اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)

اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)25%

اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 221

اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 221 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 125507 / تحميل: 7044
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)

اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

تعمدوا إضرارك والإساءة إليك. فتماشيهم بقدر ما تصون به نفسك، وتدفع الأذى عنك، لأن الضرورة تقدر بقدرها. وقد مثل فقهاء الشيعة لذلك بأن يصلي الشيعي «متكتفاً»، أو يغسل رجليه في الوضوء بدلاً من مسحهما في بيئة سنية متعصبة، بحيث إذا لم يفعل لحقه الأذى والضرر.

هذي هي التقية في حقيقتها وواقعها عند الشيعة، وما هي بالشيء الجديد، ولا من البدع التي يأباها العقل والشرع. فقد تكلم عنها الفلاسفة وعلماء الأخلاق قبل الإسلام وبعده، تكلموا عنها وأطالوا، ولكن لا بعنوان التقية، بل بعنوان: «هل الغاية تبرر الواسطة؟» وما إلى ذاك، وتكلم عنها الفقهاء، وأهل التشريع في الشرق والغرب بعنوان: «هل يجوز التوصل إلى غاية مشروعة من طريق غير مشروع؟». وبعنوان «المقاصد والوسائل» وتكلم عنها علماء الأصول من السنة والشيعة بعنوان: «تزاحم المهم والأهم» واتفقوا بكلمة واحدة على أن الأهم مقدم على المهم، ارتكاباً لأقل الضررين، ودفعاً لأشد المحذورين، وتقديماً للراجح على المرجوح..

وهذه العناوين وما إليها تحكي التقية كما هي عند الإمامية، ولا تختلف عنها إلا في الأسلوب والتعبير. وكانت التقية وما زالت ديناً يدين به كل سياسي في الشرق والغرب، حتى المخلص الأمين.

وإذا سأل سائل: ما دام الأمر كذلك فلماذا عبر الشيعة بلفظ التقية، ولم يعبروا بلفظ المقاصد والوسائل، أو الغاية تبرر الواسطة؟

الجواب:

إن العبرة بالمعنى، لا باللفظ، وقديماً قال العارفون: «النقاش في الاصطلاحات اللفظية ليس من دأب المحصلين».

ثانياً: إن علماء الشيعة يأخذون - دائماً أو غالباً - ألفاظهم ومصطلحاتهم الشرعية من نصوص الكتاب والسنة، وقد عبر القرآن الكريم عن هذا المعنى بمادة الاتقاء، كما تدل الآية التالية:

ومهما يكن. فقد استدل الإمامية بالآية ٢٨ من سورة آل عمران: «لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من اللّه

في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة». فالآية صريحة في النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء إلا في حال

٤١

الخوف واتقاء الضرر والأذى، واستدلوا بالآية ١٠٦ من سورة النحل: «من كفر باللّه بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان».

قال المفسرون: إن المشركين آذوا عمار بن ياسر، وأكرهوه على قول السوء في رسول اللّه، فأعطاهم ما أرادوا. فقال بعض الأصحاب: كفر عمار. فقال النبي: كلا، ان عماراً يغمره الإيمان من قرنه إلى قدمه. وجاء عمار، وهو يبكي نادماً آسفاً، فمسح النبي عينيه، وقال له: لا تبك، إن عادوا لك، فعد لهم بما قلت.

واستدلوا أيضاً بالآية ٢٨ من سورة غافر: «وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه». فكتم الإيمان، وإظهار خلافه ليس نفاقاً ورياء، كما زعم من نعت التقية بالنفاق والرياء. وبالآية ١٩٥ من سورة البقرة: «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة».

ومن السنة استدلوا بحديث «لا ضرر ولا ضرار» وحديث « رفع عن أمتي تسعة أشياء: الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والطيرة، والحسد، والوسوسة في الخلق». والحديثان مرويان في كتب الصحاح عند السنة. وقول الرسول الأعظم، «وما اضطروا إليه» صريح الدلالة على أن الضرورات تبيح المحذورات.

وقال الغزالي في الجزء الثالث من إحياء العلوم «باب ما رخص فيه من الكذب»: «إن عصمة دم المسلم واجبة، فمهما كان القصد سفك دم مسلم قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب».

وبعد أن نقل الرازي الأقوال في التقية، وهو يفسر قوله تعالى «إلا أن تتقوا منهم تقاة» قال: روي عن الحسن أنه قال: التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة، وهذا القول أولى، لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان».

ونعى الشاطبي في الجزء الرابع من الموافقات ص ١٨٠ على الخوارج «إنكارهم سورة يوسف من القرآن، وقولهم بأن التقية لا تجوز في قول أو فعل على الإطلاق والعموم».

وقال جلال الدين السيوطي في كتاب «الأشباه والنظائر» ص ٧٦: «يجوز

أكل الميتة في المخمصة، وإساغة اللقمة في الخمر، والتلفظ بكلمة الكفر. ولو عم الحرام قطراً، بحيث لا يوجد فيه حلال إلا نادراً فإنه يجوز استعمال ما يحتاج إليه».

وقال أبو بكر الرازي الجصاص - من أئمة الحنفية - في الجزء الثاني من كتاب «أحكام القرآن» ص ١٠ طبعة ١٣٤٧هجري:

قوله تعالى «إلا أن تتقوا منهم تقاة» يعني أن تخافوا تلف النفس، أو بعض الأعضاء، فتتقوهم

٤٢

بإظهار الموالاة من غير اعتقاد لها، وهذا هو ظاهر ما يقتضيه اللفظ، وعليه الجمهور من أهل العلم، وقد حدثنا عبد اللّه بن محمد بن اسحاق المروزي عن الحسن بن أبي الربيع الجرجاني عن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى «لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون اللّه» قال: لا يحل لمؤمن أن يتخذ كافراً ولياً في دينه، وقوله تعالى «إلا أن تتقوا منهم تقاة» يقتضي جواز إظهار الكفر عند التقية، وهو نظير قوله تعالى «من كفر باللّه من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان». وفي الجزء الثالث من السيرة الحلبية ص ٦١ مطبعة مصطفى محمد «لما فتح رسول اللّه خيبر قال له حجاج بن علاط: يا رسول اللّه إن لي بمكة مالاً، وإن لي بها أهلاً، وأنا أريد أن آتيهم، فأنا في حل إن أنا نلت منك، وقلت شيئاً، فأذن له رسول اللّه أن يقول ما يشاء».

وهذا الذي قاله صاحب السيرة الحلبية عن النبي، ونقله الجصاص إلى الجمهور من أهل العلم هو بعينه ما تقوله الإمامية، إذن القول بالتقية لا يختص بالشيعة دون السنة. أما قصة نعيم بن مسعود الأشجعي فأشهر من أن تذكر.

ولا أدري كيف استجاز لنفسه من يدعي الإسلام أن ينعت التقية بالنفاق والرياء، وهو يتلو من كتاب اللّه، وسنة نبيه ما ذكرنا من الآيات والأحاديث، وأقوال أئمة السنة، وهي غيض من فيض مما استدل به علماء الشيعة في كتبهم، وكيف تنسب الشيعة إلى الرياء، وهم يؤمنون بأنه الشرك الخفي، ويحكمون ببطلان الصوم والصلاة والحج والزكاة إذا شابتها أدنى شائبة من رياء؟

وأود أن أوجه هذا السؤال لمن نسب الشيعة إلى النفاق والرياء من أجل التقية: ما رأيك فيمن قال - من علماء السنة - إن جبرئيل ليلة أسرى بالنبي إلى السماء جاءه بقدحين: أحدهما من لبن، وآخر من خمر، وخيره بين شرب

أيهما شاء (كتاب الفروق ج ١ ص ١٢ طبعة ١٣٤٥هجري وصحيح البخاري ج ٦ باب سورة بني إسرائيل).

وأيضاً ما رأيك فيمن أفتى - منهم - بأن من ترك الصلاة عمداً لا يجب عليه قضاؤها، ومن تركها نسياناً يجب عليه أن يقضي. (كتاب نيل الأوطار للشوكاني ج ٢ ص ٢٧ طبعة ١٩٥٢).

وغريبة الغرائب أن يُعذر المفتي على فتواه التي خالف بها الاجماع والقواعد والنص والقياس الجلي السالم عن المعارض، ولا يعذر من يفتي بالتقية مستنداً إلى كتاب اللّه وسنة رسوله. (الفروق للقرافي ج ٢ ص ١٠٩).

٤٣

وبالتالي، فإن التقية كانت عند الشيعة حيث كان العهد البائد، عهد الضغط والطغيان، أما اليوم حيث لا تعرّض للظلم في الجهر بالتشيع فقد أصبحت التقية في خبر كان.

في عام ١٩٦٠ أقامت الجمهورية العربية المتحدة مهرجاناً دولياً للغزالي في دمشق، وكنت فيمن حضر وحاضر، فقال لي بعض أساتذة الفلسفة في مصر فيما قال: أنتم الشيعة تقولون بالتقية.. فقلت له: لعن اللّه من أحوجنا إليها. إذهب الآن أنّى شئت من بلاد الشيعة فلا تجد للتقية عندهم عيناً ولا أثراً، ولو كانت ديناً ومذهباً في كل حال لحافظوا عليها محافظتهم على تعاليم الدين ومبادئ الشريعة.

البداء:

اتفق المسلمون بكلمة واحدة على جواز النسخ، ووقوعه في الشريعة الإسلامية، ومعناه في اصطلاح المفسرين وأهل التشريع أن اللّه يشرع حكماً كالوجوب أو التحريم، ويبلغه لنبيه، وبعد أن يعمل النبي وأمته بموجبه يرفع اللّه هذا الحكم وينسخه ويجعل في مكانه حكماً آخر، لإنهاء الأسباب الموجبة لبقاء الأول واستمراره، وهذا النوع من النسخ ليس بعزيز، فإنه موجود في الشرائع السماوية والوضعية، واستدل المسلمون على جوازه ووقوعه بأدلة، منها أن الصلاة كانت في بدء الإسلام لجهة بيت المقدس، ثم نسخت، وتحولت إلى جهة البيت الحرام، كما نطقت الآية ١٤٤ من سورة البقرة: «فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام».

ونتساءل: إذا جاز النسخ على اللّه بهذا المعنى في الأمور التشريعية فهل يجوز عليه ذلك في الأشياء الكونية والطبيعية، وذلك بأن يقدر اللّه ويقضي بإيجاد شيء في الخارج، ثم يعدل ويتحول عن قضائه وإرادته؟

اتفق المسلمون جميعاً على عدم جواز النسخ في الطبيعيات، لأنه يستلزم الجهل وتجدد العلم للّه، وحدوثه بعد نفيه عنه. تعالى عن ذلك علواً كبيراً، ويسمى هذا بالبداء الباطل، وقد نسبه البعض إلى الإمامية جهلاً أو تجاهلاً، رغم تصريحاتهم المتكررة بنفيه.

روى الشيخ الصدوق في كتاب «إكمال الدين وإتمام النعمة» عن الإمام الصادق أنه قال: من زعم ان اللّه عز وجل يبدو له في شيء لم يعلمه أمس فابرأوا منه.

وبعد أن نفى المسلمون جميعاً البداء بهذا المعنى أجازوا بداء لا يستدعي الجهل وحدوث العلم

٤٤

لذات اللّه، وهو أن يزيد اللّه في الأرزاق والأعمار، أو ينقص منهما بسبب أعمال العبد، قال المفيد شيخ الشيعة الإمامية في كتاب «أوائل المقالات» باب القول في البداء والمشيئة: «البداء عند الإمامية هو الزيادة في الآجال والأرزاق، والنقصان منهما بالأعمال».

وتدل على هذا الآية ٦٠ من سورة غافر: «وقال ربكم ادعوني أستجب لكم» وروى الترمذي في سننه باب لا يرد القدر إلا الدعاء أن النبي قال: لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر(١) .

وبالتالي، فقد اتفق السنة والشيعة بكلمة واحدة على أن أية صفة تستدعي الجهل وتجدد العلم فهي منفية عن اللّه سبحانه بحكم العقل والشرع، سواء أعبّرنا عنها بالبداء أو بلفظ آخر، وعليه فلا يصدق القول بأن الشيعة أجازوا البداء على اللّه دون السنة، لأن المفروض أن البداء المستلزم للجهل باطل عند الفريقين، والبداء بمعنى الزيادة أو النقصان في الأرزاق والآجال جائز عند الفريقين. فأين محل النزاع والصراع؟

هذا، إلى أن الإمامية قد تشددوا في صفات الباري أكثر من جميع الفرق

_____________________

(١) انظر كتاب «البيان في تفسير القرآن» للسيد الخوئي ص ٢٧٧.

٤٥

والطوائف، وبالغوا في تنزيهه عن كل ما فيه شائبة الجهل والظلم والتجسيم والعبث، وما إليه. فلم يجيزوا على اللّه ما أجازه الأشاعرة وغيرهم من سائر الفرق الإسلامية الذين قالوا بأن الخير والشر من اللّه، وإنه سبحانه يكلف الإنسان بما لا يطاق، وإنه تعالى علواً كبيراً يأمر بما يكره، وينهى عما يحب، ويفعل بدون غرض (كتاب المواقف ج ٨ للإيجي وشرحه للجرجاني، وكتاب الفروق للقرافي ج ٢ وكتاب المذاهب الإسلامية لأبي زهرة). كما أن الإمامية قد نفوا التجسيم عن اللّه الذي قال به الحنابلة، ومنهم الوهابية الذين رووا عن النبي: «لا تزال جهنم يلقى فيها، وهي تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها رجله، فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط. قط».(العقيدة الواسطية لابن تيمية المطبوعة مع الرسائل التسع سنة ١٩٥٧ ص ١٣٦).

الرجعة:

قال فريق من علماء الإمامية: إن اللّه سبحانه سيعيد إلى هذه الحياة قوماً من الأموات، ويرجعهم بصورهم التي كانوا عليها، وينتصر اللّه بهم لأهل الحق من أهل الباطل، وهذا هو معنى الرجعة. وأنكر الفريق الآخر ذلك، ونفاه نفياً باتاً.

ونقل هذا الاختلاف الشيخ الإمامي الثقة أبو علي الطبرسي في «مجمع البيان» عند تفسير الآية ٨٣ من سورة النمل: «ويوم نحشر من كل أمة فوجاً ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون».

قال: استدل بهذه الآية على صحة الرجعة من ذهب إلى ذلك من الإمامية. ووجه الدلالة - بزعم هؤلاء - أن اليوم الذي يحشر اللّه فيه فوجاً من كل أمة لا يمكن أن يكون اليوم الآخر بحال، لأن هذا اليوم يُحشر فيه جميع الناس لا فوج من كل أمة لقوله تعالى في الآية ٤٨ من سورة الكهف: «وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً». فتعين أن يكون الحشر في هذه الدنيا لا في الآخرة.

أما الذين أنكروا الرجعة من علماء الإمامية فقد قالوا: إن الحشر في الآية يراد به الحشر في اليوم الآخر، لا في هذه الحياة، والمراد بالفوج رؤساء الكفار والجاحدين، فإنهم يحشرون ويجمعون لإقامة الحجة عليهم.

ومهما يكن، فإن غرضنا الأول من نقل كلام الشيخ الطبرسي الإمامي هو التدليل على أن علماء الإمامية لم يتفقوا بكلمة واحدة على القول بالرجعة. وقد اعترف باختلافهم الشيخ أبو زهرة، حيث قال في كتاب «الإمام الصادق» ص ٢٤٠ ما نصه بالحرف: «ويظهر أن فكرة

٤٦

الرجعة على هذا الوضع ليست أمراً متفقاً عليه عند إخواننا الإثني عشرية، بل فيهم فريق لم يعتقده».

وقال السيد محسن الأمين في كتاب «نقض الوشيعة» ص ٤٧٣ طبعة ١٩٥١: «الرجعة أمر نقلي، إن صح النقل به لزم اعتقاده، وإلا فلا». وقال ص ٥١٥ يتعلق بالبداء: «أجمع علماء الإمامية في كل عصر وزمان على أن البداء بهذا المعنى باطل ومحال على اللّه، لأنه يوجب نسبة الجهل إليه تعالى، وهو منزه عن ذلك تنزيهه عن جميع القبائح، وعلمه محيط بجميع الأشياء إحاطة تامة جزئياتها وكلياتها، لا يمكن أن يخفى عليه شيء، ثم يظهر له».

ولو كانت الرجعة من أصول الدين أو المذهب عن الإمامية لوجب الاعتقاد بها، ولما وقع بينهم الاختلاف فيها، أما الأخبار المروية في الرجعة عن أهل البيت فهي كالأحاديث في الدجال التي رواها مسلم في صحيحه القسم الثاني من الجزء الثاني ص ٣١٦ طبعة ١٣٤٨ هجري، ورواها أيضاً أبو داود في سننه ج ٢ ص ٥٤٢ طبعة ١٩٥٢، وكالأحاديث التي رويت عن النبي في أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم الأموات (كتاب مجمع الزوائد للهيثمي ج ١ ص ٢٢٨ طبعة ١٣٥٢ هجري).

إن هذه الأحاديث التي رواها السنة في الدجال وعرض أعمال الأحياء على الأموات، وما إلى ذاك تماماً كالأخبار التي رواها الشيعة في الرجعة عن أهل البيت. فمن شاء آمن بها، ومن شاء جحدها، ولا بأس عليه في الحالين. وما أكثر هذا النوع من الأحاديث في كتب الفريقين(١) .

____________________

(١) ولنفترض أن الشيعة كلهم أو بعضهم يقولون بالرجعة. فماذا يكون؟. وهل هذا القول كفر وزندقة؟. لقد اعتقد المسلمون منذ أن وجدوا، حتى اليوم أن المسيح (ع) حي بروحه وجسده، ومع ذلك نشر شيخ الأزهر فضيلة الشيخ محمود شلتوت مقالاً مطولاً في جريدة الجمهورية المصرية تاريخ ١٥ / ١١ / ١٩٦٣ قال فيه: إن عيسى قد مات حقيقة، كسائر الانبياء، ومع ذلك لم يكفر شيخ الأزهر، ولا كفره أحد، فعلام هذا التهويش حول الرجعة.

٤٧

الجفر:

جاء في بعض مؤلفات السنة والشيعة أن عند أهل البيت علم الجفر، وأنهم يتوارثونه إماماً عن إمام إلى جدهم الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن كتب السنة التي جاء فيها ذكر الجفر المواقف للإيجي، وشرحه للجرجاني الحنفي، والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي، وقال أبو العلاء المعري:

لقد عجبوا لأهل البيت لما

أروهم علمهم في مسك جفر

ومرآة المنجم وهي صغرى

أرته كل عامرة وقفر

ونفى أفراد من السنة والشيعة ذلك، ولم يعتقدوا بشيء يسمى الجفر عند أهل البيت ولا عند غيرهم.

ما هو علم الجفر؟

واختلف القائلون بوجود الجفر في تفسير معناه، فمن قائل بأنه نوع من علم الحروف تستخرج به معرفة ما يقع من الحوادث في المستقبل. ومن قائل بأنه كتاب من جلد(١) ، فيه بيان الحلال والحرام، وأصول ما يحتاج إليه الناس من الأحكام التي فيها صلاح دينهم ودنياهم، وعلى هذا فلا يمت الجفر إلى الغيب بصلة.

ومن الطريف أن يقول عالم كبير من علماء الأحناف، وهو الشريف الجرجاني بالأول، وإن الجفر الذي عند أهل البيت تستخرج منه الحوادث الغيبية، وأن يخالفه في ذلك عالم كبير من الإمامية، وهو السيد محسن الأمين، ويقول بالثاني، وإنه علم الحلال والحرام فقط.

قال الجرجاني في كتاب «المواقف وشرحه» ج ٦ ص ٢٢ ما نصه بالحرف: «الجفر والجامعة كتابان لعليرضي‌الله‌عنه ، وقد ذكر فيهما على طريقة علم الحروف الحوادث إلى انقراض العالم، وكان الأئمة المعروفون من أولاده يعرفونهما ويحكمون بهما».

وقال السيد محسن الأمين في كتاب «نقض الوشيعة» ص ٢٩٥: «ليس

________________________

(١) الجفر في أصل اللغة ولد الشاة إذا عظم واستكرش، ثم أطلق على جلد الشاة.

الجفر علماً من العلوم، وإن توهم ذلك كثيرون، ولا هو مبني على جداول الحروف، ولا ورد به خبر ولا رواية - إلى أن قال - ولكن الناس توسعوا في تفسيره، وقالوا فيه أقاويل لا تستند إلى مستند، شأنهم في أمثال ذلك».

٤٨

وقال في «أعيان الشيعة» قسم أول من ج ١ ص ٢٤٦ طبعة ١٩٦٠: «الظاهر من الأخبار أن الجفر كتاب فيه العلوم النبوية من حلال وحرام، وما يحتاج إليه الناس في أحكام دينهم، وصلاح دنياهم».

السيد الأمين الذي تثق الإمامية كافة بعلمه ودينه ينفي الجفر بمعنى علم الغيب عن أهل البيت، ويثبته علماً من أعلام الأحناف، ويقول: «عندهم علم ما يحدث إلى انقراض العالم». وبهذا يتبين ما في قول الشيخ أبي زهرة وغيره من الذين جعلوا القول بالجفر من اختصاص الإمامية، ونسبوا لهم الزعم بأن أهل البيت يستخرجون منه علم الغيب. إن غير الإمامية من الفرق الإسلامية يدّعون أمثال ذلك، ثم ينسبونه إلى الأمامية، لا لشيء إلا لشينعوا، ويهوشوا، وكذلك فعلوا في دعوى تحريف القران والنقص منه، ودعوى الإيحاء والإلهام.

هذا، إلى أن مسألة الجفر ليست من أصول الدين ولا المذاهب عند الإمامية، وإنما هي أمر نقلي، تماماً كمسألة الرجعة، يؤمن بها من تثبت عنده، ويرفضها إذا لم تثبت، وهو في الحالين مسلم سني، إن كان سنياً، ومسلم شيعي، إن كان شيعياً.

الخلاصة:

إن الإمامية يدينون بأن الإمامة تكون بالنص لا بالانتخاب، وإن محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله نص صراحة على علي بن أبي طالب، وإنهم يوجبون العصمة للإمام، وينفون عنه علم الغيب، ويقولون بالتقية عند خوف الضرر، وينفون - متفقين - صفة البداء عن اللّه المستلزمة للجهل، وحدوث العلم، ويختلفون في الرجعة.

مصحف فاطمة:

نسب إلي الإمامية القول بأن عند فاطمة بنت الرسول مصحفاً، فيه زيادات عن هذا القرآن الكريم، وقبل أن نبين حقيقة هذه النسبة نشير إلى عقيدة المسلمين

في صيانة الكتاب العزيز.

اتفق المسلمون بكلمة واحدة على أنه لا زيادة في القرآن، ما عدا فرقة صغيرة شاذة من فرق الخوارج، فإنها أنكرت أن تكون سورة يوسف من القرآن، لأنها قصة غرام يتنزه عن مثلها كلام اللّه سبحانه. ونسب إلى بعض المعتزلة إنكار سورة أبي لهب، لأنها سب وطعن لا يتمشى مع منطق الحكمة والتسامح. ونحن لا نتردد، ولا نتوقف في تكفير من أنكر كلمة واحدة من القرآن، وأن

٤٩

جحود البعض، تماماً كجحود الكل، لأنه طعن صريح فيما ثبت عن النبي بضرورة الدين، واتفاق المسلمين.

أما النقصان بمعنى أن هذا القرآن لا يحتوي على جميع الآيات التي نزلت على محمد، فقد قال به أفراد من السنة والشيعة في العصر البائد، وأنكر عليهم يومذاك المحققون وشيوخ الإسلام من الفريقين، وجزموا بكلمة قاطعة أن ما بين الدفتين هو القرآن المنزل دون زيادة أو نقصان للآية ٨ من سورة الحجرات: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون». والآية ٤١ من سورة فصلت: «لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد». واليوم أصبح هذا القول ضرورة من ضرورات الدين، وعقيدة لجميع المسلمين، إذ لا قائل بالنقيصة، لا من السنة، ولا من الشيعة. فإثارة هذا الموضوع، والتعرض له - في هذا العصر - لغو وعبث، أو دس وطعن على الإسلام والمسلمين.

وإذا عذرنا محب الدين الخطيب والحفناوي والجبهان وأضرابهم من المأجوردين فإنا لا نعذر أبداً الشيخ أبا زهرة، لأنه في نظرنا أجلّ، وأسمى علماً وخلقاً من ألف خطيب وخطيب من أمثال محب الدين. لذا وقفنا حائرين متسائلين: ماذا أراد فضيلته من إثارة هذا الموضوع في كتاب «الإمام الصادق» مع علمه ويقينه أنه أصبح في خبر كان، وأنه لا قائل به اليوم من الشيعة ولا من السنة؟ ماذا أراد الشيخ أبو زهرة من حملته الشعواء على الشيخ الكليني صاحب

الكافي الذي مضى على وفاته أكثر من ألف سنة؟ هل يريد الشيخ أن يدخلنا في جدل عقيم، ونحن نطلب الوفاق والوئام معه ومع غيره؟ وحيثما أجلت الفكر في سبب هذه الحملة لم أجد لها تفسيراً إلا التأثر بالبيئة والوراثة.

وهل من شيء أدل على ذلك من قوله في ص ٣٦: «لا نستطيع قبول روايات

الكليني، لأنه الذي ادعى أن الإمام جعفر الصادق قد قال: إن في القرآن نقصاً وزيادة، وقد «كذبه» - كذا - كبار العلماء من الاثني عشرية، كالمرتضى والطوسي وغيرهما، ورووا عن أبي عبد اللّه الصادق نقيض ما ادعاه الكليني» وكرر هذه العبارة وما إليها في صفحات الكتاب مرات ومرات. إن أبا زهرة يصور الكليني، وكأنه قد تفرد بهذا القول دون غيره، وتصويره هذا بالتضليل أشبه، كما يتضح مما يلي:

ولست أدري كيف ذهل الشيخ عن وجه الشبه فيما نقله الكليني في الكافي، وما نقله كل من البخاري ومسلم في صحيحه؟ قال البخاري في ج ٨ ص ٢٠٩ طبعة سنة ١٣٧٧ هجري:

٥٠

«جلس عمر على المنبر، فلما سكت المؤذن قام، فأثنى على اللّه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يدي أجلي؟ فمن عقلها ووعاها فليحدث بها، حيث انتهت به راحلته، ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب علي. إن اللّه بعث محمداً بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، ورجم رسول اللّه ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: واللّه ما نجد آية الرجم في كتاب اللّه، فيضلوا بترك فريضة أنزلها اللّه، والرجم في كتاب اللّه حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو كان الحبل، أو الاعتراف، ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب اللّه: «أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم». ونقل البخاري أيضاً في ص ٨٦ ج ٩ باب «الشهادة تكون عند الحاكم في ولايته القضاء» عن عمر بن الخطاب أنه قال: «لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب اللّه لكتبت آية الرجم بيدي».

هذا ما جاء على لسان الخليفة الثاني في صحيح البخاري، وروى هذا الحديث مسلم في صحيحه ص ١٠٧ القسم الأول من الجزء الثاني طبعة سنة ١٣٤٨ هجري، ولم يذكر فيه «أن لا ترغبوا عن آبائكم» إلخ مع العلم بأن ليس في القران ما يشعر بوجوب الرجم والرغبة عن الآباء. وقال السيوطي في «الإتقان» ج ١ ص ٦٠ مطبعة حجازي بالقاهرة: «أول من جمع القرآن أبو بكر، وكتبه زيد، وكان

الناس يأتون زيد بن ثابت، فكان لا يكتب آية إلا بشاهدي عد ل، وإن آخر سورة براءة لم توجد إلا مع أبي خزيمة بن ثابت، فقال - أي أبو بكر - اكتبوها، فإن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله جعل بشهادة رجلين، فكتب، وإن عمر أتى بآية الرجم، فلم يكتبها، لأنه كان وحده».

وإذا كان أبو زهرة لا يقبل أحاديث الكليني، لأنه روى حديث التحريف - كما قال - فعليه أن لا يقبل أحاديث البخاري جملة وتفصيلاً، لمكان هذا الحديث الصريح الواضح بالتحريف بشهادة عمر بن الخطاب. وإن ما ذكره الكليني في هذا الباب لا يختلف في النتيجة عما ذكره البخاري ومسلم. فلماذا تحامل الشيخ على الكليني، وسكت عنهما؟ بل قال أبو زهرة في كتاب الإمام زيد ص ٢٤٥: «والبخاري ذاته، وهو أصح كتب السنة إسناداً قد أخذت عليه أحاديث وما كان ذلك مسوغاً لتكذيب البخاري ولا مسوغاً لنقض الصحيح الذي رواه وعدم الأخذ به.

وأيضاً روى البخاري في الجزء الرابع «باب طفة إبليس وجنوده» عن عائشة أنها قالت: «سحر النبي، حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء، وما يفعله».

٥١

وقد كذبه في ذلك الجصاص أحد أئمة الحنفية، قال ما نصه بالحرف: «وقد أجازوا من فعل الساحر ما هم أطم وأفظع، ذلك أنهم زعموا أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سحر، وأن السحر عمل فيه، حتى قال: إنه يخيل لي أني أقول الشيء، ولا أقوله، وأفعله، ولم أفعله - إلى أن قال الجصاص -: ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين». (الجزء الأول من أحكام القرآن للجصاص ص ٥٥ طبعة سنة ١٣٤٧ هجري».

وكذب البخاري في ذلك أيضاً الشيخ محمد عبده في تفسيره لسورة الفلق، حيث قال: «وقد رووا أحاديث أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سُحر. حتى كأنه يفعل الشيء، وهو لا يفعله، أو يأتي شيئاً، وهو لا يأتيه. وهذا يصدق قول المشركين فيه. «إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً». وليس المسحور إلا من خولط في عقله، وخيل إليه أن شيئاً يقع، وهو لا يقع، فيخيل إليه أنه يوحى إليه، ولا يوحى إليه».

والآن، وبعد هذه الأرقام بماذا تجيب - أيها الشيخ -؟ قلت: إنك لا تقبل روايات الكليني، لأن الطوسي والمرتضى كذباه في رواية التحريف. ونقول

لك: إن الإمام الجصاص، والإمام عبده كذبا البخاري في رواية سحر النبي. وقال الأول: إن هذا من وضع الملحدين. وقال الثاني إن السحر يستلزم تصديق المشركين وتكذيب الرسول. وعليه فأنت بين أمرين: إما أن لا تقبل روايات البخاري والكليني معاً، وإما أن تقلبهما معاً، ولا أظنك تفعل هذا ولا ذاك. بل تقبل البخاري، دون الكليني، وتناقض نفسك بنفسك. وهذا هو منطق كل من رد وتحامل على علماء الإمامية.

لقد ذهل الشيخ أبو زهرة عن ذلك، وذهل أيضاً عن أن مخالفة المرتضى والطوسي للكليني إنما هي كمخالفة مالك لأبي حنيفة، والشافعي للاثنين، وأحمد للثلاثة في كثير من المسائل. وإذا كان اختلاف علماء الإمامية فيما بينهم يستدعي طرح أقوالهم كلاً أو بعضاً فكذلك الأمر بالنسبة إلى علماء السنة، وأئمة المذاهب. إن اختلاف أنظار العلماء في صحة الحديث وضعفه كاختلافها في الأحكام نفسها لا يستدعي تكذيبهم، وطرح أقوالهم. بل إن أبا زهرة صرح في كتاب «المذاهب الإسلامية» ص ٢١ بأن الخلاف الذي نتج عن الاستنباط كان محمود العاقبة حسن النتيجة. فهل هذا الحسن يختص بعلماء طائفة دون أخرى؟

وبعد هذه الوقفة القصيرة مع الشيخ أبي زهرة نعود إلى الحديث عن مصحف فاطمة، وقد جاء ذكره في أخبار أهل البيت مع تفسيره، وأنه كان من إملاء رسول اللّه على علي، قال الإمام

٥٢

الصادق: عندنا مصحف فاطمة، أما واللّه، ما فيه حرف من القرآن، ولكنه من إملاء رسول اللّه، وخط علي. قال السيد محسن الأمين في «الأعيان» قسم أول من ج ١ ص ٢٤٨: إن نفي الإمام الصادق أن يكون فيه شيء من القرآن لكون تسميته بمصحف فاطمة يوهم أنه أحد النسخ الشريفة، فنفى هذا الإيهام.

وفي كتاب الكافي أن المنصور كتب يسأل فقهاء أهل المدينة عن مسألة في الزكاة. فما أجابه عنها إلا الإمام الصادق، ولما سئل من أين أخذ هذا؟ قال: من كتاب فاطمة. إذن مصحف فاطمة كتاب مستقل وليس بقرآن. فنسبة التحريف إلى الإمامية على أساس قولهم بمصحف فاطمة جهل وافتراء.

والأولى نسبة هذا القول إلى الذين زعموا بأن لعائشة قرآنا، فيه زيادات عن هذا القرآن. قال جلال الدين السيوطي في كتاب «الإتقان» ج ٢ ص ٢٥ طبعة

حجازي بالقاهرة ما نصه بالحرف: «قالت حميدة بنت أبي يونس: قرأ أبي، وهو ابن ثمانين سنة في مصحف عائشة «إن اللّه وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً وعلى الذين يصلون الصفوف الأولى».

أرأيت كيف يتهمون غيرهم بما هم به أولى، تماماً كما فعلوا في مسألة الجفر، ومسألة الإيحاء وغيرهما..

وبالتالي، فإن غرضي من هذا الفصل، وما سبق من الفصول أن أثبت بالأرقام أنه لا شيء عند الإمامية إلا ويوجد له أصل عند السنة تفصيلاً أو إجمالاً، منطوقاً أو مفهوماً، وعليه فلا وجه لطعن أبي زهرة، ومن تقدم، أو تأخر. اللهم إلا التعصب وتأكد الأنقسام والاقتراق(١) .

____________________

(١) وقع في يدي كتاب، وأنا أحرر هذا الفصل، وكنت أبحث وأفتش في المكتبات التجارية وغيرها عن المصادر، واسم الكتاب «حركات الشيعة المتطرفين، وأثرهم في الحياة الاجتماعية والأدبية لمدن العراق إبان العصر العباسي الأول» لمحمد جابر عبد العال مدير الشؤون الاجتماعية بجامعة القاهرة، خبط فيه كاتبه خبط عشواء، وشحنه بالكذب والافتراء، شأنه في ذلك شأن أسلافه الكثيرين، ولكن كلمة حق ظهرت على فلتات قلمه، وهو يكتب مقدمة الكتاب من حيث يريد أو لا يريد، قال: «إننا نعلم أن بين أهل السنة من تعصب على الشيعة، وأمعن في ذلك إمعاناً جعله يرميهم دون تثبيت باتهامات يتبين لذي العين البصيرة أنها باطلة، أملاها التعصب والتشاحن المذهبي».

٥٣

الشّيعَة والفُرس

قال الدكتور طه حسين في كتاب «علي وبنوه»: إن خصوم الشيعة نسبوا إليهم «ما يعلمون وما لا يعلمون». وكرر ذلك في صفحات الكتاب، لشتى المناسبات. منها قوله في صفحة ١٨٧ طبعة دار المعارف بمصر:

لا يكتفي خصوم الشيعة من الشيعة بما يسمعون عنهم، أو بما يرون من سيرتهم، وإنما يضيفون إليهم أكثر مما قالوا، وأكثر مما سمعوا، ثم لا يكتفون بذلك، وإنما يحملون هذا كله على عليّ نفسه، وعلى معاصريه(١) .

وقال في صفحة ١٨٩:

وخصومهم واقفون لهم بالمرصاد يُحصون عليهم كل ما يقولون ويفعلون، ويضيقون إليهم أكثر مما قالوا، وما فعلوا، ويحملون عليهم الأعاجيب من الأقوال والأفعال، ثم يتقدم الزمان، وتكثر المقالات، ويذهب أصحاب المقالات في الجدال كل مذهب، فيزداد الأمر تعقيداً وإشكالاً، ثم تختلط الامور بعد أن يبعد عهد الناس بالأحاديث، ويتجاوز الجدال خاصة الناس إلى عامتهم، ويتجاوز الذين يحسنونه إلى الذين لا يحسنونه، ويخوض فيه الذين يعلمون والذين لا يعلمون، فيبلغ الأمر أقصى ما يمكن أن يبلغ من الإيهام والإظلام، وتصبح الأمة في فتنة عمياء لا يهتدي فيها إلى الحق إلا الأقلون.

وقال في صفحة ٩٨ و ٩٩:

«إن ابن سبا كان متكلفاً منحولاً(٢) قد اخترع بآخرة حين كان الجدال بين

____________________

(١) وسنرى في الفصل التالي أن أحمد أمين في أيامه الأخيرة نقض أقواله بحق الشيعة التي سطرها في فجر الإسلام وضحاه. وهكذا يشهد قطبان كبيران بأن الشيعة اتهموا بأشياء كذباً وافتراء.

(٢) ألف السيد مرتضى العسكري كتاباً في ابن سبا أثبت بالأرقام أنه منحول لا وجود له في الواقع.

٥٤

الشيعة و غيرهم من الفرق الإسلامية. أراد خصوم الشيعة أن يدخلوا في أصول هذا المذهب - أي مذهب الشيعة - عنصراً يهودياً إمعاناً في الكيد لهم، والتنكيل بهم. ان ابن سبا شخص ادخره خصوم الشيعة للشيعة وحدهم، ولم يدخروه للخوارج».

هذي هي الصفات التي تميز خصوم الشيعة اليوم، وقبل اليوم: جدال بدون علم ومعرفة، واختراع أشخاص لا أساس لهم ولا أصل، لغاية الكيد والتنكيل، وافتراء الأعاجيب والأكاذيب، لإشاعة الفتنة والتضليل. أدرك ذلك كله، وشهد به الدكتور طه حسين حين بحث التاريخ موضوعياً وللحقيقة وحدها، مجرداً عن الأهواء والغايات، وأعلن هذه الحقيقة بلسان واضح مبين، وقدم الشواهد والدلائل، وقد أشرنا - فيما تقدم - إلى طرف منها، ونذكر الآن لوناً آخر من الأكاذيب التي تهدف فيما تهدف إلى اخراج الشيعة من الإسلام كلية:

لقد زعم خصوم الشيعة فيما زعموا أن التشيّع دين مستقل ابتدعه الفرس كيداً للإسلام الذي أزال ملكهم، وأباد سلطانهم، فأرادوا الانتقام منه، فلم يستطيعوا، فأدخلوا عليه البدع والضلال متسترين باسم التشيع.

وفند هذا الزعم بالأدلة والأرقام السيد محسن الأمين في الجزء الأول من «أعيان الشيعة»، والشيخ محمد حسين المظفر في «تاريخ الشيعة»، وكثير من المستشرقين، منهم فلهوزن في كتاب «الخوارج والشيعة» وآدم متز في كتاب «الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري» وجولد تسهير في كتاب «العقيدة والشريعة»، وغيرهم. ويتلخص ما ذكروه من الردود، وما نضيفه إليها بما يلي:

١ - أثبتنا فيما تقدم أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هو الباعث الأول لفكرة التشيع، وأرجعنا ما تدين به الإمامية إلى نصوص الكتاب والسنة، وذكرنا عدداً وافراً من الصحابة الذين قالوا بوجود النص على علي بالخلافة.

٢ - قال السيد الأمين في القسم الأول من الجزء الأول ص ٤٩ طبعة سنة ١٩٦٠:

«إن الفرس الذين دخلوا الإسلام لم يكونوا شيعة في أول الأمر إلا القليل منهم. وجل علماء السنة وأجلاؤهم من الفرس، كالبخاري والترمذي

والنسائي وابن ماجة، والرازي والبيضاوي وفخر الدين الرازي، وصاحب القاموس والزمخشري والتفتازاني، وأبي القاسم البلخي والقفال والمروزي والشاشي والنيسابوري والبيهقي، والجرجاني والراغب الأصفهاني والخطيب التبريزي، وغيرهم ممن لا يبلغهم الإحصاء.

٥٥

ومن دخل من الفرس وتشيع فحاله حال من تشيع من سائر الأمم، كالعرب والترك والروم وغيرهم لا باعث له إلا حب الإسلام، وحب آل الرسول، فأسلم وتشيع عن رغبة واعتقاد. وإذا جاز أن يقال: إن الفرس تشيعوا كيداً للإسلام، لأنه قهرهم جاز أن يقال: إن غير الفرس تسننوا كيداً للإسلام ، لأنه غلب وقهر الجميع لا الفرس وحدهم.

والحقيقة أن بعض الفرس دان بالتشيع للسبب الذي دان به غيرهم بالتشيع، وبعضهم دان بالتسنن للسبب الذي دان به غيرهم بالتسنن، سنة اللّه في خلقه. إن الذين نشروا التشيع في قم وأطرافها الأشعريون، وهم عرب صميمون هاجروا إليها من الكوفة في عصر الحجاج، وغلبوا عليها، واستوطنوها، وانتشر التشيع في خراسان بعد خروج إليها وزاد الانتشار واتسع في إيران في عصر الصفوية الذين نصروا التشيع، وهم عرب، لأنهم سادة أشراف من نسل الإمام موسى بن جعفر، لا يمكن بحال أن يتعصبوا للأكاسرة، والذين يجوز في حقهم ذلك هم قدماء الفرس، وهؤلاء جلهم كان على مذهب التسنن».

أثبت السيد الأمين أن الذين نشروا التشيع وناصروه في إيران هم بين عربي أصيل، كالإمام الرضا والأشعريين(١) أو من أصل عربي كالصفوية، وأن الذين دعموا التسنن وناصروه هم فرس أقحاح، كالبخاري والنسائي والرازي وغيرهم. فإن كان للفرس مقاصد وأهداف ضد الإسلام، كما زعم خصوم الشيعة فأولى ثم أولى أن يحاولوا تحقيق غاياتهم عن طريق التسنن لا التشيع، إذ

______________________

(١) في سنة ٨٣ هجري خرج ابن الأشعث على الحجاج، ثم هزم جيشه وتفرق في البلاد، وكان بينهم خمسة إخوة: عبد اللّه والأحوص وعبد الرحمن وإسحق ونعيم أبناء سعد بن مالك بن عامر الأشعري، فاجتمع الخمسة وتغلبوا على بعض القرى القريبة من قم، واجتمع إليهم بنو عمهم، وكان المتقدم من هؤلاء عبد اللّه وكان له ولد يتشيع، فانتقل من تلك القرى إلى قم، ونقل التشيع إلى أهلها (الكنى والألقاب) ترجمة القمي.

٥٦

المفروض أن سبب التشيع في إيران يرجع إلى عنصر عربي، والتسنن إلى عنصر فارسي صرف. ولكن خصوم الشيعة موهوا وضللوا، وعكسوا الآية، لا لشيء إلا للكيد والتنكيل، كما قال الدكتور طه حسين. وهكذا فعلوا في مسألة الجفر وعلم الغيب.

وقال الشيخ محمد حسين المظفر في «تاريخ الشيعة» ص ٨ المطبعة الزهراء بالنجف:

«كان للإمام ثلاثة حروب: الجمل، وصفين والنهروان. وكان جيشه كله عرباً أقحاحاً بين عدنانية وقحطانية. أكانت قريش من الفرس أم الأوس والخزرج، أم مذحج، أم همدان، أم طي، أم كندة، أم تميم، أم مضر، أم أشباهها من القبائل؟ وهل كان زعماء جيشه غير رؤساء هذه القبائل؟ أكان عمار فارسياً، أم هاشم المرقال، أم مالك الأشتر، أم صعصعة بن صوحان، أم أخوه زيد، أم قيس بن سعد، أم ابن عباس، أم محمد بن أبي بكر، أم حجر بن عدي بن حاتم، وأمثال هؤلاء من القواد؟».

أما أصحاب الحسن والحسين فكلهم عرب، وجلهم من أصحاب أبيهما أمير المؤمنين.

وقال المستشرق فلهوزن في كتاب «الخوارج والشيعة» ص ٢٤١ طبعة سنة ١٩٥٨ يرد على المستشرق دوزي الذي زعم أن التشيع كمذهب ديني إيراني الأصل:

«أما أن آراء الشيعة كانت تلائم الإيرانيين فهذا أمر لا سبيل إلى الشك فيه، أما كون هذه الآراء قد انبعثت من الإيرانيين فليست تلك الملاءمة دليلاً عليه، بل الروايات التاريخية تقول بعكس ذلك، إذ تقول: إن التشيع الواضح الصريح كان قائماً أولاً في الدوائر العربية، ثم انتقل بعد ذلك منها إلى الموالي». وقال في ص ١٤٨: «كان جميع سكان العراق في عهد معاوية خصوصاً أهل الكوفة شيعة، ولم يقتصر هذا على الأفراد، بل شمل القبائل ورؤساء القبائل.

وهذا يعزز ما قاله السيد الأمين في الأعيان من أن التشيع في إيران جاء من أصل عربي لا من أصل فارسي».

وقال المستشرق آدم متز في كتاب «الحضارة الإسلامية» ص ١٠٢ وما بعدها

طبعة سنة ١٩٥٧ ما ملخصه:

«إن مذهب الشيعة ليس كما يعتقد البعض رد فعل من جانب الروح الإيرانية، يخالف الإسلام. فقد كانت جزيرة العرب شيعة كلها عدا المدن الكبرى، مثل مكة وتهامة وصنعاء، وكان للشيعة غلبة في بعض المدن أيضاً، مثل عمان وهجر وصعدة. أما إيران فكانت كلها سنة ما عدا

٥٧

«قم» وكان أهل أصفهان يغالون في معاوية، حتى اعتقد بعض أهلها أنه نبي مرسل، كما نقل المقدسي».

وإذا كان الفرس هم سبب التشيع في إيران وغير إيران، فهل جاء غلو بعض أهالي أصفهان في معاوية، ورفعه إلى منصب النبوة والرسالة، هل جاء هذا الغلو في معاوية نتيجة لتشيع الفرس؟ إنه لغريب حقاً منطق خصوم الشيعة، كما قال الدكتور طه حسين. قالوا: إن الغلو في علي جاء من الفرس. ثم ينقل عالم من علمائهم مثل المقدسي أن بعض الفرس غالى في معاوية، حتى جعلوه نبياً مرسلاً. ثم كيف ومن أين وصل التشيع إلى جزيرة العرب؟ هل جاء إليها من الفرس، والتاريخ يقول: إن الفرس كانوا على التسنن حين كان سكان الجزيرة العربية على التشيع؟ وهكذا يقع في التناقضات من يضفي على التاريخ صفته الذاتية العدائية، ثم يبني عليه آراءه وأحكامه.

وقال المستشرق جولد تسهير في كتاب «العقيدة والشريعة» ص ٢٠٤ طبعة ١٩٤٦:

«إن من الخطأ القول بأن التشيع في منشئه، ومراحل نموه يمثل الأثر التعديلي الذي أحدثته أفكار الأمم الإيرانية في الإسلام، بعد أن اعتنقته، أو خضعت لسلطانه عن طريق الفتح والدعاية، وهذا الوهم الشائع مبني على سوء فهم الحوادث التاريخية. فالحركة العلوية نشأت في أرض عربية بحتة(١) » وما هؤلاء

________________

(١) إن علماء المسلمين العرب هم الذين أدخلوا التشيع إلى فارس، وأرشدوا الفرس إليه. بشهادة الشيخ أبي زهرة، قال في كتاب «الإمام جعفر الصادق» ص ٩٤٥: «أما فارس وخراسان، وما وراءهما من بلدان الإسلام فقد هاجر إليها كثيرون من علماء الإسلام الذين كانوا يتشيعون فراراً بعقيدتهم من الأمويين أولاً، ثم العباسيين ثانياً، وإن التشيع كان منتشراً في هذه البلاد انتشاراً عظيماً، قبل سقوط الدولة الأموية بفرار أتباع زيد ومن قبله إليها». فالفرس - إذن - تشيعوا على أيدي العرب، ولم يخلقوا التشيع من تلقائهم كيداً للإسلام.

٥٨

المستشرقون الثلاثة كل من نطق بهذه الحقيقة. فهناك كثيرون غيرهم قالوا هذا القول، دون أن يقصدوا الذب والدفاع عن الشيعة، وعقيدة التشيع، وإنما هدفهم الأول بيان الحقيقة، وتصحيح المفاهيم الخاطئة. وكنا في غنى عن الاستشهاد بأقوالهم، لو تحرر خصوم الشيعة عن التعصب الأعمى، ونزوات الأهواء والأغراض.

هذا، إلى أن السنة قد أخذوا بعض العادات من غيرهم، كعيد رأس السنة الهجرية الذي أحدثوه في زماننا، وعيد المولد النبوي الشريف تقليداً للمسيحيين الذين يحتفلون بميلاد السيد المسيح، ورأس السنة الميلادية. وكان علماء السنة، في القرن الثامن الهجري يعدون الاحتفال بالمولد النبوي مخالفاً للسنة، لأنه لا عيد في الإسلام إلا عيد الأضحى وعيد رمضان، وصدرت فتاوى من شيوخهم بتحريمه، على اعتبار أنه بدعة وضلالة(١) . ولو أردنا أن نتعصب لقلنا: إن مذهب التسنن مأخوذ من المسيحيين، لا من الكتاب والسنة.

وبالتالي، فإن الذي اجتذب الفرس وغير الفرس إلى التشيع هو الإسلام الصحيح، وحب الرسول وآله، واستشهاد الأخيار في سبيله، وملاءمته للحياة، ومناصرته للضعفاء والمضطهدين، أجل، كان الفرس منذ عهد الصفويين، حتى اليوم من أقوى الدعائم للشيعة، ومذهب التشيع، وهذا هو السر الذي بعث خصوم الشيعة على أن يصوروا الفرس، وكأنهم أعدى أعداء الإسلام، مع العلم بأنه لولا الفرس لم يكن للمسلمين هذا العدد الضخم من العلماء الذين نفاخر بهم أمم الشرق والغرب، ولا كان للإسلام هذه المكتبة المتخمة بألوف المجلدات في شتى العلوم، ولسنا نعرف أمة خدمت الإسلام، ولغة القرآن كالفرس، ولو أحصيت المكتبة الإسلامية والعربية لكان سهم الفرس منها أوفى من أسهم بقية المسلمين مجتمعين. إن الفرس لم يتستروا باسم التشيع، ليكيدوا للإسلام، بل إن أعداء الإسلام تستروا باسمه، ليكيدوا للتشيع بعامة، والفرس بخاصة، لأنهم كانوا وما زالوا من أقوى أركان الإسلام وأنصاره.

وهل من شيء أدل على عداوة هؤلاء للحق والإسلام من تشنيعهم على الشيعة،

______________________

(١) نقله بعض المؤلفين عن كتاب «بيت الصديق» للبكري ص ٤٠٤ طبعة ١٣٢٣ هجري.

٥٩

وسكوتهم عن الخوارج الذين قال عنهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنهم يمرقون من الإسلام، كما يمرق السهم من الرمية. بل إن الشاطبي أوصى بالستر عليهم، وعدم التعرض لهم، مع اعترافه بمروقهم من الدين. قال في كتاب «الموافقات» ج ٤ ص ١٧٨ وما بعدها مطبعة الرحمانية بمصر ما ملخصه:

«قال النبي: إن من ضئضئي هذا - يعني ذا الخويصرة - قوماً يقرأون القرآن لا يتجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام، كما يمرق السهم من الرمية. وقد بين النبي بهذا الحديث من مذهبهم في معاندة الشريعة أمرين: أحدهما: اتباع القرآن على غير تدبر، ولا نظر في مقاصده ومعاقده. ثانيهما: قتل أهل الإسلام، وترك أهل الأوثان.

وذكر الناس من آرائهم غير ذلك، كتكفيرهم لأكثر الصحابة وغيرهم، ومنه سرى قتلهم لأهل الإسلام، وأن الفاعل للفعل إذا لم يعلم بأنه حلال، أو حرام فليس بمؤمن. وأن الإمام إذا كفر كفرت رعيته كلهم شاهدهم وغائبهم، وأن التقية لا تجوز في قول ولا فعل على الإطلاق والعموم، والقاذف للرجال لا يحد. وأن اللّه سيبعث نبياً من العجم بكتاب ينزله اللّه عليه جملة واحدة، ويترك شريعة محمد. وإنكارهم سورة يوسف من القرآن، وأشباه ذلك، وكلها مخالفات شرعية.

ولكن الغالب في هذه الفرق أن يشار إلى أوصافهم ليحذر منها، ويبقى الأمر في تعيينهم مرجى. ولعل عدم تعيينهم هو الأولى الذي ينبغي أن يلتزم، ليكون ستراً على الأمة. وقد أمرنا بالستر على المذنبين». وإذا أمرنا بالستر على من خرج من الإسلام، فهل يجب التقبيح والتشنيع على من هم من الإسلام في الصميم؟! وغريب أن يقول عالم كالشاطبي: إن النبي أخرج الخوارج من الإسلام، ثم يزعم أن أمرهم مرجى إلى اللّه، ويوصي بالستر عليهم، والسكوت عنهم. أليس معنى هذا قال النبي، وأقول؟!

أحمَد أمين يعَترف في أيَّامه الأخِيرة

هاجم أحمد أمين في كتاب «فجر الإسلام» وضحاه الإمامية هجوماً عنيفاً، ورد عليه يومذاك علماؤهم رداً منطقياً، وأثبتوا بشهادة التاريخ وكتبهم العقائدية أنه أحل العاطفة محل العقل، والتعصب محل العدل، والخيال محل الواقع. ومن الذين تصدوا للرد عليه المرحوم كاشف الغطاء في كتاب «أصل الشيعة وأصولها».

وبعد مضي عشرين عاماً، أو أكثر على مهاجمته تلك أصيب بنظره، وعجز عن القراءة والكتابة، وفي أيامه الأخيرة - سنة ١٩٥٢ - استعان بغيره، وأملى عليه كتاباً أسماه «يوم الإسلام» اعترف فيه من حيث لا يحس ولا يشعر بما كان قد أنكره على الإمامية، من ذلك:

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

وعن علي بن جعفر قال : عرضت مؤامرتي على المتوكل فأقبل عليّ عبيد الله بن يحيى فقال : لا تتعبن نفسك ، فإنّ عمر بن أبي الفرج أخبرني أنّه رافضي فإنّه وكيل علي بن محمد ، فأرسل عبيد الله إليّ فعرفني أنّه قد حلف ألا يخرجني من الحبس إلاّ بعد موتي بثلاثة أيام .

قال فكتب إلى أبي الحسن : إنّ نفسي قد ضاقت وقد خفت الزيغ ، فوقّع إلي :أمّا إذا بلغ الأمر منك ما قلت فينا ، فسأقصد الله تبارك وتعالى فيك فما انقضت أيام الجمعة حتى خرجت من الحبس(١) .

ويمكن تلخيص المنهج العام للتربية وبناء الذات عند الإمام الهاديعليه‌السلام بما يلي :

١ ـ التوجيه التربوي من خلال الأحاديث التربوية التي تقدّم للإنسان أهمّ المفاهيم التربوية(٢) .

٢ ـ التأكيد على طاعة الله تعالى .

٣ ـ التأكيد على أهمّية التوجّه إلى الله في الحوائج وعدم طلب الحوائج من غيره(٣) .

٤ ـ أهمّية الدعاء والالتزام به في بلورة روح التوحيد والتوكّل على الله .

٥ ـ الدعاء للمؤمنين .

٦ ـ السعي في قضاء حوائجهم .

٧ ـ الربط العاطفي بالقدوة الصالحة المتمثّلة في أهل البيتعليهم‌السلام من خلال زياراتهم ودراسة سيرتهم .

ــــــــــــــ

(١) راجع مسند الإمام الهاديعليه‌السلام : ١١٢ و ١٢١ .

(٢) راجع تراثه التربوي والأخلاقي في الفصل الأخير من الباب الرابع .

(٣) راجع تحف العقول : ٣٦١ ، وكشف الغمّة : ٣/١٧٦ .

١٦١

وأمّا دعاؤه للمؤمنين وسعيه في قضاء حوائجهم فيشهد له ما يلي :

١ ـ ما مرّ من أنّ الإمامعليه‌السلام أجاب على كتاب عمر بن أبي الفرج إليه بأنّ نفسي قد ضاقت وقد خفت الزيغ فوقّع الإمامعليه‌السلام إليه :أمّا إذا بلغ الأمر منك ما قلت فينا فسأقصد الله تبارك وتعالى فيك فما انقضت أيام حتى خرج من الحبس(١) .

٢ ـ روى المجلسي عن الخرائج : روى عن محمد بن الفرج أنّه قال : إنّ أبا الحسن كتب إليّ :اجمع أمرك ، وخذ حذرك ، قال : فأنا في جمع أمري لست أدري ما الذي أراد فيما كتب به إليّ حتى ورد عليّ رسول حملني من مصر مقيّداً مصفّداً بالحديد ، وضرب على كلّ ما أملك .

فمكثت في السجن ثماني سنين ثم ورد عليّ كتاب من أبي الحسنعليه‌السلام وأنا في السجن( لا تنزل في ناحية الجانب الغربيّ ) فقرأت الكتاب فقلت في نفسي : يكتب إليّ أبو الحسنعليه‌السلام بهذا وأنا في الحبس إنّ هذا لعجيب ! فما مكثت إلاّ أياماً يسيرة حتى أُفرج عنّي ، وحُلّت قيودي وخُلّي سبيلي .

ولمّا رجع إلى العراق لم يقف ببغداد لما أمره أبو الحسنعليه‌السلام وخرج إلى سرّ مَن رأى .

قال : فكتبت إليه بعد خروجي أسأله أن يسأل الله ليردّ عليّ ضياعي فكتب إليّ سوف يردّ عليك ، وما يضرّك أن لا تردّ عليك .

قال علي بن محمد النوفلي : فلمّا شخص محمد بن الفرج إلى العسكر كتب له بردّ ضياعه ، فلم يصل الكتاب إليه حتى مات(٢) .

وقضاء حوائج المؤمنين بالإضافة إلى دوره التربوي يُعدّ خطوة من خطوات التحصين الاقتصادي لهم ، حيث يشكّل عاملاً من عوامل استقلالهم وعدم اضطرارهم للخضوع إلى كثير ممّا يستذلّ به الحكّام رعيّتهم .

ــــــــــــــ

(١) مسند الإمام الرضاعليه‌السلام : ١٢١ .

(٢) بحار الأنوار : ٥٠/١٤٠ .

١٦٢

التحصين الأمني

لقد مارس الإمام الهاديعليه‌السلام وظيفته بصفته الإمام والقائد لمواليه والراعي لمصالحهم بالرغم من الظروف الصعبة التي كانت تمرّ بالإمامعليه‌السلام وبشيعته من تتبّع السلطة لهم ومطاردتهم ، وفرض الإقامة الجبرية على الإمام بعد إشخاصه من المدينة إلى سامراء ليكون قريباً من السلطان وتحت رقابته ، وتتجلّى لنا مواقف الإمامعليه‌السلام في هذا الاتجاه في المحافظة التامّة على شيعته ورعاية مصالحهم الخاصّة والعامّة وقضاء حوائجهم وتحذيرهم ممّا تحوكه السلطة ضدّهم ، وما يجب أن يتخذوه من حيطة وكتمان لنشاطهم واتصالاتهم حتى لا يقعوا في حبائل السلطة الغاشمة التي كانت تتربّص بهم وبالإمامعليه‌السلام الدوائر .

إنّ وصايا الإمامعليه‌السلام لأتباعه تظهر مدى اهتمامه بما يجري في الساحة أوّلاً ، ومدى قربه من الأحداث العامة والخاصة ثانياً وكانت أوامره تصل الجماعة الصالحة بشكل دقيق وسريع ، بل قد تكون سابقة للأحداث في بعض الأحيان ؛ لتتمكّن تلك الجماعة من تجاوز ما يحاك ضدّها كما أنّ إجراءات الإمام وأساليبه كانت مظهراً لعمل حركي وتنظيمي وعلى درجة عالية من الدقّة والتخطيط ، وهذا ما تكشفه لنا خطابات الإمام عليه‌السلام إلى شيعته والتي كانت تحمل بين طيّاتها أدوات ووسائل مختلفة ومتعدّدة لمواجهة الظروف التي تحيط بها وإليك بعض أساليبه ووسائله وتعليماته الخاصّة بهذا الصدد :

أ ـ الحذر من تدوين الأُمور

كان الإمامعليه‌السلام يحذّر أصحابه من تدوين وكتابة بعض الأمور ، وخصوصاً ما كان يتعلّق بعلاقات ووضع الجماعة الصالحة ومواقفها ، فعن داود الصرمي قال : أمرني سيدي بحوائج كثيرة فقالعليه‌السلام لي :قل كيف تقول ؟ فلم أحفظ مثل ما قال لي ، فمدّ الدواة وكتب :( بسم الله الرحمن الرحيم اذكره إن شاء الله والأمر بيد الله ) ، فتبسّمت ، فقالعليه‌السلام :ما لك ؟ قلت : خير ، فقال :اخبرني ؟ قلت جُعلت فداك ذكرت

١٦٣

حديثاً حدثني به رجل من أصحابنا عن جدّك الرضاعليه‌السلام إذا أمر بحاجة كتب بسم الله الرحمن الرحيم ، اذكر إن شاء الله فتبسّمت ، فقالعليه‌السلام لي :يا داود ولو قلت : إنّ تارك التقيّة كتارك الصلاة لكنت صادقاً (١) .

فالإمامعليه‌السلام هنا يربط الكتمان والحذر بمفهوم إسلامي وهو ( التقيّة ) والتي وردت بها أحاديث وآيات كريمة كقوله تعالى :( إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) وكذا قوله تعالى :( إلاّ مَن أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) ، وهي الآية التي نزلت في قضيّة عمار بن ياسررضي‌الله‌عنه حيث عذّبه المشركون في مكة لكي ينال من الرسول ويتركوه ، ثم جاء إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له :إن عادوا فعد فلم تكن أوامر الإمامعليه‌السلام بهذا الصدد فقط خشية من انكشافها ، بل إنّه طرحها تأكيداً لهذا المفهوم الذي عُرفت به الشيعة منذ نشوئها امتثالاً لوصايا الأئمةعليهم‌السلام والقرآن الكريم .

ــــــــــــــ

(١) مسند الإمام الهاديعليه‌السلام : ٣٠١ .

١٦٤

ب ـ تغيير الأسماء

كان الإمام عليه‌السلام يذكر في توقيعاته إلى بعض أصحابه وينسبهم إلى عبيد بن زرارة وكانوا قد عُرفوا ببني الجهم وهم من أكابر بيوت الشيعة وأصحاب الأئمة عليهم‌السلام ، فعن الزراري ( أحدهم ) قال : إنّ ذلك تورية وستراً من قِبل الإمام عليه‌السلام ثم اتسع ذلك وسمّينا به ، وكان عليه‌السلام يكاتبه في أمور له بالكوفة وبغداد (١) .

ج ـ التحذير من الحديث في الأماكن العامّة

كان الإمامعليه‌السلام يمنع بعض أصحابه من الحديث والمساءلة في الطريق وغيره من الأماكن التي يكون فيها عيون للسلطان .

فعن محمد بن شرف قال : كنت مع أبي الحسنعليه‌السلام أمشي في المدينة فقال لي : ألست ابن شرف ؟ قلت بلى ، فأردت أن أسأله عن مسألة فابتدأني من غير أن أسأله فقال : ( نحن على قارعة الطريق وليس هذا موضع مسألة ) .

د ـ النفوذ في جهاز السلطة

لقد استولى بنو العباس على السلطة وتولّوا أمر الأمة بالقهر والغلبة بعد سقوط الدولة الأموية سنة (١٣٢ هـ) ، وعاثوا في الأرض الفساد حيث استشرى أمرهم فكان القتل والتشريد وابتزاز الأموال على قدمٍ وساق ، ولم تكن حكومتهم ذات شرعية إسلامية ، ومن هنا كان العمل معهم غير مشروع ، وقد كتب محمد بن علي بن عيسى ـ أحد أصحاب الإمامعليه‌السلام ـ إلى الإمام الهاديعليه‌السلام يسأله عن العمل لبني العباس وأخذ ما يتمكّن من أموالهم ، هل فيه رخصة ؟ فقالعليه‌السلام :( ما كان المدخل فيه بالجبر والقهر فالله قابل به العذر ، وما خلا ذلك فمكروه ، ولا محالة قليله خير من كثيره ، وما يكفر به ما يلزمه فيه من يرزقه ويسبّب على يديه ما يسرك فينا وفي موالينا ) .

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الكوفة : ٣٩٣ .

١٦٥

ولمّا وافى كتاب الإمامعليه‌السلام إلى محمد بن علي بن عيسى بادر فكتب للإمامعليه‌السلام : ( إنّ مذهبي في الدخول في أمرهم وجود السبيل إلى إدخال المكروه على عدوّه وانبساط اليد في التشفّي منهم بشيء أتقرّب به إليهم ، فأجاب الإمامعليه‌السلام مَن فعل ذلك فليس مدخله في العمل حراماً بل أجراً وثواباً )(١) .

لقد وضع الإمامعليه‌السلام في النصّين أعلاه ضوابط العمل مع السلطان الجائر التي تتلخّص في توفير وسيلة لإضعاف الظالمين ، أو تحقيق خدمة لمواليه المظلومين .

نظام الوكلاء

بعد أن أكّد الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام على دورهم القيادي الديني في أوساط الجماعة الصالحة وأوضحوا أهمّيّة الولاء لهم ، وأخذت تتسع الرقعة الجغرافية لأتباع أهل البيتعليهم‌السلام ، واحتاجوا إلى مَن يلبّي حاجاتهم الدينية ويكون حلقة وصل بينهم وبين أئمتهمعليهم‌السلام بادر الأئمةعليهم‌السلام إلى تعيين الوكلاء المعتمدين لهم في مختلف المناطق وأرجعوا إليهم أتباعهم .

ــــــــــــــ

(١) مستطرفات السرائر : ٦٨ ح ١٤ وعنه في وسائل الشيعة ١٧ : ١٩ ح ٩ ب ٤٥ ، وسائل الشيعة : ١٢ / ١٣٧ .

١٦٦

والمهامّ التي تولاّها الوكلاء لهم تمثّلت في بيان الأحكام الشرعية والمواقف السياسية والاجتماعية ، وتوجيه النصائح الأخلاقية والتربوية ، واستلام الحقوق الشرعية وتوزيعها ، وفصل النزاعات وتولّي الأوقاف وأمور القاصرين الذين لا وليّ لهم .

وتعتبر الوثاقة أو العدالة شرطاً أساسياً في الوكيل فضلاً عن إيمانه ومعرفته بأحكام الشريعة وشؤونها ، ولباقته السياسية وقدرته على حفظ أسرار الإمام وأتباعه من الحكّام وعيونهم .

والوكلاء منهم مَن يرتبط بالإمامعليه‌السلام بشكل مباشر ، ومنهم مَن يرتبط به بواسطة وكيل آخر يعتبر محوراً لمجموعة من الوكلاء في مناطق متقاربة .

ويعود تاريخ تأسيس هذا النظام إلى عصر الإمام الصادقعليه‌السلام أو مَن سبقه من الأئمةعليهم‌السلام غير أنّه قد اتّسع نطاقه وبدأ يتكامل بعد عصر الإمام الصادقعليه‌السلام نظراً للتطوّرات السياسية والمشاكل الأمنية التي أخذت تحيط بالجماعة الصالحة وتهدّد وجودهم وكيانهم .

ومنذ عصر الإمام الجوادعليه‌السلام وحتى ابتداء الغيبة الصغرى كان لهذا النظام دور فاعل وكبير جداً في حفظ كيان الجماعة الصالحة ووقايته من التفتّت والانهيار .

وبفضل هذا النظام والعناصر الفاعلة فيه أصبح الانتقال إلى عصر غيبة الإمام المهديعليه‌السلام ميسوراً ، وقلّت المخاطر الناشئة من ظاهرة الغيبة للإمام المعصوم إلى حدّ كان نظام الوكلاء بكل خصائصه قد تطوّر إلى نظام النيابة الخاصّة في عصر الغيبة الصغرى ؛ فكان السفير هو النائب الخاص الذي يقوم بدور الإمام الموجّه لمجموعة الوكلاء وهو الذي يقوم بدور الوساطة بين الإمام والوكلاء وبين الإمام وأتباع الإمام عبر هؤلاء الوكلاء .

١٦٧

أمّا مناطق النفوذ ومناطق تواجد الوكلاء ، ففي الحجاز كانت المدينة ومكة واليمن ، وفي العراق ، كانت الكوفة وبغداد وسامراء وواسط والبصرة وفي إيران كانت خراسان الكبرى ، بما فيها نيسابور وبيهق وسبزوار وبخارا وسمرقند وهرات ، وقم وآوه والري وقزوين وهمدان وآذربايجان وقرميسين والأهواز وسيستان وبست وفي شمال أفريقيا كانت مصر أيضاً من مناطق تواجد أتباع أهل البيتعليهم‌السلام التي استقرّ فيها وكلاؤهم وقاموا بدور همزة الوصل المهمّة وحقّقوا بذلك جملة من مهامّ الأئمةعليهم‌السلام .

وكلاء الإمام الهاديعليه‌السلام

قد وقفنا على أسماء جملة من وكلاء الإمام الهاديعليه‌السلام في مختلف المناطق وهم:

١ ـ إبراهيم بن محمد الهمداني .

٢ ـ أبو علي ابن راشد .

٣ ـ أحمد بن إسحاق الرازي .

٤ ـ علي بن جعفر الوكيل .

٥ ـ محمد بن إبراهيم بن مهزيار .

٦ ـ الحسين بن عبد ربّه .

٧ ـ أبو علي بن بلال .

٨ ـ أيوب بن نوح .

٩ ـ جعفر بن سهيل الصيقل .

١٠ ـ علي بن مهزيار الأهوازي .

١١ ـ فارس بن حاتم .

١٢ ـ علي بن الحسين بن عبد ربّه

١٣ ـ عثمان بن سعيد العمري .

١٦٨

وقد انحرف بعضهم عن الطريق الذي رُسم له ، وكان الأئمةعليهم‌السلام يوضحون الأمر عند انحراف بعض الوكلاء عن الطريق المقرر لهم حينما كانت تغريهم الأموال التي يحصلون عليها فيستغلون منصب الوكالة لأغراض دنيوية مادية ولا يسمحون لهم بإغراء الناس واستغلالهم .

إنّ جهاز الوكلاء الذي عرفنا مهامّه يعتبر أحد عوامل التحصين الأمني للجماعة الصالحة في عصر الإمام بالنسبة للإمام وبالنسبة لأتباعه أيضاً .

وسوى هذه المهمّة الكبيرة يساهم نظام الوكلاء في التحصين الاقتصادي والقضائي والسياسي للجماعة الصالحة فهو جهاز حسّاس ومهمّ للغاية ، وهذا هو السبب في اهتمام الأئمةعليهم‌السلام به وسعيهم المتواصل لتطويره والسهر على صيانته من عوامل الضعف والانهدام .

وسوف نرى ضرورة تكوين هذا الجهاز من حيث إنّه خير وسيلة لإعداد الجماعة الصالحة للدخول في عصر الغيبة والحيلولة دون تأثير صدمة الغيبة والانقطاع عن الإمام المعصومعليه‌السلام على أتباع أهل البيت عليهم‌السلام الذين ألفوا رؤية الإمام واللقاء به خلال قرنين ونصف قرن من الزمن .

التحصين الاقتصادي

عرفنا ـ ممّا ذكر ـ أنّ التحصين الاقتصادي هو أحد الأهداف المنظورة في تخطيط أهل البيتعليهم‌السلام للجماعة الصالحة التي أرادوا لها أن تستقلّ في كيانها ، وتبتعد عن عوامل الضعف والانهيار التي تفرضها الظروف السياسية أو الاقتصادية العامّة .

ولنظام الوكلاء دور مهم في هذا التحصين ، كما أنّ الإمامعليه‌السلام بنفسه كان يباشر قضاء حوائجهم المادية في جملة من الأحيان .

١٦٩

دخل أبو عمرو عثمان بن سعيد وأحمد بن إسحاق الأشعري وعليّ بن جعفر الهمداني على أبي الحسن العسكريّ فشكا إليه أحمد بن إسحاق ديناً عليه ، فقال : يا أبا عمر ـ وكان وكيله ـ ادفع إليه ثلاثين ألف دينار وإلى عليّ بن جعفر ثلاثين ألف دينار وخذ أنت ثلاثين ألف دينار(١) .

وعن أبي هاشم قال : شكوت إليه قصور يدي فأهوى بيده إلى رمل كان عليه جالساً فناولني منه كفّاً وقال : اتّسع بهذا فقلت لصايغ : اسبك هذا فسبكه وقال : ما رأيت ذهباً أشدّ حمرة منه(٢) .

وعن عبد الله بن عبد الرحمان الصّالحي أنّه شكا أبو هاشم إلى أبي الحسنعليه‌السلام ما لقي من السوق إليه إذا انحدر من عنده إلى بغداد وقال : يا سيّدي ادع الله لي فمالي مركوب سوى برذوني هذا على ضعفه قال : قوّاك الله يا أبا هاشم وقوى برذونك قال : وكان أبو هاشم يصلّي الفجر ببغداد والظهر بسُرّ مَن رأى والمغرب ببغداد إذا شاء(٣) .

وبهذا نختم الكلام عن الخطوط العامّة لدور الإمامعليه‌السلام في إكمال بناء الجماعة الصالحة وتحصينها وإعدادها للدخول إلى عصر الغيبة الذي سوف تقترب منه بسرعة .

ــــــــــــــ

(١) المناقب : ٢/٤٨٨ .

(٢) المناقب : ٢/٤٨٨ .

(٣) المناقب : ٢/٤٤٨ .

١٧٠

الفصل الثالث : الإمام الهاديعليه‌السلام في ذمّة الخلود

استشهاد الإمام الهاديعليه‌السلام

ظلّ الإمام الهاديعليه‌السلام يعاني من ظلم الحكّام وجورهم حتّى دُسّ إليه السمّ كما حدث لآبائه الطّاهرين ، وقد قال الإمام الحسنعليه‌السلام :ما منّا إلاّ مقتول أو مسموم (١) .

قال الطبرسي وابن الصباغ المالكي : في آخر ملكه ( أي المعتز ) ، استشهد وليّ الله علي بن محمدعليهما‌السلام (٢) .

وقال ابن بابويه : وسمّه المعتمد(٣) .

وقال المسعودي : وقيل إنّه مات مسموماً(٤) ; ويؤيد ذلك ما جاء في الدّعاء الوارد في شهر رمضان : وضاعف العذاب على مَن شرك في دمه(٥) .

وقال سراج الدين الرفاعي في صحاح الأخبار : ( وتوفّي شهيداً بالسمّ في خلافة المعتز العباسي ) .

وقال محمد عبد الغفار الحنفي في كتابه أئمة الهدى : ( فلمّا ذاعت

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٢٧/٢١٦ ، ح ١٨ .

(٢) إعلام الورى : ٣٣٩ ـ الفصول المهمّة : ٢٨٣ .

(٣) بحار الأنوار : ٥٠/٢٠٦ ، ح ١٨ ، المناقب : ٤/٤٠١ .

(٤) مروج الذهب : ٤/١٩٥ .

(٥) بحار الأنوار : ٥٠/٢٠٦ ح ١٩ .

١٧١

شهرتهعليه‌السلام استدعاه الملك المتوكل من المدينة المنوّرة حيث خاف على ملكه وزوال دولته وأخيراً دسّ إليه السمّ )(١) .

والصحيح أنّ المعتز هو الذي دسّ إليه السمّ وقتله به .

ويظهر أنّه اعتلّ من أثر السمّ الذي سُقي كما جاء فى رواية محمّد بن الفرج عن أبي دعامة ، حيث قال : أتيت عليّ بن محمدعليه‌السلام عائداً في علّته التي كانت وفاته منها ، فلمّا هممت بالانصراف قال لي :يا أبا دعامة قد وجب عليّ حقّك ، ألا أُحدّثك بحديث تسرّ به ؟ قال : فقلت له : ما أحوجني الى ذلك يا ابن رسول الله .

قال :حدّثني أبي محمد بن عليّ ، قال : حدثّني أبي عليّ بن موسى ، قال : حدثّني أبي موسى بن جعفر ، قال : حدّثني أبي جعفر بن محمّد ، قال : حدّثني أبي محمّد بن عليّ ، قال : حدّثني أبي عليّ بن الحسين ، قال : حدّثني أبي الحسين بن عليّ ، قال : حدّثني أبي علي ابن أبي طالب عليهم‌السلام ، قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عليّ اكتب : فقلت : وما أكتب ؟ فقال : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم الإيمان ما وقّرته القلوب وصدّقته الأعمال ، و الإسلام ما جرى على اللّسان ، وحلّت به المناكحة .

قال أبو دعامة : فقلت : يا ابن رسول الله ، والله ما أدري أيّهما أحسن ؟ الحديث أم الإسناد ! فقال :إنّها لصحيفة بخطّ علي بن أبي طالب عليه‌السلام وإملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نتوارثها صاغراً عن كابر (٢) .

قال المسعودي : واعتلّ أبو الحسنعليه‌السلام علّته التي مضى فيها فأحضر أبا محمّد ابنهعليه‌السلام فسلّم إليه النّور والحكمة ومواريث الأنبياء والسّلاح(٣) .

ونصّ عليه وأوصى إليه بمشهد من ثقات أصحابه ومضىعليه‌السلام وله أربعون سنة (٤) .

ــــــــــــــ

(١) راجع : الإمام الهادي من المهد إلى اللحد : ٥٠٩ ـ ٥١٠ .

(٢) بحار الأنوار : ٥٠/٢٠٨ ، مروج الذهب : ٤/١٩٤ .

(٣) إثبات الوصيّة : ٢٥٧ .

(٤) بحار الأنوار : ٥٠/٢١٠ .

١٧٢

تجهيزه وحضور الخاصّة والعامّة لتشييعه

ولمّا قضى نحبه تولّى تغسيله وتكفينه والصلاة عليه ولده الإمام أبو محمّد الحسن العسكريعليه‌السلام ؛ وذلك لأنّ الإمام لا يتولّى أمره إلاّ الإمام .

وما انتشر خبر رحيله إلى الرفيق الأعلى حتّى هرعت الجماهير من العامّة والخاصّة إلى دار الإمامعليه‌السلام وخيّم على سامراء جو من الحزن والحداد .

قال المسعودي : وحدّثنا جماعة كل واحد منهم يحكي أنّه دخل الدار وقد اجتمع فيها جملة بني هاشم من الطالبيين والعبّاسيين ( والقوّاد وغيرهم ) ، واجتمع خلق من الشّيعة ، ولم يكن ظهر عندهم أمر أبي محمدعليه‌السلام ولا عرف خبرهم ، إلاّ الثّقاه الذين نصّ أبو الحسنعليه‌السلام (عندهم) عليه ، فحكوا أنّهم كانوا في مصيبة وحيرة ، فهم في ذلك إذ خرج من الدار الداخلة خادم فصاح بخادم آخر يا رياش خذ هذه الرقعة وامض بها إلى دار أمير المؤمنين وادفعها إلى فلان ، وقل له : هذه رقعة الحسن بن علي فاستشرف النّاس لذلك ثم فتح من صدر الرّواق باب وخرج خادم أسود ، ثم خرج بعده أبو محمدعليه‌السلام حاسراً مكشوف الرأس مشقوق الثياب وعليه مبطنة ( ملحمة ) بيضاء .

وكانعليه‌السلام وجهه وجه أبيه عليه‌السلام لا يخطئ منه شيئاً ، وكان في الدّار أولاد المتوكّل وبعضهم ولاة العهود ، فلم يبق أحد إلاّ قام على رجله ووثب إليه أبو أحمد [ محمّد ] الموفّق ، فقصده أبو محمّد عليه‌السلام فعانقه ، ثم قال له : مرحباً بابن العمّ وجلس بين بابي الرّواق ، والناس كلّهم بين يديه ، وكانت الدار كالسّوق بالأحاديث ، فلما خرج عليه‌السلام وجلس أمسك الناس ، فما كنّا نسمع شيئاً إلاّ العطسة والسعلة ، وخرجت جارية تندب أبا الحسن عليه‌السلام ، فقال أبو محمد : ما هاهنا مَن يكفينا مؤونة هذه الجاهلة ، فبادر الشيعة إليها فدخلت الدار .

ثم خرج خادم فوقف بحذاء أبي محمّد فنهضعليه‌السلام ، وأُخرجت الجنازة ، وخرج يمشي حتى أُخرج بها إلى الشارع الذي بإزاء دار موسى بن بغا ، وقد كان أبو محمدعليه‌السلام صلّى عليه قبل أن يخرج إلى النّاس ، وصلّى عليه لمّا أُخرج المعتمد .

١٧٣

قال المسعودي : وسمعت في جنازته جارية سوداء وهي تقول : ماذا لقينا في يوم الاثنين ( قديماً وحديثاً )(١) .

ودُفن في داره بسرّ من رأى ، وكان مقامهعليه‌السلام ( بسرّ مَن رأى ) إلى أن توفّي عشرين سنة وأشهراً(٢) .

قال المسعودي : واشتدّ الحرّ على أبي محمدعليه‌السلام وضغطه النّاس في طريقه ومنصرفه من الشارع بعد الصلاة عليه ، فسار في طريقه إلى دكّان لبقّال رآه مرشوشاً فسلّم واستأذنه في الجلوس فأذن له ، وجلس ووقف الناس حوله .

فبينا نحن كذلك إذ أتاه شاب حسن الوجه نظيف الكسوة على بغلة شهباء على سرج ببرذون أبيض قد نزل عنه ، فسأله أن يركبه فركب حتّى أتى الدار ونزل ، وخرج في تلك العشيّة إلى الناس ما كان يخرج عن أبي الحسنعليه‌السلام حتّى لم يفقدوا منه إلاّ الشّخص (٣) .

لماذا دُفن الإمامعليه‌السلام في بيته ؟

لقد جرت العادة عند العامّة والخاصّة أنّه إذا توفّي أحدٌ أن يدفن في المكان المعدّ للموتى المسمّى ـ بالمقبرة أو الجبّانة ـ كما هو المتعارف في هذا العصر أيضاً ، ولا يختلف هذا الأمر بالنسبة لأيّ شخص مهما كان له من المكانة

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٥٠/٢٠٧ ح ٢٢ ، مروج الذهب ٤/١٩٣ .

(٢) إعلام الورى : ٣٣٩ .

(٣) إثبات الوصية : ٢٥٧ ، الدمعة الساكبة : ٨/٢٢٢ .

١٧٤

والمنزلة ، فقد كان ولا يزال في المدينة المحل المُعدّ للدّفن ـ البقيع ـ حيث إنّه مثوى لأئمة أهل البيتعليهم‌السلام ، وزوجات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأولاده ، وكبار الصحابة والتابعين وغيرهم ، كما وأنّ مدفن الإمامين الجوادينعليهما‌السلام في مقابر قريش .

وأمّا السبب في دفن الإمام الهاديعليه‌السلام داخل بيته ، يعود إلى حصول ردود الفعل من الشيعة يوم استشهادهعليه‌السلام ؛ وذلك عندما اجتمعوا لتشييعه مظهرين البكاء والسخط على السلطة والذي كان بمثابة توجيه أصابع الاتهام إلى الخليفة لتضلّعه في قتله .

وللشارع الذي أُخرجت جنازة الإمامعليه‌السلام إليه الأثر الكبير ؛ حيث كان محلاًّ لتواجد معظم الموالين آل البيتعليهم‌السلام إذ ورد في وصفه : الشارع الثّاني يعرف بأبي أحمد أول هذا الشارع من المشرق دار بختيشوع المتطبّب التي بناها المتوكل ، ثم قطائع قوّاد خراسان وأسبابهم من العرب ، ومن أهل قم ، وإصبهان ، وقزوين ، والجبل ، وآذربيجان ، يمنة في الجنوب ممّا يلي القبلة(١) .

ويشير إلى تواجد أتباع مدرسة أهل البيت في سامراء المظفري في تاريخه إذ يقول : فكم كان بين الجند ، والقوّاد ، والأُمراء ، والكتّاب ، مَن يحمل بين حنايا ضلوعه ولاء أهل البيتعليهم‌السلام (٢) .

كلّ هذا أدّى إلى اتّخاذ السلطة القرار بدفنهعليه‌السلام في بيته ، وإن لم تظهر تلك الصورة في التاريخ بوضوح ، إلاّ أنّه يفهم ممّا تطرّق إليه اليعقوبي في تاريخه عند ذكره حوادث عام (٢٥٤ هـ) ووفاة الإمام الهاديعليه‌السلام حيث يقول : وبعث المعتز بأخيه أحمد بن المتوكّل فصلّى عليه في الشارع المعروف

ــــــــــــــ

(١) موسوعة العتبات المقدّسة : ١٢/٨٢ .

(٢) تاريخ الشيعة : ١٠١ .

١٧٥

بشارع أبي أحمد ، فلمّا كثر الناس واجتمعوا كثر بكاؤهم وضجّتهم ، فردّ النعش إلى داره ، فدُفن فيها (١) وتمكّنوا بذلك من إخماد لهيب الانتفاضة والقضاء على نقمة الجماهير الغاضبة ، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدل على وجود التحرّك الشيعي رغم الظروف القاسية التي كان يعاني منها أئمة أهل البيت عليهم‌السلام وشيعتهم من سلطة الخلافة الغاشمة .

انتشار خبر استشهاد الإمام الهاديعليه‌السلام في البلاد

روى الحسين بن حمدان الحضيني في كتاب الهداية في الفضائل : عن أحمد ابن داود القميّ ، ومحمّد بن عبد الله الطلحي قالا : حملنا مالاً اجتمع من خُمس ونذور من بين ورق وجوهر وحُليّ وثياب من بلاد قم وما يليها ، وخرجنا نريد سيّدنا أبا الحسن علي بن محمدعليهما‌السلام بها ، فلمّا صرنا إلى دسكرة الملك(٢) تلقّانا رجل راكب على جمل ، ونحن في قافلة عظيمة ، فقصَدَنا ونحن سائرون في جملة الناس وهو يعارضنا بجمله حتى وصل إلينا ، فقال : يا أحمد ابن داود ومحمّد بن عبد الله الطلحي معي رسالة إليكم ، فأقبلنا إليه فقلنا له : ممّن يرحمك الله فقال : من سيّدكما أبي الحسن عليّ بن محمّدعليهما‌السلام يقول لكما : أنا راحل إلى الله في هذه الليلة ، فأقيما مكانكما حتى يأتيكما أمر ابني أبي محمد الحسن ، فخشعت قلوبنا وبكت عيوننا وأخفينا ذلك ، ولم نظهره ، ونزلنا بدسكرة الملك واستأجرنا منزلاً وأحرزنا ما حملناه فيه ، وأصبحنا والخبر شائع

ــــــــــــــ

(١) تاريخ اليعقوبي : ٢/٥٠٣ .

(٢) الدسكرة : قرية في طريق خراسان قريبة من شهربان ( وهي قرية كبيرة ذات نخل وبساتين من نواحي الخالص شرقي بغداد ) ، وهي دسكرة الملك ( معجم البلدان : ٢/٤٥٥ و٣/٣٧٥ ) .

١٧٦

في الدّسكرة بوفاة مولانا أبي الحسنعليه‌السلام ، فقلنا : لا إله إلاّ الله أترى الرّسول الذي جاء برسالته أشاع الخبر في الناس ؟ فلمّا أن تعالى النّهار رأينا قوماً من الشّيعة على أشدّ قلق ممّا نحن فيه ، فأخفينا أمر الرسالة ولم نظهره(١) .

تاريخ استشهادهعليه‌السلام

اختلف المؤرّخون في يوم استشهادهعليه‌السلام ، كما اختلفوا في مَن دسّ إليه السمّ .

والتحقيق أنّهعليه‌السلام استشهد في أواخر ملك المعتزّ كما نصّ عليه غير واحد من المؤرّخين ، وبما أنّ أمره كان يهمّ حاكم الوقت ، وهو الذي يتولّى تدبير هذه الأمور كما هو الشأن ، فإنّ المعتزّ أمر بذلك ، ويمكن أنّه استعان بالمعتمد في دسّ السمّ إليه .

وأمّا يوم شهادتهعليه‌السلام فقد قال ابن طلحة في مطالب السؤول : إنّه مات في جمادى الآخرة لخمس ليال بقين منه ووافقه ابن خشّاب(٢) ، وقال الكليني في الكافي : مضى صلوات الله عليه لأربع بقين من جمادى الآخرة(٣) ; ووافقه المسعودي(٤) .

وأمّا المفيد في الإرشاد ، والإربلي في كشف الغمّة ، والطبرسي في إعلام الورى ، فقالوا : قبضعليه‌السلام في رجب ، ولم يحدّدوا يومه(٥) .

وقال أبو جعفر الطوسي في مصابيحه ، وابن عيّاش ، وصاحب الدّروس :

ــــــــــــــ

(١) الدمعة الساكبة : ٨/٢٢٣ .

(٢) الدمعة الساكبة : ٨/٢٢٥ و ٢٢٧ .

(٣) الكافي : ١/٤٩٧ .

(٤) مروج الذهب : ٤/١٩٣ .

(٥) الدمعة الساكبة : ٨/٢٢٦ و ٢٢٧ ، إعلام الورى : ٣٣٩ ، كشف الغمّة ٢ : ٣٧٦ .

١٧٧

إنّه قُبض بسرّ مَن رأى يوم الاثنين ثالث رجب(١) ووافقهم الفتّال النيسابوري في روضة الواعظين حيث قال : توفّيعليه‌السلام بـ (سرّ مَن رأى) لثلاث ليال خلون نصف النّهار من رجب(٢) ; وللزرندي قول : بأنّه توفّي يوم الاثنين الثالث عشر من رجب(٣) .

ولكنّ الكلّ متّفقون على أنّه استشهد في سنة أربع وخمسين ومائتين للهجرة(٤) .

وعن الحضيني أنّه قال : حدّثني أبو الحسن عليّ بن بلال وجماعة من إخواننا أنّه لما كان اليوم الرابع من وفاة سيّدنا أبي الحسنعليه‌السلام أمر المعتزّ بأن ينفذ إلى أبي محمدعليه‌السلام مَن يستركبه إليه ليعزّيه ويسأله ، فركب أبو محمدعليه‌السلام إلى المعتزّ فلمّا دخل عليه رحّب به وقرّبه وعزّاه وأمر أن يُثبت في مرتبة أبيهعليهما‌السلام وأثبت له رزقه وأن يدفعه فكان الذي يراه لا يشكّ أنّه في صورة أبيهعليهما‌السلام .

واجتمعت الشيعة كلّها من المهتدين على أبي محمد بعد أبيه إلاّ أصحاب فارس بن حاتم بن ماهويه فإنّهم قالوا بإمامة أبي جعفر محمد بن أبي الحسن صاحب العسكر(٥) .

إنّ ما صدر من المعتزّ هذا كان من باب التمويه والخداع لكي يغطّي على جريمته التي ارتكبها بحقّ أبيه ، وهذا كان ديدن مَن تقدّمه من الطواغيت تجاه أئمة أهل البيتعليهم‌السلام (٦) .

ــــــــــــــ

(١) الدمعة الساكبة : ٨/٢٢٥ ، بحار الأنوار : ٥٠/٢٠٦ ، ح ١٧ .

(٢) روضة الواعظين : ١/٢٤٦ .

(٣) الدمعة الساكبة : ٨/٢٢٦ .

(٤) راجع : لمحات من حياة الإمام الهادي عليه‌السلام : ١١٢ ـ ١٢٠ محمد رضا سيبويه .

(٥) الدمعة الساكبة : ٨/٢٢٥ .

(٦) لمحة من حياة الإمام الهادي عليه‌السلام : ١٢١ ـ ١٢٢ .

١٧٨

الفصل الرابع : مدرسة الإمام الهاديعليه‌السلام وتراثه

لقد تميّز عصر الإمام الهاديعليه‌السلام عن عصر أبيه الإمام محمد الجوادعليه‌السلام بزيادة الكبت والضغط عليه من قِبل السلطة حتى كانت الرقابة الدائمة هي الأمر المميّز والفارق الواضح في حياته وحياة ابنه الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام .

كما أنّ الإمام الهاديعليه‌السلام شارك أباه الجوادعليه‌السلام في تولّي مهمّة الإمامة في صغر السن وقبل إكمال عقده الأوّل من العمر فكانت الإمامة المبكّرة وتوجّس السلطة من قيادة خط المعارضة الذي دام قرنين وثلاثة عقود من الزمن في عهدهعليه‌السلام ، وترقّب ظهور المهدي من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ولده هي ثلاث مميزات تميّزت بها فترة إمامته ، ومن هنا شدّدت الرقابة إلى أقصى حدّ ممكن حتى انتهت إلى التصفية الجسدية بعد أن سيطر الخوف والرعب على طغاة عصره .

ومن هنا فإنّ كثرة أصحاب الإمام ـ والذين أحصاهم أحد المهتمّين بتأريخ هذا الإمام العظيم(١) حيث ترجم لـ (٣٤٦) شخصاً كانوا قد ارتبطوا بالإمام ورووا عنه ـ وهو في تلك الظروف العصيبة ، لها دلالة كبيرة وواضحة على سعة نشاط الإمام الهاديعليه‌السلام في تلك الظروف الصعبة ، وعظمة هذا

ــــــــــــــ

(١) راجع الإمام الهادي من المهد إلى اللحد ، السيد محمد كاظم القزويني .

١٧٩

الإمام الذي استوعب بنشاطه السرّي والمنظّم كل تلك العقبات واجتازها بما يحقّق له أهدافه من التمهيد فكرياً وعقائدياً ونفسيّاً لعصر الغيبة المرتقب محافظاً على خط المعارضة بشكل تام ، مراقباً للأحداث بشكل مستمر ومقدّماً لكل ظرف مستجد ما يتطلّبه من الخطوات والأنشطة ، مراعياً التقدّم الحضاري الذي كانت الأُمّة الإسلامية على مشارفه وهو يريد أن تكون الجماعة الصالحة في موقع القيادة والقمّة منه دائماً ، وهكذا كان ومن هذه الزاوية ينبغي أن نطالع ما وصلنا من تراثه ومعالم مدرسته .

وينقسم الحديث في هذا الفصل إلى حقلين : الأوّل : مدرسة الإمام الهادي المتمثلة في أصحابه ورواة حديثه والثاني : تراثه الفكري والعلمي المدوّن أو المروي عنه .

البحث الأوّل : أصحاب الإمامعليه‌السلام ورواة حديثه

كان الإمام الهاديعليه‌السلام مقصداً لطلاب العلوم لتنوع ثقافته وشمول معارفه ، فهوعليه‌السلام المتخصّص في جميع العلوم ، والخبير في تفسير القرآن الكريم ، والمتضلّع في الفقه الإسلامي بشتى حقوله ومستوياته .

وقد مثّل أصحابه الخط الرسالي في الأمة الإسلامية ، باعتبار اتصالهم بأهل البيتعليهم‌السلام ، فرووا أحاديثه ودوّنوها في أصولهم ؛ فكان لهم الفضل الكبير على العالم الإسلامي بما دوّنوه من تراث الأئمة الطاهرين فلولاهم لضاعت ثروة كبيرة تشتمل على الإبداع والأصالة وتساير تطوّر الفكر البشري ، بل وتتقدم عليه .

وتجدر الإشارة إلى أنّ كثيراً من ملامح عمل الإمام الهاديعليه‌السلام تنكشف من خلال أنشطة أتباعه المعتمدين ، وتتعمّق هذه الحقيقة بمقدار اشتداد الظروف الداعية للسرّية في عمل الإمام عليه‌السلام .

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221