لم يكن هناك ما يقتضي مدحهم فلا يذكرهم بسوء، وأن يبيّن لهم أنّه يسعى في مصلحتهم، وأنّه يؤثرهم على نفسه، وأن لا يكون له غرض شخصي؛ فإنّ الغرض الشخصي يدخل الريبة إلى قوله فيتجافى السامعون عنه(٢) .

____________________

(١) المصدر نفسه / ٥١.

(٢) المصدر نفسه / ٥٢.

٩٣

صفات الخطيب الكامل

بعد بيان ما يجب أن يدرع به الخطيب عند ملاقاة السامعين، وما يجب أن يلاقيهم به، وجب أن نذكر صفات الخطيب الكامل أو القريب منه التي رسخت في نفسه الخطابة حتّى صارت ملكة فيه أو كالملكات، والتي بمجموعها يمتاز الخطباء عن غيرهم من المتكلّمين، والتي هي القدرة على كلّ ما يوضع في عنق الخطيب من تكاليف البيان، وهذه هي:

أ - قوّة الملاحظة

يدرك بها أحوال السامعين عند إلقاء خطبته، أهم مقبلون عليه فيسترسل في قوله ويستمر في نهجه، أم هم معرضون عنه فيتّجه إلى ناحية اُخرى يراها أقرب إلى قلوبهم، وأدنى إلى مواطن التأثير فيهم؟

يجب أن تكون نظرات الخطيب إلى سامعيه نظرات فاحصة كاشفة، يقرأ من الوجوه خطرات القلوب، ومن اللمحات ما تكنّ نفوسهم نحو قوله؛ ليجدّد من نشاطهم، ويذهب بفتورهم، ولتصل روحه بأرواحهم، ونفسه بنفوسهم(١) .

ب - حضور البديهية

وهي تسعفه بالعلاج المطلوب إن وجد من القوم إعراضاً، والدواء الشافي إن وجد منهم اعتراضاً. وقد يلقي الخطيب خطبته، فيعقّب

____________________

(١) المصدر نفسه / ٥٦.

٩٤

بعض السامعين معترضاً، أو طالباً الإجابة عن مسألة، أو أيّ حدث مفاجئ؛ فإذا لم تقدّم البديهة الحاضرة كلاماً قيّماً يسدّ به الخلّة ويدفع به الزلّة، ضاعت الخطبة وأثرها(١) .

ج - طلاقة اللسان

اللسان أداة الخطيب الأولى، فلا بد أن تكون الأداة سليمة كاملة؛ ليتسنّى له استعمالها على أكمل وجه وأتمّه(٢) .

ومن طلاقة اللسان، أن تكون عنده قوّة البيان من غير تلعثم في أقواله، أو تردّد في عباراته.

د - رباطة الجأش

تحدّثنا عن ذلك بالتفصيل.

هـ - القدرة على مراعاة مقتضى الحال

مراعاة مقتضى الحال لبّ الخطابة وروحها، فلكلّ مقام مقال، ولكلّ جماعة من الناس لسان تخاطب به، فلكلّ مقام نوع من الأساليب.

ففي مقام التحميس والتهديد مثلاً نختار الأساليب الفخمة والعبارات الضخمة، وفي بعض مقامات التأبين وإظهار الألم والأسى نختار العبارات السهلة الرقيقة المؤثرة.

ولكلّ قوم خطاب؛ فالعامّة نختار لهم العبارات الساذجة حتّى لا تعلو على أفهامهم، ولا تسمو على مداركهم،

____________________

(١) المصدر نفسه / ٥٦.

(٢) المصدر نفسه / ٥٧.

٩٥

والعلماء يخاطبون بعبارات منتقاة دقيقة محكمة. ولكلّ خطيب عبارات تستحسن منه؛ فمن الخطباء مَنْ لا يجمل منهم الهزل، ولا يليق بهم إلاّ الجدّ، فلا يصح أن يكون في كلامهم إلاّ ما هو مقبول منهم(١) .

الصفات المتفاوتة

هذه جملة من الصفات التي يتفاوت الخطباء في الاتّصاف بها، وهي تختلف عن الصفات السابقة، فتلك ممّا يجب الاتّصاف بها، أمّا هذه فهي من المكمّلات للخطيب، وهي اُمور:

أ - قوّة العاطفة

لا يؤثّر إلاّ المتأثر، ولا يثير الحماسة في قلوب السامعين إلاّ مَنْ امتلأ حماسةً فيما يدعو إليه، واعتقاداً بصدقه؛ لأنّ ما يخرج من القلب يدخل القلوب من غير استئذان، وكما أنّ الماء الذي علا سطحه ينساب في المجرى المنخفض، كذلك ذو العاطفة العالية، والحماسة الشديدة هو الذي ينحدر من فيه الشعور ألفاظاً، والعواطف عبارات وأساليب تلهب الحسّ، وتوقظ الضمير، وتثير الحميّة، وتحفّز الهمّة.

لا بدّ أن تكون حماسة الخطيب أقوى من حماسة سامعيه؛ ليفيض عليهم، ويروي غلّتهم، وإلاّ أحسّوا بفتور نفسه فضاع أثر قوله(٢) .

____________________

(١) المصدر نفسه / ١٤٩.

(٢) المصدر نفسه / ٥٨.

٩٦

ب - النفوذ وقوة الشخصية

هذه هبة يهبها الله تعالى للخطباء المخلصين، فترى كلّ مَنْ يلقاه يحسّ بقوّة روحه وعظم نفسه، فتستمد كلماته من قوّة إخلاصه. صوته يهز النفس هزّات روحيّة، تجعلها تلقف عباراته فتنطبع فيها مكبرة(١) .

ج - حسن الهيئة

أن يظهر الخطيب أمام السامعين بمظهر مألوف من حيث الملابس والهيئة؛ فإن لم يرتدِ ما يزيده هيبة في القلوب فلا يظهر إليهم بما يحطّ منزلته عندهم، خاصة إذا واجههم في أوّل لقائه؛ فإنّ ذلك له أثر عظيم في نفوس الناس.

د - سعة الاطّلاع

يجب أن يكون الخطيب ملمّاً بكلّ ما له صلة بالجماعة التي يخاطبها؛ ليعرف نواحي التأثير، والمواطن التي يطرق حسّها من ناحيتها.

فالخطيب الديني يجب أن يكون ملمّاً بالاجتماع والاقتصاد، والسياسة والشرائع؛ ليستطيع أن يصل إلى قلوب السامعين، ويربط صلاحهم الدنيوي في كلّ نواحيه بصلاح دينهم وقلوبهم.

فالخطيب يجب أن

____________________

(١) المصدر نفسه / ٥٩.

٩٧

يكون ملمّاً بكلّ ما له صلة بالجماعات، وطرق التأثير فيها، والابتعاد عمّا ينفّرها؛ لكيلا يجعل قلوبها عنه متجافية(١) .

____________________

(١) المصدر نفسه / ٦٠.

٩٨

المنهج الخاص للخطيب

من الصعوبات التي يعاني منها الخطيب المبتدئ الذي تسلّط عمليّاً على قواعد الخطابة عدم استقراره على منهج واضح وخاص له؛ ممّا يبدو عليه الاضطراب والتخبّط في خطبه، وقد يحدو بالبعض لأجل التخلّص من هذه المعاناة باللجوء إلى تقليد الآخرين منهجاً، وقد يصل بهم التقليد إلى أقصى درجاته، وذلك بالظهور بصورة البديل عن المقلَّد حتّى في نبراته وحركاته.

ولاشكّ إنّ هذا الاُسلوب ممّا يزري بالخطيب، ويحطّ من منزلته، كما إنّه علامة تدلّ على عدم قدرته على اتّخاذ منهج خاص له؛ فإنّ من مكمّلات الخطيب أن ينتقي منهجاً خاصّاً يتميّز به عن غيره؛ لأجل استقطاب قدراته، ومنعها من التشتت.

إضافة إلى إتاحة فرصة عظيمة له، وذلك بفتح ميدان واسع لإظهار إبداعاته وطموحاته في التجديد.

أمّا المقصود من المنهج هو:

أولاً: أن يتميّز الخطيب بأسلوبه الخطابي الخاصّ، ويتميّز بطريقة إلقاء خاصّة.

ثانياً: أن يكون له اتّجاه خاصّ في انتقاء المواضيع، فهناك فروع عديدة ومتنوّعة يمكن أن تكون مواضيعَ للخطابة، فقد ينحى البعض منحى الوعظ والإرشاد الأخلاقي، أو يقوم بعرض المفاهيم المختلفة بطريقة علميّة أو تاريخيّة، أو عرفانيّة أو غير ذلك، وقد توجد إمكانيّة للبعض على جمع كلّ ذلك في خطبة واحدة.

٩٩

ولا شك أنّ اختيار المنهج الخاصّ لا يأتي اعتباطاً، وإنّما تتحكّم به عوامل عديدة، أهمّها قابلية الخطيب وقدراته العلميّة والفنيّة، فهذه هي التي تدفعه إلى سلوك هذا المنهج، ولا يستطيع سلوك غيره.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140