الشهادة الثالثة

الشهادة الثالثة14%

الشهادة الثالثة مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 420

الشهادة الثالثة
  • البداية
  • السابق
  • 420 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 108496 / تحميل: 6631
الحجم الحجم الحجم
الشهادة الثالثة

الشهادة الثالثة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

محسوسا لا يلتبس الحال في مثله ولا يدخل فيه الاشتباه، وكون ناقليه بالغين في الكثرة إلى حد لايجوز على مثلهم في العادة التواطؤ فيه والافتعال له أو مايجري مجراهما، مع ارتفاع جميع الاسباب الداعية إلى ذلك، عنهم واستحالتها منهم وتساوي طبقاتهم في ذلك على الوجه المقطوع به إنه لم يكن مختصا بطبقة دون طبقة، ولا بفريق دون فريق، فإذا اختص الخبر بذلك أفاد العلم وأثمر اليقين بمخبره، وسمي لذلك متواترا وإلا فلا.

وصدق جميع أنبياء الله معلوم بإخبار الصادق عنهم، وهو نبينا محمد صلى الله عليه وآله مع ماتضمن الكتاب العزيز من ذكر الانبياء المعينين فيه.

وصدق نبينا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله معلوم بادعائه النبوة، وظهور المعجز مطابقا لادعائه مختصا بجميع شرائطه، فلولا أنه صادق لم يجز ذلك.

ومعجزاته صلى الله عليه وآله وإن كانت كثيرة إلا أن منها: ما هو باق موجود، وهو القرآن الكريم، ووجه الاستدلال به على نبوته، أنه تحدى العرب وقرعهم بالمعجز عن معارضته، ولولا التحدي لم يكن لادعائه وجه، فعجزوا عن المعارضة، مع توفر الدواعي إليها وقوة البواعث عليها، ولولا عجزهم عنها لاتوابها، ولو أتوا لنقلت وظهرت، بل كان نقلها وظهورها أعظم من ظهور القرآن ونقله، لانها كانت حجة لهم بمثلها بقاء جميع ماكانوا فيه من ديانة ورئاسة وغيرهما، فلما لم يعرف لها نقل ولا أشير إلى ذلك بوجه، مع تطاول المدة التي كانوا فيها بها مهتمين، وعلى إثباتها مجتهدين متحيلين، علم بلا شبهة عجزهم عنها، وثبت أنه عائق لعوايدهم(١) لانهم مع ماكانوا فيه من الفصاحة والبلاغة عدلوا

____________________

١ - هكذا في " أ ": وفي غيرها: فارق لعوائدهم.

٤١

عنها إلى ما لا مناسبة بينه وبينها في كلفة ولا مشقة، لان تفاوت مابين المعارضة بالكلام والحروب المفضية إلى المهلك(١) ، التي لم يخطوا فيها ببلوغ غرض ولا مرام، لايخفى عن عاقل، فلولا أن عجزهم خارق العادة لم ينتهوا إلى ذلك ولا كان لانتهائهم إليه وجه، لكونه مخالفا لعوائد العقلاء، وذلك شاهد بصدقه وصحة نبوته من حيث صرفهم الله عن معارضته(٢) بسلبهم العلوم المخصوصة في كل وقت اهتموا فيه بها وتطاولوا إليها، لانه لولا الصرف لم يكن لوقوفهم وخرسهم عند التفرغ لها والطمع بحصولها وجه، إذ كان الكلام البليغ مقدورا لهم، وهم عليه مطبوعون، وبه متطاولون، فما وجه اخلافه لهم وتعذره عليهم في وقت الضطرارهم وحاجتهم إليه لولا ماذكرناه، فإن كانت فصاحة ماتحداهم به أو نظمه أو كلاهما، وجب الفرق بين أفصح كلامهم(٣) وأرتبه، وبين أقصر سور المفصل على وجه يشترك في العلم به كل سامع لهما من مبرز ومقصر، لكونه فرقا بين ممكن ومعجز، فإن من أمحل المحالات أن يفرق بين المتقاربين من لا يفرق بين المتباعدين.

وإذا كان ظهوره على هذا الوجه أو بلوغه في الظهور إلى هذا الحد غير حاصل ولا واقع ثبت أنه لا وجه لاعجاز القرآن إلا الصرفة، وهي خارجة عن مقدور كل قادر بقدرة، لاختصاصه تعالى بالاقتدار عليها على مابيناه من معناها، ومن أنه سبحانه لايجوز عليه تصديق من ليس بصادق وفي ذلك ثبوت صدقه وصحة نبوته صلى الله عليه وآله.

____________________

١ - في " أ ": لان تقارب مابين المعارضة بالكلام والحروب المقتضية إلى المهلك.

٢ - في " أ ": من حيث صرفهم عن معارضته.

٣ - هكذا في " أ ": وفي غيرها: كلامه.

٤٢

ومنها ماليس بباق لتقضيه، وإنما علم بتواتر النقل به، وهو باقي معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم، كتسبيح الحصا(١) وانشقاق القمر(٢) ونبع الماء تارة بغرر سهمه(٣) وأخرى بوضع كفه(٤) ، وحنين الجذع(٥) ، وكلام الذراع(٦) ، ومجيئ الشجرة إليه وعودها إلى موضعها عند أمره لها بذلك(٧) وإشباع الجماعة الكثيرة بالطعام القليل(٨) ، وإخباره بكثير من الغائبات والحوادث المستقبلات(٩) .ويقع الخبر مطابقا لما أخبر، وبابها متسع.

فإن ما أشرنا إليه قطرة من بحر ماله صلى الله عليه وآله منها.

ووجه الاستدلال بها أن فيها ما نطق القرآن به، وفيها ما علم علما لا مجال للشك فيه، وباقيها بإنضمام بعضه إلى بعض، وإتفاقه في دلالة الاعجاز، فلحق بالمتواتر ويفيد مفاده، ولوقوعها على صفة المعجز المعتبر بشرائطه لايتقدر فيها ما ينافيه ويقدح فيه، فأكدت مابيناه من نبوته وصدق دعوته، وببقاء شريعته إلى انقضاء التكليف وتحقيق ثبوتها وجوب كونها ناسخة لما تقدمها من الشرائع، لان العقل لايمنع من جواز النسخ، بل يشهد بحسنه، لكونه طريقا إلى الاعلام بتجدد المصالح التي لا يمكن استعمالها إلا به، ولان التعبد بالاحكام الشرعية تابع

____________________

١ - بحار الانوار ١٧ / ٣٧٩.

٢ - نفس المصدر ص ٣٤٧.

٣ - الغرار: حد الرمح والسيف والسهم.لسان العرب.

٤ - بحار الانوار ١٧ / ٢٨٦.

٥ - نفس المصدر ص ٣٦٥.

٦ - نفس المصدر ص ٢٣٢ و ٢٩٥.

٧ - نفس المصدر ٢٩٧.

٨ - نفس المصدر ٢٣١.

٩ - نفس المصدر ١٨ / ١٠٥ باب معجزاته صلى الله عليه وآله في إخباره بالمغيبات.

٤٣

للمصالح الدينية وبحسبها، وإذا جاز في العقل اختلافها بحسب اختلاف الازمان والمكلفين، فما المانع من النسخ، وهو سبب الاعلام بتجديدها، وبالوصول(١) إلى العلم بها، وبما تعلقت به المصلحة منها، فيكون المنع منه تعويلا على أنه يؤدي إلى البداء باطلا، لانه يخالفه حدا وشرطا، والفرق بينهما ظاهر، ولو كان نسخ الشرائع(٢) بداء أو مؤديا إليه، لزم مثله في كل ماتجدد من أفعاله تعالى، وحصل بعد غيره، كالموت بعد الحياة، والسقم بعد الصحة، والضعف بعد القوة، والغلاء بعد الرخص، وهلم جرا.

وإذا لم يكن في شئ من ذلك مايؤدي إليه، ولا ما يقتضيه، فنسخ الشرائع أولى أن لا يلزم عليها مايؤدى إليه ولا إلى غيره، لتعلق الجميع بداعي الحكمة التي يستحيل منافاتها، وإذا ساغ النسخ عقلا فلا مانع منه شرعا(٣) ، لانه لا حجة لمانعيه فيما احتجوا به من النقل، لكونه من أضعف رواية آحادهم التي لا سبيل لهم إلى تصحيحه، ولا إلى إثبات كونهم متواترين به، للعلم الضروري بارتفاع شروط التواتر عنهم بل استحالتها فيهم، ولو لم يكونوا كذلك كان احتمال ما تشبثوا به من نقلهم للتأويل ولزوم حمله عليه، لئلا يرجع بالقدح على نبوة نبيهم، مسقطا للاحتجاج به ومغنيا عن النظر فيه.

____________________

١ - في " أ ": وبالاصول.

٢ - في " ج ": فسخ الشرائع.

٣ - في " ج ": فلا مانع عليه شرعا.

٤٤

وأما الكلام في ركن الامامة

فإنها واجبة عقلا بشرطين:

أحدهما: بقاء التكليف العقلي، نظرا إلى أن سقوطه مسقط وجوبها.

وثانيهما: ارتفاع العصمة عن المكلفين، نظر إلى غنى المعصوم عن اللطف الذي حاجة من ليس معصوما إليه بالامامة ماسة لابد منه ولا بدل إلا باعتبارهما(١) لان ثبوت اللطف بالرئاسة العقلية على هذين الشرطين ظاهر، وما ثبت اللطف به لايكون إلا واجبا، ولهذا ان وجود الرئيس منبسط اليد مرهوب الجانب نافذ الامر والنهي، محقق التمكين في كل ماهو رئيس فيه(٢) ، لا يخفى كونه مقربا إلى الصلاح، مبعدا عن الفساد، ولا معنى للطف إلى ذلك وعدمه أو عدم تمكنه بانقباض يده أو جحده جملة ينعكس الامر معه بفوات ماوجوده وما يتبعه لطف فيه.فيؤول إلى ظهور المفاسد وفوات المصالح، وهذا معلوم لكل عاقل، خبر العوائد(٣) الزمانية، والاحوال البشرية، فمن أنكره لم يحسن مكالمته بجحده مالا شبهة في مثله، ومن عارضه بما وقع عند رياسة(٤) معينة من فتن ومحن لم تتوجه معارضته عليه ولم يقدح فيه، لانه كلام في جنس الرئاسة لا في تعيينها.وكل واحد منهما منفصل عن الآخر مع أن الواقع عند الاعتبار ليس من

____________________

١ - في " أ ": ولا بدل له باعتبارهما.

٢ - في " أ ": هو رائس فيه.

٣ - في " أ " و " ج ": " حر العوائد " والظاهر أنه تصحيف " خبر " كما أثبتناه في المتن و " خبر " بمعنى " جرب ومارس ".

٤ - في " ج ": عند رياضة.

٤٥

قبل الرئيس بل من مخالفة المرؤوسين له وجهلهم به، فلا ملامة إلا عليهم، وإذا ثبت أن في الرئاسة لطفا، وكان اللطف واجبا بما بيناه متقدما وجبت الامامة في كل زمان من أزمان التكليف، لوجوب الالطاف الدينية التي لا يحسن إلا معها، لكونها شرطا فيه(١) ، ولان مع استقرار الشريعة واستمرارها إلى قيام الساعة يتعين وجوب إزاحة العلة في حفظها بعد أدائها، كحفظها بمن به أدائها في حال الاداء، ولا حافظ لها في الحقيقة إلا من حكمه(٢) في وجوب الاقتداء به، وإزاحة العلة بوجود(٣) حكم مؤديها، وهو الرئيس الذي لا يجوز خلو زمان التكليف من وجوده فيه، لانها إن لم تكن محفوظة جاز دخول التبديل والتحريف فيها، وهو مناف لوجوب القطع على صحتها ولازاحة علة من هو مكلف بها وإن كانت محفوظة، فأما الكتاب فليس مشتملا على جميع أحكامها، ولا كل ما اشتمل عليه مبين، لما فيه من المجمل الذي لابد له من بيان، أو السنة، وحكمها في عدم الاحاطة بجميع الاحكام حكم الكتاب، ومتواترها قليل بالنسبة إلى الآحاد الذي هو كثير وإتصاله به جائز إما بإعراض الناقلين عنه، أو باختلافهم فيه أو بغيرها من الاسباب، وليس الآحاد مثمرا علما ولا موجبا عملا ولا طريقا إلى العلم بشئ من الاحكام الشرعية فلابد لها من ضابط.

والاجماع ولا حجة به إلا بوجود المعصوم وتعيينه فيه، وإلا مع خلوه منه، وجواز الخطأ على كل واحد من المجمعين لا حجة في إجماعهم، ولا فرق بينه وبين انفرادهم، كما لا حجة في إجماع أهل الكفر على ما أجمعوا عليه من كفرهم الذي

____________________

١ - في " أ ": مشروطا فيه.

٢ - في " أ ": من حكمة.

٣ - في " ج ": بوجوده.

٤٦

كل واحد منهم عليه بإجماعه أو إنفراده.

ولو كان مجرد إجماع أهل الخطاء علة في كونه حجة، لزم مثله في إجماع كل فرقة من فرق الكفار، بل لو قامت الحجة بإجماع أهل الزلل والعصيان قياما يفيد ارتفاع ذلك عنهم، وارتفعت بانفصالهم وانفرادهم ارتفاعا يقتضي عود ذلك إليهم، لزم مثله في الكفار، بل في السودان حتى يصح أن يقال: إن كل واحد من الزنج أسود، فإذا أجمعوا على أمر ما، أو اجتمعوا له زالت السوادية عنهم واختصوا بالبياضية بدلا منها، فإذا انفصلوا وانفرد كل واحد منهم عن الآخر عادت إليهم، وبسقوط ذلك واستحالته يعلم قطعا أنه لا حجة في الاجماع إلا بتعيين من في قوله بانفراده الحجة، أو القياس والرأي، ولا يخفى سقوطهما، لان المعول فيهما(١) على الظن الذي يخطئ ويصيب مع خلوهما عن طريق إلى العلم بثبوتهما، ودليل على جواز التعبد بهما والعمل بأحكام الشرع لا عن علم يقيني وطريق قطعي بصحته فاسد، فإذا بطل أن يكون الشئ مما ذكرناه حافظا لها، وكان حفظها واجبا، لوجوب إزاحة العلة في التعبد بها، ثبت أنه لا حافظ لها بعد مؤديها إلا الامام القائم في ذلك مقامه.

وهذه الطريقة وإن كانت دالة على وجوب الامامة مع بقاء الشريعة، فإنها دالة أيضا على عصمة الامام، لان خلوه من العصمة مناف لكونه حافظا لما ثبت أنه لا حافظ له سواه، فلابد من اختصاصه بها، لاختصاصه بما لايثبت إلا بثبوتها، ولا يتم إلا بوجوبها له، وكان المحوج إليه جواز الخطأ على غيره(٢) فلولا

____________________

١ - في " ج ": لان المقول فيهما.

٢ - هكذا في " أ " وفي غيرها: ولان المحوج إليه جاز الخطأ على غيره.

٤٧

عصمته لكان ما أحوج إليه حاصلا فيه، فلا مزية له مع ذلك على غيره.

بل يكون حكمه في الاحتجاج حكم الغير، فإن تسلسل إلى غير نهاية كان محالا، وإن انتهى إلى معصوم مميز بذلك كان هو المراد، ولانه لو جاز عليه ما ينافي العصمة، لحق بكل من جاز عليه الخطأ في دخوله تحت الذم والحد والتعزير وغيره مما يتنزه بعض رعيته عنه، فكيف يصح وقوع مايوجب ذلك منه؟ وإذا ثبتت عصمته فلابد من كونه أفضل الرعية باطنا، أي أكثرهم ثوابا وأعلى منزلة عند الله، لانه معصوم مستحق من المدح والتعظيم مطلقهما، فلولا تميزه بهذه الفضيلة، لم يثبت له ذلك، ولا كان بين المعصوم وغيره ممن ليس كذلك فرق، ولا بين ثبوتها ونفيها أيضا فرق.

وقد تحقق الفرق بما لا خفاء فيه وظاهرا أي في كل ما هو رئيس فيه، لانه متقدم على جميع الامة، مفروض الطاعة عليهم.

وقبح تقديم المفضول على الفاضل فيما هو أفضل منه فيه معلوم يقتضيه عقل كل عاقل، لاقتضاء العقول، وشهادتها أنه لا وجه لقبحه سوى كونه كذلك، وطاعة من يقبح تقدمه في ما بمثله ثبوت الطاعة قبيحة.

ومن لا تجب طاعته لا تثبت إمامته، فتقدير كونه مفضولا أو تجويزه، مناف لكونه إماما، ولان ثبوت فضيلته باطنا يقتضي ثبوتها له ظاهرا، إذا التفرقة بينهما أو إثبات إحداهما دون الاخرى لا وجه له.وأعلم بالتدبير والسياسة، لتوليه ذلك ولزوم كون المتولي عالما بما تولاه، وإلا لم تثبت ولايته.وبجميع أحكام الشريعة، لفتواه وحكمه بها، والحاكم المفتي إن لم يكن أعلم بالاحكام والفتاوى من المستفتي والمحكوم له أو عليه، لم يكن

٤٨

لكونه كذلك وجه، وكان تقدمه على من هو أعلم منه بالحكم والفتوى قبيحا، ولا ثبوت لامامته معه، فوجب تميزه بما لايتم كونه إماما إلا به.وأكرم، لانه قائم بضبط الحقوق المالية، ووضعها في مواضعها.وأشجع، إن كان إليه جوار(١) ، لانه فتيه(٢) فيه ويختص بتدبيره وتوليه.وأزهد وأعبد، لانه قدوة فيهما والداعي إليهما.وبثبوت عصمته ثبوت هذه الصفات له، إذ هي أصل صفات الكمال والكاشف عنها لتعيينه وتمييز شخصه(٣) أما المعجز امطابق لادعائه أو نص صادق يخصه، لان اختصاصه بها مما لايشاهد، بل مما لا يحيط به علما إلا علام الغيوب سبحانه، لكونه أمرا باطنا لا سبيل إلى العلم به والقطع عليه إلا بما يكشف عنه، وليس إلا ما أشرنا إليه، فلو لم يكن منصوصا عليه بالامامة أو مختصا بمعجز يصدق إدعاه بها تعذر تعيينه، ولم يكن لاحد ممن كلف ذلك طريق إليه، وما تكليف ما لا طريق إلى العلم بل في التعذر إلا كتكليف مالا قدرة عليه.وكلما لا تمم إزاحة علة المكلف في تكليفه إلا به، فهو واجب لوجوب إزاحتها.وقد بطل بثبوت كون النص أو المعجز طريقي تعيين الامام ما يعدى من الاختيار.

ويبطله زائدا أنه لوساغ في الامامة لساغ في النبوة وفي الامور الدينية، ولانه إن خص قوما دون قوم فلا وجه له لكونه تخصيصا لا بمخصص وترجيحا لا بمرجح، وإن عم جميع الامة أو سائر علمائها وأهل الرأي والمشورة منها، فلا خفاء في تعذره واستحالته، ولو كان ممكنا لم يثبت، ولا اتفق لاحد ممن ادعيت

____________________

١ و ٢ - كذا في النسخ التي بأيدينا.

٣ - في " أ ": وتميز شخصه.

٤٩

إمامته، ثم هو مناف لما له وجبت الامامة، لانه يقتضي من اختلاف الآراء وتشتت الاهواء ما أيسره منع المستحق وإعطاء من لايستحق، وجواز نصب أئمة شتى في وقت واحد، فأما أن تفوت جملة المصالح المناطة بالامام أو أكثرها، وأما أن تعم بفواتها كل المفاسد أو معظمها، وذلك ينافي ما قلناه، ومايدعى أيضا من الميراث بمثل ما أبطلنا به الاختيار، ولانه لو تعين للامامة لتعينت لكل مستحق له، ويندرج في ذلك النساء والصبيان، فكان ظاهر البطلان.

وإذا تحققت هذه الخصائص والمزايا للامام، وثبت أنه لايتم ولا يثبت كونه إماما على الحقيقة إلا باختصاصه وامتيازه بها، فلا شبهة في انتفائها عمن ادعيت إمامتها(١) بطريقي الاختيار والميراث لما بين هذين الطريقين وبين ما قدمناه من التفاوت والتنافي المقطوع بهما على بطلان كل واحد منهما، لمنافاته مدلول الادلة.

وحنئذ يجب أن يكون أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - إماما بعد النبي صلى الله عليه وآله بلا فصل لاختصاصه بذلك وامتيازه به، فإنه إذا تعين قطعا تعدى من سواه ممن ادعت إمامته عنها وخلوه منها، وكان سقوط إمامته بذلك ظاهرا، ثبت كونه - عليه السلام - مختصا بها، لادعائه الامامة، أو ادعائها له، وتحققت بذلك إمامته، وإلا خرج الحق عن أمة الاسلام(٢) ، أو صح خلو زمان التكليف من الامام، أو صحت إمامة العاري من الصفات المعتبرة، وفي العلم بفساد ذلك، بل باستحالته دلالة على ثبوت إمامته، ولانه - عليه السلام - مختص بالنصوص القرآنية، وهي آيات كثيرة، يكفي في الاستدلال.

____________________

١ - في " ج ": إمامتهما.

٢ - في " أ ": عن أمة الامامة.

٥٠

منها: آية مدحه لما تصدق بخاتمه في حال ركوعه، قوله تعالى: *(إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكوة وهم راكعون) *(١) .

فأثبت له سبحانه الولاية التي مراده بها فرض الطاعة ماأثبته لنفسه ولرسوله، مؤكدا ذلك بلفظة *(إنما) * الدالة على تحقيق ماتضمنته وتأكيده ونفي ما لم تتضمنه.فكان اختصاص هذه ولاية به، كاختصاصها بهما بثبوت هذا التأكيد، وباقتضاء واو العطف إلحاق المعطوف به بالمعطوف عليه.وبأنها لو كانت عامة لم يكن لهذا التأكيد وجه، ولا كان بين من له الولاية ومن هي عليه فرق، ولا كان لما أثبته تعالى له ولرسوله من الاختصاص بها وجه، مع أن المذكور فيها من إيتاء الزكاة في حال الركوع لم يثبت إلا له ولم يكن إلا منه، وعليه اجماع المحققين من المفسرين(٢) وبالنصوص النبوية.

منها: الجلية التي لاتحتمل التأويل: لدلالتها بظاهر لفظها على المعنى المراد بها، وهي كثيرة مع اختلاف ألفاظها وإتفاق معانيها كأمره: أن يسلموا عليه - صلوات الله عليه - بإمرة المؤمنين(٣) ، وتصريحه بأنه بعده

____________________

١ - المائدة ٥ / ٥٥.

٢ - قال الفيض الكاشاني - قده - في الصافي عند تفسير الآية مانصه: والاخبار مما روته العامة والخاصة في أن هذه الآية نزلت في أميرالمؤمنين - عليه السلام - كثيرة جدا، ونقل في الجمع عن جمهور المفسرين أنها نزلت في أميرالمؤمنين - عليه السلام - حين تصدق بخاتمه في ركوعه.وقال السيد شرف الدين الاسترآبادي: اتفقت روايات العامة والخاصة على أن المعني ب‍ *(الذين آمنوا) *: إنه أميرالمؤمنين - عليه السلام -، لانه لم يتصدق أحد وهو راكع غيره.أنظر " تأويل الآيات الظاهرة في العترة الطاهرة ": ١ / ١٥١.

٣ - بحار الانوار ٣٧ / ٢٩٠.وإحقاق الحق ٤ / ٢٧٦ - ٢٧٧.و ١٥ / ٢٢٣.

٥١

الامام والخليفة والوصي(١) .وهذا الضرب من النص وإن لم يظهر بين مخالفي الشيعة، كظهور غيره من النصوص فلاغراض أوجبت إعراضهم عن التواتر بنقله.ودعتهم إلى كتمانه، فلذلك جاء(٢) في نقلهم آحادا وفي نقل الشيعة متواترا، لانهم مع اختلافهم وتباين آرائهم، وبلوغهم في الكثرة حدا يستحيل معه حصول التواطؤ وما يجري مجراه، وتساوي طبقاتهم في ذلك، وكون المنقول مدركا في الاصل لا شبهة في مثله(٣) قد أطبقوا على نقله وقد بنوا بروايته خلفا عن سلف، فهو بينهم شائع ذائع لايرتاب فيه منهم بعيد ولا قريب، ولا يزال إجماعهم منعقدا عليه من لدن النبي صلى الله عليه وآله إلى الآن بل إلى انقضاء التكليف، فلولا أنه حق وأنهم صادقون في روايته ونقله لم يكن لشئ من ذلك وجه، وفيه المراد.

ومنها: الخفية المحتملة للتأويل(٤) : أولها: نص يوم الغدير: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " من كنت مولاه فعلي مولاه "(٥) .

ولا ريب عند محصل أنه قدم مقدمة تفيد نفاذ الامر وإيجاب الطاعة، وصرح فيها بذكر " الاولى " بذلك، ثم عطف عليها بهذا اللفظ الذي هو في معناها، فكان مراده بالجملتين واحدا، إذالمولى بمعنى الاولى، ول أراد به غيره لم يكن كلامه مقيدا، فإن جميع ماتحتمله لفظة " مولى " من الاقسام المعروفة في اللغة لاتصح أن تكون

____________________

١ - أنظر الغدير ١ / ٢١٥، وبحار الانوار ٣٧ / ١٠٩.

٢ - في " ج ": فلذلك جاز.

٣ - في " ج ": لا لشبهة في مثله.

٤ - في " أ ": المحتملة التأويل.

٥ - بحار الانوار ٣٧ / ١٠٨ - ٢٥٣.والغدير ١ / ٢١٤.وفرائد السمطين ١ / ٦٤.ونهج الحق ص ١٧٣.

٥٢

شئ منها مرادا هاهنا سوى " الاولى " لانها كلها ترجع في التحقيق إليه، فكأنه أصل لها، ولان منها ما علم استحالته، ومنها ما علم ضرورة ثبوته بينهما، فلا فائدة في اشارته إليه ونصه به، سيما في ذلك المحفل العظيم والجمع الكثير والوقت الشديد، مع المشهور من تهنئة من حضر(١) ، وإعلانهم بذلك نثرا ونظما، ورضاه صلى الله عليه وآله، وسروره بكل ماظهر منهم من ذلك.

فلولا أنه مراده لم يسغ(٢) له الرضى به، ولوجب عليه الاعلام بغرضه، والابانة عن قصده، لاستحالة التلبيس والتعمية عليه، فكأنه صلى الله عليه وآله وسلم قال - بعد أن قدرهم على فرض طاعته، وثبوت ولايته التي هو نفاذ أمره ونهيه فيهم عاطفا على النسق من غير تراخ -: " فمن كنت أولى به منه فعلي بعدي أولى وأحق به منه ".

ولو أراد ماسوى هذا المعنى لم يكن لكلامه معنى، ويحل عن ذلك.ولا معنى للامام إلا من اختص بهذا الشأن.

وثانيها: نص غزاة تبوك: قوله صلى الله عليه وآله: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي "(٣) ، ولا مندوحة عن أنه صلى الله عليه وآله أراد " بمنزلة " جميع المنازل لانتهاء المنزلتين الاخوة للابوة ضرورة، والنبوة استثناء.فلو كان مراده غير ذلك كان مستثنيا أمرا من أمر مع انتفاء أمر آخر، تبعا لما استثناه.وانتفاء شيئين من شئ

____________________

١ - في فرائد السمطين ١ / ٧٧، الباب ١٣ في فضل صوم يوم عيد الغدير وماله من الاجر الجزيل والثواب الوافر الكثير بإسناده...إلى أن قال: لما أخذ النبي صلى الله عليه وآله بيد علي - عليه السلام - فقال: " من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره " فقال له: عمر بن الخطاب: بخ بخ لك يابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم ! ٢ - في " ج ": لم يسمع.

٣ - بحار الانوار ٣٧ / ٢٥٤ - ٢٨٩.وفرائد السمطين ١ / ١٢٢.ومناقب ابن المغازلي ص ٢٧.وأسد الغابة ٤ / ٢٦، و ٥ / ٨.والغدير ١ / ٥١ و ٣٩٧ و ٧ / ١٧٦.ونهج الحق ص ٢١٦.

٥٣

واحد مما لا يعقل.بل ولا واحد من واحد، لكونه نقضا لحقيقة الاستثناء ولغوا لا فائدة فيه، ولا معنى لقوله إلا مابيناه.

وإذا كان من جملة منازل هارون من موسى - عليهما السلام - الخلافة في قومه، كما أخبر تعالى عنه(١) ، مع مايضامها(٢) من محبه، وشد أزر، وقة اختصاص، تحقق أنه صلى الله عليه وآله عنى بهذا النص ذلك، وأراده وهو صريح الامامة(٣) .ولا يقدح فيما ذكرناه موت هارون في حياة موسى، لانه لو بقى بعده لاستمر على ما كان له منه، لاستحالة عزله عنه.

ولما بقي علي - عليه السلام - بعد النبي صلى الله عليه وآله ثبت له ما أثبته، واختص بما خصه به.

وثالثها: نص القضاء: قوله صلى الله عليه وآله: " أقضاكم علي " - عليه السلام -(٤) وإنما أراد أنه أعلمهم بالقضاء الذي يجمع علوم الدين ويقتضي التقديم في الحكم، والمقطوع على تميزه بذلك لا يكون إلا معصوما، ولم يتحقق ذلك بعده بلا فصل إلا لعلي - عليه السلام -.

ورابعها: نص المحبة: المعينة في حديث الطائر(٥) وحديث

____________________

١ - *(وقال موسى لاخيه هارون اخلفني في قومي) * الآية، الاعراف: ٧ / ١٤٢.

٢ - من ضم الشئ إلى الشئ.

٣ - في " أ ": وهو الامامة.

٤ - نهج الحق ص ٢٣٦.والغدير ٣ / ٩٦ و ٧ / ١٨٣ و ٦ / ٦٩.

وفرائد السمطين ١ / ١٦٦ ونص الحديث فيه: قال - رسول الله صلى الله عليه وآله: أرحم هذه الامة...وأقضاهم علي - عليه السلام -.وشرح النهج لابن أبي الحديد ١ / ١٨.وفيه: وقد روت العامة والخاصة قوله صلى الله عليه وآله: " أقضاكم علي ".

٥ - حديث الطير المشوي من الاحاديث المشهورة بين العامة والخاصة وإليك بعض مصادره فانظر التاج الجامع للاصول ٣ / ٣٣٦، وأسد الغابة ٤ / ٣٠، والغدير ٩ / ٣٩٥، وبحار الانوار ٣٨ / ٣٤٨، ونهج الحق ص ٢٢٠.

٥٤

خيبر(١) ونظائرهما.لان محبة الله ورسوله مفيدة علو المنزلة عندهما، وهي ما أردناه من الفضيلة باطنا وظاهرا، ولا امتياز بها إلا لمن ثبت كونه معصوما، وبثبوت عصمته ثبوت إمامته.

وخامسها: نص الفعال: وهو المشهور عنه صلى الله عليه وآله، من استخلافه له في حياته، وإقامته في كثير من الامور مقام نفسه، على وجه لم يعزله ولا استبدل به، ولا خفاء أن الحاجة إليه بعد وفاته آكد منها في حال حياته فكان ذلك مستمرا له وباقيا فيه.

وقد ظهرت له - عليه السلام - مطابقة لادعائه الامامة فنون المعجزات التي ظهورها واشتهارها مغن عن التطويل بذكرها، كل صنف منها دال على إمامته، وشاهد بها، وما أشرنا إليه من نصوصه(٢) وكراماته معروف أمرها، مشهور نقلها، لظهوره وشياعه بين الطائفتين المختلفتين، والفرقتين المتباينتين، ولا يكاد يقدح في روايته إلا من طوى العناد(٣) أو منظو على الالحاد، فإن الشك فيها كالشك في كل ما ظهر واشتهر من معجزات نبينا صلى الله عليه وآله وآياته وحروبه وغزواته.

وإذا ثبتت إمامته - عليه السلام - فكل ما(٤) يعترض به من أقواله وأفعاله للقدح في كونه منصوصا عليه بها ساقط على رأي الخاصة والعامة، لانه من المطهرين المعصومين.

____________________

١ - المشهور بحديث الراية لاحظ الغدير ٧ / ٢٠٠ و ٢٠٤، ونهج الحق ص ٢١٦، وبحار الانوار ٣٩ / ٧ - ١٩.

٢ - في " ج ": من خصوصه.

٣ - في " أ ": إلا كل قوي العناد.

٤ - في " ج ": فكان.

٥٥

فكل ما يقال من أنه بايع من تقدمه، ورضى بهم ونكح من سبيهم واقتدى بصلاتهم وتناول من عطائهم(١) ولم ينكر عليهم، ولا غير كثيرا من أحكامهم عند خلافته، مع انقياده إلى واحد منهم بعد واحد حتى دخل الشورى، وانتهى إلى تحكيم الحكمين، وما لايزال المخالف به متشبثا متعلقا من هذه الاشياء وأمثالها، لا قدح به ولا تعويل على مثله، أما عند الخاصة فلما ذكرناه من عصمته وطهارته، فلابد لكل ماكان منه من ذلك، وغيره من وجه حكمة وسبب مصلحة(٢) ، فالطاعن به إن وافق على ثبوت العصمة سقطت مطاعنه، وتيقن الصواب والمصلحة في ذلك، فحمله عليهما وصرفه إليهما، وإلا لم يحسن إجابته عنه ولا مكالمته فيه، لمخالفته في الاصل الذي يبنى عليه ويرجع إليه.

وأما عند العامة فلان الاجتهاد يؤدي إلى ما هو أكثر من ذلك، والمجتهد فيه عندهم مصيب، وهو - عليه السلام - من أجل المجتهدين، فلا ملامة عليه في جميع ما أداه اجتهاده إليه على أصولهم، فكيف يليق مع هذا الاصل الطعن بشئ من ذلك، على أن المحقق المحرر(٣) أنه - عليه السلام - لم يكن راضيا بشئ مما ادعى رضاه به.

بل لا طريق إلى العلم بذلك، لاحتماله وجوها من التقية والاحتياط وخوف انقلاب الملة وارتداد أكثر الامة، وغيرها من الوجوه التي يحتملها إظهار الرضا، وكذا كل مااعتمده - عليه السلام - من ذلك لم يكن اختيارا وإيثارا بل تقية وإضطرارا.

وقد تظلم من القوم وأنكر عليهم بالقول بحسب إمكان الوقت ولم يأل جهدا في التلويح بذلك بل في التصريح، ولو لم يكن منه شئ من ذلك كان في

____________________

١ - في " ج ": من إعطائهم.

٢ - في" أ ": من وجه حكمه وسبب مصلحته.

٣ - في " أ ": المحقق المجرد.

٥٦

إباحة التقية ما لولاها لم يكن مباحا، وتسويغها مالولاها لم يكن سائغا كفاية.

وقد وضح بما بيناه أمن أحكام ظالميه ومحاربيه والباغين عليه أحكام أهل الارتداد، وهي الكفر الذي لم يتقدمه إيمان.

ولو لم يشهد بذلك إلا شهادة الرسول صلى الله عليه وآله بأن حبهما واحد وبغضهما واحد(١) ، ودعاؤه له بقوله: " اللهم وال من والاه وعاد من عاداه "(٢) .وإخباره أن حربه كحربه بقوله: " حرب حربي، وسلمك سلمي "(٣) .

لكفى وأغنى عن غيره، فإن عدو الله ومبغض رسول الله صلى الله عليه وآله أو محاربه كافر إجماعا، وما أراد بالحرب إلا حكمنه لانفسه، وما يدعى لمحاربيه في تسوية محال، لكونه عدولا عن معلوم إلى مجهول أو مظنون، ولفقد اماراتها وأسبابها منهم، ولان جميع ما يعول عليه في ذلك ساقط، لكونه آحادا ومعارضا بما يناقضه.ولما لم تكن أحكامهم متفقة بل مختلفة، حسبما قررته الشيعة، لم يلزم حملهم

____________________

١ - حيث قال صلى الله عليه وآله: " من أحب علينا فقد أحبني، ومن أبغض عليا فقد أبغضني ".لاحظ الغدير ٣ / ٢٥، و ٩ / ٢٦٨.ونهج الحق ص ٢٥٩ وبحار الانوار ٧ / ٢٢١ ٣٩ / ٢٧٥.

٢ - بحار الانوار ٣٧ / ١٠٨ - ٢٥٣، والغدير ١ / ٢١٤.ونهج الحق ص ١٧٣.

٣ - احقاق الحق ٤ / ٢٥٨ والغدير ١٠ / ١٢٦ و ٢٧٨ وأمالي الطوسي ١ / ٣٧٤ وأمالي الصدوق - ره - المجلس ٢١ برقم ١.وعوالي اللئالي ٤ / ٨٧.

أقول: إن ي هذا المضمار للشارح المعتزلي كلاما أحب أن أشير إليه حيث قال: لنفرض أن النبي - عليه السلام - مانص عليه بالخلافة بعده، أليس يعلم معاوية وغيره من الصحابة أنه قال في ألف مقام: " أنا حرب لمن حاربت وسلم لمن سالمت...وحربك حربي وسلمك سلمي "...شرح النهج لابن أبي الحديد ١٨ / ٢٤.ومناقب ابن المغازلي ص ٥٠.

٥٧

على من يسبي ويغنم منهم، وإن حملوا عليهم في لزوم الكفر ودوام عقابه.

والطريق في إثبات إمامة الائمة الاحد عشر بعد أميرالمؤمنين - عليه السلام - من ابنه الحسن إلى الحجة المهدي محمد بن الحسن - صلوات الله عليهم -، واحدة، لان كل من ادعيت إمامته سواهم من لدن أميرالمؤمنين - عليه السلام - وإلي المهدي - عليه السلام - لم يكن مقطوعا على عصمته، ولا ممتازا بما(١) يجب للامام من مزايا الكمال لان الامة بين قائلين(٢) .

قائل باعتبار ذلك، وأنه لا يثبت كون الامام إماما به، وقائل لا باعتباره بل إما بالاختيار(٣) أو الميراث أو القيام بالسيف أو الاشارة إلى حياة من لا شبهة في موته، كلونه معلوما ضرورة، أو التعويل في الامامة على ما لايعقل إلا في الربوبة أو على ما لايعقل أصلا، أو التمويه بادعاء عصمة من ظهر فسقهم وسوء سيرتهم، مغن عن القدح فيهم، مع المعلوم المفهوم من رداء‌ة بواطنهم، وخبث سريرتهم، فتكافات هذه الاقوال كلها في فساد أصولها وقواعدها التي هي مبنية عليها، وكانت نسبتها في البطلان والسقوط نسبة واحدة، فإن فيخها ما قد انقرض القائلون به انقراضا لم يبق منهم سوى الحكاية عنهم، والحق لايجوز انقراضه، وفيها ما ظهور فساده وبعده عن الحق يغني عن تكليف الكلام عليه، فيكون الاجماع الكلي والوفاق القطع والعلم اليقيني مفراد حاصلا أنه لا عصمة ولا مزايا كمال لكل من عدا أئمتنا الاثني عشر - عليهم السلام - من جميع من ادعيت لهم الامامة على اختلاف طرقها وجهاتها في الادعاء.

____________________

١ - في " أ ": ولا ممتازا مما.

٢ - في " ج ": من مزايا الكلام لان الامة هي قائلين.

٣ - في " أ ": بل إماما بالاختيار.

٥٨

فبطلان الجميع على هذا الاصل ظاهر، وكان فيه شئ واحد، وحينئذ لولا ثبوت إمامة أئمتنا - عليهم السلام - والقطع على أنه لا حظ لاحد سواهم في الامامة، لامتيازهم بخصائصها ومزاياها التي كون الامام إماما مشروطا بها(١) ومترتبا على ثبوتها لزم إما خروج الحق عن هذه الامة، أو خلو زمان التكليف من الرئيس، أو إمامة من لا طمع له بمزية(٢) من تلك المزايا، لاستحالتها فيه وبفساد ذلك، واستحالته، وقيام الادلة عقلا وسمعا على خلافه دلالة واضحة على ما أشرنا إليه ونبهنا عليه، من إمامة أئمتنا - عليهم السلام -، ولانهم مختصون بالنصون الربانية الدالة على عصمتهم وكمال صفاتهم قوله تعالى: *(يا ايها الذين آمنوا أتقوا الله وكونوا مع الصادقين) *(٣) وهم من لايجوز عليهم الكذب، والكون معهم والانقياد لهم، وإطلاق الامر به يقتضي فرقا بيم من يجب معه ومن يجب عليه، وفيه ما أردناه.

وقوله: *(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) *(٤) وعموم الامر وإطلاقه بوجوب اطعة أولى الامر عطفا على عمومه، وإطلاقه بوجوب طاعة الرسول، وطاعة الآمر سبحانه يقتضي كون الحكم في الميع واحدا.أو بوجوب الفرق بين من تجب له الطاعة وبين من تجب عليه، وفيه الغرض.

وقوله: *(ويوم نبعث من كل أمة شهيدا) *(٥) إخبار عن أنه لابد لكل زمان

____________________

١ - في " أ ": التي كون الامام مشروطا بها.

٢ - في " ج ": " مجزية " بدل " بمزية ".

٣ - التوبة ٩ / ١١٩.

٤ - النساء ٤ / ٥٩.

٥ - النحل ١٦ / ٨٤.

٥٩

تكليف من شهيد على الامة، هو الرئيس الذي لا شهى دعليه إلا الله وإلا تسلسل الامر.وفيه ما قصدناه.

وقوله: *(فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) *(١) أمر بوجوب المسؤولين لا يجوز كونهم سائلين، لاحاطتهم علما بكل ما يسألون عنه، وهو المعول.

وقوله في آخر آية إبراهيم: *(قال لا ينال عهدي الظالمين) *(٢) نفى استحقاق عهده الذي هو إمامة الائمة كل من تناوله اسم الظلم وجاز عليه، وفيه ثبوت عصمة من استحق ذلك واختص به، وهو المقصد مع كثير من الآيات التي يطول شرحها.

وبالنصوص النبوية المتضمنة أسماء‌هم وأوصافهم وتعيينهم واحدا بعد واحد، والتصريح فيها بثوبت إمامتهم ولزوم خلافتهم وفرض طاعتهم وإيجاب ولايتهم، والتنبيه على عددهم وغيبة قائمهم(٣) وما يكون لهم ومنهم إلى قيام

____________________

١ - النحل ١٦ / ٤٣.

٢ - البقرة ٢ / ١٢٤.

٣ - أقول: النصوص التي تدل على إمامة الائمة الاثني عشر - عليهم السلام - مع التنبيه على أسمائهم وعددهم، كثيرة جدا تبلغ فوق التواتر فإليك بعض المصادر: بحار الانوار ٢٣ / ٢٨٩ وج ٣٦ / ١٩٢، الباب ٤٠: نصوص الله على الائمة - عليهم السلام - وص ٢٢٦، الباب ٤١: نصوص الرسول صلى الله عليه وآله على الائمة - عليهم السلام -.وكفاية الاثر في النص على الائمة الاثني عشر.واثبات الهداة ج ١، الباب ٩ برقم ٨٦٣.وتأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة ١ / ١٣٥ برقم ١٣.وعوالي اللئالي ٤ / ٨٩ برقم ١٢٠ - ١٢٤.ونور الثقلين ١ / ٤٩٩ برقم ٣٣١ - ٣٣٢.وتفسير البرهان ١ / ٣٨١ - ٣٨٦.وأصول الكافي ١ / ٢٨٦ من كتاب الحجة، وفرائد السمطين ٢ / ١٣٤، وصحيح مسلم ٣ / ١، كتاب الامارة، باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش.ولاحظ صحيح البخاري ٩ / ٨١ باب الاستخلاف.والمستدرك ٣ / ٦١٨.ومسند أحمد بن حنبل ٥ / ٨٨ و ٨٩ و ٩٠ و ٩٢ و ٩٧ و ٩٨ و ١٠٧، ونقل المجلسي - قده - أخبار الائمة الاثني عشر من كتب العامة المسميات عندهم بالصحاح الستة في روضة المتقين ١٣ / ٢٦٧ - ٢٧٠.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وعن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه: (برُّ فاطمة ووِلدها (عليهم السلام))، وتَركها العامّة ظاهراً وباطناً، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون، وليس هذه أوّل قارورة كُسرت في الإسلام) (١).

وقال المجلسي الثاني:(وتأويل خير العمل بالولاية، لا ينافي في كونها من فصول أذان الله؛ لأنّها من أعظم شرائط صحّتها وقبولها) (٢).

وذَكرَ ما يُماثل ذلك أو ما يقرُب منه ابن شهرآشوب في المناقب (٣) ، وسيأتي نقل الروايات في ذلك مخصوصاً والكلمات في ذلك، وهي دالّة على أنّ ماهيّة الأذان متضمّنة للدعاء لولاية أهل البيت (عليهم السلام)، كما أنّه دعاء للإسلام والإقرار بالشهادتين.

* عدّة طبايع

أقول: ويستفاد من كلام العامّة وأقوال المذاهب الأخرى: أنّ الأذان تنطبق عليه عدّة طبايع مندوبة، فمضافاً إلى خصوصيّة الأذان تنطبق عليه أيضاً الطبيعة العامّة لشعائر الإسلام فيندرج في قاعدة تعظيم الشعائر، كما تنطبق عليه طبيعة ذِكر الله المندوب، ولعلّه باللحاظ الثالث تخرج الحيّعلات عن طبيعة بقيّة الفصول إذ ليس هي بذكر، ومن ثُمّ لم يُسوِّغ الشيخ الطوسي في المبسوط حكايتهنّ في الصلاة عند سماع الأذان وقال: إنّهن من كلام الآدمي، وإن كنّ مستحبّات من حيثيّة الأذان، أي حيثيّة الإعلام، وبالتالي فطبيعة الأذان قد اجتمع فيها عدّة طبايع شرعيّة، ولكلّ منها حكم ينسحب عليها دون الطبيعة الأخرى كما هو واضح من أمثلة الأحكام الآنفة، ومن ثُمَّ يتبيّن تعدّد وجه مشروعيّة الشهادة الثالثة في الأذان، والتي تصل إلى ثلاثة وجوه أو أكثر:

____________________

(١) روضة المتّقين: ج٢، ص٢٣٧ - ٢٣٨.

(٢) البحار: ج٨٤، باب ٣٥ من أبواب الأذان والإقامة، ذيل ح٢٤.

(٣) مناقب ابن شهرآشوب: ج٣، ص٣٢٦.

١٠١

الأوّل: كونهُ جزء طبيعة الأذان من حيث هو، أي من حيث الأذانيّة ومن خصوص عنوان الأذان كجزء منه.

الثاني: الاستحباب العام من جهة قاعدة الاقتران.

الثالث: من جهة الشعيرة والشعائر الإيمانيّة.

الرابع: من جهة كون الشهادة الثالثة ذِكر الله، كما أشار إليه جملة من فحول أعلام النجف في فتياهم.

ومثله ما قاله الشيخ الطوسي (١) قال: لو فرغَ من صلاته ولم يحكه فيها، كان مخيّراً بين الحكاية وعدمها.

قال الشيخ: لا مزيّة لأحدهما من حيث كونه أذاناً، بل من حيث كونه تسبيحاً وتكبيراً.

وفي موضعٍ من الذكرى (٢) استدلّ على مشروعيّة الأذان للصلاة الثانية عند الجمع، قال: وكذلك في المغرب والعشاء في المزدلفة وهل يكره الأذان؟ لم أقف فيه على نص ولا فتوى، ولا ريب في استحضار ذِكر الله على كلّ حال، ولو أذّن من حيث إنّه ذِكر الله فلا كراهيّة.

وقال أيضاً: (واحتجّ الشيخ للكراهيّة بما ذكرناه من جَمع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وظاهره أنّه لا تصريح فيه بالكراهيّة، والأقرب الجزم بانتفاء التحريم، وأنّه يكره في مواضع استحباب الجمع، أمّا لو اتّفق الجمع مع عدم استحبابه (أي في موارد عدم استحبابه)؛ فإنّه يسقط أذان الإعلام ويبقى أذان الذِكر والإعظام) (٣) .

____________________

(١) المبسوط: ج١، ص٩٧.

(٢) الذكرى: ص٢٣١.

(٣) الذكرى: ص٢٣٢.

١٠٢

وأفتى الفقهاء بتعدّد موارد يُستحب فيها الأذان في غير الصلاة منها: الفلوات الموحشة، ومنها: أذان المولود، ومنها: مَن ساء خُلقه، ومنها: الأذان المقدّم لدخول الفجر للاستعداد والتهيّؤ له، وبعض الموارد الأخرى.

* غاياتهُ:

وهو يعطي: أنّ حقيقة الأذان غير خاصّة بالصلاة فقط، بل هو يتضمّن معاني وغايات أُخر من التذكّر بالإيمان والموعظة، وكونهُ من الأذكار الشريفة، وأنّه ممّا يُحترز به كبقيّة الأحراز الشرعيّة، وهذه المعاني قد وردت أنّها من خصائص الشهادة الثالثة والولاية لعلي (عليه السلام)، نظير ما ورد (١) في بعض المصادر الدالّة على خصائص الولاية المطابقة لتلك الموارد التي يُستحب فيها الأذان.

وقال الشهيد الثاني في الروضة - في مسألة سقوط الأذان في موارد الجمع وغيرها، حيث استدلّ البعض على مشروعيّة الأذان في كونه ذِكراً -: وأمّا تقسيم الأذان إلى القسمين؛ لأنّه عبادة خاصّة أصلها الإعلام، وبعضها ذِكر، وبعضها غير ذِكر، تؤدّي وظيفته بإيقاعه سرّاً ينافي اعتبار أصله، والحيّعلات تنافي ذكريّته، بل هو قسم ثالث وسُنّة متّبعة، ولم يوقعها الشارع في هذه المواضع - أي مواضع الجمع - فيكون بدعة، نعم، قد يقال: إنّ مطلق البدعة ليس محرّماً، بل ربّما قسّمها بعضهم إلى الأحكام الخمسة ومع ذلك لا يثبت الجواز.

____________________

(١) نظير ما رواه الشيخ في مصباح المتهجّد في تعقيب صلاة الصبح، ثُمّ قل: (أصبحتُ اللهمّ مُعتصماً بذِمامك المنيع الذي لا يُطاول ولا يحاول،... في جُنّة من كلّ مخوفٍ بلباس سابغة ولاء أهل بيت نبيّك محتجباً... بجدارٍ حصين الإخلاص في الاعتراف بحقّهم والتمسّك بحبلهم،...).

١٠٣

وقال في مسالك الإفهام - في مسألة أخذ الأجرة على الأذان، من أنّه هل يكون الأذان محرّماً وغير مشروع كما ذهب إليه العلاّمة في المختلف؟ -: وهو متّجه، لكن يُشكل بأنّ النيّة غير معتبرة فيه، والمحرّم هو أخذ المال لا نفس الأذان؛ لأنّه عبادة أو شعار) (١).

وقال في المدارك (٢) : (وذكرَ الشهيد في الدروس: أنّ استحباب الأذان من القاضي لكلّ صلاة ينافي سقوطه عمّن جمع في الأداء، وهو غير جيّد؛ لعدم المنافاة بين الحكمين لو ثبت دليلها، ثُمّ احتملَ كون الساقط مع الجمع أذان الإعلان دون الأذان الذكري، وهو احتمال بعيد؛ لأنّ الأذان عبادة مخصوصة مشتملة على الأذكار وغيرها، ولا ينحصر مشروعيّته في الإعلام بالوقت، إذ قد ورد في كثير في الروايات أنّ من فوائده: دعاء الملائكة إلى الصلاة، وكيف كان فهو وظيفة شرعيّة فيتوقف على النقل، ومتى انتفى سقط التوظيف مطلقاً، وأمّا الفرق بين الأذان الذكري وغيره فلا أعرف له وجهاً).

وأيضا ً (٣) قال: (الثالثة: لو فرغَ من الصلاة ولم يحكِ الأذان، فالظاهر سقوط الحكاية؛ لفوات محلّها وهو ما بعد الفصل بغير فصل أو معه).

____________________

(١) مسالك الإفهام: ج٣، ص١٣١.

(٢) المدارك: ج٣، ص٢٦٣.

(٣) المدارك: ج٣، ص٢٩٥.

١٠٤

وقال العلاّمة في التذكرة (١): إنّه يكون مخيّراً بين الحكاية وعدمها.

وقال الشيخ في الخلاف (٢): يؤتى به لا من حيث كونه أذاناً، بل من حيث كونه ذِكراً، وهما ضعيفان.

وقال: ذهبَ بعض أصحاب الشافعي إلى وجوب الأذان والإقامة كفايةً، وذهبَ مالك إلى وجوبه في مساجد الجماعة التي يُجمع فيها للصلاة، وذهب ابن حنبل إلى وجوب الأذان على أهل المصر، واستدلّوا ببعض الروايات (٣) بأنّه: من شعائر الإسلام فأشبهَ الجهاد، وناقشهُ العلاّمة بالفرق بين الأصل وهو (الإسلام) وبين الفرع وهو (الأذان): بأنّ الأصل وضِعَ للدخول في الدين، وهو من أهمّ الواجبات فكان الطريق إليه واجباً، والأذان وضِع للدخول في الجماعة وهي غير واجبة، فالأَولى بالوسيلة أن لا تكون واجبة) (٤).

أقول: ويتحصّل من كلمات الأعلام في الأذان: ذهابهم إلى كونه متضمّناً لعدّة طبايع، وأنّها منطبقةٌ عليه، كما أنّ له غايات شرعيّة متعدّدة، ومن ثُمّ تترتّب عليه أحكام مختلفة بحسب الماهيّات المنطبقة عليه وبحسب اختلاف غاياته، كما أنّهم حرّروا ما هو الركن فيه ممّا ليس بركن ورتّبوا على ذلك اختلاف حالاته، فهذه المقامات المتعدّدة في الأذان يجدها المتتّبع في كلمات الأعلام، أمّا الطبايع التي ذكروها فهي: (الإعلام، الذِكر، التشهّد، الدعاء للصلاة، الشعاريّة).

____________________

(١) التذكرة: ج٣، ص٨٣.

(٢) التذكرة: ج٣، ص٨٣، المبسوط: ج١، ص ٩٧.

(٣) المغني: ج١، ص٤٦١، المجموع: ج٣، ص٨١، المدوّنة الكبرى: ج١، ص٦١.

(٤) منتهى المطلب: ج٤، ص٤١١ طبعة جامعة المدرّسين.

١٠٥

وقد بنوا على حقيقة هذه الطبايع لا من باب الاحتمال، بل على نحو التحقيق، فرتّبوا آثاراً وأحكام كلّ طبيعة عليه، كما تُلاحظ ذلك في كلماتهم المتقدّمة المُقتطفة ويجدها المتتبّع في مظان تلك المسائل، ويشير إلى تعدّد طبايع الأذان ما في معتبرة الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) أنّه قال: (إنّما أُمرَ الناس بالأذان لِعلل كثيرة، منها: أن يكون تذكيراً للناس، وتنبيهاً للغافل، وتعريفاً لمَن جهلَ الوقت واشتغل عنه، ويكون المؤذِّن بذلك داعياً إلى عبادة الخالق ومرغِّباً فيها، مُقرّاً له بالتوحيد، مجاهراً بالإيمان، مُعلناً بالإسلام، مؤذِّناً لمَن ينساها، وإنّما يقال له: مؤذِّن؛ لأنّه يؤذّن بالأذان بالصلاة، وإنّما بدأ فيه بالتكبير وختمَ بالتهليل؛ لأنّ الله أراد أن يكون الابتداء بذكره واسمه، واسم الله في التكبير في أوّل الحرف، وفي التهليل في آخره.

وإنّما جَعل مثنى مثنى؛ ليكون تكراراً في آذان المستمعين مؤكّداً عليهم إن سهى أحدٌ عن الأوّل لم يسهى عن الثاني؛ ولأنّ الصلاة ركعتان ركعتان فلذلك جَعل الأذان مثنى مثنى، وجَعل التكبير في أوّل الأذان أربعاً؛ لأنّ أوّل الأذان إنّما يبدو غفلةً وليس قبله كلام يُنبّه المستمع له، فجَعل الأوليان تنبيهاً للمستمعين لمَا بعده في الأذان، وجَعل بعد التكبير الشهادتان؛ لأنّ أوّل الإيمان هو التوحيد والإقرار لله بالوحدانية، والثاني الإقرار للرسول بالرسالة وأنّ طاعتهما ومعرفتهما مقرونتان؛ ولأنّ أصل الإيمان إنّما هو الشهادتان فجعلَ شهادتين شهادتين، كما جَعل في سائر الحقوق شاهدان، فإذا أقرّ العبد لله عزّ وجل بالوحدانيّة، وأقرّ للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالرسالة، فقد أقرّ بجملة الإيمان؛ لأنّ أصل الإيمان إنّما هو الإقرار بالله وبرسوله، وإنّما جَعل بعد الشهادتين الدعاء إلى الصلاة؛ لأنّ الأذان إنّما وضِع لموضع الصلاة، وإنّما هو نداء إلى الصلاة في وسط الأذان، ودعاء إلى الفلاح، وإلى خير العمل، وجَعل ختمُ الكلام باسمه كما فُتح باسمه) (١).

____________________

(١) الوسائل: الباب ١٩ من أبواب الأذان والإقامة ح١٤.

١٠٦

فالمحصّل: أنّ الرواية بيّنت أنّ في الأذان ذِكر الله، ودعوى إلى التوحيد، ودعوى إلى الإسلام، ودعوى إلى الإيمان، وهذا العنوان الأخير سيأتي أنّ أحد طبايع الأذان، اشتماله على الدعوة إلى الإيمان والولاية، كما أشارت الرواية إلى الإقرار والتشهّد.

كما أنّ الأذان نداء ودعوى إلى الصلاة، وسيأتي شرح كامل لدلالة الرواية على الشهادة الثالثة في الأذان في الفصل الأوّل، ثُمّ إنّ ممّا مرّ من كلمات الفقهاء يظهر أنّ ما ذكروه من غايات في الأذان - وموارد مستحبّة له غير الصلاة (تأكيداً لمَا سبق) - أنّهم يبنون على ترتيب الآثار على الحقائق الأخرى المنطبقة على الأذان، وأنّه ليس تمام حقيقته النداء للصلاة والإعلام لها، هذا فضلاً عن انطباق عناوين طارئة أخرى عليه كالشعاريّة وغيرها من العناوين التي رتّبوا آثارها على الأذان، كما أنّهم بيّنوا ما هو الرُقي في الأذان وهو ماهيّة الذِكر بالتكبير، وماهيّة التشهّد بالشهادتين دون بقيّة الماهيّات المتضمّن الأذان لها.

١٠٧

المبحثُ الأوّل

الشهادةُ الثالثة في الأذان وأجزاء الصلاة

وفيه ثلاثة فصول:

الفصلُ الأوّل

تقريبُ إثبات جزئيّة الشهادة الثالثة والإقامة فضلاً عن مشروعيّتها فيهما

١٠٨

الفصل الأوّل

تقريبُ إثبات جزئيّة الشهادة الثالثة في الأذان والإقامة فضلاً عن مشروعيّتها فيهما

ويُستدلّ لذلك بعدّةٍ من طوائف الروايات الخاصّة الدالّة مطابقةً على ذلك بالصراحة أو الظهور، والبحث يقع في جهات:

الجهةُ الأُولى: البحث في طوائف الروايات الخاصّة التي روى متونها الصدوق في الفقيه سنداً ودلالة وأقوالاً، وهي ثلاث طوائف، ثُمّ تُتبع بذكر طوائف روائيّة خاصّة أخرى.

الجهةُ الثانية: البحث في مقتضى قاعدة شرطيّة الولاية، والإيمان في صحّة الأعمال، والعبادات لشرطيّة الشهادة الثالثة في الأذان.

١٠٩

الجهةُ الأُولى

البحثُ في طوائف الروايات الخاصّة التي روى متونها الصدوق في الفقيه سنداً ودلالةً وأقوالاً

نصُ الطوائف الثلاث الأُول: لقد جاء في كتاب مَن لا يحضره الفقيه للصدوق في باب الأذان والإقامة، بعد استعراضه لصورتيهما قال: (هذا هو الأذان الصحيح لا يُزاد فيه ولا ينقص منه، والمفوّضة لعنهم الله قد وضعوا أخباراً وزادوا في الأذان (محمّداً وآل محمّد خير البريّة) مرّتين، وفي بعض رواياتهم بعد أشهدُ أنّ محمّداً رسول الله: (أشهدُ أنّ عليّاً وليّ الله) مرّتين، ومنهم مَن روى بدل ذلك: (أشهدُ أنّ عليّاً أمير المؤمنين حقّاً) مرّتين، ولا شكّ في أنّ عليّاً وليّ الله، وأنّه أمير المؤمنين حقّاً، وأنّ محمّداً وآله صلوات الله عليهم خير البريّة، ولكن ليس ذلك في أصل الأذان، وإنّما ذكرتُ ذلك ليعرف بهذه الزيادة المتّهمون بالتفويض المدلّسون أنفسهم في جملتنا) (١).

وهذه المتون التي ذكرها الصدوق بنحو الإرسال هي ثلاث طوائف بالأحرى كما مرّ توضيحه في المدخل.

____________________

(١) الفقيه: ج١، ص٢٩٠ طبعة قم.

١١٠

* البحثُ في سند الطائفة:

نظرةُ الصدوق: ويُلاحظ ويُستشفى من كلام الصدوق عدّة أمور:

١ - وجود روايات واردة في الشهادة الثالثة وأنّها متعدّدة ذات طوائف.

٢ - إنّ تلك الروايات كانت في أصول أصحابنا لا في كتب الفِرَق المنحرفة - فِرق المفوضة -، وإلاّ لمَا أشار إليها الصدوق؛ لعدم دأبه بالتعرّض لروايات الفِرق الأخرى، ويَعضد هذه الحقيقة ما سيأتي من كلام الشيخ الطوسي (قدِّس سرّه) حول هذه الروايات الدال على ذلك أيضاً.

٣ - حكاية الصدوق بوجود جملة من الشيعة يمارسون الأذان بالشهادة الثالثة في زمانه، ويعملون بتلك الروايات وكانوا من جملة أبناء الطائفة وفي مُدنهم، بل إنّ التدبّر في كلام الصدوق - حيث وَصفَ سلسلة الرواة لطرق تلك الروايات بأنّهم متّهمون بالتفويض - يقتضي كون تلك الروايات متداولة في الطبقات السابقة عليه روايةً وعملاً، فيظهر من ذلك أنّ السيرة المزبورة متقادِمة على عصر الصدوق.

٤ - إنّ الصدوق قد عَقد في كتاب التوحيد (١) باباً تحت عنوان (تفسير حروف الأذان والإقامة)، ثُمّ نقلَ رواية طويلة في تفسير الأذان لم تتضمّن (حيّ على خير العمل)، فعلّقَ عليها بقوله: إنّما تَرك الراوي لهذا الحديث (حيّ على خير العمل) للتقيّة، ثُمّ قال: وقد رويَ في خبر آخر أنّ الصادق (عليه السلام) سُئل عن معنى (حيّ على خير العمل)؟ فقال: (خيرُ العمل الولاية)، وفي خبرٍ آخر: (خيرُ العمل برّ فاطمة وولدها (عليهم السلام)) انتهى كلامه.

____________________

(١) باب ٣٤، ص٢٣٨ - ٢٤١، التوحيد، طبعة قم.

١١١

فيظهر من الصدوق: البناء على أنّ بعض فصول الأذان قد تُترك في روايات الأذان لأجل التقيّة، فمِن الغريب بعد ذلك استنتاجه لوضع الشهادة الثالثة في الروايات المتقدّمة لأجل ترك ذِكرها في كثير من الروايات الأخرى، حسب سياق كلامه في كتاب الفقيه، فلاحظ كلامه المتقدِّم على العبارة التي نقلناها.

كما أنّه يظهر منه في كتابه التوحيد: أنّ الأذان مشتمل على فصل كنائي عن ولاية أهل البيت (عليهم السلام)، وهو حيّ على خير العمل، فهذا ممّا يَعضد تضمّن الأذان لذكر الولاية، بل قد روى الصدوق في العِلل (١) في المصحّح عن ابن عمير، عن أبي الحسن أنّه سأله عن (حيّ على خير العمل) لِمَ تُركت من الأذان؟ قال: (تريد العلّة الظاهرة أو الباطنة؟ قلت: أريدهما جميعاً، فقال: أمّا العلّة الظاهرة؛ فلئلاّ يدع الناس الجهاد أو اتكالاً على الصلاة، وأمّا الباطنة (٢) ؛ فإنّ خير العمل الولاية، فأراد من أمْر بترك حيّ على خير العمل من الأذان، أن لا يقع حثٌ عليها ودعاء إليها) انتهى.

ممّا يدلّ على بناء الصدوق على كون فصل (حيّ على خير العمل): هو عنوان لولاية أهل البيت (عليهم السلام)، وصيغة من صيغ الشهادة الثالثة الكنائيّة، ثُمّ إنّه يُلاحظ على كلام الصدوق في الفقيه جملة من الأمور.

أولاً: إنّ الصدوق قد اعتمد وروى في كتاب التوحيد (٣)، رواية في الأذان بسند متّصل تتضمّن نداء مَلك من الملائكة العظام - إذا حضر وقت الصلاة - بالشهادات الثلاث،

____________________

(١) الوسائل: أبواب الأذان والإقامة، باب ١٩، ح١٦.

(٢) أي: الخفيّة التي لم يفصح الثاني عنها عَلناً.

(٣) التوحيد: باب ٣٨، ص٢٨١، ح١٠.

١١٢

وإنّه لأجل ذلك تصيح الديكة في أوقات الصلاة كما سيأتي نقلها مفصّلاً، مع أنّه قد روى أيضاً في عِلل الشرائع - كما سيأتي - أنّ هذا النداء ذا صلة بالأذان، كما سيأتي مفصّلاً بحسب الروايات التي رواها الصدوق نفسه (قدِّس سرّه).

ثانياً: إنّ الصدوق في الفقيه قد بنى وروى ذِكر أسمائهم (عليهم السلام) بوصف الإمامة في قنوت الصلاة، وقنوت صلاة الوتر، حيث أورد في باب قنوت الصلاة الرواية بقوله: وقال الحَلبي له (للصادق (عليه السلام)): أسمّي الأئمّة (عليهم السلام) في الصلاة؟ قال: (أجمِلهم) (١).

مع أنّه أوردَ في الموضع الأوّل الفتوى لسعد بن عبد الله، بعدم جواز الدعاء في القنوت بالفارسيّة، ممّا يظهر منه أنّ الحال في القنوت توقيفي غير موسع، ومع ذلك أفتى برجحان ذِكرهم بالإمامة فيه.

وكذلك أفتى الصدوق بالشهادة الثالثة في المقنع، في دعاء التوجّه بعد تكبيرة الإحرام قال: ثُمّ تُكبّر تكبيرتين وقل: وجّهتُ وجهي للذي فطر السماوات والأرض، عالِم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، على ملّة إبراهيم، ودين محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وولاية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) حنيفاً مسلماً) (٢).

ثالثاً: إنّ والد الصدوق علي بن بابويه (قدِّس سرّه) ذَكر الشهادة الثالثة في عدّة مواضع:

____________________

(١) الفقيه: ج١، ص٣١٧ طبعة قم، وص٤٩٣.

(٢) المقنع: ص٩٣، طبعة قم، مؤسّسة الإمام الهادي.

١١٣

منها: في دعاء التوجّه بعد تكبيرة الإحرام، نظير ما مرّ في عبارة الصدوق.

ومنها: في التشهّد حيث قال: (أشهدُ أنّك نِعم الرب، وأنّ محمّداً نِعم الرسول، وأنّ عليّ بن أبي طالب نِعم الولي) (١) .

ومنها: في صيغة الصلاة على النبي وآله في تشهّد الصلاة حيث قال: (اللهمّ صلِّ على محمّد المصطفى، وعليّ المرتضى، وفاطمة الزهراء، والحسن، والحسين، وعلى الأئمّة الراشدين من آل طه وياسين، اللهمّ صلِّ على نورك الأنور، وحبلك الأطول، وعلى عروتك الأوثق، وعلى وجهك الكريم، وعلى جنبك الأوجب، وعلى بابك الأدنى، وعلى مسلك الصراط) (٢).

ومنها: ما ذكرهُ علي بن بابويه في صيغة التسليم في الصلاة حيث قال: (السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته، السلام عليك وعلى أهل بيتك الطيبين، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) (٣) ، وقريب منه ما تقدّم.

ويأتي من اعتماد الصدوق في الفقيه ذلك في التسليم للصلاة، فلم توجِب رواية كلّ هذه المواضع التُهمة بالتفويض عند الصدوق، فما الوجه في تخصيص رواة الشهادة الثالثة في الأذان بتهمة التفويض، مع أنّ عبارة الصدوق متدافعة بين الصدر والذيل؛ حيث إنّه في الصدر وَصفَ رواة هذه الروايات بالمفوّضة على نحو التحقيق، وفي الذيل وَصفهم بأنّهم متّهمون بالتفويض أي يظنّ بهم ذلك، ومنشأ هذا الظن ليس إلاّ تخرّصاً ورَجماً بالغيب، بعد كون الشهادة الثالثة مضمونها من ضروري المذهب، ومُكمِّلة للدين، ولقبول ورضا الرب بالأعمال واشتراط الإيمان بها،

____________________

(١) الفقه الرضوي: ص١٨ طبعة آل البيت (عليهم السلام).

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

١١٤

وبعدما اتّضح رواية الصدوق نفسه لروايات في موارد عدّة في الصلاة يذكرها بصيغ مختلفة للشهادة الثالثة، فأي التقاء لذلك مع التفويض؟

ويُحتمل قريباً أنّ الصدوق ذَكر ذلك تقيّة، نظراً للأحداث والفتن الدامية التي حصلت بين الشيعة وسنّة جماعة الخلافة في بغداد وغيرها من البلدان، قَبل ورود الصدوق لبغداد بعقود من السنين، وكذلك أثناء وروده إليها وقد استعرَضَت الكتب التاريخيّة (١) ذلك بتفصيل، ويَعضد هذا الاحتمال قرائن منها:

أ - الصلة الوثيقة بين الصدوق وآل بويه، مع أنّهم هم الذين رفعوا شعار التشيّع في الأذان: كالشهادة الثالثة، وحيّ على خير العمل - كما مرّ تفصيله - في بغداد، وجنوب إيران، مع أنّ آل بويه من الشيعة الاثنى عشريّة، ولم يكونوا من فِرق الغلاة والمفوّضة.

ب - قول الصدوق في الفقيه في باب الوضوء، وفي صفة وضوء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: وقد فوّض الله عزّ وجل لنبيّه أمر دينه، ولم يُفوّض إليه تعدّي حدوده (٢).

وقال المجلسي في البحار بعد نقل الكلام المتقدّم للصدوق: ولعلّ الصدوق عندما نفى المعنى الأوّل حيث قال في الفقيه: وقد فوّض الله عزّ وجب إلى نبيّه أمر دينه، ولم يفوّض إليه تعدّي حدوده)، وأيضاً هو (رحمه الله) قد روى كثيراً من أخبار التفويض في كتبه (٣) ولم يتعرّض لتأويلها) (٤).

____________________

(١) قد مرّ تفصيل المصادر في ذلك في المدخل في مبحث السيرة، فلاحظ.

(٢) ثواب الأعمال: باب عقاب العُجب ص٣٥١، اعتقادات الصدوق، عيون أخبار الرضا: ج٢، ص٢٠٢، مَن لا يحضرهُ الفقيه: ج١، ص٢٠١، طبعة جماعة المدرّسين، حديث ٦٠٥.

(٣) الفقيه: ج١، ص٤١ طبعة قم، منشورات جماعة المدرّسين.

(٤) البحار: ج٢٥، ص٣٤٧.

١١٥

قال الصدوق في كتابه الاعتقادات: (وقد فوّض الله تعالى إلى نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أمر دينه فقال تعالى: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) ، وقد فوّض ذلك إلى الأئمّة (عليهم السلام)....) (١).

قال الصدوق في الفقيه، وقال زرارة بن أعين، قال أبو جعفر (عليه السلام): (كان الذي فرضَ الله تعالى على العباد عشر ركعات وفيهنّ القراءة وليس فيهنّ وهمٌ - يعني السهو - فزاد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سبعاً فيهنّ السهو....) (٢).

أقول: فمع هذه التصريحات من الصدوق بالتفويض، أو صحّة بعض أقسام التفويض، كالتفويض في التشريع من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الحدود التي رسمها الله تعالى له، مع فتوى الصدوق بالشهادة الثالثة في مواضع من الصلاة، كما في: ضمن دعاء التوجّه (٣) ، وفي قنوت الصلاة (٤) ، وفي التسليم (٥) ، بل في الفقه الرضوي - الذي هو رسالة والده علي بن بابويه - ذَكر الشهادة الثالثة في تشهّد الصلاة (٦) .

ومع ما تقدّم - من وقوع الفتن الدامية بين الشيعة وأهل سنّة الجماعة في بغداد، وحلب، ومصر، وبين آل بويه وغيرهم، كما مرّ مفصّلاً في بحث السيرة - لا يبعد كون حكم الصدوق بالتفويض على رواة هذه الروايات أنّه من باب التمسّك بالتقيّة، ولزوم الاتّقاء على الشيعة،

____________________

(١) اعتقادات الصدوق: ص١٠٩ - ١١١.

(٢) مَن لا يحضرهُ الفقيه: ج١ باب فرض الصلاة، ح٦٠٥، ص٢٠١ طبعة جماعة المدرّسين.

(٣) المقنع: ص٩٣، طبع قم - مؤسّسة الإمام الهادي.

(٤) الفقيه: ج١، ص٤، ص٣، وص٣١٧، طبعة قم.

(٥) المقنع: ص٩٦، طبع قم - مؤسّسة الإمام الهادي والفقيه: ج١، ص٣١٩.

(٦) الفقه الرضوي: ص١٠٨، طبعة آل البيت.

١١٦

وقد يكون التدافع بين صدر عبارته وذيلها تعريض وإيماء وتلويح بالتقيّة، حيث حَكم في صدر عبارته بأنّها من وضع المفوّضة، ثُمّ ذَكر في ذيل عبارته: أنّ مَن يتعاطى هذه الروايات ويعمل بها فهو متّهم بالتفويض، مع أنّ الجزم بالوضع متوقف على الجزم أيضاً بالتفويض، وعلى الجزم بمنافاة المضمون؛ لمسلّمات وأصول المذهب، فكيف يتلائم ذلك مع عدم الجزم بالتفويض، بل المظنّة بأنّهم مفوّضة ومتّهمون.

رابعاً: إنّ ميزان التفويض والغُلو عند الصدوق (قدِّس سرّه) - وشيخه ابن الوليد، ومدرسة الرواة والمحدّثين القميّين - يختلف عن ميزان ذلك لدى الشيخ المفيد، والمرتضى، والطوسي، والمدرسة البغداديّة والكوفيّة؛ فإنّ الأولى اتّصفت بالحدّة والإفراط في ذلك، فإنّ بعضهم - كالصدوق في كتابه المزبور - يجعل نفي السهو عن المعصوم في الأفعال ذات الحكم الإلزامي أوّل درجات الغلو، ووقائع المدرسة الأولى - مع كبار وجوه وفقهاء ومتكلمي الطائفة والبرقي وغيرهم - معروفة، فلاحظ رجال الكشّي وغيره، ونحن وإن نُعطي النصفة والحق للمدرسة الأولى في ذلك، نظراً لأخذ الحيطة في تراث الروايات، ودَحراً لأيدي الوضّاع والمدلّسين عن الطمع في الجعل، إلاّ أنّ ذلك كلّه في إطار الوقاية والحماية، لا أنّه يعني صحَّة كلّ تشدّدهم وحدّتهم في صرامة المباني الرجاليّة والدرائيّة، التي تُضيّع هي الأخرى قسماً من التراث الروائي الديني.

ولذلك خطّأ جمهور أصحابنا - حتّى ابن الغضائري البغدادي المتشدّد - طعْنَ الصدوق وشيخه في عدّة مواضع، كما في طعنه على أصلَي زيد الزرّاد، وزيد النرسي، بأنّهما موضوعان من قِبَل محمد بن موسى الهمداني: بأنّ هذين الأصلين قد رواهما الأصحاب بأسانيد مختلفة أخرى صحيحة.

١١٧

وكما في تخطئة النجاشي وغيره من الرجاليّين المحدِّثين، في استغرابهم بعض ما استثناه ابن الوليد، وبتبعه الصدوق من نوادر الحكمة لمحمّد بن أحمد الأشعري القمّي، حيث حكى النجاشي عن شيخه أبي العبّاس بن نوح تعجّبه من استثناء روايات محمد بن عيسى بن عبيد من الكتاب المزبور، مع أنّه كان على ظاهر العدالة والثقة.

وقد استثنى الصدوق وشيخه من الكتاب المزبور روايات سهل بن زياد الآدمي، مع أنّ الكليني أدمنَ الرواية عنه في الكافي، مع أنّ الصدوق أيضاً قد اعتمده في طريق المشيخة، وكذا استثنيا روايات أحمد بن هلال العبرتائي، مع أنّ الشيخ في العدّة ادّعى إجماع الطائفة على العمل برواياته في حال استقامته، وغيرها من الموارد التي امتنعَ الصدوق من نقل رواية الرواة الموجودة في الأصول المعتبرة لمسلكه الخاصّ به وبشيخه، بل تراهما يمتنعان من نقل رواية كتابين (أصلَين) معتبرَين عند الأصحاب لذلك.

ومن موارد وأمثلة التشدّد بحدّة التي تفرّد بها الصدوق: ما ذهبَ إليه في الفقيه من أنّ شهر رمضان لا ينقص عن ثلاثين يوماً أبداً، وذَكر جملة من الروايات بهذا المضمون، ثُمّ قال: (مَن خالفَ هذه الأخبار وذهب إلى الأخبار الموافقة للعامّة في ردّها اتُّقي كما يُتّقى من العامّة، ولا يُكلّم إلاّ بالتقيّة كائناً مَن كان، إلاّ أن يكون مسترشداً فيرشد ويَبين له، فإنّ البدعة إنّما تُماث وتبطل بترك ذِكرها ولا قوّة إلاّ بالله) (١).

وقال أيضاً في الخصال بعدما أورد الروايات: (إنّ إكمال العدّة ثلاثين يوماً، مذهب خواص الشيعة وأهل الاستبصار في شهر رمضان أنّه لا ينقص عن ثلاثين يوماً أبداً،

____________________

(١) الفقيه: كتاب الصوم، باب النوادر، ص١٧١، ج٢، طبعة قم.

١١٨

والأخبار في ذلك موافِقة للكتاب ومخالفة للعامّة، فمَن ذَهب من ضَعفة الشيعة إلى الأخبار التي وردت للتقيّة، في أنّه ينقص ويصيبه ما يصيب الشهور من النقصات والتمام اتُقي كما تُتّقى العامّة، ولم يُكلّم إلاّ بما يُكلّم به العامّة، ولا قوّة إلاّ بالله) (١).

مع أنّه قد رجعَ عن ذلك في كتابه المُقنع، فقال في باب رؤية هلال شهر رمضان: (وقد يكون شهر رمضان تسعة وعشرين، ويكون ثلاثين، ويُصيبه ما يصيب الشهور من النقصان والتمام) (٢) .

____________________

(١) الخصال: ج٢، ص٥٣١، طبعة قم.

(٢) المقنع: ص١٨٣، طبعة قم.

١١٩

نظرةُ الشيخ الطوسي والسيّد المرتضى (قدِّس سرّهما)

وقد اختلفَ موقف الشيخ الطوسي والسيّد المرتضى عن الصدوق في اعتبار طرق هذه الروايات، ومثلهما ابن برّاج، والعلاّمة، والشهيد الأوّل، ولنذكر جملة من عبائرهما:

قال السيّد المرتضى في رسالته (مسائل مبّافارقيات) في المسألة الخامسة عشر: هل يجب في الأذان بعد قول (حيّ على خير العمل) محمّد وعلي خير البشر؟

الجواب: إن قال: محمّد وعلي خير البشر على أنّ ذلك من قوله خارج من لفظ الأذان جاز؛ فإنّ الشهادة بذلك صحيحة، وإن لم يكن فلا شيء عليه) (١) .

أقول: وظاهر جوابه في الشق الثاني أنّه إن أتى به على أنّه من داخل الأذان وفصوله فلا شيء عليه، أي فيسوغ ذلك، وهي فتوى منه (قدِّس سرّه) بمضمون إحدى الروايات التي أوردها الصدوق في الفقيه، والتي مرّ نقل متونها، كما أنّ سؤال السائل - من مدينة كبيرة من بلاد الجزيرة وهي مبّافارقي - هو عن وجوب أداء الشهادة الثالثة في الأذان، وهو يفيد المفروغيّة من مشروعيّتها، كما أنّه يكشف عن ممارسة وقيام السيرة بالتأذين بها في الأذان عند الشيعة آنذاك؛ وإنّما وقعَ الترديد في لزومها، وهذا يدعم ما تقدّم من عبارة الصدوق في الفقيه: من وجود السيرة لدى الشيعة آنذاك على التأذين بالشهادة الثالثة، وهي سيرة في بداية الغيبة الكبرى، مضافاً إلى ما قدّمناه في عبارة الصدوق من دلالتها على كون هذه السيرة لدى رواة تلك الطوائف قَبل الغيبة الصغرى؛ لدلالة رواياتهم لها على عملهم بها،

____________________

(١) رسالة المسائل: ص٢٥٧ مطبوعة بضميمة جواهر الفقه لابن برّاج، طبعة جماعة المدرّسين، ورسائل المرتضى: طبعة السيّد المرعشي، ج١، ص٢٧٩.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420