الشهادة الثالثة

الشهادة الثالثة14%

الشهادة الثالثة مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 420

الشهادة الثالثة
  • البداية
  • السابق
  • 420 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 108460 / تحميل: 6625
الحجم الحجم الحجم
الشهادة الثالثة

الشهادة الثالثة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

صيَغ الشهادة الثالِثة

يتّضح ممّا تقدّم: أنّ للشهادة الثالثة في الأذان والإقامة أو الصلاة هي بأشكال متعدّدة وصيغ مختلفة:

الأولى، والثانية، والثالثة: ما ذكرها الصدوق في الفقيه (١) من متون الروايات: (محمّد وآل محمّد خير البريّة) مرّتين، ولم يحدِّد لها الصدوق في الرواية الواردة موضعاً خاصّاً في الأذان ولعلّها بعد (حيّ على خير العمل)، كما في كلمات السيّد المرتضى وابن برّاج وغيرهما: (وأشهد أنّ عليّاً وليّ الله) مرّتين، وقد ذكر الصدوق موضعها بعد الشهادة الثانية، وصيغتها مكرّرةً كبقيّة فصول الأذان، و (أشهدُ أنّ عليّاً أمير المؤمنين حقّاً) مرّتين، وظاهر الصدوق أنّ الوارد في الروايات الأخرى هذه الصيغة بعد الشهادة الثانية.

الرابعة: الصيغة التي رواها السيّد المرتضى في كتابه (مسائل المبافارقيات)، بعد حيّ على خير العمل وهي: (أشهد أنّ محمّد وعليّاً خير البشر) (٢).

الخامسة: الصيغة التي بنى عليها العلاّمة الحلّي في المنتهى (٣)، ممّا رواه من صحيحة الحَلَبي وهو: تسمية الأئمّة بالإجمال في الصلاة كذكرٍ من أذكارها.

____________________

(١) الفقيه: ج١، كتاب الصلاة، أبواب الأذان والإقامة، ص٢٩٠ طبعة قم.

(٢) المبارقيات: ص٢٥٧.

(٣) المنتهى: ج٥، ص٢٩٢ طبعة الأستانة الرضويّة.

٤١

السادسة: الصيغة التي ذكرها علي بن بابويه في التشهّد في كتابه الفقه الرضوي حيث قال: (فإذا تشهّدت في الثانية فقل: بسم الله وبالله والحمد لله والأسماء الحسنى كلّها لله، أشهدُ أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنّ محمّداً عبده ورسوله،... فإذا صلّيت الرابعة فقل في تشهّدك: بسم الله وبالله،... أشهدُ أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنّ محمّداً عبده ورسوله،.. وأشهدُ أنّك نِعمَ الربُّ، وأنّ محمّداً نِعمَ الرسول، وأنّ عليّ بن أبي طالب نِعم الولي، وأنّ الجنّة حق....) (١).

السابعة: الصيغة التي ذكرها كلّ من: علي بن بابويه، والنراقي، والميرزا النوري:

(اللهمّ صلِّ على محمّد المصطفى، وعلي المرتضى، وفاطمة الزهراء، والحسن، والحسين، وعلى الأئمّة الراشدين...) (٢) .

الثامنة والتاسعة: وهما الصيغتان المذكورتان في دعاء التوجّه في فتاوى القدماء؛ تَبعاً لمَا ورد في النصوص وهما: (ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب)، و (منهاج علي بن أبي طالب) و(هدي علي).

العاشرة: ما ورد في قضيّة كُدير الضبّي بقوله في صلاته: (اللهمّ صلِّ على النبيّ والوصيّ).

____________________

(١) الفقه الرضوي: ص١٠٨.

(٢) (فقه الرضا، المستند، مستدرك الوسائل).

٤٢

سيرةُ العلماء المتقادمة وفتاواهم بجواز الشهادة الثالثة

* الأولى: فتوى السيّد المرتضى بالجواز

في رسالة له (المسائل المبافارقيّات) المسألة الخامسة عشر: هل يجب في الأذان بعد قول: (حيّ على خير العمل) محمّد وعلي خير البشر؟

الجواب: إن قال: محمّد وعلي خير البشر على أنّ ذلك من قوله خارج من لفظ الأذان جاز، فإنّ الشهادة بذلك صحيحة، وإن لم يكن فلا شيء عليه) (١) .

أقول: ولا يخفى أنّ الشق الثاني من جوابه من قوله: (وإن لم يكن فلا شيء عليه) المراد منه: أي إن لم يقل ذلك على أنّه من خارج لفظ الأذان، أي جعله من داخل لفظ الأذان وفصوله فلا شيء عليه، فحكمهُ (قدِّس سرّه) فتوى صريحة بمضمون الروايات التي أوردها الصدوق (الفقيه) المتضمنّة بكون صيغ الشهادة الثالثة من فصول الأذان.

ثُمّ إنّ سؤال السائل من مدينة مبّافارقي (٢) - وهي مدينة كبيرة عند إيل من بلاد الجزيرة وفي معالِم العلماء مبافارقي - وقعَ عن وجوب ذلك في الأذان، وسواء كان السائل من العوام أو من أهل الفضل؛ فإنّ سؤاله يبني عن وقوع التأذين بالشهادة الثالثة في الأذان عند الشيعة والمفروغيّة من مشروعيّتها لديهم، وإنّما ترديدهم في لزومها على نحو الوجوب أو الندب، وهذا يؤكّد ما تفيده عبارة الصدوق في الفقيه المتقدّمة من وجود ظاهرة عمل وسلوك الشيعة وسيرتهم بذكر الشهادة الثالثة في الأذان في زمن الصدوق، وزمن السيّد المرتضى،

____________________

(١) رسالة المسائل: مطبوعة بضميمة جواهر الفقه لابن برّاج، طبعة جماعة المدرّسين، وفي رسائل السيّد المرتضى: طبعة السيّد المرعشي، ج١، ص٢٧٩.

(٢) المبّافارقي: بفتح الميم وتشديد الباء الموحّدة والفاء بين الألفين، وآخرها الراء والقاف، قريبة من الموصل.

٤٣

حيث يُعد الصدوق من مشايخ السيّد المرتضى (قدِّس سرّه) في الرواية، كما هو من مشايخ الشيخ المفيد في الرواية، وبذلك نقف بالدلائل على وجود السيرة بالشهادة الثالثة في الأذان لدى الشيعة في بدايات الغيبة الكبرى، وسيأتي في مبحث سيرة المتشرّعة من الطائفة الشيعيّة أنّ سيرتهم في بغداد، وشمال العراق، وجنوب إيران، وحلب، ومصر، وكذلك الدولة الحمدانيّة، وآل بويه، والدولة العبيديّة، والفاطميون كانت على التأذين بالشهادة الثالثة (محمّد وعلي خير البشر)، وهي أحد الصيغ القريبة من الطوائف الثلاث التي رواها الصدوق في الفقيه، كلّ ذلك بالنصوص التأريخيّة العديدة على ذلك، وهذه السيرة متقدّمة على الصدوق بطبقة أو طبقتين.

أقول: فيُعلم أنّ مبدأ السيرة لديهم ليس في ابتداء الغيبة الكبرى، بل المراد أنّ مقدار ما تعطيه العبارة المتقدّمة للصدوق وعبارة الشيخ الطوسي: هو الدلالة على ما هو أقدم، وهو وجود جملة من طوائف الروايات الواردة عن الرواة، وبذلك يفيد أنّ هذه السيرة كانت لدى رواة الأئمّة قبل الغيبة الصغرى؛ لأنّ دأب ودَيدن الرواة العمل والفتوى بما يروونه، وإلاّ فيستثنون وينبّهون على عدم اعتمادهم على مضمون الرواية عند روايتهم لها في ذيلها، كما هو واضح للمتتّبع لكتب الحديث وأبواب الروايات.

* الثانية: فتوى الشيخ الطوسي بالجواز

وتتبيّن فتواه بالجواز من خلال المقارنة بين عبارته في النهاية وعبارته في المبسوط المتقدّمتين، حيث قال في المبسوط: بأنّ العامل بالروايات المتضمنّة للشهادة الثالثة بكونها من فصول الأذان غير مأثوم، ونظير هذا التعبير عبّر به الشيخ في النهاية فيمَن عملَ بأحد طوائف الروايات المختلفة مفاداً في عدد الفصول، حيث ذهب أنّ العامل بأحدها غير مأثوم،

٤٤

وهذا يقضي بفتواه بالجواز، إذ هو (قدِّس سرّه) كان في صدد عدم ارتضاء الجمع بين الروايات المتضمنّة للشهادة الثالثة والخالية منه، بحمل المتضمنّة منها على الاستحباب؛ لأنّه يبني على استحكام التعارض لا الجمع الدلالي بينهما، فمن ثُم تصل النوبة إلى الترجيح بينهما عنده، نظير ما صرّح به في الروايات الواردة في عدد فصول الأذان المختلفة في تحديده؛ فإنّه لم يَجمع بينهما بحمل المتضمنّة للزيادة على الندب بل بنى على استحكام التعارض بينهما، ومن ثُمّ قال بالتخيير في العمل بها، حيث قال في كتاب النهاية:

(مَن عَمل بإحدى هذه الروايات لم يكن مأثوماً)، الذي هو عين التعبير في المبسوط في روايات الشهادة الثالثة حيث قال: (لو فعله الإنسان لم يأثم)، وقد مرّ أنّ رواية رواة الأئمّة لتلك الروايات اعتماداً منهم عليها، وإلا لذيلّوا بقولهم المُعترض على مضمونها بصورة لفظ استثناء ونحوه، ولو كان مثل ذلك الذيل في كلام الرواة لتلك الروايات موجوداً لَنقلهُ الصدوق والشيخ الطوسي (قدِّس سرّهما)، ولأشارا إليه لاسيّما وإنّهما كانا - بحسب عبارتهما - في مقام تقييم درجة اعتبار الروايات، فظهرَ من ذلك دلالة عبارة الصدوق والشيخ - حيث لم يصفا الروايات بالإرسال، ولا بكونها مقطوعة، ولا بكونها مضمرة، ولا بكونها معلّقة - على كون الروايات متّصلة الإسناد إلى المعصومين (عليهم السلام)، وبكونها سيرة روائيّة لدى جملة من الرواة؛ لأنّهم قد وصفوها بوصف الجمع ممّا يدلّ على تعدّد مضامينها وطرقها - كما نقلَ تعدّد المتون وتعدّد طُرقها وبالتالي تعدّد سلسلة الرواة لها.

ثُمّ إنّ هناك في فتوى السيّد المرتضى (قدِّس سرّه) ما يعزِّز فتواه بالجواز - وإن أتى بها على أنّها من فصول الأذان - أمرين:

٤٥

الأوّل: إنّ فتواه كما مرّ صَدرت في ظل سيرة الشيعة في بغداد، وشمال العراق، وجنوب إيران، ومصر، ودولة الحمدانيين، وآل بويه، والفاطميين، والعبيديّة، على التأذين بالشهادة الثالثة بنفس الصيغة التي أفتى بها السيّد فتكون فتواه مساندة لهذه السيرة ودعم لها.

والثاني: هو فتواه المتصلة بالعبارة السابقة حيث سُئل: (المسألة السادسة عشر: من لفظ أذان المخالفين يقولون في أذان الفجر: (الصلاة خير من النوم) هل يجوز أن نقول ذلك أم لا؟

الجواب: مَن قال ذلك في أذان الفجر قد أبدعَ وخالف السنّة؛ لإجماع أهل البيت على ذلك) انتهى.

ففتواه ببدعيّة (الصلاة خير من النوم) - مع ورود الروايات المتضمنّة لها الصادرة تقيّة، بل وفتوى جماعة من المتقدّمين بجوازها عند التقيّة - يدلّ بوضوح - بمقتضى المقابلة مع فتواه السابقة المتصلة بالشهادة الثالثة - بناءه على استفادة المشروعيّة للشهادة الثالثة في فصول الأذان من الروايات الواردة فيها، وبنفس التقريب سيأتي في فتوى الشيخ الطوسي، حيث تعرّض فيها للشهادة الثالثة وسنبيّن إفادتها للجواز، غاية الأمر أنّه يُحكم بخطأ مَن عملَ بمضمونها الذي هو كون الشهادة الثالثة من فصول الأذان، أي تخطئة اجتهاديّة في مقام الترجيح بين الروايات المتعارضة لا التخطئة القطعيّة كما هو الحال في التثويب، حيث قال قبل فتواه الآتي نقلها في الشهادة الثالثة: (ولا يجوز التثويب في الأذان، فإن أراد المؤذِّن إشعار قوم بالأذان جاز له تكرار الشهادتين، ولا يجوز قول: (الصلاة خير من النوم) في الأذان، فمَن فعلَ ذلك كان مُبدعاً) (١) .

____________________

(١) النهاية: ج١/ ٢٩ ط. قم مؤسّسة النشر الإسلامي.

٤٦

فنلاحظ الشيخ الطوسي كالسيّد المرتضى، قد اختلف حكمهما على التثويب عن حكمهما على الشهادة الثالثة، فإنّهما حَكما (بالبدعيّة) أي: التخطئة القطعيّة على ذِكر التثويب في فصول الأذان، مع أنّ الروايات الواردة في التثويب - كفصل من الأذان - متعدّدة قد وصلَ إلى عصرنا إسنادها المتصل، إلاّ أنّها حيث وردت في التقيّة بشهادة روايات أخرى صريحة دالّة على ذلك، فَحكما على التثويب بالبدعيّة.

وأمّا الشهادة الثالثة إذا أُتي بها على أنّها من فصول الأذان، فقد حَكم السيّد المرتضى بنفي المحذور في ذلك، فضلاً عمّا لو أتى بها في الأذان على أنّها خارجة منه، بينما الشيخ الطوسي حَكم بالخطأ بصناعة الترجيح لو أتى بها على أنّها من فصول الأذان، وقد ذهبَ العلاّمة الحلّي إلى التفرقة في الحُكم بين التثويب (١) والشهادة الثالثة، بعين ما صنعهُ الشيخ الطوسي، فبينَ حُكم التثويب وحكم الشهادة الثالثة في الأذان بون بعيد، كما لا يخفى على المتحذلق في صناعة الاستدلال.

وممّا يدلّ على ذهابه للتخيير والجواز للعمل بها، ويُعضد قوياً استظهار فتواه بالجواز قوله عقيب عبارته في المبسوط: (غير أنّه ليس من فضيلة الأذان، ولا كمال فصوله) فإنّ هذا الاستثناء لا يصلح التعبير به إلاّ في سياق سَبق الحُكم فيه بالجواز؛ لأنّ هذا الاستثناء بمعنى الاستدراك فهو يستدرك على شيء قد مضى، ولو كان يفتي بالحرمة لمَا صحّ الاستدراك.

____________________

(١) التذكرة: ج٣، ص٤٥، وص٤٧.

٤٧

ثُمّ إنّ فتوى الشيخ - كما تقدّم في فتوى السيّد المرتضى - مُساندة وداعمة لسيرة الشيعة في بغداد، وشمال العراق، وجنوب إيران، ومصر، وحلب، والدول الشيعيّة: كالحمدانيين في شمال العراق، وحلب، وآل بويه، والعبيديين، والفاطميين، كما سيأتي في بحث السيرة استعراض النصوص التاريخيّة في ذلك.

* الثالثة: فتوى ابن برّاج بالجواز في المهذّب

قال ابن البرّاج في المهذّب: (ويستحبّ لمَن أذّن أو أقامَ أن يقول في نفسه عند حيّ على خير العمل: آلُ محمّد خير البريّة مرّتين) (١).

وصريحهُ: العمل والفتوى بأحد الطوائف التي ذكرها الصدوق والتي تقدّم نَقل متنها، وهو يقضي أنّ الروايات كانت واصلة لديه، فاعتمدَ وأفتى بمضمونها خلافاً لموقف الصدوق من تلك الروايات، وخلافاً لموقف الشيخ الطوسي حيث بنى على التعارض والتخيير، فابن البرّاج قد بنى على الجمع بينها بحملها على الإسرار، فكأنّه حملَ الروايات الخالية منها أي من الشهادة الثالثة على التقيّة، وفهمَ منها مطلوبيّة التقيّة والتقيّة بالتالي تقتضي الإسرار بها، لاسيّما مع ما سيأتي من حصول الصدامات عقوداً من الزمن بين الشيعة وسنّة جماعة الخلافة في بغداد قبله بطبقتين أو ثلاث، على كيفيّة فصول الأذان وإدراج الشهادة الثالثة وحيّ على خير العمل فيه، ولاسيّما وإنّ ابن برّاج قد انتقلَ وهاجر إلى الشام في ظلّ الدولة الشيعيّة هناك آنذاك.

____________________

(١) المهذّب: ج١، ص٩٠ طبعة جماعة المدرّسين.

٤٨

فالتقيّة تقتضي الإسرار بقراءتها دون الإجهار بها أمام العامّة هذا، مع أنّ الإسرار سيأتي أنّه أحد كيفيّات الأذان في بعض الموارد، كما أنّ الإجهار من كيفيّاته المطلوبة بحسب غالب الموارد، فيكون بذلك قد جمعَ بين دلالة الطائفتين، كما أنّه يظهر من صريح فتواه الفتوى في ذلك في كلّ من الأذان والإقامة لا خصوص الأذان.

كما أنّ تقييده هذا القول بالمرّتين: هو الآخر صريح بالإتيان بها على أنّها من فصول الأذان، كما أنّه شاهد على عمله بمضمون متون الروايات التي أشار إليها في الفقيه، حيث نصّت على كونها من فصول الأذان مرّتين.

* الرابعة: فتوى المتقدّمين والمتأخّرين بالشهادة الثالثة في محاكاة الأذان

وفتواهم هذه وإن كان مصبّها في حكاية الأذان لمَن سمعهُ من غيره، إلاّ أنّه سيأتي في الفصول اللاحقة فتواهم الأخرى المعتمدة من لزوم مطابقة حكاية الأذان ومحاكاته لمتن فصول الأذان، وبهذه الضميمة تُشعر فتواهم الأولى بتضمّن فصول الأذان للشهادة الثالثة.

منها: قول الشيخ الطوسي في المبسوط: (ويستحبّ للإنسان أن يقول مع نفسه مثلَ ما يسمع من فصول الأذان. إلى أن قال: ورويَ أنّه إذا سمعَ المؤذِّن يقول: أشهدُ أن لا إله إلاّ الله - أن يقول: وأنا أشهدُ أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبد الله ورسوله، رضيتُ بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رسولاً، وبالأئمّة الطاهرين أئمّة) ويصلّي على النبيّ وآله (١).

____________________

(١) المبسوط: المجلّد الأوّل، ص١٤٤-١٤٥، طبعة جماعة المدرّسين.

٤٩

ومنها: ما قاله العلاّمة في التذكرة: (رويَ أنّه يستحبّ إذا سمعَ المؤذِّن يقول: أشهدُ أن لا إله إلاّ الله، أن يقول: (وأنا أشهدُ أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، رضيتُ بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمّد رسولاً، وبالأئمّة الطاهرين أئمّة) ثُمّ يُصلي على النبيّ وآله (١) ، وأفتى بذلك في المنتهى أيضاً (٢).

ومنها: ما قاله الشهيد في الذكرى في أحكام الأذان، المسألة الرابعة عشر: (قال ابن البرّاج: يستحبّ لمَن أذّن أو أقامَ أن يقول في نفسه عند (حيّ على خير العمل): (آلُ محمّد خير البريّة) مرّتين (٣).

ويظهر من الشهيد تقرير ابن برّاج في المهذّب (٤) على فتواه، والتي هي عمل بمضمون الطوائف التي استضعفها الصدوق في الفقيه المتضمنّة لجزئيّة الشهادة الثالثة في الأذان.

نعم، الظاهر من الشهيد أنّه فهمَ من فتوى ابن برّاج: أنّ الشهادة الثالثة من أذكار الأذان التابعة له المندوبة بالندب الخاص، لا جزء فصوله، وكأنّ ابن برّاج بنى على ذلك إلاّ أنّ بناء الشهيد على بعض مضمون تلك الطوائف - لاسيّما وإنّه ذَكر في كثير من كتبه وصول الروايات المزبورة ووقوفه عليها - دال على اعتماده على صدورها، وفاقاً لابن برّاج، والطوسي، والعلاّمة، خلافاً للصدوق، ولا يخفى التنبيه في المقام على أنّ الاستحباب هنا قد جعله للمؤذِّن والمقيم نفسه، لا للسامع في حكايته لمَا يسمعه في الأذان.

____________________

(١) التذكرة: ج٣، ص٨٤ طبعة مؤسّسة أهل البيت، قم المقدّسة.

(٢) المنتهى: ج٤/ ٣٤٣، ط مشهد المقدّسة.

(٣) ذكرى الشيعة: ج٣، ص٢٤١ طبعة مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام).

(٤) المهذّب: ج١/٩٠.

٥٠

ومنها: فتوى المحقّق في المعتبر.

قال: (مسألة: من السنّة حكاية قول المؤذّن؛ لمَا روي عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: (إذا سمعتم النداء، فقولوا كما يقول المؤذِّن) قال الشيخ في المبسوط: مَن كان خارج الصلاة قطعَ كلامه وحكى قول المؤذِّن، وكذا لو كان يقرأ القرآن قطعَ وقال كقوله؛ لأنّ الخبر على عمومه، وقال في المبسوط أيضاً: رويَ إذا قال المؤذِّن أشهدُ أن لا إله إلاّ الله أن يقول: (وأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، رضيتُ بالله ربّاً، بالإسلام ديناً، وبمحمّد رسولاً، وبالأئمّة الطاهرين أئمّة...) (١) .

وظاهره: تقريره فتوى الشيخ مُشعر أيضاً بأنّ الشهادة الثالثة من الأذان بمقتضى قاعدة تطابق حكاية الأذان مع الأذان المستحبّة، ولا أقلّ من دلالتها على أنّ الشهادة الثالثة من توابع الأذان، ومن ثُمّ أدرجَ الفقهاء استحباب الحكاية بالشهادات الثلاث عند سماع الأذان في نفس مسألة الحكاية لسماع الأذان.

* الخامسة: الفتوى بذكريّة أسمائهم في الصلاة

أي ذِكر أسمائهم في الصلاة، مع وصفهم بالإمامة الذي هو نحو من الشهادة بالولاية.

منها: فتوى الصدوق في الفقيه

فإنّه قد أوردَ صحيح الحَلَبي المتقدّم في موضعين من الفقيه: أحدهما في قنوت صلاة الوتر (٢) ، والآخر في مطلق باب القنوت في الصلاة (٣) ، ويظهر منه كلا الموضعين الإفتاء بها؛ لأنّه لم يعلِّق عليها برد أو توقّف مع أنّه قد علّق على روايات قبلها وبعدها،

____________________

(١) المعتبر: ج٢، ص١٤٦ الطبعة القديمة.

(٢) الفقيه: ج١، ص٤٩٣ طبعة قم.

(٣) الفقيه: ج١، ص٣١٧ طبعة قم.

٥١

بل قد قال قبل هذه الصحيحة بعد حكاية شيخه لفتوى سعد بن عبد الله أنّه كان يقول: لا يجوز الدعاء في القنوت بالفارسيّة، وكان محمد بن الحسن الصفّار يقول: إنّه يجوز والذي أقول به إنّه يجوز ثُمّ استدلّ لذلك بروايتين، ثُمّ أورد صحيحة الحَلَبي، فلاحظ ثمّة كلامه.

ومنها: فتوى الشيخ المفيد بمضمون صحيح الحَلَبي

حيث قال في دعاء قنوت الوتر بذكر لفظ الشهادات الثلاث قال: (... اللهمّ فإنّي أشهدُ على حين غفلة من خلقك: أنّك أنت الله لا إله إلاّ أنت، وأنّ محمّداً عبدك المرتضى ونبيّك المصطفى، أسبغتَ عليه نعمتك، وأتممتَ له كرامتك، وفضّلت لكرامته آله، فجعلتهم أئمّة الهدى، ومصابيح الدُجى، وأكملتَ بحبّهم وطاعتهم الإيمان، وقبلتَ بمعرفتهم والإقرار بولايتهم الأعمال، واستعبدتَ بالصلاة عليهم عبادك وجعلتهم مفتاحاً للدعاء،.... اللهمّ صلِّ على محمّد عبدك ورسولك وآله الطاهرين،.... اللهمّ صلِّ على أمير المؤمنين وصيّ رسول ربّ العالمين، اللهمّ صلِّ على الحسن والحسين سِبطَي الرحمة وإمامَي الهدى، وصلِّ على الأئمّة من وِلد الحسين، عليّ بن الحسين،.... والخلف الحجّة (عليهم السلام)، اللهمّ اجعلهُ الإمام المنتظر....) (١) .

ومنها: فتوى الشيخ الطوسي بذلك

حيث أورد صحيح الحَلَبي في موضعين أيضاً، أوّلهما: في دعاء قنوت الوتر حيث قال: (وممّا وردَ في الحث على الدعاء في الوتر)، ثُمّ أورد جملةً من الروايات ومن ضمنها صحيح الحَلَبي المتقدِّم) (٢) .

____________________

(١) المقنعة: ص١٢٥ - ١٢٦ - ١٣٠ طبعة قم - جماعة المدرّسين.

(٢) التهذيب: ج٢، ص١٣٠ - ١٣١، ح٥٠٦.

٥٢

وثانيهما: ما وردَ في باب (١) كيفيّة الصلاة وصِفتها، حيث أوردها بعد ذكر روايةٍ في مطلق ذكر الله في الصلاة، ولم يعلِّق عليها بردٍ أو توقف كما هو دأبه فيما لا يرتضيه في مضامين بعض الروايات، حتّى أنّه أوردَ في الموضع الثاني قَبل ذلك رواية في النهي عن الصلاة والإزار محلول، وعلّق عليها: بأنّ هذا الأمر محمول على الاستحباب واستشهدَ برواية أخرى.

منها: فتوى العلاّمة، كما في كتاب المنتهى الفصل الثالث: في التروك، حيث استثنى من الكلام المبطل في الصلاة كلّ كلام هو من ذِكر الله، وجعلَ منه ذكر أسماء الأئمّة مستنداً في ذلك إلى صحيح الحَلَبي الدال بالخصوص على ذلك.

قال: المطلب الثاني عشر (لا بأس بأصناف الكلام الذي يناجي به الربّ تعالى؛ لمَا رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن مهزيار، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الرجل يتكلم في صلاة الفريضة، بكلّ شيء يناجي ربه؟ قال: (نعم)) (٢).

وعن الحلبي: قال: (قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام) أسمّي الأئمّة (عليهم السلام) في الصلاة؟ قال: (أجمِلهم) (٣) ، ومن هذا الباب كلّ ذكرٍ يُقصد به تنبيه غيره) (٤).

____________________

(١) التهذيب: ج٢، ص٣٢٦، ح١٣٣٨.

(٢) منتهى المطلب: ج٥، ص٢٩٢ طبعة الأستانة الرضويّة.

(٣) أبواب القنوت: باب ١٤ الحديث الأوّل، التهذيب: ج٢، ص٣٢٦، الحديث ١٣٣٨.

(٤) أبواب قواطع الصلاة: باب ١٣، الحديث الأوّل.

٥٣

وما أشار إليه من صحيحة الحَلبي، سيأتي ورود عدّة صِحاح قريب من مضمونها: كصحيح عبد الله بن سنان (١)، وصحيح زرارة (٢) ، وصحيح محمد بن مسلم (٣) ، وموثّق سماعة (٤) ، وموثّق أبي بصير (٥)، وعلى كلّ حال فيظهر من فتوى العلاّمة: أنّ ذِكر أسماء الأئمّة في الصلاة، وبوصفهم أئمّة للدين - الذي هو نمط من الشهادة بولايتهم - هو من أذكار الصلاة الخاصّة، ومن ثُمّ لا يكون من الكلام المبطل للصلاة، وسيأتي تحرير وتنقيح كلامه بشكل مبسوط في الوجه الثاني، وملخّص بيان كون التوصيف بالإمامة لهم هو شهادة بإمامتهم؛ وذلك لكون الواصف في كلامه في مقام الإخبار يلتزم ويقرّ ويعترف بثبوت الوصف للموصوف، كما هو الحال في باب الأقارير: يؤخذ المتكلم في مقام الإخبار بمدلول كلامه التضمنّي والالتزامي، فالتركيب النعتي في هيئة الجملة الخبريّة موازية في المعنى للفظ الإقرار والالتزام.

____________________

(١) أبواب الركوع: باب ٢٠، ح١.

(٢) أبواب الأذان والإقامة: باب ٤٢، ح١.

(٣) أبواب صلاة الجمعة: باب ٢٥، ح١.

(٤) المصدر السابق: ح٢.

(٥) أبواب الذكر من أبواب الصلاة: باب ٣، ح٣.

٥٤

ومنها: فتوى المحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان

حيث قال بعد حكاية كلام الصدوق في الفقيه: والذي أستعملهُ وأفتي به ومضى عليه مشايخي (رحمة الله عليهم): هو أنّ القنوت في جميع الصلوات في الجمعة وغيرها، في الركعة الثانية بعد القراءة وقبل الركوع، ثُمّ قال المقدّس الأردبيلي وقال في صحيحة الحَلَبي، قال في قنوت الجمعة: (اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى أئمّة المؤمنين (المسلمين)، اللهمّ اجعلني ممّن خلقته لدينك وممّن خلقته لجنّتك. قلتُ: أسمّي الأئمّة؟ قال: سمِّهم جملةً) (١).

قال في المنتهى: إنّه صحيح كما قلنا، مع وجود أبان كأنّه ابن عثمان ولا يضر؛ لمَا عرفتَ مراراً وهو مؤيّد لمَا قلناه (٢) .

والرواية التي تعرّض لها الأردبيلي: هي صحيحة أخرى للحَلَبي غير متن الصحيحة التي تعرّض لها العلاّمة في المنتهى في الموضع الذي أشرنا إليه، بل وعلى أيّ تقدير فهذه الصحيحة في قنوت صلاة الجمعة لا في خُطبتي صلاة الجمعة، فيظهر منه العمل بمضمونها، ولا يخفى أنّ توصيفهم بالإمامة هي نمط من الشهادة لهم بذلك وبالولاية، كما مرّ وسيأتي بسط بيان ذلك.

ومنها: فتوى المحقّق النراقي في المستند

قال المحقّق النراقي في المستند، المسألة الثالثة في بحث التشهّد في الصلاة: وتجب فيه الصلاة على النبي وآله في كلّ من التشهّدين،... ثُمّ استدلّ بجملة من الروايات وقال:

____________________

(١) أبواب القنوت: باب ١٤، ح٢.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان: ج٢، ص٣٩٣ - ٣٩٤ طبعة قم.

٥٥

يستفاد من الروايتين الأولى والأخيرة وجوب إضافة الآل أيضاً، كما عليه الإجماعات المحكيّة وتدلّ عليه صحيحة القدّاح،... وصحيحة الحلبي: أسمّي الأئمّة في الصلاة قال: (أجمِلهم).... الأمر دلّ على الوجوب ولا وجوب في غير موضع النزاع بالإجماع (١).

وظاهره: الإفتاء بصحيح الحلبي، إلاّ أنّه فسّر عنوان الصلاة الوارد في الصحيحة بغير تفسير العلاّمة في المنتهى، حيث فسّرها في المنتهى بمجموع الأركان والأجزاء، فجعلَ ذِكر أسماء الأئمّة (عليهم السلام) من أذكار مجموع الصلاة ومن الكلام غير المبطل لها، وبغير تفسير الصدوق في الفقيه، حيث فسّر الصدوق عنوان الصلاة بالصلاة على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمّة (عليهم السلام) في قنوت الصلاة، ونظير الصدوق المقدّس الأردبيلي: حيث فسّر عنوان الصلاة في صحيح الحلبي الآخر بالصلاة على أئمّة المؤمنين في قنوت صلاة الجمعة، بينما ظاهر فتوى النراقي وعمله بصحيحة الحلبي تفسير عنوان الصلاة بالصلاة في التشهّد، وهذه احتمالات أربع في معنى الصحيحة إلاّ أنّها تشترك في ذِكر أسمائهم (عليهم السلام) في الصلاة ولو بالإجمال، ووصفهم بالإمامة وهو نحو شهادة لهم بالإمامة وشهادة لهم بالولاية.

* السادسة: الفتوى بالشهادة الثالثة في التشهّد والتسليم للصلاة

منها: فتوى علي بن بابويه في الفقه الرضوي قال: فإذا تشهّدت في الثانية فقل: بسم الله وبالله والحمد لله والأسماء الحسنى كلّها لله، أشهدُ أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنّ محمّداً عبده ورسوله،...

____________________

(١) المستند: ج٥، ص٣٢٩ - ٣٣٢ طبعة آل البيت (عليهم السلام).

٥٦

فإذا صلّيت الركعة الرابعة فقل في تشهّدك: بسم الله وبالله والحمد لله والأسماء الحسنى كلّها لله، أشهدُ أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنّ محمّداً عبده ورسوله،... أشهدُ أنّك نِعم الرب، وأنّ محمّداً نِعم الرسول، وأنّ عليّ بن أبي طالب نِعم الولي، وأنّ الجنّة حق، والنار حق.... (١).

ومنها: فتوى سلاّر أبو يعلي حمزة بن عبد العزيز الديلمي الطبرستاني: (وأمّا التشهّد الثاني الذي يتعقّبه التسليم في الرابعة من.... فهو: (بسم الله وبالله والحمد لله والأسماء الحسنى كلّها لله،... وأشهدُ أنّ ربّي نِعم الرب، وأنّ محمّداً نِعم الرسول، وأنّ عليّاً نِعم الإمام، وأنّ الجنّة حق والنار حق،... اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد...) (٢).

ومنها: فتوى النراقي في المستند.

(قال: المسألة الرابعة: يستحبّ أن يزيد في تشهّده في الركعتين الأوليين ما في رواية عبد الملك،.... والأكمل منه للتشهّدين ما في موثّقة أبي بصير،... أو ما في الفقه الرضوي، ثُمّ أوردَ عين النص الذي نقلناه للفقه الرضوي المتضمِّن للشهادة الثالثة، إلى أن قال: ثُمّ إنّه لا شكّ في جواز الاكتفاء بالتشهّد بما في روايةٍ.

وهل يجوز التبعيض بأن يُذكر بعض ما في رواية واحدة فيه؟ لا ريب في جوازه (التبعيض) من حيث إنّه دعاء، وأمّا من حيث وروده واستحبابه بخصوصه (التبعيض) فمحلّ نظر، نعم، يجوز الاكتفاء بأحد التشهّدين بأن يُذكر ما ورد فيه دون الآخر، ويجوز الاكتفاء بافتتاح التشهّد خاصّة كما في رواية بدء الأذان (٣).

____________________

(١) الفقه الرضوي: ص١٠٨.

(٢) المراسم العلويّة: ص٧٣.

(٣) مستند الشيعة: ج٥، ص٣٣٤ - ٣٣٦.

٥٧

ومنها: ما يظهر من الميرزا النوري في المستدرك، حيث أورد ما في الفقه الرضوي من دون أن يعلِّق عليه بردٍ أو غيره مع أنّ دأبه - كما يظهر في المستدرك (١) - التعليق بالإشكال أو المعارضة بروايات أخرى على ما لا يتمّ عنده من الروايات.

ومنها: فتوى علي بن بابويه، والنراقي، والنوري أيضاً بالشهادة الثالثة في صيغة الصلاة في التشهّد، حيث أوردوا رواية علي بن بابويه وفيها زيادة على ما سبقَ وفيها هذا النص: (اللهمّ صلِّ على محمّد المصطفى، وعليّ المرتضى، وفاطمة الزهراء، والحسن، والحسين، وعلى الأئمّة الراشدين من آل طه وياسين، اللهمّ صلِّ على نورك الأنور، وعلى حبلك الأطول، وعلى عروتك الأوثق، وعلى وجهك الكريم، وعلى جنبك الأوجب، وعلى بابك الأدنى، وعلى مسلك الصراط) (٢).

ووجهُ عدُّ هذه المسألة من الشهادة الثالثة وهو الشهادة بالولاية: هو نَعتهم بالأئمّة التي تقدّم أنّها نحو من الإقرار بالإمامة والولاية لهم وهو مفاد الشهادة الثالثة، ومضافاً إلى ذلك: تخصيصهم بالأسماء الخاصّة لهم في الصلوات في رديف اسم النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) شاهد على خصوصيّة مقامهم بعد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أي أنّهم خير البريّة، وهو أحد صيغ الشهادة الثالثة التي مرّت في الروايات التي نقلها الصدوق في الفقيه، ومن ذلك يُستشفَ من فتاوى المشهور هذا المطلب كما سنتعرّض إليه.

____________________

(١) مستدرك الوسائل: أبواب التشهد، باب ٢، ج٥، ص٦.

(٢) لاحظ المصادر الثلاثة السابقة: (فقه الرضا، مستند النراقي، مستدرك الوسائل).

٥٨

ومنها: فتوى علي بن بابويه، والنراقي، والنوري أيضاً بالشهادة الثالثة في صيغة التسليم في الصلاة، حيث أوردوا رواية علي بن بابويه وفيها النص التالي في التسليم: (السلامُ عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته، السلام عليك وعلى أهل بيتك الطيبين، السلامُ علينا وعلى عباد الله الصالحين، ثُمّ سلِّم) (١).

ومنها: فتوى الصدوق محمد بن علي بن بابويه في التسليم، وفي كتابه المقنع (٢) (أبواب الصلاة)، وكذلك ورد في الفقيه قال: (ثُمّ سلِّم وقل: اللهمّ أنت السلام، ومنك السلام، ولك السلام، وإليك يعود السلام، والسلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته، السلام على الأئمّة الراشدين المهديين،...) (٣) .

وقد أفتى الشيخ الطوسي في النهاية بذلك، حيث قال في صيغة التسليم: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام على جميع أنبياء الله وملائكته ورسله، السلام على الأئمّة الهاديين المهديين، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، ثُمّ يسلِّم على حسب ما قدّمنا) (٤) .

وبعين هذه الألفاظ أفتى ابن برّاج في التسليم في كتابه المهذّب (٥)، وأفتى سلاّر في التسليم بقوله: (ويومئ بوجهه إلى القبلة فيقول: (السلام على الأئمّة الراشدين، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) (٦)، وأفتى المفيد (قدِّس سرّه) في المقنعة بذلك في التسليم حيث قال: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ويومئ بوجهه إلى القبلة ويقول: السلام على الأئمّة الراشدين، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وينحرف بعينه إلى يمينه، وإذا فعلَ ذلك فقد فرغَ من صلاته وخرج منها بهذا التسليم).

____________________

(١) المصدر السابق.

(٢) المقنعة: ص٩٦، طبعة قم/ مؤسّسة الإمام الهادي.

(٣) الفقيه: ج١، ص٣١٩، ح٩٤٤ طبعة قم.

(٤) النهاية: ج١، ص٣١١، طبعة مؤسّسة النشر، قم.

(٥) المهذّب: ج١، ص٩٥، طبعة مؤسّسة النشر الإسلامي.

(٦) المراسم العلويّة: ص٧٣.

٥٩

ومنها: فتوى الحَلَبي في الكافي قال: (السلام عليك أيها النبيّ ورحمه الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السلام على محمدٍ وآله المُصطفين، ثُمّ تُسلِّم التسليم الواجب).

وقال قبل ذلك في فروض الصلاة: الفرض الحادي عشر: السلام عليكم ورحمة الله، يعني محمّداً وآله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والحفظة.

ومنها: فتوى المشهور (١) شهرة عظيمة، بما في موثّقة أبي بصير (٢) وغيرها بالشهادة الثالثة في صيغة الصلاة في التشهّد، حيث ورد فيها: (اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد، وسلِّم على محمّد وعلى آل محمّد، وترحّم على محمّد وعلى آل محمّد، كما صلّيت وباركت وترحّمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد)، إذ التقابل في الصلاة على آل محمّد مع الصلاة على آل إبراهيم - في رديف الصلاة على محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعلى إبراهيم - دال بوضوح على ما في قوله تعالى: ( إِنَّ الله اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٣) ، أي على الاصطفاء والإنتجاب لهم بالولاية والإمامة كما في قوله تعالى: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (٤)،

____________________

(١) مستند النراقي: ج٥، ص٣٣٤.

(٢) الوسائل: أبواب التشهّد، باب ٣، ح٢.

(٣) آل عمران: ٣٣، ٣٤.

(٤) البقرة: ١٢٤.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

حصوله غير معلوم لا أصل تحقّقه(١) !

إلّا أنّ جماعة من المفسّرين قالوا إنّ المراد من «ريب المنون» في الآية محلّ البحث هو حوادث الدهر ، حتّى أنّه نقل عن ابن عبّاس أنّه قال حيث ما وردت كلمة «ريب» في القرآن فهي بمعنى الشكّ والتردّد ، إلّا في هذه الآية من سورة الطور فمعناها الحوادث(٢) .

وقال جماعة منهم أنّ المراد منه هو حالة الاضطراب ، فيكون معنى «ريب المنون» على هذا القول هو حالة الاضطراب التي تنتاب أغلب الأفراد قبل الموت!

ويمكن أن يعود هذا التّفسير (الأخير) على المعنى السابق ، لأنّ حالة الشكّ والتردّد أساس الاضطراب ، وكذلك الحوادث التي لم ينبّأ بها من قبل ، فهي تقترن بنوع من الاضطراب والشكّ والتردّد ، وهكذا فإنّ جميع هذه المفاهيم تنتهي إلى أصل «الشكّ والتردّد».

وبتعبير آخر ، فإنّ للريب ثلاثة معان مذكورة : الشكّ ، والاضطراب ، والحوادث ، وهذه جميعا من باب اللازم والملزوم!.

وعلى كلّ حال ، فأولئك كانوا يطمئنون أنفسهم ويرضون خاطرهم بأنّ حوادث الزمان كفيلة بالقضاء على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكانوا يتصوّرون أنّهم سيتخلّصون من هذه المشكلة العظمى التي أحدثتها دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سائر المجتمع لذلك فإنّ القرآن يردّ عليهم بجملة موجزة مقتضبة ذات معنى غزير ويهدّد هؤلاء ـ عمي القلوب ـ مخاطبا نبيّه فيقول :( قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ) .

فأنتم تنتظرون تحقّق تصوّراتكم الساذجة التافهة!! وأنا أنتظر أن يصيبكم عذاب الله!.

__________________

(١) راجع المفردات للراغب.

(٢) القرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٢٤٢.

١٨١

وعليكم أن تنتظروا أن ينطوي بموتى بساط الإسلام!! وأنا بعون الله أنتظر أن أجعل الإسلام يستوعب العالم كلّه في حياتي وأن يبقى بعد حياتي أيضا مواصلا طريقه دائما!

أجل إنّما تعوّلون على تصوراتكم وخيالاتكم ، وأنا أعتمد على لطف الله الخاصّ سبحانه.

ثمّ يوبّخهم القرآن توبيخا شديدا فيقول في شأنهم :( أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ ) (١) .

كان سراة قريش يعرفون بين قومهم بعنوان «ذوي الأحلام» ، أي أصحاب العقول ، فالقرآن يقول : أي عقل هذا الذي يدّعي بأنّ وحي السماء ـ الذي تكمن فيه دلائل الحقّ والصدق ـ شعر أو كهانة؟! وأن يزعم بأنّ حامله «النبي» الذي عرف بالصدق والأمانة منذ عهد بعيد ، بأنّه شاعر أو مجنون!؟

فبناء على ذلك ينبغي أن يستنتج أنّ هذه التّهم والافتراءات ليست ممّا تقول به عقولهم وتأمرهم به ، بل أساسها طغيانهم وتعصّبهم وروح العصيان والتمرّد فما أن وجدوا منافعهم غير المشروعة في خطر حتّى ودّعوا العقل!! ولوّوا رؤوسهم نحو الطغيان عنادا عن اتّباع الحقّ!.

«الأحلام» جمع حلم ومعناه العقل ، ولكن كما يقول الراغب في مفرداته أنّ الحلم في الحقيقة بمعنى ضبط النفس والتجلّد عند الغضب ، وهو واحد من دلائل العقل والدراية ، ويشترك مع الحلم على زنة العلم ـ في الجذر اللغوي!.

وكلمة «الحلم» قد تأتي بمعنى الرؤيا والمنام ولا يبعد مثل هذا التّفسير في

__________________

(١) هناك احتمالات وأقوال بين المفسّرين في معنى «أم» هنا أهي استفهامية أم منقطعة وبمعنى بل كلّ له رأيه فيها وإن كان الرأي الثاني أكثر ترجيحا عندهم ، إلّا أنّ سياق الآيات يتناسب والمعنى الأوّل غير أنّه ينبغي أن يعرف بأنّ أم في مثل هذه المواطن ينبغي أن تكون مسبوقة بهمزة الاستفهام ولذلك فإنّ الفخر الرازي قدر لها ما يلي : «أأنزل عليهم ذكر أم تأمرهم أحلامهم بهذا» وهو يشير إلى أنّ الإسلام ينبغي أن يتّبع دليل أو النقل أو العقل!.

١٨٢

الآية محلّ البحث فكأنّ كلماتهم ناتجة عن أحلامهم الباطلة!!

ومرّة اخرى يشير القرآن إلى اتّهام آخر ـ من اتّهاماتهم ـ الذي يعدّ الرابع في سلسلة اتّهاماتهم فيقول :( أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ ) .

«تقوّله» : مشتقّ من مادّة تقوّل ـ على وزن تكلّف ـ ومعناه الكلام الذي يفتعله الإنسان بينه وبين نفسه دون أن يكون له واقع(١) .

وهذه ذريعة اخرى من ذرائع المشركين والكفّار المعاندين لئلّا يستسلموا أمام القرآن المجيد ودعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد تكرّرت الإشارة إليها مرارا عديدة في آيات القرآن!.

غير أنّ القرآن يردّ عليهم ردّا يدحرهم ويتحدّاهم متهكما فيقول :( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ ) .

فأنتم أناس مثله ولديكم العقل والقدرة على البيان والاطلاع والخبرة على أنواع الكلام فلم لا يأتي مفكّروكم وخطباؤكم وفصحاءكم بمثل هذا الكلام!.

وجملة «فليأتوا» أمر تعجيزي ، والهدف منه بيان عجزهم وعدم قدرتهم على مجاراة القرآن.

وهذا ما يعبّر عنه في علم الكلام والعقائد بالتحدّي أي دعوة المخالفين إلى المعارضة والإتيان بالمثل «في مواجهة المعجزات!».

وعلى كلّ حال ، فهذه آية من الآيات التي تبيّن إعجاز القرآن بجلاء ، ولا يختصّ مفهومها بمن عاصروا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل يشمل جميع الذين يزعمون ـ بأنّ القرآن كلام بشر ، وأنّه مفترى على الله ـ على امتداد القرون والأعصار ، فهم مخاطبون بهذه الآية أيضا أي هاتوا حديثا مثله إن كنتم تزعمون بأنّه ليس من الله وأنّه كلام بشر.

__________________

(١) يقول صاحب مجمع البيان : التقوّل : تكلّف ولا يقال ذلك إلّا في الكذب.

١٨٣

وكما نعلم بأنّ نداء القرآن في هذه الآية والآيات المشابهة كان عاليا أبدا ، ولم يستطع أي إنسان خلال أربعة عشر قرنا ـ منذ بعثة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى يومنا هذا ـ أن يرد بجواب إيجابي.

ومن المعلوم أنّ أعداء الإسلام وخاصّة أصحاب الكنيسة واليهود ينفقون ما لا يحصى من الأموال الطائلة للتبليغ ضدّ الإسلام ، فما كان يمنعهم أن يدعوا قسما منها تحت تصرّف أصحاب الفكر والقلم المخالفين لينهضوا بوجه معارضة القرآن ويكونوا مصداقا لقوله تعالى :( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ) وهذا العجز «العمومي» شاهد حي على أصالة هذا الوحي السماوي!

يقول بعض المفسّرين في هذا الصدد شيئا جديرا بالملاحظة فلا بأس بالالتفات والإصغاء إليه

«إنّ في هذا القرآن سرّا خاصا يشعر به كلّ من يواجه نصوصه ابتداء قبل أن يبحث عن مواضع الإعجاز فيها إنّه يشعر بسلطان خاصّ في عبارات هذا القرآن يشعر أنّ هنالك شيئا ما وراء المعاني التي يدركها العقل من التعبير وأنّ هنالك عنصرا ما ينسكب في الحسّ بمجرّد الاستماع لهذا القرآن ، يدركه بعض الناس واضحا ويدركه بعض الناس غامضا ، ولكنّه على كلّ حال موجود هذا العنصر الذي ينسكب في الحسّ ، يصعب تحديد مصدره ، أهو العبارة ذاتها؟! أهو المعنى الكامن فيها ، أهو الصور والضلال التي تشعّها؟ أهو الإيقاع القرآني الخاصّ المتميّز من إيقاع سائر القول المصوغ من اللغة؟. أهي هذه العناصر كلّها مجتمعة؟. أم أنّها هي وشيء آخر وراءها غير محدود!

ذلك سرّ مستودع في كلّ نصّ قرآني ، يشعر به كلّ من يواجه نصوص هذا القرآن ابتداء ثمّ تأتي وراءه الأسرار المدركة بالتدبير والنظر والتفكير في بناء

١٨٤

القرآن كلّه»(١) .

ولمزيد الإيضاح حول إعجاز القرآن من أبوابه المختلفة يراجع ذيل الآية (٢٣) من سورة البقرة إذ ذكرنا هناك بحثا مفصّلا في هذا الصدد وكذلك ذيل الآية (٨٨) من سورة الإسراء.

* * *

__________________

(١) في ظلال القرآن ، ج ٧ ، ص ٦٠٥.

١٨٥

الآيات

( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣) )

التّفسير

ما هو كلامكم الحقّ؟

هذه الآيات تواصل البحث الاستدلالي السابق ـ كذلك ـ وهي تناقش المنكرين للقرآن ونبوّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقدرة الله سبحانه.

وهي آيات تبدأ جميعها بـ «أم» التي تفيد الاستفهام وتشكّل سلسلة من

١٨٦

الاستدلال في أحد عشر سؤالا متتابعا (بصورة الاستفهام الإنكاري) ، وبتعبير أجلى : إنّ هذه الآيات تسدّ جميع الطرق بوجه المخالفين فلا تدع لهم مهربا في عبارات موجزة ومؤثّرة جدّا بحيث ينحني الإنسان لها من دون إختياره إعظاما ويعترف ويقرّ بانسجامها وعظمتها. فأوّل ما تبدأ به هو موضوع الخلق فتقول :( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ ) (١) .

وهذه العبارة الموجزة والمقتضبة في الحقيقة هي إشارة إلى «برهان العليّة» المعروف الوارد في الفلسفة وعلم الكلام لإثبات وجود الله ، وهو أنّ العالم الذي نعيش فيه ممّا لا شكّ ـ فيه ـ حادث (لأنّه في تغيير دائم ، وكلّ ما هو متغيّر فهو في معرض الحوادث ، وكلّ ما هو في معرض الحوادث محال أن يكون قديما وأزليّا).

والآن ينقدح هذا السؤال ، وهو إذا كان العالم حادثا فلا يخرج عن الحالات الخمس التالية :

١ ـ وجد من دون علّة!

٢ ـ هو نفسه علّة لنفسه.

٣ ـ معلولات العالم علّة لوجوده.

٤ ـ إنّ هذا العالم معلول لعلّة اخرى وهي معلولة لعلّة اخرى إلى ما لا نهاية.

٥ ـ إنّ هذا العالم مخلوق لواجب الوجود الذي يكون وجوده ذاتيا له.

وبطلان الاحتمالات الأربع المتقدّمة واضح ، لأنّ وجود المعلول من دون علّة محال ، وإلّا فينبغي أن يكون كلّ شيء موجودا في أي ظرف كان ، والأمر ليس كذلك!

والاحتمال الثاني وهو أن يوجد الشيء من نفسه محال أيضا ، لأنّ مفهومه أن

__________________

(١) هناك تفسيرات أخر واحتمالات متعدّدة في وجوه هذه الآية ، منها أنّ مفادها : هل خلقوا بلا هدف ولم يك عليهم أيّة مسئولية؟! وبالرغم أنّ جماعة من المفسّرين اختاروا هذا الوجه إلّا أنّه مع الالتفات لبقيّة الآية :( أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) يتّضح أنّ المراد هو ما ذكر في المتن ، أي خلقوا من دون علّة. أم هم علّة أنفسهم؟!.

١٨٧

يكون موجودا قبل وجوده ، ويلزم منه اجتماع النقيضين [فلاحظوا بدقّة].

وكذلك الاحتمال الثالث وهو أنّ مخلوقات الإنسان خلقته ، وهو واضح البطلان إذ يلزم منه الدور!.

وكذلك الاحتمال الرابع وهو تسلسل العلل وترتّب العلل والمعلول إلى ما لا نهاية أيضا محال ، لأنّ سلسلة المعلولات اللّامحدودة مخلوقة ، والمخلوق مخلوق ويحتاج إلى خالق أوجده ، ترى هل تتحوّل الأصفار التي لا نهاية لها إلى عدد؟! أو ينفلق النور من ما لا نهاية الظلمة؟! وهل يولد الغنى من ما لا نهاية له في الفقر والفاقة؟

فبناء على ذلك لا طريق إلّا القبول بالاحتمال الخامس ، أي خالقية واجب الوجود [فلاحظوا بدقّة أيضا].

وحيث أنّ الركن الأصلي لهذا البرهان هو نفي الاحتمال الأوّل والثاني فإنّ القرآن اقتنع به فحسب.

والآن ندرك جيّدا وجه الاستدلال في هذه العبارات الموجزة!

الآية التالية تثير سؤالا آخر على الادّعاء في المرحلة الأدنى من المرحلة السابقة فتقول :( أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) .

فإذا لم يوجدوا من دون علّة ولم يكونوا علّة أنفسهم أيضا ، فهل هم واجبو الوجود فخلقوا السماوات والأرض؟! وإذا لم يكونوا قد خلقوا الوجود ، فهل أو كل الله إليهم أمر خلق السماء والأرض؟ فعلى هذا هم مخلوقون وبيدهم أمر الخلق أيضا!!.

من الواضح أنّهم لا يستطيعون أن يدّعوا هذا الادّعاء الباطل ، لذلك فإنّ الآية تختتم بالقول :( بَلْ لا يُوقِنُونَ ) !

أجل ، فهم يتذرّعون بالحجج الواهية فرارا من الإيمان!

ثمّ يتساءل القرآن قائلا : فإذا لم يدّعوا هذه الأمور ولم يكن لهم نصيب في

١٨٨

الخلق ، فهل عندهم خزائن الله( أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ ) (١) ليهبوا من شاؤوا نعمة النبوّة والعلم أو الأرزاق الآخر ويمنعوا من شاؤوا ذلك :( أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ ) على جميع العوالم وفي أيديهم امور الخلائق؟!

انّهم لا يستطيعون ـ أن يدّعوا أبدا أنّ عندهم خزائن الله تعالى ، ولا يملكون تسلّطا على تدبير العالم ، لأنّ ضعفهم وعجزهم إزاء أقل مرض بل حتّى على بعوضة تافهة وكذلك احتياجهم إلى الوسائل الابتدائية للحياة خير دليل على عدم قدرتهم وفقدان هيمنتهم! وإنّما يجرّهم إلى إنكار الحقائق هوى النفس والعناد وحبّ الجاه والتعصّب والأنانية!.

وكلمة : «مصيطرون» إشارة إلى أرباب الأنواع التي هي من خرافات القدماء ، إذ كانوا يعتقدون أنّ كلّ نوع من أنواع العالم إنسانا كان أمّ حيوانا آخر أم جمادا أم نباتا له مدبّر وربّ خاصّ يدعى بربّ النوع ويدعون الله «ربّ الأرباب» وهذه العقيدة تعدّ في نظر الإسلام «شركا» والقرآن في آياته يصرّح بأنّ التدبير لجميع الأشياء هو لله وحده ويصفه بربّ العالمين.

وأصل هذه الكلمة من «سطر» ومعناه صفّ الكلمات عند الكتابة ، و «المسيطر» كلمة تطلق على من له تسلّط على شيء ما ويقوم بتوجيهه ، كما أنّ الكاتب يكون مسيطرا على كلماته (وينبغي الالتفات إلى أنّ هذه الكلمة تكتب بالسين وبالصاد على السواء ـ مسيطر ومصيطر ـ فهما بمعنى واحد وإن كان الرسم القرآن المشهور بالصاد «مصيطر»).

ومن المعلوم أنّه لا منكرو النبوّة ولا المشركون في العصر الجاهلي ولا سواهما يدّعي أيّا من الأمور الخمسة التي ذكرها القرآن ، ولذلك فإنّه يشير إلى موضوع آخر في الآية التالية فيقول : إنّ هؤلاء هل يدعون أنّ الوحي ينزل عليهم

__________________

(١) الخزائن جمع الخزينة ومعناها مكان كلّ شيء محفوظ لا تصل إليه اليد ويدّخر فيه ما يريد الإنسان يقول القرآن في هذا الصدد( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [الحجر الآية ٢١].

١٨٩

أو يدعون أنّ لهم سلّما يرتقون عليه إلى السماء فيستمعون إلى أسرار الوحي :( أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ ) .

وحيث إنّه كان من الممكن أن يدّعوا بأنّهم على معرفة بأسرار السماء فإنّ القرآن يطالبهم مباشرة بعد هذا الكلام بالدليل فيقول :( فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) .

ومن الواضح أنّه لو كانوا يدّعون مثل هذا الادّعاء فإنّه لا يتجاوز حدود الكلام فحسب ، إذ لم يكن لهم دليل على ذلك أبدا(١) .

ثمّ يضيف القرآن قائلا : هل صحيح ما يزعمون أنّ الملائكة إناث وهم بنات الله؟!( أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ) ؟!

وفي هذه الآية إشارة إلى واحد من اعتقاداتهم الباطلة ، وهو استياؤهم من البنات بشدّة ، وإذا علموا أنّهم رزقوا من أزواجهم «بنتا» اسودّت وجوههم من الحياء والخجل! ومع هذا فإنّهم كانوا يزعمون أنّ الملائكة بنات الله ، فإذا كانوا مرتبطين بالملإ الأعلى ويعرفون أسرار الوحي ، فهل لديهم سوى هذه الخرافات المضحكة وهذه العقائد المخجلة؟!

وبديهي أنّ الذكر والأنثى لا يختلفان في نظر القيمة الإنسانية والتعبير في الآية المتقدّمة هو في الحقيقة من قبيل الاستدلال بعقيدتهم الباطلة ومحاججتهم بها.

والقرآن يعوّل ـ في آيات متعدّدة ـ على نفي هذه العقيدة الباطلة ويحاكمهم في هذا المجال ويفضحهم(٢) !!

__________________

(١) سلّم يعني «المصعد» كما يأتي بمعنى أيّة وسيلة كانت وقد اختلف المفسّرون في المراد من الآية فأيّ شيء كانوا يدعونه؟! فقال بعضهم : ادّعوا الوحي وقال آخرون هو ما كانوا يدّعونه في النّبي بأنّه شاعر أو مجنون أو ما كانوا يدّعون من الأنداد والشركاء لله وفسّر بعضهم ذلك بنفي نبوّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ولا مانع من الجمع بين هذه المعاني وإن كان المعنى الأوّل أجلى».

(٢) كانت لنا بحوث مفصّلة في سبب جعل العرب الملائكة بنات الله في الوقت الذي كانوا يستاءون من البنات. وذكرنا

١٩٠

ثمّ يتنازل القرآن إلى مرحلة اخرى ، فيذكر واحدا من الأمور التي يمكن أن تكون ذريعة لرفضهم فيقول :( أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ) .

«المغرم» ـ على وزن مغنم وهو ضدّ معناه ـ أي ما يصيب الإنسان من خسارة أو ضرر دون جهة ، أمّا الغريم فيطلق على الدائن والمدين أيضا.

و «المثّقل» مشتقّ من الأثقال ، ومعناه تحميل العبء والمشقّة ، فبناء على هذا المعنى يكون المراد من الآية : ترى هل تطلب منهم غرامة لتبليغ الرسالة فهم لا يقدرون على أدائها ولذلك يرفضون الإيمان؟!

وقد تكرّرت الإشارة في عدد من الآيات القرآنية لا في النّبي فحسب ، بل في شأن كثير من الأنبياء ، إذ كان من أوائل كلمات النبيين قولهم لأممهم : لا نريد على إبلاغنا الرسالة إليكم أجرا ليثبت عدم قصدهم شيئا من وراء دعوتهم ولئلّا تبقى ذريعة للمتذرّعين أيضا.

ومرّة اخرى يخاطبهم القرآن متسائلا( أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ) فهؤلاء يدّعون أنّ النّبي شاعر وينتظرون موته لينطوي بساطه وينتهي كلّ شيء بموته وتلقى دعوته في سلّة الإهمال ، كما تقدّم في الآية السابقة ذلك على لسان المشركين إذ كانوا يقولون( نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) .

فمن أين لهم أنّهم سيبقون أحياء بعد وفاة النبي؟! ومن أخبرهم بالغيب؟!

ويحتمل أيضا أنّ القرآن يقول إذا كنتم تدّعون معرفة الأسرار الغيبية وأحكام الله ولستم بحاجة إلى القرآن ودين محمّد فهذا كذب عظيم(١) .

ثمّ يتناول القرآن احتمالا آخر فيقول : لو لم يكن كلّ هذه الأمور المتقدّمة ، فلا بدّ أنّهم يتآمرون لقتل النّبي وإجهاض دعوته ولكن ليعلموا أنّ كيد الله أعلى

__________________

الدلائل الحيّة التي أقامها القرآن ضدّهم فليراجع ذيل الآية (٥٧) سورة النحل وذيل الآية (١٤٩) من سورة الصافات

(١) قال بعض المفسرين أنّ المراد بالغيب هو اللوح المحفوظ ، وقال بعضهم : بل هو إشارة إلى ادّعاءات المشركين وقولهم إذ كانت القيامة فسيكون لنا عند الله مقام كريم. إلّا أنّ هذه التفاسير لا تتناسب والآية محلّ البحث ولا يرتبط بعضها ببعض.

١٩١

وأقوى من كيدهم :( أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ ) (١) .

والآية الآنفة يطابق تفسيرها تفسير الآية (٥٤) من سورة آل عمران التي تقول :( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ) .

واحتمل جماعة من المفسّرين أنّ المراد من الآية محلّ البحث هو : «انّ مؤامراتهم ستعود عليهم أخيرا وتكون وبالا عليهم ...» وهذا المعنى يشبه ما ورد في الآية (٤٣) من سورة فاطر :( وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ) .

والجمع بين التّفسيرين الآنفين ممكن ولا مانع منه.

ويمكن أن يكون لهذه الآية ارتباط آخر بالآية المتقدّمة ، وهو أنّ أعداء الإسلام كانوا يقولون : ننتظر موت محمّد. فالقرآن يردّهم بالقول بأنّهم ليسوا خارجين عن واحد من الأمرين التاليين أمّا أنّهم يدّعون بأنّ محمّدا يموت قبل موتهم حتف أنفه. فلازم هذا الادّعاء أنّهم يعلمون الغيب ، وأمّا أنّ مرادهم أنّه سيمضي بمؤامراتهم فالله أشدّ مكرا ويردّ كيدهم إليهم ، فهم المكيدون!

وإذا كانوا يتصوّرون أنّ في اجتماعهم في دار الندوة ورشق النّبي بالتّهم كالكهانة والجنون والشعر أنّهم سينتصرون على النّبي فهم في منتهى العمى والحمق ، لأنّ قدرة الله فوق كلّ قدرة ، وقد ضمن لنبيّه السلامة والنجاة حتّى يبلغ دعوته العالمية.

وأخيرا فإنّ آخر ما يثيره القرآن من أسئلة في هذا الصدد قوله :( أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ ) ؟! ويضيف ـ منزّها ـ( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

فعلى هذا لا أحد يستطيع أن يمنعهم من الله ويحميهم ، وهكذا فإنّ القرآن يستدرجهم ويضعهم أمام استجواب عجيب وأسئلة متّصلة تؤلّف سلسلة متكاملة مؤلّفة من أحد عشر سؤالا! ويقهقرهم مرحلة بعد مرحلة إلى الوراء!! ويضطرهم

__________________

(١) الكيد على وزن صيد نوع من الحيلة وقد يستعمل في التحيّل إلى سبيل الخير ، إلّا أنّه غالبا ما يستعمل في الشرّ ، وتعني هذه الكلمة المكر والسعي أو الجدّ كما تعني الحرب أحيانا

١٩٢

إلى التنزّل من الادّعاءات ثمّ يوصد عليهم سبل الفرار كلّها ويحاصرهم في طريق مغلق!.

كم هي رائعة استدلالات القرآن وكم هي متينة أسئلته واستجوابه! فلو أنّ في أحد منهم روحا تبحث عن الحقّ وتطلبه لأذعنت أمام هذه الأسئلة واستسلمت لها.

الطريف أنّ الآية الأخيرة من الآيات محلّ البحث لا تذكر دليلا لنفي المعبودات ممّا سوى الله ، وتكتفي بتنزيه الله( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

وذلك لأنّ بطلان الوهية الأصنام والأوثان المصنوعة من الأحجار والخشب وغيرهما مع ما فيها من ضعف واحتياج أجلى وأوضح من أي بيان وتفصيل آخر ، أضف إلى كلّ ذلك فإنّ القرآن استدلّ على إبطال هذا الموضوع بآيات متعدّدة غير هذه الآية.

* * *

١٩٣

الآيات

( وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩) )

التّفسير

إنّك بأعيننا!

تعقيبا على البحث الوارد في الآيات المتقدّمة الذي يناقش المشركين والمنكرين المعاندين ، هذا البحث الذي يكشف الحقيقة ساطعة لكلّ إنسان يطلب الحقّ ، تميط الآيات محلّ البحث النقاب عن تعصّبهم وعنادهم فتقول :( وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ ) (١) .

__________________

(١) «الكشف» : على وزن فسق ـ معناه القطعة من كلّ شيء ، ومع ملاحظة بقيّة التعبير. «من السماء» : يظهر المراد منه هنا

١٩٤

هؤلاء المشركين معاندون إلى درجة إنكارهم الحقائق الحسيّة وتفسيرهم الحجارة الساقطة من السماء بالسحاب ، مع أنّ كلّ من رأى السحاب حين ينزل ويقترب من الأرض لم يجده سوى بخار لطيف ، فكيف يتراكم هذا البخار اللطيف ويتبدّل حجرا!؟

وهكذا يتّضح حال هؤلاء الأشخاص إزاء الحقائق المعنوية! أجل انّ ظلمة الإثم وعبادة الهوى والعناد كلّ ذلك يحجب أفق الفكر السليم فيجعله متجهّما حتّى تنجرّ عاقبة أمره إلى إنكار المحسوسات وبذلك ينعدم الأمل في هدايته.

و «المركوم» معناه المتراكم ، أي ما يكون بعضه فوق بعض!

لذلك فإنّ الآية التالية تضيف بالقول :( فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ) .

وكلمة «يصعقون» مأخوذة من صعق ، والإصعاق هو الإهلال ، وأصله مشتقّ من الصاعقة ، وحين أنّ الصاعقة تهلك من تقع عليه فإنّ هذه الكلمة استعملت بمعنى الإهلاك أيضا.

وقال بعض المفسّرين أنّ هذه الجملة تعني الموت العامّ والشامل الذي يقع آخر هذه الدنيا مقدّمة للقيامة.

إلّا أنّ هذا التّفسير يبدو بعيدا ، لأنّهم لا يبقون إلى ذلك الزمان بل الظاهر هو المعنى الأوّل ، أي دعهم إلى يوم موتهم الذي يكون بداية لمجازاتهم والعقاب الاخروي!

ويتبيّن ممّا قلنا أنّ جملة «ذرهم» أمر يفيد التهديد ، والمراد منه أنّ الإصرار على تبليغ مثل هؤلاء الأفراد لا يجدي نفعا إذ لا يهتدون.

فبناء على ذلك لا ينافي هذا الحكم إدامة التبليغ على المستوى العامّ من قبل

__________________

القطعة من حجر السماء ، وقد دلّت عليه بعض كتب اللغة وهذه الكلمة تجمع على كسف على وزن عنب ، إلّا أنّ أغلب المفسّرين يرون بأنّ الكلمة هنا مفردة وظاهر الآية أنّها مفردة أيضا ، لأنّها وصفتها بالمفرد ساقطا

١٩٥

النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا ينافي الأمر بالجهاد. فما يقوله بعض المفسّرين أنّ هذه الآية نسخت آيات الجهاد غير مقبول!

ثمّ يبيّن القرآن في الآية التالية هذا اليوم فيقول :( يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) .

أجل : من يمت تقم قيامته الصغرى «من مات قامت قيامته» وموته بداية للثواب أو العقاب الذي يكون قسم منه في البرزخ والقسم الآخر في القيامة الكبرى ، أي القيامة العامّة ، وفي هاتين المرحلتين لا تنفع ذريعة متذرّع ولا يجد الإنسان وليّا من دون الله ولا نصيرا.

ثمّ تضيف الآية أنّه لا ينبغي لهؤلاء أن يتصوّروا أنّهم سيواجهون العذاب في البرزخ وفي القيامة فحسب ، بل لهم عذاب في هذه الدنيا أيضا :( وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) .

أجل ، إنّ على الظالمين أن ينتظروا في هذه الدنيا عذابا كعذاب الأمم السابقة كالصاعقة والزلازل والكسف من السماء والقحط أو القتل على أيدي جيش التوحيد كما كان ذلك في معركة بدر وما ابتلي به قادة المشركين فيها إلّا أنّ يتيقّظوا ويتوبوا ويعودوا إلى الله آيبين منيبين.

وبالطبع فإنّ جماعة منهم ابتلوا بالقحط والمحل ، ومنهم من قتل في معركة بدر كما ذكرنا آنفا ـ إلّا أنّ طائفة كبيرة تابوا وأنابوا والتحقوا بصفوف المسلمين الصادقين فشملهم الله بعفوه(١) .

وجملة( وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) تشير إلى أنّ أغلب أولئك الذين ينتظرهم العذاب في الدنيا والآخرة هم جهلة ، ومفهومها أنّ القليل منهم يعرف هذا المعنى ، إلّا أنّه في الوقت ذاته يصرّ على المخالفة لما فيه من اللجاجة والعناد عن الحقّ.

__________________

(١) من قال بأنّ جملة فيه يصعقون تشير إلى يوم القيامة فسّر العذاب «في الآية» محلّ البحث بعذاب البرزخ في القبر ، إلّا أنّه حيث كان تفسيرها ضعيفا فهذا الاحتمال ضعيف أيضا.

١٩٦

وفي الآية التالية يخاطب القرآن نبيّه ويدعوه إلى الصبر أمام هذه التّهم والمثبّطات وأن يستقيم فيقول :( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ) (١) .

فإذا ما اتّهموك بأنّك شاعر أو كاهن أو مجنون فاصبر ، وإذا زعموا بأنّ القرآن مفترى فاصبر ، وإذا أصرّوا على عنادهم وواصلوا رفضهم لدعوتك برغم كلّ هذه البراهين المنطقيّة فاصبر ، ولا تضعف همّتك ويفتر عزمك :( فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا ) !.

نحن نرى كلّ شيء ونعلم بكلّ شيء ولن ندعك وحدك.

وجملة( فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا ) تعبير لطيف جدّا حاك عن علم الله وكذلك كون النّبي مشمولا بحماية الله الكاملة ولطفه!

أجل ، إنّ الإنسان حين يحسّ بأنّ قادرا كبيرا ينظره ويرى جميع سعيه وعمله ويحميه من أعدائه فإنّ إدراك هذا الموضوع يمنحه الطاقة والقوّة أكثر كما يحسّ بالمسؤولية بصورة أوسع.

وحيث أنّ الحاجة لله وعبادته وتسبيحه وتقديسه وتنزيهه والالتجاء إلى ذاته المقدّسة كلّ هذه الأمور تمنح الإنسان الدّعة والاطمئنان والقوّة ، فإنّ القرآن يعقّب على الأمر بالصبر بالقول :( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ) .

سبّحه حين تقوم سحرا للعبادة وصلاة الليل.

... وحين تنهض من نومك لأداء الصلاة الواجبة.

... وحين تقوم من أي مجلس ومحفل ، فسبّحه واحمده.

وللمفسّرين أقوال مختلفة في تفسير هذه الآية ، إلّا أنّ الجمع بين هذه الأقوال ممكن أيضا ، سواء كان الحمد التسبيح سحرا ، أو عند صلاة الفريضة ، أو عند القيام من أي مجلس كان.

__________________

(١) قد يكون المراد من «حكم ربّك» هو تبليغ حكم الله الذي امر النّبي به ، فعليه أن يصير عند إبلاغه ، أو أنّه عذاب الله الذي وعد أعداؤه به أي : اصبر يا رسول الله حتّى يعذّبهم الله ، أو المراد منه أوامر أي بما إنّ الله أمرك فاصبر لحكمه ، والجمع بين هذه المعاني وإن كان ممكنا إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب خاصّة بملاحظة فإنّك بأعيننا.

١٩٧

أجل ، نوّر روحك وقلبك بتسبيح الله وحمده فإنّهما يمنحان الصفاء وعطر لسانك بذكر الله واستمدّ منه المدد واستعدّ لمواجهة أعدائك!.

وقد جاء في روايات متعدّدة أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين كان يقوم من مجلسه كان يسبّح الله ويحمده ويقول : «إنّه كفّارة المجلس»(١) .

ومن ضمن ما كان يقول بعد قيامه من مجلس كما جاء في بعض الأحاديث عنه : «سبحانك اللهمّ وبحمدك أشهد أن لا إله إلّا أنت أستغفرك وأتوب إليك!».

وسأل بعضهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذه الكلمات فقال : «هنّ كلمات علمنيهنّ جبرئيل كفّارات لما يكون في المجلس»(٢) .

ثمّ يضيف القرآن في آخر آية من الآيات محلّ البحث قائلا :( وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ ) .

وقد فسّر كثير من المفسّرين جملة( وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ ) بصلاة الليل ، وأمّا إدبار النجوم فقالوا هي إشارة إلى «نافلة الصبح» التي تؤدّي عند طلوع الفجر واختفاء النجوم بنور الصبح.

كما ورد في حديث عن عليعليه‌السلام أنّ المراد من «إدبار النجوم» هو «ركعتان قبل الفجر» نافلة الصبح اللتان تؤدّيان قبل صلاة الصبح وعند غروب النجوم ، أمّا «إدبار السجود» الوارد ذكرها في الآية ٤٠ من سورة «ق» فإشارة إلى «ركعتان بعد المغرب» «وبالطبع فإنّ نافلة المغرب أربع ركع إلّا أنّ هذا الحديث أشار إلى ركعتين منها فحسب»(٣) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ العبادة والتسبيح وحمد الله في جوف الليل وعند طلوع الفجر لها صفاؤها ولطفها الخاصّ ، وهي في منأى عن الرياء ، ويكون الاستعداد

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٩ ، ص ٢٤

(٢) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٢٠.

(٣) مجمع البيان ذيل الآية (٤٠) ، سورة ق ، ج ٩ ، ص ١٥٠.

١٩٨

الروحي لها أكثر في ذلك الوقت ، لأنّ الإنسان يكون فيه بعيدا عن امور الدنيا ومشاكلها ، والاستراحة في الليل تمنح الإنسان الدّعة ، فلا صخب ولا ضجيج ، وفي الحقيقة هذه الفترة تقترن بالوقت الذي عرج بالنّبي إلى السماء ، فبلغ قاب قوسين أو أدنى يناجي ربّه ويدعوه في الخلوة!

ولذلك فقد عوّلت الآيات محلّ البحث على هذين الوقتين ، ونقرأ حديثا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول فيه : ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها(١) .

اللهمّ وفّقنا للقيام في السحر ومناجاتك طوال عمرنا.

اللهمّ اجعل قلوبنا بعشقك مطمئنة ونوّرها بمحبّتك وأمّلها بلطفك.

اللهمّ منّ علينا بالصبر والاستقامة بوجه قوى الشياطين ومؤامرات أعدائك وكيدهم لنتأسّى برسولك فنعيش على هديه ونموت على سنّته.

آمين يا ربّ العالمين

انتهاء سورة الطّور

* * *

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٩ ص ٦٢٥١ ذيل الآيات محلّ البحث.

١٩٩
٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420