الشهادة الثالثة

الشهادة الثالثة14%

الشهادة الثالثة مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 420

الشهادة الثالثة
  • البداية
  • السابق
  • 420 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 108426 / تحميل: 6623
الحجم الحجم الحجم
الشهادة الثالثة

الشهادة الثالثة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

صيَغ الشهادة الثالِثة

يتّضح ممّا تقدّم: أنّ للشهادة الثالثة في الأذان والإقامة أو الصلاة هي بأشكال متعدّدة وصيغ مختلفة:

الأولى، والثانية، والثالثة: ما ذكرها الصدوق في الفقيه (١) من متون الروايات: (محمّد وآل محمّد خير البريّة) مرّتين، ولم يحدِّد لها الصدوق في الرواية الواردة موضعاً خاصّاً في الأذان ولعلّها بعد (حيّ على خير العمل)، كما في كلمات السيّد المرتضى وابن برّاج وغيرهما: (وأشهد أنّ عليّاً وليّ الله) مرّتين، وقد ذكر الصدوق موضعها بعد الشهادة الثانية، وصيغتها مكرّرةً كبقيّة فصول الأذان، و (أشهدُ أنّ عليّاً أمير المؤمنين حقّاً) مرّتين، وظاهر الصدوق أنّ الوارد في الروايات الأخرى هذه الصيغة بعد الشهادة الثانية.

الرابعة: الصيغة التي رواها السيّد المرتضى في كتابه (مسائل المبافارقيات)، بعد حيّ على خير العمل وهي: (أشهد أنّ محمّد وعليّاً خير البشر) (٢).

الخامسة: الصيغة التي بنى عليها العلاّمة الحلّي في المنتهى (٣)، ممّا رواه من صحيحة الحَلَبي وهو: تسمية الأئمّة بالإجمال في الصلاة كذكرٍ من أذكارها.

____________________

(١) الفقيه: ج١، كتاب الصلاة، أبواب الأذان والإقامة، ص٢٩٠ طبعة قم.

(٢) المبارقيات: ص٢٥٧.

(٣) المنتهى: ج٥، ص٢٩٢ طبعة الأستانة الرضويّة.

٤١

السادسة: الصيغة التي ذكرها علي بن بابويه في التشهّد في كتابه الفقه الرضوي حيث قال: (فإذا تشهّدت في الثانية فقل: بسم الله وبالله والحمد لله والأسماء الحسنى كلّها لله، أشهدُ أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنّ محمّداً عبده ورسوله،... فإذا صلّيت الرابعة فقل في تشهّدك: بسم الله وبالله،... أشهدُ أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنّ محمّداً عبده ورسوله،.. وأشهدُ أنّك نِعمَ الربُّ، وأنّ محمّداً نِعمَ الرسول، وأنّ عليّ بن أبي طالب نِعم الولي، وأنّ الجنّة حق....) (١).

السابعة: الصيغة التي ذكرها كلّ من: علي بن بابويه، والنراقي، والميرزا النوري:

(اللهمّ صلِّ على محمّد المصطفى، وعلي المرتضى، وفاطمة الزهراء، والحسن، والحسين، وعلى الأئمّة الراشدين...) (٢) .

الثامنة والتاسعة: وهما الصيغتان المذكورتان في دعاء التوجّه في فتاوى القدماء؛ تَبعاً لمَا ورد في النصوص وهما: (ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب)، و (منهاج علي بن أبي طالب) و(هدي علي).

العاشرة: ما ورد في قضيّة كُدير الضبّي بقوله في صلاته: (اللهمّ صلِّ على النبيّ والوصيّ).

____________________

(١) الفقه الرضوي: ص١٠٨.

(٢) (فقه الرضا، المستند، مستدرك الوسائل).

٤٢

سيرةُ العلماء المتقادمة وفتاواهم بجواز الشهادة الثالثة

* الأولى: فتوى السيّد المرتضى بالجواز

في رسالة له (المسائل المبافارقيّات) المسألة الخامسة عشر: هل يجب في الأذان بعد قول: (حيّ على خير العمل) محمّد وعلي خير البشر؟

الجواب: إن قال: محمّد وعلي خير البشر على أنّ ذلك من قوله خارج من لفظ الأذان جاز، فإنّ الشهادة بذلك صحيحة، وإن لم يكن فلا شيء عليه) (١) .

أقول: ولا يخفى أنّ الشق الثاني من جوابه من قوله: (وإن لم يكن فلا شيء عليه) المراد منه: أي إن لم يقل ذلك على أنّه من خارج لفظ الأذان، أي جعله من داخل لفظ الأذان وفصوله فلا شيء عليه، فحكمهُ (قدِّس سرّه) فتوى صريحة بمضمون الروايات التي أوردها الصدوق (الفقيه) المتضمنّة بكون صيغ الشهادة الثالثة من فصول الأذان.

ثُمّ إنّ سؤال السائل من مدينة مبّافارقي (٢) - وهي مدينة كبيرة عند إيل من بلاد الجزيرة وفي معالِم العلماء مبافارقي - وقعَ عن وجوب ذلك في الأذان، وسواء كان السائل من العوام أو من أهل الفضل؛ فإنّ سؤاله يبني عن وقوع التأذين بالشهادة الثالثة في الأذان عند الشيعة والمفروغيّة من مشروعيّتها لديهم، وإنّما ترديدهم في لزومها على نحو الوجوب أو الندب، وهذا يؤكّد ما تفيده عبارة الصدوق في الفقيه المتقدّمة من وجود ظاهرة عمل وسلوك الشيعة وسيرتهم بذكر الشهادة الثالثة في الأذان في زمن الصدوق، وزمن السيّد المرتضى،

____________________

(١) رسالة المسائل: مطبوعة بضميمة جواهر الفقه لابن برّاج، طبعة جماعة المدرّسين، وفي رسائل السيّد المرتضى: طبعة السيّد المرعشي، ج١، ص٢٧٩.

(٢) المبّافارقي: بفتح الميم وتشديد الباء الموحّدة والفاء بين الألفين، وآخرها الراء والقاف، قريبة من الموصل.

٤٣

حيث يُعد الصدوق من مشايخ السيّد المرتضى (قدِّس سرّه) في الرواية، كما هو من مشايخ الشيخ المفيد في الرواية، وبذلك نقف بالدلائل على وجود السيرة بالشهادة الثالثة في الأذان لدى الشيعة في بدايات الغيبة الكبرى، وسيأتي في مبحث سيرة المتشرّعة من الطائفة الشيعيّة أنّ سيرتهم في بغداد، وشمال العراق، وجنوب إيران، وحلب، ومصر، وكذلك الدولة الحمدانيّة، وآل بويه، والدولة العبيديّة، والفاطميون كانت على التأذين بالشهادة الثالثة (محمّد وعلي خير البشر)، وهي أحد الصيغ القريبة من الطوائف الثلاث التي رواها الصدوق في الفقيه، كلّ ذلك بالنصوص التأريخيّة العديدة على ذلك، وهذه السيرة متقدّمة على الصدوق بطبقة أو طبقتين.

أقول: فيُعلم أنّ مبدأ السيرة لديهم ليس في ابتداء الغيبة الكبرى، بل المراد أنّ مقدار ما تعطيه العبارة المتقدّمة للصدوق وعبارة الشيخ الطوسي: هو الدلالة على ما هو أقدم، وهو وجود جملة من طوائف الروايات الواردة عن الرواة، وبذلك يفيد أنّ هذه السيرة كانت لدى رواة الأئمّة قبل الغيبة الصغرى؛ لأنّ دأب ودَيدن الرواة العمل والفتوى بما يروونه، وإلاّ فيستثنون وينبّهون على عدم اعتمادهم على مضمون الرواية عند روايتهم لها في ذيلها، كما هو واضح للمتتّبع لكتب الحديث وأبواب الروايات.

* الثانية: فتوى الشيخ الطوسي بالجواز

وتتبيّن فتواه بالجواز من خلال المقارنة بين عبارته في النهاية وعبارته في المبسوط المتقدّمتين، حيث قال في المبسوط: بأنّ العامل بالروايات المتضمنّة للشهادة الثالثة بكونها من فصول الأذان غير مأثوم، ونظير هذا التعبير عبّر به الشيخ في النهاية فيمَن عملَ بأحد طوائف الروايات المختلفة مفاداً في عدد الفصول، حيث ذهب أنّ العامل بأحدها غير مأثوم،

٤٤

وهذا يقضي بفتواه بالجواز، إذ هو (قدِّس سرّه) كان في صدد عدم ارتضاء الجمع بين الروايات المتضمنّة للشهادة الثالثة والخالية منه، بحمل المتضمنّة منها على الاستحباب؛ لأنّه يبني على استحكام التعارض لا الجمع الدلالي بينهما، فمن ثُم تصل النوبة إلى الترجيح بينهما عنده، نظير ما صرّح به في الروايات الواردة في عدد فصول الأذان المختلفة في تحديده؛ فإنّه لم يَجمع بينهما بحمل المتضمنّة للزيادة على الندب بل بنى على استحكام التعارض بينهما، ومن ثُمّ قال بالتخيير في العمل بها، حيث قال في كتاب النهاية:

(مَن عَمل بإحدى هذه الروايات لم يكن مأثوماً)، الذي هو عين التعبير في المبسوط في روايات الشهادة الثالثة حيث قال: (لو فعله الإنسان لم يأثم)، وقد مرّ أنّ رواية رواة الأئمّة لتلك الروايات اعتماداً منهم عليها، وإلا لذيلّوا بقولهم المُعترض على مضمونها بصورة لفظ استثناء ونحوه، ولو كان مثل ذلك الذيل في كلام الرواة لتلك الروايات موجوداً لَنقلهُ الصدوق والشيخ الطوسي (قدِّس سرّهما)، ولأشارا إليه لاسيّما وإنّهما كانا - بحسب عبارتهما - في مقام تقييم درجة اعتبار الروايات، فظهرَ من ذلك دلالة عبارة الصدوق والشيخ - حيث لم يصفا الروايات بالإرسال، ولا بكونها مقطوعة، ولا بكونها مضمرة، ولا بكونها معلّقة - على كون الروايات متّصلة الإسناد إلى المعصومين (عليهم السلام)، وبكونها سيرة روائيّة لدى جملة من الرواة؛ لأنّهم قد وصفوها بوصف الجمع ممّا يدلّ على تعدّد مضامينها وطرقها - كما نقلَ تعدّد المتون وتعدّد طُرقها وبالتالي تعدّد سلسلة الرواة لها.

ثُمّ إنّ هناك في فتوى السيّد المرتضى (قدِّس سرّه) ما يعزِّز فتواه بالجواز - وإن أتى بها على أنّها من فصول الأذان - أمرين:

٤٥

الأوّل: إنّ فتواه كما مرّ صَدرت في ظل سيرة الشيعة في بغداد، وشمال العراق، وجنوب إيران، ومصر، ودولة الحمدانيين، وآل بويه، والفاطميين، والعبيديّة، على التأذين بالشهادة الثالثة بنفس الصيغة التي أفتى بها السيّد فتكون فتواه مساندة لهذه السيرة ودعم لها.

والثاني: هو فتواه المتصلة بالعبارة السابقة حيث سُئل: (المسألة السادسة عشر: من لفظ أذان المخالفين يقولون في أذان الفجر: (الصلاة خير من النوم) هل يجوز أن نقول ذلك أم لا؟

الجواب: مَن قال ذلك في أذان الفجر قد أبدعَ وخالف السنّة؛ لإجماع أهل البيت على ذلك) انتهى.

ففتواه ببدعيّة (الصلاة خير من النوم) - مع ورود الروايات المتضمنّة لها الصادرة تقيّة، بل وفتوى جماعة من المتقدّمين بجوازها عند التقيّة - يدلّ بوضوح - بمقتضى المقابلة مع فتواه السابقة المتصلة بالشهادة الثالثة - بناءه على استفادة المشروعيّة للشهادة الثالثة في فصول الأذان من الروايات الواردة فيها، وبنفس التقريب سيأتي في فتوى الشيخ الطوسي، حيث تعرّض فيها للشهادة الثالثة وسنبيّن إفادتها للجواز، غاية الأمر أنّه يُحكم بخطأ مَن عملَ بمضمونها الذي هو كون الشهادة الثالثة من فصول الأذان، أي تخطئة اجتهاديّة في مقام الترجيح بين الروايات المتعارضة لا التخطئة القطعيّة كما هو الحال في التثويب، حيث قال قبل فتواه الآتي نقلها في الشهادة الثالثة: (ولا يجوز التثويب في الأذان، فإن أراد المؤذِّن إشعار قوم بالأذان جاز له تكرار الشهادتين، ولا يجوز قول: (الصلاة خير من النوم) في الأذان، فمَن فعلَ ذلك كان مُبدعاً) (١) .

____________________

(١) النهاية: ج١/ ٢٩ ط. قم مؤسّسة النشر الإسلامي.

٤٦

فنلاحظ الشيخ الطوسي كالسيّد المرتضى، قد اختلف حكمهما على التثويب عن حكمهما على الشهادة الثالثة، فإنّهما حَكما (بالبدعيّة) أي: التخطئة القطعيّة على ذِكر التثويب في فصول الأذان، مع أنّ الروايات الواردة في التثويب - كفصل من الأذان - متعدّدة قد وصلَ إلى عصرنا إسنادها المتصل، إلاّ أنّها حيث وردت في التقيّة بشهادة روايات أخرى صريحة دالّة على ذلك، فَحكما على التثويب بالبدعيّة.

وأمّا الشهادة الثالثة إذا أُتي بها على أنّها من فصول الأذان، فقد حَكم السيّد المرتضى بنفي المحذور في ذلك، فضلاً عمّا لو أتى بها في الأذان على أنّها خارجة منه، بينما الشيخ الطوسي حَكم بالخطأ بصناعة الترجيح لو أتى بها على أنّها من فصول الأذان، وقد ذهبَ العلاّمة الحلّي إلى التفرقة في الحُكم بين التثويب (١) والشهادة الثالثة، بعين ما صنعهُ الشيخ الطوسي، فبينَ حُكم التثويب وحكم الشهادة الثالثة في الأذان بون بعيد، كما لا يخفى على المتحذلق في صناعة الاستدلال.

وممّا يدلّ على ذهابه للتخيير والجواز للعمل بها، ويُعضد قوياً استظهار فتواه بالجواز قوله عقيب عبارته في المبسوط: (غير أنّه ليس من فضيلة الأذان، ولا كمال فصوله) فإنّ هذا الاستثناء لا يصلح التعبير به إلاّ في سياق سَبق الحُكم فيه بالجواز؛ لأنّ هذا الاستثناء بمعنى الاستدراك فهو يستدرك على شيء قد مضى، ولو كان يفتي بالحرمة لمَا صحّ الاستدراك.

____________________

(١) التذكرة: ج٣، ص٤٥، وص٤٧.

٤٧

ثُمّ إنّ فتوى الشيخ - كما تقدّم في فتوى السيّد المرتضى - مُساندة وداعمة لسيرة الشيعة في بغداد، وشمال العراق، وجنوب إيران، ومصر، وحلب، والدول الشيعيّة: كالحمدانيين في شمال العراق، وحلب، وآل بويه، والعبيديين، والفاطميين، كما سيأتي في بحث السيرة استعراض النصوص التاريخيّة في ذلك.

* الثالثة: فتوى ابن برّاج بالجواز في المهذّب

قال ابن البرّاج في المهذّب: (ويستحبّ لمَن أذّن أو أقامَ أن يقول في نفسه عند حيّ على خير العمل: آلُ محمّد خير البريّة مرّتين) (١).

وصريحهُ: العمل والفتوى بأحد الطوائف التي ذكرها الصدوق والتي تقدّم نَقل متنها، وهو يقضي أنّ الروايات كانت واصلة لديه، فاعتمدَ وأفتى بمضمونها خلافاً لموقف الصدوق من تلك الروايات، وخلافاً لموقف الشيخ الطوسي حيث بنى على التعارض والتخيير، فابن البرّاج قد بنى على الجمع بينها بحملها على الإسرار، فكأنّه حملَ الروايات الخالية منها أي من الشهادة الثالثة على التقيّة، وفهمَ منها مطلوبيّة التقيّة والتقيّة بالتالي تقتضي الإسرار بها، لاسيّما مع ما سيأتي من حصول الصدامات عقوداً من الزمن بين الشيعة وسنّة جماعة الخلافة في بغداد قبله بطبقتين أو ثلاث، على كيفيّة فصول الأذان وإدراج الشهادة الثالثة وحيّ على خير العمل فيه، ولاسيّما وإنّ ابن برّاج قد انتقلَ وهاجر إلى الشام في ظلّ الدولة الشيعيّة هناك آنذاك.

____________________

(١) المهذّب: ج١، ص٩٠ طبعة جماعة المدرّسين.

٤٨

فالتقيّة تقتضي الإسرار بقراءتها دون الإجهار بها أمام العامّة هذا، مع أنّ الإسرار سيأتي أنّه أحد كيفيّات الأذان في بعض الموارد، كما أنّ الإجهار من كيفيّاته المطلوبة بحسب غالب الموارد، فيكون بذلك قد جمعَ بين دلالة الطائفتين، كما أنّه يظهر من صريح فتواه الفتوى في ذلك في كلّ من الأذان والإقامة لا خصوص الأذان.

كما أنّ تقييده هذا القول بالمرّتين: هو الآخر صريح بالإتيان بها على أنّها من فصول الأذان، كما أنّه شاهد على عمله بمضمون متون الروايات التي أشار إليها في الفقيه، حيث نصّت على كونها من فصول الأذان مرّتين.

* الرابعة: فتوى المتقدّمين والمتأخّرين بالشهادة الثالثة في محاكاة الأذان

وفتواهم هذه وإن كان مصبّها في حكاية الأذان لمَن سمعهُ من غيره، إلاّ أنّه سيأتي في الفصول اللاحقة فتواهم الأخرى المعتمدة من لزوم مطابقة حكاية الأذان ومحاكاته لمتن فصول الأذان، وبهذه الضميمة تُشعر فتواهم الأولى بتضمّن فصول الأذان للشهادة الثالثة.

منها: قول الشيخ الطوسي في المبسوط: (ويستحبّ للإنسان أن يقول مع نفسه مثلَ ما يسمع من فصول الأذان. إلى أن قال: ورويَ أنّه إذا سمعَ المؤذِّن يقول: أشهدُ أن لا إله إلاّ الله - أن يقول: وأنا أشهدُ أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبد الله ورسوله، رضيتُ بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رسولاً، وبالأئمّة الطاهرين أئمّة) ويصلّي على النبيّ وآله (١).

____________________

(١) المبسوط: المجلّد الأوّل، ص١٤٤-١٤٥، طبعة جماعة المدرّسين.

٤٩

ومنها: ما قاله العلاّمة في التذكرة: (رويَ أنّه يستحبّ إذا سمعَ المؤذِّن يقول: أشهدُ أن لا إله إلاّ الله، أن يقول: (وأنا أشهدُ أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، رضيتُ بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمّد رسولاً، وبالأئمّة الطاهرين أئمّة) ثُمّ يُصلي على النبيّ وآله (١) ، وأفتى بذلك في المنتهى أيضاً (٢).

ومنها: ما قاله الشهيد في الذكرى في أحكام الأذان، المسألة الرابعة عشر: (قال ابن البرّاج: يستحبّ لمَن أذّن أو أقامَ أن يقول في نفسه عند (حيّ على خير العمل): (آلُ محمّد خير البريّة) مرّتين (٣).

ويظهر من الشهيد تقرير ابن برّاج في المهذّب (٤) على فتواه، والتي هي عمل بمضمون الطوائف التي استضعفها الصدوق في الفقيه المتضمنّة لجزئيّة الشهادة الثالثة في الأذان.

نعم، الظاهر من الشهيد أنّه فهمَ من فتوى ابن برّاج: أنّ الشهادة الثالثة من أذكار الأذان التابعة له المندوبة بالندب الخاص، لا جزء فصوله، وكأنّ ابن برّاج بنى على ذلك إلاّ أنّ بناء الشهيد على بعض مضمون تلك الطوائف - لاسيّما وإنّه ذَكر في كثير من كتبه وصول الروايات المزبورة ووقوفه عليها - دال على اعتماده على صدورها، وفاقاً لابن برّاج، والطوسي، والعلاّمة، خلافاً للصدوق، ولا يخفى التنبيه في المقام على أنّ الاستحباب هنا قد جعله للمؤذِّن والمقيم نفسه، لا للسامع في حكايته لمَا يسمعه في الأذان.

____________________

(١) التذكرة: ج٣، ص٨٤ طبعة مؤسّسة أهل البيت، قم المقدّسة.

(٢) المنتهى: ج٤/ ٣٤٣، ط مشهد المقدّسة.

(٣) ذكرى الشيعة: ج٣، ص٢٤١ طبعة مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام).

(٤) المهذّب: ج١/٩٠.

٥٠

ومنها: فتوى المحقّق في المعتبر.

قال: (مسألة: من السنّة حكاية قول المؤذّن؛ لمَا روي عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: (إذا سمعتم النداء، فقولوا كما يقول المؤذِّن) قال الشيخ في المبسوط: مَن كان خارج الصلاة قطعَ كلامه وحكى قول المؤذِّن، وكذا لو كان يقرأ القرآن قطعَ وقال كقوله؛ لأنّ الخبر على عمومه، وقال في المبسوط أيضاً: رويَ إذا قال المؤذِّن أشهدُ أن لا إله إلاّ الله أن يقول: (وأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، رضيتُ بالله ربّاً، بالإسلام ديناً، وبمحمّد رسولاً، وبالأئمّة الطاهرين أئمّة...) (١) .

وظاهره: تقريره فتوى الشيخ مُشعر أيضاً بأنّ الشهادة الثالثة من الأذان بمقتضى قاعدة تطابق حكاية الأذان مع الأذان المستحبّة، ولا أقلّ من دلالتها على أنّ الشهادة الثالثة من توابع الأذان، ومن ثُمّ أدرجَ الفقهاء استحباب الحكاية بالشهادات الثلاث عند سماع الأذان في نفس مسألة الحكاية لسماع الأذان.

* الخامسة: الفتوى بذكريّة أسمائهم في الصلاة

أي ذِكر أسمائهم في الصلاة، مع وصفهم بالإمامة الذي هو نحو من الشهادة بالولاية.

منها: فتوى الصدوق في الفقيه

فإنّه قد أوردَ صحيح الحَلَبي المتقدّم في موضعين من الفقيه: أحدهما في قنوت صلاة الوتر (٢) ، والآخر في مطلق باب القنوت في الصلاة (٣) ، ويظهر منه كلا الموضعين الإفتاء بها؛ لأنّه لم يعلِّق عليها برد أو توقّف مع أنّه قد علّق على روايات قبلها وبعدها،

____________________

(١) المعتبر: ج٢، ص١٤٦ الطبعة القديمة.

(٢) الفقيه: ج١، ص٤٩٣ طبعة قم.

(٣) الفقيه: ج١، ص٣١٧ طبعة قم.

٥١

بل قد قال قبل هذه الصحيحة بعد حكاية شيخه لفتوى سعد بن عبد الله أنّه كان يقول: لا يجوز الدعاء في القنوت بالفارسيّة، وكان محمد بن الحسن الصفّار يقول: إنّه يجوز والذي أقول به إنّه يجوز ثُمّ استدلّ لذلك بروايتين، ثُمّ أورد صحيحة الحَلَبي، فلاحظ ثمّة كلامه.

ومنها: فتوى الشيخ المفيد بمضمون صحيح الحَلَبي

حيث قال في دعاء قنوت الوتر بذكر لفظ الشهادات الثلاث قال: (... اللهمّ فإنّي أشهدُ على حين غفلة من خلقك: أنّك أنت الله لا إله إلاّ أنت، وأنّ محمّداً عبدك المرتضى ونبيّك المصطفى، أسبغتَ عليه نعمتك، وأتممتَ له كرامتك، وفضّلت لكرامته آله، فجعلتهم أئمّة الهدى، ومصابيح الدُجى، وأكملتَ بحبّهم وطاعتهم الإيمان، وقبلتَ بمعرفتهم والإقرار بولايتهم الأعمال، واستعبدتَ بالصلاة عليهم عبادك وجعلتهم مفتاحاً للدعاء،.... اللهمّ صلِّ على محمّد عبدك ورسولك وآله الطاهرين،.... اللهمّ صلِّ على أمير المؤمنين وصيّ رسول ربّ العالمين، اللهمّ صلِّ على الحسن والحسين سِبطَي الرحمة وإمامَي الهدى، وصلِّ على الأئمّة من وِلد الحسين، عليّ بن الحسين،.... والخلف الحجّة (عليهم السلام)، اللهمّ اجعلهُ الإمام المنتظر....) (١) .

ومنها: فتوى الشيخ الطوسي بذلك

حيث أورد صحيح الحَلَبي في موضعين أيضاً، أوّلهما: في دعاء قنوت الوتر حيث قال: (وممّا وردَ في الحث على الدعاء في الوتر)، ثُمّ أورد جملةً من الروايات ومن ضمنها صحيح الحَلَبي المتقدِّم) (٢) .

____________________

(١) المقنعة: ص١٢٥ - ١٢٦ - ١٣٠ طبعة قم - جماعة المدرّسين.

(٢) التهذيب: ج٢، ص١٣٠ - ١٣١، ح٥٠٦.

٥٢

وثانيهما: ما وردَ في باب (١) كيفيّة الصلاة وصِفتها، حيث أوردها بعد ذكر روايةٍ في مطلق ذكر الله في الصلاة، ولم يعلِّق عليها بردٍ أو توقف كما هو دأبه فيما لا يرتضيه في مضامين بعض الروايات، حتّى أنّه أوردَ في الموضع الثاني قَبل ذلك رواية في النهي عن الصلاة والإزار محلول، وعلّق عليها: بأنّ هذا الأمر محمول على الاستحباب واستشهدَ برواية أخرى.

منها: فتوى العلاّمة، كما في كتاب المنتهى الفصل الثالث: في التروك، حيث استثنى من الكلام المبطل في الصلاة كلّ كلام هو من ذِكر الله، وجعلَ منه ذكر أسماء الأئمّة مستنداً في ذلك إلى صحيح الحَلَبي الدال بالخصوص على ذلك.

قال: المطلب الثاني عشر (لا بأس بأصناف الكلام الذي يناجي به الربّ تعالى؛ لمَا رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن مهزيار، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الرجل يتكلم في صلاة الفريضة، بكلّ شيء يناجي ربه؟ قال: (نعم)) (٢).

وعن الحلبي: قال: (قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام) أسمّي الأئمّة (عليهم السلام) في الصلاة؟ قال: (أجمِلهم) (٣) ، ومن هذا الباب كلّ ذكرٍ يُقصد به تنبيه غيره) (٤).

____________________

(١) التهذيب: ج٢، ص٣٢٦، ح١٣٣٨.

(٢) منتهى المطلب: ج٥، ص٢٩٢ طبعة الأستانة الرضويّة.

(٣) أبواب القنوت: باب ١٤ الحديث الأوّل، التهذيب: ج٢، ص٣٢٦، الحديث ١٣٣٨.

(٤) أبواب قواطع الصلاة: باب ١٣، الحديث الأوّل.

٥٣

وما أشار إليه من صحيحة الحَلبي، سيأتي ورود عدّة صِحاح قريب من مضمونها: كصحيح عبد الله بن سنان (١)، وصحيح زرارة (٢) ، وصحيح محمد بن مسلم (٣) ، وموثّق سماعة (٤) ، وموثّق أبي بصير (٥)، وعلى كلّ حال فيظهر من فتوى العلاّمة: أنّ ذِكر أسماء الأئمّة في الصلاة، وبوصفهم أئمّة للدين - الذي هو نمط من الشهادة بولايتهم - هو من أذكار الصلاة الخاصّة، ومن ثُمّ لا يكون من الكلام المبطل للصلاة، وسيأتي تحرير وتنقيح كلامه بشكل مبسوط في الوجه الثاني، وملخّص بيان كون التوصيف بالإمامة لهم هو شهادة بإمامتهم؛ وذلك لكون الواصف في كلامه في مقام الإخبار يلتزم ويقرّ ويعترف بثبوت الوصف للموصوف، كما هو الحال في باب الأقارير: يؤخذ المتكلم في مقام الإخبار بمدلول كلامه التضمنّي والالتزامي، فالتركيب النعتي في هيئة الجملة الخبريّة موازية في المعنى للفظ الإقرار والالتزام.

____________________

(١) أبواب الركوع: باب ٢٠، ح١.

(٢) أبواب الأذان والإقامة: باب ٤٢، ح١.

(٣) أبواب صلاة الجمعة: باب ٢٥، ح١.

(٤) المصدر السابق: ح٢.

(٥) أبواب الذكر من أبواب الصلاة: باب ٣، ح٣.

٥٤

ومنها: فتوى المحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان

حيث قال بعد حكاية كلام الصدوق في الفقيه: والذي أستعملهُ وأفتي به ومضى عليه مشايخي (رحمة الله عليهم): هو أنّ القنوت في جميع الصلوات في الجمعة وغيرها، في الركعة الثانية بعد القراءة وقبل الركوع، ثُمّ قال المقدّس الأردبيلي وقال في صحيحة الحَلَبي، قال في قنوت الجمعة: (اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى أئمّة المؤمنين (المسلمين)، اللهمّ اجعلني ممّن خلقته لدينك وممّن خلقته لجنّتك. قلتُ: أسمّي الأئمّة؟ قال: سمِّهم جملةً) (١).

قال في المنتهى: إنّه صحيح كما قلنا، مع وجود أبان كأنّه ابن عثمان ولا يضر؛ لمَا عرفتَ مراراً وهو مؤيّد لمَا قلناه (٢) .

والرواية التي تعرّض لها الأردبيلي: هي صحيحة أخرى للحَلَبي غير متن الصحيحة التي تعرّض لها العلاّمة في المنتهى في الموضع الذي أشرنا إليه، بل وعلى أيّ تقدير فهذه الصحيحة في قنوت صلاة الجمعة لا في خُطبتي صلاة الجمعة، فيظهر منه العمل بمضمونها، ولا يخفى أنّ توصيفهم بالإمامة هي نمط من الشهادة لهم بذلك وبالولاية، كما مرّ وسيأتي بسط بيان ذلك.

ومنها: فتوى المحقّق النراقي في المستند

قال المحقّق النراقي في المستند، المسألة الثالثة في بحث التشهّد في الصلاة: وتجب فيه الصلاة على النبي وآله في كلّ من التشهّدين،... ثُمّ استدلّ بجملة من الروايات وقال:

____________________

(١) أبواب القنوت: باب ١٤، ح٢.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان: ج٢، ص٣٩٣ - ٣٩٤ طبعة قم.

٥٥

يستفاد من الروايتين الأولى والأخيرة وجوب إضافة الآل أيضاً، كما عليه الإجماعات المحكيّة وتدلّ عليه صحيحة القدّاح،... وصحيحة الحلبي: أسمّي الأئمّة في الصلاة قال: (أجمِلهم).... الأمر دلّ على الوجوب ولا وجوب في غير موضع النزاع بالإجماع (١).

وظاهره: الإفتاء بصحيح الحلبي، إلاّ أنّه فسّر عنوان الصلاة الوارد في الصحيحة بغير تفسير العلاّمة في المنتهى، حيث فسّرها في المنتهى بمجموع الأركان والأجزاء، فجعلَ ذِكر أسماء الأئمّة (عليهم السلام) من أذكار مجموع الصلاة ومن الكلام غير المبطل لها، وبغير تفسير الصدوق في الفقيه، حيث فسّر الصدوق عنوان الصلاة بالصلاة على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمّة (عليهم السلام) في قنوت الصلاة، ونظير الصدوق المقدّس الأردبيلي: حيث فسّر عنوان الصلاة في صحيح الحلبي الآخر بالصلاة على أئمّة المؤمنين في قنوت صلاة الجمعة، بينما ظاهر فتوى النراقي وعمله بصحيحة الحلبي تفسير عنوان الصلاة بالصلاة في التشهّد، وهذه احتمالات أربع في معنى الصحيحة إلاّ أنّها تشترك في ذِكر أسمائهم (عليهم السلام) في الصلاة ولو بالإجمال، ووصفهم بالإمامة وهو نحو شهادة لهم بالإمامة وشهادة لهم بالولاية.

* السادسة: الفتوى بالشهادة الثالثة في التشهّد والتسليم للصلاة

منها: فتوى علي بن بابويه في الفقه الرضوي قال: فإذا تشهّدت في الثانية فقل: بسم الله وبالله والحمد لله والأسماء الحسنى كلّها لله، أشهدُ أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنّ محمّداً عبده ورسوله،...

____________________

(١) المستند: ج٥، ص٣٢٩ - ٣٣٢ طبعة آل البيت (عليهم السلام).

٥٦

فإذا صلّيت الركعة الرابعة فقل في تشهّدك: بسم الله وبالله والحمد لله والأسماء الحسنى كلّها لله، أشهدُ أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنّ محمّداً عبده ورسوله،... أشهدُ أنّك نِعم الرب، وأنّ محمّداً نِعم الرسول، وأنّ عليّ بن أبي طالب نِعم الولي، وأنّ الجنّة حق، والنار حق.... (١).

ومنها: فتوى سلاّر أبو يعلي حمزة بن عبد العزيز الديلمي الطبرستاني: (وأمّا التشهّد الثاني الذي يتعقّبه التسليم في الرابعة من.... فهو: (بسم الله وبالله والحمد لله والأسماء الحسنى كلّها لله،... وأشهدُ أنّ ربّي نِعم الرب، وأنّ محمّداً نِعم الرسول، وأنّ عليّاً نِعم الإمام، وأنّ الجنّة حق والنار حق،... اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد...) (٢).

ومنها: فتوى النراقي في المستند.

(قال: المسألة الرابعة: يستحبّ أن يزيد في تشهّده في الركعتين الأوليين ما في رواية عبد الملك،.... والأكمل منه للتشهّدين ما في موثّقة أبي بصير،... أو ما في الفقه الرضوي، ثُمّ أوردَ عين النص الذي نقلناه للفقه الرضوي المتضمِّن للشهادة الثالثة، إلى أن قال: ثُمّ إنّه لا شكّ في جواز الاكتفاء بالتشهّد بما في روايةٍ.

وهل يجوز التبعيض بأن يُذكر بعض ما في رواية واحدة فيه؟ لا ريب في جوازه (التبعيض) من حيث إنّه دعاء، وأمّا من حيث وروده واستحبابه بخصوصه (التبعيض) فمحلّ نظر، نعم، يجوز الاكتفاء بأحد التشهّدين بأن يُذكر ما ورد فيه دون الآخر، ويجوز الاكتفاء بافتتاح التشهّد خاصّة كما في رواية بدء الأذان (٣).

____________________

(١) الفقه الرضوي: ص١٠٨.

(٢) المراسم العلويّة: ص٧٣.

(٣) مستند الشيعة: ج٥، ص٣٣٤ - ٣٣٦.

٥٧

ومنها: ما يظهر من الميرزا النوري في المستدرك، حيث أورد ما في الفقه الرضوي من دون أن يعلِّق عليه بردٍ أو غيره مع أنّ دأبه - كما يظهر في المستدرك (١) - التعليق بالإشكال أو المعارضة بروايات أخرى على ما لا يتمّ عنده من الروايات.

ومنها: فتوى علي بن بابويه، والنراقي، والنوري أيضاً بالشهادة الثالثة في صيغة الصلاة في التشهّد، حيث أوردوا رواية علي بن بابويه وفيها زيادة على ما سبقَ وفيها هذا النص: (اللهمّ صلِّ على محمّد المصطفى، وعليّ المرتضى، وفاطمة الزهراء، والحسن، والحسين، وعلى الأئمّة الراشدين من آل طه وياسين، اللهمّ صلِّ على نورك الأنور، وعلى حبلك الأطول، وعلى عروتك الأوثق، وعلى وجهك الكريم، وعلى جنبك الأوجب، وعلى بابك الأدنى، وعلى مسلك الصراط) (٢).

ووجهُ عدُّ هذه المسألة من الشهادة الثالثة وهو الشهادة بالولاية: هو نَعتهم بالأئمّة التي تقدّم أنّها نحو من الإقرار بالإمامة والولاية لهم وهو مفاد الشهادة الثالثة، ومضافاً إلى ذلك: تخصيصهم بالأسماء الخاصّة لهم في الصلوات في رديف اسم النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) شاهد على خصوصيّة مقامهم بعد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أي أنّهم خير البريّة، وهو أحد صيغ الشهادة الثالثة التي مرّت في الروايات التي نقلها الصدوق في الفقيه، ومن ذلك يُستشفَ من فتاوى المشهور هذا المطلب كما سنتعرّض إليه.

____________________

(١) مستدرك الوسائل: أبواب التشهد، باب ٢، ج٥، ص٦.

(٢) لاحظ المصادر الثلاثة السابقة: (فقه الرضا، مستند النراقي، مستدرك الوسائل).

٥٨

ومنها: فتوى علي بن بابويه، والنراقي، والنوري أيضاً بالشهادة الثالثة في صيغة التسليم في الصلاة، حيث أوردوا رواية علي بن بابويه وفيها النص التالي في التسليم: (السلامُ عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته، السلام عليك وعلى أهل بيتك الطيبين، السلامُ علينا وعلى عباد الله الصالحين، ثُمّ سلِّم) (١).

ومنها: فتوى الصدوق محمد بن علي بن بابويه في التسليم، وفي كتابه المقنع (٢) (أبواب الصلاة)، وكذلك ورد في الفقيه قال: (ثُمّ سلِّم وقل: اللهمّ أنت السلام، ومنك السلام، ولك السلام، وإليك يعود السلام، والسلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته، السلام على الأئمّة الراشدين المهديين،...) (٣) .

وقد أفتى الشيخ الطوسي في النهاية بذلك، حيث قال في صيغة التسليم: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام على جميع أنبياء الله وملائكته ورسله، السلام على الأئمّة الهاديين المهديين، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، ثُمّ يسلِّم على حسب ما قدّمنا) (٤) .

وبعين هذه الألفاظ أفتى ابن برّاج في التسليم في كتابه المهذّب (٥)، وأفتى سلاّر في التسليم بقوله: (ويومئ بوجهه إلى القبلة فيقول: (السلام على الأئمّة الراشدين، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) (٦)، وأفتى المفيد (قدِّس سرّه) في المقنعة بذلك في التسليم حيث قال: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ويومئ بوجهه إلى القبلة ويقول: السلام على الأئمّة الراشدين، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وينحرف بعينه إلى يمينه، وإذا فعلَ ذلك فقد فرغَ من صلاته وخرج منها بهذا التسليم).

____________________

(١) المصدر السابق.

(٢) المقنعة: ص٩٦، طبعة قم/ مؤسّسة الإمام الهادي.

(٣) الفقيه: ج١، ص٣١٩، ح٩٤٤ طبعة قم.

(٤) النهاية: ج١، ص٣١١، طبعة مؤسّسة النشر، قم.

(٥) المهذّب: ج١، ص٩٥، طبعة مؤسّسة النشر الإسلامي.

(٦) المراسم العلويّة: ص٧٣.

٥٩

ومنها: فتوى الحَلَبي في الكافي قال: (السلام عليك أيها النبيّ ورحمه الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السلام على محمدٍ وآله المُصطفين، ثُمّ تُسلِّم التسليم الواجب).

وقال قبل ذلك في فروض الصلاة: الفرض الحادي عشر: السلام عليكم ورحمة الله، يعني محمّداً وآله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والحفظة.

ومنها: فتوى المشهور (١) شهرة عظيمة، بما في موثّقة أبي بصير (٢) وغيرها بالشهادة الثالثة في صيغة الصلاة في التشهّد، حيث ورد فيها: (اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد، وسلِّم على محمّد وعلى آل محمّد، وترحّم على محمّد وعلى آل محمّد، كما صلّيت وباركت وترحّمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد)، إذ التقابل في الصلاة على آل محمّد مع الصلاة على آل إبراهيم - في رديف الصلاة على محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعلى إبراهيم - دال بوضوح على ما في قوله تعالى: ( إِنَّ الله اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٣) ، أي على الاصطفاء والإنتجاب لهم بالولاية والإمامة كما في قوله تعالى: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (٤)،

____________________

(١) مستند النراقي: ج٥، ص٣٣٤.

(٢) الوسائل: أبواب التشهّد، باب ٣، ح٢.

(٣) آل عمران: ٣٣، ٣٤.

(٤) البقرة: ١٢٤.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

والمراد من «الوازرة» من يتحمّل الوزر(١) .

ولمزيد الإيضاح يضيف القرآن قائلا :( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ) (٢) .

«السعي» في الأصل معناه السير السريع الذي لا يصل مرحلة الركض ، إلّا أنّه يستعمل غالبا في الجدّ والمثابرة ، لأنّ الإنسان يؤدّي حركات سريعة في جدّه ومثابرته سواء كان ذلك في الخير أو الشرّ!

والذي يسترعي الانتباه أنّ القرآن لا يقول : وان ليس للإنسان إلّا ما أدّى من عمل بل يقول : إلّا ما سعى. وهذا التعبير إشارة إلى أنّ على الإنسان أن يجدّ ويثابر فذلك هو المطلوب منه وإن لم يصل إلى هدفه ، فالعبرة بالنيّة ، فإذا نوى خيرا أعطاه الله ثوابه ، لأنّ الله يتقبّل النيّات والمقاصد لا الأعمال المؤدّاة فحسب.

أمّا الآية التالية فتقول :( وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ) فالإنسان لا يرى غدا نتائج أعماله التي كانت في مسير الخير أو الشرّ فحسب ، بل سيرى أعماله نفسها يوم الحساب ، كما نجد التصريح بذلك في الآية (٣٠) من سورة آل عمران :( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ) .

كما ورد التصريح بمشاهدة الأعمال الصالحة والطالحة عند القيامة في سورة الزلزلة الآيتين (٧) و٨) :( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) ! أمّا الآية الأخيرة من الآيات محل البحث فتقول :( ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى ) (٣) .

والمراد من «الجزاء الأوفى» هو الجزاء الذي يكون طبقا للعمل. وبالطبع هذا

__________________

(١) أتت لفظ الوازرة لكونه وصفا للنفس المحذوفة في الآية ومثلها تأنيث اخرى.

(٢) كلمة «ما» في «ما سعى» مصدرية.

(٣) نائب الفاعل في يجزاه ضمير يعود على الإنسان والهاء في يجزاه تعود على العمل (مع حذف حرف الجرّ) وتقدير الآية هكذا ثمّ يجزى الإنسان بعمله أو على عمله الجزاء الأوفى يقول الزمخشري في الكشّاف : يمكن أن لا يكون هناك حرف مقدّر لأنّه يقال يجزى العبد سعيه إلّا أنّه ينبغي الالتفات إلى أنّه يقال مثلا جزاه الله على عمله ويندر أن يقال جزاه الله عمله ، والجزاء الأوفى يمكن أن يكون مفعولا ثانيا أو مفعولا مطلقا.

٢٦١

لا ينافي لطف الله وتفضّله بأن يضاعف الجزاء على الأعمال الصالحة عشرة أضعاف أو عشرات الأضعاف ومئاتها وإلى ما شاء الله! وما فسّره بعضهم بأنّ «الجزاء الأوفى» معناه الجزاء الأكثر في شأن الحسنات ، لا يبدو صحيحا ، لأنّ كلام هذه الآية يشمل الذنوب والأعمال الطالحة ، بل الكلام فيها أساسا على الوزر والذنب «فلاحظوا بدقّة»!

* * *

بحوث

١ ـ ثلاثة اصول إسلامية مهمّة

أشير في الآيات ـ آنفة الذكر ـ إلى ثلاثة اصول من الأصول الإسلامية ، وقد أكّدت عليها الكتب السماوية السابقة وهي :

أ ـ كلّ إنسان مسئول عن ذنبه ووزره.

ب ـ ليس للإنسان في آخرته إلّا سعيه.

ج ـ يجزي الله كلّ إنسان على عمله الجزاء الأوفى.

وهكذا فإنّ القرآن يشجب الكثير من الأوهام والخرافات التي يهتمّ بها عامّة الناس أو السائدة بينهم وكأنّها مذهب عقائدي!

والقرآن لا ينفي ـ عن هذا الطريق ـ عقيدة العرب المشركين الذين يعتقدون أنّ بإمكان الإنسان أن يتحمّل وزر الآخر فحسب! بل ينفي الإعتقاد الذي كان سائدا ـ ولا يزال ـ بين المسيحيين ، وهو أنّ الله أرسل ابنه المسيح ليصلب ويذوق العذاب والألم ويحمل على عاتقه ذنوب المذنبين!.

وكذلك يحكم على جماعة من القسسة والرهبان بقبح عملهم لما كانوا يبيعونه من صكوك الغفران ومنح قطع الأراضي في الجنّة لمن يشاءون ، والعفو عن المخطئين!! فكلّ هذه الأمور باطلة.

٢٦٢

ومنطق العقل أيضا يقتضي أنّ كلّا مسئول عن عمله ، ويعود عليه عمله بالنفع أو الضرر.

وهذا المبدأ الإسلامي يؤدّي إلى أن يسعى الإنسان إلى الخير وأن يجتهد بدلا من الالتجاء إلى الخرافات أو أن يتحمّل آثامه غيره! وأن يتجنّب الذنب ويتّقي الله ، وإذا ما اتّفق له أن عثرت قدمه في معصية ، فعليه أن يبادر إلى التوبة ويجبر ذلك بالاستغفار والعمل الصالح!

وتأثير هذه العقيدة التربوية في الناس واضح تماما ولا يقبل الإنكار ، كما أنّ أثر تلك المعتقدات الجاهلية الفاسدة ـ المخرّب لا يخفى على أحد.

وصحيح أنّ هذه الآيات ناظرة إلى السعي والمثابرة والعمل للآخرة ورؤية الثواب في الآخرة! إلّا أنّ الملاك والمعيار الأصلي له يتجلّى في الدنيا أيضا أي أنّ الأفراد المؤمنين لا ينبغي لهم أن يتوقّعوا من الآخرين أن يعملوا لهم ويحلّوا مشاكلهم الاجتماعية ، بل عليهم أنفسهم أن ينهضوا ويجدّوا ويثابروا أبدا.

ويستفاد من هذه الآيات أصل حقوقي في المسائل الجزائية أيضا ، وهو أنّ الجزاء أو العقاب إنّما ينال المذنب الحقيقي ، وليس لأحد أن يجعل إثم غيره في ذمّته!

٢ ـ سوء الاستفادة من مفاد الآية :

كما بيّنا آنفا ، فإنّ هذه الآيات بقرينة الآيات التي قبلها والآيات التي بعدها ناظرة إلى سعي الإنسان لأمور الآخرة ، إلّا أنّه مع هذه الحال ـ لما كان ذلك على أساس حكم عقلي مسلّم به فيمكن تعميم السعي والجدّ حتّى يشمل السعي لأمور الدنيا ويشمل أيضا الجزاء الدنيوي ، إلّا أنّ ذلك لا يعني أن يتأثّر بعضهم بالمذاهب الاشتراكية فيقول : إنّ مفهوم الآية أنّ المالكية إنّما تحصل عن طريق العمل فحسب ، وبذلك يخطّي قانون الإرث والمضاربة والإجارة وأمثالها!

٢٦٣

والعجب أنّه ينادي بالإسلام ويستدلّ بآيات القرآن أيضا مع أنّ مسألة الإرث من الأصول الإسلامية القطعية ، وكذلك الخمس والزكاة! علما بأنّه لم يسع الوارث إلى إرثه ولا مستحقّو الزكاة أو الخمس إليهما ، ولم يقع سعي في مواطن النذر والوصايا ومع كلّ ذلك فإنّ القرآن الكريم ذكر هذه الأمور.

وبتعبير آخر أنّ هذا هو الأصل ، إلّا أنّه غالبا ما يوجد استثناء أمام كلّ أصل ، فمثلا الولد يرث أباه هذا أصل إسلامي ، لكن متى قتل الولد أباه أو خرج عن الإسلام حرم حقّ الإرث.

وكذلك نتيجة سعي كلّ شخص تعود عليه أو إليه ، هذا هو الأصل ، إلّا أنّه لا مانع من أن يعطي مقدار من المال للآخر طبقا لقرار الإجارة بين الطرفين ، وهو أصل قرآني(١) كذلك ، أو أن ينتقل المال عن طريق النذر أو الوصية ، كما صرّح به القرآن الكريم.

٣ ـ الجواب على سؤالين

يرد هنا سؤالان وينبغي أن نجيب عليها :

أوّلا : إذا كان ما يناله الإنسان يوم القيامة هو نتيجة سعيه ، فما معنى الشفاعة إذا؟!

والثّاني : إنّنا نقرأ في الآية (٢١) من سورة الطور في شأن أهل الجنّة :( أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) ! مع أنّ الذريّة لم تسع في هذا المضمار ، ثمّ إنّنا نجد في الرّوايات الإسلامية أنّ الإنسان إذا عمل عملا صالحا فإنّ نتيجة ذلك تنعكس على أبنائه أيضا.

والجواب على هذه الأسئلة جملة واحدة وهي أنّ القرآن يقول أنّ الإنسان

__________________

(١) جاء هذا الأصل في قصّة موسى وشعيب في سورة القصص الآية (٢٧).

٢٦٤

ليس له أن يأخذ أكثر من سعيه وعمله ، إلّا أنّه لا يمنع أن ينال بعض الناس اللائقين نعما أخر عن طريق اللطف والتفضّل الإلهي.

فالاستحقاق شيء ، والتفضّل شيء آخر! كما أنّ الله يضاعف الحسنات عشرات المرّات بل مئات المرّات وآلافها أحيانا.

ثمّ ـ الشفاعة ـ كما ذكرنا في محلّه ـ ليست اعتباطا ـ بل هي بحاجة إلى السعي والجدّ وإيجاد العلاقة بالشافع أيضا ، وكذلك الأمر في شأن ذريّة الأشخاص الصالحين ، فإنّ القرآن يقول أيضا :( وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ ) !.

٤ ـ صحف إبراهيم وموسى

«الصحف» جمع صحيفة ، وتطلق هذه الكلمة على كلّ شيء واسع كما يقال مثلا صحيفة الوجه ، ثمّ استعملوا هذه الكلمة على صفحات الكتاب.

فالمراد من صحف موسى هي التوراة النازلة عليه وأمّا صحف إبراهيم فما نزل عليه من كتاب سماوي أيضا.

ينقل المرحوم الطبرسي في مجمع البيان حديثا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير سورة الأعلى وخلاصته ما يلي.

يسأل أبو ذرّ النّبي : يا رسول الله كم عدد الأنبياء؟

فيجيبه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّهم مائة الف نبي وأربعة وعشرون ألفا.

فيسأله ثانية عن الرسل منهم : كم المرسلون؟

فيجيبه النبي : ثلاثمائة وثلاثة عشر وبقيّتهم أنبياء «والرّسول هو المأمور بالإنذار والإبلاغ في حين أنّ النّبي أعمّ منه مفهوما».

ويسأل أبو ذرّ مرّة اخرى : كان آدم نبيّا؟!

فيجيب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم ، كلّمه الله وخلقه بيده.

فيسأله أبو ذرّ : كم أنزل الله من كتاب؟ فيجيب النبي : مائة وأربعة كتب أنزل الله

٢٦٥

منها على آدم عشر صحف ، وعلى شيث خمسين صحيفة وعلى أخنوخ وهو «إدريس» ثلاثين صحيفة ، وهو أوّل من خطّ بالقلم ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان»(١) .

٥ ـ المسؤولية عن الأعمال في كتب السابقين

الذي يلفت النظر أنّ التّوراة الحالية أوردت المضمون الذي ذكرته الآيات محلّ البحث في كتاب حزقيل إذ جاء فيه :

«الجاني الذي يذنب سيموت ، والابن لا يحمل عبء أبيه والأب لا يحمل ذنب ابنه»(٢) .

وجاء هذا المعنى ذاته أيضا في مورد القتل في سفر التثنية من التوراة.

«لا يقتل الآباء عوضا عن الأبناء ولا يقتل الأبناء عوضا عن الآباء ، فكلّ يقتل بذنبه»(٣) .

وبالطبع فإنّ كتب الأنبياء الأصلية ليست في متناول اليد ، وإلّا لكان من الممكن أن نعثر على موارد أكثر في شأن هذا الأصل وأمثاله.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٧٦ وذكر هذا الحديث في روح البيان أيضا ، ج ٩ ، ص ٢٤٦.

(٢) كتاب حزقيل ، الفصل ١٨ ص ٢٠.

(٣) التوراة ، سفر التثنية ، باب ٢٤ الرقم ١٦.

٢٦٦

الآيات

( وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) )

التّفسير

كلّ شيء ينتهى إليه :

في هذه الآيات تتجلّى بعض صفات الله التي ترشد الإنسان إلى مسألة التوحيد وكذلك المعاد أيضا.

ففي هذه الآيات وإكمالا للبحوث الواردة في شأن جزاء الأعمال يقول القرآن :( وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى ) .

وليس الحساب والثواب والجزاء في الآخرة بيد قدرته فحسب ، فإنّ الأسباب والعلل جميعها تنتهي سلسلتها إلى ذاته المقدّسة ، وجميع تدبيرات هذا العالم تنشأ من تدبيراته ، وأخيرا فإنّ ابتداء هذا العالم والموجودات وانتهاؤها كلّها

٢٦٧

منه وإليه ، وتعود إلى ذاته المقدّسة.

ونقرأ في بعض الرّوايات في تفسير هذه الآية عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا»(١) .

أي لا تتكلّموا في ذات الله فإنّ العقول تحار فيه ولا تصل إلى حدّ فإنّه لا يمكن للعقول المحدودة أن تفكّر في ما هو غير محدود لأنّه مهما فكّرت العقول فتفكيرها محدود وحاشا لله أن يكون محدودا.

وبالطبع فإنّ هذا التّفسير يبيّن مفهوما آخر لهذه الآية ولا ينافي ما ذكرناه آنفا ويمكن الجمع بين المفهومين في الآية.

ثمّ يضيف القرآن في الآية التالية مبيّنا حاكمية الله في أمر ربوبيته وانتهاء امور هذا العالم إليه فيقول :( وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ) (٢) ( مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى ) !

وهذه الآيات الأربع وما قبلها في الحقيقة هي بيان جامع وتوضيح طريف لمسألة انتهاء الأمور إليه وتدبيره وربوبيته ، لأنّها تقول : إنّ موتكم وحياتكم بيده واستمرار النسل عن طريق الزوجين بيده ، وكلّ ما يحدث في الحياة فبأمره ، فهو يضحك ، وهو يبكي ، وهو يميت ، وهو يحيي ، وهكذا فإنّ أساس الحياة والمعوّل عليه من البداية حتّى النهاية هو ذاته المقدّسة.

وقد جاء في بعض الأحاديث ما يوسع مفهوم الضحك والبكاء في هذه الآية ففسّرت بأنّه سبحانه : أبكى السماء بالمطر وأضحك الأرض بالنبات(٣) .

وقد أورد بعض الشعراء هذا المضمون في شعره فقال :

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم طبقا لما جاء في نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٧٠.

(٢) هذه الأفعال وإن جاءت بصيغة الماضي إلّا أنّها تعطي معنى الفعل المضارع أيضا والدلالة على الدوام (فلاحظوا بدقّة).

(٣) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٧٢.

٢٦٨

انّ فصل الربيع فصل جميل

تضحك الأرض من بكاء السماء

وما يسترعي النظر أنّ القرآن أشار إلى صفتي الضحك والبكاء دون سائر أفعال الإنسان ، لأنّ هاتين الصفتين خاصّتان بالإنسان وغير موجودتين في الحيوانات الاخر أو نادرتان جدّا.

أمّا تصوير انفعالات الإنسان عند الضحك أو البكاء وعلاقتهما بالتغيّرات في نفس الإنسان وروحه فانّها غريبة وعجيبة جدّا ، وكلّ هذه الأمور في مجموعها يمكن أن تكون آية واضحة من آيات المدبّر الحقّ ، بالإضافة إلى التناسب الموجود بين الضحك والبكاء والحياة والفناء!

وعلى كلّ حال ، فانتهاء جميع الأمور إلى تدبير الله وربوبيته لا ينافي أصل الإختيار وحرية إرادة الإنسان ، لأنّ الإختيار وحرية الإرادة في الإنسان أيضا من قبل الله وتدبيره وتنتهي إليه!.

وبعد ذكر الأمور المتعلّقة بالربوبية والتدبير من قبل الله يتحدّث القرآن عن موضوع المعاد فيقول :( وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى ) .

«النشأة» : معناها الإيجاد والتربية ، و «النشأة الاخرى» ليست شيئا سوى القيامة!

والتعبير بـ «عليه» من جهة أنّ الله لمّا خلق الناس وحمّلهم الوظائف والمسؤوليات وأعطاهم الحرية وكان بينهم المطيعون وغير المطيعون والظلمة والمظلومون ولم يبلغ أي من هؤلاء جزاءه النهائي في هذا العالم ، اقتضت حكمته أن تكون نشأة اخرى للتحقّق العدالة.

أضف إلى ذلك فإنّ الحكيم لا يخلق هذا العالم الواسع لأيّام أو سنوات محدودة بما فيها من مسائل غير منسجمة ، فلا بدّ أن يكون مقدّمة لحياة أوسع تكمن فيها قيمة هذا الخلق الواسع ، وبتعبير آخر إذا لم تكن هناك نشأة اخرى فإيجاد هذا العالم لا يبلغ هدفه النهائي!

٢٦٩

وممّا ينبغي الالتفات إليه أنّ الله سبحانه جعل هذا الوعد لعباده وعدا محتوما على نفسه ، وصدق كلام الله يوجب أن لا يخلف وعده.

ثمّ يضيف القرآن في الآية التالية قائلا :( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى ) فالله سبحانه لم يرفع حاجات الإنسان المادية عنه بلطفه العميم فحسب ، بل أولاده غنى يرفع عنه حاجاته المعنوية من امور التربية والتعليم والتكامل عن طريق إرسال الرسل إليه وإنزال الكتب السماوية وإعطائه المواهب العديدة.

«وأغنى» : فعل مشتق من غني ومعناه عدم الحاجة.

«وأقنى» : فعل مشتقّ من قنية على وزن جزية ، ومعناها الأموال التي يدّخرها الإنسان(١) .

فيكون معنى الآية على هذا النحو : هو أغنى أي رفع الحاجات الفعلية ، وأقنى معناه إيلاء المواهب التي تدخّر سواء في الأمور المادية كالحائط أو البستان والأملاك وما شاكلها ، أو الأمور المعنوية كرضا الله سبحانه الذي يعدّ أكبر «رأس مال» دائم!

وهناك تفسير آخر لأقنى ، وهو أنّه ما يقابل أغنى ، أي أنّ الغنى والفقر بيد قدرته ، نظير ذلك ما جاء في الآية (٢٦) من سورة الرعد :( اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ) .

إلّا أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع ما ورد عن «أقنى» من معنى في كتب اللغة والآية المذكورة في هذا الصدد لا يمكن أن تكون «شاهدا» على هذا التّفسير.

أمّا آخر آية من الآيات محلّ البحث فتقول :( وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى ) .

والتعويل في القرآن على «الشعرى» النجم المعروف في السماء بالإضافة إلى أنّه أكثر النجوم لمعانا ويطّلع عند السحر في مقربة من الجوزاء ممّا يلفت النظر

__________________

(١) راجع المفردات للراغب ، مادّة قني.

٢٧٠

تماما هذا التعويل والتصريح به لأنّ طائفة من المشركين العرب كانت تعبده ، فالقرآن يشير إلى أنّ الأولى بالعبادة هو الله لأنّه ربّ الشعرى «وربّكم».

وينبغي الالتفات ـ ضمنا ـ أنّ هناك نجمين معروفين باسم الشعرى أحدهما إلى الجنوب ويدعى بنجم الشعرى اليماني «لأنّ اليمن جنوب الجزيرة العربية» والآخر نجم الشعرى الشامي الواقع في الجهة الشمالية «والشام شمال الجزيرة أيضا» إلّا أنّ المعروف والمشهور هو الشعرى اليماني.

وهناك لطائف ومسائل خاصّة في هذا النجم «الشعرى» سنتحدّث عنه بعد قليل.

* * *

بحوث

١ ـ كلّ الدلائل تشير إليه

إنّ ما تثيره هذه الآيات في الحقيقة إشارة إلى هذا المعنى ، وهو أنّ أي نوع من أنواع التدبير في هذا العالم إنّما يعود إلى ذات الله المقدّسة ، بدءا من مسألة الموت والحياة ، إلى خلق الإنسان من نطفة لا قيمة لها ، وكذلك الحوادث المختلفة التي تقع في حياة الإنسان فتضحكه تارة وتبكيه اخرى ، كلّ ذلك من تدبير الله سبحانه.

والنجوم والكواكب المشرقة في السماء تطلع وتغيب بأمره وتحت ربوبيته.

وفي الأرض الغنى وعدم الحاجة وما يقتنيه الإنسان كلّ ذلك يعود إلى ذاته المقدّسة.

وبالطبع فإنّ النشأة الاخرى بأمره أيضا ، لأنّها حياة جديدة وامتداد لهذه الحياة واستمرارها.

هذا البيان ـ يبرز خطّ التوحيد من جهة ومن ـ جهة اخرى ـ خطّ المعاد ، لأنّ خالق الإنسان من نطفة لا قيمة لها في الرحم قادر على تجديد حياته أيضا.

٢٧١

وبتعبير آخر ، إنّ جميع هذه الأمور كاشفة عن توحيد أفعال الله وتوحيد ربوبيته أجل كلّ هذي الأصداء من إيحائه!

٢ ـ عجائب نجم الشعرى :

«نجم الشعرى» كما أشرنا إليه آنفا من أشدّ النجوم في السماء لمعانا وإشراقا وهو معروف بنجم الشعرى اليماني ، لأنّه يقع في جهة جنوب الجزيرة العربية ، وحيث أنّ اليمن في جنوب الجزيرة أيضا فقد أطلق عليه «باليماني»!

وكانت طائفة من العرب كقبيلة «خزاعة» تقدّس هذا النجم وتعبده وتعتقد أنّه مبدأ الموجودات على الأرض فتأكيد القرآن على أنّ الله ربّ الشعرى هو لإيقاظ هذه القبيلة وأمثالها من غفوتها ، لئلّا يشتبه المخلوق بالخالق ويجعل المربوب مكان الربّ كما كانت القبيلة آنفة الذكر عليه.

هذا النجم العجيب الخلقة لإشراقه الكثير عدّ ملك النجوم وله أسرار وعجائب نشير إليها في هذا البحث مع ملاحظة أنّ هذه الحقائق كانت في ذلك العصر مجهولة عند العرب وغيرهم عن الشعرى فإنّ تأكيد القرآن على هذا الموضوع ذو معنى غزير!

أ ـ طبقا للتحقيقات التي أجريت في المراصد المعروفة في العالم عن «الشعرى» ظهر أنّ حرارة هذا النجم تبلغ ١٢٠ ألف درجة سانتيغراد!.

مع العلم أنّ حرارة سطح الشمس لا تتجاوز ٦٥٠٠ درجة سانتيغراد وهذا التفاوت بين الحرارتين يبيّن مدى حرارة الشعرى بالنسبة إلى الشمس.

ب ـ الجرم المخصوص لهذا النجم أثقل وزنا من الماء بمقدار خمسين ألف مرّة تقريبا ، أي أنّ وزن الليتر من الماء على الشعرى يعادل خمسين طنّا على سطح الأرض! مع أنّ من بين مجموع المنظومة الشمسية يعدّ كوكب عطارد أكثر الأجرام في وزنه النوعي ولا يتجاوز وزنه النوعي ستّة أضعاف الوزن النوعي للماء!

٢٧٢

فينبغي أن نعرف بهذا الوصف كم هذا النجم مثير للدهشة والعجب ، ومن أي عنصر يتألّف حتّى صار مضغوطا بهذا المستوى؟!

ج ـ يظهر نجم الشعرى ـ في قرننا ـ عند فصل الشتاء إلّا أنّ هذا النجم أو الكوكب كان يظهر في عصر منجمّي مصر في الصيف! وهو كوكب كبير يعادل عشرين ضعفا من كوكب الشمس ، ومسافته تبعد عن الأرض أكثر من مسافة الشمس بمقدار كبير وقد ذكروا أنّ مسافة بين الشعرى والأرض تعادل مليون مرّة المسافة بيننا وبين الشمس.

ونعرف أنّ سرعة النور في الثانية ٣٠٠ ألف ألف متر (ثلاثمائة ألف كيلومتر) وأنّ نور الشمس يصل إلينا خلال ثماني دقائق وثلاث عشرة ثانية مع أنّها تبعد عنّا مسافة خمسة عشر مليون كيلو «مترا» في حين أنّ شعاع الشعرى لا يصلنا إلّا بعد عشر سنين ، والآن قدّروا كم هي الفاصلة بين الشعرى والأرض!

د ـ لكوكب الشعرى نجم تابع له يدور حوله وهو من نجوم السماء الغامضة.

وأوّل من اكتشفه عالم يدعى بسل Besell عام ١٨٤٤ م إلّا أنّه رؤي عام ١٨٦٢ بالمجهر «التلسكوب» ويكمل هذا النجم دورته حول الشعرى في ٥٠ عاما(١) .

كلّ هذا يدلّ أنّ تعابير القرآن إلى أيّ مدى عميقة وذات معنى غزير ، وفي طيّات تعابيره حقائق كامنة إذا لم يقدّر لها أن تعرف في عصر نزولها فإنّها تتجلّى بمرور الزمان.

٣ ـ حديث عميق المحتوى عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

جاء في بعض الأحاديث أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ بقوم يضحكون فقال : لو تعلمون

__________________

(١) دائرة المعارف الإسلامية مادّة ، شعرى.

٢٧٣

ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا فنزل عليه جبرئيل فقال : إنّ الله هو أضحك وأبكى فرجع النّبي إليهم وقال ما خطوت أربعين خطوة حتّى أتاني جبرئيل فقال : ائت هؤلاء ، فقل لهم : إنّ الله أضحك وأبكى(١) .

وفي ذلك إشارة إلى أنّ المؤمن لا يلزمه أن يبكي دائما ، فالبكاء من خوف الله في محلّه مطلوب ، والضحك في محلّه مطلوب أيضا ، لأنّهما من الله!

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذه التعابير لا تنافي أصل الإختيار وحرية الإرادة في الإنسان ، لأنّ الهدف هو بيان علّة العلل وخالق هذه الغرائز والإحساسات!

وعند ما نقرأ في الآية ٨٢ من سورة التوبة قوله تعالى :( فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) فهذا الأمر وارد في المنافقين ، لأنّ الآيات التي قبل هذه الآية وبعدها تشهد بذلك!

الذي يلفت النظر أنّ القرآن يقسم في بداية السورة بالنجم فيقول :( وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ) وفي الآية محلّ البحث يقول في بيان صفات الله :( وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى ) فإذا جمعنا الآيتين جنبا إلى جنب فهمنا لم لا يصحّ عبادة الشعرى ، لأنّ كوكب الشعرى يأفل أيضا ، وهو أسير في قبضة قوانين الخلق!

* * *

__________________

(١) تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٣٠.

٢٧٤

الآيات

( وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) )

التّفسير

ألا تكفي دروس العبرة هذه؟!

هذه الآيات ـ كالآيات المتقدّمة ـ تستكمل المسائل المذكورة في الصحف الاولى وما جاء في صحف إبراهيم وموسى.

وكانت الآيات المتقدّمة قد ذكرت عشر مسائل ضمن فصلين :

الأوّل : كان ناظرا إلى مسئولية كلّ إنسان عن أعماله.

الثاني : ناظر إلى انتهاء جميع الخطوط والحوادث إلى الله سبحانه! أمّا الآيات محلّ البحث فتتحدّث عن مسألة واحدة ـ وإن شئت قلت ـ تتحدّث عن موضوع واحد ذلك هو مجازاة أربع امم من الأمم المنحرفة الظالمة وإهلاكهم ، وفي ذلك إنذار لأولئك الذين يلوون رؤوسهم عن طاعة الله ولا يؤمنون بالمبدأ والمعاد(١) .

__________________

(١) ينبغي الالتفات بأنّ هذه المسائل أو المواضيع المشار إليها في القرآن في أحد عشر فصلا ، كلّها بدأت بأنّ : فأوّلها جاء

٢٧٥

فتبدأ الآية الاولى من الآيات محلّ البحث فتقول :( وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى ) وصف عاد بـ «الاولى» إمّا لقدمها حتّى أنّ العرب تطلق على كلّ قديم أنّه «عاديّ» أو لوجود امّتين في التاريخ باسم «عاد» والامّة المعروفة التي كانت نبيّها هودعليه‌السلام تدعى بـ «عاد الاولى»(١) .

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلا :( وَثَمُودَ فَما أَبْقى ) .

ويقول في شأن قوم نوح :( وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى ) .

لأنّ نبيّهم نوحا عاش معهم زمانا طويلا ، وبذل قصارى جهده في إبلاغهم ونصحهم ، فلم يستجب لدعوته إلّا قليل منهم ، وأصرّوا على شركهم وكفرهم وعتوّهم واستكبار هم وإيذائهم نبيّهم نوحا وتكذيبهم إيّاه وعبادة الأوثان بشكل فظيع كما سنعرض تفصيل ذلك في تفسير سورة نوح إن شاء الله.

وأمّا رابعة الأمم فهي «قوم لوط» المشار إليهم بقوله تعالى :( وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى ) .

والظاهر أنّ زلزلة شديدة أصابت حيّهم وقريتهم فقذفت عماراتهم نحو السماء بعد اقتلاعها من الأرض وقلبتها على الأرض ، وطبقا لبعض الرّوايات كان جبرئيل قد اقتلعها بإذن الله وجعل عاليها سافلها ودمّرها تدميرا( فَغَشَّاها ما غَشَّى ) (٢) .

أجل لقد أمطروا بحجارة من السماء ، فغشّت حيّهم وعماراتهم المنقلبة ودفنتها عن آخرها.

وبالرغم من أنّ التعبير في هذه الآية والآية السابقة لم يصرّح بقوم لوط ، إلّا

__________________

في الآية ٣٨ ألا تزر وازرة وزر اخرى وآخرها وأنّه أهلك عادا الاولى.

(١) مجمع البيان وروح المعاني ، وتفسير الرازي.

(٢) «ما» في ما غشّى يمكن أن تكون مفعولا به أو فاعلا نظير والسماء وما بناها إلّا أنّ الاحتمال الأوّل أكثر انسجاما مع ظاهر الآية وعلى كلّ حال فإنّ هذا التعبير يأتي للتهويل!

٢٧٦

أنّ المفسّرين فهموا منه كما فهموا من الآية ٧٠ من سورة التوبة والآية ٩ من سورة الحاقة هذا المعنى من عبارة المؤتفكات ، وقد احتمل بعضهم أنّه هذا التعبير يشمل كلّ المدن المقلوبة والنازل عليها العذاب من السماء ، إلّا أنّ آيات القرآن الاخر تؤيّد ما ذهب إليه المشهور بين المفسّرين!.

وقد جاء في الآية (٨٢) من سورة هود :( فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ) !

وجاء في تفسير علي بن إبراهيم أنّ المؤتفكة «المدينة المقلوبة» هي «البصرة»! لأنّه ورد في رواية أنّ أمير المؤمنين عليا خاطب أهلها بالقول : يا أهل البصرة ويا أهل المؤتفكة ويا جند المرأة وأتباع البهيمة!

غير أنّه من المعلوم أنّ هذا التعبير في كلام الإمام عليعليه‌السلام هو من باب التطبيق والمصداق ، لا التّفسير ، لاحتمال أن يكون أهل البصرة يومئذ فيهم شبه بأهل المؤتفكة من الناحية الأخلاقية وما ابتلي به قوم لوط من عذاب الله!

وفي ختام هذا البحث يشير القرآن إلى مجموع النعم الوارد ذكرها في الآيات المتقدّمة ويلمح إليها بصورة استفهام إنكاري قائلا :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى ) ؟

فهل تشّك وتتردّد بنعم الله ، كنعمة الحياة أو أصل نعمة الخلق والإيجاد ، أو نعمة أنّ الله هذه لا يأخذ أحدا بوزر أحد ، وما جاء في الصحف الاولى وأكّده القرآن؟!

وهل من شاكّ بهذه النعمة ، وهي أنّ الله أبعدكم عن البلاء الذي عمّ الأمم السابقة بكفرهم وشملكم بعفوه ورحمته؟!

أو هل هناك شكّ في نعمة نزول القرآن وموضوع الرسالة والهداية؟

صحيح أنّ المخاطب بالآية هو شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ مفهومها شامل لجميع المسلمين ، بل الهدف الأصلي من هذه الآية إفهام الآخرين.

٢٧٧

«تتمارى»(١) مشتقّ من تماري ومعناه المحاجة والمجادلة المقرونة بالشكّ والتردّد!

«آلاء» جمع : ألأ ، أو إلي ـ على وزن فعل ـ والألئ معناها النعمة وبالرغم من أنّ بعض ما جاء في الآيات المتقدّمة ومن ضمنها إهلاك الأمم السابقة وتعذيبهم ليس مصداقا للنعمة إلّا أنّه من جهة كونه درسا للعبرة «للآخرين» ولأنّ الله لم يعذّب المسلمين وحتّى الكفّار المعاصرين لهم بذلك العذاب يمكن اعتبار ذلك نعمة عظيمة.

* * *

__________________

(١) بالرغم من أنّ باب التفاعل في اللغة العربية يدلّ على اشتراك طرفين في الفعل ، إلّا أن تتمارى هنا مخاطب به شخص واحد ، وهو أمّا لتعدّد الحالات أو للتأكيد «فلاحظوا بدقّة».

٢٧٨

الآيات

( هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢) )

التّفسير

اسجدوا له جميعا

تعقيبا على الآيات المتقدّمة التي كانت تتحدث عن إهلاك الأمم السالفة لظلمهم ، تتوجّه هذه الآيات ـ محلّ البحث ـ إلى المشركين ، والكفّار ومنكري دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتخاطبهم بالقول :( هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى ) أي النّبي أو القرآن نذير كمن سبقه من المنذرين.

وقوله عن «القرآن أو النّبي «هذا نذير من النذر الاولى» يعني أنّ رسالة محمّد وكتابه السماوي لم يكن (أي منهما) موضوعا لم يسبق إليه ، فقد أنذر الله أمما بمثله في ما مضى من القرون ، فعلام يكون ذلك مثار تعجّبكم؟

وقال بعض المفسّرين إنّ المراد من( هذا نَذِيرٌ ) هو الإشارة إلى الإخبار

٢٧٩

الوارد في الآيات المتقدّمة عن نهاية الأمم السالفة ، لأنّ هذا الإخبار بنفسه نذير أيضا ، إلّا أنّ التّفسيرين السابقين أنسب كما يبدو.

ومن أجل أن يلتفت المشركون والكفّار إلى الخطر المحدق بهم ويهتّموا به أكثر يضيف القرآن قائلا :( أَزِفَتِ الْآزِفَةُ ) .

أجل ، فقد اقترب وعد القيامة فأعدّوا أنفسكم للحساب ، والتعبير بـ «الآزفة» عن القيامة هو لاقترابها وضيق وقتها ، لأنّ الكلمة هذه مأخوذة من الأزف على وزن نجف. ومعناه ضيق الوقت ، وبالطبع فإنّ مفهومه يحمل الاقتراب أيضا

وتسمية القيامة بالآزفة في القرآن بالإضافة إلى هذه الآية محلّ البحث ، واردة في الآية ١٨ من سورة غافر أيضا وهو تعبير بليغ وموقظ ، وهذا المعنى جاء بتعبير آخر في سورة القمر (الآية الاولى)( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ) ، وعلى كلّ حال فإنّ اقتراب القيامة مع الأخذ بنظر الإعتبار عمر الدنيا المحدود والقصير يمكن إدراكه بوضوح ، خاصّة ما ورد أنّ من يموت تقوم قيامته الصغرى.

ثمّ يضيف القرآن قائلا : أنّ المهمّ هو أنّه لا أحد غير الله بإمكانه إغاثة الناس في ذلك اليوم والكشف عمّا بهم من شدائد :( لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ ) (١) .

«الكاشفة» هنا معناه مزيحة الشدائد. إلّا أنّ بعضهم فسّرها بأنّها العامل لتأخير القيامة ، وبعضهم فسّرها بأنّها الكاشفة عن تاريخ وقوع يوم القيامة ، إلّا أنّ المعنى الأوّل أنسب ظاهرا.

وعلى كلّ حال ، فالحاكم والمالك وصاحب القدرة في ذلك الحين وكلّ حين هو الله سبحانه ، فإذا أردت النجاة فالتجئوا إليه وإلى لطفه وإذا طلبتم الدّعة والأمان فاستظلّوا بالإيمان به.

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلا :( أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ) .

__________________

(١) الضمير في لها يعود على الآزفة وتأنيث الكاشفة ، لأنّها صفة للنفس المحذوفة ، وقال آخرون هي تاء المبالغة كالتاء في العلامة.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420