اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)

اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)0%

اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 221

اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الصفحات: 221
المشاهدات: 117212
تحميل: 6392

توضيحات:

اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 221 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 117212 / تحميل: 6392
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)

اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أهل البيتعليهم‌السلام وتربية الأُمّة

وكان للأئمّة الأطهارعليهم‌السلام نشاط مستمر في مجال تربية الأمة عقائدياً وأخلاقياً وسياسياً ؛ وذلك من خلال تربية الأصحاب العلماء وبناء الكوادر العلمية والشخصيات النموذجية التي تقوم بمهامّ كبيرة مثل : نشر الوعي والفكر الإسلامي ، وتصحيح الأخطاء المستجدّة في فهم الرسالة والشريعة ، ومواجهة التيارات الفكرية السياسية المنحرفة ، أو الشخصيّات العلمية المنحرفة التي كان يوظّفها الحاكم المنحرف لدعم زعامته .

وحيث كان الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام يُشكّلون النموذج الحيّ للزعامة الصالحة ، عملوا على تثقيف الأمة ورفع درجة وعيها بالنسبة لإمامتهم وزعامتهم ومرجعيّتهم العامة .

وهكذا تفاعل الأئمةعليهم‌السلام مع الأمة ودخلوا إلى أعماق ضمير الأمة وارتبطوا بها وبكل قطّاعاتها بشكل مباشر وتعاطفوا مع قطّاع واسع من المسلمين ; فإنّ الزعامة الجماهيرية الواسعة النطاق التي كان يتمتّع بها أئمة أهل البيت عليهم‌السلام على مدى قرون لم يحصل عليها أهل البيت صدفة أو لمجرّد الانتماء لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ; وذلك لوجود كثير ممّن كان ينتسب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يكن يحظى بهذا الولاء ; لأنّ الأمة لا تمنح على الأغلب الزعامة مجّاناً ، ولا يملك الفرد قيادتها وميل قلوبها من دون عطاء سخيّ منه في مختلف مجالات اهتمام الأمة ومشاكلها وهمومها .

سلامة النظرية الإسلامية

وهكذا خرج الإسلام على مستوى النظرية سليماً من الانحراف وإن تشوّهت معالم التطبيق من خلال الحكّام المنحرفين ، وتحولّت الأمة إلى أُمّة عقائدية تقف بوجه الغزو الفكري والسياسي الكافر حتى استطاعت أن تسترجع قدرتها وروحها على المدى البعيد ، كما لاحظناه في هذا القرن المعاصر بعد عصور الانهيار والتردّي حيث بزغ نور الإسلام من جديد ليعود بالبشرية إلى مرفأ الحق التليد .

٦١

وقد حقّق الأئمّة المعصومونعليهم‌السلام كل هذه الانتصارات بفضل اهتمامهم البليغ بتربية الجماعة الصالحة التي تؤمن بهم وبإمامتهم فأشرفوا على تنمية وعيها وإيمانها من خلال التخطيط لسلوكها وحمايتها باستمرار وإسعافها بكل الأساليب التي كانت تساعد على ثباتها في خضمّ المحن وارتفاعها إلى مستوى جيش عقائدي رسالي يعيش هموم الرسالة ويعمل على صيانتها ونشرها وتطبيقها ليل نهار.

مراحل الحركة الرسالية للائمّة الراشدينعليهم‌السلام

وإذا رجعنا إلى تاريخ أهل البيتعليهم‌السلام والظروف التي كانت قد أحاطت بهم ولاحظنا سيرتهم ومواقفهم العامة والخاصة ؛ استطعنا أن نصنّف ظروفهم ومواقفهم إلى مراحل وعصور ثلاثة يتميّز بعضها عن بعض بالرغم من اشتراكهم في كثير من الظروف والمواقف ، ولكنّ الأدوار تتنوّع باعتبار مجموعة الظواهر العامّة التي تشكل خطّاً فاصلاً ومميّزاً لكل عصر .

فالمرحلة الأُولى من حياة الأئمّةعليهم‌السلام وهي ( مرحلة تفادي صدمة الانحراف ) بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجسّدت في سلوك ومواقف الأئمّة الأربعة : علي والحسن والحسين وعلي بن الحسينعليهم‌السلام فقاموا بالتحصينات اللازمة لصيانة العناصر الأساسية للرسالة وإن لم يستطيعوا القضاء على القيادة المنحرفة ، لكنّهم استطاعوا كشف زيفها والمحافظة على الرسالة الإسلامية نفسها .

وبالطبع إنّهم لم يهملوا الأمة أو الدولة الإسلامية بشكل عام من رعايتهم واهتماماتهم فيما يرتبط بالكيان الإسلامي والأمة المسلمة ، فضلاً عن سعيهم البليغ في بناء وتكوين الكتلة الصالحة المؤمنة بقيادتهم .

٦٢

وتبدأ المرحلة الثانية بالشطر الثاني من حياة الإمام السجّاد السياسية حتى الإمام الكاظمعليه‌السلام وتتميّز بأمرين أساسيين :

الأوّل منهما : يرتبط بالخلافة المزيّفة ، فقد تصدّى هؤلاء الأئمّة لتعريتها عن التحصينات التي بدأ الخلفاء يحصّنون بها أنفسهم من خلال دعم وتأييد طبقة من المحدّثين والعلماء ( وهم وعّاظ السلاطين ) لهؤلاء الخلفاء وتقديم صنوف التأييد والولاء لهم من أجل إسباغ الصبغة الشرعية على زعامتهم بعد أن استطاع الأئمّة في المرحلة الأولى أن يكشفوا زيف خط الخلافة ويشعروا الأمة بمضاعفات الانحراف الذي حصل في مركز القيادة بعد الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

والثاني منهما : يرتبط ببناء الجماعة الصالحة والذي أُرسيت دعائمه في المرحلة الأولى ، فقد تصدّى الأئمّة المعصومون في هذه المرحلة إلى تحديد الإطار التفصيلي وإيضاح معالم الخط الرسالي الذي اؤتمن الأئمّة الأطهارعليهم‌السلام عليه ، والذي تمثّل في تبيين ونشر معالم النظرية الإسلامية وتربية عدّة أجيال من العلماء على أساس الثقافة الإسلامية التي استوعبها الأئمة الأطهار في قِبال الخط الثقافي الذي استحدثه وعّاظ السلاطين .

هذا فضلاً عن تصدّيهم لدفع الشبهات وكشف زيف الفرق التي استحدثت من قِبل خط الخلافة أو غيره .

والأئمّة في هذه المرحلة لم يتوانوا عن زعزعة الزعامات والقيادات المنحرفة من خلال دعم بعض الخطوط المعارِضة للسلطة ولاسيّما بعض الخطوط الثورية منها ، والتي كانت تتصدّى لمواجهة مَن تربَّع على كرسيّ خلافة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام .

وأمّا المرحلة الثالثة من حياة الأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام : فهي تبدأ بشطر من حياة الإمام الكاظمعليه‌السلام وتنتهي بالإمام المهديعليه‌السلام فإنّهم بعد وضع التحصينات اللازمة للجماعة الصالحة ورسم المعالم والخطوط التفصيلية لها عقائدياً وأخلاقياً وسياسيّاً في المرحلة الثانية قد بدا للخلفاء أنّ قيادة أهل البيتعليهم‌السلام أصبحت بمستوى تسلّم زمام الحكم والعودة بالمجتمع الإسلامي إلى حظيرة الإسلام الحقيقي ، ممّا خلّف ردود فعل للخلفاء تجاه الأئمّةعليهم‌السلام ، وكانت مواقف الأئمّة تجاه الخلفاء تختلف تبعاً لنوع موقف الخليفة تجاههم وتجاه قضيّتهم .

٦٣

وأمّا فيما يرتبط بالجماعة الصالحة التي أوضحوا لها معالم خطّها فقد عمل الأئمّةعليهم‌السلام على دفعها نحو الثبات والاستقرار والانتشار من جهة لتحصينها من الانهيار ، وإعطائها درجة من الاكتفاء الذاتي من جهة أُخرى .

وكان يقدّر الأئمّة أنّهم بعد المواجهة المستمرّة للخلفاء سوف لا يُسمح لهم بالمكث بين ظهرانيهم ، وسوف لن يتركهم الخلفاء أحراراً بعد أن تبيّن زيفهم ودَجلهم واتضحت لهم المكانة الشعبية للأئمّة المعصومين الذين كانوا يمثّلون الزعامة الشرعية والواقعية للأمة الإسلامية .

ومن هنا تجلّت ظاهرة تربية الفقهاء بشكل واسع ثم إرجاع الناس إليهم وتدريبهم على مراجعتهم للعلماء السائرين على خط أهل البيتعليهم‌السلام في كل قضاياهم وشؤونهم العامة ؛ تمهيداً للغيبة التي لا يعلم مداها إلاّ الله سبحانه والتي أخبر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تحقّقها وأملت الظروف عليهم الانصياع إليها .

وبهذا استطاع الأئمّةعليهم‌السلام ـ ضمن تخطيط بعيد المدى ـ أن يقفوا بوجه التسلسل الطبيعي لمضاعفات انحراف القيادة الإسلامية والتي كانت تنتهي بتنازل الأمة عن الإسلام الصحيح ؛ وبالتالي ضمور الشريعة وانهيار الرسالة الإلهية بشكل كامل .

موقع الإمام الهاديعليه‌السلام في عملية التغيير الشاملة

والإمام علي بن محمد الهاديعليه‌السلام يُصنّف في هذه المرحلة الثالثة من مراحل حركة أهل البيتعليهم‌السلام فهو قد مارس نشاطاً مكثّفاً لإعداد الجماعة الصالحة للدخول إلى دور الغيبة المرتقب ، وتحصين هذا الخط ضد التحدّيات التي كانت توجّه إليه باستمرار .

وسوف نقف على تفاصيل مواقف الإمام الهاديعليه‌السلام ونشاطاته وإنجازاته التي اختصّ بها عصره ، بعد التعرّف على ملامح عصره وأهم الظروف التي كانت تحيط به وبشيعته وبالأمة الإسلامية جميعاً ، ضمن الفصول القادمة إن شاء الله تعالى .

٦٤

الفصل الثاني : عصر الإمام علي بن محمّد الهاديعليه‌السلام

تحدّثنا عن المرحلة الأولى من حياة الإمام الهاديعليه‌السلام في ظِلال والده الإمام محمد الجوادعليه‌السلام وقد كانت فترة قصيرة جداً لم تتجاوز ثماني سنين ـ على أكثر التقادير ـ وقد قضاها في المدينة المنوّرة ، وكان في شطر منها بعيداً عن والده ؛ وذلك لأنّ المعتصم العباسي قد استدعاه في سنة (٢١٨ هـ) إلى بغداد .

والمرحلة الثانية من حياة الإمام الهاديعليه‌السلام تناهز أربعاً وثلاثين سنة حيث تحمّل فيها أعباء منصب الإمامة منذ سنة (٢٢٠ هـ) إلى سنة (٢٥٤هـ) واستمرّت (٣٤ سنة) وعاصر فيها كلاًّ من : المعتصم (٢١٨ ـ ٢٢٧ هـ) ، والواثق (٢٢٧ ـ٢٣٢ هـ) ، والمتوكل (٢٣٢ ـ ٢٤٧ هـ) ، والمنتصر (٢٤٧ ـ ٢٤٨ هـ) ، والمستعين (٢٤٨ ـ ٢٥٢ هـ) ، والمعتز (٢٥٢ ـ ٢٥٥ هـ) .

المعتصم (٢١٨ ـ ٢٢٧ هـ)

هو محمد بن الرشيد ، وُلد سنة (١٨٠ أو ١٧٨) ، واستولى على كرسي الخلافة سنة (٢١٨ هـ) أُمّه ماردة كانت أحظى الناس عند الرشيد .

وقالوا عنه : إنّه كان ذا شجاعة وقوّة وهمّة وكان عريّاً من العلم .

وكان إذا غضب لا يبالي من قتل ، وكان من أشدّ الناس بطشاً ، كان يجعل زند الرجل بين أصبعيه فيكسره .

وهو أوّل خليفة أدخل الأتراك الديوان وكان يتشبّه بملوك الأعاجم ويمشي مشيتهم ، وبلغت غلمانه الأتراك بضعة عشر ألفاً .

وهجاه دعبل الخزاعي بالأبيات التالية :

ملوك بني العباس في الكتب سبعة

ولم يأتنا في ثامن منهم الكُتْبُ

كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة

غداة ثَوَوْا فيه وثامنهم كلبُ

وإنّي لأزهى كلبهم عنك رغبةً

لأنّك ذو ذنب وليس له ذنبُ

لقد ضاع أمر الناس حيث يسوسهم

وصيف واشناس وقد عظم الخطبُ

وسار على ما كان عليه المأمون من امتحان الناس بخلق القرآن وقاسى الناس منه مشقّة في ذلك ، وقتل عليه خلقاً من العلماء ، وضرب الإمام أحمد بن حنبل في سنة عشرين ومائتين .

٦٥

وفيها تحوّل المعتصم من بغداد وبنى سُرّ مَن رأى بعد أن اعتنى باقتناء الترك وبذل الأموال الطائلة فيهم حتى ألبسهم الديباج ومناطق الذهب وأصبحوا يؤذون الناس ببغداد حتى هدّده أهل بغداد بمحاربته إن لم يخرجهم منها ؛ ولهذا بنى سامراء وأخرجهم من بغداد .

وغزا المعتصم الروم سنة (٢٢٣ هـ) وفتح عمورية ومات في ربيع الأوّل سنة (٢٢٧ هـ) ودامت حكومة المعتصم ثماني سنين وثمانية أشهر .

الإمام الهاديعليه‌السلام والمعتصم العباسي

بعد اغتيال الإمام الجوادعليه‌السلام من قِبل المعتصم عهد المعتصم إلى عمر بن الفرج أن يشخص بنفسه إلى المدينة ليختار معلّماً لأبي الحسن الهادي عليه‌السلام البالغ من العمر آنذاك ست سنين وأشهراً ، وقد عهد إليه أن يكون المعلّم معروفاً بالنصب والانحراف عن أهل البيت عليهم‌السلام ليغذّيه ببغضهم .

ولمّا انتهى عمر إلى يثرب التقى بالوالي وعرّفه بمهمّته فأرشده الوالي وغيره إلى الجنيدي الذي كان شديد البغض للعلويين ، فأرسل خلفه وعرّفه بالأمر فاستجاب له بعد أن عيّن له راتباً شهرياً ، وعهد إليه أن يمنع الشيعة من زيارته والاتصال به .

بادر الجنيدي إلى ما كان اُمر به من مهمّة تعليم الإمامعليه‌السلام إلاّ أنّه قد ذهل لمّا كان يراه من حدَّة ذكائه ، والتقى محمد بن جعفر بالجنيدي فقال له : ( ما حال هذا الصبي الذي تؤدّبه ؟ ) فأنكر الجنيدي ذلك وراح يقول :

( أتقول : هذا الصبي ؟!! ولا تقول هذا الشيخ ؟ أنشدك بالله هل تعرف بالمدينة مَن هو أعرف منّي بالأدب والعلم ؟ ) .

قال : لا .

فقال الجنيدي : ( إنّي والله لأذكر الحرف في الأدب ، وأظن أنّي قد بالغت ، ثم إنّه يملي أبواباً استفيده منه ، فيظن الناس أنّي أُعلّمه ، وأنا والله أتعلّم منه ) .

وانطوت الأيام فالتقى محمد بن جعفر مرّة أُخرى بالجنيدي ، فقال له : ما حال هذا الصبي ؟

٦٦

فأنكر عليه الجنيدي ذلك وقال : ( دع عنك هذا القول ، والله تعالى لهو خير أهل الأرض ، وأفضل مَن برأه الله تعالى ، وإنّه لربّما همَّ بدخول الحجرة فأقول له : حتى تقرأ سورة ، فيقول : أيّ سورة تريد أن أقرأها ؟ فاذكر له السور الطوال ما لم يبلغ إليها فيسرع بقراءتها بما لم أسمع أصحّ منها ، وكان يقرأها بصوت أطيب من مزامير داود ، إنّه حافظ القرآن من أوّله إلى آخره ، ويعلم تأويله وتنزيله .

وأضاف الجنيدي قائلاً : ( هذا الصبي صغير نشأ بالمدينة بين الجدران السود فمن أين عَلِم هذا العلم الكبير ؟ يا سبحان الله !! ثم نزع عن نفسه النصب لأهل البيتعليهم‌السلام ودان بالولاء لهم واعتقد بالإمامة )(١) .

لقد كان لأدب الإمام الهاديعليه‌السلام وحسن تعامله مع معلّمه ( الناصبي ) أثر كبير في تحوّله الاعتقادي وإيمانه بزعامة أهل البيتعليهم‌السلام .

ثمّ إنّ الجنيدي نفسه صرّح لغيره أنّه تعلّم من الإمامعليه‌السلام ولم يأخذ الإمامعليه‌السلام العلم منه ؛ وتلك خاصة للإمام وآبائهعليهم‌السلام ، فإنّ الإمام الرضاعليه‌السلام لمّا سُئل عن الخلف بعده أشار إلى الإمام الجوادعليه‌السلام وهو صغير ربّما في عمر كعمر الإمام الهاديعليه‌السلام ، واحتجّ الرضاعليه‌السلام بقوله تعالى :( وآتيناه الحكم صبيّاً ) فالصغر والكبر ليس مورداً للإشكال فإنّ الله سبحانه جعل الإمامة امتداداً للنبوّة لتقتدي الناس بحملة الرسالة ، فهم القيّمون عليها والمجسّدون لها تجسيداً كاملاً ؛ ليتيسّر للناس تطبيق أحكام الله تعالى بالاقتداء بالأئمةعليهم‌السلام .

وتعكس لنا هذه الرواية الاهتمام المبكّر من قِبل المعتصم بالإمام الهاديعليه‌السلام من أجل تطويق تحرّكه وعزله عن شيعته ومريديه ، كما يتّضح ذلك من أمره بأن يمنع اتصال الشيعة به .

يُضاف إلى ذلك أنّ المبادرة لتعليم الإمام في سنّ مبكّرة لا يبعد أن يكون للتعتيم على علم الإمام وهو في هذا العمر كما حدث لأبيه الجوادعليه‌السلام حين تحدّى كبار العلماء ولم يعهد منه أنّه كان قد تعلّم عند أحد .

ــــــــــــــ

(١) مآثر الكبراء في تاريخ سامراء : ٣ / ٩١ ـ ٩٥ .

٦٧

فهذا الإسراع يُعدّ محاولة للحيلولة دون بزوغ اسم الإمام الهاديعليه‌السلام وسطوع فضله عند الخاص والعام ؛ لأنّ ما سوف يصدر منه يمكن أن يُنسب إلى معلّمه ومربّيه .

غير أنّ الإمامعليه‌السلام بخُلقه وهدوئه استطاع أنّ يفوّت الفرصة على الخليفة وبلاطه ويُظهر للناس علمه وإمامته التي عيّنها الله له .

الواثق (٢٢٧ ـ ٢٣٢ هـ)

هو هارون بن المعتصم ، أُمّه رومية ، وُلد في شعبان (١٩٦ هـ) واستولى على الخلافة في ربيع الأوّل (٢٢٧ هـ) .

وفي سنة (٢٢٨ هـ) استخلف على السلطة أشناس التركي وألبسه وشاحين مجوهرين وتاجاً مجوهراً .

وكان كثير الأكل جداً حتى قال ابن فهم : إنّه كان يأكل في خوان من ذهب وكان يحمل كل قطعة منه عشرون رجلاً .

وكان الواثق كأسلافه الحاكمين في الإسراف وقضاء الوقت باللهو والمفاسد .

وقيل عنه إنّه كان وافر الأدب مليح الشعر ، وكان أعلم الخلفاء بالغناء ، وله أصوات وألحان عملها نحو مائة صوت وكان حاذقاً بضرب العود ، راوية للأشعار والأخبار .

٦٨

وكان يحب خادماً له أُهدي له من مصر فأغضبه الواثق يوماً ثم إنّه سمعه يقول لبعض الخدم : والله إنّه ليروم أن أكلّمه ـ أي الواثق ـ من أمس فما أفعل ، فقال الواثق في ذلك شعراً :

يا ذا الذي بعد أبي ظل مختفراً

ما أنت إلاّ مليك جاد إذ قدرا

لولا الهوى لتحاربنا على قدر

وان أقف منه يوماً فسوف ترى(١)

وفي سنة (٢٢٩ هـ) حبس الواثق كتّاب دولته وألزمهم أموالاً عظيمة ، فأخذ من أحمد بن إسرائيل ثمانين ألف دينار ، ومن سليمان بن وهب ـ كاتب ايتاخ ـ أربعمائة ألف دينار ، ومن الحسن بن وهب أربعة عشر ألف دينار ، ومن إبراهيم بن رباح وكتّابه مائة ألف دينار ، ومن أحمد بن الخصيب مليوناً من الدنانير ، ومن نجاح ستين ألف دينار ، ومن أبي الوزير مائة وأربعين ألف دينار(٢) .

فكم كان مجموع ثرواتهم بحيث أمكنهم دفع تلك الضرائب ؟ وإذا كانت هذه ثروة الكاتب العادي ، فكم هي ثروة الوزير نفسه ؟ ولعلّ من نافلة القول إنّ هذه الأموال إنّما اجتمعت عند هؤلاء على حساب سائر أبناء الأمة الإسلامية الذين كانوا يعانون من الفقر وحياة التقشّف التي أنتجها الظلم إلى جانب التفاضل الطبقي الفاحش .

الإمام الهاديعليه‌السلام وبغا الكبير

وفي سنة (٢٣٠ هـ) أغار الأعراب من بني سليم على المدينة ونهبوا الأسواق وقتلوا النفوس ، ولم يفلح حاكم المدينة في دفعهم حتى ازداد شرّهم واستفحل ؛ فوجّه إليهم الواثق بغا الكبير ففرّقهم وقتل منهم وأسر آخرين وانهزم الباقون(٣) .

وللإمام حين ورود بغا بجيشه إلى المدينة موقف تجدر الإشارة إليه ، فإنّ أبا هاشم الجعفري يقول : كنت بالمدينة حين مّر بها بغا أيّام الواثق في طلب الأعراب .

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء : ٣٤٣ ـ ٣٤٥ .

(٢) الكامل في التاريخ : ٥/٢٦٩ .

(٣) الكامل في التاريخ : ٥/٢٧٠ .

٦٩

فقال أبو الحسنعليه‌السلام : اخرجوا بنا حتى ننظر إلى تعبئة هذا التركي .

فخرجنا فوقفنا فمرّت بنا تعبئته فمرّ بنا تركي فكلّمه أبو الحسنعليه‌السلام بالتركية فنزل عن فرسه فقبّل حافر دابته ، قال ( أبو هاشم ) فحلّفت التركي وقلت له : ما قال لك الرجل ؟ فقال : هذا نبيّ ؟ قلت : ليس هذا بنبيّ .

قال : دعاني باسم سُمّيت به في صغري في بلاد الترك ما علمه أحد الساعة(١) .

وهذه الوثيقة التاريخية تتضمّن بيان مجموعة من فضائل الإمام الهاديعليه‌السلام وكمالاته واهتماماته العسكرية والتربوية لأصحابه ، وتشجيعه لبغا الذي واجه هذا الهجوم التخريبي للأعراب على مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وبالإضافة إلى كرامات الإمامعليه‌السلام المتعدّدة لا تستبعد أن يكون الإمامعليه‌السلام قد استفاد من هذه الفرصة لكسب فرد في جيش بغا إذ بإمكانه أن يكون حامل صورة ايجابية ورسالة خاصة عن الإمامعليه‌السلام يمكنه إيصالها في الموقع المناسب إلى قائده بغا .

وسوف نرى مواقف خاصة لبغا تجاه الإمام الهاديعليه‌السلام في المستقبل الذي ينتظره ، فضلاً عن موقف له مع أحد الطالبيين بعد أن حاول قتل عامل المعتصم فتمرّد بغا على أمر المعتصم ولم يُلق هذا الطالبي إلى السباع(٢) .

ومن هنا قال المسعودي عنه : كان بغا كثير التعطّف والبر على الطالبيين .

ــــــــــــــ

(١) أعلام الورى : ٣٤٣ .

(٢) مروج الذهب : ٤/٧٦ .

٧٠

الواثق ومحنة خلق القرآن

وامتحن الواثق الناس في قضية خلق القرآن ، فكتب إلى القضاة أن يفعلوا ذلك في سائر البلدان وأن لا يجيزوا إلاّ شهادة مَن قال بالتوحيد ، فحبس بهذا السبب عالماً كثيراً .

وفي سنة إحدى وثلاثين[ بعد المائتين ] ورد كتاب إلى أمير البصرة يأمره أن يمتحن الأئمة والمؤذّنين بخلق القرآن ، وكان قد تبع أباه في ذلك ثم رجع في آخر أمره .

وفي هذه السنة قتل أحمد بن نصر الخزاعي وكان من أهل الحديث وقد استفتى الواثق جماعة من فقهاء المعتزلة بقتله فأجازوا له ذلك ، وقال : إذا قمت إليه فلا يقومنّ أحد معي فإنّي أحتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد ربّاً لا نعبده ولا نعرفه بالصفة التي وصفه بها ، ثم أمر بالنطع فأجلس عليه وهو مقيّد فمشى إليه فضرب عنقه ، وأمر بحمل رأسه إلى بغداد فصلب بها ، وصلبت جثته في سُرّ مَن رأى ، واستمرّ ذلك ست سنين إلى أن ولي المتوكل فأنزله ودفنه ، ولمّا صُلب كتب ورقة وعُلّقت في أذنه فيها : ( هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك دعاه عبد الله الإمام هارون إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه فأبى إلاّ المعاندة فعجّله الله إلى ناره ) ووكل بالرأس مَن يحفظه .

وفي هذه السنة استفك من الروم ألفاً وستمائة أسير مسلم ، فقال ابن داود ـ قبّحه الله ـ ! مَن قال من الأُسارى ( القرآن مخلوق ) خلّصوه وأعطوه

٧١

دينارين ومَن امتنع دعوه في الأسر(١) .

قال الخطيب : كان أحمد ابن أبي داود قد استولى على الواثق وحمله على التشدّد في المحنة ودعا الناس إلى القول بخلق القرآن .

ومن جملة مَن شملهم ظلم الواثق أبو يعقوب بن يوسف بن يحيى البوطي صاحب الشافعي الذي مات سنة (٢٣١هـ) محبوساً في محنة الناس بالقرآن ، ولم يجب إلى القول بأنّه مخلوق وكان من الصالحين(٢) .

وجيء بأبي عبد الرحمن عبد الدين محمد الآذرمي ( شيخ أبي داود والنسائي ) مقيّداً إلى الواثق وابن أبي داود حاضر ، فقال له : أخبرني عن هذا الرأي الذي دعوتم الناس إليه ، أعلمه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يَدعُ الناس إليه أم شيء لم يعلمه ؟ فقال ابن أبي داود : بل علمه .

فقال : فكان يسعه أن لا يدعو الناس إليه وأنتم لا يسعكم ؟ قال : فبهتوا وضحك الواثق وقام قابضاً على فمه ودخل بيتاً ومدّ رجليه وهو يقول : وسع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسكت عنه ولا يسعنا ! فأمر له أن يعطى ثلاثمائة دينار وأن يرد إلى بلده ولم يمتحن أحداً بعدها ومقت ابن أبي داود من يومئذ .

وعن يحيى بن أكثم : ما أحسن أحد إلى آل أبي طالب ما أحسن إليهم الواثق ، ما مات وفيهم فقير(٣) .

ــــــــــــــ

(١) يراجع تاريخ اليعقوبي : ٢ / ٤٨٢ ـ ٤٨٣ ، وتاريخ الخلفاء : ٤٠١ .

(٢) تاريخ ابن الوردي : ١ / ٣٣٥ .

(٣) تاريخ الخلفاء : ٣٤٢ .

٧٢

موقف الإمام الهاديعليه‌السلام من مسألة خلق القرآن

لقد عمّت الأمة فتنة كبرى زمن المأمون والمعتصم والواثق بامتحان الناس بخلق القرآن وكانت هذه المسألة مسألة يتوقّف عليها مصير الأمة الإسلامية ، وقد بيّن الإمام الهاديعليه‌السلام الرأي السديد في هذه المناورة السياسية التي ابتدعتها السلطة ، فقد روي عن محمد بن عيسى بن عبيد اليقطين أنّه قال : كتب علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام إلى بعض شيعته ببغداد :

( بسم الله الرحمن الرحيم ، عصمنا الله وإيّاك من الفتنة فإن يفعل فأعظم بها نعمة وإلاّ يفعل فهي الهلكة نحن نرى أنّ الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب فتعاطى السائل ما ليس له وتكلّف المجيب ما ليس عليه ، وليس الخالق إلاّ الله وما سواه مخلوق ، والقرآن كلام الله لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالّين جعلنا الله وإياك من الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون ) (١) .

إخبار الإمام الهاديعليه‌السلام بموت الواثق

كان الإمام الهاديعليه‌السلام يتابع التطوّرات السياسية ويرصد الأحداث بدقّة .

فعن خيران الخادم قال : قدمت على أبي الحسنعليه‌السلام المدينة فقال لي :ما خبر الواثق عندك ؟ قلت : جُعلت فداك خلفته في عافية ، أنا من أقرب الناس عهداً به ، عهدي به منذ عشرة أيام قال : فقال لي :إنّ أهل المدينة يقولون إنّه مات ، فلمّا أن قال لي : ( الناس ) ، علمت أنّه هو ، ثم قال لي :ما فعل جعفر ؟

ــــــــــــــ

(١) أمالي الشيخ الصدوق : ٤٨٩ .

٧٣

قلت : تركته أسوء الناس حالاً في السجن ، فقال : أما إنّه صاحب الأمر . ما فعل ابن الزيات ؟ قلت : جُعلت فداك الناس معه والأمر أمره فقال : أما إنّه شؤم عليه ثم سكت وقال لي : لا بد أن تجري مقادير الله تعالى وأحكامه يا خيران ، مات الواثق وقد قعد المتوكل جعفر وقد قتل ابن الزيات فقلت : متى جُعلت فداك ؟ قال : بعد خروجك بستة أيّام (١) .

وهذه الرواية دون شكّ تظهر لنا حدّة الصراع والتنافس على السلطة داخل الأسرة العباسية الحاكمة ، كما تظهر لنا مدى متابعة الإمامعليه‌السلام للأوضاع العامة والسياسية أوّلاً بأوّل .

واهتمامه الكبير هذا يوضح مستوى الحالة السياسية التي كانت تعيشها قواعد الإمامعليه‌السلام الشعبية ومواليه ، فكان يوافيهم بمآل الأحداث السياسية ، ليكونوا على حذر أولاً ; ولينمّي قابليّاتهم في المتابعة وتحليل الظواهر ثانياً .

المتوكّل (٢٣٢ ـ ٢٤٧ هـ)

هو جعفر بن المعتصم بن الرشيد ، أُمّه أُمّ ولد اسمها شجاع .

أظهر الميل إلى السنّة ، ورفع المحنة وكتب بذلك إلى الآفاق سنة (٢٣٤ هـ) ، واستقدم المحدّثين إلى سامرّاء وأجزل عطاياهم وأمرهم أن يحدّثوا بأحاديث الصفات والرؤية .

وقالوا عنه : إنّه كان منهمكاً في اللذات والشراب ، وكان له أربعة آلاف سُرِّيّة ( أمَة يتسرّى بها ) .

وقال علي بن الجهم : كان المتوكل مشغوفاً بقبيحة أم المعتزّ ، والتي كانت أُم ولد له ، ومن أجل شغفه بها أراد تقديم ابنها المعتزّ على

ــــــــــــــ

(١) أُصول الكافي : ١ / ٤٩٨ ح ١ ب ١٢٢ .

٧٤

ابنه المنتصر بعد أن كان قد بايع له بولاية العهد ، وسأل المنتصر أن ينزل عن العهد فأبى ، فكان يُحضره مجلس العامّة ويحطّ منزلته ويتهدّده ويشتمه ويتوعّده(١) .

وكان المتوكل مسرفاً جداً في صرف بيت المال على الشعراء الذين يتقرّبون إليه بالمديح ـ في الوقت الذي كان عامة الناس يشتكون الفقر والحاجة ـ حتى قالوا : ما أعطى خليفة شاعراً ما أعطى المتوكّل ، وفيه قال مردان ابن أبي الجنوب :

فامسِك ندى كفّيك عنّي ولا تزد

فقد خفتُ أن أطغى وأن اتجبّرا

فقال المتوكل : لا أمسك حتى يغرقك جودي ، وكان قد أجازه على قصيدة بمائة ألف وعشرين ألفاً(٢) .

ولعلّ مَن وصف المتوكل بالجود سوف يتراجع عن وصفه إذا سمع أن المتوكّل قال للبحتري : قُل فيّ شعراً وفي الفتح بن خاقان ، فإنّي أحب أن يحيا معي ولا أفقده فيذهب عيشي ولا يفقدني ، فقل في هذا المعنى ، فقال البحتري :

يا سيّدي كيف أخلفتَ وعدي

وتثاقلت عن وفاء بعهدي ؟

لا أرتني الأيام فقدك يا فتـ

ـحُ ولا عَرَّقتْك ما عشتَ فقدي

أعظم الرزء أن تقدّمَ قبلي

ومن الرزء أن تؤخّر بعدي

حذراً أن تكون إلفاً لغيري

إذ تفرّدت بالهوى فيك وحدي

وقد قتل المتوكل والفتح بن خاقان في مجلس لهوهما في ساعة واحدة وفي جوف الليل في الخامس من شوّال سنة (٢٤٧ هـ) كما سوف يأتي بيانه .

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء : ٣٤٩ ـ ٣٥٠ .

(٢) تاريخ الخلفاء : ٣٤٩ ـ ٣٥٠ .

٧٥

الإمام الهاديعليه‌السلام والمتوكّل العبّاسي

وقد عُرف المتوكل ببغضه لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ولآل البيتعليهم‌السلام وشيعتهم ، ففي سنة (٢٣٦ هـ) أمر بهدم قبر الإمام الحسينعليه‌السلام وهدم ما حوله من الدور .

ومنع الناس من زيارته وأمر بمعاقبة مَن يتمرّد على المنع .

قال السيوطي : وكان المتوكّل معروفاً بالتعصّب فتألّم المسلمون من ذلك ، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد وهجاه الشعراء .

فمّما قيل في ذلك :

بالله إن كانت أُمية قد أتت

قتل ابن بنت نبيّها مظلوما

فلقد أتاه بنو أبيه بمثله

هذا لعمري قبره مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا

في قتله فتتبّعوه رميما(١)

ولم يقف المتوكّل عند حدّ في عدائه ونصبه لأهل البيتعليهم‌السلام وإيذاء شيعتهم فقد قتل معلّم أولاده إمام العربية يعقوب ابن السكّيت حين سأله : مَن أحب إليك ؟ هما ـ يعني ولديه المعتز والمؤيد ـ أو الحسن والحسين ؟ فقال ابن السكّيت : قنبر ـ يعني مولى علي ـ خير منهما ، فأمر الأتراك فداسوا بطنه حتى مات ، وقيل أمر بسلّ لسانه فمات ، وذلك في سنة (٢٤٤ هـ)(٢) .

وأهم حدث في زمن المتوكّل فيما يخص حياة أهل البيتعليهم‌السلام بحيث يكشف عمّا وصل إليه الرأي العام الإسلامي من التوجّه إليهم والاهتمام بهم في الوقت الذي كان العباسيون يفقدون فيه موقعهم في النفوس هو حدث إشخاص المتوكّل للإمام علي الهاديعليه‌السلام من مدينة جدّه ووطنه إلى سجون سُرّ مَن رأى بعيداً عن حواضر العلم والدين والأدب .

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء ، السيوطي : ٣٤٧ .

(٢) تاريخ الخلفاء : ٣٤٨ .

٧٦

ففي سنة (٢٣٤ هـ) أي بعد سنتين(١) من سيطرته على كرسي الخلافة أمر المتوكل يحيى بن هرثمة بالذهاب إلى المدينة والشخوص بالإمام إلى سامراء ، وكانت للإمامعليه‌السلام مكانة رفيعة بين أهل المدينة ، ولمّا همّ يحيى بإشخاصه اضطربت المدينة وضجّ أهلها كما ينقل يحيى نفسه ، حيث قال : دخلت المدينة فضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً ، ما سمع الناس بمثله خوفاً على علي ـ أي الإمام الهاديعليه‌السلام ـ وقامت الدنيا على ساق ؛ لأنّه كان محسناً إليهم ملازماً المسجد ، لم يكن عنده ميل إلى الدنيا فجعلت أسكتهم ، وأحلف لهم أنّي لم أومر فيه بمكروه وأنّه لا بأس عليه ثم فتّشت منزله فلم أجد إلاّ مصاحف وأدعية ، وكتب علم ، فعظم في عيني(٢) .

ونستفيد من هذه الرواية أُموراً منها :

١ ـ قوّة تأثير الإمام الهاديعليه‌السلام وانشداد الناس إليه وتعلّقهم به لكثرة إحسانه إليهم ، ولأنّه يجسّد الرسول والرسالة في هديه وسلوكه .

٢ ـ خشية السلطة العباسية من تعاظم أمر الإمامعليه‌السلام ومن سهولة اتصال الجماعة الصالحة به ، وإشخاصه إلى سامراء يعتبر إبعاداً له عنهم ومن ثمّ يمكن وضعه تحت المراقبة الشديدة .

٣ ـ تأثّر قائد الجيش العباسي ـ يحيى بن هرثمة ـ بالإمامعليه‌السلام وتعظيمه له ; لكذب الاتهامات حوله بالنسبة لعدّ العدّة والسلاح للإطاحة

ــــــــــــــ

(١) إنّ تاريخ الرسالة التي استقدم بها المتوكل الإمام الهاديعليه‌السلام على ما في جملة من المصادر هو سنة (٢٤٤ هـ) وليس (٢٣٤ هـ) ، ويشهد لذلك ما صرّح به الشيخ المفيدقدس‌سره من أنّ مدّة إقامة الإمام الهادي بسُرّ مَن رأى عشر سنين وأشهراً ، وحيث استشهد في سنة (٢٥٤ هـ) فيظهر من ذلك أنّ استقدامه كان سنة (٢٤٤ هـ) أي بعد اثنتي عشرة سنة من حكم المتوكّل ، وهو غير بعيد .

(٢) تذكرة الخواص ، سبط ابن الجوزي : ٢٠٣ .

٧٧

بالخليفة العباسي .

٤ ـ عزوف الإمامعليه‌السلام عن الدنيا وملازمة المسجد متخذاً من سيرة آبائه نبراساً له ، ومن المسجد طريقاً لبثّ علوم أهل البيتعليهم‌السلام وتصحيح معتقدات الأمة .

٥ ـ عزل الإمامعليه‌السلام عن شيعته ومحبّيه ، فسامراء مدينة أسّسها المعتصم العباسي وكانت تسكنها غالبية تركية ( قوّاد وجنود ) ولم يكونوا يعبؤون بالدين والقيم قدر اهتمامهم بالسيطرة والسلطة .

الوشاية بالإمامعليه‌السلام

يبدو من بعض المصادر أنّ أحد أسباب إشخاص المتوكّل العباسي للإمام الهاديعليه‌السلام إلى سامراء هو وشاية إمام الحرمين الذي كان معروفاً بالنصب لأهل البيتعليهم‌السلام وقد كانت هذه الوشايات متتابعة ومتكرّرة ؛ وهذا دليل على عدم الارتياح لتواجد الإمام الهاديعليه‌السلام بالمدينة ، وتأثيره الكبير على الحرمين معاً وهما مركز الثقل العلمي والديني في الحاضرة الإسلامية .

ويشهد لذلك ما قالوا : من أنّه كتب بريحة العباسي(١) صاحب الصلاة بالحرمين إلى المتوكل : ( إن كان لك في الحرمين حاجة فأخرج علي بن محمد منهما فإنّه قد دعا إلى نفسه واتبعه خلق كثير ).

وتابع بريحة الكتب في هذا المعنى فوجّه المتوكل بيحيى بن هرثمة في سنة (٢٣٤ هـ) وكتب معه إلى أبي الحسنعليه‌السلام كتاباً جميلاً يعرّفه أنّه قد اشتاقه ويسأله القدوم عليه وأمر يحيى بالمسير معه كما يحب ، وكتب إلى بريحة يعرّفه ذلك .

ــــــــــــــ

(١) وقيل اسمه ( تريخه ) ، وعن الطريحي في مجمع البحرين : ( بريمة ) ، بينما ذكر آخرون أنّ اسمه عبد الله بن محمد وكان يتولّى الحرب والصلاة بمدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، اُنظر الإرشاد : ٢/٣٠٩ .

٧٨

وإليك نصّ رسالة المتوكل إلى الإمام الهاديعليه‌السلام ، حسبما رواه الشيخ محمد بن يعقوب الكليني : عن محمد بن يحيى ، عن بعض أصحابنا قال : أخذت نسخة كتاب المتوكل إلى أبي الحسن الثالثعليه‌السلام من يحيى بن هرثمة في سنة ثلاث وأربعين ومائتين وهذه نسخته : ( بسم الله الرحمن الرحيم ، أمّا بعد فإنّ أمير المؤمنين عارف بقدرك ، راع لقرابتك ، موجباً لحقّك يقدّر الأمور فيك وفي أهل بيتك ، ما أصلح الله به حالك وحالهم وثبت به عزّك وعزّهم ، وأدخل اليُمن والأمن عليك وعليهم يبتغي بذلك رضى ربّه وأداء ما افترض عليه فيك وفيهم ، وقد رأى أمير المؤمنين صرف عبد الله بن محمد عمّا كان يتولاّه من الحرب والصلاة بمدينة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ إذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقّك واستخفافه بقدرك ، وعندما قرفك(١) به ، ونسبك إليه من الأمر الذي قد علم أمير المؤمنين براءتك منه وصدق نيّتك في ترك محاولته ، وأنّك لم تؤهّل نفسك له ، وقد ولّى أمير المؤمنين ما كان يلي من ذلك محمد بن الفضل ، وأمره بإكرامك وتبجيلك ، والانتهاء إلى أمرك ورأيك والتقرّب إلى الله والى أمير المؤمنين بذلك ، وأمير المؤمنين مشتاق إليك يحب إحداث العهد بك والنظر إليك فإن نشطت لزيارته والمقام قبله ما رأيت ، شخصت ومَن أحببت من أهل بيتك ومواليك وحشمك على مهلة وطمأنينة ترحل إذا شئت وتنزل إذا

ــــــــــــــ

(١) قرف : عابه أو اتّهمه .

٧٩

شئت ، وتسير كيف شئت ، وإن أحببت أن يكون يحيى بن هرثمة مولى أمير المؤمنين ومَن معه من الجند مشيّعين لك ، يرحلون برحيلك ، ويسيرون بسيرك ، والأمر في ذلك إليك حتى توافي أمير المؤمنين فما أحد من إخوته وولده وأهل بيته وخاصّته ألطف منه منزلة ولا أحد له أثرة ولا هو لهم أنظر وعليهم أشفق ، وبهم أبرُّ وإليهم أسكن منه إليك إن شاء الله تعالى والسلام عليك ورحمة الله وبركاته )(١) .

إنّ المتوكل قد كان يهدف في رسالته أُموراً إعلامية ودعائية أولاً تأثيراً في أهل المدينة ، محاولة منه لتغيير انطباعهم من جهة فالغالبية من أهل المدينة تعرف المتوكل وعداءه لأهل البيتعليهم‌السلام وشيعتهم.

وحاول ثانياً أن يُبدي للإمام الهاديعليه‌السلام أنّه يحترم رأيه ويقدّره ويعزّه ؛ لذا فقد أبدل والي المدينة بغيره ومن ثمّ جعل له الحرية في الشخوص إلى الخليفة كيف يشاء الإمامعليه‌السلام .

وتلك أساليب إن كانت تغري العامة فالإمامعليه‌السلام كان يدرك ما يرومه المتوكل ويهدف إليه في استدعائه .

وعلى أيّة حال فقد قدم يحيى بن هرثمة المدينة فأوصل الكتاب إلى بريحة ، وركبا جميعاً إلى أبي الحسنعليه‌السلام فأوصلا إليه كتاب المتوكل فاستأجلهما ثلاثاً ، فلمّا كان بعد ثلاث عاد إلى داره فوجد الدواب مسرجة والأثقال مشدودة قد فرغ منها .

ولا نغفل عن تفتيش يحيى لدار الإمامعليه‌السلام ممّا يعني أنّه كان مأموراً بذلك في الوقت الذي كان الكتاب ينفي عن الإمام أي اتّهام ضدّه .

ومن هنا نعلم أنّ استقدام الإمامعليه‌السلام كان أمراً إلزامياً له وإن كان بصيغة

ــــــــــــــ

(١) الكافي : ١ / ٥٠١ .

٨٠