الشهادة الثالثة

الشهادة الثالثة9%

الشهادة الثالثة مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 420

الشهادة الثالثة
  • البداية
  • السابق
  • 420 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 108484 / تحميل: 6630
الحجم الحجم الحجم
الشهادة الثالثة

الشهادة الثالثة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

بنو الحارث بن فهر بن مالك

بنو عامر بن لؤى

بنو سهم بن عمرو

بنو جمح بن عمرو

بنو أنمار بن بغيض

بنو تيم بن مرة بن كعب

بنو عدي بن كعب الخ.

ولكن الفعل والتأثير كان للقبائل المهمة، والزعماء المهمين، وهم بضع قبائل، والباقون تبعٌ لهم الى حد كبير فقد وصف ابن هشام اجتماع دار الندوة الذي بحث فيه قادة القبائل ( مشكلة نبوة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ) فقال في 2 / 331: وقد اجتمع فيها أشراف قريش:

من بني عبد شمس: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب.

ومن بني نوفل بن عبد مناف: طعيمة بن عدي، وجبير بن مطعم، والحارث بن عامر بن نوفل.

ومن بني عبد الدار بن قصي: النضر بن الحارث بن كلدة.

ومن بني أسد بن عبد العزى: أبوالبختري بن هشام، وزمعة بن الأسود بن المطلب، وحكيم بن حزام.

ومن بني مخزوم: أبو جهل ابن هشام.

ومن بني سهم: نبيه ومنبه ابنا الحجاج.

ومن بني جمح: أمية بن خلف.

ومن كان معهم وغيرهم ممن لا يعد من قريش، فقال بعضهم لبعض:

إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأياً.

١٤١

قال: فتشاوروا ثم قال قائل منهم: إحبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه باباً، ثم تربصوا به...الخ.

- وقال في: 2 / 488 مسمياً المنفقين على جيش المشركين في بدر:

وكان المطعمون من قريش ثم من بني هاشم بن عبد مناف: العباس بن عبد المطلب بن هاشم.

ومن بني عبد شمس بن عبد مناف: عتبة بن ربيعة بن عبد شمس.

ومن بني نوفل بن عبد مناف: الحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي بن نوفل، يعتقبان ذلك.

ومن بني أسد بن عبد العزى: أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد، وحكيم بن حزام بن خويلد بن أسد، يعتقبان ذلك.

ومن بني عبد الدار بن قصي: النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار. انتهى.

واليك هذا الترتيب الذي رتبه الخليفة عمر لقبائل قريش، في سجل الدولة لتوزيع العطاءات، فإنه يدل على تركيبة قبائلها، وتميز بني هاشم عليهم:

- قال البيهقي في سننه: 6 / 364:

عن الشافعي وغيره، أن عمر رضي‌الله‌عنه لما دوَّن الدواوين قال: إبدأ ببني هاشم، ثم قال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم وبني المطلب فوضع الديوان على ذلك، وأعطاهم عطاء القبيلة الواحدة.

ثم استوت له عبد شمس ونوفل في جذم النسب، فقال: عبد شمس إخوة النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه وأمه دون نوفل، فقدمهم، ثم دعا بني نوفل يتلونهم.

ثم استوت له عبد العزى وعبد الدار، فقال في بني أسد بن عبد العزى أصهار النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم أنهم من المطيبين فقدمهم على بني عبد الدار، ثم دعا بني عبد الدار يتلونهم.

١٤٢

ثم انفردت له زهرة فدعاها تلو عبد الدار.

ثم استوت له تيمٌ ومخزوم، فقال في بني تيم إنهم من حلف الفضول والمطيبين وفيهما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل ذكر سابقةً، وقيل ذكر صهراً فقدمهم على مخزوم.

ثم دعا مخزوم يتلونهم.

ثم استوت له سهمٌ وجمحٌ وعديُّ بن كعب، فقيل له إبدأ بعدي فقال بل أقر نفسي حيث كنت، فإن الاسلام دخل وأمرنا وأمر بني سهم واحد، ولكن انظروا بني جمح وسهم، فقيل قدم بني جمح.

ثم دعا بني سهم، وكان ديوان عدي وسهم مختلطاً كالدعوة الواحدة، فلما خلصت اليه دعوته كبر تكبيرة عالية، ثم قال: الحمد لله الذى أوصل اليَّ حظي من رسوله.

ثم دعا بني عامر بن لؤي، قال الشافعي: فقال بعضهم إن أبا عبيدة بن عبد الله بن الجراح الفهري لما رأى من تقدم عليه قال: أكل هؤلاء تدعو أمامي؟!

فقال: يا أبا عبيدة، إصبر كما صبرتُ أو كلم قومك فمن قدمك منهم على نفسه لم أمنعه، فأما أنا وبنو عدي فنقدمك إن أحببت على أنفسنا.

قال فقدم معاوية بعدُ بني الحارث بن فهر، فصل بهم بين بني عبد مناف وأسد بن عبد العزى.

وشجر بين بني سهم وعدي شيء في زمان المهدي فافترقوا، فأمر المهدي ببني عدي فقدموا على سهم وجمح، للسابقة فيهم.

* *

وقد اعترف الجميع بأن فرع هاشم كانوا متميزين على بقية الفروع في فكرهم وسلوكهم، متفوقين في فعاليتهم وقيمهم وأن جمهور القبائل والملوك كانوا

١٤٣

يحترمونهم احتراماً خاصاً حتى حسدهم زعماء قريش، وتحالفوا ضدهم من أيام هاشم وعبد المطلب.

فقد رتب هاشم ( رحلة الصيف ) الى الشام وفلسطين ومصر لقبائل قريش كلها، فسافر في الصحاري والدول، وفاوض رؤساء القبائل، والملوك، الذين تمر في مناطقهم قوافل قريش، وعقد معهم جميعاً معاهداتٍ بعدم الغارة على قوافل قريش وضمان سلامتها.

وقد فرحت قبائل قريش بهذا الإنجاز، وبادرت الى الإستفادة منه، ولكنها حسدت هاشماً، وتمنى زعماؤها لو أن ذلك تم على يدهم، وكان فخره لهم.

وقد توفي هاشم مبكراً في إحدى سفراته في أرض غزة، في ظروف من حق الباحث أن يشك فيها!

ولكن بيت هاشم لم ينطفئ بعده، فسرعان ماظهر ولده عبد المطلب، وساد في قومه، وواصل مآثر أبيه، فرتب لقريش رحلة الشتاء الى اليمن، وعقد معاهداتٍ لحماية قوافلها مع كل القبائل التي تمر عليها ومع ملك اليمن، وفاز بفخرها كما فاز أبوه بفخر رحلة الصيف.

* *

وعلى الصعيد المعنوي، كانت قبائل قريش ترى أن بني هاشم وعبد المطلب يباهون دائماً بانتمائهم الى إسماعيل، واتباعهم لملة ابراهيم، كأنهم وحدهم أبناء إسماعيل وابراهيم عليهما‌السلام .

وتفاقم الأمر عندما أخذ عبد المطلب يدعي الإلهام عن طريق الرؤيا الصادقة، وأخبرهم بأن الله تعالى أمره بحفر زمزم التي جفت وانقرضت من قديم، فحفرها ونبع ماؤها بإذن الله تعالى، ووجد فيها غزالين من ذهب، فزين بذهبهما باب الكعبة ففاز بمأثرةٍ جديدة وصار - بسبب شحة الماء في مكة - ساقي الحرم والحجيح!

١٤٤

ثم طمأن الناس عند غزو الحبشة للكعبة، بأن الجيش لن يصل اليها، وأن الله تعالى سيتولى دفعهم، فصدقت نبوءته، وأرسل الله عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول.

ثم وضع عبد المطلب للناس مراسم وسنناً، كأنه نبي أو ممهد لنبي، فجعل الطواف سبعاً وكان بعض العرب يطوفون بالبيت عريانين لأن ثيابهم ليست حلالاً، فحرم عبد المطلب ذلك. ونهى عن قتل الموؤودة. وأوجب الوفاء بالنذر، وتعظيم الاشهر الحرم. وحرم الخمر. وحرم الزنا ووضع الحد عليه، ونفى البغايا ذوات الرايات الى خارج مكة. وحرم نكاح المحارم. وأوجب قطع يد السارق. وشدد على القتل، وجعل ديته مئة من الإبل.

وقد عظمت مكانة عبد المطلب في قريش وفي قبائل العرب، وكان زعماء قريش يأكلهم الحسد منه! حتى جروه مرتين الى المنافرة والإحتكام الى الكهان فنصره الله عليهم بكرامة جديدة، وتعاظمت مكانته أكثر!

ولعل أكثر ما أثار زعماء قريش في آخر أيام عبد المطلب، أنه ادعى أنه مثل جده ابراهيم عليه‌السلام ، ونذر أن يذبح أحد أولاده قرباناً لرب الكعبة الخ.

وما أن استراح زعماء قريش من عبد المطلب، حتى ظهر ولده أبو طالب وساد في قومه وفي قريش والعرب، وأخذ مكانة أبيه وجده، وواصل سيرة أبيه عبد المطلب ومقولاته.

وفي أيام أبي طالب وقعت المصيبة على زعماء قريش عندما ادعى ابن أخيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النبوة، وطلب منهم الإيمان به وإطاعته!

وزاد من خوفهم أن عدداً من بني هاشم وبني المطلب آمنوا بنبوته، وأعلن عمه أبو طالب حمايته لابن أخيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليبلغ رسالة ربه بكامل حريته، وهدد قريشاً بالحرب إن هي مست منه شعرة، ووقف في وجه مؤامراتها، وأطلق قصائده في

١٤٥

فضح زعماءها فسارت بشعره الركبان يمدح فيه محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويهجو زعماء قريش حتى أنه سمى زعيم مخزوم أبا الحكم ( أحيمق مخزوم ) كما سماه ابن أخيه محمد ( أبا جهل )!!

ونشط الزعماء القرشيون في مقاومة النبوة بأنواع الإغراءات والتهديدات لأبي طالب وابن أخيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ففشلوا!

ثم اتخذوا قراراً باضطهاد المسلمين الذين تطالهم أيديهم، فهرب أكثرهم الى الحبشة وفشل زعماء قريش!

ثم اتخذوا قراراً بالإجماع وضموا اليهم بني كنانة، بعزل كل بني هاشم ومقاطعتهم مقاطعة تامة شاملة، وحصروهم في شعبهم ثلاث سنوات أو أربع فأفشل الله محاصرتهم بمعجزة!

وما أن فقد بنو هاشم رئيسهم أبا طالب، حتى اتحد زعماء قريش قراراً بالإجماع بقتل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الذي بقي بزعمهم بلا حامٍ ولا ناصر فأفشل الله كيدهم ونقل رسوله الى المدينة التي أسلم أكثر أهلها!

وحاول القرشيون أن يضغطوا على أهل المدينة بالإغراء والوعيد، واليهود ولكنهم فشلوا، لأن المدينة صارت في يد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي تقع على طريق شريانهم التجاري، وتهددهم بقطع تجارتهم مع الشام ومنطقتها!

فقرروا دخول الحرب مع ابن بني هاشم، وحاربوه في بدر، وأحد، والخندق ففشلوا!

وحاربوه باليهود، واستنصروا عليه بالفرس والروم ففشلوا!

وما هو إلا أن فاجأهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السنة الثامنة من هجرته ودخل عليهم عاصمتهم مكة، بجيش من جنود الله لا قبل لهم به. فاضطروا أن يعلنوا إلقاء سلاحهم، والتسليم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !

١٤٦

وقام أهل مكة سماطين ينظرون الى دخول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والى جيشه ..

وتقدم براية الفتح بين يديه شابٌّ أنصاري من قبيلة الخزرج اليمانية، هو عبد الله بن رواحة، وهو يقول للفراعنة:

خلُّوا بني الكفار عن سبيلِهِ

فاليوم نضربْكم على تنزيلهِ

ضرباً يزيل الهام عن مَقِيلِهِ

ويذهلُ الخليلَ عن خليله

تالله لا يحكم فينا ابن الدعي (2)

فقال عمر بن الخطاب: يابن رواحة، أفي حرم الله وبين يدي رسول الله، تقول الشعر!!

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مهْ يا عمر، فو الذي نفسي بيده، لكلامه هذا أشد عليهم من وقع النبل )! ( البيهقي في سننه: 10 / 228، ونحوه الترمذي: 4 / 217، والذهبي في سير أعلام النبلاء: 1 / 235 )

فعمر يريد أن يخفف على زعماء قريش وقع هزيمتهم، ولا يتحداهم في عاصمتهم ولا ننسى أن عمر من قبيلة عدي الصغيرة، وأنه نشأ على احترام زعماء قريش وإكبارهم.

ولكن الرؤية النبوية أن هؤلاء الفراعنة لا يفهمون إلا لغة السيوف والسهام، وأن عمل عبد الله بن رواحة عملٌ صحيحٌ، وقيمته عاليةٌ عند الله تعالى، لأنه أشد على أعداء الله من وقع النبل!!

* *

وأعلن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمان لقريش، وجمع زعماءهم في المسجد الحرام وسيوف جنود الله فوق رؤوسهم وشرح لهم تكبرهم وتجبرهم وتكذيبهم لآيات الله ومعجزاته، وعداءهم لله ورسوله، واضطهادهم لبني هاشم والمسلمين، وحروبهم ومكائدهم ضد الإسلام ورسوله ..

١٤٧

- قال الطبري في تاريخه: 2 / 337:

عن قتادة السدوسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام قائماً حين وقف على باب الكعبة ثم قال:

لا إله الا إلله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.

ألا كل مأثرةٍ أو دمٍ أو مالٍ يدَّعى، فهو تحت قدميَّ هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ...

يا معشر قريش: إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس من آدم وآدم خلق من تراب. ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) الآية.

يا معشر قريش ويا أهل مكة: ماترون أني فاعلٌ بكم؟!

قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم.

ثم قال: إذهبوا فأنتم الطلقاء.

فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان الله أمكنه من رقابهم عنوةً، وكانوا له فَيْأً، فبذلك يسمى أهل مكة الطلقاء. انتهى.

لقد خيرهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين إعلان إسلامهم أو القتل: فأعلنوا إسلامهم، فقال لهم: إذهبوا فأنتم الطلقاء، وذلك يعني أنه منَّ عليهم بحياتهم، مع أنهم يستحقون أن يتخذهم عبيداً، أو يقتلهم!!

ويعني أن إعلان إسلامهم الشكلي، لم يرفع جواز استرقاقهم أو قتلهم!

* *

ومما صادفته في تصفحي، ما ارتكبه الشيخ ناصر الدين الألباني من تعصبٍ مفضوح للقرشيين، حيث ضعف هذا الحديث! فقال في سلسلة أحاديثه الضعيفة

١٤٨

3 / 307 برقم 1163: ضعيف. رواه ابن إسحاق في السيرة 4 / 31 - 32، وعنه الطبري في التاريخ 3 / 120، ونقله الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 4 / 300 - 301، ساكتاً عليه. وهذا سندٌ ضعيف مرسل، لأن شيخ ابن إسحاق فيه لم يسمَّ، فهو مجهول. ثم هو ليس صحابياً، لأن ابن إسحاق لم يدرك أحداً من الصحابة، بل هو يروي عن التابعين وأقرانه، فهو مرسل، أو معضل. انتهى.

وكأن هذا المحدث لم يطلع على وجود هذا الحديث ومؤيداته في المصادر الأخرى، ولم ير المحدثين والفقهاء وهم يرسلونه إرسال المسلمات ..

وما أدري هل هو جهلٌ بالتاريخ والحديث الى هذا الحد أم حبٌّ للقرشيين ومحاولةٌ لتخليصهم من صفة الرق الشرعية للرسول وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

فإن مسألة الطلقاء ثابتة مشهورة عند جميع الفرق، واسم ( الطلقاء ) كالعلم لأكثر قريش، وهو كثيرٌ في مصادر الحديث، وقد دخلت أحكامه في فقه المذاهب.

- فقد روى البخارى في صحيحه: 5 / 105 - 106

قال لما كان يوم حنين التقى هوازن ومع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف والطلقاء، فأدبروا ...

- وفي مسلم: 3 / 106: ومعه الطلقاء فأدبروا عنه حتى بقي وحده!!

ونحوه في: 5 / 196 ونحوه في مسند أحمد: 3 / 190 و 279

والصحيح أنه لم يثبت معه إلا بنو هاشم.

- وفي مسند أحمد: 4 / 363: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض، الى يوم القيامة.

وقد صححه الحاكم في المستدرك: 4 / 80، وقال عنه في مجمع الزوائد: 10 / 15:

رواه أحمد والطبراني بأسانيد، وأحد أسانيد الطبراني رجاله رجال الصحيح، وقد جوده رضي‌الله‌عنه وعنا، فإنه رواه عن الأعمش عن موسى بن عبد الله بن يزيد بن عبد الرحمن بن هلال العبسي، عن جرير وموسى بن عبد الله بن هلال العبسي.

١٤٩

- وقال الشافعي في كتاب الأم: 7 / 382

قال الأوزاعي: فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة، فخلى بين المهاجرين وأرضهم ودورهم بمكة، ولم يجعلها فيئاً.

قال أبو يوسف رحمه‌الله : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عفا عن مكة وأهلها وقال:

من أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ونهى عن القتل إلا نفراً قد سماهم، إلا أن يقاتل أحدٌ فيقتل، وقال لهم حين اجتمعوا في المسجد: ما ترون أني صانعٌ بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم.

قال: إذهبوا فأنتم الطلقاء. ولم يجعل شيئاً قليلاً ولا كثيراً من متاعهم فيئاً. وقد أخبرتك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في هذا كغيره، فهذا من ذلك، وتفهَّم فيما أتاك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن لذلك وجوهاً ومعاني. انتهى.

وراجع أيضاً مغني ابن قدامة: 7 / 321، ومبسوط السرخسي: 10 / 39، ومسند أحمد: 3 / 279، وسنن البيهقي: 6 / 306، و: 8 / 266 و: 9 / 118، وكنز العمال: 12 / 86.

- وفي كنز العمال: 5 / 735: قال لهم عمر: إن هذا الأمر لا يصلح للطلقاء ولا لأبناء الطلقاء، فإن اختلفتم فلا تظنوا عبد الله بن أبي ربيعة عنكم غافلاً - ابن سعد. انتهى.

وكذلك الأمر في مصادرنا:

- ففي نهج البلاغة شرح الشيخ محمد عبده: 3 / 30 في جواب علي عليه‌السلام لمعاوية:

وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلانٌ وفلانٌ، فذكرت أمراً إن تم اعتزلك كله، وإن نقص لم تلحقك ثلمته.

وما أنت والفاضل والمفضول والسائس والمسوس؟! وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين، وترتيب درجاتهم، وتعريف طبقاتهم.

هيهات، لقد حنَّ قدحٌ ليس منها، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها.

ألا تربع أيها الإنسان على ظلعك، وتعرف قصور ذرعك، وتتأخر حيث أخرك

١٥٠

القدر، فما عليك غلبة المغلوب، ولا لك ظفر الظافر وإنك لذهاب في التيه رواغ عن القصد.

- وفي الكافي: 3 / 512

من أسلم طوعاً تركت أرضه في يده وما أخذ بالسيف فذلك الى الإمام يقبِّله بالذي يرى كما صنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخيبر وقال: إن أهل الطائف أسلموا وجعلوا عليهم العشر ونصف العشر، وإن أهل مكة دخلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنوةً فكانوا أسراء في يده، فأعتقهم وقال: إذهبوا فأنتم الطلقاء.

قريش بعد فتح مكة

ماذا فعلت قريش بعد أن اضطر بقية فراعنتها وألوف الطلقاء من أتباعهم الى الدخول في الإسلام؟؟

من الطبيعي أن مشاعر الغيظ والكبرياء القرشي بقيت محتدمةً في قلوب أكثرهم إن لم نقل كلهم ولكن في المقابل ظهر فيهم منطقٌ يقول: إن دولة محمد دولتنا فمحمد أخٌ كريمٌ، وابن أخٍ كريم، ودولته دولة قريش، وعزه عزها وفخره فخرها، فهو مهما كان ابن قريش الرحيم، ودولته أوسعُ من دولة قريش وأقوى، والمجال أمام زعمائها مفتوحٌ من داخل هذه الدولة، فلماذا نحاربها، ولماذا نتركها بأيدي الغرباء من الأوس والخزرج اليمانيين!.

أما مسألة من يرث دولة محمد بعده، فهي مسألةٌ قابلةٌ للعلاج، وهي على كل حال مسألةٌ قرشيةٌ داخلية!!

من البديهي عند الباحث أن يفهم أن قريشاً وجهت جهودها لمرحلة ما بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن الهدف الأهم عندها كان: منع محمد أن يرتب الأمر من بعده لبني هاشم، ويجمع لهم بين النبوة والخلافة على حد تعبير قريش!

فالنبوة لبني هاشم، ولكن خلافة محمد يجب أن تكون لقريش غير بني هاشم!

١٥١

لكن رغم وجود هذا المنطق، فإن النصوص واعترافات بعض زعمائهم تدل على أنهم كانوا يعملون على كل الجبهات الممكنة! وأن أكثريتهم كانوا يائسين من أن يشركهم محمد في حكم دولته، لأنه يعمل بجدٍّ لتركيز حكم عترته من بعده ..

لذلك اتجه تفكيرهم بعد فتح مكة الى اغتيال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسرعان ما حاولوا تنفيذ ذلك في حنين ..!!

إن فراعنة قريش كفراعنة اليهود أبناء عمهم، فهم لا يعرفون الوفاء، بل كأنهم إذا لم يغدروا بمن عفا عنهم وأحسن اليهم، يصابون بالصداع!!

لقد اعلنوا إسلامهم، وادعوا أنهم ذهبوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليساعدوه في حربه مع قبيلتي هوازن وغطفان، وكان عدد جيشهم ألفين، وعدد جيش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي فتح مكة عشرة آلاف، وعندما التقوا بهوازن في حنين انهزموا من أول رشق سهام، وسببوا الهزيمة في صفوف المسلمين فانهزموا جميعاً، كما حدث في أحد!

وثبت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعه بنو هاشم فقط، كالعادة، وقاتلوا بشدةٍ مع مئة رجعوا اليهم مئة من الفارين حتى ردوا الحملة، ثم رجع المسلمون الفارون وكتب الله النصر.

وفي أثناء هزيمة المسلمين، قامت قريش بعدة محاولاتٍ لقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !

نكتفي منها بذكر ما نقله زعيم بني عبد الدار النضير بن الحارث، الذي سيأتي ذكره في تفسير الآية الثالثة! ونقله عنه محب له ولقريش ولبني أمية هو ابن كثير فقال في سيرته: 3 / 691:

كان النضير بن الحارث بن كلدة من أجمل الناس، فكان يقول: الحمد لله الذي من علينا بالإسلام، ومن علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولم نمت على ما مات عليه الآباء، وقتل عليه الإخوة وبنو العم.

ثم ذكر عداوته للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه خرج مع قومه من قريش الى حنين، وهم على دينهم بعد، قال: ونحن نريد إن كانت دائرة على محمد أن نغير عليه، فلم يمكنا ذلك.

١٥٢

فلما صار بالجعرانة فوالله إني لعلى ما أنا عليه، إن شعرت إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنضير؟

قلت: لبيك.

قال: هل لك الى خير مما أردت يوم حنين مما حال الله بينك وبينه؟

قال: فأقبلت إليه سريعاً.

فقال: قد آن لك أن تبصر ما كنت فيه توضع!

قلت: قد أدري أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئاً، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم زده ثباتاً.

قال النضير: فوالذي بعثه بالحق لكأن قلبي حجرٌ ثباتاً في الدين، وتبصرة بالحق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي هداه. انتهى.

وأنت تلاحظ أن هذه الكلام يتضمن إقراراً من هذا الزعيم القرشي على نفسه، وإقرار الإنسان على نفسه حجة وأنه يتضمن ادعاء منه بإيمانه بالله تعالى، فقد ذكر أنه تشهده الشهادة الأولى فقط، ولم يذكر الثانية!

ولكن الدعوى لا تثبت بادعاء صاحبها بدون شهادة غيره!

ومهما يكن فقد اعترف زعيم بني عبد الدار أصحاب راية قريش التي يصدر حاملها الأوامر لألفي مسلح في حنين، بأن إعلان إسلامهم في مكة كان كاذباً، وبأنه كل زعماء قريش كانوا متفقين على قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنهم حاولوا محاولاتٍ في حنين ولم يتوفقوا فقد أحبط الله تعالى خططهم، وكشف لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نواياهم!!

بل تدل أحاديث السيرة، على أن زعماء قريش لم يملكوا أنفسهم عند انهزام المسلمين في حنين في أول الأمر، فأظهروا كفرهم الراسخ، وفضحوا أنفسهم!

- ففي سيرة ابن هشام: 4 / 46

قال ابن اسحاق: فلما انهزم الناس، ورأى من كان مع رسول الله صلى الله عليه

١٥٣

وسلم من جفاة أهل مكة الهزيمة، تكلم رجالٌ منهم بما في أنفسهم من الضغن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وإن الأزلام لَمَعَهُ في كنانته! وصرخ جبلة بن الحنبل - قال ابن هشام كلدة بن الحنبل - وهو مع أخيه صفوان بن أمية مشركٌ في المدة التي جعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا بطل السحر اليوم!

قال ابن اسحاق: وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة أخو بني عبد الدار: قلت اليوم أدرك ثأري من محمد، وكان أبوه قتل يوم أحد، اليوم أقتل محمداً، قال:

فأدرت برسول الله لأقتله، فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي فلم أطلق ذاك، وعلمت أنه ممنوعٌ مني!! انتهى.

وهذا آخر من أصحاب راية جيش قريش المسلمة، يعترف بأنه في حنين عند الهزيمة أو بعدها ( دار ) مرة أو مراتٍ حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليقتله!

إن الناظر في مقومات شخصيات زعماء قريش، وتفكيرهم واهتماماتهم، يصل الى أن قناعة بأن عنادهم بلغ حداً أنهم اتخذوا قراراً بأن يكذبوا بكل الآيات والمعجزات التي يأتيهم بها محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويكفروا بكل القيم والأعراف الإنسانية التي يدعو اليها ويعاملهم بها وأن لا يدخلوا في دينه إلا في حالتين لا ثالثة لهما:

إذا كان السيف فوق رؤوسهم!

أو صارت دولة محمد وسلطانه بأيديهم!

لقد حاربوا هذا الدين ونبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكل الوسائل حتى عجزوا وانهزموا ..

ثم واصلوا تآمرهم ومحاولاتهم اغتيال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى عجزوا ..

ثم جاؤوا يشترطون الشروط مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليأخذوا سهماً من دولته فعجزوا ..

ثم جاؤوا يدعون أنهم أصحاب الحق في دولة نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنه من قبائل قريش!!!

- قال في مناقب آل أبي طالب: 2 / 239

قال الشريف المرتضى في تنزيه الأنبياء: إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما نص على أمير المؤمنين

١٥٤

بالإمامة في ابتداء الأمر، جاءه قوم من قريش وقالوا له: يا رسول الله إن الناس قريبوا عهد بالإسلام لا يرضون أن تكون النبوة فيك والإمامة في ابن عمك علي بن أبي طالب فلو عدلت به الى غيره، لكان أولى!

فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما فعلت ذلك لرأيي فأتخير فيه، لكن الله تعالى أمرني به وفرضه عليَّ.

فقالوا له: فإذا لم تفعل ذلك مخافة الخلاف على ربك، فأشرك معه في الخلافة رجلاً من قريش تركن الناس اليه، ليتم لك أمرك، ولا تخالف الناس عليك. فنزلت الآية: لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين .

عبد العظيم الحسني عن الصادق عليه‌السلام في خبر: قال رجل من بني عدي اجتمعت اليَّ قريش، فأتينا النبي فقالوا: يا رسول الله إنا تركنا عبادة الأوثان واتبعناك، فأشركنا في ولاية علي فنكون شركاء، فهبط جبرئيل على النبي فقال: يا محمد لئن أشركت ليحبطن عملك الآية. انتهى. ( والحديث الأول في تنزيه الأنبياء/ 167 )

* *

قريش تتمحور حول زعامة سهيل بن عمرو

رغم خيانات زعماء قريش بعد فتح مكة وتآمرهم، فقد حاول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستقطبهم، فأكرمهم وتألفهم وأعطاهم أكثر غنائم المعركة، وأطمعهم بالمستقبل إن هم أسلموا وحسن إسلامهم الخ.

لقد أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقاوم عُقَدهم بنور الحلم، وظلماتهم بنور الإحسان ..!!

وفي هذه الفترة تراجعت زعامة أبي سفيان، ولم يبق منها إلا ( أمجاد ) حربه مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فشخصية أبي سفيان تصلح للزعامة في الحرب فقط وفي التجارة، ولا تصلح في السلم للزعامة والعمل السياسي، لذلك تراه بعد أن انكسر في فتح مكة ذهب الى المدينة وطلب منصباً من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعينه جابياً للزكاة من بعض القبائل!!

١٥٥

أما الزعيم الذي يجيد العمل لمصلحة قريش المنكسرة عسكرياً فقد وجدته قريش في سهيل بن عمرو، العقل السياسي المفكر والمخطط ..

وسرعان ما صار سهيل محوراً لقريش، ووارثاً لقيادة زعمائها الذين قتلهم محمد أو أماتهم رب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وسهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود، هو في نظر قريش: قرشي أصيل. ولئن كان من بني عامر بن لؤي، الذين هم أقل درجة من بني كعب بن لؤي ( سيرة ابن هشام: 2 / 489 ) ، ولكنه صاحب تاريخ مع محمد، فهو من الزعماء الذين فاوضوا أبا طالب بشأنه.

وهو من أعضاء دار الندوة الذين قرروا مقاطعة بني هاشم.

وهو من الذين ائتمروا على قتله عندما ذهب الى الطائف، وقرروا نفيه من مكة، وهددوه بالقتل إن هو دخلها، ورفضوا أن يجيروه حتى يستطيع الدخول الى مكة وتبليغ رسالة ربه ففي تاريخ الطبري: 2 / 82 : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال للأخنس بن شريق: ائت سهيل بن عمرو فقل له إن محمداً يقول لك: هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالات ربي؟ فأتاه فقال له ذلك، قال فقال: إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب! انتهى.

وهو من الزعماء الذين واصلوا العمل لقتل محمد بعد وفاة أبي طالب، حتى أنجاه الله منهم بالهجرة.

وهو أحد الذين حبسوا المسلمين وعذبوهم على إسلامهم، ومن المعذبين على يده ولده أبو جندل.

وهو أحد قادة المشركين في بدر، وأحد أثريائهم الذين كانوا يطعمون الجيش.

وهو أحد الذين كانوا يؤلمون قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفعالياتهم الخبيثة، فلعنهم الله تعالى وطردهم من رحمته، وأمر رسوله أن يلعنهم، ويدعو عليهم في صلاته.

وهو أحد المنفقين أموالهم على تجهيز الناس لحرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أحد والخندق وغيرهما.

١٥٦

- قال في سير أعلام النبلاء: 1 / 194

يكنى أبا يزيد، وكان خطيب قريش وفصيحهم ومن أشرافهم وكان قد أسر يوم بدر وتخلص. قام بمكة وحض على النفير، وقال: يال غالب أتاركون أنتم محمداً والصباة يأخذون عيركم! من أراد مالاً فهذا مال، ومن أراد قوة فهذه قوة.

وكان سمحاً جواداً مفوهاً.

وقد قام بمكة خطيباً عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحو من خطبة الصديق بالمدينة فسكنهم!! وعظم الإسلام. انتهى.

وهو الذي انتدبته قريش لمفاوضة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديبية، وقد أجاد المفاوضة وشدد عليه بالشروط، ولم يقبل أن يكتب في المعاهدة ( رسول الله ) ووقع الصلح معه نيابة عن كل قريش.

وهو المعروف عند قريش بأنه سياسي حكيم، أكثر من غيره من فراعنتها.

وهو أخيراً من أئمة الكفر الذين أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتالهم! وإعلانه الإسلام تحت السيف لا يغير من آيات الله شيئاً! ففي تفسير الصنعاني: 1 / 242 : عن قتادة في قوله ( وقاتلوا أئمة الكفر ) هو أبو سفيان بن حرب، وأمية بن خلف، وعتبه بن ربيعة، وأبو جهل، وسهيل بن عمرو. انتهى.

وقد اختار سهيل بن عمرو البقاء في مكة بعد فتحها ودخولها تحت حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يهاجر الى المدينة كبعض الطلقاء، ولم يطلب من محمد منصباً، لأن كبرباءه القرشي وتاريخه في الصراع مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأبيان عليه ذلك!!

ولكنه قبل هدية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حنين وكانت مئة بعير، بينما كان رفضها في أيام القحط والسنوات العجاف التي حدثت على قريش بدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم أشفق عليهم وأرسل اليهم مساعدة، وكانت أحمالاً من المواد الغذائية، فقبلها أكثرهم وكان سهيل ممن رفضوها!

١٥٧

إنه تاريخٌ طويلٌ مشرقٌ عند القرشييين، وإن كان أسود عند الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !! ومن أجل هذا النسب وهذا التاريخ والصفات، اجتمعت حوله قريش بعد فتح مكة، وانضوت تحت زعامته!

* *

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عين حاكماً لمكة بعد فتحها، هو عتاب بن أسيد الأموي وحعل معه أنصارياً، ولكن قريشاً كانت تفضل عليه سهيلاً، وتسمع كلامه أكثر منه!

والدليل على ذلك أنه بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ارتدت قريش عن الإسلام، وخاف حاكمها عتاب أن يقتلوه فاختبأ مع أنه قرشي أموي وبعد أيام وصلهم خبر يطمئنهم ببيعة أبي بكر التيمي، وأن أحداً من بني هاشم لن يحكم بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمأن سهيل بن عمرو، وخطب في قريش بنفس خطبة أبي بكر في المدينة، والتي مفادها أنه من كان يعبد محمداً فإن إلهه قد مات، ونحن لا نعبد محمداً، بل هو رسولٌ بلغ رسالته ومات، وهو ابن قريش وسلطانه سلطان قريش، وقد اختارت قريش حاكماً لنفسها بعده وهو أبو بكر، فاسمعوا له وأطيعوا.

لقد طمأنهم سهيل بأن الأمر بيد قريش، وليس بيد بني هاشم والأنصار اليمانية الذين ( يعبدون ) محمداً، فلماذا الرجوع عن الإسلام!

فأطاعته قريش وانتهى مشروع الردة!

وأصدر سهيل أمره لعتاب الحاكم من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أخرج من مخبئك، واحكم مكة باسم الزعيم القرشي غير الهاشمي أبي بكر بن أبي قحافة التيمي!

( راجع سيرة ابن هشام: 4 / 1079، وفيها: فتراجع الناس وكفوا عما هموا به، وظهر عتاب بن أسيد ).

سهيل بن عمرو يحاول الإستقلال!

اقتنعت قريش بعد فتح مكة أن العمل العلني ضد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محكوم بالفشل ..

١٥٨

فركزت جهودها على العمل السياسي المتقن، والعمل السري الصامت، لإبعاد عترته عن الحكم، وجعله في قريش ..

ولكن المشكلة عندها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسير قدماً في ترتيب الأمر من بعده لعلي ومن بعده للحسن والحسين، أولاد بنته فاطمة وقريش لا تطيق علياً ولا أحداً من بني هاشم لذلك قرر قادتها وفي مقدمتهم سهيل بن عمرو أن يقوموا بأنشطة متعددة، منها محاولة جريئة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد كتبوا اليه ثم جاؤوه وفداً برئاسة سهيل بن عمرو، طالبين اليه أن يرد ( اليهم ) عدداً من أبنائهم وعبيدهم، الذين تركوا مكة أو مزارعهم في الطائف، وهاجروا الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليتفقهوا في الدين، كما تنص الآية القرآنية!

قال سهيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحن اليوم حلفاؤك، وقد انتهت الحرب بيننا وتصالحنا، وأنا الذي وقعت الصلح السابق معك في الحديبية!

وهؤلاء أولادنا وعبيدنا هربوا منا وجاؤوك، ولم يأتوك ليتفقهوا في الدين كما زعموا، ثم إن كانت هذه حجتهم فنحن نفقههم في الدين، فأرجعهم الينا!!

ومعنى هذا الطلب البسيط من زعيم قريش الجديد: أن قريشاً حتى بعد فتح مكة واضطرارها الى خلع سلاحها وإسلامها تحت السيف تريد من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإعتراف بأنها وجودٌ سياسيٌّ مستقل، في مقابل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودينه ودولته!!

- روى الترمذي في: 5 / 298

عن ربعي بن حراش قال: أخبرنا علي بن أبي طالب بالرحبة فقال: لما كان يوم الحديبية خرج إلينا ناس من المشركين فيهم سهيل بن عمرو وأناس من رؤساء المشركين، فقالوا يا رسول الله: خرج إليك ناس من أبنائنا وإخواننا وأرقائنا، وليس لهم فقه في الدين، وإنما خرجوا فراراً من أموالنا وضياعنا، فارددهم إلينا فإن لم يكن لهم فقه في الدين سنفقههم.

١٥٩

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معشر قريش لتنتهن أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين، قد امتحن الله قلوبهم على الإيمان! قالوا من هو يا رسول الله؟

فقال له أبو بكر: من هو يا رسول الله؟

وقال عمر: من هو يا رسول الله؟

قال هو خاصف النعل، وكان أعطى علياً نعله يخصفها. هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث ربعي عن علي.

- وروى أبو داود: 1 / 611

عن ربعي بن حراش عن علي بن أبي طالب قال: خرج عبدانٌ الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني يوم الحديبية قبل الصلح، فكتب إليه مواليهم فقالوا: يا محمد والله ما خرجوا إليك رغبة في دينك، وإنما خرجوا هرباً من الرق!

فقال ناسٌ: صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم!

فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا!

وأبى أن يردهم وقال: هم عتقاء الله عز وجل. انتهى.

ولا يغرك ذكر الحديبية في الحديث، فهذا من أساليب الرواة القرشيين في التزوير فالحادثة وقعت بعد فتح مكة، ولو كانت قبله لطالب سهيلٌ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالوفاء لهم بشرطهم، لأنهم شرطوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صلح الحديبية أن يرد اليهم من يأتيه منهم، ولا يردون اليه من يأتيهم من المسلمين!

ولو كانت قبل فتح مكة، لكانت مطالبةً بشرطهم، وما استحقت هذا الغضب النبوي الشديد، وهو لا يغضب إلا بحق، ولا يغضب إلا لغضب الله تعالى، ولا يرضى إلا بما يرضي الله تعالى!

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

وروى الصدوق في الفقيه قال، قال الصادق (عليه السلام): (إذا قمتَ إلى الصلاة... وارفع يديك بالتكبير إلى نحرك وكبِّر ثلاث تكبيرات وقل... ثُمّ كبِّر تكبيرتين... ثُمّ كبِّر تكبيرتين وقل: وجّهتُ وجهيَ للذي فطرَ السماوات والأرض، على ملّة إبراهيم، ودين محمّد، ومنهاج علي حنيفاً مسلماً... الحديث) (١).

وقال الصدوق معقّباً الحديث: (وإنّما جَرت السُنّة في افتتاح الصلاة بسبع تكبيرات؛ لمَا رواه زرارة).

وفي الفقه الرضوي: (ثُمّ تكبِّر مع التوجّه ثُمّ تقول: اللهمّ... ثُمّ تكبّر تكبيرتين وتقول: لبّيك وسعديك... ثُمّ تكبّر تكبيرتين وتقول: وجّهتُ وجهيَ للذي فطرَ السموات والأرض حنيفاً مسلماً على ملّة إبراهيم، ودين محمّد، وولاية علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم، وما أنا من المشركين... الحديث) (٢).

ما رواه السيّد علي بن طاووس في فلاح السائل (٣) عن كتاب ابن خانبه (٤) قال: ويقول بعد ثلاث تكبيرات من تكبيرات الافتتاح، ورواه الحَلَبي وغيره عن الصادق (عليه السلام): (اللهمّ أنت... ثُمّ يكبّر تكبيرتين، ثُمّ يقول: لبّيك... ثُمّ يكبّر تكبيرتين أخريين ويقول: وجّهتُ وجهي للذي فطر السموات والأرض على ملّة إبراهيم، ودين محمّد، ومنهاج علي صلواتك عليهم حنيفاً مسلماً) (٥).

____________________

(١) الفقيه: ح١، وصف الصلاة وأدب المصلي: ص٣٠٤، طبعة قم.

(٢) ج٤، ص١٤٢ مستدرك الوسائل: أبواب تكبيرة الإحرام، باب٦، ح٣.

(٣) فلاح السائل: صفحة١٣٢، طبعة قم.

(٤) وهو أحمد بن عبد ربّه بن خانبه الكرخي.

(٥) المستدرك: ج٤، أبواب تكبيرة الإحرام: باب٦، ح١.

٣٨١

وما رواه جملة من المتقدّمين الذي تُعد كتبهم متون روايات: كمقنع الصدوق (١) ، ومقنعة المفيد، واقتصاد (٢) الشيخ، ومصباح المتهجّد (٣) للشيخ، والكافي للحَلَبي، وغُنية ابن زهرة، ومراسم الديلمي، ومهذّب ابن برّاج، وهذه الكتب - مضافاً إلى أنّها مصادر روائيّة - دالّة على فتوى أصحابها بذلك، فمشهور المتقدّمين يبنون على ذكريّة الشهادة الثالثة في الصلاة.

هذا، ويَعضد ذكريّة الشهادة الثالثة في الصلاة، ما ورد من روايات في التسليم، وفي كيفيّة الصلاة على محمّد وآل محمّد في التشهّد المتضمّن للشهادة الثالثة، وقد تقدّم استعراض تلك الروايات مراراً في الفصول السابقة كما في الفقيه للصدوق (٤)، وهو بصيغة: (السلامُ على محمّد بن عبد الله خاتم النبيين، السلام على الأئمّة الراشدين المهديين)، وفي الفقه الرضوي (٥) أيضاً وهو بصيغة: (السلامُ عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام عليك وعلى أهل بيتك الطيبين)، والمفيد في المقنعة (٦) وهو بصيغة الفقه الرضوي، وقرّبه الصدوق في المقنع، والشيخ في النهاية، وابن برّاج في المهذّب، وسلاّر في المراسم، والحَلَبي في الكافي، والنراقي في المستند (٧) .

____________________

(١) المقنع: ص٩٣، طبعة قم.

(٢) اقتصاد الشيخ: ص٢٦٠ - ٢٦١.

(٣) مصباح المتهجّد: ص٤٤، مؤسّسة الأعلمي.

(٤) الفقيه: ج١، ص٣١٩، طبعة قم، باب وصف الصلاة.

(٥) الفقه الرضوي: ص١٨٠.

(٦) المقنعة: ص٦٩.

(٧) وقد تقدّم الإشارة إلى مصادرها في المدخل فلاحظ، وجِلّ هذه الكتب متون روائيّة.

٣٨٢

وكذا الروايات الواردة في صيغة الصلاة على محمّد وآل محمّد في التشهّد، كما رواه في الفقه الرضوي: (اللهمّ صلِّ على محمّد المصطفى، وعلي المرتضى، وفاطمة الزهراء، والحسن والحسين، وعلى الأئمّة الراشدين من آل طه وياسين) (١).

وقد أفتى به النراقي في المستند (٢) ، وقد ذَكر الشيخ المفيد في المقنعة في صيغة الصلاة في القنوت: (اللهمّ صلِّ على محمّد عبدك ورسولك وآله الطاهرين... اللهمّ صلِّ على أمير المؤمنين وصي رسول ربّ العالمين، اللهمّ صلِّ على الحسن والحسين سبطي الرحمة وإمامَي الهدى، وصلِّ على الأئمّة من وِلد الحسين، علي بن الحسين... والخَلف الحجّة (عليهم السلام)، اللهمّ اجعلهُ الإمام المنتظر...) (٣).

الوجهُ الثالث: الروايات الخاصّة تنزيلاً

وهو بمنزلة الروايات الخاصّة والدلالة الخاصّة على جواز أصل الشهادة الثالثة في التشهّد، وبيانه: عبارة عن أنّه قد وردَ بأنّه ليس في التشهّد شيء مؤقّت، والمراد منه عدم التوقيت من جانب الكثرة، وإلاّ فمن ناحية القلّة محدود ومؤقّت بالشهادتين، فهذه مقدّمة يأتي بيانها، والمقدّمة الثانية أنّ ظاهر الروايات العديدة في كيفيّة التشهّد المندوب، دالّة على إطلاق العِنان في تعداد جُمل التشهّد، حيث إنّ بينها اختلافاً كثيراً في الصيغة والتعداد للجُمل المتشهّد بها، والجامع الطبيعي بينها: هو أنّها في صدد الحثّ على التشهّد بجملة المعتقدات الحقّة، لا التحديد والتخصيص بمقدار دون آخر.

____________________

(١) الفقه الرضوي: ص١٠٨.

(٢) مستند الشيعة: ج٥، ص٣٣٤.

(٣) المقنعة: ص١٢٥ - ١٢٦- ١٣٠.

٣٨٣

وعلى ضوء هاتين المقدّمتين الآتيتين، يتبيّن اقتضاء جواز الشهادة الثالثة؛ لأنّها من جملة المعتقدات الحقّة، بل لها موقعيّة المرتبة الثالثة بعد الشهادتين، متقدّمة على بقيّة المعتقدات الحقّة الأخرى أهميّة بحسب الأدلّة القرآنيّة والنبويّة القطعيّة.

بيانُ المقدّمة الأولى:

وهي ما ورد من الروايات على أنّ ليس في التشهّد شيء مؤقّت من ناحية الكثرة، بل التحديد من ناحية القلّة، كصحيح محمّد بن مسلم قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام) التشهّد في الصلاة؟ قال: (مرّتين، قال، قلت: وكيف مرّتين؟ قال: إذا استويتَ جالساً فقل: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وحدهُ لا شريك له، وأشهدُ أنّ محمّداً عبده ورسوله، ثُمّ تنصرف قال، قلت: قول العبد: التحيات لله والصلوات الطيبات لله؟ قال: هذا اللطف من الدعاء يلطف العبد ربّه) (١) .

وهذه الصحيحة الدالّة على أنّ حدّ التشهّد من جانب القلّة، هما الشهادتان وأنّه لا حدّ له من جانب الكثرة، كما تدلّ على مشروعيّة الدعاء والثناء بما هو حق من المعتقدات في التشهّد، كصحيح زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): ما يجزي من القول في التشهّد في الركعتين الأوليتين؟ قال: (تقول أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، قلتُ: فما يجزي من تشهّد الركعتين الأخيرتين؟ فقال: الشهادتان) (٢).

____________________

(١) أبواب التشهّد: باب٤، ح٤.

(٢) أبواب التشهّد: باب٤، ح١.

٣٨٤

وصحيح الفضلاء عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إذا فرغَ من الشهادتين فقد مضت صلاته، فإن كان مستعجلاً في أمر يخاف أن يفوته فسلّم وانصرفَ، أجزأهُ) (١)، وغيرها من الروايات الواردة (٢).

وفي الصحيح إلى منصور بن حازم عن بكر بن حبيب قال، قلتُ لأبي جعفر (عليه السلام): أيّ شيء أقول في التشهّد والقنوت؟ قال: (قل بأحسن ما عَلمت، فإنّه لو كان موقّتاً لهلكَ الناس) (٣).

وفي طريق الكليني مع اختلاف في الألفاظ: (لو كان كما يقولون واجباً على الناس هلكوا، إنّما كان القوم يقولون أيسر ما يعلمون إذا حمدتَ الله أجزأ عنك) (٤) .

وبكر بن حبيب وإن لم يكن فيه توثيق خاص، إلاّ أنّه قد روى عنه منصور بن حازم ما يقرب من ستة مواضع (٥) ، وقال الشيخ البهائي في تعليقه على الفقيه وفي الحبل المتين: (إنّ جمهور الأصحاب تلقّوا رواية له بالقبول).

ومن الروايات التي رواها عنه منصور بن حازم عن أبي جعفر (عليه السلام)، رواية تعليم رسول الله لعلي ألف باب يُفتح منه ألف باب، وفيها اُدعو لي خليلي.

وهذه الرواية (إنّه لو كان مؤقّتاً لهلكَ الناس) مضمونها يتطابق مع الصِحاح المتقدّمة في جانب الكثرة،

____________________

(١) أبواب التشهّد: باب٤، ح٢.

(٢) أبواب التشهّد: الباب الرابع والخامس.

(٣) أبواب التشهّد: باب٥، ح١.

(٤) أبواب التشهّد: الباب٥، ح٢.

(٥) الكتب الأربعة، والخصال، وبصائر الدرجات، ومحاسن البرقي.

٣٨٥

أنّه ليس هناك شيء مؤقّت، وكما فيه الترخيص في كلّ ما يَحسن من القول ممّا هو من جنس الدعاء، والثناء لله، والتشهّد بالمعتقدات الحقّة، وكذلك دلالة الصحاح المتقدّمة؛ لأنّ التعبير بـ(يجزي) فيها أي أقلّ ما يجزي.

ونظيرها رواية سورة بن كليب قال: سألتُ أبا جعفر عن أدنى ما يجزي من التشهّد، قال: (الشهادتان) (١).

هذا، وقد مرّ فتاوى مشهور الأصحاب وتنصيصهم بأنّ أدنى ما يجزي في التشهّد الشهادتان، هذا مع مفروغيّة وجوب الصلاة على محمّد وآله؛ لوجوبها بذكره في الشهادتين.

أمّا المقدّمة الثانية:

دلالة الروايات الخاصّة الواردة في التشهّد على جواز كيفيّات مختلفة، يستفاد منها أنّ الأمر في التشهّد موسّع من ناحية الكثرة، وأنّ ما كان من دعاء وثناء وإقرار وتشهّد بفرائض الإيمان، فإنّ كلّ ذلك من الأجزاء الندبيّة للتشهّد، كصحيحة الحَلَبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال: أسمّي الأئمّة في الصلاة؟ فقال: (أجمِلهم).

ومنها: موثّق أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (إذا جلستَ في الركعة الثانية فقل: بسم الله وبالله والحمد لله، وخير الأسماء لله، أشهدُ أن لا إله إلاّ الله، وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، أرسلهُ بالحقّ بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، أشهد أنّك نِعمَ الربّ، وأنّ محمّداً نِعم الرسول، اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد،

____________________

(١) أبواب التشهّد: الباب٢، ح٣.

٣٨٦

وتقبّل شفاعتهُ في أمّته وأرفع درجتهُ، ثُمّ تَحمد الله مرّتين أو ثلاثاً ثُمّ تقوم، فإذا جلستَ في الرابعة قلتَ: بسم الله وبالله، والحمدُ لله وخير الأسماء لله، أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنّ محمّداً عبده ورسوله، أرسلهُ بالحقّ بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، أشهدُ أنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعثُ مَن في القبور، الحمدُ لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، الحمد لله ربّ العالمين.

اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد، وبارك على محمّد وعلى آل محمد، وسلِّم على محمّد وعلى آل محمّد، وترحّم على محمّد وعلى آل محمّد، كما صلّيت وباركت وترحّمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد.

اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد واغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تَجعل في قلوبنا غِلاًّ للذين آمنوا، ربّنا إنّك رؤوف رحيم، اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد، وامنُن عليّ بالجنّة وعافِني من النار.

اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد واغفر للمؤمنين والمؤمنات، ولمَن دَخل بيتي مؤمناً ولا تزد الظالمين إلاّ تباراً، ثُمّ قل: (السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته، السلام على أنبياء الله ورُسله، السلام على جبرائيل وميكائيل والملائكة المقرّبين، السلام على محمّد بن عبد الله خاتم النبيين لا نبيّ بعده، والسلامُ علينا وعلى عباد الله الصالحين، ثُمّ تسلِّم) (١).

وهذه الموثّقة دلّت على عدّة كيفيّات من التشهّد، فبيّنت التشهّد الأوّل في كيفيّة، والتشهّد الثاني في كيفيّة أخرى، بل قد تضمّنت ستّة كيفيّات للتشهّد، كما تضمّنت جواز تكرار التشهّد في التشهّد الواحد،

____________________

(٢) أبواب التشهّد: باب٣، ح٢.

٣٨٧

كما أنّها تضمّنت التشهّد بالساعة، وبالبعث من القبور أي بالمعاد، كما تضمّنت الطلب بالجنّة، والوقاية من النار، والدعاء للمؤمنين والمؤمنات، كما أنّها تضمّنت التبري من الظالمين أعداء الله ورسوله، كما أنّ صيغة السلام فيها تضمّنت السلام على أنبياء الله ورسله، وعلى ميكائيل وجبرائيل وملائكة الله المقرّبين.

ومنها: ذيل صحيح محمّد بن مسلم المتقدّم قال، قلت لأبي عبد الله (عليه السلام)...: قول العبد التحيات لله والصلوات الطيّبات لله، قال: (هذا اللطف من الدعاء يلطف العبد ربّه) (١).

ومنها: صحيح يعقوب بن شعيب قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): أقرأ في التشهّد ما طابَ لله وما خبثَ فلغيره، فقال: (هكذا كان يقول علي (عليه السلام)) (٢).

وفي مصحّح عبد الملك بن عمرو الأحول عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (التشهّد في الركعتين الأولتين: الحمدُ لله أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنّ محمّداً عبده ورسولهُ، اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد، وتقبّل شفاعتهُ، وارفع درجتهُ) (٣).

فترى الكيفيّة في هذه المصحّحة تختلف عن الكيفيّة في الرواية الأخرى، كما أنّ صحيحة محمّد بن مسلم السابقة عليها نصّت على الجزئيّة الندبيّة للدعاء والثناء في التشهّد، وكذلك صحيح يعقوب بن شعيب، وغيرها من الروايات الواردة التي أوردها صاحب الوسائل في أبواب التشهّد وصاحب المستدرك،

____________________

(١) أبواب التشهّد: باب٤، ح٤.

(٢) أبواب التشهّد: الباب الثالث، ح٥.

(٣) أبواب التشهّد: باب٣، ح١.

٣٨٨

كذلك الدالّة على مشروعيّة الدعاء والثناء والإقرار لمجمل قول الحق وفرائض الإيمان في التشهّد، فهذه كالكبرى تنضمّ إلى صغرى ما تقدّم من الكيفيّات المستحبّة للشهادتين، أن يؤتى بضميمة ثالثة لمجمل قول الحق وفرائض الإيمان، فضلاً عمّا دلّ على ذكريّته الذاتيّة.

الوجهُ الرابع: الروايات الخاصّة

وهو دلالة النصوص الخاصّة على مشروعيّة الشهادة الثالثة في التشهّد فمنها: معتبرة أو مصحّحة الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) قال: (وإنّما جُعل التشهّد بعد الركعتين؛ لأنّه كما قُدّم قبل الركوع والسجود من الأذان والدعاء والقراءة، فكذلك أيضاً أخّر بعدها التشهّد والتحيّة والدعاء) (١).

وهذه المصحّحة صريحة في اتّحاد ماهيّة التشهّد في الأذان مع ماهيّة التشهّد في الصلاة، فيتأتّى ما دلّ على الشهادة الثالثة بالخصوص من الطوائف المتقدّمة مع الشهادتين في الأذان، فكلّ ما قُرِّر في الشهادة الثالثة في الأذان يتأتّى بمقتضى هذه المصحّحة في تشهّد الصلاة.

ومنها: رواية الفقه الرضوي... قال: (... فإذا صلّيت الركعة الرابعة فقل في تشهّدك: بسم الله وبالله والحمد لله والأسماء الحسنى كلّها لله، أشهدُ أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنّ محمّداً عبده ورسوله، أرسلهُ بالحقّ بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، التحيات [ لله ] والصلوات الطيّبات الزاكيات الرائحات التامّات الناعمات المباركات الصالحات لله، ما طابَ وزكيَ وطهرَ ونمى وخلُص، وما خبُث فلغير الله،

____________________

(١) أبواب التشهّد: باب٣، ح٦.

٣٨٩

أشهدُ أنّك نِعمَ الربّ، وأنّ محمّداً نِعمَ الرسول، وأنّ علي بن أبي طالب نِعمَ الولي، وأنّ الجنّة حقّ والنار حقّ، والموت حقّ، والبعث حقّ، وأنّ الساعة آتية لا ريبَ فيها، وأنّ الله يبعثُ مَن في القبور، والحمدُ لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد، وارحم محمّداً وآل محمّد، أفضل ما صلّيت وباركت ورحمت وترحّمت وسلّمت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين، إنّك حميد مجيد.

اللهمّ صلِّ على محمّد المصطفى، وعليّ المرتضى، وفاطمة الزهراء، والحسن والحسين، وعلى الأئمّة الراشدين من آل طه وياسين، اللهمّ صلِّ على نورك الأنور، وعلى حبلك الأطول، وعلى عروتك الأوثق، وعلى وجهك الكريم، وعلى جنبك الأوجب، وعلى بابك الأدنى، وعلى (مسلك الصراط).

اللهمّ صلِّ على الهادين المهديين الراشدين الفاضلين الطيبين الطاهرين الأخيار الأبرار، اللهمّ صلِّ على جبرئيل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، وعلى ملائكتك المقرّبين، وأنبيائك المرسلين، ورسلك أجمعين من أهل السماوات والأرضين، وأهل طاعتك أكتعين، واخصُص محمّداً بأفضل الصلاة والتسليم) (١).

ويَعضده ما في المراسم لسلاّر الديلمي، حيث إنّ جملة كتب المتقدّمين تُعد متون للروايات؛ لاعتمادهم بالفتوى على نصّ ألفاظ الروايات.

(قال: وأمّا التشهّد الثاني الذي يلحقهُ التسليم في الرابعة من الظهر والعصر والعشاء الآخرة، والثالثة من المغرب والثانية من صلاة الغداة فهو:

____________________

(١) مستدرك الوسائل: أبواب التشهّد، باب٢، ح٣.

٣٩٠

(بسم الله وبالله والحمد لله والأسماء الحسنى كلّها لله، التحيّات لله والصلوات الطيّبات الطاهرات الزاكيات الناعمات السابغات التامّات الحسنات لله، ما طابَ وطهر وزكا ونما وخلُص وما خبُث فلغير الله، أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنّ محمّداً عبده ورسولهُ، أرسلهُ بالهدى ودين الحقّ ليظهرهُ على الدين كلّه ولو كرهَ المشركون، وأشهدُ أنّ ربّي نِعمَ الربّ، وأنّ محمّداً نِعمَ الرسول، وأنّ عليّاً نِعمَ الإمام، وأنّ الجنّة حقّ، والنار حقّ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث مَن في القبور.

اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد، وبارك على محمّد وآل محمّد، وارحَم محمّداً وآل محمّد، وتحنّن على محمّد وآل محمّد، كأفضل ما صلّيت وباركتَ وترحّمت وتحنّنت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد، السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته) (١) .

ثُمّ إنّه يؤيَّد المقام برواية ما في تفسير العسكري (عليه السلام) قال: (إذا قعدَ المصلّي للتشهّد الأوّل والتشهّد الثاني، قال الله تعالى: (يا ملائكتي، قد قضى خِدمتي وعبادتي وقعدَ يُثني عليّ، ويصلّي على محمّد نبيّي، لأُثنينّ عليه في ملكوت السماوات والأرض، ولأصلّينّ على روحه في الأرواح)، فإذا صلّى على أمير المؤمنين (عليه السلام) في صلاته، قال: لأصلّينّ عليك كما صلّيت عليه، ولأجعلنّه شفيعك كما استشفعتَ به) (٢).

الوجهُ الخامس:

وهو الاستدلال بجملة الطوائف للعامّة من الروايات التي مرّت الإشارة إلى متون بعضها ومصادرها، وهي في مفادها المطابقي الأوّلي، وإن كان مصبّها استحباب اقتران الشهادات الثلاث،

____________________

(١) المراسم العَلويّة: ص٧٢ - ٧٣.

(٢) تفسير الإمام العسكري: ص ٢٤٠.

٣٩١

إلاّ أنّ مجموعها يَشرف المُلاحِظ المتدبّر لدلالتها، أنّها تقتضي بيان حقيقة شرعيّة في معنى التشهّد والشهادة والإقرار، وأنّه متقوّم بالشهادات الثلاث، وأنّ الخروج عن هذا المعنى في حكم ظاهر الإسلام للدليل، وهو بمنزلة المخرج عن هذا العموم في معنى الحقيقة الشرعيّة، لاسيّما وأنّ الأصل في المعاني أنّ تُحمل على وجودها الحقيقي لا التنزيلي الظاهري، وعلى ذلك فتكون مفسِّرة لعنوان التشهّد أينما وردَ في الأدلّة، لاسيّما في باب الصلاة حيث اقترن بالتشهّد بالشهادتين - في جملة الروايات الواردة في المقام - التشهّد بجملة الاعتقادات الحقّة.

٣٩٢

أدلّةُ القائلين بالمَنع

وقد مرّت الإشارة إلى ذلك عند نقل القول بالمنع، وعُمدة ما استُدلّ به للمنع كما مرّ في كلام السيّد الخوئي، وميرزا باقر الزنجاني: هو أنّه قد مُنع في الصلاة عن كلّ كلام فيها، عدا القرآن والذكر والدعاء، وهذا المنع شامل لمَا لو كان الكلام مستحبّاً في نفسه، إذا لم يكن قرآناً أو ذكراً أو دعاءً، كلّ ذلك للأخبار الخاصّة الناهية عن إدخال الكلام في أثناء الصلاة، إلاّ ما كان من الأجناس الثلاثة المتقدّمة، وهذا كلّه بالنسبة للشهادة الثالثة دون الصلاة على النبي وآله، فإنّها من الدعاء بخلاف الشهادة بالولاية.

* وفيه عدّة مواضع للنظر:

الأوّل: لو سُلِّم أنّ نطاق النهي عن الكلام في الصلاة غير مقصور على الكلام الآدمي، وأنّه أوسع من ذلك لمطلق الكلام ولم يُستثنَ منه إلاّ العناوين الثلاثة، فقد مرّ في وجوه الاستدلال على الجواز أنّ الشهادة بالولاية - أي الشهادة الثالثة - هي من أشرف الأذكار وأعظمها بعد الشهادتين، وأنّ إضافته ذاتيّة إلى الساحة الربوبيّة يجعلهُ من الذكر، كما في ذِكر الجنّة والنار والآخرة، نظير ما ورد في ظهور المهدي (عجّلَ الله تعالى فرجهُ الشريف) أنّه من المعاد، وفي رجعتهم (عليهم السلام) أنّها من المعاد أيضاً، والإقرار بولاية الإمام هو إقرار بولاية الله ورسوله، وقد قرنَ الله ولايته بولاية الله ورسوله في جملة من الآيات،

٣٩٣

وكما مرّ أنّ الشهادة بالولاية ركن الإيمان، وكمال الدين، وقوام رضا الرب للإسلام، وأنّ التصديق بالولاية إيمان، والإيمان من أعظم درجات العبادة والذكر، بل هو مفتاح قبول العبادة والأعمال حيث قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ) (١) .

فجعلَ التصديق بآيات الله وآياته هم حججه، كما أطلقت الآية على نبيّ الله عيسى بن مريم، والخضوع لها مفتاح قبول الدعاء والتقرّب إلى الله، ومن ثُمّ كان إباء واستكبار إبليس قد أبطلَ عبادته، وكيف يُتصوّر أنّ ما هو شرط صحّة العبادة وقبولها هو منافٍ لها، وقد تقدّم في موثّقة أبي بصير أنّ ذِكرهم من ذكر الله، بل في خصوص صحيحة الحَلَبي التنصيص الخاص على أنّ ذِكر أسمائهم (عليهم السلام) في الصلاة من أذكار الصلاة المرخّص بها، وقد أفتى لذلك العلاّمة في المنتهى كما مرّت الإشارة إليه، واعتمدَ على الصحيحة كلّ من: الصدوق، والمفيد، والطوسي، وجماعة من المتقدّمين في قنوت الصلاة.

هذا، مضافاً إلى ما مرّ من ورود الشهادة الثالثة في دعاء التوجّه بعد تكبيرة الإحرام، وفي صلاة التشهّد والتسليم.

الثاني: قد تقدّم في مبحث الأذان دلالة الروايات المستفيضة والطوائف المتعدّدة، الدالّة على أنّ الشهادة الثالثة من الكيفيّات الراجحة لأداء الشهادتين، وأنّ أكمل أفراد طبيعة الشهادتين هو المقرون بالشهادة الثالثة، نظير الصلاة على محمّد وآله.

____________________

(١) الأعراف: ٤٠.

٣٩٤

الثالث: أنّه قد تقدّم في المدخل، أنّ الشهادة الثالثة سبب للإيمان بحسب طبيعتها، إذ لا يكفي فيها الاعتقاد بالجنان من دون الإقرار باللسان، والإيمان شرط في صحّة العبادات، كما ذهبَ إليه جُلّ علماء الإماميّة، أو شرط قبول كما ذهبَ شذاذ؛ فإنّه على كِلا التقديرين مقتضى ذلك: شرطيّة الشهادة الثالثة في الأعمال العباديّة، إمّا في الصحّة، أو في كمال الماهيّة، إذ ما هو شرط في الصحّة لا يُعقل تنافيه معه، وكذلك ما هو دخيل في كمال العمل، فلاحظ ثمّة.

والغريب في كلام السيّد الخوئي (رحمهُ الله) المتقدّم، فإنّه لا يتلائم مع ما قاله في الشهادة الثالثة في الأذان في شرح العروة، حيث أقرّ بما يفيد ويظهر منه ذكريّة الشهادة الثالثة، حيث قال: (إنّنا في غِنى من ورود النص، إذ لا شبهة في رجحان الشهادة الثالثة في نفسها بعد أن كانت الولاية من متمّمات الرسالة، ومقوّمات الإيمان، ومن كمال الدين بمقتضى قوله تعالى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) بل من الخَمس التي بُني عليها الإسلام، ولاسيّما وقد أصبحت في هذه الأعصار من أجلى أنحاء الشعار، وأبرز رموز التشيّع وشعائر المذهب الفرقة الناجية، فهي إذاً أمر مرغوب فيه شرعاً، وراجح قطعاً في الأذان وغيره...) (١).

وجهُ التدافع في كلام السيّد الخوئي (رحمهُ الله): أنّ الإقرار ببداهة رجحان الشهادة الثالثة، وأنّها ممّا يُتقوّم بها الإيمان ويرضى بها الربّ، فهل هذا إلاّ معنى الذِكر؛ لأنّه القول الراجح ذاتاً، والذي يكون مؤدّاه من الإيمان بالغيب، ويوجِب الزُلفى والرضا الإلهي بعد كونه ذو إضافة ذاتية إليه تعالى، وقد توفّرت هذه الأمور بما ذكره في بحث الأذان.

____________________

(١) المستند في شرح العروة الوثقى: ج١٣، ص٢٦٠، طبعة قم.

٣٩٥

الرابع: ما مرّ من ورود النصوص الصحيحة، من أنّه ليس في التشهّد شيء مؤقّت من جهة الكثرة، وأنّ كيفيّته من جهة الكثرة هو التشهّد بكلّ ما يكون من العقائد الحقّة: كمسائلة القبر، والشهادة بالنار، والجنّة، والملائكة وغيرها من الأمور الحقّة، بعد إشارة النصوص المزبورة بجواز كيفيّات مختلفة التعداد من الأمور الحقّة المقرّ بها، وهذا تعبّد خاصّ بالجزئيّة الندبيّة للتشهّد بالإقرار بكلّ العقائد الحقّة.

الخامس: أنّ الكلام المبطل في الصلاة هو الكلام الآدمي لا مطلق الكلام، كما نبّه على ذلك جملة من الأعلام، ومن ثُمّ خرجَ من الكلام المبطل مثل: القرآن، والذكر، والدعاء، والغريب في ذلك: أنّ السيّد الخوئي صرّح في ذلك في شرح العروة، فقال في ذيل الكلام للمسألة التاسعة من فصل مبطلات الصلاة، المتضمّنة استثناء الذكر والدعاء من الكلام المبطل:

(بلا خلاف فيه ولا إشكال، ويدلّنا عليه - مضافاً إلى انصراف نصوص المنع إلى ما كان من سنخ الآدميين غير الصادق على مثل القرآن، والذكر، والدعاء، ممّا كان التخاطب فيه مع الله تعالى، بل قد قُيّد التكلّم به في بعض النصوص المتقدّمة، كيف وأقوال الصلاة مؤلّفة من هذه الأمور، فكيف يشملها دليل المنع ولا يكون منصرفاً عنها - جملة من النصوص الدالّة على الجواز، وأنّه كلّ ما ناجيتَ به ربّك فهو من الصلاة، التي منها صحيحة علي بن مهزيار قال: (سألتُ أبا جعفر (عليه السلام) عن الرجل يتكلّم في صلاة الفريضة لكلّ شيء يناجي ربّه قال: (نعم)، وصحيحة الحَلَبي قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): (كلّ ما ذكرتَ الله به والنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فهو من الصلاة) (١).

____________________

(١) المستند: ج١٠، ص٤٤٥ - ٤٤٦.

٣٩٦

وما أبعدَ ما قاله السيّد الخوئي (رحمه الله) في كلامه الأسبق، من عدم ذكريّة أشهدُ أنّ عليّاً وليّ الله، وبين ما ذهبَ إليه الميرزا النائيني في تقريرات الصلاة حيث قال: (لا إشكال في كون المتيقّن من استثناء الدعاء، هو ما إذا كانت المخاطبة مع الله سبحانه، وأمّا إذا كان مع النبي والأئمّة (صلوات الله عليه وعليهم) ففي جوازه وعدمه وجهان: من ورود المخاطبة مع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في بعض أدعية السجود، وكذا ما ورد من السلام عليه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في سجود السهو؛ ولأنّ المخاطبة معهم (صلوات الله عليهم) دعاء مع الله، لكونهم وسائل إليه سبحانه، ومن انصراف الدعاء عن مثله، إذ الظاهر المنصرَف إليه منه، هو ما كانت المخاطبة فيه مع الله سبحانه، ومختار الأستاذ - دام بقائه - هو الأوّل) (١).

وفي صحيح علي بن جعفر في كتابه عن أخيه (عليه السلام) قال: سألتهُ عن رجل يصلّي خلف إمام يُقتدى به في الظهر والعصر، يقرأ؟ قال: (لا، ولكن يسبِّح ويَحمد ربّه ويصلّي على نبيّه) (٢) ، ورواه أيضاً في قرب الإسناد بطريق معتبر عن علي بن جعفر.

ومقتضاه: تكرار الصلاة على النبي وآله من المأموم طوال فترة قراءة الإمام، ونظيره ما في صحيح الحَلَبي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (كلّما ذكرتَ الله به والنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فهو من الصلاة).

وفي صحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): سألتهُ عن رجل يذكر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو في الصلاة المكتوبة...: (إنّ الصلاة على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كهيئة التكبير والتسبيح... الحديث) (٣).

____________________

(١) كتاب الصلاة: ج٢، تقريرات بحث المحقّق الميرزا محمّد حسين النائيني: ص٢٨٦.

(٢) الوسائل: أبواب صلاة الجماعة، باب٣٢، حديث٣.

(٣) الوسائل: أبواب الركوع، باب٢٠، حديث١.

٣٩٧

الأمرُ الثاني

الشهادةُ الثالثة في التسليم

وقد أفتى بذلك جملة المتقدّمين كما ستأتي كلماتهم مفصّلاً: كعلي بن بابويه في الفقه الرضوي، والصدوق، والمفيد، والشيخ، وابن برّاج، وابن سلاّر الديلمي، وابن طاووس، والشهيد، وصاحب كاشف اللثام، وصاحب الحدائق، وصاحب الجواهر، والنراقي، والميرزا النوري، وبعض المعاصرين، وفي العروة للسيّد اليزدي أنّه يخطر بباله الأنبياء والأئمّة والحَفَظة في السلام على عباد الله الصالحين، وظاهر المحشّين موافقته، وهو نظير ما ذكرهُ الشهيدين في الذكرى، واللمعة، والروضة.

ولا يخفى أنّ المراد من كون التسليم على الأئمّة (عليهم السلام)، هي صيغة من صيَغ الشهادة الثالثة؛ وذلك لكون التسليم عليهم هو بنعت الإمامة لهم فيكون إقرار من المصلّي بذلك.

١ - فقهُ الرضا: قال علي بن بابويه: (والتسليم - بعد ذكر مستحبّات التشهّد - السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته، السلام عليك وعلى أهل بيتك الطيبين، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) (١) .

____________________

(١) فقه الرضا: ص١٠٩، طبعة مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام).

٣٩٨

٢- المُقنع: قال الصدوق (قدِّس سرّه): (ثُمّ سلِّم وقل: اللهمّ أنت السلام، ومنك السلام... السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته، السلام على الأئمّة الراشدين المهديين...) (١).

وقال (قدِّس سرّه) في كتابه (مَن لا يحضره الفقيه): (فإذا صلّيت الرابعة فتشهّد، وقل في تشهّدك: (بسم الله وبالله.... السلام عليك أيّها النبيّ... السلام على محمّد خاتم النبيين، السلام على الأئمّة الراشدين المهديين....)) (٢).

٣- المقنعة: قال الشيخ المفيد (قدِّس سرّه): (فإذا جلسَ للتشهّد في الرابعة من الظهر والعصر والعشاء الآخرة، وفي التشهّد الثاني من الثالثة في المغرب، أو في الثانية من الغداة، فليقل: (بسم الله وبالله.... السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته... السلام على الأئمّة الراشدين...)) (٣).

٤- النهاية: وقال الشيخ الطوسي (قدِّس سرّه): (غير أنّه يستحبّ أن يقول في التشهّد: (بسم الله وبالله.... السلام عليك أيّها النبيّ.... السلام على الأئمّة الهادين المهديين...)) (٤).

وقال (قدِّس سرّه) في مصباح المتهجّد: (فإذا جلستَ للتشهّد في الرابعة على ما وصفناه قلت: (بسم الله وبالله... السلام على الأئمّة الهادين المهديِّين...)) (٥).

٥- المهذّب: قال القاضي ابن برّاج: (فإذا فعلَ ذلك، جلسَ للتشهّد الأخير وقال: بسم الله وبالله... السلام على الأئمّة الهادين المهديين...) (٦).

____________________

(١) المُقنع للصدوق: ص٩٦.

(٢) مَن لا يحضرهُ الفقيه: ج١، ص٣١٩، طبعة جامعة المدرّسين.

(٣) المقنعة: ص١١٤، طبعة جماعة المدرّسين.

(٤) النهاية للشيخ الطوسي: ج١، ص٣١١، طبعة جماعة المدرّسين.

(٥) مصباح المتهجّد: ص٥٤.

(٦) المهذّب: ج١، ص٩٥.

٣٩٩

٦- المراسمُ العَلَويّة: قال الشيخ أبي يعلي الديلمي المعروف بسلاّر: (وأمّا التشهّد الثاني.... فهو: (بسم الله وبالله... السلام عليك أيّها النبيّ... السلام على الأئمّة الراشدين....)) (١).

٧- منتهى المطلب: قال العلاّمة: (أكملُ التشهّد: ما رواه الشيخ في الموثّق عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا جلستَ في الركعة الثانية فقل:.... ثُمّ تقوم، فإذا جلستَ في الرابعة قلت: بسم الله وبالله.... السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته، السلام على أنبياء الله ورسله، السلام على جبرئيل، وميكائيل، والملائكة المقرّبين، السلام على محمّد بن عبد الله خاتم النبيين لا نبي بعده،....) (٢).

أقول: وهو وإن لم يكن متضمّناً للتسليم بصيغة الشهادة الثالثة، إلاّ أنّه متضمّن للتسليم على الملائكة.

٨- البيان: قال الشهيد الأوّل في بحث التسليم: (والسُنّة هنا أن يكون كهيئة المتشهّد.... وتقديم قوله: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام على جميع أنبياء الله وملائكته ورسله، السلام على الأئمّة الهادين المهديّين...)) (٣).

وقال أيضاً (رحمه الله) بعدَما حكى قول صاحب الفاخر بعد كلام، وعَنى بالذي آخر التشهّد قوله:

____________________

(١) المراسم العَلَويّة: ٧٣، المجمع العالمي لأهل البيت، قم.

(٢) منتهى المطلب: ج٥، ص١٩٢، طبعة مشهد المقدّسة، الطبعة الأولى ١٤١٩هـ.

(٣) البيان: الشهيد الأوّل، ص١٧٧، طبعة بنياد فرهنكي الإمام المهدي.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420