الشهادة الثالثة

الشهادة الثالثة9%

الشهادة الثالثة مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 420

الشهادة الثالثة
  • البداية
  • السابق
  • 420 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 108487 / تحميل: 6630
الحجم الحجم الحجم
الشهادة الثالثة

الشهادة الثالثة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

والحزن لوقوع حادثة غير مطلوبة!.

ثمّ تبيّن الآيات من هم «المكذّبون» فتقول :( الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ) .

فيزعمون أنّ آيات القرآن ضرب من الكذب والافتراء وأنّ معجزات النّبي سحر وأنّه مجنون ، ويتلقّون جميع الحقائق باللعب ويسخرون منها ويستهزئون بها ويحاربون الحقّ بالكلام الباطل غير المنطقي ، ولا يأبون من أيّة تهمة أو كذب في سبيل الوصول إلى مآربهم.

«خوض» على وزن حوض ـ معناه الدخول في الكلام الباطل ، وهو في الأصل ورود الماء والعبور منه.

ثمّ تبيّن الآيات ذلك اليوم وعاقبة هؤلاء المكذّبين في توضيح آخر : فتقول :( يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ) (١) أي يساقون نحو جهنّم بعنف وشدّة.

ويقال لهم حينئذ :( هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ ) .

كما يقال لهم أيضا :( أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ ) ؟!

لقد كنتم تزعمون في الدنيا إنّ ما جاء به محمّد سحر ، وقد أخذ السحر عن ساحر آخر ، فغطّى على أعيننا ليصرفها عن الحقائق وليختطف عقولنا! ويرينا أمورا على أنّها معاجز ، ويذكر لنا كلاما على أنّه وحي منزل من الله ، إلّا أنّ جميع ذلك لا أساس له وما هو إلّا السحر!!

لذلك فحين يردون نار جهنّم يقال لهم بنحو التوبيخ والملامة والاحتقار وهم يلمسون حرارة النار : أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون؟!

كما يقال لهم هناك أيضا :( اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

أجل هذه هي أعمالكم وقد عادت إليكم ، فلا ينفع الجزع والفزع والآه

__________________

(١) دعّ على وزن جدّ معناه الدفع الشديد والسوق بخشونة وعنف و «اليوم» في الآية منصوب على الظرفية أو البدلية من يومئذ في الآية السابقة.

١٦١

والصراخ ولا أثر لكلّ ذلك أبدا.

وهذه الآية تأكيد على «تجسّم الأعمال» وعودتها نحو الإنسان ، وهي تأكيد جديد أيضا على عدالة الله لأنّ نار جهنّم مهما كانت شديدة ومحرقة فهي ليست سوى نتيجة أعمال الناس أنفسهم ، وأشكالها المتبدّلة هناك!.

* * *

تعقيب

١ ـ كيف يساق المجرمون إلى جهنّم؟

لا شكّ أنّ المجرمين يساقون ويدعّون إلى جهنّم بالتحقير والمهانة والزجر والعذاب ، إلّا أنّه تشاهد آيات متعدّدة في هذا الصدد ذات تعابير مختلفة.

إذ نقرأ في الآيتين (٣٠) و٣١) من سورة الحاقة مثلا( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ) .

ونقرأ في الآية (٤٧) من سورة الدخان( خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ ) .

كما جاء التعبير بالسوق في بعض الآيات كالآية (٨٦) من سورة مريم( وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً ) .

وعلى العكس منهم المتّقون والصالحون إذ يتلقّون بكلّ إكرام واحترام عند باب الجنّة :( حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ ) (١) .

وعلى هذا فليست الجنّة والنار ـ كلّ منهما ـ مركزا لرحمة الله أو عذابه فحسب ، بل تشريفات الورود لكلّ منهما كاشفة عن هذا المعنى أيضا.

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية ٧٣.

١٦٢

٢ ـ الخائضون في الأباطيل!.

بالرغم من أنّ كلام القرآن في الآيات الآنفة كان يدور حول المشركين في عصر النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّ هذه الآيات دون شكّ عامّة ، فهي تشمل جميع المكذّبين حتّى الفلاسفة الماديين الخائضين في حفنة من الخيالات والأفكار الناقصة ، ويتّخذون حقائق عالم الوجود لعبا وهزوا ، ولا يعتدون إلّا بما يقرّ به عقلهم القاصر ، فهم ينتظرون أن يروا كلّ شيء في مختبراتهم وتحت المجهر حتّى ذات الله المقدّسة ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ـ وإلّا فلا يؤمنون بوجوده أبدا.

هؤلاء أيضا مصداق للذين هم( فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ) وهم غارقون في أمواج من الخيالات والتصوّرات الباطلة.

إنّ عقل الإنسان مهما بلغ فهو قبال نور الوحي كالشمعة أمام نور الشمس المضيئة في العالم ، فهذه الشمعة تساعد الإنسان أن يخرج من محيط المادّة المظلم وأن يفتح الأبواب نحو ما وراء الطبيعة ، وأن يحلق في كلّ جهة بنور الوحي ليرى العالم الواسع ويتعرّف على مجهولاته وخفاياه.

* * *

١٦٣

الآيات

( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) )

التّفسير

مواهب الله للمتّقين :

تعقيبا على المباحث الواردة في الآيات المتقدّمة حول عقاب المجرمين وعذابهم الأليم تذكر الآيات محلّ البحث ما يقابل ذلك من المواهب الكثيرة والثواب العظيم للمؤمنين والمتّقين لتتجلّى بمقايسة واضحة مكانة كلّ من الفريقين.

تقول الآية الاولى من الآيات محلّ البحث :( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ) .

١٦٤

والتعبير بـ «المتّقين» بدلا من المؤمنين ، لأنّ هذا العنوان يحمل مفهوم الإيمان ، كما يحمل مفهوم العمل الصالح أيضا ، خاصّة أنّ «التقوى» تقع مقدّمة وأساسا للإيمان في بعض المراحل ، كما تقول الآية ٢ من سورة البقرة( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) لأنّ الإنسان إذا لم يكن ذا تعهّد وإحساس بالمسؤولية وروح تطلب الحقّ وتبحث عنه ـ وكلّ ذلك مرحلة من مراحل التقوى ـ فإنّه لا يمضي في التحقيق عن دينه وعقيدته ولا يقبل هداية القرآن أبدا.

والتعبير بـ( فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ) بصيغة الجمع والتنكير لكلّ منهما ، إشارة إلى تنوّع الجنّات والنعيم وعظمتهما.

ثمّ يتحدّث القرآن عن تأثير هذه النعم الكبرى على روحية أهل الجنّة فيقول في الآية التالية :( فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ ) (١) .

خاصّة أنّ الله قد طمأنهم وآمنهم من العقاب( وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ) .

وهذه الجملة قد تكون ذات معنين الأوّل بيان النعمة المستقلّة قبال نعم الله الاخر والثاني أن يكون تعقيبا على الكلام السابق ، أي أنّ أهل الجنّة مسرورون من شيئين «بما آتاهم الله من النعم في الجنّة» ، و «بما وقاهم من عذاب الجحيم».

والتعبير بـ «ربّهم» في الجملتين يشير ضمنا إلى نهاية لطف الله ودوام ربوبيته عليهم في تلك الدار.

ثمّ تشير الآية الاخرى إشارة إجمالية إلى نعم المتّقين في الجنّة فتقول :( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

والتعبير بـ «هنيئا» هو إشارة إلى أنّ أطعمة الجنّة وشرابها السائغة غير المنغّصة ، فهي ليست كأطعمة الدنيا وشرابها التي تجرّ الإنسان إلى الوبال عند

__________________

(١) كلمة «فاكهين» مشتقّة من فكه على وزن نظر ـ وفكاهة على وزن شباهة ، ومعناها كون الإنسان مسرورا ، وجعل الآخرين مسرورين بالكلام العذب ، ويقول الراغب في مفرداته : الفاكهة معناها كلّ نوع من الثمار. والفكاهة أحاديث أهل الأنس وقد احتمل بعضهم أنّ الآية : فاكهين بما أتاهم ربّهم إشارة إلى تناول أنواع الفواكه وهذا المعنى يبدو بعيدا

١٦٥

الإفراط أو التفريط بها إضافة إلى كلّ ذلك لا يحصل عليها بمشقّة ، ولا يخاف من انتهائها ، ولذلك فهي هنيئة!(١) .

ومن المعلوم أنّ أطعمة الجنّة هنيئة بذاتها ، ولكنّ قول الملائكة لأهل الجنّة «هنيئا» هذا القول له لطفه وعذوبته الخاصّة.

والنعمة الاخرى التي يتمتّع بها أهل الجنّة هي كونهم :( مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ ) .

فهم يلتذّون بالاستئناس إلى أصحابهم والمؤمنين الآخرين ، وهذه لذّة معنوية فوق أيّة لذّة اخرى!.

و «سرر» جمع سرير ، وأصل المادّة هو «السرور» وتطلق السرر على الكراسي المهيأة لمجالس السرور ليتّكأ عليها.

و «مصفوفة» من مادّة صف ، ومعناها أنّ هذه السرر مرتبة واحدا إلى جنب الآخر ويتشكّل منه مجلس عظيم للأنس.

ونقرأ في آيات متعدّدة من القرآن أنّ أهل الجنّة يجلسون على سرر متقابلين. [الحجر الآية ٤٧ والصافات الآية ٤٤].

وهذا التعبير لا ينافي ما ورد في هذه الآية محلّ البحث ، لأنّ مجالس الانس والسرور ترتّب الأسّرة فيها على شكل مستدير ومصفوفة جنبا إلى جنب ، فجلّاسها على سرر مصفوفة متقابلون!.

والتعبير بـ «متكئين» إشارة إلى منتهى الهدوء ، لأنّ الإنسان عند الهدوء يتكئ عادة ، والذين هم في قلق وحزن لا يرون كذلك!.

ثمّ يضيف القرآن بأنّا زوجناهم من نساء بيض جميلات ذوات أعين واسعة( وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ) (٢) .

__________________

(١) يقول الراغب في مفرداته : الهنيء كلّ ما لا يلحق فيه المشقّة ولا يعقبه وخامة

(٢) «الحور» : جمع (حوراء) وأحور ، فهو جمع للمذكّر والمؤنث سواء ، ويطلق على من حدقة عينه سوداء وبياضها شفّاف أو

١٦٦

هذه بعض من نعم أهل الجنّة المادية والمعنوية ، إلّا أنّهم لا يكتفون بهذه النعم فحسب ، وإنّما تضاف إليها نعم ومواهب معنوية ومادية أخر!( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) !.

وهذه نعمة بنفسها أيضا أن يرى الإنسان ذريّته في الجنّة ويلتذّ برؤيتهم دون أن ينقص من عمله شيء أبدا.

ويفهم من تعبير الآية أنّ المراد من الذرية هم الأبناء البالغون الذين يسيرون في خطّ الآباء المؤمنين ويتّبعون منهجهم.

فمثل هؤلاء الأبناء وهذه الذريّة إذا كان في عملهم نقص وتقصير فإنّ الله سبحانه يتجاوز عنهم لأجل آبائهم الصالحين ، ويرتفع مقامهم عندئذ فيبلغون درجة آبائهم ، وهذه المثوبة موهبة للآباء والأبناء(١) !.

إلّا أنّ جماعة من المفسّرين يعتقدون أنّ «الذريّة» هنا تشمل الأبناء الكبار والصغار جميعا غير أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع ظاهر الآية ، لأنّ الاتّباع بإيمان دليل على وصولهم مرحلة البلوغ أو مقاربتهم لها.

إلّا أن يقال أنّ الأطفال يصلون في يوم القيامة مرحلة البلوغ ويمتحنون فمتى نجحوا في الامتحان التحقوا بالآباء ، كما جاء هذا المعنى في الكافي إذ ورد فيه أنّه سئل الإمام عن أطفال المؤمنين فقالعليه‌السلام : «إذا كان يوم القيامة جمعهم الله ويشعل نارا فيأمرهم أن يلقوا أنفسهم في النار فمن ألقى نفسه سلم وكان سعيدا وجعل الله النار عليه بردا وسلاما ومن امتنع حرم من لطف الله»(٢) .

__________________

هو كناية عن الجمال ، لأنّ الجمال يتجلّى في العينين قبل كلّ شيء ، والعين جمع لأعين وعيناه معناه العين الواسعة ، وهكذا فإنّ الحور العين مفهوما واسع يشمل الأزواج جميعا الذكور والإناث من أهل الجنّة فالذكور للإناث وبالعكس.

(١) الظاهر أنّ جملة والذين آمنوا جملة مستقلّة والواو للاستئناف ، وقد اختبار جماعة من المفسّرين هذا المعنى «كالعلّامة الطباطبائي والمراغي وسيّد قطب» إلّا أنّ العجب أن يعدّ الزمخشري هذه الجملة معطوفة على وزوجناهم بحور عين مع أنّه لا يتناسب هذا المعنى ومفهوم النصّ ولا ينسجم مع فصاحة القرآن وبلاغته.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٣٩ بتصرّف وتلخيص.

١٦٧

إلّا أنّ ، هذا الحديث إضافة إلى ضعف سنده يواجه إشكالات ومؤخذات في المتن أيضا وليس هنا مجال لبيانها وشرحها.

وبالطبع فإنّه لا مانع أن يلحق الأطفال بالآباء ويكونوا معهم في الجنّة إلّا أنّ الكلام هو هل الآية الآنفة ناظرة إلى هذا المطلب أم لا؟ وقد قلنا إنّ التعبير بـ( اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ ) ظاهره أنّ المقصود هو الكبار.

وعلى كلّ حال ـ وحيث أنّ ارتقاء الأبناء إلى درجة الآباء يمكن أن يوجد هذا التوهّم أنّه ينقص من أعمال الآباء ويعطى للأبناء فإنّ الآية تعقّب بالقول :( وَما أَلَتْناهُمْ ) (١) ( مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) .

وينقل ابن عبّاس عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إذا دخل الرجل الجنّة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال له إنّهم لم يبلغوا درجتك وعملك. فيقول : ربّ قد عملت لي ولهم فيؤمر بالحاقهم به»(٢) .

ممّا ينبغي الالتفات إليه أنّ القرآن يضيف في نهاية الآية :( كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ) .

فلا ينبغي التعجّب من عدم إنقاص أعمال المتّقين ، لأنّ هذه الأعمال مع الإنسان حيثما كان ، وإذا أراد الله أن يلحق أبناء المتّقين بهم تفضّلا منه ورحمة ، فلا يعني ذلك أنّه سينقص من ثواب أعمالهم أي شيء!

وقال بعض المفسّرين : إنّ كلمة «رهين» هنا معناها مطلق ، فكلّ إنسان مرهون بأعماله ، سواء أكانت صالحة أم طالحة ، ولا ينقص من جزاء أعماله شيء.

ولكن مع ملاحظة أنّ هذا التعبير لا يتناسب والأعمال الصالحة ، فإنّ بعض المفسّرين قالوا : إنّ «كلّ امرئ» هنا إشارة إلى أصحاب الأعمال السيّئة! وإنّ كلّ إنسان مرهون بأعماله السيّئة فهو حبيسها وأسيرها.

__________________

(١) الفعل ألتناهم مشتق من مادّة ألت على وزن ثبت : ومعناه الإنقاص.

(٢) تفسير المراغي ، ج ٢٧ ، ص ٢٦.

١٦٨

ويستدلّون أحيانا بالآيتين (٣٨) و٣٩) من سورة المدثر( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ ) .

غير أنّ هذا التّفسير مع الالتفات إلى سياق الآيات السابقة واللاحقة ـ التي تتكلّم في شأن المتّقين وليس فيها كلام على المشركين والمجرمين ـ يبدو غير مناسب!

وقبال هذين التّفسيرين الذين يبدو كلّ منهما غير مناسب ـ من بعض الوجوه ـ هناك تفسير ثالث ينسجم مع صدر الآية والآيات السابقة والآيات اللاحقة ، وهو أنّ من معاني «الرهن» في اللغة «الملازمة» ، وإن كان معروفا أنّه الوثيقة في مقابل الدين ، إلّا أنّه يستفاد من كلمات أهل اللغة أنّ الرهن من معاينة الدوام والملازمة(١) .

بل هناك من يصرّح بأنّ المعنى الأصلي للرهن هو الدوام والثبوت ، ويعدّ الرهن بمعنى الوثيقة من اصطلاحات الفقهاء ، لذلك فإنّه حين يقال «نعمة راهنة» فمعناها أنّها ثابتة ومستقرّة(٢) .

ويقول أمير المؤمنين في شأن الأمم السالفة : «ها هم رهائن القبور ومضامين اللحود»(٣) .

فيكون معنى( كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ) أنّ أعمال كلّ إنسان ملازمة له ولا تنفصل عنه أبدا ، سواء كانت صالحة أو طالحة ، ولذلك فإنّ المتّقين في الجنّة رهينو أعمالهم ، وإذا كان أبناؤهم وذريّاتهم معهم ، فلا يعني ذلك أنّ أعمالهم ينقص منها شيء أبدا.

وأمّا في شأن الآية (٣٩) من سورة المدثر التي تستثني أصحاب اليمين ممّا

__________________

(١) لسان العرب ، مادّة رهن.

(٢) مجمع البحرين ، مادّة رهن.

(٣) نهج البلاغة ، من كتاب له ٤٥.

١٦٩

سبق ، فيمكن أن تكون إشارة إلى أنّهم مشمولون بألطاف لا حدّ لها حتّى كأنّ أعمالهم لا أثر لها بالقياس إلى ألطاف الله(١)

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذه الجملة تؤكّد هذه الحقيقة وهي أنّ أعمال الإنسان لا تنفصل عنه أبدا ، وهي معه في جميع المراحل.

* * *

__________________

(١) هناك تفاسير أخر في أصحاب اليمين سنتناولها ذيل الآية من سورة المدثر إن شاء الله.

١٧٠

الآيات

( وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨) )

التّفسير

مواهب اخرى لأهل الجنّة :

أشارت الآيات المتقدّمة إلى تسعة أقسام من مواهب أهل الجنّة ، وتشير الآيات محلّ البحث إلى خمسة أخر منها بحيث يستفاد من المجموع أنّ ما هو لازم للهدوء والطمأنينة والفرح والسرور واللذّة مهيّأ لهم في الجنّة!

فتشير الآية الاولى من الآيات محلّ البحث إلى نوعين من طعام أهل الجنّة فتقول :( وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ) .

١٧١

«أمددناهم» مشتق من الإمداد ومعناه العطاء والزيادة والإدامة أي أنّ طعام الجنّة وفواكهها لا ينقص منهما شيء بتناولهما ، وهما ليسا كطعام الدنيا وفواكهها بحيث يتغيّران أو ينقصان.

والتعبير بـ( مِمَّا يَشْتَهُونَ ) يدلّ على أنّ أهل الجنّة أحرار تماما في انتخاب الأطعمة ونوعها وكميّتها وكيفيتها ، فمهما طلبوا فهو مهيئ لهم وبالطبع فإنّ طعام الجنّة غير منحصر بهذين النوعين اللحم والفاكهة ، إلّا أنّهما يمثّلان الطعام المهمّ ، وتقديم الفاكهة على اللحم إشارة إلى أفضليّتها عليه.

ثمّ تشير الآية التالية إلى ما يشربه أهل الجنّة من شراب سائغ فتقول :( يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ ) !

حيث يناول أحدهم الآخر كؤوس الشراب الطاهر من الإثم والإفساد ، ويشربون شرابا سائغا عذبا لذيذا يهب النشاط خاليا من أي نوع من أنواع التخدير وفساد العقل! ولا يعقبه لغو ولا إثم ، بل كلّه لذّة وانتباه ونشاط «جسمي وروحاني».

وكلمة «يتنازعون» من مادّة التنازع ومعناه أخذ بعضهم من بعض ، وقد يأتي للمخاصمة والتجاذب ، لذلك قال بعض المفسّرين بأنّ أهل الجنّة يتجاذبون الشراب الطهور بعضهم من بعض على سبيل المزاح والسرور.

لكن كما يستفاد من كلمات أهل اللغة أنّ «التنازع» متى أطلق معه لفظ الكأس أو ما أشبه فمعناه أخذ الكأس من يد الآخر! ولا يعني التخاصم أو التجاذب! وينبغي الالتفات إلى هذه اللطيفة اللغوية وهي أنّ «الكأس» هي الإناء المملوء فإذا كان خاليا لا يطلق عليه كأس(١) .

وعلى كلّ حال ، فحيث أنّ التعبير بالكأس يتداعى منه إلى الشراب المخدّر

__________________

(١) قال الراغب في مفرداته : الكأس : الإناء بما فيه من الشراب وقال في مجمع البحرين كذلك فإذا خلا الإناء سمّي «قدحا».

١٧٢

في الدنيا فإنّ الآية تضيف قائلة( لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ ) ولا يصدر على أثرها عمل قبيح كما يعقب الشراب المخدّر! فشراب هذه الكأس طهور نقي يجعلهم أكثر طهارة وخلوصا.

أمّا النعمة الرابعة المذكورة لأهل الجنّة فوجود الخدم والغلمان إذ تقول الآية :( وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ) .

و «اللؤلؤ المكنون» هو اللؤلؤ داخل صدفه ، وهو في هذه الحالة شفّاف وجميل إلى درجة لا توصف وإن كان خارج الصدف شفّافا وجميلا أيضا ، غير أنّ الهواء الملوّث والأيدي التي تتناوله كلّ ذلك يؤثّر فيه ، فلا يبقى على حالته الاولى من الشفّافية! فالغلمان وخدمة الجنّة هم إلى درجة من الصفاء حتّى كأنّهم اللؤلؤ المكنون كما يعبّر القرآن الكريم.

وبالرغم من أنّه لا حاجة في الجنّة إلى الخدمة ، وما يطلبه الإنسان يجده أمامه ، إلّا أنّ هذا بنفسه إكرام أو احترام آخر لأهل الجنّة!

وقد ورد في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين سئل عن أهل الجنّة فقيل له : يا رسول الله إنّ الغلمان هم كاللؤلؤ المكنون فكيف حالة المؤمنين؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والذي نفسي بيده فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب(١) .

والتعبير بـ (لهم) يدلّ على أنّ كلّ مؤمن له خدمة خاصّون به ، وحيث أنّ الجنّة ليست مكانا للهم والحزن فإنّ الغلمان يلتذّون بخدمتهم المؤمنين!.

وآخر نعمة في هذه السلسلة من النعم هي نعمة الطمأنينة وراحة البال من كلّ عذاب أو عقاب إذ تقول الآية التالية :( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ ) .

__________________

(١) مجمع البيان ، الكشّاف ، روح البيان ، أبو الفتوح الرازي.

١٧٣

فمع أنّنا كنّا نعيش بين ظهراني أهلنا وكان ينبغي أن نحسّ بالأمان والطمأنينة ، إلّا أنّنا كنّا مشفقين مشفقين أن تحدق بنا الحوادث المزعجة والمكدّرة لحياتنا وأن يصيبنا عذاب الله على حين غرّة في أيّة لحظة.

مشفقين أن يسلك أبناؤنا طريق الضلال ، فيتيهوا في مفازة جرداء ويتحيّروا! مشفقين أن يفجؤنا أعداؤنا القساة ويضيّقوا علينا الميدان! ولكن الله منّ علينا برحمته الواسعة :( فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ ) .

أجل : منّ الله الرحيم علينا فنجّانا من سجن الدنيا ووحشتها ، وأنعم علينا في دار القرار وجنّات النعيم.

وحين يتذكّرون ماضيهم وجزئياته ويقيسونه بما هم عليه من حالة منعّمة! يعرفون قدر نعم الله ومواهبه الكبرى أكثر ، وستكون تلك النعم ألذّ وأدعى للقلب ، لأنّ القيم تتجلّى أكثر في القياس بين نعم الدنيا ونعم الآخرة.

والكلام الذي ينقله القرآن على لسان أهل الجنّة هنا يشير إلى اعترافهم بهذه الحقيقة وهي أنّ كون الله برّا رحيما يعرفه أهل الجنّة في ذلك الزمان أكثر من أي وقت مضى فيقولون :( إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ) .

إلّا إنّنا نعرف هذه الصفات الآن بشكل واقعي أكثر ممّا كنّا نعرفها ، إذ شملنا برحمته العظيمة قبال هذه الأعمال التي لا تعدّ شيئا وأحسن إلينا مع كلّ تلك الذنوب الكثيرة!.

أجل إنّ عرصة القيامة ونعم الجنّة مدعاة لتجلّي صفات الله وأسمائه ، والمؤمنون يتعرّفون في عرصة القيامة على حقيقة أسماء الله تعالى وصفاته أكثر من أي زمن آخر.

حتّى الجحيم أيضا تبيّن صفاته وحكمته وعدله وقدرته!

* * *

١٧٤

ملاحظات

١ ـ كلمة «يتساءلون» مشتقّة من السؤال ، ومعناه الاستفهام ، أي يسأل بعضهم بعضا ، وهذا الفعل هنا يشير إلى أنّ أهل الجنّة يسأل بعضهم بعضا عن ماضيه ، لأنّ تذكّر هذه المسائل والنجاة من تلك الآلام والهموم والوصول إلى مثل هذه المواهب كلّ ذلك بنفسه تلذّذ أيضا وهذا يشبه تماما «الإنسان» المسافر العائد من سفر محفوف بالمخاطر إلى محيط آمن. فهو يتحدّث مع من سافر معه عن ما كان في سفره ويعرب عن سروره لسلامته.

٢ ـ كلمة «مشفقين» مشتقّة من الإشفاق ، وكما يقول الراغب في مفرداته معناه التوجّه المقرون بالخوف فحين يتعدّى هذا اللفظ «الإشفاق» بـ «من» يكون مفهوم الخوف فيها أظهر ، وإذا تعدّت بـ «في» يكون مفهوم التوجّه والعناية فيها أكثر!

والأصل أنّ هذه الكلمة مشتقّة من «الشفق» وهو النور المقرون أو الممزوج بشيء من الظلمة.

والآن ينبغي أن يعرف ممّ كانوا مشفقين في الدنيا وخائفين؟ ولأي شيء كانوا يتوجّهون؟!

وهنا احتمالات ثلاثة وقد جمعناها في تفسير الآية إذ لا منافاة بينها جميعا «الخوف من الله والتوجّه إليه لنجاتهم ـ والإشفاق من انحراف أهليهم والالتفات إلى أمر التربية ـ والخوف من الأعداء والتوجّه لحفظ أنفسهم في قبالهم» وإن كان المعنى الأوّل ـ مع ملاحظة الآيات التالية وخاصّة( فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ ) ـ أقرب للنظر!

٣ ـ التعبير «في أهلنا» بإطلاقه يحمل مفهوما واسعا حيث يصدق على جميع الأبناء والأزواج والأحباب ، ويشير هذا التعبير إلى أنّ الإنسان في مثل هذا الجمع يحسّ بالأمن أكثر من أي مكان آخر ، فإذا كان فيهم مشفقا ، فمن المعلوم حاله إذا

١٧٥

كان في غيرهم!!

ويحتمل أيضا أنّ هذا التعبير يشير إلى أولئك المبتلين باسرة غير مؤمنة ، وكانوا خائفين حتّى منهم ، إلّا أنّهم في الوقت ذاته قاوموا وحافظوا على استقلالهم بالاتّكال على الله ولطفه ولم يتلوّنوا بلون الآسرة.

٤ ـ «السموم» يعني الحرارة التي تدخل في مسام البدن فتؤذي الإنسان ، ويطلق على الريح التي تتسم بهذه السمة بريح السموم كما يطلق عذاب السموم على مثل هذا العذاب الذي تدخل حرارته مسام البدن فتؤذيه.

وأمّا إطلاق كلمة «السم» على المواد القاتلة فهو لأنّها تنفذ في جميع أجزاء البدن!

٥ ـ كلمة «البرّ» في الأصل تطلق على اليابسة في قبال البحر ، ثمّ استعملت هذه الكلمة في من يعمل عملا صالحا وواسعا حسنا ، وأجدر بهذه الكلمة الذات المقدّسة ، لأنّ لطفه وإحسانه عمّ العوالم كلّها.

٦ ـ ارتباط الآيات ومضامينها

قلنا أنّ هذه الآيات والآيات المتقدّمة تذكر أربعة عشر قسما من نعم أهل الجنّة.

١ ـ الجنّات ٢ ـ النعيم ٣ ـ السرور ٤ ـ الأمان من عذاب جهنّم ٥ ـ تناول الطعام والشراب السائغ في الجنّة ٦ ـ الاتّكاء على السرر المصفوفة ٧ ـ الأزواج من الحور العين ٨ ـ الحاق الذرية التي تبعت آباءها بإيمان ٩ ـ أنواع الفواكه اللذيذة ١٠ ـ أنواع اللحم ، ١١ ـ ما تشتهي الأنفس ١٢ ـ كؤوس الشراب الطهور ١٣ ـ ويطوف عليهم غلمان لهم كأنّهم لؤلؤ مكنون ١٤ ـ التساؤل عن أيّام الدنيا في مجالس يغمرها الانس!.

١٧٦

وهذه النعم بعضها مادّي وبعضها معنوي ، ومع كلّ ذلك فإنّ نعم الجنّة الماديّة والمعنوية غير منحصرة بهذه النعم ، بل ما هو مذكور هنا يعدّ جانب من جوانب نعم الجنّة!

* * *

١٧٧

الآيات

( فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) )

سبب النّزول

جاء في رواية أنّ قريشا اجتمعت في دار الندوة(١) ليفكّروا في مواجهة دعوة النّبي الإسلامية التي كانت تعدّ خطرا كبيرا على منافعهم غير المشروعة.

فقال رجل من قبيلة «عبد الدار» ينبغي أن ننتظر حتّى يموت ، لأنّه شاعر على كلّ حال ، وسيمضي عنّا كما مات زهير والنابغة والأعشى «ثلاثة شعراء جاهليون» وطوي بساطهم وسيطوى بساط محمّد أيضا بموته. قالوا ذلك

__________________

(١) دار الندوة هي دار «قصي بن كلاب» جدّ العرب المعروف ، وكانوا يجتمعون فيها للمشاورة في الأمور المهمّة ، وكانت هذه الدار إلى جوار بيت الله وتفتح بابه نحو جهة الكعبة ، وكانت هذه الدار ذات مركزية في زمن قصي بن كلاب نفسه (راجع سيرة ابن هشام ، ج ٢ ، ص ١٢٤ وج ص ١٣٢).

١٧٨

وتفرّقوا فنزلت الآيات آنفة الذكر وردّت عليهم(١) .

التّفسير

أمنيات المشركين وتحدّي القرآن

كان الكلام في الآيات المتقدّمة على قسم مهمّ من نعم الجنّة وثواب المتّقين وكان الكلام في الآيات التي سبقتها عن بعض عذاب أهل النار.

لذلك فإنّ الآية الاولى من الآيات محلّ البحث تخاطب النّبي فتقول : «فتذكّر»! لأنّ قلوب عشّاق الحقّ تكون أكثر استعدادا بسماعها مثل هذا الكلام ، وقد أن الأوان أن تبيّن الكلام الحقّ لها!

وهذا التعبير يدلّ بوضوح أنّ الهدف الأصلي من ذكر جميع تلك النعم ومجازاة الفريقين هو تهيئة الأرضية الروحية لقبول حقائق جديدة! وفي الحقيقة فإنّه ينبغي على كلّ خطيب أنّ يستفيد من هذه الطريقة لنفوذ كلامه وتأثيره في قلوب السامعين.

ثمّ يذكر القرآن الاتّهامات التي أطلقها أعداء النّبي الألدّاء المعاندون فيقول :( فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ ) .

«الكاهن» يطلق على من يخبر عن الأسرار الغيبية ، وغالبا ما كان الكاهن يدّعي بأنّه له علاقة بالجنّ ويستمد الأخبار الغيبية منهم ، وكان الكهنة في الجاهلية ـ خاصّة ـ كثيرين ومن ضمنهم الكاهنان «سطيح» و «شق» ، والكهنة أفراد أذكياء ، إلّا أنّهم يستغلّون ذكاءهم فيخدعون الناس بادّعاءاتهم الفارغة.

والكهانة محرّمة في الإسلام وممنوعة ولا يعتدّ بأقوال الكهنة! لأنّ أسرار

__________________

(١) راجع تفسير المراغي ، ج ٢٧ ، ص ٣١.

١٧٩

الغيب خاصّة بعلم الله ولا يطلع غيبه إلّا من ارتضى من رسول وإمام وحسب ما تقتضيه المصلحة.

وعلى كلّ حال فإنّ قريشا ومن أجل أن تشتّت الناس وتصرّفهم عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت تتّهمه ببعض التّهم ، فتارة تتّهمه بأنّه كاهن ، وتارة تتّهمه بأنّه مجنون ، والعجب أنّها لم تقف على تضاد الوصفين ، لأنّ الكهنة أناس أذكياء والمجانين على خلافهم!! ولعلّ الجمع بين الافترائين في الآية إشارة إلى هذا التناقض في الكلام من قبل القائلين.

ثمّ يذكر القرآن الاتّهام الثالث الذي يخالف الوصفين السابقين أيضا فيقول :( أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) .

فطالما هو شاعر فعلينا أن نصبر ، إذ أنّ لأشعاره رونقها وجاذبيتها ، فإذا حلّ به الموت وانطوت أشعاره كما ينطوي سجل عمره وأودعت في ضمير النسيان فسنكون حينئذ في راحة من أمره!!.

وكما يفهم من كتب اللغة فإنّ «المنون» مشتقّ من المنّ ، وهو على معنيين : النقصان والقطع ، وهذان المعنيان أيضا بينهما مفهوم جامع!

ثمّ استعملت كلمة «المنون» في الموت أيضا ، لأنّه ينقص العدد ويقطع المدد.

وقد يطلق «المنون» على مرور الزمان ، وذلك لأنّه يوجب الموت ويقطع العلائق وينقص النفر ، كما يطلق «المنون» على الليل والنهار أحيانا ، ولعلّ ذلك للمناسبة ذاتها(١) .

وأمّا كلمة (ريب) فأصلها الشكّ والتردّد والوهم في الشيء الذي تنكشف أستاره بعدئذ فتتضح حقيقته!

وهذا التعبير يستعمل في شأن الموت ، فيقال «ريب المنون» لأنّ وقت

__________________

(١) راجع «لسان العرب» و «المفردات للراغب» و «المنجد» و «تفسير القرطبي».

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

وروى الصدوق في الفقيه قال، قال الصادق (عليه السلام): (إذا قمتَ إلى الصلاة... وارفع يديك بالتكبير إلى نحرك وكبِّر ثلاث تكبيرات وقل... ثُمّ كبِّر تكبيرتين... ثُمّ كبِّر تكبيرتين وقل: وجّهتُ وجهيَ للذي فطرَ السماوات والأرض، على ملّة إبراهيم، ودين محمّد، ومنهاج علي حنيفاً مسلماً... الحديث) (١).

وقال الصدوق معقّباً الحديث: (وإنّما جَرت السُنّة في افتتاح الصلاة بسبع تكبيرات؛ لمَا رواه زرارة).

وفي الفقه الرضوي: (ثُمّ تكبِّر مع التوجّه ثُمّ تقول: اللهمّ... ثُمّ تكبّر تكبيرتين وتقول: لبّيك وسعديك... ثُمّ تكبّر تكبيرتين وتقول: وجّهتُ وجهيَ للذي فطرَ السموات والأرض حنيفاً مسلماً على ملّة إبراهيم، ودين محمّد، وولاية علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم، وما أنا من المشركين... الحديث) (٢).

ما رواه السيّد علي بن طاووس في فلاح السائل (٣) عن كتاب ابن خانبه (٤) قال: ويقول بعد ثلاث تكبيرات من تكبيرات الافتتاح، ورواه الحَلَبي وغيره عن الصادق (عليه السلام): (اللهمّ أنت... ثُمّ يكبّر تكبيرتين، ثُمّ يقول: لبّيك... ثُمّ يكبّر تكبيرتين أخريين ويقول: وجّهتُ وجهي للذي فطر السموات والأرض على ملّة إبراهيم، ودين محمّد، ومنهاج علي صلواتك عليهم حنيفاً مسلماً) (٥).

____________________

(١) الفقيه: ح١، وصف الصلاة وأدب المصلي: ص٣٠٤، طبعة قم.

(٢) ج٤، ص١٤٢ مستدرك الوسائل: أبواب تكبيرة الإحرام، باب٦، ح٣.

(٣) فلاح السائل: صفحة١٣٢، طبعة قم.

(٤) وهو أحمد بن عبد ربّه بن خانبه الكرخي.

(٥) المستدرك: ج٤، أبواب تكبيرة الإحرام: باب٦، ح١.

٣٨١

وما رواه جملة من المتقدّمين الذي تُعد كتبهم متون روايات: كمقنع الصدوق (١) ، ومقنعة المفيد، واقتصاد (٢) الشيخ، ومصباح المتهجّد (٣) للشيخ، والكافي للحَلَبي، وغُنية ابن زهرة، ومراسم الديلمي، ومهذّب ابن برّاج، وهذه الكتب - مضافاً إلى أنّها مصادر روائيّة - دالّة على فتوى أصحابها بذلك، فمشهور المتقدّمين يبنون على ذكريّة الشهادة الثالثة في الصلاة.

هذا، ويَعضد ذكريّة الشهادة الثالثة في الصلاة، ما ورد من روايات في التسليم، وفي كيفيّة الصلاة على محمّد وآل محمّد في التشهّد المتضمّن للشهادة الثالثة، وقد تقدّم استعراض تلك الروايات مراراً في الفصول السابقة كما في الفقيه للصدوق (٤)، وهو بصيغة: (السلامُ على محمّد بن عبد الله خاتم النبيين، السلام على الأئمّة الراشدين المهديين)، وفي الفقه الرضوي (٥) أيضاً وهو بصيغة: (السلامُ عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام عليك وعلى أهل بيتك الطيبين)، والمفيد في المقنعة (٦) وهو بصيغة الفقه الرضوي، وقرّبه الصدوق في المقنع، والشيخ في النهاية، وابن برّاج في المهذّب، وسلاّر في المراسم، والحَلَبي في الكافي، والنراقي في المستند (٧) .

____________________

(١) المقنع: ص٩٣، طبعة قم.

(٢) اقتصاد الشيخ: ص٢٦٠ - ٢٦١.

(٣) مصباح المتهجّد: ص٤٤، مؤسّسة الأعلمي.

(٤) الفقيه: ج١، ص٣١٩، طبعة قم، باب وصف الصلاة.

(٥) الفقه الرضوي: ص١٨٠.

(٦) المقنعة: ص٦٩.

(٧) وقد تقدّم الإشارة إلى مصادرها في المدخل فلاحظ، وجِلّ هذه الكتب متون روائيّة.

٣٨٢

وكذا الروايات الواردة في صيغة الصلاة على محمّد وآل محمّد في التشهّد، كما رواه في الفقه الرضوي: (اللهمّ صلِّ على محمّد المصطفى، وعلي المرتضى، وفاطمة الزهراء، والحسن والحسين، وعلى الأئمّة الراشدين من آل طه وياسين) (١).

وقد أفتى به النراقي في المستند (٢) ، وقد ذَكر الشيخ المفيد في المقنعة في صيغة الصلاة في القنوت: (اللهمّ صلِّ على محمّد عبدك ورسولك وآله الطاهرين... اللهمّ صلِّ على أمير المؤمنين وصي رسول ربّ العالمين، اللهمّ صلِّ على الحسن والحسين سبطي الرحمة وإمامَي الهدى، وصلِّ على الأئمّة من وِلد الحسين، علي بن الحسين... والخَلف الحجّة (عليهم السلام)، اللهمّ اجعلهُ الإمام المنتظر...) (٣).

الوجهُ الثالث: الروايات الخاصّة تنزيلاً

وهو بمنزلة الروايات الخاصّة والدلالة الخاصّة على جواز أصل الشهادة الثالثة في التشهّد، وبيانه: عبارة عن أنّه قد وردَ بأنّه ليس في التشهّد شيء مؤقّت، والمراد منه عدم التوقيت من جانب الكثرة، وإلاّ فمن ناحية القلّة محدود ومؤقّت بالشهادتين، فهذه مقدّمة يأتي بيانها، والمقدّمة الثانية أنّ ظاهر الروايات العديدة في كيفيّة التشهّد المندوب، دالّة على إطلاق العِنان في تعداد جُمل التشهّد، حيث إنّ بينها اختلافاً كثيراً في الصيغة والتعداد للجُمل المتشهّد بها، والجامع الطبيعي بينها: هو أنّها في صدد الحثّ على التشهّد بجملة المعتقدات الحقّة، لا التحديد والتخصيص بمقدار دون آخر.

____________________

(١) الفقه الرضوي: ص١٠٨.

(٢) مستند الشيعة: ج٥، ص٣٣٤.

(٣) المقنعة: ص١٢٥ - ١٢٦- ١٣٠.

٣٨٣

وعلى ضوء هاتين المقدّمتين الآتيتين، يتبيّن اقتضاء جواز الشهادة الثالثة؛ لأنّها من جملة المعتقدات الحقّة، بل لها موقعيّة المرتبة الثالثة بعد الشهادتين، متقدّمة على بقيّة المعتقدات الحقّة الأخرى أهميّة بحسب الأدلّة القرآنيّة والنبويّة القطعيّة.

بيانُ المقدّمة الأولى:

وهي ما ورد من الروايات على أنّ ليس في التشهّد شيء مؤقّت من ناحية الكثرة، بل التحديد من ناحية القلّة، كصحيح محمّد بن مسلم قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام) التشهّد في الصلاة؟ قال: (مرّتين، قال، قلت: وكيف مرّتين؟ قال: إذا استويتَ جالساً فقل: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وحدهُ لا شريك له، وأشهدُ أنّ محمّداً عبده ورسوله، ثُمّ تنصرف قال، قلت: قول العبد: التحيات لله والصلوات الطيبات لله؟ قال: هذا اللطف من الدعاء يلطف العبد ربّه) (١) .

وهذه الصحيحة الدالّة على أنّ حدّ التشهّد من جانب القلّة، هما الشهادتان وأنّه لا حدّ له من جانب الكثرة، كما تدلّ على مشروعيّة الدعاء والثناء بما هو حق من المعتقدات في التشهّد، كصحيح زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): ما يجزي من القول في التشهّد في الركعتين الأوليتين؟ قال: (تقول أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، قلتُ: فما يجزي من تشهّد الركعتين الأخيرتين؟ فقال: الشهادتان) (٢).

____________________

(١) أبواب التشهّد: باب٤، ح٤.

(٢) أبواب التشهّد: باب٤، ح١.

٣٨٤

وصحيح الفضلاء عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إذا فرغَ من الشهادتين فقد مضت صلاته، فإن كان مستعجلاً في أمر يخاف أن يفوته فسلّم وانصرفَ، أجزأهُ) (١)، وغيرها من الروايات الواردة (٢).

وفي الصحيح إلى منصور بن حازم عن بكر بن حبيب قال، قلتُ لأبي جعفر (عليه السلام): أيّ شيء أقول في التشهّد والقنوت؟ قال: (قل بأحسن ما عَلمت، فإنّه لو كان موقّتاً لهلكَ الناس) (٣).

وفي طريق الكليني مع اختلاف في الألفاظ: (لو كان كما يقولون واجباً على الناس هلكوا، إنّما كان القوم يقولون أيسر ما يعلمون إذا حمدتَ الله أجزأ عنك) (٤) .

وبكر بن حبيب وإن لم يكن فيه توثيق خاص، إلاّ أنّه قد روى عنه منصور بن حازم ما يقرب من ستة مواضع (٥) ، وقال الشيخ البهائي في تعليقه على الفقيه وفي الحبل المتين: (إنّ جمهور الأصحاب تلقّوا رواية له بالقبول).

ومن الروايات التي رواها عنه منصور بن حازم عن أبي جعفر (عليه السلام)، رواية تعليم رسول الله لعلي ألف باب يُفتح منه ألف باب، وفيها اُدعو لي خليلي.

وهذه الرواية (إنّه لو كان مؤقّتاً لهلكَ الناس) مضمونها يتطابق مع الصِحاح المتقدّمة في جانب الكثرة،

____________________

(١) أبواب التشهّد: باب٤، ح٢.

(٢) أبواب التشهّد: الباب الرابع والخامس.

(٣) أبواب التشهّد: باب٥، ح١.

(٤) أبواب التشهّد: الباب٥، ح٢.

(٥) الكتب الأربعة، والخصال، وبصائر الدرجات، ومحاسن البرقي.

٣٨٥

أنّه ليس هناك شيء مؤقّت، وكما فيه الترخيص في كلّ ما يَحسن من القول ممّا هو من جنس الدعاء، والثناء لله، والتشهّد بالمعتقدات الحقّة، وكذلك دلالة الصحاح المتقدّمة؛ لأنّ التعبير بـ(يجزي) فيها أي أقلّ ما يجزي.

ونظيرها رواية سورة بن كليب قال: سألتُ أبا جعفر عن أدنى ما يجزي من التشهّد، قال: (الشهادتان) (١).

هذا، وقد مرّ فتاوى مشهور الأصحاب وتنصيصهم بأنّ أدنى ما يجزي في التشهّد الشهادتان، هذا مع مفروغيّة وجوب الصلاة على محمّد وآله؛ لوجوبها بذكره في الشهادتين.

أمّا المقدّمة الثانية:

دلالة الروايات الخاصّة الواردة في التشهّد على جواز كيفيّات مختلفة، يستفاد منها أنّ الأمر في التشهّد موسّع من ناحية الكثرة، وأنّ ما كان من دعاء وثناء وإقرار وتشهّد بفرائض الإيمان، فإنّ كلّ ذلك من الأجزاء الندبيّة للتشهّد، كصحيحة الحَلَبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال: أسمّي الأئمّة في الصلاة؟ فقال: (أجمِلهم).

ومنها: موثّق أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (إذا جلستَ في الركعة الثانية فقل: بسم الله وبالله والحمد لله، وخير الأسماء لله، أشهدُ أن لا إله إلاّ الله، وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، أرسلهُ بالحقّ بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، أشهد أنّك نِعمَ الربّ، وأنّ محمّداً نِعم الرسول، اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد،

____________________

(١) أبواب التشهّد: الباب٢، ح٣.

٣٨٦

وتقبّل شفاعتهُ في أمّته وأرفع درجتهُ، ثُمّ تَحمد الله مرّتين أو ثلاثاً ثُمّ تقوم، فإذا جلستَ في الرابعة قلتَ: بسم الله وبالله، والحمدُ لله وخير الأسماء لله، أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنّ محمّداً عبده ورسوله، أرسلهُ بالحقّ بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، أشهدُ أنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعثُ مَن في القبور، الحمدُ لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، الحمد لله ربّ العالمين.

اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد، وبارك على محمّد وعلى آل محمد، وسلِّم على محمّد وعلى آل محمّد، وترحّم على محمّد وعلى آل محمّد، كما صلّيت وباركت وترحّمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد.

اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد واغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تَجعل في قلوبنا غِلاًّ للذين آمنوا، ربّنا إنّك رؤوف رحيم، اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد، وامنُن عليّ بالجنّة وعافِني من النار.

اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد واغفر للمؤمنين والمؤمنات، ولمَن دَخل بيتي مؤمناً ولا تزد الظالمين إلاّ تباراً، ثُمّ قل: (السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته، السلام على أنبياء الله ورُسله، السلام على جبرائيل وميكائيل والملائكة المقرّبين، السلام على محمّد بن عبد الله خاتم النبيين لا نبيّ بعده، والسلامُ علينا وعلى عباد الله الصالحين، ثُمّ تسلِّم) (١).

وهذه الموثّقة دلّت على عدّة كيفيّات من التشهّد، فبيّنت التشهّد الأوّل في كيفيّة، والتشهّد الثاني في كيفيّة أخرى، بل قد تضمّنت ستّة كيفيّات للتشهّد، كما تضمّنت جواز تكرار التشهّد في التشهّد الواحد،

____________________

(٢) أبواب التشهّد: باب٣، ح٢.

٣٨٧

كما أنّها تضمّنت التشهّد بالساعة، وبالبعث من القبور أي بالمعاد، كما تضمّنت الطلب بالجنّة، والوقاية من النار، والدعاء للمؤمنين والمؤمنات، كما أنّها تضمّنت التبري من الظالمين أعداء الله ورسوله، كما أنّ صيغة السلام فيها تضمّنت السلام على أنبياء الله ورسله، وعلى ميكائيل وجبرائيل وملائكة الله المقرّبين.

ومنها: ذيل صحيح محمّد بن مسلم المتقدّم قال، قلت لأبي عبد الله (عليه السلام)...: قول العبد التحيات لله والصلوات الطيّبات لله، قال: (هذا اللطف من الدعاء يلطف العبد ربّه) (١).

ومنها: صحيح يعقوب بن شعيب قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): أقرأ في التشهّد ما طابَ لله وما خبثَ فلغيره، فقال: (هكذا كان يقول علي (عليه السلام)) (٢).

وفي مصحّح عبد الملك بن عمرو الأحول عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (التشهّد في الركعتين الأولتين: الحمدُ لله أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنّ محمّداً عبده ورسولهُ، اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد، وتقبّل شفاعتهُ، وارفع درجتهُ) (٣).

فترى الكيفيّة في هذه المصحّحة تختلف عن الكيفيّة في الرواية الأخرى، كما أنّ صحيحة محمّد بن مسلم السابقة عليها نصّت على الجزئيّة الندبيّة للدعاء والثناء في التشهّد، وكذلك صحيح يعقوب بن شعيب، وغيرها من الروايات الواردة التي أوردها صاحب الوسائل في أبواب التشهّد وصاحب المستدرك،

____________________

(١) أبواب التشهّد: باب٤، ح٤.

(٢) أبواب التشهّد: الباب الثالث، ح٥.

(٣) أبواب التشهّد: باب٣، ح١.

٣٨٨

كذلك الدالّة على مشروعيّة الدعاء والثناء والإقرار لمجمل قول الحق وفرائض الإيمان في التشهّد، فهذه كالكبرى تنضمّ إلى صغرى ما تقدّم من الكيفيّات المستحبّة للشهادتين، أن يؤتى بضميمة ثالثة لمجمل قول الحق وفرائض الإيمان، فضلاً عمّا دلّ على ذكريّته الذاتيّة.

الوجهُ الرابع: الروايات الخاصّة

وهو دلالة النصوص الخاصّة على مشروعيّة الشهادة الثالثة في التشهّد فمنها: معتبرة أو مصحّحة الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) قال: (وإنّما جُعل التشهّد بعد الركعتين؛ لأنّه كما قُدّم قبل الركوع والسجود من الأذان والدعاء والقراءة، فكذلك أيضاً أخّر بعدها التشهّد والتحيّة والدعاء) (١).

وهذه المصحّحة صريحة في اتّحاد ماهيّة التشهّد في الأذان مع ماهيّة التشهّد في الصلاة، فيتأتّى ما دلّ على الشهادة الثالثة بالخصوص من الطوائف المتقدّمة مع الشهادتين في الأذان، فكلّ ما قُرِّر في الشهادة الثالثة في الأذان يتأتّى بمقتضى هذه المصحّحة في تشهّد الصلاة.

ومنها: رواية الفقه الرضوي... قال: (... فإذا صلّيت الركعة الرابعة فقل في تشهّدك: بسم الله وبالله والحمد لله والأسماء الحسنى كلّها لله، أشهدُ أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنّ محمّداً عبده ورسوله، أرسلهُ بالحقّ بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، التحيات [ لله ] والصلوات الطيّبات الزاكيات الرائحات التامّات الناعمات المباركات الصالحات لله، ما طابَ وزكيَ وطهرَ ونمى وخلُص، وما خبُث فلغير الله،

____________________

(١) أبواب التشهّد: باب٣، ح٦.

٣٨٩

أشهدُ أنّك نِعمَ الربّ، وأنّ محمّداً نِعمَ الرسول، وأنّ علي بن أبي طالب نِعمَ الولي، وأنّ الجنّة حقّ والنار حقّ، والموت حقّ، والبعث حقّ، وأنّ الساعة آتية لا ريبَ فيها، وأنّ الله يبعثُ مَن في القبور، والحمدُ لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد، وارحم محمّداً وآل محمّد، أفضل ما صلّيت وباركت ورحمت وترحّمت وسلّمت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين، إنّك حميد مجيد.

اللهمّ صلِّ على محمّد المصطفى، وعليّ المرتضى، وفاطمة الزهراء، والحسن والحسين، وعلى الأئمّة الراشدين من آل طه وياسين، اللهمّ صلِّ على نورك الأنور، وعلى حبلك الأطول، وعلى عروتك الأوثق، وعلى وجهك الكريم، وعلى جنبك الأوجب، وعلى بابك الأدنى، وعلى (مسلك الصراط).

اللهمّ صلِّ على الهادين المهديين الراشدين الفاضلين الطيبين الطاهرين الأخيار الأبرار، اللهمّ صلِّ على جبرئيل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، وعلى ملائكتك المقرّبين، وأنبيائك المرسلين، ورسلك أجمعين من أهل السماوات والأرضين، وأهل طاعتك أكتعين، واخصُص محمّداً بأفضل الصلاة والتسليم) (١).

ويَعضده ما في المراسم لسلاّر الديلمي، حيث إنّ جملة كتب المتقدّمين تُعد متون للروايات؛ لاعتمادهم بالفتوى على نصّ ألفاظ الروايات.

(قال: وأمّا التشهّد الثاني الذي يلحقهُ التسليم في الرابعة من الظهر والعصر والعشاء الآخرة، والثالثة من المغرب والثانية من صلاة الغداة فهو:

____________________

(١) مستدرك الوسائل: أبواب التشهّد، باب٢، ح٣.

٣٩٠

(بسم الله وبالله والحمد لله والأسماء الحسنى كلّها لله، التحيّات لله والصلوات الطيّبات الطاهرات الزاكيات الناعمات السابغات التامّات الحسنات لله، ما طابَ وطهر وزكا ونما وخلُص وما خبُث فلغير الله، أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنّ محمّداً عبده ورسولهُ، أرسلهُ بالهدى ودين الحقّ ليظهرهُ على الدين كلّه ولو كرهَ المشركون، وأشهدُ أنّ ربّي نِعمَ الربّ، وأنّ محمّداً نِعمَ الرسول، وأنّ عليّاً نِعمَ الإمام، وأنّ الجنّة حقّ، والنار حقّ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث مَن في القبور.

اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد، وبارك على محمّد وآل محمّد، وارحَم محمّداً وآل محمّد، وتحنّن على محمّد وآل محمّد، كأفضل ما صلّيت وباركتَ وترحّمت وتحنّنت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد، السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته) (١) .

ثُمّ إنّه يؤيَّد المقام برواية ما في تفسير العسكري (عليه السلام) قال: (إذا قعدَ المصلّي للتشهّد الأوّل والتشهّد الثاني، قال الله تعالى: (يا ملائكتي، قد قضى خِدمتي وعبادتي وقعدَ يُثني عليّ، ويصلّي على محمّد نبيّي، لأُثنينّ عليه في ملكوت السماوات والأرض، ولأصلّينّ على روحه في الأرواح)، فإذا صلّى على أمير المؤمنين (عليه السلام) في صلاته، قال: لأصلّينّ عليك كما صلّيت عليه، ولأجعلنّه شفيعك كما استشفعتَ به) (٢).

الوجهُ الخامس:

وهو الاستدلال بجملة الطوائف للعامّة من الروايات التي مرّت الإشارة إلى متون بعضها ومصادرها، وهي في مفادها المطابقي الأوّلي، وإن كان مصبّها استحباب اقتران الشهادات الثلاث،

____________________

(١) المراسم العَلويّة: ص٧٢ - ٧٣.

(٢) تفسير الإمام العسكري: ص ٢٤٠.

٣٩١

إلاّ أنّ مجموعها يَشرف المُلاحِظ المتدبّر لدلالتها، أنّها تقتضي بيان حقيقة شرعيّة في معنى التشهّد والشهادة والإقرار، وأنّه متقوّم بالشهادات الثلاث، وأنّ الخروج عن هذا المعنى في حكم ظاهر الإسلام للدليل، وهو بمنزلة المخرج عن هذا العموم في معنى الحقيقة الشرعيّة، لاسيّما وأنّ الأصل في المعاني أنّ تُحمل على وجودها الحقيقي لا التنزيلي الظاهري، وعلى ذلك فتكون مفسِّرة لعنوان التشهّد أينما وردَ في الأدلّة، لاسيّما في باب الصلاة حيث اقترن بالتشهّد بالشهادتين - في جملة الروايات الواردة في المقام - التشهّد بجملة الاعتقادات الحقّة.

٣٩٢

أدلّةُ القائلين بالمَنع

وقد مرّت الإشارة إلى ذلك عند نقل القول بالمنع، وعُمدة ما استُدلّ به للمنع كما مرّ في كلام السيّد الخوئي، وميرزا باقر الزنجاني: هو أنّه قد مُنع في الصلاة عن كلّ كلام فيها، عدا القرآن والذكر والدعاء، وهذا المنع شامل لمَا لو كان الكلام مستحبّاً في نفسه، إذا لم يكن قرآناً أو ذكراً أو دعاءً، كلّ ذلك للأخبار الخاصّة الناهية عن إدخال الكلام في أثناء الصلاة، إلاّ ما كان من الأجناس الثلاثة المتقدّمة، وهذا كلّه بالنسبة للشهادة الثالثة دون الصلاة على النبي وآله، فإنّها من الدعاء بخلاف الشهادة بالولاية.

* وفيه عدّة مواضع للنظر:

الأوّل: لو سُلِّم أنّ نطاق النهي عن الكلام في الصلاة غير مقصور على الكلام الآدمي، وأنّه أوسع من ذلك لمطلق الكلام ولم يُستثنَ منه إلاّ العناوين الثلاثة، فقد مرّ في وجوه الاستدلال على الجواز أنّ الشهادة بالولاية - أي الشهادة الثالثة - هي من أشرف الأذكار وأعظمها بعد الشهادتين، وأنّ إضافته ذاتيّة إلى الساحة الربوبيّة يجعلهُ من الذكر، كما في ذِكر الجنّة والنار والآخرة، نظير ما ورد في ظهور المهدي (عجّلَ الله تعالى فرجهُ الشريف) أنّه من المعاد، وفي رجعتهم (عليهم السلام) أنّها من المعاد أيضاً، والإقرار بولاية الإمام هو إقرار بولاية الله ورسوله، وقد قرنَ الله ولايته بولاية الله ورسوله في جملة من الآيات،

٣٩٣

وكما مرّ أنّ الشهادة بالولاية ركن الإيمان، وكمال الدين، وقوام رضا الرب للإسلام، وأنّ التصديق بالولاية إيمان، والإيمان من أعظم درجات العبادة والذكر، بل هو مفتاح قبول العبادة والأعمال حيث قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ) (١) .

فجعلَ التصديق بآيات الله وآياته هم حججه، كما أطلقت الآية على نبيّ الله عيسى بن مريم، والخضوع لها مفتاح قبول الدعاء والتقرّب إلى الله، ومن ثُمّ كان إباء واستكبار إبليس قد أبطلَ عبادته، وكيف يُتصوّر أنّ ما هو شرط صحّة العبادة وقبولها هو منافٍ لها، وقد تقدّم في موثّقة أبي بصير أنّ ذِكرهم من ذكر الله، بل في خصوص صحيحة الحَلَبي التنصيص الخاص على أنّ ذِكر أسمائهم (عليهم السلام) في الصلاة من أذكار الصلاة المرخّص بها، وقد أفتى لذلك العلاّمة في المنتهى كما مرّت الإشارة إليه، واعتمدَ على الصحيحة كلّ من: الصدوق، والمفيد، والطوسي، وجماعة من المتقدّمين في قنوت الصلاة.

هذا، مضافاً إلى ما مرّ من ورود الشهادة الثالثة في دعاء التوجّه بعد تكبيرة الإحرام، وفي صلاة التشهّد والتسليم.

الثاني: قد تقدّم في مبحث الأذان دلالة الروايات المستفيضة والطوائف المتعدّدة، الدالّة على أنّ الشهادة الثالثة من الكيفيّات الراجحة لأداء الشهادتين، وأنّ أكمل أفراد طبيعة الشهادتين هو المقرون بالشهادة الثالثة، نظير الصلاة على محمّد وآله.

____________________

(١) الأعراف: ٤٠.

٣٩٤

الثالث: أنّه قد تقدّم في المدخل، أنّ الشهادة الثالثة سبب للإيمان بحسب طبيعتها، إذ لا يكفي فيها الاعتقاد بالجنان من دون الإقرار باللسان، والإيمان شرط في صحّة العبادات، كما ذهبَ إليه جُلّ علماء الإماميّة، أو شرط قبول كما ذهبَ شذاذ؛ فإنّه على كِلا التقديرين مقتضى ذلك: شرطيّة الشهادة الثالثة في الأعمال العباديّة، إمّا في الصحّة، أو في كمال الماهيّة، إذ ما هو شرط في الصحّة لا يُعقل تنافيه معه، وكذلك ما هو دخيل في كمال العمل، فلاحظ ثمّة.

والغريب في كلام السيّد الخوئي (رحمهُ الله) المتقدّم، فإنّه لا يتلائم مع ما قاله في الشهادة الثالثة في الأذان في شرح العروة، حيث أقرّ بما يفيد ويظهر منه ذكريّة الشهادة الثالثة، حيث قال: (إنّنا في غِنى من ورود النص، إذ لا شبهة في رجحان الشهادة الثالثة في نفسها بعد أن كانت الولاية من متمّمات الرسالة، ومقوّمات الإيمان، ومن كمال الدين بمقتضى قوله تعالى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) بل من الخَمس التي بُني عليها الإسلام، ولاسيّما وقد أصبحت في هذه الأعصار من أجلى أنحاء الشعار، وأبرز رموز التشيّع وشعائر المذهب الفرقة الناجية، فهي إذاً أمر مرغوب فيه شرعاً، وراجح قطعاً في الأذان وغيره...) (١).

وجهُ التدافع في كلام السيّد الخوئي (رحمهُ الله): أنّ الإقرار ببداهة رجحان الشهادة الثالثة، وأنّها ممّا يُتقوّم بها الإيمان ويرضى بها الربّ، فهل هذا إلاّ معنى الذِكر؛ لأنّه القول الراجح ذاتاً، والذي يكون مؤدّاه من الإيمان بالغيب، ويوجِب الزُلفى والرضا الإلهي بعد كونه ذو إضافة ذاتية إليه تعالى، وقد توفّرت هذه الأمور بما ذكره في بحث الأذان.

____________________

(١) المستند في شرح العروة الوثقى: ج١٣، ص٢٦٠، طبعة قم.

٣٩٥

الرابع: ما مرّ من ورود النصوص الصحيحة، من أنّه ليس في التشهّد شيء مؤقّت من جهة الكثرة، وأنّ كيفيّته من جهة الكثرة هو التشهّد بكلّ ما يكون من العقائد الحقّة: كمسائلة القبر، والشهادة بالنار، والجنّة، والملائكة وغيرها من الأمور الحقّة، بعد إشارة النصوص المزبورة بجواز كيفيّات مختلفة التعداد من الأمور الحقّة المقرّ بها، وهذا تعبّد خاصّ بالجزئيّة الندبيّة للتشهّد بالإقرار بكلّ العقائد الحقّة.

الخامس: أنّ الكلام المبطل في الصلاة هو الكلام الآدمي لا مطلق الكلام، كما نبّه على ذلك جملة من الأعلام، ومن ثُمّ خرجَ من الكلام المبطل مثل: القرآن، والذكر، والدعاء، والغريب في ذلك: أنّ السيّد الخوئي صرّح في ذلك في شرح العروة، فقال في ذيل الكلام للمسألة التاسعة من فصل مبطلات الصلاة، المتضمّنة استثناء الذكر والدعاء من الكلام المبطل:

(بلا خلاف فيه ولا إشكال، ويدلّنا عليه - مضافاً إلى انصراف نصوص المنع إلى ما كان من سنخ الآدميين غير الصادق على مثل القرآن، والذكر، والدعاء، ممّا كان التخاطب فيه مع الله تعالى، بل قد قُيّد التكلّم به في بعض النصوص المتقدّمة، كيف وأقوال الصلاة مؤلّفة من هذه الأمور، فكيف يشملها دليل المنع ولا يكون منصرفاً عنها - جملة من النصوص الدالّة على الجواز، وأنّه كلّ ما ناجيتَ به ربّك فهو من الصلاة، التي منها صحيحة علي بن مهزيار قال: (سألتُ أبا جعفر (عليه السلام) عن الرجل يتكلّم في صلاة الفريضة لكلّ شيء يناجي ربّه قال: (نعم)، وصحيحة الحَلَبي قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): (كلّ ما ذكرتَ الله به والنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فهو من الصلاة) (١).

____________________

(١) المستند: ج١٠، ص٤٤٥ - ٤٤٦.

٣٩٦

وما أبعدَ ما قاله السيّد الخوئي (رحمه الله) في كلامه الأسبق، من عدم ذكريّة أشهدُ أنّ عليّاً وليّ الله، وبين ما ذهبَ إليه الميرزا النائيني في تقريرات الصلاة حيث قال: (لا إشكال في كون المتيقّن من استثناء الدعاء، هو ما إذا كانت المخاطبة مع الله سبحانه، وأمّا إذا كان مع النبي والأئمّة (صلوات الله عليه وعليهم) ففي جوازه وعدمه وجهان: من ورود المخاطبة مع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في بعض أدعية السجود، وكذا ما ورد من السلام عليه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في سجود السهو؛ ولأنّ المخاطبة معهم (صلوات الله عليهم) دعاء مع الله، لكونهم وسائل إليه سبحانه، ومن انصراف الدعاء عن مثله، إذ الظاهر المنصرَف إليه منه، هو ما كانت المخاطبة فيه مع الله سبحانه، ومختار الأستاذ - دام بقائه - هو الأوّل) (١).

وفي صحيح علي بن جعفر في كتابه عن أخيه (عليه السلام) قال: سألتهُ عن رجل يصلّي خلف إمام يُقتدى به في الظهر والعصر، يقرأ؟ قال: (لا، ولكن يسبِّح ويَحمد ربّه ويصلّي على نبيّه) (٢) ، ورواه أيضاً في قرب الإسناد بطريق معتبر عن علي بن جعفر.

ومقتضاه: تكرار الصلاة على النبي وآله من المأموم طوال فترة قراءة الإمام، ونظيره ما في صحيح الحَلَبي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (كلّما ذكرتَ الله به والنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فهو من الصلاة).

وفي صحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): سألتهُ عن رجل يذكر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو في الصلاة المكتوبة...: (إنّ الصلاة على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كهيئة التكبير والتسبيح... الحديث) (٣).

____________________

(١) كتاب الصلاة: ج٢، تقريرات بحث المحقّق الميرزا محمّد حسين النائيني: ص٢٨٦.

(٢) الوسائل: أبواب صلاة الجماعة، باب٣٢، حديث٣.

(٣) الوسائل: أبواب الركوع، باب٢٠، حديث١.

٣٩٧

الأمرُ الثاني

الشهادةُ الثالثة في التسليم

وقد أفتى بذلك جملة المتقدّمين كما ستأتي كلماتهم مفصّلاً: كعلي بن بابويه في الفقه الرضوي، والصدوق، والمفيد، والشيخ، وابن برّاج، وابن سلاّر الديلمي، وابن طاووس، والشهيد، وصاحب كاشف اللثام، وصاحب الحدائق، وصاحب الجواهر، والنراقي، والميرزا النوري، وبعض المعاصرين، وفي العروة للسيّد اليزدي أنّه يخطر بباله الأنبياء والأئمّة والحَفَظة في السلام على عباد الله الصالحين، وظاهر المحشّين موافقته، وهو نظير ما ذكرهُ الشهيدين في الذكرى، واللمعة، والروضة.

ولا يخفى أنّ المراد من كون التسليم على الأئمّة (عليهم السلام)، هي صيغة من صيَغ الشهادة الثالثة؛ وذلك لكون التسليم عليهم هو بنعت الإمامة لهم فيكون إقرار من المصلّي بذلك.

١ - فقهُ الرضا: قال علي بن بابويه: (والتسليم - بعد ذكر مستحبّات التشهّد - السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته، السلام عليك وعلى أهل بيتك الطيبين، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) (١) .

____________________

(١) فقه الرضا: ص١٠٩، طبعة مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام).

٣٩٨

٢- المُقنع: قال الصدوق (قدِّس سرّه): (ثُمّ سلِّم وقل: اللهمّ أنت السلام، ومنك السلام... السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته، السلام على الأئمّة الراشدين المهديين...) (١).

وقال (قدِّس سرّه) في كتابه (مَن لا يحضره الفقيه): (فإذا صلّيت الرابعة فتشهّد، وقل في تشهّدك: (بسم الله وبالله.... السلام عليك أيّها النبيّ... السلام على محمّد خاتم النبيين، السلام على الأئمّة الراشدين المهديين....)) (٢).

٣- المقنعة: قال الشيخ المفيد (قدِّس سرّه): (فإذا جلسَ للتشهّد في الرابعة من الظهر والعصر والعشاء الآخرة، وفي التشهّد الثاني من الثالثة في المغرب، أو في الثانية من الغداة، فليقل: (بسم الله وبالله.... السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته... السلام على الأئمّة الراشدين...)) (٣).

٤- النهاية: وقال الشيخ الطوسي (قدِّس سرّه): (غير أنّه يستحبّ أن يقول في التشهّد: (بسم الله وبالله.... السلام عليك أيّها النبيّ.... السلام على الأئمّة الهادين المهديين...)) (٤).

وقال (قدِّس سرّه) في مصباح المتهجّد: (فإذا جلستَ للتشهّد في الرابعة على ما وصفناه قلت: (بسم الله وبالله... السلام على الأئمّة الهادين المهديِّين...)) (٥).

٥- المهذّب: قال القاضي ابن برّاج: (فإذا فعلَ ذلك، جلسَ للتشهّد الأخير وقال: بسم الله وبالله... السلام على الأئمّة الهادين المهديين...) (٦).

____________________

(١) المُقنع للصدوق: ص٩٦.

(٢) مَن لا يحضرهُ الفقيه: ج١، ص٣١٩، طبعة جامعة المدرّسين.

(٣) المقنعة: ص١١٤، طبعة جماعة المدرّسين.

(٤) النهاية للشيخ الطوسي: ج١، ص٣١١، طبعة جماعة المدرّسين.

(٥) مصباح المتهجّد: ص٥٤.

(٦) المهذّب: ج١، ص٩٥.

٣٩٩

٦- المراسمُ العَلَويّة: قال الشيخ أبي يعلي الديلمي المعروف بسلاّر: (وأمّا التشهّد الثاني.... فهو: (بسم الله وبالله... السلام عليك أيّها النبيّ... السلام على الأئمّة الراشدين....)) (١).

٧- منتهى المطلب: قال العلاّمة: (أكملُ التشهّد: ما رواه الشيخ في الموثّق عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا جلستَ في الركعة الثانية فقل:.... ثُمّ تقوم، فإذا جلستَ في الرابعة قلت: بسم الله وبالله.... السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته، السلام على أنبياء الله ورسله، السلام على جبرئيل، وميكائيل، والملائكة المقرّبين، السلام على محمّد بن عبد الله خاتم النبيين لا نبي بعده،....) (٢).

أقول: وهو وإن لم يكن متضمّناً للتسليم بصيغة الشهادة الثالثة، إلاّ أنّه متضمّن للتسليم على الملائكة.

٨- البيان: قال الشهيد الأوّل في بحث التسليم: (والسُنّة هنا أن يكون كهيئة المتشهّد.... وتقديم قوله: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام على جميع أنبياء الله وملائكته ورسله، السلام على الأئمّة الهادين المهديّين...)) (٣).

وقال أيضاً (رحمه الله) بعدَما حكى قول صاحب الفاخر بعد كلام، وعَنى بالذي آخر التشهّد قوله:

____________________

(١) المراسم العَلَويّة: ٧٣، المجمع العالمي لأهل البيت، قم.

(٢) منتهى المطلب: ج٥، ص١٩٢، طبعة مشهد المقدّسة، الطبعة الأولى ١٤١٩هـ.

(٣) البيان: الشهيد الأوّل، ص١٧٧، طبعة بنياد فرهنكي الإمام المهدي.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420