اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)

اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)25%

اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 221

اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 221 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 125405 / تحميل: 7025
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)

اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الاستدعاء ، وإلاّ فلِم هذا التفتيش الذي يكشف عن وجود سوء ظن بالإمامعليه‌السلام بعد تلك الوشايات ؟! وخرجعليه‌السلام بولده الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام وهو صبي مع يحيى بن هرثمة متوجّهاً نحو العراق واتبعه بريحة مشيّعاً فلمّا صار في بعض الطريق قال له بريحة : قد علمت وقوفك على أنّي كنت السبب في حملك وعليّ حلف بأيمان مغلّظة : لئن شكوتني إلى أمير المؤمنين أو أحد من خاصته وأبنائه لأجمّرنّ نخلك ولأقتلنّ مواليك ولأعورنّ عيون ضيعتك ولأفعلنّ ولأصنعنّ ، فالتفت إليه أبو الحسن فقال له : إنّ أقرب عرضي إيّاك على الله البارحة وما كنت لأعرضنك عليه ثم لأشكوك إلى غيره من خلقه .

قال : فانكبّ عليه بريحة وضرع إليه واستعفاه فقال له : قد عفوت عنك(١) .

وأهم الإشارات ذات الدلالة في هذه الرواية : أنّ المتوكل أمر يحيى بن هرثمة برعاية الإمامعليه‌السلام وعدم التشديد عليه ، وقد بلغ ذلك بريحة وخشي أن يشتكيه الإمام للمتوكل ، فتوعّد الإمام فعمد الإمامعليه‌السلام إلى تركيز مفهوم إسلامي وهو مسألة الارتباط بالله سبحانه ، فإنّه هو الذي ينفع ويضر ويدفع عن عباده ؛ لذا أجاب الإمامعليه‌السلام بريحة بأنّه قد شكاه إلى الله تعالى قبل يوم من سفره وأنّ الإمامعليه‌السلام ليس في نيّته أن يشتكي بريحة عند الخليفة ممّا اضطرّ بريحة أن يعتذر من الإمامعليه‌السلام ويطلب العفو منه ، فهو يعرف منزلة الإمام وآبائهعليهم‌السلام وصلتهم الوثيقة بالله سبحانه ، فأخبره الإمامعليه‌السلام بأنّه قد عفى عنه ، وكان الإمام يدرك أبعاد سلوك الخليفة إزاءه وما يرمي إليه من تفتيش داره وإشخاصه من المدينة إلى سامراء ، وإبعاده عن أهله ومواليه ومن ثمّ

ــــــــــــــ

(١) إثبات الوصية : ١٩٦ ـ ١٩٧ .

٨١

وضعه تحت الرقابة المشدّدة ومعرفة الداخلين على الإمام المرتبطين به ؛ وبالتالي ضبط كل حركات الإمامعليه‌السلام وتحرّكات قواعده ، فوجودهعليه‌السلام في المدينة يعني بالنسبة للخليفة تمتّع الإمامعليه‌السلام بحرية في التحرّك ، فضلاً عن سهولة وتيسّر سبل الاتصال به من قِبل القواعد الموالية للإمامعليه‌السلام .

وقد كان الإمامعليه‌السلام في كل تحرّكاته وحتى في كتبه ووصاياه إلى شيعته يتصف باليقظة والحذر ، ومن هنا كانت الوشايات به تبوء بالفشل ، وحينما كانت تكبس داره ـ كما حصل ذلك مراراً ـ لا يجد جلاوزة السلطان فيها غير كتب الأدعية والزيارات والقرآن الكريم ، حتى حينما تسوّروا عليه الدار لم يجدوه إلاّ مصلّياً أو قارئاً للقرآن .

وقال ابن الجوزي : إنّ السبب في إشخاص الإمامعليه‌السلام من المدينة إلى سامراء ـ كما يقول علماء السّير ـ هو أنّ المتوكل كان يبغض عليّاً أمير المؤمنينعليه‌السلام وذريّته وخشي تأثيره في أهل المدينة وميلهم إليه(١) .

وهذا التعليل ينسجم مع كل تحفّظات الإمامعليه‌السلام تجاه السلطان .

الإمام في طريقه إلى سامراء

وحاول ابن هرثمة في الطريق إحسان عِشرة الإمامعليه‌السلام وكان يرى من الإمامعليه‌السلام الكرامات التي ترشده إلى عظمة الإمام ومكانته وحقيقة أمره ، وتوضح له الجريمة التي يرتكبها في إزعاج الإمامعليه‌السلام والتجسّس عليه .

عن يحيى بن هرثمة قال : رأيت من دلائل أبي الحسن الأعاجيب في طريقنا ، منها : أنّا نزلنا منزلاً لا ماء فيه ، فأشفينا دوابنا وجمالنا من العطش على

ــــــــــــــ

(١) تذكرة الخواص : ٣٢٢ .

٨٢

التلف ، وكان معنا جماعة وقوم قد تبعونا من أهل المدينة ، فقال أبو الحسن : كأنّي أعرف على أميال موضع ماء .

فقلنا له : إن نشطت وتفضّلت عدلت بنا إليه وكنّا معك فعدل بنا عن الطريق .

فسرنا نحو ستة أميال فأشرفنا على واد كأنّه زهو الرياض فيه عيون وأشجار وزروع وليس فيها زرّاع ولا فلاّح ولا أحد من الناس ، فنزلنا وشربنا وسقينا دوابّنا وأقمنا إلى بعد العصر ، ثم تزوّدنا وارتوينا وما معنا من القرب ورحنا راحلين فلم نبعد أن عطشت .

وكان لي مع بعض غلماني كوز فضّة يشده في منطقته وقد استسقيته فلجلج لسانه بالكلام ونظرت فإذا هو قد أنسى الكوز في المنزل الذي كنّا فيه فرجعت أضرب بالسوط على فرس لي ، جواد سريع واغد السير حتى أشرفت على الوادي ، فرأيته جدباً يابساً قاعاً محلاً لا ماء ولا زرع ولا خضرة ورأيت موضع رحالنا وروث دوابنا وبعر الجمال ومناخاتهم والكوز موضوع في موضعه الذي تركه الغلام فأخذته وانصرفت ولم أعرفه شيئاً من الخبر .

فلمّا قربت من القطر والعسكر وجدتهعليه‌السلام ينتظرني فتبسّم ولم يقل لي شيئاً ولا قلت له سوى ما سأل من وجود الكوز ، فأعلمته أنّي وجدته .

قال يحيى : وخرج في يوم صائف آخر ونحن في ضحو وشمس حامية تحرق فركب من مضربه وعليه ممطر وذنب دابته معقود وتحته لبد طويل .

فجعل كل مَن في العسكر وأهل القافلة يضحكون ويقولون هذا الحجازي ليس يعرف الري ، فسرنا أميالاً حتى ارتفعت سحابة من ناحية القبلة وأظلمت وأضلتنا بسرعة وأتى من المطر الهاطل كأفواه القرب فكدنا نتلف وغرقنا حتى جرى الماء من ثيابنا إلى أبداننا وامتلأت خفافنا وكان أسرع وأعجل من أن يمكن أن نحط ونخرج اللبابيد ، فصرنا شهرة ومازالعليه‌السلام يتبسّم تبسّماً ظاهراً تعجّباً من أمرنا .

قال يحيى : وصارت إليه في بعض المنازل امرأة معها ابن لها أرمد العين ولم تزل تستذل وتقول معكم رجل علوي دلّوني عليه حتى يرقى عين ابني هذا .

٨٣

فدللناها عليه ، ففتح عين الصبي حتى رأيتها ولم أشكّ أنّها ذاهبة فوضع يده عليها لحظة يحرّك شفتيه ثم نحّاها فإذا عين الغلام مفتوحة صحيحة ما بها علّة(١) .

ومرّ الركب ببغداد ـ في طريقه إلى سامراء ـ فقابل ابن هرثمة واليها إسحاق بن إبراهيم الطاهري فأوصاه بالإمامعليه‌السلام خيراً واستوثق من حياته بقوله : يا يحيى إنّ هذا الرجل قد ولده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمتوكل مَن تعلم ، وإن حرّضته على قتله كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خصمك فأجابه يحيى : والله ما وقفت له إلاّ على كل أمر جميل(٢) .

وحين وصل الركب إلى سامراء بدأ ابن هرثمة بمقابلة وصيف التركي ـ وهو ممّن كان يشارك في تنصيب الخليفة وعزله ومناقشته في أعماله ـ وممّا قاله وصيف ليحيى : والله لئن سقطت من رأس هذا الرجل ـ ويقصد به الإمام الهاديعليه‌السلام ـ شعرة لا يكون المطالب بها غيري .

قال ابن هرثمة : فعجبت من قولهما وعرّفت المتوكّل ما وقفت عليه من حسن سيرته وسلامة طريقه وورعه وزهادته وأنّي فتّشت داره فلم أجد فيها غير المصاحف وكتب العلم ، وإنّ أهل المدينة خافوا عليه ، فأحسن جائزته وأجزل برّه(٣) .

ــــــــــــــ

(١) إثبات الوصية : ٢٢٥ .

(٢) مروج الذهب : ٤/٨٥ .

(٣) مروج الذهب : ٤/٨٥ ، وتذكرة الخواص : ٣٥٩ .

٨٤

غير أنّ هذا الإكرام الذي ادّعاه ابن هرثمة يتنافى مع ما أمر به المتوكل من حجب الإمامعليه‌السلام عنه في يوم وروده إلى سامراء ، ويزيد الأمر إبهاماً وتساؤلاً هو أمره بإنزال الإمامعليه‌السلام في مكان متواضع جدّاً يُدعى بخان الصعاليك(١) .

قال صالح بن سعيد : دخلت على أبي الحسنعليه‌السلام فقلت له : جعلت فداك في كل الأمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك حتى أنزلوك هذا الخان الأشنع ، خان الصعاليك(٢) .

وليس ببعيد أن تكون الصورة التي نقلها يحيى للمتوكل عن الإمامعليه‌السلام ومدى نفوذ شخصيّته حتى عند الولاة والقوّاد مدعاةً للضغط على الإمام عليه‌السلام ، والسعي للتضييق الحقيقي عليه من خلال الحيلولة بينه وبين ارتباطه بقواعده وإن كان ذلك بالتظاهر بالإكرام كما نراه في النص الذي نُقل عن يحيى ، ولا يغيب عن مثل يحيى مدى كره المتوكل لآل أبي طالب بشكل عام وللإمام الهادي عليه‌السلام بشكل خاص .

الإمامعليه‌السلام في سامراء

إنّ حجب المتوكل للإمام الهاديعليه‌السلام لدى وروده والأمر بإنزاله في خان الصعاليك لو لاحظناه مع ما جاء في رسالة المتوكل للإمام الهاديعليه‌السلام يحمل بين طيّاته صورة واضحة من نظرة المتوكل إلى الإمامعليه‌السلام ، فهو لا يأبى من تحقير الإمام وإذلاله كلّما سنحت له الفرصة ولكنّه كان يحاول التعتيم على ما يدور في قرارة نفسه ؛ ولهذا أمر بعد ذلك بإفراد دار له فانتقل إليها .

ــــــــــــــ

(١) الإرشاد : ٣١٣ ـ ٣١٤ .

(٢) الكافي : ١/٤٩٨ .

٨٥

مع العلم بأنّ المتوكل هو الذي كان قد استدعى الإمامعليه‌السلام وكان يعلم بقدومه عليه ، ولابد أن يكون قد استعد لذلك .

وعلى أيّة حال فالذي يبدو من سير الأحداث أنّ المتوكل حاول بكل جهده ليكسب ودّ الإمام ويورّطه فيما يشتهي من القبائح التي كان يرتكبها المتوكل .

وحاول المتوكل غير مرّة إفحام الإمامعليه‌السلام بالرغم من أنّه كان يضطر إلى الالتجاء إليه حين كان يعجز علماء البلاط أو وعّاظ السلاطين عن تقديم الأجوبة الشافية في الموارد الحرجة .

وإليك جملة من هذه الموارد :

١ ـ إنّ نصرانياً كان قد فجر بامرأة مسلمة فأراد المتوكل أن يقيم عليه الحد فأسلم فقال ابن الأكثم : قد هدم إيمانه شركه وفعله وقال بعضهم يضرب ثلاثة حدود وقال آخرون غير ذلك ، فأمر المتوكل بأن يكتب إلى الإمام الهاديعليه‌السلام وسؤاله عن ذلك فلمّا قرأ الكتاب ، كتب :يضرب حتى يموت فأنكر ابن الأكثم وسائر فقهاء العسكر وطالبوا الإمام بالحجّة من الكتاب والسنّة فكتبعليه‌السلام :بسم الله الرحمن الرحيم : ( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ) .

فأمر المتوكل فضرب حتى مات(١) .

٢ ـ وحين نذر المتوكل أن يتصدّق بمال كثير واختلف الفقهاء في تحديد المال الكثير ، أشار عليه أحد ندمائه بالسؤال من الإمامعليه‌السلام قائلاً : ألا تبعث إلى هذا الأسود فتسأله عنه ؟ فقال له المتوكل : مَن تعني ؟ ويحك ! فقال له : ابن الرضا .

ــــــــــــــ

(١) الكافي : ٧/٢٣٨ .

٨٦

فقال له : وهو يحسن من هذا شيئاً ؟ فقال : إن أخرجك من هذا فلي عليك كذا وكذا وإلاّ فاضربني مائة قرعة فبعث مَن يسأل له ذلك من الإمام فأجاب الإمام بأنّ الكثير ثمانون .

فلما سُئل عن دليل ذلك أجاب قائلاً :( ولقد نصركم الله في مواطن كثيرة ) فعددناها فكانت ثمانين(١) .

إنّ هذا التنكّر من المتوكّل للإمامعليه‌السلام أو هذا التعجّب من أنّه قادر على الإجابة وقد عرفنا موارد منها ليشير إلى مدى حقد المتوكل وتعمّده في تسقيط الإمامعليه‌السلام أمام الآخرين ولكنّه لم يفلح حتى أنّه كان يبادر للتعتيم الإعلامي على فضائل الإمامعليه‌السلام ومناقبه ، كما نرى ذلك بعد ردّه على أسئلة ابن الأكثم حيث قال ابن الأكثم للمتوكل : ما نحب أن تسأل هذا الرجل عن شيء بعد مسائلي هذه وإنّه لا يرد عليه شيء بعدها إلاّ دونها وفي ظهور علمه تقوية للرافضة(٢) .

٣ ـ ومن جملة القضايا التي حاول إحراج الإمام فيها قضية زينب الكذّابة حيث أمر الإمامعليه‌السلام بالنزول إلى بركة السباع .

قال أبو هاشم الجعفري : ظهرت في أيام المتوكل امرأة تدّعي أنّها زينب بنت فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال المتوكّل : أنت امرأة شابة وقد مضى من وقت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما مضى من السنين ، فقالت : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسح عليّ وسأل الله أن يردّ عليّ شبابي في كل أربعين سنة ، ولم أظهر للناس إلى هذه الغاية فلحقتني الحاجة فصرت إليهم .

فدعا المتوكل مشايخ آل أبي طالب وولد العباس وقريش وعرّفهم حالها فروى جماعة وفاة زينب في سنة كذا ، فقال لها : ما تقولين في

ــــــــــــــ

(١) الكافي : ٧/٤٦٣ .

(٢) المناقب : ٢/٤٤٣ .

٨٧

هذه الرواية ؟ فقالت : كذب وزور ، فإنّ أمري كان مستوراً عن الناس ، فلم يعرف لي حياة ولا موت ، فقال لهم المتوكل : هل عندكم حجّة على هذه المرأة غير هذه الرواية ؟ فقالوا : لا ، فقال : هو بريء من العبّاس إن لا أنزلها عمّا ادّعت إلاّ بحجّة .

قالوا : فأحضر ابن الرضاعليه‌السلام فلعلّ عنده شيئاً من الحجّة غير ما عندنا فبعث إليه فحضر فأخبره بخبر المرأة فقال : كذبت فإنّ زينب توفّيت في سنة كذا في شهر كذا في يوم كذا ، قال : فإنّ هؤلاء قد رووا مثل هذه وقد حلفت أن لا أنزلها إلاّ بحجّة تلزمها .

قال :ولا عليك فهاهنا حجّة تلزمها وتلزم غيرها ، قال : وما هي ؟ قال :لحوم بني فاطمة محرّمة على السباع فأنزلها إلى السباع فإن كانت من ولد فاطمة فلا تضرّها ، فقال لها : ما تقولين ؟ قالت : إنّه يريد قتلي ، قال : فهاهنا جماعة ولد الحسن والحسينعليهما‌السلام فأنزل من شئت منهم ، قال : فو الله لقد تغيّرت وجوه الجميع ، فقال بعض المبغضين : هو يحيل على غيره لم لا يكون هو ؟ فمال المتوكل إلى ذلك رجاء أن يذهب من غير أن يكون له في أمره صنع فقال : يا أبا الحسن لم لا تكون أنت ذلك ؟ قال : ذاك إليك قال : فافعل ، قال : أفعل .

فأُتي بسلّم وفتح عن السباع وكانت ستة من الأسد ، فنزل أبو الحسن إليها فلمّا دخل وجلس صارت الأسود إليه فرمت بأنفسها بين يديه ، ومدّت بأيديها ، ووضعت رؤوسها بين يديه فجعل يمسح على رأس كل واحد منها ، ثم يشير إليه بيده إلى الاعتزال فتعتزل ناحية حتى اعتزلت كلّها وأقامت بإزائه .

فقال له الوزير : ما هذا صواباً فبادر بإخراجه من هناك ، قبل أن ينتشر خبره فقال له : يا أبا الحسن ما أردنا بك سوءاً وإنّما أردنا أن نكون على يقين ممّا قلت فأُحب أن تصعد ، فقام وصار إلى السلّم وهي حوله تتمسّح بثيابه .

٨٨

فلمّا وضع رجله على أوّل درجة التفت إليها وأشار بيده أن ترجع ، فرجعت وصعد فقال :كلّ مَن زعم أنّه من ولد فاطمة فليجلس في ذلك المجلس ، فقال لها المتوكّل : انزلي ، قالت : الله الله ادّعيتُ الباطل ، وأنا بنت فلان حملني الضرّ على ما قلت ، قال المتوكلّ : ألقوها إلى السباع ، فاستوهبتها والدته(١) .

إنّ هذه المواقف من الإمامعليه‌السلام لم تكن لتثني المتوكل عمّا كان يراوده من الضغط على الإمام عليه‌السلام ومحاولة تسقيطه وعزله عن عامة الناس وخواص أتباعه وكان رصده للإمام عليه‌السلام لا يشفي غليله فكان يفتّش دار الإمام عليه‌السلام بشكل مستمر وكان ذلك واحداً من أساليبه لإهانة الإمام عليه‌السلام أو طريقاً للعثور على مستمسك يسوّغ له الفتك بالإمام عليه‌السلام .

تفتيش دار الإمامعليه‌السلام

لم تحقّق وسائل السلطة ـ في التضييق على الإمام ومراقبته ـ أهدافها في ضبط بعض القضايا التي تؤكّد صحّة الوشايات بالإمام ، فكثيراً ما سعى بعض المتزلّفين للخليفة بالإمامعليه‌السلام وأوغروا صدره ضد الإمامعليه‌السلام واخبروا الخليفة كذباً وزوراً بأنّ لديه السلاح وتُجبى إليه الأموال من الأقاليم ، إلى غيرها من الأكاذيب التي كانت تدفع بالخليفة إلى إرسال جنده وبعض قوّاده إلى دار الإمامعليه‌السلام وتفتيشها ، ثم استدعاء الإمامعليه‌السلام إلى بلاط المتوكل الذي كان ثملاً على مائدة شرابه ، حتى أنّ المتوكل الثمل بعد أن أعظم الإمام وأجلسه إلى جانبه ناوله الكأس .

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٥٠/١٤٩ .

٨٩

فقال له الإمامعليه‌السلام :يا أمير المؤمنين ما خامر لحمي ودمي قط فأعفني فأعفاه .

ثم قال له المتوكل : أنشدني شعراً .

فأجابه الإمامعليه‌السلام :إنّي لقليل الرواية للشعر .

فقال له المتوكل : لا بد من ذلك .

فانشده الإمامعليه‌السلام الأبيات التالية :

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم

غلب الرجال فما أغنتهم القُلَلُ

واستنزلوا من بعد عِزٍّ من معاقلهم

فأودعوا حفراً يا بئس ما نزلوا

ناداهم صارخٌ من بعد ما قُبروا

أين الأسرّة والتيجان والحللُ

أين الوجوه التي كانت منعّمةً

من دونها تضرب الأستار والكللُ

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم

تلك الوجوه عليها الدود يقتتلُ

قد طال ما أكلوا دهراً وما شربوا

فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكلوا

فبكى المتوكل ، ثم أمر برفع الشراب وقال : يا أبا الحسن أعليك دين ؟ قال :نعم أربعة آلاف دينار ، فدفعها إليه ورده إلى منزله مكرّماً .

ومرّة أخرى حين مرض المتوكل من خُرّاج خرج به وأشرف منه على الهلاك ، فلم يجسر أحدٌ أن يمسّه بحديدة ، فنذرت أُمّه إن عوفي أن تحمل إلى أبي الحسن عليّ بن محمد مالاً جليلاً من مالها وقال له الفتح بن خاقان : لو بعثت إلى هذا الرجل فسألته فإنّه لا يخلو أن يكون عنده صفة يفرّج بها عنك. فبعث إليه ووصف له علّته ، فرّد إليه الرّسول بأن يؤخذ كسب الشاة فيداف بماء ورد فيوضع عليه فلمّا رجع الرّسول فأخبرهم أقبلوا يهزؤون من قوله ، فقال له الفتح : هو والله أعلم بما قال ، وأُحضر الكسبُ وعمل كما قال ووضع عليه فغلبه النوم وسكن ، ثم انفتح وخرج منه ما كان فيه وبُشّرت أُمه بعافيته ، فحملت إليه عشرة آلاف دينار تحت خاتمها .

ثم استقلّ من علّته فسعى إليه البطحائي العلوي بأنّ أموالاً تحمل إليه وسلاحاً ، فقال لسعيد الحاجب : اهجم عليه باللّيل وخذ ما تجد عنده من الأموال والسلاح واحمله إليّ ، قال إبراهيم بن محمّد : فقال لي سعيد الحاجب : صرت إلى داره بالليل ومعي سلّم فصعدت السطح ، فلمّا نزلت على بعض الدرج في الظلمة لم أدر كيف أصل إلى الدار .

٩٠

فناداني : يا سعيد مكانك حتى يأتوك بشمعة ، فلم ألبث أن أتوني بشمعة فنزلت فوجدته عليه جبّة صوف وقلنسوة منها وسجّادة على حصير بين يديه ، فلم أشكّ أنّه كان يصلّي ، فقال لي : دونك البيوت ، فدخلتها وفتّشتها فلم أجد فيها شيئاً ووجدت البدرة في بيته مختومة بخاتم اُمّ المتوكل وكيساً مختوماً وقال لي : دونك المصلّى ، فرفعته فوجدت سيفاً في جفن غير ملبّس ، فأخذت ذلك وصرت إليه .

فلمّا نظر إلى خاتم أُمّه على البدرة بعث إليها فخرجت إليه ، فأخبرني بعض خدم الخاصّة أنّها قالت له : كنت قد نذرت في علّتك لمّا آيست منك إن عوفيت حملت إليه من مالي عشرة آلاف دينار فحملتها إليه وهذا خاتمي على الكيس وفتح الكيس الآخر فإذا فيه أربعمائة دينار .

فضمّ إلى البدرة بدرة أخرى وأمرني بحمل ذلك إليه فحملته ورددت السيف والكيسين وقلت له : يا سيّدي عزّ عليّ ، فقال لي :( وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون ) .

غير أنّ الإمامعليه‌السلام لم يأبه لكل أدوات المراقبة والتضييق عليه ، بل كانت أساليبه أدقّ وكان نفوذه في جهاز السلطة يمكّنه من التحرّك بالشكل الذي يراه مناسباً مع تلك الظروف .

وممّا يعزّز ذلك ما رواه الشيخ الطوسيرضي‌الله‌عنه بإسناده عن محمد بن الفحام : أنّ الفتح بن خاقان قال : قد ذكر الرجل ـ يعني المتوكل ـ خبر مال يجيء من قم ، وقد أمرني أن أرصده لأخبره ، فقلت له ، فقل لي : من أيّ طريق يجيء حتى أجيئه ؟ فجئت إلى الإمام علي بن محمدعليهما‌السلام فصادفت عنده مَن احتشمه فتبسّم وقال لي : لا يكون إلاّ خيراً يا أبا موسى ، لِم لم تعد الرسالة الأولى ؟ فقلت : أجللتك يا سيدي فقال لي : المال يجيء الليلة وليس يصلون إليه فبت عندي .

٩١

فلمّا كان من الليل وقام إلى ورده قطع الركوع بالسلام وقال لي : قد جاء الرجل ومعه المال ، وقد منعه الخادم الوصول إليّ فاخرج وخذ ما معه .

فخرجت فإذا معه زنفِيلجه(١) فيها المال : فأخذته ودخلت به إليه ، فقال : قل له هات المحنقة التي قالت له القمية إنّها ذخيرة جدتها ، فخرجت له فأعطانيها ، فدخلت بها إليه ، فقال لي : قل له الجبة التي أبدلتها منها ردّها إليها فخرجت إليه فقلت له ذلك ، فقال : نعم كانت ابنتي استحسنتها فأبدلتها بهذه الجبة وأنا أمضي فأجيء بها .

فقال : اخرج فقل له : إنّ الله يحفظ ما لنا وعلينا هاتها من كتفك ، فخرجت إلى الرجل فأخرجها من كتفه فغشي عليه ، فخرج إليهعليه‌السلام ، فقال له : قد كنت شاكاً فتيقّنت(٢) .

وفي الرواية دلالات كثيرة لكنّ أهمّ ما يلفت النظر فيها هو : أولاً : إنّ الإمام كان يعرف شكّ السلطة وهو آخذ حذره ومستيقظ ومتأهّب للأمر ; لذا أجاب مَن سأله عن المال بأنّه سيصل ولا سبيل للمتوكل وجلاوزته عليه ، وفعلاً وصل المال سالماً .

ــــــــــــــ

(١) معرّب : زنبيلچه : زنبيل صغير .

(٢) أمالي الشيخ الطوسي : ٢٧٦ ح ٥٢٨ ، والمناقب : ٤ / ٤٤٤ .

٩٢

ثانياً : إنّ حامل المال إلى الإمامعليه‌السلام كان يُريد أن يختبر الإمامعليه‌السلام أو يبحث عن وسيلة لليقين بإمامتهعليه‌السلام ؛ لذا نجد الإمام يرشد مستلم المال إلى أمور لا يعرفها إلاّ حامله كالجبّة التي كان قد أخفاها تحت كتفه وزادعليه‌السلام الأمر وضوحاً بقوله : أتيقّنت ؟ مشيراً إلى ما كان يكنّه هذا الرجل في نفسه ، وما يروم أن يصل إليه وهو معرفة الإمام بهذه الأمور ، وقد أيقن واطمأن حينما أخبره رسول الإمامعليه‌السلام بما كان يضمره .

ثالثاً : إنّ أنصار الإمامعليه‌السلام وأتباعه كان لهم حضور فاعل في البلاط وهم عيون الإمام بدل أن يكونوا عملاء السلطة .

وفيما يلي من خبر اعتقال الإمامعليه‌السلام أيضاً شواهد أخرى على هذه الحقيقة .

اعتقال الإمام الهاديعليه‌السلام

إنّ المتوكّل بعد رصده الدائم للإمام وتفتيشه المستمر والمتكرّر لدار الإمامعليه‌السلام أمر باعتقال الإمامعليه‌السلام وزجّه في السجن ، فبقي فيه أياماً وجاء لزيارته صقر بن أبي دلف فاستقبله الحاجب وكانت له معرفة به ، كما كان عالماً بتشيّعه ، وبادر الحاجب قائلاً : ما شأنك ؟ وفيم جئت ؟ قال صقر : بخير.

قال الحاجب : لعلّك جئت تسأل عن خبر مولاك ؟ قال صقر : مولاي أمير المؤمنين ( يعني المتوكل ) .

فتبسم الحاجب وقال : اسكت مولاك هو الحق ( يعني الإمام الهاديعليه‌السلام ) فلا تحتشمني فإنّي على مذهبك .

قال صقر : الحمد لله .

فقال الحاجب : تحب أن تراه ؟ قال صقر : نعم .

فقال الحاجب : اجلس حتى يخرج صاحب البريد .

ولمّا خرج صاحب البريد ، التفت الحاجب إلى غلامه فقال له : خذ بيد الصقر حتى تدخله الحجرة التي فيها العلوي المحبوس ، وخلِّ بينه وبينه .

٩٣

فأخذه الغلام حتى أدخله الحجرة وأومأ إلى بيت فيه الإمام ، فدخل عليه الصقر ، وكان الإمام جالساً على حصير وبإزائه قبر محفور قد أمر به المتوكل لإرهاب الإمام ، والتفتعليه‌السلام قائلاً بحنان ولطف :يا صقر ما أتى بك ؟ قال صقر : جئت لأتعرّف على خبرك .

وأجهش الصقر بالبكاء رحمة بالإمام وخوفاً عليه : فقالعليه‌السلام : ( يا صقر لا عليك ، لن يصلوا إلينا بسوء فهدّأ روعه وحمد الله على ذلك ، ثم سأل الإمام عن بعض المسائل الشرعية فأجاب عنها ، وانصرف مودّعاً للإمام (١) ، ولم يلبث الإمام في السجن إلاّ قليلاً ثمّ أطلق سراحه ) .

محاولة اغتيال الإمام الهاديعليه‌السلام

وقد دبّرت السلطة الحاكمة آنذاك مؤامرة لقتل الإمامعليه‌السلام ولكنّها لم تنجح ، فقد روي : أنّ أبا سعيد قال : حدثنا أبو العباس فضل بن أحمد بن إسرائيل الكاتب ونحن بداره بسُرّ مَن رأى فجرى ذكر أبي الحسنعليه‌السلام فقال : يا أبا سعيد أحدثك بشيء حدثني به أبي ؟ قال : كنّا مع المنتصر وأبي كاتبه فدخلنا والمتوكل على سريره فسلّم المنتصر ووقف ووقفت خلفه ، وكان إذا دخل رحّب به وأجلسه ، فأطال القيام وجعل يرفع رجلاً ويضع أخرى وهو لا يأذن له في القعود ورأيت وجهه يتغيّر ساعة بعد ساعة ويقول للفتح بن خاقان : هذا الذي يقول فيه ما تقول ؟ ويرد عليه القول ، والفتح يسكته ويقول : هو مكذوب عليه ، وهو يتلظّى ويستشيط ويقول : والله لأقتلنّ هذا المرائي الزنديق وهو يدّعي الكذب ويطعن في دولتي .

ــــــــــــــ

(١) رواه الصدوق في الخصال : ٣٩٤ ومعالي الأخبار : ١٣٥ وكمال الدين ط النجف الأشرف : ٣٦٥ و ط الغفاري : ٣٨٢ ح٩ ب ٣٧ وعنه الطبرسي في إعلام الورى : ٢/٢٤٥ وعن الخصال وعلل الشرائع في بحار الأنوار : ٥٠/١٩٤ .

٩٤

ثم طلب أربعة من الخزر أجلافاً ودفع إليهم أسيافاً ، وأمرهم أن يقتلوا أبا الحسن إذا دخل ، وقال : والله لأحرقنه بعد قتله ، وأنا قائم خلف المنتصر من وراء الستر ، فدخل أبو الحسن وشفتاه تتحرّكان وهو غير مكترث ولا جازع ، فلمّا رآه المتوكل رمى بنفسه عن السرير إليه ، وانكب عليه يقبّل بين عينيه ويديه ، وسيفه شقه بيده وهو يقول : يا سيدي يا بن رسول الله يا خير خلق الله يا بن عمّي يا مولاي يا أبا الحسن .

وأبو الحسنعليه‌السلام يقول :أعيذك يا أمير المؤمنين من هذا .

فقال : ما جاء بك يا سيدي في هذا الوقت ؟ قال :جاءني رسولك .

قال : كذب ابن الفاعلة .

فقال له : ارجع يا سيدي ، يا فتح يا عبيد الله يا منتصر شيّعوا سيّدكم وسيدي ، فلمّا بصر به الخزر خرّوا سجّداً ، فدعاهم المتوكل وقال : لِمَ لم تفعلوا ما أمرتكم به ؟ قالوا : شدّة هيبته ، ورأينا حوله أكثر من مائة سيف لم نقدر أن نتأمّلهم ، وامتلأت قلوبنا من ذلك .

٩٥

فقال : يا فتح هذا صاحبك وضحك في وجهه .

وقال : الحمد لله الذي بيّض وجهه وأنار حجّته(١) .

إنّ هذا النص قد كشف لنا بوضوح عن كل نوازع المتوكل التي تدور حول القتل والحرق للإمامعليه‌السلام فضلاً عن الاتّهام بالزندقة والطعن في دولته .

والمتوكّل بعد كل هذه المحاولات التي باءت بالفشل لم يهدأ له بال وهو يريد إذلال الإمامعليه‌السلام بأيّ نحوٍ كان ، من هنا بادر في يوم الفطر ـ وفي السنة التي قُتل فيها ـ إلى الأمر بالترجّل والمشي بين يديه قاصداً بذلك أن يترجّل الإمام الهادي عليه‌السلام بين يديه ، فترجّل الإمام عليه‌السلام كسائر بني هاشم واتكأ على رجل من مواليه فأقبل عليه الهاشميون وقالوا : يا سيّدنا ما في هذا العالم أحد يستجاب دعاؤه ويكفينا الله به من تعزّر هذا ؟ قال لهم أبو الحسن عليه‌السلام : في هذا العالم مَن قلامة ظفره أكرم على الله من ناقة ثمود ، لمّا عقرت الناقة صاح الفصيل إلى الله تعالى ، فقال الله سبحانه : ( تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) (٢) .

دعاء الإمامعليه‌السلام على المتوكّل

والتجأ الإمام أبو الحسن الهاديعليه‌السلام إلى الله تعالى ، وانقطع إليه ، وقد

ــــــــــــــ

(١) الخرائج والجرائح : ١/٤١٧ ـ ٤١٩ ح ١ ب ١١ وعنه في كشف الغمّة : ٣/١٨٥ .

(٢) بحار الأنوار : ٥٠/٢٠٩ .

٩٦

دعاه بالدعاء الشريف الذي عُرف ( بدعاء المظلوم على الظالم ) وهو من الكنوز المشرقة عند أهل البيت عليهم‌السلام (١) .

هلاك المتوكّل

واستجاب الله دعاء وليّه الإمام الهاديعليه‌السلام ، فلم يلبث المتوكل بعد هذا الدعاء سوى ثلاثة أيام حتى هلك .

وتم ذلك باتفاق المنتصر ابن المتوكل مع مجموعة من الأتراك حيث هجم الأتراك على المتوكل ليلة الأربعاء المصادف لأربع خلون من شوّال (٢٤٧ هـ) يتقدّمهم باغر التركي وقد شهروا سيوفهم ، وكان المتوكل ثملاً سكراناً ، وذعر الفتح بن خاقان فصاح بهم : ويلكم أمير المؤمنين ؟! فلم يعتنوا به ورمى بنفسه عليه ليكون كبش الفداء له إلاّ أنّه لم يغنِ عن نفسه ولا عنه شيئاً ، وأسرعوا إليهما فقطّعوهما إرباً إرباً ، بحيث لم يعرف لحم أحدهما من الآخر ـ كما يقول بعض المؤرّخين ـ ودُفنا معاً .

وبذلك انطوت أيام المتوكّل الذي كان من أعدى الناس لأهل البيتعليهم‌السلام .

وخرج الأتراك ، وكان المنتصر بانتظارهم فسلّموا عليه بالخلافة وأشاع المنتصر أنّ الفتح بن خاقان قد قتل أباه ، وأنّه أخذ بثأره فقتله ، ثم أخذ البيعة لنفسه من أبناء الأسرة العباسية وسائر قطعات الجيش .

واستقبل العلويون وشيعتهم النبأ بهلاك المتوكل بمزيد من الابتهاج والأفراح ؛ فقد هلك الطاغية الذي صيّر حياتهم إلى مآسي لا تطاق(٢) .

ــــــــــــــ

(١) مهج الدعوات : ٥٠/٢٠٩ .

(٢) الكامل في التاريخ : ١٠ / ٣٤٩ .

٩٧

المنتصر بالله (٢٤٧ ـ ٢٤٨ هـ)

هو محمّد بن المتوكل بن المعتصم ابن الرشيد ، أُمّه أُمّ ولد رومية اسمها حبشيّة .

بُويع له بعد قتل أبيه في شوّال سنة (٢٤٧ هـ) وخلع أخويه المعتزّ والمؤيد من ولاية العهد وقالوا عنه : إنّه أظهر العدل والإنصاف في الرعيّة فمالت إليه القلوب مع شدّة هيبتهم له ، وكان كريماً حليماً وممّا نُقل عنه قوله : لذّة العفو أعذب من لذّة التشفّي وأقبح أفعال المقتدر الانتقام .

ولكنّه لم يمتّع بالخلافة إلاّ أشهراً معدودة دون ستة أشهر .

وقال الثعالبي : ومن العجائب أنّ أعرق الأكاسرة في الملك ـ وهو شيرويه ـ قتل أباه فلم يعش بعده إلاّ ستة أشهر وأعرق الخلفاء في الخلافة ـ وهو المنتصر ـ قتل أباه فلم يمتّع بعده سوى ستة أشهر(١) .

المنتصر والعلويين

وكان المنتصر ليّناً مع العلويين المظلومين في عهد أبيه ، فعطف عليهم ووجّه بمال فرّقه عليهم وكان يؤثر مخالفة أبيه في جميع أحواله ومضادّة مذهبه طعناً عليه ونصرة لفعله(٢) .

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء : ٣٥٦ ـ ٣٥٨ .

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٩٦ ونحوه في تاريخ الخلفاء : ٤١٧ .

٩٨

وكان محسناً لآل أبي طالب حيث رفع عنهم ما كانوا فيه من الخوف والمحنة بمنعهم من زيارة قبر الحسينعليه‌السلام ورد على آل الحسين فدكاً فقال يزيد المهلّبي في ذلك :

ولقد بررت الطالبية بعدما

ذمّوا زماناً بعدها وزمانا

ورددت ألفة هاشم فرأيتهم

بعد العداوة بينهم إخوانا(١)

يقول أبو الفرج عنه : وكان المنتصر يظهر الميل إلى أهل البيتعليهم‌السلام ويخالف أباه في أفعاله فلم يجر منه على أحد منهم قتل أو حبس أو مكروه(٢) .

ولمّا ولي المنتصر صار يسب الأتراك ويقول : هؤلاء قتلة الخلفاء فعملوا عليه وهمّوا به فعجزوا عنه ؛ لأنّه كان مهيباً شجاعاً فطناً متحرّزاً فتحيّلوا إلى أن دسّوا إلى طبيبه ابن طيفور ثلاثين ألف دينار في مرضه فأشار بفصده ثم فصده بريشة مسمومة فمات(٣) .

المستعين (٢٤٨ ـ ٢٥٢ هـ)

هو أحمد بن المعتصم بن الرشيد فهو أخو المتوكّل ، ولد سنة (٢٢١ هـ) وأُمّه أُمّ ولد اسمها مخارق ، اختاره القوّاد بعد موت المنتصر ، ثم تنكّر له الأتراك لمّا نفى باغر التركي الذي فتك بالمتوكل ، وقتل وصيفاً وبُغا .

ولهذا خافهم وانحدر من سامراء إلى بغداد ، فأرسلوا إليه يعتذرون ويخضعون له ويسألونه الرجوع فامتنع ، فقصدوا الحبس وأخرجوا المعتز وبايعوه وخلعوا المستعين ، ثم جهّز جيشاً كثيفاً لمحاربة المستعين واستعد أهل بغداد للقتال مع المستعين .

الثورات في عصره

لم يدم حكم المستعين سوى أربع سنوات وأشهر ، وقد تميّزت فترة حكمه بالاضطرابات التي تعود إلى قوّة الأتراك وضعفه أمامهم ، كما تعود إلى الظلم والإجحاف بالأمة إلى جانب تنازع العباسيين على السلطة ، وإليك فهرساً بما وقع في أيام حكمه من وثبات وثورات :

١ ـ وثبة في الأردن بقيادة رجل من لخم .

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء : ٤١٧ ، ٤١٨ .

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤١٩ .

(٣) تاريخ الخلفاء : ٤١٩ .

٩٩

٢ ـ وثب في حمص أهلها بعاملهم كيدر الاشروسني .

٣ ـ وثبة الجند في سامراء وضربة لأوتاش التركي وهو أحد القادة .

٤ ـ وثبة المعرّة بقيادة القصيص وهو يوسف بن إبراهيم التَّنوخي .

٥ ـ وثبة الجند بفارس بعاملهم الحسين بن خالد .

٦ ـ وثبة إسماعيل بن يوسف الجعفري الطالبي في المدينة .

فوقعت بينهما وقعات ودام القتال أشهراً وغلت الأسعار وعظم البلاء وانحل أمر المستعين ؛ فسعوا في الصلح على خلعه ، وقام في ذلك إسماعيل القاضي وغيره بشروط مؤكّدة ، فخلع المستعين نفسه في أوّل سنة اثنتين وخمسين ومائتين وأشهد عليه القضاة وغيرهم فأُحدِر إلى واسط فأقام بها تسعة أشهر محبوساً موكلاً به أمينٌ ثم رُدّ إلى سامراء وأرسل المعتز إلى أحمد بن طولون أن يذهب إلى المستعين فيقتله فقال : والله لا أقتل أولاد الخلفاء ، فندب له سعيد الحاجب فذبحه في ثالث شوال من السنة وله إحدى وثلاثون سنة(١) .

المعتز (٢٥٢ ـ ٢٥٥ هـ)

هو محمد بن المتوكل ، ولد سنة (٢٣٢ هـ) ، بُويع له وعمره تسع عشرة سنة ، ولم يل الخلافة قبله أحد أصغر منه ، وهو أوّل خليفة أحدث الركوب بحلية الذهب ، فقد كان الخلفاء قبله يركبون بالحلية الخفيفة من الفضّة كان المعتز مستضعفاً من قِبل الأتراك وأُلعوبة بأيديهم وأوّل سنة تولّى فيها السلطة مات اشناس الذي كان الواثق قد استخلفه على السلطة وخلف خمسمائة ألف دينار ، فأخذها المعتز وخلع خلعة الملك على محمد بن عبد الله بن طاهر ، وقلّده سيفين ، ثم عزله وخلع خلعة الملك على أخيه وتوّجه بتاج من ذهب وقلنسوة مجوهرة ، ووشاحين مجوهرين وقلّده سيفين ، ثم عزله من عامه ونفاه إلى واسط ، وخلع على بغا الشرابي وألبسه تاج الملك فخرج على المعتز بعد سنة فقتل وجيء إليه برأسه .

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٥٨ ـ ٣٥٩ .

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

ما طبكم »(1) .

وقد احتوى « نهج البلاغة » على طائفة كبيرة من خطب الامام تدل على استيائه البالغ ، وحزنه العميق من تخاذل جيشه وعدم استجابتهم لنصرته حتى ملأوا قلبه غيظا وجرعوه نغب التهمام انفاسا ـ على حد تعبيره ـ وبقي سأمهم من الحرب وكراهيتهم للجهاد مستمرا طيلة أيام أمير المؤمنين. ولما آل الأمر إلى الحسن (ع) ظهر ذلك بأبشع الصور فانه لما عرض عليهم دعوة معاوية للصلح ارتفعت أصواتهم وهم يهتفون :

« البقية البقية ».

ودل ذلك على مدى جزعهم من الحرب ، وكراهيتهم للجهاد ، وانهم لم يكونوا بأي حال مع الإمام لو فتح باب الحرب مع معاوية.

ج ـ فقد القوى الواعية :

ومما سبب تفلل الجيش العراقي فقده للقوى الواعية من أعلام الإسلام الذين آمنوا بحق أهل البيت (ع) وعرفوا فضلهم ، وكان الجيش بجميع كتائبه يكن لهم أعمق الولاء والتقدير لأنهم من خيار المسلمين ومن الذين أبلوا في الإسلام بلاء حسنا ، وكان لهم شأن كبير فى تنظيم الحركة العسكرية ، وفي توجيه الجيش في خدمة الأهداف الإسلامية ، وهم أمثال الصحابي العظيم عمار بن ياسر ، والقائد الملهم هاشم المرقال ، وثابت بن قيس ، وذو الشهادتين ونظائرهم من الذين سبقوا إلى الإسلام والإيمان ، وقد طحنتهم حرب صفين وقد أحصى رواة الأثر عدد البدرين منهم فكانوا ثلاثا وستين بدريا ، وهناك كوكبة أخرى من أبرار الصحابة وخيارهم قد استشهدوا فى تلك الحروب التي أثارها الطامعون والمنحرفون عن الإسلام ضد وصي رسول الله (ص)

__________________

(1) نهج البلاغة محمد عبده 1 / 70.

١٢١

وباب مدينة علمه ، وقد ترك فقدهم فراغا هائلا في الجيش العراقي فقد خسر الضروس والرءوس ، وبلي من بعدهم بالمنافقين والخوارج الذين كانوا سوسة تنخر فى كيانه ، ولو ضم جيش الإمام أمثال أولئك الأبرار لما التجأ إلى الصلح والموادعة مع خصمه.

د ـ الدعوة إلى الصلح :

ومما سبب ضعف العزائم ، وإخماد نار الثورة في نفوس الجيش دعوة معاوية إلى الصلح وحقن الدماء ، فقد كانت هذه الدعوى لذيذة مقبولة إلى حد بعيد ، فقد استطابها البسطاء والسذج ورحب بها عملاء معاوية وأذنابه من الذين ضمهم جيش الإمام ، ولم تكن الاكثرية الساحقة في الجيش تعلم بنوايا معاوية وما يبيته لهم من الشر فانخدعوا بدعوته إلى الصلح كما انخدعوا من قبل في رفع المصاحف ، مضافا لذلك خيانة زعمائهم ، والتحاقهم بمعسكر معاوية.

وعلى أي حال فقد رحبت أكثرية الجيش بالدعوة إلى الصلح وآثرت السلم على الحرب ، ولم يكن في استطاعة الامام أن يرغمهم على مناجزة معاوية ومقاومته.

ه ـ خيانة عبيد الله :

ويعتبر خذلان عبيد الله بن العباس من العوامل المهمة التي سببت تفكك الجيش وتخاذله ، فقد طعن بخيانته الجيش العراقي طعنة نجلاء ، وفتح باب الخيانة والغدر ، ومهد السبيل للالتحاق بمعاوية ، وقد وجد ذوو النفوس الضعيفة مجالا واسعا للغدر بخيانتهم للإمام ، فاتخذوا من غدر عبيد الله وسيلة لذلك فهو ابن عم الامام وأقرب الناس إليه ، وقديما قد قيل :

إذا فاتك الادنى الذي أنت حزبه

فلا عجب إن أسلمتك الاباعد

١٢٢

وقد أولد غدر عبيد الله في نفس الامام حزنا بالغا وأسى مريرا ، فانه لم يرع « الدين ، ولا الوتر ، ولا العنعنات القبلية ، ولا الرحم الماسة من رسول الله (ص) ، ولا من قائده الاعلى ، ولا الميثاق الذي واثق الله عليه في البيعة منذ كان أول من دعا الناس إلى بيعة الحسن في مسجد الكوفة ، ولا الخوف من حديث الناس ، ونقمة التاريخ ».

و ـ رشوات معاوية :

وبالأموال تشترى ذمم الرجال ، وتباع الأوطان ، وتخمد الافكار ، وتسيل لها لعاب الابطال ، وقد عمد معاوية إلى بذلها بسخاء إلى الوجوه والاشراف والزعماء فانه لم ير وسيلة للتغلب على الاحداث إلا بذلك ، فغدروا بالامام ، وتسللوا إليه في غلس الليل وفى وضح النهار غير حافلين بالعار والخزي وعذاب الله ، وقد أدت خيانتهم إلى اضطراب الجيش وتفلله ، وإعلانه للعصيان والتمرد.

إن الاكثرية الساحقة من الجيش لم يكن لها أي هدف نبيل. وإنما كانت تسعى نحو المنافع والاطماع ، وقد أدلى بعضهم بذلك في بعض المعارك فقال :

« من أعطانا الدراهم قاتلنا معه ».

وهجا بعض الشعراء شخصا قتل في تلك المعارك يقول لابنائه :

ولا فى سبيل الله لاقى حمامه

أبوكم ولكن في سبيل الدراهم(1)

إن الجيش إذا كان مدفوعا بالدوافع المادية فانه لا يخلص في دفاعه ، ولا يؤمن من انقلابه ، وخطره على حكومته أعظم من الخطر الخارجي.

لقد بلغ من فساد العراقيين وجشعهم فى الحصول على أموال معاوية

__________________

(1) الطبري 2 / 19.

١٢٣

ان الإمام الحسن لما نزل بالمدائن للاستشفاء من جرحه في دار سعد بن مسعود الثقفي(1) وكان واليا على المدائن من قبل أمير المؤمنين (ع) وأقره الإمام الحسن عليها أقبل إليه ابن اخيه المختار ـ على ما قيل ـ وكان آنذاك غلاما فقال له :

« يا عم هل لك في الغنى والشرف؟ ».

« وما ذاك؟ ».

« توثق الحسن وتستأمن به إلى معاوية! ».

فانبرى إليه عمه وقد لسعه قوله قائلا :

« عليك لعنة الله أثب على ابن بنت رسول الله فاوثقه بئس الرجل أنت »(2) .

ولم يكن المختار وحده ـ على تقدير صحة هذه الرواية ـ قد غمره هذا الشعور بالخيانة ، فقد غمر ذلك أكثرية الجيش الذي كان مع الإمام ، فقد تسابقوا إلى مطامع الدنيا ، وليس ذلك في زمان الحسن (ع) وانما كان في زمان أمير المؤمنين (ع) فقد قال الإمام زين العابدين (ع) « إن عليا كان يقاتله معاوية بذهبه »(3) ان معاوية عرف نقطة الضعف في جيش

__________________

(1) سعد بن مسعود الثقفي ذكره البخاري في الصحابة ، وقال الطبراني : له صحبة ، ولاه أمير المؤمنين (ع) على بعض أعماله. واستصحبه معه إلى صفين ، وروى عنه أنه قال : كان نوح إذا لبس ثوبا حمد الله ، وإذا أكل وشرب حمد الله ، فلذا سمي عبدا شكورا ، الاصابة 2 / 34.

(2) الطبري ، والاصابة ، ونفى بعض المحققين صحة الخبر وجعله من الموضوعات ، ولا يبعد ذلك لأن المختار من خيرة الرجال في هديه وورعه وسائر نزعاته

(3) خطط المقريزي 2 / 439.

١٢٤

الإمام فأغدف عليهم بالرشوات حتى استجابوا له وتركوا عترة نبيهم ووديعته في أمته.

ز ـ الاشاعات الكاذبة

ومما سبب انحلال الجيش الاشاعات الكاذبة التي أذاعها عملاء معاوية فى ( المدائن ) بأن قيس بن سعد قد قتل ، واشاعوا أخرى بأنه قد صالح معاوية ، وقد اعتقد الجيش بصحة هذه الأنباء فارتطم بالفتن والاختلاف وأعظم هذه الدعايات بلاء وأشدها فتكا هي ما بثّه الوفد الذي أرسله معاوية للإمام ، فانه لما خرج منه أخذ يفتري عليه بأنه قد أجابهم إلى الصلح ، وحينما سمعوا بذلك اندفعوا كالموج فنهبوا أمتعته ، واعتدوا عليه ، ولو كانت عند الزعماء والوجوه صبابة من الانسانية والكرامة لقاموا بحماية الامام ، ورد الغوغاء عنه حتى يتبين لهم الأمر ، ولكنهم أقاموا في ثكناتهم العسكرية ولم يقوموا بحمايته ونجدته.

إلى هنا ينتهي بنا الحديث عن العوامل التي أدت إلى تفكك الجيش والقضاء على اصالته ، ومن البديهي ان القوى العسكرية قلب الدولة ومصدر حمايتها فاذا أصيبت بمثل هذه الزعازع والأخطار فهل يتمكن القائد الاعلى أن يحقق أهدافه أو يفتح باب الحرب مع القوى المعادية له؟!.

2 ـ قوة العدو :

العامل الثاني الذي دعى الامام إلى المصالحة والمسالمة هو ما يتمتع به خصمه من القوى العسكرية وغيرها التي لا طاقة للإمام على مناجزتها ، ولا قابلية له للوقوف أمامها ، حتى استطاع معاوية أن يناجز أمير المؤمنين من قبل ويرغم الامام الحسن على الصلح ، ونقدم عرضا لبعضها وهي :

١٢٥

أ ـ طاعة الجيش :

وغرس معاوية حبه في قلوب جيشه ، وهيمن على مشاعرهم وعواطفهم فقد عرف ميولهم واتجاههم فسايرها حتى أحبهم وأحبوه وصاروا طوع إرادته وقد اختمر في أذهانهم بسبب دعايته وتمويهه أنه الحجة من بعد الخلفاء ، وان النبي (ص) ليس له وارث شرعي غير بني أمية فقد نقل المؤرخون أن أبا العباس السفاح(1) لما فتح الشام أقبلت إليه طائفة من الزعماء والوجوه فحلفوا له أنهم ما علموا للرسول قرابة ، ولا أهل بيت يرثونه غير بني أمية حنى تولى بنو العباس الخلافة ، وفى ذلك يقول ابراهيم بن المهاجر البجلي(2) :

أيها الناس اسمعوا أخبركم

عجبا زاد على كل العجب

عجبا من عبد شمس إنهم

فتحوا للناس أبواب الكذب

ورثوا أحمد فيما زعموا

دون عباس بن عبد المطلب

كذبوا والله ما نعلمه

يحرز الميراث إلا من قرب(3)

ويعود السبب في ذلك إلى الروايات التي تعمد وضعها الرواة المستأجرون وأشاعوها في أوساط دمشق من أن معاوية هو وارث النبيّ وأقرب الناس

__________________

(1) أبو العباس أول خلفاء بني العباس ولد سنة (108) بالحمية من ناحية البلقاء ، ونشأ بها ، وبويع له بالكوفة في 3 ربيع الاول سنة (132) وكان سريعا إلى سفك الدماء ، وسار على منواله عماله بالمشرق والمغرب ، توفى بالجدري سنة (136) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 100.

(2) ابراهيم بن المهاجر البجلي : هو أبو اسحاق الكوفي روى عن جماعة من الثقات وروى عنه آخرون اختلف فى روايته فقيل إنه ثقة وقيل إنه ضعيف ، تهذيب التهذيب 1 / 167.

(3) مروج الذهب 2 / 335.

١٢٦

إليه وقد أفاضوا عليه وعلى الشجرة الملعونة من اسرته النعوت الحسنة والاوصاف الشريفة حتى جعلوهم فى الرعيل الأول من المصلحين الاخيار وأصبحت طاعتهم فرضا من فروض الدين ، واعتقدوا فيه وفي بني أمية أكثر من ذلك يقول الاستاذ ( فان فلوتن ) : « وكان السواد الاعظم يرى في حزب بني أمية حزب الدين والنظام » وقال : « وكان معاوية فى نظر الحزب الاموي خليفة الله كما كان ابنه يزيد إمام المسلمين ، وعبد الملك إمام الاسلام وأمين الله »(1) وبلغ من ودهم وطاعتهم له أنه كان يسلك بهم جميع المسالك البعيدة التي تتنافى مع الدين حتى استطاع أن يحقق بهم جميع ما يصبو إليه ، ونظرا لمزيد طاعتهم له تمنى أمير المؤمنين أن يصارفه معاوية بأصحابه فيعطيه واحدا منهم ويأخذ عشرة من العراقيين الذين عرفوا بالشغب والتمرد.

ب ـ بساطة وسذاجة :

وأتاح الزمن الهزيل إلى معاوية أن يسيطر على جيش كان مثالا للسذاجة والبساطة فلم يعرف الاكثر منهم أي طرفيه أطول وقد احتفظ التأريخ بصور كثيرة من بلاهتهم تدل على مدى خمولهم وعدم نباهتهم ، فقد ذكر المؤرخون أن رجلا من أهل الكوفة قدم على بعير له إلى دمشق حال منصرفهم من صفين فتعلق به رجل من أهل دمشق قائلا له :

« هذه ناقتي أخذت مني بصفين ».

وحدث بينهما نزاع حاد فرفعا أمرهما إلى معاوية وأقام الدمشقي بينة على دعواه تتألف من خمسين رجلا يشهدون انها ناقته فقضى معاوية على الكوفى وأمره بتسليم البعير إليه فورا ، فالتفت إليه العراقي متعجبا من هذا

__________________

(1) السيادة العربية ص 70.

١٢٧

الحكم قائلا :

« أصلحك الله إنه جمل وليس بناقة! ».

« حكم قد مضى ».

ولما انفض الجمع أمر معاوية باحضار العراقي فلما مثل عنده سأله عن ثمن البعير فاخبره به فدفع إليه ضعفه وبرّ به وأحسن إليه ثم قال له :

« أبلغ عليا أني أقابله بمائة الف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل »(1) .

ان خمسين رجلا منهم لا يفرقون بين الناقة والجمل ، وليس من شك أن الاكثرية الساحقة منهم لا يميزون بين الحق والباطل ولا يتدبرون الفرق بين المحسوسات همج رعاع لا تفكير لهم ولا تدبر ، وأدل دليل على غفلتهم قصة الصحابي العظيم عمار بن ياسر حينما نال الشهادة فوقع الاختلاف فيما بينهم لقول النبي (ص) « ان ابن سمية تقتله الفئة الباغية » ولما رأى ابن العاص الخلاف قد دب فيهم قال لهم إن الذي قتله من أخرجه فصدقوا قوله ورجعوا إلى طاعة معاوية ومن الطبيعي ان الدولة إذا ظفرت بمثل هذا الجند المطيع الغافل توصلت الى غاياتها وتحقيق أهدافها.

وأبقى معاوية أهل الشام على غفلتهم يتخبطون في دياجير الجهالة ويسرحون في ميادين الشقاء رازحين تحت نير الاستعباد الاموي قد وضع بينهم وبين الناس حجابا حديديا فلم يسمح للغير أن يتصل بهم ولم يسمح لهم بالاتصال بالغير لئلا تتبلور أفكارهم ويقفون على الحقيقة فيتبين لهم باطل معاوية وابتزازه للخلافة من أهلها.

__________________

(1) مروج الذهب 2 / 332.

١٢٨

ج ـ اتفاق الكلمة :

ذكرنا فى بحوثنا السابقة ما منى به العراق من الاختلاف والتفكك بسبب الأحزاب التي كانت تعمل على زعزة كيان الدولة الهاشمية وتحطيم عروشها وعلى العكس من ذلك كانت الشام فانها بجميع طبقاتها لم تبتل بتلك الأحزاب ولم تصب بالافكار المعادية للحكم القائم فقد كان السلام والوئام والهدوء مخيما على دمشق وجميع ملحقاتها ولم يكن في الجيش ولا في المملكة وكر للخوارج ولا دعاة لهم ولا لغيرهم ممن يعملون على قلب الحكم ، وهذا الاتفاق الداخلي هو السبب في قوة معاوية واتساع نطاقه ونفوذه.

د ـ ضخامة القوى العسكرية :

وانفق معاوية جميع جهوده المعنوية والمادية فى إصلاح جيشه وتقويته فانه لما منيت الشام بخطر الروم بادر فعقد هدنة مؤقتة مع ملكها ودفع إليه أموالا خطيرة ولم يفتح معه باب الحرب لئلا تضعف أعصاب جيشه ومضافا إلى ذلك فانه لم يستعمله في الفتوح والحروب ، فلم يكن قد ولج به حربا غير صفين فكان محتفظا بنشاطه وقوته.

وبالإضافة لجيشه الذي كان مقيما معه في دمشق فانه لما عزم على حرب الإمام الحسن كتب إلى عماله وولاته في جميع الأقطار يطلب منهم النجدة والاستعداد الكامل لحرب ريحانة رسول الله (ص) ، وفى فترات قصيرة التحقت به قوى هائلة ضخمة فضمها إلى جيوش أهل الشام ، وزحف إلى العراق بجيش جرار كامل العدد حسن الهيئة موفور القوة ، مطيع لأمره فرأى الإمام الحسن (ع) أنه لا يتمكن على مقابلته ولا يستطيع أن يحاربه بجيشه المتخاذل الذي تسوده الخيانة والغدر.

١٢٩

ه ـ حاشيته :

ومضافا إلى ما كان يتمتع به معاوية من القوى العسكرية فقد ظفر بقوة أخرى لها أثرها الفعال فى تقوية جبهته وتوجيهه وتدبير شؤنه وهي انضمام المحنكين والسياسيين إليه طمعا بماله ودنياه ، وهم كالمغيرة بن شعبة الذي قيل في حيلته ودهائه « لو كان المغيرة في مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج منها إلا بالمكر والخداع لخرج المغيرة من أبوابها كلها. » وقيل فى عظيم مكره « كان المغيرة لا يقع في أمر إلا وجد له مخرجا ، ولا يلتبس عليه أمران إلا أظهر الرأي في أحدهما » ومن حاشيته عمرو بن العاص الذي كان قلعة من المكر والباطل ، وقد قيل في وصفه « ما رأيت أغلب للرجال ولا أبذلهم حين يجتمعون من عمرو بن العاص » وهو في طليعة من رفع علم الثورة على عثمان لأنه عزله عن منصبه ، وكان يثير عليه حفائظ النفوس ويحفز القريب والبعيد لمناجزته وقال فى ذلك : « والله لألقى الراعي فاحرضه على عثمان فضلا عن الرؤساء والوجوه » ولما بلغه مقتله قال : « أنا أبو عبد الله ما نكأت قرحة إلا أدميتها » وهو الذي خدع الجيش العراقي برفع المصاحف ، فتركه ممزق الأوصال ، مختلف الأهواء.

لقد جذب معاوية هؤلاء الدهاة الماكرين الذين يخلطون السم بالعسل ، ويلبسون الباطل لباس الحق ، ولم يتحرجوا من الاثم والمنكر في سبيل نزعاتهم الشريرة ، ولم يكن لهم هدف إلا القضاء على ذرية النبيّ (ص) ومن يمت إليهم من صالحاء المسلمين ليتسنى لهم القضاء على الإسلام حتى يمعنوا في التحلل حيثما شاءوا ، وقد وقف الإمام الحسن (ع) معهم في صلحه أحزم موقف يتخذه المفكرون فقد حفظ ذرية رسول الله (ص) وحقن دماء المؤمنين من شيعته لأن التضحية في ذلك الوقت لا يمكن بأي حال من الأحوال

١٣٠

أن تعود بالصالح العام للمسلمين لأنهم يضفون عليها أصباغا من التمويه والتظليل ما تفقد به معنويتها وأصالتها.

و ـ ضخامة الأموال :

ويسر لمعاوية من الثراء العريض الذي مهدته له بلاد الشام طيلة ملكه لها فانه لم ينفقها فى صالح المسلمين وانما شرى بها الضمائر والاديان ، ليمهد بذلك الطريق الموصل لفوزه بالإمرة والسلطان والتحكم في رقاب المسلمين. لقد وجه معاوية الجباة السود إلى أخذ الضرائب من الشعوب الإسلامية التي احتلها ، وقد عمدوا إلى أخذ أموال المسلمين بغير حق ، حتى بالغوا في إرهاقهم وإرغامهم على أدائها ، كما فرض عليهم من الضرائب ما لا يقره الإسلام كهدايا النيروز وغيرها ، وقد امتلأت خزائنه بها فأنفقها بسخاء على حرب ريحانة رسول الله (ص) والتغلب عليه ، وقد رأى السبط بعد هذه القوى التي ظفر بها ابن هند أنه لا يمكن مناجزته ، ولا الانتصار عليه ، وان الموقف يقضي بالصلح والمسالمة لا بالحرب والمناجزة فانها تجر للأمة من المضاعفات السيئة ما لا يعلم خطورتها إلا الله.

3 ـ اغتيال أمير المؤمنين :

ومن العوامل التي دعت الإمام الى الصلح ما روع به من اغتيال أبيه ، فقد ترك ذلك حزنا مقيما وأسى شديدا في نفسه لأنه قد قتل على غير مال احتجبه ولا سنة في الإسلام غيرها ، ولا حق اختص به دونهم ، وكان يحيى بينهم حياة الفقراء والضعفاء ، ويتطلب لهم حياة حافلة بالنعم والخيرات ، ويسعى جادا فى اقامة العدل ، واماتة الجور ، ونصرة المظلومين واعالة الضعفاء والمحرومين ، فعمدوا على اغتياله وتركوه صريعا في محرابه

١٣١

لم يحافظوا حرمته ، ولا حرمة رسول الله (ص) فيه وقد رأى الإمام الحسن (ع) بعد ارتكابهم لهذه الجريمة النكراء أنه لا يمكن إصلاحهم ، وإرجاعهم الى طريق الحق والصواب ، فتنكر منهم ، وزهد في ولايتهم ، وقد أدلى (ع) بذلك بقوله :

« وقد زهدني فيكم اغتيالكم أبي ».

حقا أن يكون اغتيال الامام أمير المؤمنين (ع) رائد العدالة الاجتماعية الكبرى من الأسباب الوثيقة التي زهدت الامام الحسن في ذلك الشعب الجاهل الذي غمرته الفتن والأطماع ، وانحرف عن الطريق القويم.

4 ـ حقن الدماء :

ومن دواع الصلح رغبة الإمام الملحة في حقن دماء المسلمين ، وعدم اراقتها ، ولو فتح باب الحرب مع معاوية لضحى بشيعته وأهل بيته ، ويجتث بذلك الإسلام من أصله ، وقد صرح (ع) بذلك في جوابه عن دوافع صلحه فقال :

« إني خشيت أن يجتث المسلمون عن وجه الأرض فأردت أن يكون للدين ناعي »

وأجاب (ع) بعض الناقمين عليه من شيعته فى الصلح فقال : « ما أردت بمصالحتي معاوية إلا أن أدفع عنكم القتل »(1) . وأعرب في خطابه الذي ألقاه في المدائن عن مدى اهتمامه في دماء المسلمين فقد جاء فيه.

« أيها الناس. إن الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية إنما هو حق أتركه لإصلاح أمر الأمة ، وحقن دمائها. »(2)

__________________

(1) الدينوري ص 303.

(2) أعيان الشيعة 4 / 42.

١٣٢

ومن حيطته ورعايته لذلك أنه أوصى أخاه الحسين حينما وافاه الأجل المحتوم أن لا يهرق في أمره ملء محجمة دما. »

إن أحب شيء للإمام (ع) الحفاظ على دماء المسلمين ، ونشر الأمن والوئام فيما بينهم ، وقد بذل في سبيل ذلك جميع جهوده ومساعيه.

5 ـ منة معاوية :

لقد علم الإمام (ع) أنه إن حارب معاوية فان اجلاف العراقيين وأوباشهم سوف يسلمونه أسيرا الى معاوية وأغلب الظن انه لا يقتله بل يخلي عنه ويسجل له بذلك مكرمة وفضيلة ويسدي يدا بيضاء على عموم الهاشميين ويغسل عنه العار الذي لحقه من أنه طليق وابن طليق ، وقد صرح الحسن (ع) بهذه الخاطرة قائلا :

« والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلما ، والله لئن أسالمه وأنا عزيز ، أحب إليّ من أن يقتلنى وأنا أسير أو يمن عليّ فتكون سبة على بني هاشم الى آخر الدهر ولمعاوية لا يزال يمن بها هو وعقبه على الحي منّا والميت. »

وهذا السبب له مكانته من التقدير فان الإمام أراد أن لا يسجل لخصمه أي فضيلة ومكرمة.

6 ـ حوادث المدائن :

ومن جملة الأسباب التي دعت الامام الى الصلح هي الحوادث القاسية التي لاقاها في المدائن ، وقد ذكرناها مشفوعة بالتفصيل وخلاصتها.

أ ـ خيانة الزعماء والوجوه واتصالهم بمعاوية.

١٣٣

ب ـ الحكم عليه بالتكفير من قبل الخوارج.

ج ـ اغتياله.

د ـ نهب أمتعته.

هذه بعض العوامل التي أدت الامام الى السلم ، وفيما نعلم انها تلزم بالصلح وعدم فتح أبواب الحرب.

7 ـ الحديث النبوي :

نظر النبي (ص) الى الحوادث الآتية من بعده فرآها بعينها وحقيقتها لا بصورها وأشكالها ، رأى أمّته ستخيم عليها الكوارث ، وتنصب عليها الفتن والخطوب ، حتى تشرف على الهلاك والدمار ، وإن إنقاذها مما هي فيه من الواقع المرير سيكون على يد سبطه الأكبر ، وريحانته من الدنيا الامام الحسن (ع) فأرسل كلمته الخالدة قائلا :

« إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين عظيمتين »(1) .

وانطبع هذا الحديث في أعماق الامام الحسن وفي دخائل ذاته منذ نعومة أظفاره ، وتمثل أمامه في ذلك الموقف الرهيب ، « وإنه ليطمئن الى قول جده كما يطمئن الى محكم التنزيل وها هو ذا جده العظيم يقول له : وكأن صوته الشريف يرن بعذوبته المحببة في أذنه ، ويقول لأمّه الطاهرة البتول ، ويقول على منبره ، ويقول بين أصحابه ، ويقول ما لا يحصى كثرة : إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين ».

وزادت هذه الذكرى تفاعلا شديدا في نفسه فقد رأى ما عناه

__________________

(1) تقدمت مصادر الحديث في الجزء الأول من هذا الكتاب ص 81.

١٣٤

جده (ص) في ( المدائن ) رأى طائفتين :

( إحداهما ) شيعته وهم من خيار المسلمين ، وصالحائهم من الذين وقفوا على أهداف الاسلام ، وعرفوا حقيقته وواقعه.

( الثانية ) اتباع معاوية من السذج والبسطاء والمنحرفين عن الاسلام ، وهؤلاء وإن كانوا بغاة قد خرجوا على إمام زمانهم ولكنهم يدعون الاسلام وهاتان الطائفتان إن دارت رحى الحرب فانها ستطحن الكثير منهم وبذلك يتضعضع كيان الاسلام وتنهار قواه ، ومن يصد عن المسلمين العدو الرابض الذي يراقب الأحداث ليثب عليهم ، ومن هو يا ترى حريص على رعاية الاسلام والحفاظ على المسلمين غير سبط النبي ووارثه ، فاثر الصلح على ما فيه من قذى في العين ، وشجى في الحلق ، ويذهب شمس الدين الصقلي ( المتوفى سنة 565 ه‍ ) الى أن الباعث لخلع الحسن نفسه عن الخلافة حديث النبي (ص) في ذلك(1) .

وزعم الرواة ان النبي (ص) كان يحدث أصحابه عن عمر الخلافة الاسلامية فقال لهم : « إن الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم تكون ملكا. » ولاحظوا أن في مصالحة الحسن لمعاوية قد كملت الثلاثون سنة حسب ما يقولون(2) .

__________________

(1) أنباء نجباء الأبناء ص 56.

(2) البداية والنهاية 8 / 41 ، وعندي أن هذا الحديث من الموضوعات لأن الخلافة قد صارت ملكا عضوضا في أيام عثمان فهو الذي حولها عن مفاهيمها الخلاقة وآثر الأمويين في الحكم والأموال وأتاح لهم من القوى ما هيأهم لمنازعة أمير المؤمنين ، وقد تحدث النبي (ص) عما يئول إليه الأمر من بعده فقال : « إن أول دينكم بدء نبوة ورحمة ، ثم يكون ملكا وجبرية » رواه السيوطي ـ

١٣٥

نظر الحسن (ع) الى قول جده (ص) فعلم أن الأمر لا بد أن ينتقل الى معاوية ، ومضافا لذلك فقد أخبره أبوه بذلك كما حدث عنه فقال :

« قال لي أبي ذات يوم : كيف بك يا حسن إذا ولي هذا الأمر بنو أميّة؟ وأميرها الرحب البلعوم ، الواسع الاعفجاج ، يأكل ولا يشبع ، فيستولي على غربها وشرقها ، تدين له العباد ، ويطول ملكه ، ويسن البدع والضلال ، ويميت الحق وسنة رسول الله (ص) ، يقسم المال في أهل ولايته ، ويمنعه عمن هو أحق به ، ويذل في ملكه المؤمن ، ويقوى في سلطانه الفاسق ، ويجعل المال بين أنصاره دولا ، ويتخذ عباد الله خولا ، ويدرس في سلطانه الحق ، ويظهر الباطل ، ويقتل من ناوأه على الحق »(1)

إن النبي والوصي قد استشفا من حجاب الغيب ما تمنى به الأمّة الاسلامية من المحن والبلاء بسبب تخاذلها عن مناصرة الحق ومناجزة الباطل وانها من جراء ذلك سيتولى أمرها الأدعياء من الطلقاء وأبنائهم فيسومونها سوء العذاب ، ويستأثرون بمال الله ، ويتخذون المسلمين عبيدا لهم وخولا.

وكان معاوية يعلم بمصير الأمر إليه في زمان أمير المؤمنين (ع) فقد صنع فذلكة استعلم بها منه عما يؤول إليه أمره ، فبعث جماعة من أصحابه الى الكوفة ليشيعون أن معاوية قد مات ، فبلغ ذلك أمير المؤمنين ، وتكرر حديث الناس حول هذه الاشاعة فقال (ع).

« قد أكثرتم من نعي معاوية ، والله ما مات ، ولا يموتن حتى يملك

__________________

ـ في تأريخ الخلفاء ص 6 ، وقد تحقق قوله (ص) فان الدين أول بدئه كان نبوة ورحمة ، ثم تحول في زمان الأمويين الى ملك وطغيان وجبرية.

(1) البحار

١٣٦

ما تحت قدمي. »(1)

ولما بلغه ذلك اعتقد به لعلمه أن الامام هو باب مدينة علم النبي (ص) ومستودع سره ، وان قوله لا يتخلف عن الواقع ولا يخطئ الحق.

ومهما يكن الأمر فان الامام الحسن (ع) بصلحه مع معاوية قد لقبه المسلمون بالمصلح العظيم ، وقد أفاض عليه هذا اللقب جده الرسول من قبل.

8 ـ العصمة :

وذكرت طائفة من العلماء الأعلام صلح الامامعليه‌السلام فعللته بالعصمة وان الامام المعصوم لا يرتكب الخطأ ولا يفعل إلا ما فيه الخير والصلاح لجميع الأمّة ولعل الوجوه التي ذكرناها قد كشفت عن مناط هذا القول وأوضحت حسنه وذلك للأسباب والعوامل التي أحاطت بالامام حتى دعته الى الصلح ، ونشير الى بعض الذاهبين الى هذا القول وهم :

1 ـ الشريف المرتضى :

قال الشريف المرتضى علم الهدى(2) رحمه‌الله : « إنه ( يعني الحسن )

__________________

(1) مروج الذهب 2 / 295.

(2) الشريف المرتضى : هو علي بن الحسين ينتهي نسبه الوضاح الى امام المسلمين موسى بن جعفرعليه‌السلام ، كانت له نقابة الطالبيين لقب بالمرتضى وعلم الهدى كانت ولادته في سنة ( 355 هج ) ووفاته في سنة (436) ، وكان أكبر من أخيه الشريف الرضي. قال أبو جعفر الطوسي : قد توحّد المرتضى في علوم كثيرة وكان مجمعا على فضله ومقدما في العلوم كعلم الكلام والفقه وأصول الفقه والأدب وغير ذلك وله ديوان شعر يزيد على عشرة آلاف بيت وله مؤلفات كثيرة في مختلف الفنون جاء ذلك في معجم الأدباء 13 / 146.

١٣٧

قد ثبت انه المعصوم المؤيد بالحجج الظاهرة ، والأدلة القاهرة ، فلا بد من التسليم لجميع أفعاله وإن كان فيها ما لا يعرف وجهه على التفصيل أو كان له ظاهر نفرت منه النفوس »(1) .

2 ـ السيد ابن طاوس :

وعلل نابغة الإسلام السيد الجليل ابن طاوس طيب الله مثواه(2) في وصيته لولده صلح الإمام بالعصمة وببعض الأسباب التي ذكرناها قالرحمه‌الله يخاطب ولده :

« وليس بغريب من قوم عابوا جدك الحسن على صلح معاوية وهو كان بأمر جده وقد صالح جده الكفار وكان عذره في ذلك أوضح

__________________

(1) تنزيه الأنبياء ص 69.

(2) السيد ابن طاوس : هو السيد الجليل الكامل العابد المجاهد رضي الدين أبو القاسم على بن موسى بن جعفر بن طاوس الحسني الحسيني ، لقب بالطاوس من جهة حسن وجهه وخشونة رجليه ، وكان من سكنة الحلة ، وهو من السادة المعظمين ، ومن النقباء وله مؤلفات كثيرة ، وقد ذكر جميع مناقبه وعلومه الحجة الثبت السيد محمد باقر الخونساري في مؤلفه روضات الجنات 3 / 43 ـ 47 وجاء في الكنى والألقاب 1 / 328 ان السيد تولى نقابة الطالبيين وكان يجلس فى قبة خضراء والناس تقصده وقد لبسوا لباس الخضرة بدل السواد وذلك عقيب وقعة بغداد ، وفي ذلك يقول علي بن حمزة :

فهذا علي نجل موسى بن جعفر

شبيه علي نجل موسى بن جعفر

فذاك بدست للامامة أخضر

وهذا بدست للنقابة أخضر

يشير بذلك الى الامام الرضا (ع) لما ولى العهد فقد لبس لباس الخضرة توفى السيد ابن طاوس يوم الاثنين خامس ذي العقدة سنة ( 664 هج ).

١٣٨

الأعذار فلما قام أخوه الحسين بنصرهم وإجابة سؤالهم وترك المصالحة ليزيد المارق كانوا بين قاتل وخاذل حتى ما عرفنا أنهم غضبوا في أيام يزيد لذلك القتل الشنيع ولا خرجوا عليه ولا عزلوه عن ولايته وغضبوا لعبد الله ابن الزبير وساعدوه على ضلالته وافتضحوا بهذه المناقصة الهائلة وظهر سوء اختيارهم النازلة فهل يستبعد من هؤلاء ضلال عن الصراط المستقيم؟ وقد بلغوا الى هذا الحال السقيم العظيم الذميم »(1) .

وعلل السيدرحمه‌الله صلح الامام ( أولا ) بالعصمة من الخطأ وقاس صلحه بصلح جده الرسول (ص) مع المشركين في قصة الحديبية فكما ان صلح الرسول لا يتطرقه الشك ولا يأتيه النقد نظرا لوجود المصلحة فيه فكذلك صلح الإمام مع خصمه فانه محفوف بالمصلحة العامة لعموم المسلمين و ( ثانيا ) ببلاء الإمام ومحنته بذلك المجتمع الضال الذي لم يقم وزنا للفضيلة ولم يفقه من القيم الروحية شيئا فانه هو الذي اضطر الإمام الى الصلح والمسالمة. وأقام السيد الدليل على تفسخ أخلاق ذلك المجتمع وتماديه في الشر وذلك بمتابعته ليزيد شارب الخمور ، ومعلن الفسق والفجور ، ومناصرته والاشتراك معه في أفظع فظع جريمة سجلها التأريخ وهي قتل سيد شباب أهل الجنة الحسينعليه‌السلام ولم يظهر أحد منهم الأسف والحزن على هذه الجريمة ، وما ثاروا عليه ، ولا عزلوه عن منصبه. وقد ذكرنا في الابحاث السالفة الأسباب التي أوجبت هذا الانحطاط الهائل في جموع أهل العراق.

9 ـ ابراز الواقع الاموي :

كان معاوية قبل أن يستولي على زمام الحكم ملتزما بتعاليم الإسلام

__________________

(1) كشف المحجة لثمرة المهجة يحتوي على وصايا رفيعة لولده ص 46.

١٣٩

ظاهرا ، ويظهر الاهتمام بشئون المسلمين ، ولكن كان ذلك ـ من دون شك ـ رياء منه ومكيدة من باب المشي رويدا لأخذ الصيد ، كان يبطن الكفر والنفاق ويضمر السوء والعداء للمسلمين فأراد الإمام الحسن (ع) بصلحه أن يبرز حقيقته ، ويظهر للناس عاره وعياره ، ويعرفه للذين خدعهم بمظاهره من أنه أعدى عدو للإسلام ، فأخلى له الميدان ، وسلم له الأمر ، فاذا بكسرى العرب ـ كما يقولون ـ تتفجر سياسته الجهنمية بكل ما خالف كتاب الله ، وسنة رسول الله (ص) ، وإذا به يعمد الى فصم عرى الإسلام وإلى نسف طاقاته ، وإلى الإجهاز على القوى الواعية فيه ، فيصب عليها وابلا من العذاب الأليم ، فيعدم وينكّل بمن شاء منها ، ويرغم المسلمين على البراءة من عترة نبيهم ، واعلان سبهم وانتقاصهم على الأعواد والمنابر وبذلك ظهرت خفايا نفسه ، وفهم المسلمون جميعا حقيقة هذا الطاغية وما يبغيه من الغوائل لهم ، ولو لم تكن للصلح من فائدة إلا إظهار ذلك لكفى بها كما نصّ على ذلك الامام كاشف الغطاءرحمه‌الله في مقدمته لهذا الكتاب(1) .

إن معاوية بعد أن آل إليه الأمر حمل معول الهدم على جميع الأسس الاسلامية محاولا بذلك اطفاء نور الاسلام ، ولف لوائه ، ومحو أثره ، وقلع جذوره ، واعادة الحياة الجاهلية الأولى ، وقبل أن نعرض بعض موبقاته ومردياته التي سود بها وجه التأريخ نذكر ما أثر عن أبويه من الحقد والعداء للإسلام. وما ورد من النبي (ص) من الأخبار فى انتقاصه وذمه لنرى هل كان خليقا بأن تسند إليه الامارة ويفرض حاكما على المسلمين ويخلى بينه وبين الحكم يتصرف فيه كيفما يشاء من دون أن يحاسب أو يراقب وإلى القراء ذلك.

__________________

(1) ص 18 ـ 19.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221