اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)

اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)0%

اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 221

اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الصفحات: 221
المشاهدات: 117210
تحميل: 6392

توضيحات:

اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 221 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 117210 / تحميل: 6392
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)

اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الاستدعاء ، وإلاّ فلِم هذا التفتيش الذي يكشف عن وجود سوء ظن بالإمامعليه‌السلام بعد تلك الوشايات ؟! وخرجعليه‌السلام بولده الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام وهو صبي مع يحيى بن هرثمة متوجّهاً نحو العراق واتبعه بريحة مشيّعاً فلمّا صار في بعض الطريق قال له بريحة : قد علمت وقوفك على أنّي كنت السبب في حملك وعليّ حلف بأيمان مغلّظة : لئن شكوتني إلى أمير المؤمنين أو أحد من خاصته وأبنائه لأجمّرنّ نخلك ولأقتلنّ مواليك ولأعورنّ عيون ضيعتك ولأفعلنّ ولأصنعنّ ، فالتفت إليه أبو الحسن فقال له : إنّ أقرب عرضي إيّاك على الله البارحة وما كنت لأعرضنك عليه ثم لأشكوك إلى غيره من خلقه .

قال : فانكبّ عليه بريحة وضرع إليه واستعفاه فقال له : قد عفوت عنك(١) .

وأهم الإشارات ذات الدلالة في هذه الرواية : أنّ المتوكل أمر يحيى بن هرثمة برعاية الإمامعليه‌السلام وعدم التشديد عليه ، وقد بلغ ذلك بريحة وخشي أن يشتكيه الإمام للمتوكل ، فتوعّد الإمام فعمد الإمامعليه‌السلام إلى تركيز مفهوم إسلامي وهو مسألة الارتباط بالله سبحانه ، فإنّه هو الذي ينفع ويضر ويدفع عن عباده ؛ لذا أجاب الإمامعليه‌السلام بريحة بأنّه قد شكاه إلى الله تعالى قبل يوم من سفره وأنّ الإمامعليه‌السلام ليس في نيّته أن يشتكي بريحة عند الخليفة ممّا اضطرّ بريحة أن يعتذر من الإمامعليه‌السلام ويطلب العفو منه ، فهو يعرف منزلة الإمام وآبائهعليهم‌السلام وصلتهم الوثيقة بالله سبحانه ، فأخبره الإمامعليه‌السلام بأنّه قد عفى عنه ، وكان الإمام يدرك أبعاد سلوك الخليفة إزاءه وما يرمي إليه من تفتيش داره وإشخاصه من المدينة إلى سامراء ، وإبعاده عن أهله ومواليه ومن ثمّ

ــــــــــــــ

(١) إثبات الوصية : ١٩٦ ـ ١٩٧ .

٨١

وضعه تحت الرقابة المشدّدة ومعرفة الداخلين على الإمام المرتبطين به ؛ وبالتالي ضبط كل حركات الإمامعليه‌السلام وتحرّكات قواعده ، فوجودهعليه‌السلام في المدينة يعني بالنسبة للخليفة تمتّع الإمامعليه‌السلام بحرية في التحرّك ، فضلاً عن سهولة وتيسّر سبل الاتصال به من قِبل القواعد الموالية للإمامعليه‌السلام .

وقد كان الإمامعليه‌السلام في كل تحرّكاته وحتى في كتبه ووصاياه إلى شيعته يتصف باليقظة والحذر ، ومن هنا كانت الوشايات به تبوء بالفشل ، وحينما كانت تكبس داره ـ كما حصل ذلك مراراً ـ لا يجد جلاوزة السلطان فيها غير كتب الأدعية والزيارات والقرآن الكريم ، حتى حينما تسوّروا عليه الدار لم يجدوه إلاّ مصلّياً أو قارئاً للقرآن .

وقال ابن الجوزي : إنّ السبب في إشخاص الإمامعليه‌السلام من المدينة إلى سامراء ـ كما يقول علماء السّير ـ هو أنّ المتوكل كان يبغض عليّاً أمير المؤمنينعليه‌السلام وذريّته وخشي تأثيره في أهل المدينة وميلهم إليه(١) .

وهذا التعليل ينسجم مع كل تحفّظات الإمامعليه‌السلام تجاه السلطان .

الإمام في طريقه إلى سامراء

وحاول ابن هرثمة في الطريق إحسان عِشرة الإمامعليه‌السلام وكان يرى من الإمامعليه‌السلام الكرامات التي ترشده إلى عظمة الإمام ومكانته وحقيقة أمره ، وتوضح له الجريمة التي يرتكبها في إزعاج الإمامعليه‌السلام والتجسّس عليه .

عن يحيى بن هرثمة قال : رأيت من دلائل أبي الحسن الأعاجيب في طريقنا ، منها : أنّا نزلنا منزلاً لا ماء فيه ، فأشفينا دوابنا وجمالنا من العطش على

ــــــــــــــ

(١) تذكرة الخواص : ٣٢٢ .

٨٢

التلف ، وكان معنا جماعة وقوم قد تبعونا من أهل المدينة ، فقال أبو الحسن : كأنّي أعرف على أميال موضع ماء .

فقلنا له : إن نشطت وتفضّلت عدلت بنا إليه وكنّا معك فعدل بنا عن الطريق .

فسرنا نحو ستة أميال فأشرفنا على واد كأنّه زهو الرياض فيه عيون وأشجار وزروع وليس فيها زرّاع ولا فلاّح ولا أحد من الناس ، فنزلنا وشربنا وسقينا دوابّنا وأقمنا إلى بعد العصر ، ثم تزوّدنا وارتوينا وما معنا من القرب ورحنا راحلين فلم نبعد أن عطشت .

وكان لي مع بعض غلماني كوز فضّة يشده في منطقته وقد استسقيته فلجلج لسانه بالكلام ونظرت فإذا هو قد أنسى الكوز في المنزل الذي كنّا فيه فرجعت أضرب بالسوط على فرس لي ، جواد سريع واغد السير حتى أشرفت على الوادي ، فرأيته جدباً يابساً قاعاً محلاً لا ماء ولا زرع ولا خضرة ورأيت موضع رحالنا وروث دوابنا وبعر الجمال ومناخاتهم والكوز موضوع في موضعه الذي تركه الغلام فأخذته وانصرفت ولم أعرفه شيئاً من الخبر .

فلمّا قربت من القطر والعسكر وجدتهعليه‌السلام ينتظرني فتبسّم ولم يقل لي شيئاً ولا قلت له سوى ما سأل من وجود الكوز ، فأعلمته أنّي وجدته .

قال يحيى : وخرج في يوم صائف آخر ونحن في ضحو وشمس حامية تحرق فركب من مضربه وعليه ممطر وذنب دابته معقود وتحته لبد طويل .

فجعل كل مَن في العسكر وأهل القافلة يضحكون ويقولون هذا الحجازي ليس يعرف الري ، فسرنا أميالاً حتى ارتفعت سحابة من ناحية القبلة وأظلمت وأضلتنا بسرعة وأتى من المطر الهاطل كأفواه القرب فكدنا نتلف وغرقنا حتى جرى الماء من ثيابنا إلى أبداننا وامتلأت خفافنا وكان أسرع وأعجل من أن يمكن أن نحط ونخرج اللبابيد ، فصرنا شهرة ومازالعليه‌السلام يتبسّم تبسّماً ظاهراً تعجّباً من أمرنا .

قال يحيى : وصارت إليه في بعض المنازل امرأة معها ابن لها أرمد العين ولم تزل تستذل وتقول معكم رجل علوي دلّوني عليه حتى يرقى عين ابني هذا .

٨٣

فدللناها عليه ، ففتح عين الصبي حتى رأيتها ولم أشكّ أنّها ذاهبة فوضع يده عليها لحظة يحرّك شفتيه ثم نحّاها فإذا عين الغلام مفتوحة صحيحة ما بها علّة(١) .

ومرّ الركب ببغداد ـ في طريقه إلى سامراء ـ فقابل ابن هرثمة واليها إسحاق بن إبراهيم الطاهري فأوصاه بالإمامعليه‌السلام خيراً واستوثق من حياته بقوله : يا يحيى إنّ هذا الرجل قد ولده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمتوكل مَن تعلم ، وإن حرّضته على قتله كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خصمك فأجابه يحيى : والله ما وقفت له إلاّ على كل أمر جميل(٢) .

وحين وصل الركب إلى سامراء بدأ ابن هرثمة بمقابلة وصيف التركي ـ وهو ممّن كان يشارك في تنصيب الخليفة وعزله ومناقشته في أعماله ـ وممّا قاله وصيف ليحيى : والله لئن سقطت من رأس هذا الرجل ـ ويقصد به الإمام الهاديعليه‌السلام ـ شعرة لا يكون المطالب بها غيري .

قال ابن هرثمة : فعجبت من قولهما وعرّفت المتوكّل ما وقفت عليه من حسن سيرته وسلامة طريقه وورعه وزهادته وأنّي فتّشت داره فلم أجد فيها غير المصاحف وكتب العلم ، وإنّ أهل المدينة خافوا عليه ، فأحسن جائزته وأجزل برّه(٣) .

ــــــــــــــ

(١) إثبات الوصية : ٢٢٥ .

(٢) مروج الذهب : ٤/٨٥ .

(٣) مروج الذهب : ٤/٨٥ ، وتذكرة الخواص : ٣٥٩ .

٨٤

غير أنّ هذا الإكرام الذي ادّعاه ابن هرثمة يتنافى مع ما أمر به المتوكل من حجب الإمامعليه‌السلام عنه في يوم وروده إلى سامراء ، ويزيد الأمر إبهاماً وتساؤلاً هو أمره بإنزال الإمامعليه‌السلام في مكان متواضع جدّاً يُدعى بخان الصعاليك(١) .

قال صالح بن سعيد : دخلت على أبي الحسنعليه‌السلام فقلت له : جعلت فداك في كل الأمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك حتى أنزلوك هذا الخان الأشنع ، خان الصعاليك(٢) .

وليس ببعيد أن تكون الصورة التي نقلها يحيى للمتوكل عن الإمامعليه‌السلام ومدى نفوذ شخصيّته حتى عند الولاة والقوّاد مدعاةً للضغط على الإمام عليه‌السلام ، والسعي للتضييق الحقيقي عليه من خلال الحيلولة بينه وبين ارتباطه بقواعده وإن كان ذلك بالتظاهر بالإكرام كما نراه في النص الذي نُقل عن يحيى ، ولا يغيب عن مثل يحيى مدى كره المتوكل لآل أبي طالب بشكل عام وللإمام الهادي عليه‌السلام بشكل خاص .

الإمامعليه‌السلام في سامراء

إنّ حجب المتوكل للإمام الهاديعليه‌السلام لدى وروده والأمر بإنزاله في خان الصعاليك لو لاحظناه مع ما جاء في رسالة المتوكل للإمام الهاديعليه‌السلام يحمل بين طيّاته صورة واضحة من نظرة المتوكل إلى الإمامعليه‌السلام ، فهو لا يأبى من تحقير الإمام وإذلاله كلّما سنحت له الفرصة ولكنّه كان يحاول التعتيم على ما يدور في قرارة نفسه ؛ ولهذا أمر بعد ذلك بإفراد دار له فانتقل إليها .

ــــــــــــــ

(١) الإرشاد : ٣١٣ ـ ٣١٤ .

(٢) الكافي : ١/٤٩٨ .

٨٥

مع العلم بأنّ المتوكل هو الذي كان قد استدعى الإمامعليه‌السلام وكان يعلم بقدومه عليه ، ولابد أن يكون قد استعد لذلك .

وعلى أيّة حال فالذي يبدو من سير الأحداث أنّ المتوكل حاول بكل جهده ليكسب ودّ الإمام ويورّطه فيما يشتهي من القبائح التي كان يرتكبها المتوكل .

وحاول المتوكل غير مرّة إفحام الإمامعليه‌السلام بالرغم من أنّه كان يضطر إلى الالتجاء إليه حين كان يعجز علماء البلاط أو وعّاظ السلاطين عن تقديم الأجوبة الشافية في الموارد الحرجة .

وإليك جملة من هذه الموارد :

١ ـ إنّ نصرانياً كان قد فجر بامرأة مسلمة فأراد المتوكل أن يقيم عليه الحد فأسلم فقال ابن الأكثم : قد هدم إيمانه شركه وفعله وقال بعضهم يضرب ثلاثة حدود وقال آخرون غير ذلك ، فأمر المتوكل بأن يكتب إلى الإمام الهاديعليه‌السلام وسؤاله عن ذلك فلمّا قرأ الكتاب ، كتب :يضرب حتى يموت فأنكر ابن الأكثم وسائر فقهاء العسكر وطالبوا الإمام بالحجّة من الكتاب والسنّة فكتبعليه‌السلام :بسم الله الرحمن الرحيم : ( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ) .

فأمر المتوكل فضرب حتى مات(١) .

٢ ـ وحين نذر المتوكل أن يتصدّق بمال كثير واختلف الفقهاء في تحديد المال الكثير ، أشار عليه أحد ندمائه بالسؤال من الإمامعليه‌السلام قائلاً : ألا تبعث إلى هذا الأسود فتسأله عنه ؟ فقال له المتوكل : مَن تعني ؟ ويحك ! فقال له : ابن الرضا .

ــــــــــــــ

(١) الكافي : ٧/٢٣٨ .

٨٦

فقال له : وهو يحسن من هذا شيئاً ؟ فقال : إن أخرجك من هذا فلي عليك كذا وكذا وإلاّ فاضربني مائة قرعة فبعث مَن يسأل له ذلك من الإمام فأجاب الإمام بأنّ الكثير ثمانون .

فلما سُئل عن دليل ذلك أجاب قائلاً :( ولقد نصركم الله في مواطن كثيرة ) فعددناها فكانت ثمانين(١) .

إنّ هذا التنكّر من المتوكّل للإمامعليه‌السلام أو هذا التعجّب من أنّه قادر على الإجابة وقد عرفنا موارد منها ليشير إلى مدى حقد المتوكل وتعمّده في تسقيط الإمامعليه‌السلام أمام الآخرين ولكنّه لم يفلح حتى أنّه كان يبادر للتعتيم الإعلامي على فضائل الإمامعليه‌السلام ومناقبه ، كما نرى ذلك بعد ردّه على أسئلة ابن الأكثم حيث قال ابن الأكثم للمتوكل : ما نحب أن تسأل هذا الرجل عن شيء بعد مسائلي هذه وإنّه لا يرد عليه شيء بعدها إلاّ دونها وفي ظهور علمه تقوية للرافضة(٢) .

٣ ـ ومن جملة القضايا التي حاول إحراج الإمام فيها قضية زينب الكذّابة حيث أمر الإمامعليه‌السلام بالنزول إلى بركة السباع .

قال أبو هاشم الجعفري : ظهرت في أيام المتوكل امرأة تدّعي أنّها زينب بنت فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال المتوكّل : أنت امرأة شابة وقد مضى من وقت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما مضى من السنين ، فقالت : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسح عليّ وسأل الله أن يردّ عليّ شبابي في كل أربعين سنة ، ولم أظهر للناس إلى هذه الغاية فلحقتني الحاجة فصرت إليهم .

فدعا المتوكل مشايخ آل أبي طالب وولد العباس وقريش وعرّفهم حالها فروى جماعة وفاة زينب في سنة كذا ، فقال لها : ما تقولين في

ــــــــــــــ

(١) الكافي : ٧/٤٦٣ .

(٢) المناقب : ٢/٤٤٣ .

٨٧

هذه الرواية ؟ فقالت : كذب وزور ، فإنّ أمري كان مستوراً عن الناس ، فلم يعرف لي حياة ولا موت ، فقال لهم المتوكل : هل عندكم حجّة على هذه المرأة غير هذه الرواية ؟ فقالوا : لا ، فقال : هو بريء من العبّاس إن لا أنزلها عمّا ادّعت إلاّ بحجّة .

قالوا : فأحضر ابن الرضاعليه‌السلام فلعلّ عنده شيئاً من الحجّة غير ما عندنا فبعث إليه فحضر فأخبره بخبر المرأة فقال : كذبت فإنّ زينب توفّيت في سنة كذا في شهر كذا في يوم كذا ، قال : فإنّ هؤلاء قد رووا مثل هذه وقد حلفت أن لا أنزلها إلاّ بحجّة تلزمها .

قال :ولا عليك فهاهنا حجّة تلزمها وتلزم غيرها ، قال : وما هي ؟ قال :لحوم بني فاطمة محرّمة على السباع فأنزلها إلى السباع فإن كانت من ولد فاطمة فلا تضرّها ، فقال لها : ما تقولين ؟ قالت : إنّه يريد قتلي ، قال : فهاهنا جماعة ولد الحسن والحسينعليهما‌السلام فأنزل من شئت منهم ، قال : فو الله لقد تغيّرت وجوه الجميع ، فقال بعض المبغضين : هو يحيل على غيره لم لا يكون هو ؟ فمال المتوكل إلى ذلك رجاء أن يذهب من غير أن يكون له في أمره صنع فقال : يا أبا الحسن لم لا تكون أنت ذلك ؟ قال : ذاك إليك قال : فافعل ، قال : أفعل .

فأُتي بسلّم وفتح عن السباع وكانت ستة من الأسد ، فنزل أبو الحسن إليها فلمّا دخل وجلس صارت الأسود إليه فرمت بأنفسها بين يديه ، ومدّت بأيديها ، ووضعت رؤوسها بين يديه فجعل يمسح على رأس كل واحد منها ، ثم يشير إليه بيده إلى الاعتزال فتعتزل ناحية حتى اعتزلت كلّها وأقامت بإزائه .

فقال له الوزير : ما هذا صواباً فبادر بإخراجه من هناك ، قبل أن ينتشر خبره فقال له : يا أبا الحسن ما أردنا بك سوءاً وإنّما أردنا أن نكون على يقين ممّا قلت فأُحب أن تصعد ، فقام وصار إلى السلّم وهي حوله تتمسّح بثيابه .

٨٨

فلمّا وضع رجله على أوّل درجة التفت إليها وأشار بيده أن ترجع ، فرجعت وصعد فقال :كلّ مَن زعم أنّه من ولد فاطمة فليجلس في ذلك المجلس ، فقال لها المتوكّل : انزلي ، قالت : الله الله ادّعيتُ الباطل ، وأنا بنت فلان حملني الضرّ على ما قلت ، قال المتوكلّ : ألقوها إلى السباع ، فاستوهبتها والدته(١) .

إنّ هذه المواقف من الإمامعليه‌السلام لم تكن لتثني المتوكل عمّا كان يراوده من الضغط على الإمام عليه‌السلام ومحاولة تسقيطه وعزله عن عامة الناس وخواص أتباعه وكان رصده للإمام عليه‌السلام لا يشفي غليله فكان يفتّش دار الإمام عليه‌السلام بشكل مستمر وكان ذلك واحداً من أساليبه لإهانة الإمام عليه‌السلام أو طريقاً للعثور على مستمسك يسوّغ له الفتك بالإمام عليه‌السلام .

تفتيش دار الإمامعليه‌السلام

لم تحقّق وسائل السلطة ـ في التضييق على الإمام ومراقبته ـ أهدافها في ضبط بعض القضايا التي تؤكّد صحّة الوشايات بالإمام ، فكثيراً ما سعى بعض المتزلّفين للخليفة بالإمامعليه‌السلام وأوغروا صدره ضد الإمامعليه‌السلام واخبروا الخليفة كذباً وزوراً بأنّ لديه السلاح وتُجبى إليه الأموال من الأقاليم ، إلى غيرها من الأكاذيب التي كانت تدفع بالخليفة إلى إرسال جنده وبعض قوّاده إلى دار الإمامعليه‌السلام وتفتيشها ، ثم استدعاء الإمامعليه‌السلام إلى بلاط المتوكل الذي كان ثملاً على مائدة شرابه ، حتى أنّ المتوكل الثمل بعد أن أعظم الإمام وأجلسه إلى جانبه ناوله الكأس .

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٥٠/١٤٩ .

٨٩

فقال له الإمامعليه‌السلام :يا أمير المؤمنين ما خامر لحمي ودمي قط فأعفني فأعفاه .

ثم قال له المتوكل : أنشدني شعراً .

فأجابه الإمامعليه‌السلام :إنّي لقليل الرواية للشعر .

فقال له المتوكل : لا بد من ذلك .

فانشده الإمامعليه‌السلام الأبيات التالية :

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم

غلب الرجال فما أغنتهم القُلَلُ

واستنزلوا من بعد عِزٍّ من معاقلهم

فأودعوا حفراً يا بئس ما نزلوا

ناداهم صارخٌ من بعد ما قُبروا

أين الأسرّة والتيجان والحللُ

أين الوجوه التي كانت منعّمةً

من دونها تضرب الأستار والكللُ

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم

تلك الوجوه عليها الدود يقتتلُ

قد طال ما أكلوا دهراً وما شربوا

فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكلوا

فبكى المتوكل ، ثم أمر برفع الشراب وقال : يا أبا الحسن أعليك دين ؟ قال :نعم أربعة آلاف دينار ، فدفعها إليه ورده إلى منزله مكرّماً .

ومرّة أخرى حين مرض المتوكل من خُرّاج خرج به وأشرف منه على الهلاك ، فلم يجسر أحدٌ أن يمسّه بحديدة ، فنذرت أُمّه إن عوفي أن تحمل إلى أبي الحسن عليّ بن محمد مالاً جليلاً من مالها وقال له الفتح بن خاقان : لو بعثت إلى هذا الرجل فسألته فإنّه لا يخلو أن يكون عنده صفة يفرّج بها عنك. فبعث إليه ووصف له علّته ، فرّد إليه الرّسول بأن يؤخذ كسب الشاة فيداف بماء ورد فيوضع عليه فلمّا رجع الرّسول فأخبرهم أقبلوا يهزؤون من قوله ، فقال له الفتح : هو والله أعلم بما قال ، وأُحضر الكسبُ وعمل كما قال ووضع عليه فغلبه النوم وسكن ، ثم انفتح وخرج منه ما كان فيه وبُشّرت أُمه بعافيته ، فحملت إليه عشرة آلاف دينار تحت خاتمها .

ثم استقلّ من علّته فسعى إليه البطحائي العلوي بأنّ أموالاً تحمل إليه وسلاحاً ، فقال لسعيد الحاجب : اهجم عليه باللّيل وخذ ما تجد عنده من الأموال والسلاح واحمله إليّ ، قال إبراهيم بن محمّد : فقال لي سعيد الحاجب : صرت إلى داره بالليل ومعي سلّم فصعدت السطح ، فلمّا نزلت على بعض الدرج في الظلمة لم أدر كيف أصل إلى الدار .

٩٠

فناداني : يا سعيد مكانك حتى يأتوك بشمعة ، فلم ألبث أن أتوني بشمعة فنزلت فوجدته عليه جبّة صوف وقلنسوة منها وسجّادة على حصير بين يديه ، فلم أشكّ أنّه كان يصلّي ، فقال لي : دونك البيوت ، فدخلتها وفتّشتها فلم أجد فيها شيئاً ووجدت البدرة في بيته مختومة بخاتم اُمّ المتوكل وكيساً مختوماً وقال لي : دونك المصلّى ، فرفعته فوجدت سيفاً في جفن غير ملبّس ، فأخذت ذلك وصرت إليه .

فلمّا نظر إلى خاتم أُمّه على البدرة بعث إليها فخرجت إليه ، فأخبرني بعض خدم الخاصّة أنّها قالت له : كنت قد نذرت في علّتك لمّا آيست منك إن عوفيت حملت إليه من مالي عشرة آلاف دينار فحملتها إليه وهذا خاتمي على الكيس وفتح الكيس الآخر فإذا فيه أربعمائة دينار .

فضمّ إلى البدرة بدرة أخرى وأمرني بحمل ذلك إليه فحملته ورددت السيف والكيسين وقلت له : يا سيّدي عزّ عليّ ، فقال لي :( وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون ) .

غير أنّ الإمامعليه‌السلام لم يأبه لكل أدوات المراقبة والتضييق عليه ، بل كانت أساليبه أدقّ وكان نفوذه في جهاز السلطة يمكّنه من التحرّك بالشكل الذي يراه مناسباً مع تلك الظروف .

وممّا يعزّز ذلك ما رواه الشيخ الطوسيرضي‌الله‌عنه بإسناده عن محمد بن الفحام : أنّ الفتح بن خاقان قال : قد ذكر الرجل ـ يعني المتوكل ـ خبر مال يجيء من قم ، وقد أمرني أن أرصده لأخبره ، فقلت له ، فقل لي : من أيّ طريق يجيء حتى أجيئه ؟ فجئت إلى الإمام علي بن محمدعليهما‌السلام فصادفت عنده مَن احتشمه فتبسّم وقال لي : لا يكون إلاّ خيراً يا أبا موسى ، لِم لم تعد الرسالة الأولى ؟ فقلت : أجللتك يا سيدي فقال لي : المال يجيء الليلة وليس يصلون إليه فبت عندي .

٩١

فلمّا كان من الليل وقام إلى ورده قطع الركوع بالسلام وقال لي : قد جاء الرجل ومعه المال ، وقد منعه الخادم الوصول إليّ فاخرج وخذ ما معه .

فخرجت فإذا معه زنفِيلجه(١) فيها المال : فأخذته ودخلت به إليه ، فقال : قل له هات المحنقة التي قالت له القمية إنّها ذخيرة جدتها ، فخرجت له فأعطانيها ، فدخلت بها إليه ، فقال لي : قل له الجبة التي أبدلتها منها ردّها إليها فخرجت إليه فقلت له ذلك ، فقال : نعم كانت ابنتي استحسنتها فأبدلتها بهذه الجبة وأنا أمضي فأجيء بها .

فقال : اخرج فقل له : إنّ الله يحفظ ما لنا وعلينا هاتها من كتفك ، فخرجت إلى الرجل فأخرجها من كتفه فغشي عليه ، فخرج إليهعليه‌السلام ، فقال له : قد كنت شاكاً فتيقّنت(٢) .

وفي الرواية دلالات كثيرة لكنّ أهمّ ما يلفت النظر فيها هو : أولاً : إنّ الإمام كان يعرف شكّ السلطة وهو آخذ حذره ومستيقظ ومتأهّب للأمر ; لذا أجاب مَن سأله عن المال بأنّه سيصل ولا سبيل للمتوكل وجلاوزته عليه ، وفعلاً وصل المال سالماً .

ــــــــــــــ

(١) معرّب : زنبيلچه : زنبيل صغير .

(٢) أمالي الشيخ الطوسي : ٢٧٦ ح ٥٢٨ ، والمناقب : ٤ / ٤٤٤ .

٩٢

ثانياً : إنّ حامل المال إلى الإمامعليه‌السلام كان يُريد أن يختبر الإمامعليه‌السلام أو يبحث عن وسيلة لليقين بإمامتهعليه‌السلام ؛ لذا نجد الإمام يرشد مستلم المال إلى أمور لا يعرفها إلاّ حامله كالجبّة التي كان قد أخفاها تحت كتفه وزادعليه‌السلام الأمر وضوحاً بقوله : أتيقّنت ؟ مشيراً إلى ما كان يكنّه هذا الرجل في نفسه ، وما يروم أن يصل إليه وهو معرفة الإمام بهذه الأمور ، وقد أيقن واطمأن حينما أخبره رسول الإمامعليه‌السلام بما كان يضمره .

ثالثاً : إنّ أنصار الإمامعليه‌السلام وأتباعه كان لهم حضور فاعل في البلاط وهم عيون الإمام بدل أن يكونوا عملاء السلطة .

وفيما يلي من خبر اعتقال الإمامعليه‌السلام أيضاً شواهد أخرى على هذه الحقيقة .

اعتقال الإمام الهاديعليه‌السلام

إنّ المتوكّل بعد رصده الدائم للإمام وتفتيشه المستمر والمتكرّر لدار الإمامعليه‌السلام أمر باعتقال الإمامعليه‌السلام وزجّه في السجن ، فبقي فيه أياماً وجاء لزيارته صقر بن أبي دلف فاستقبله الحاجب وكانت له معرفة به ، كما كان عالماً بتشيّعه ، وبادر الحاجب قائلاً : ما شأنك ؟ وفيم جئت ؟ قال صقر : بخير.

قال الحاجب : لعلّك جئت تسأل عن خبر مولاك ؟ قال صقر : مولاي أمير المؤمنين ( يعني المتوكل ) .

فتبسم الحاجب وقال : اسكت مولاك هو الحق ( يعني الإمام الهاديعليه‌السلام ) فلا تحتشمني فإنّي على مذهبك .

قال صقر : الحمد لله .

فقال الحاجب : تحب أن تراه ؟ قال صقر : نعم .

فقال الحاجب : اجلس حتى يخرج صاحب البريد .

ولمّا خرج صاحب البريد ، التفت الحاجب إلى غلامه فقال له : خذ بيد الصقر حتى تدخله الحجرة التي فيها العلوي المحبوس ، وخلِّ بينه وبينه .

٩٣

فأخذه الغلام حتى أدخله الحجرة وأومأ إلى بيت فيه الإمام ، فدخل عليه الصقر ، وكان الإمام جالساً على حصير وبإزائه قبر محفور قد أمر به المتوكل لإرهاب الإمام ، والتفتعليه‌السلام قائلاً بحنان ولطف :يا صقر ما أتى بك ؟ قال صقر : جئت لأتعرّف على خبرك .

وأجهش الصقر بالبكاء رحمة بالإمام وخوفاً عليه : فقالعليه‌السلام : ( يا صقر لا عليك ، لن يصلوا إلينا بسوء فهدّأ روعه وحمد الله على ذلك ، ثم سأل الإمام عن بعض المسائل الشرعية فأجاب عنها ، وانصرف مودّعاً للإمام (١) ، ولم يلبث الإمام في السجن إلاّ قليلاً ثمّ أطلق سراحه ) .

محاولة اغتيال الإمام الهاديعليه‌السلام

وقد دبّرت السلطة الحاكمة آنذاك مؤامرة لقتل الإمامعليه‌السلام ولكنّها لم تنجح ، فقد روي : أنّ أبا سعيد قال : حدثنا أبو العباس فضل بن أحمد بن إسرائيل الكاتب ونحن بداره بسُرّ مَن رأى فجرى ذكر أبي الحسنعليه‌السلام فقال : يا أبا سعيد أحدثك بشيء حدثني به أبي ؟ قال : كنّا مع المنتصر وأبي كاتبه فدخلنا والمتوكل على سريره فسلّم المنتصر ووقف ووقفت خلفه ، وكان إذا دخل رحّب به وأجلسه ، فأطال القيام وجعل يرفع رجلاً ويضع أخرى وهو لا يأذن له في القعود ورأيت وجهه يتغيّر ساعة بعد ساعة ويقول للفتح بن خاقان : هذا الذي يقول فيه ما تقول ؟ ويرد عليه القول ، والفتح يسكته ويقول : هو مكذوب عليه ، وهو يتلظّى ويستشيط ويقول : والله لأقتلنّ هذا المرائي الزنديق وهو يدّعي الكذب ويطعن في دولتي .

ــــــــــــــ

(١) رواه الصدوق في الخصال : ٣٩٤ ومعالي الأخبار : ١٣٥ وكمال الدين ط النجف الأشرف : ٣٦٥ و ط الغفاري : ٣٨٢ ح٩ ب ٣٧ وعنه الطبرسي في إعلام الورى : ٢/٢٤٥ وعن الخصال وعلل الشرائع في بحار الأنوار : ٥٠/١٩٤ .

٩٤

ثم طلب أربعة من الخزر أجلافاً ودفع إليهم أسيافاً ، وأمرهم أن يقتلوا أبا الحسن إذا دخل ، وقال : والله لأحرقنه بعد قتله ، وأنا قائم خلف المنتصر من وراء الستر ، فدخل أبو الحسن وشفتاه تتحرّكان وهو غير مكترث ولا جازع ، فلمّا رآه المتوكل رمى بنفسه عن السرير إليه ، وانكب عليه يقبّل بين عينيه ويديه ، وسيفه شقه بيده وهو يقول : يا سيدي يا بن رسول الله يا خير خلق الله يا بن عمّي يا مولاي يا أبا الحسن .

وأبو الحسنعليه‌السلام يقول :أعيذك يا أمير المؤمنين من هذا .

فقال : ما جاء بك يا سيدي في هذا الوقت ؟ قال :جاءني رسولك .

قال : كذب ابن الفاعلة .

فقال له : ارجع يا سيدي ، يا فتح يا عبيد الله يا منتصر شيّعوا سيّدكم وسيدي ، فلمّا بصر به الخزر خرّوا سجّداً ، فدعاهم المتوكل وقال : لِمَ لم تفعلوا ما أمرتكم به ؟ قالوا : شدّة هيبته ، ورأينا حوله أكثر من مائة سيف لم نقدر أن نتأمّلهم ، وامتلأت قلوبنا من ذلك .

٩٥

فقال : يا فتح هذا صاحبك وضحك في وجهه .

وقال : الحمد لله الذي بيّض وجهه وأنار حجّته(١) .

إنّ هذا النص قد كشف لنا بوضوح عن كل نوازع المتوكل التي تدور حول القتل والحرق للإمامعليه‌السلام فضلاً عن الاتّهام بالزندقة والطعن في دولته .

والمتوكّل بعد كل هذه المحاولات التي باءت بالفشل لم يهدأ له بال وهو يريد إذلال الإمامعليه‌السلام بأيّ نحوٍ كان ، من هنا بادر في يوم الفطر ـ وفي السنة التي قُتل فيها ـ إلى الأمر بالترجّل والمشي بين يديه قاصداً بذلك أن يترجّل الإمام الهادي عليه‌السلام بين يديه ، فترجّل الإمام عليه‌السلام كسائر بني هاشم واتكأ على رجل من مواليه فأقبل عليه الهاشميون وقالوا : يا سيّدنا ما في هذا العالم أحد يستجاب دعاؤه ويكفينا الله به من تعزّر هذا ؟ قال لهم أبو الحسن عليه‌السلام : في هذا العالم مَن قلامة ظفره أكرم على الله من ناقة ثمود ، لمّا عقرت الناقة صاح الفصيل إلى الله تعالى ، فقال الله سبحانه : ( تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) (٢) .

دعاء الإمامعليه‌السلام على المتوكّل

والتجأ الإمام أبو الحسن الهاديعليه‌السلام إلى الله تعالى ، وانقطع إليه ، وقد

ــــــــــــــ

(١) الخرائج والجرائح : ١/٤١٧ ـ ٤١٩ ح ١ ب ١١ وعنه في كشف الغمّة : ٣/١٨٥ .

(٢) بحار الأنوار : ٥٠/٢٠٩ .

٩٦

دعاه بالدعاء الشريف الذي عُرف ( بدعاء المظلوم على الظالم ) وهو من الكنوز المشرقة عند أهل البيت عليهم‌السلام (١) .

هلاك المتوكّل

واستجاب الله دعاء وليّه الإمام الهاديعليه‌السلام ، فلم يلبث المتوكل بعد هذا الدعاء سوى ثلاثة أيام حتى هلك .

وتم ذلك باتفاق المنتصر ابن المتوكل مع مجموعة من الأتراك حيث هجم الأتراك على المتوكل ليلة الأربعاء المصادف لأربع خلون من شوّال (٢٤٧ هـ) يتقدّمهم باغر التركي وقد شهروا سيوفهم ، وكان المتوكل ثملاً سكراناً ، وذعر الفتح بن خاقان فصاح بهم : ويلكم أمير المؤمنين ؟! فلم يعتنوا به ورمى بنفسه عليه ليكون كبش الفداء له إلاّ أنّه لم يغنِ عن نفسه ولا عنه شيئاً ، وأسرعوا إليهما فقطّعوهما إرباً إرباً ، بحيث لم يعرف لحم أحدهما من الآخر ـ كما يقول بعض المؤرّخين ـ ودُفنا معاً .

وبذلك انطوت أيام المتوكّل الذي كان من أعدى الناس لأهل البيتعليهم‌السلام .

وخرج الأتراك ، وكان المنتصر بانتظارهم فسلّموا عليه بالخلافة وأشاع المنتصر أنّ الفتح بن خاقان قد قتل أباه ، وأنّه أخذ بثأره فقتله ، ثم أخذ البيعة لنفسه من أبناء الأسرة العباسية وسائر قطعات الجيش .

واستقبل العلويون وشيعتهم النبأ بهلاك المتوكل بمزيد من الابتهاج والأفراح ؛ فقد هلك الطاغية الذي صيّر حياتهم إلى مآسي لا تطاق(٢) .

ــــــــــــــ

(١) مهج الدعوات : ٥٠/٢٠٩ .

(٢) الكامل في التاريخ : ١٠ / ٣٤٩ .

٩٧

المنتصر بالله (٢٤٧ ـ ٢٤٨ هـ)

هو محمّد بن المتوكل بن المعتصم ابن الرشيد ، أُمّه أُمّ ولد رومية اسمها حبشيّة .

بُويع له بعد قتل أبيه في شوّال سنة (٢٤٧ هـ) وخلع أخويه المعتزّ والمؤيد من ولاية العهد وقالوا عنه : إنّه أظهر العدل والإنصاف في الرعيّة فمالت إليه القلوب مع شدّة هيبتهم له ، وكان كريماً حليماً وممّا نُقل عنه قوله : لذّة العفو أعذب من لذّة التشفّي وأقبح أفعال المقتدر الانتقام .

ولكنّه لم يمتّع بالخلافة إلاّ أشهراً معدودة دون ستة أشهر .

وقال الثعالبي : ومن العجائب أنّ أعرق الأكاسرة في الملك ـ وهو شيرويه ـ قتل أباه فلم يعش بعده إلاّ ستة أشهر وأعرق الخلفاء في الخلافة ـ وهو المنتصر ـ قتل أباه فلم يمتّع بعده سوى ستة أشهر(١) .

المنتصر والعلويين

وكان المنتصر ليّناً مع العلويين المظلومين في عهد أبيه ، فعطف عليهم ووجّه بمال فرّقه عليهم وكان يؤثر مخالفة أبيه في جميع أحواله ومضادّة مذهبه طعناً عليه ونصرة لفعله(٢) .

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء : ٣٥٦ ـ ٣٥٨ .

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٩٦ ونحوه في تاريخ الخلفاء : ٤١٧ .

٩٨

وكان محسناً لآل أبي طالب حيث رفع عنهم ما كانوا فيه من الخوف والمحنة بمنعهم من زيارة قبر الحسينعليه‌السلام ورد على آل الحسين فدكاً فقال يزيد المهلّبي في ذلك :

ولقد بررت الطالبية بعدما

ذمّوا زماناً بعدها وزمانا

ورددت ألفة هاشم فرأيتهم

بعد العداوة بينهم إخوانا(١)

يقول أبو الفرج عنه : وكان المنتصر يظهر الميل إلى أهل البيتعليهم‌السلام ويخالف أباه في أفعاله فلم يجر منه على أحد منهم قتل أو حبس أو مكروه(٢) .

ولمّا ولي المنتصر صار يسب الأتراك ويقول : هؤلاء قتلة الخلفاء فعملوا عليه وهمّوا به فعجزوا عنه ؛ لأنّه كان مهيباً شجاعاً فطناً متحرّزاً فتحيّلوا إلى أن دسّوا إلى طبيبه ابن طيفور ثلاثين ألف دينار في مرضه فأشار بفصده ثم فصده بريشة مسمومة فمات(٣) .

المستعين (٢٤٨ ـ ٢٥٢ هـ)

هو أحمد بن المعتصم بن الرشيد فهو أخو المتوكّل ، ولد سنة (٢٢١ هـ) وأُمّه أُمّ ولد اسمها مخارق ، اختاره القوّاد بعد موت المنتصر ، ثم تنكّر له الأتراك لمّا نفى باغر التركي الذي فتك بالمتوكل ، وقتل وصيفاً وبُغا .

ولهذا خافهم وانحدر من سامراء إلى بغداد ، فأرسلوا إليه يعتذرون ويخضعون له ويسألونه الرجوع فامتنع ، فقصدوا الحبس وأخرجوا المعتز وبايعوه وخلعوا المستعين ، ثم جهّز جيشاً كثيفاً لمحاربة المستعين واستعد أهل بغداد للقتال مع المستعين .

الثورات في عصره

لم يدم حكم المستعين سوى أربع سنوات وأشهر ، وقد تميّزت فترة حكمه بالاضطرابات التي تعود إلى قوّة الأتراك وضعفه أمامهم ، كما تعود إلى الظلم والإجحاف بالأمة إلى جانب تنازع العباسيين على السلطة ، وإليك فهرساً بما وقع في أيام حكمه من وثبات وثورات :

١ ـ وثبة في الأردن بقيادة رجل من لخم .

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء : ٤١٧ ، ٤١٨ .

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤١٩ .

(٣) تاريخ الخلفاء : ٤١٩ .

٩٩

٢ ـ وثب في حمص أهلها بعاملهم كيدر الاشروسني .

٣ ـ وثبة الجند في سامراء وضربة لأوتاش التركي وهو أحد القادة .

٤ ـ وثبة المعرّة بقيادة القصيص وهو يوسف بن إبراهيم التَّنوخي .

٥ ـ وثبة الجند بفارس بعاملهم الحسين بن خالد .

٦ ـ وثبة إسماعيل بن يوسف الجعفري الطالبي في المدينة .

فوقعت بينهما وقعات ودام القتال أشهراً وغلت الأسعار وعظم البلاء وانحل أمر المستعين ؛ فسعوا في الصلح على خلعه ، وقام في ذلك إسماعيل القاضي وغيره بشروط مؤكّدة ، فخلع المستعين نفسه في أوّل سنة اثنتين وخمسين ومائتين وأشهد عليه القضاة وغيرهم فأُحدِر إلى واسط فأقام بها تسعة أشهر محبوساً موكلاً به أمينٌ ثم رُدّ إلى سامراء وأرسل المعتز إلى أحمد بن طولون أن يذهب إلى المستعين فيقتله فقال : والله لا أقتل أولاد الخلفاء ، فندب له سعيد الحاجب فذبحه في ثالث شوال من السنة وله إحدى وثلاثون سنة(١) .

المعتز (٢٥٢ ـ ٢٥٥ هـ)

هو محمد بن المتوكل ، ولد سنة (٢٣٢ هـ) ، بُويع له وعمره تسع عشرة سنة ، ولم يل الخلافة قبله أحد أصغر منه ، وهو أوّل خليفة أحدث الركوب بحلية الذهب ، فقد كان الخلفاء قبله يركبون بالحلية الخفيفة من الفضّة كان المعتز مستضعفاً من قِبل الأتراك وأُلعوبة بأيديهم وأوّل سنة تولّى فيها السلطة مات اشناس الذي كان الواثق قد استخلفه على السلطة وخلف خمسمائة ألف دينار ، فأخذها المعتز وخلع خلعة الملك على محمد بن عبد الله بن طاهر ، وقلّده سيفين ، ثم عزله وخلع خلعة الملك على أخيه وتوّجه بتاج من ذهب وقلنسوة مجوهرة ، ووشاحين مجوهرين وقلّده سيفين ، ثم عزله من عامه ونفاه إلى واسط ، وخلع على بغا الشرابي وألبسه تاج الملك فخرج على المعتز بعد سنة فقتل وجيء إليه برأسه .

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٥٨ ـ ٣٥٩ .

١٠٠