مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)15%

مقتل العباس (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 394

  • البداية
  • السابق
  • 394 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 78994 / تحميل: 12039
الحجم الحجم الحجم
مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

وفائه بالأحكام الشرعيّة بالبداهة؛ وجب على الاُمّة إطاعة هذا الإمام، فالمراد من المؤمنين في هذه الآية، ومن اُولي الأمر في قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) (١) . شيءٌ واحد، وقد انحصر مصداقه في سيّد الوصيّين وأبنائه المعصومين الأحد عشرعليهم‌السلام بالتواتر عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فالنّصح الذي أشار إليه الإمامعليه‌السلام في الزيارة هو لازم تلك الطاعة ومقتضى الولاية تحت جامع واحد، وهو: لزوم مناصرة الدِّين والصادع به، المـُنبسط على ذات الباري تعالى والرسول والإمام كُلٍّ في مرتبته.

وقد أفادنا هذا الخطاب أنّ مفادات أبي الفضل ومواساته لم تكُنْ لمحض الرحم الماسّة والإخاء الواشج، ولا لأنّ الحسينعليه‌السلام سيّدُ اُسرته وكبيرُ قومه، وإنْ كان في كُلٍّ منها يُمدح عليه هذا النّاهض، لكنّها جمعاء كانت مُندكّة في جنب ما أثاره ( عباسُ البصيرة ) من لزوم مواساة صاحب الدِّين، والتهالك دون دعوته، سواء كانت المفادات بعين المـُشرّع سبحانه، أو تحت راية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو إمام الوقت، وكُلّ بعين اللّه وعن مرضاته جلّ شأنه، وقد اجتمعت في مشهد الطَّفِّ تحت راية الحسينعليه‌السلام .

إنّ من الواجب إمعان النّظر في عمله النّاصع حين ملك الشريعة فاغترف غرفة من الماء ليشرب، ولكن ألزمه حقُّ اليقين وقوّةُ الإيمان أنْ ينفض الماء من يده، حيث لم يَرَ له مساغاً في التأخير عن سقاية حجّة الوقت الإمام المعصوم، وحرم النّبوَّة، ولو

____________________

(١) سورة النّساء / ٥٩.

١٨١

بمقدار التروِّي من الماء هُنيئة، بل عرف أنّ الواجب عليه الإبقاء على مهجة خليفة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بسقايته ولو في آنٍ يسير، إذ الحالة شرع سواء بين قليل الزَّمان وكثيره؛ ولذلك نُسب فعله هذا إلى الدِّين، حيث يقول: تاللّهِ ما هذا فعالُ ديني.

على أنّ شيخنا العلاّمة الشيخ عبد الحسين الحلّي يُحدّث في النّقد النّزيه ج١ ص١٠٠، عن فخر الذاكرين الثقة الثبت الشيخ ميرزا هادي الخراساني النّجفي، نقلاً عن ( عدّة الشهور ): إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام دعا العبّاس وضمّه إليه وقبّل عينيه، وأخذ عليه العهد إذا ملك الماء يوم الطَّفِّ أنْ لا يذوق منه قطرة واُخوه الحسينعليه‌السلام عطشان.

فقول أرباب المقاتل: نفضَ الماء من يده ولم يشرب، إنّما هو لأجل الوصيّة من أبيه المرتضى (ع).

لَم يَذُقْ الفُراتَ اُسوةً بِهِ

مُيمِّمَاً بمائِهِ نَحوُ الخِبَا

لَم يَرَ فِي الدِّينِ يَبلُّ غُلَّةً

وصُنُوهُ فيِهِ الظَّمَا قَد ألهَبَا

والمـُرتَضَى أَوصَى إليهِ فِي ابنِهِ

وصيّةً صَدّتْهُ عَن أنْ يَشْرَبَا

لذَاكَ قَدْ أسنَدَهُ لِدينِهِ

وعَنْ يَقيِنٍ فِيهِ لَنْ يَضْطَرِبَا

هَذا مِنَ الشَّرعِ يَرى فِعلَتَهُ

ومِن صِراطِ أحمدٍ مَا ارتَكَبَا

وَمِثلُهُ الحُسينُ لَمّا مَلكَ ال

مَاءَ فَقِيلَ رَحلُهُ قَد نُهِبَا

أمَّ الخِيامَ نَافِضَاً لِماِئهِ

إذ عَظُمَ الأمرُ بِهِ واعَصُوصَبَا

فَكانَ للعَبّاسِ فِيهِ اُسوةٌ

إذ فَاضَ شَهمَاً غَيرَ مَفلُولِ الشِّبَا

١٨٢

عثرةُ التأريخ:

لقد كان من نفوذ بصيرة العبّاسعليه‌السلام أنّه لم تقنعه هاتيك التضحية المشهودة منه، والجهاد البالغ حدّه حتّى راقه أنْ يفوز بتجهيز المجاهدين في ذلك المأزق الحرج، والدعوة إلى السّعادة الخالدة في رضوان اللّه الأكبر، وأنْ يحظى باُجور الصابرين على ما يَلمّ به من المصاب بفقد الأحبّة، فدعا إخوته من اُمّه وأبيه، وهم: عبد اللّه، وجعفر، وعثمان، وقال لهم: تقدّموا حتّى أراكم قد نصحتم للّه ولرسوله؛ فإنّه لا ولد لكم(١) .

فإنّه أراد بذلك تعريف إخوته حقّ المقام، وأنّ مثولهم بهذا الموقف لم يكنْ مصروفاً إلاّ إلى جهة واحدة، وهي: المفادات والتضحية في سبيل الدِّين، إذ لم يكن لهم أي شائبة أو شاغلة تلهيهم عن القصد الأسنى من عوارض الدنيا؛ من مراقبة أمر الأولاد بعدهم، ومَن يرأف بهم ويُربِّيهم، فاللازم حينئذ السّير إلى الغاية الوحيدة، وهي: الموت دون حياة الشريعة المـُقدّسة، فكانوا كما شاء ظنُّه الحَسَن بهم، حيث لم يألوا جهداً في الذبِّ عن قُدس الدِّين حتّى قضوا كراماً مُتلفّعين بدم الشهادة.

____________________

(١) الإرشاد للشيخ المفيد ٢ / ٢٠٩، مُثير الأحزان لابن نما / ٥٠، لواعج الأشجان / ١٧٨.

١٨٣

لكنْ هلمّ واقرأ العجيب الغريب فيما ذكر ابن جرير الطبري في التاريخ ج٦ ص٢٥٧، قال: وزعموا أنّ العبّاس بن علي قال لإخوته من اُمّه وأبيه؛ عبد اللّه وجعفر وعثمان: يا بني اُمّي، تقدّموا حتّى أرثكم؛ فإنّه لا ولد لكم. ففعلوا وقُتلوا(١) .

وقال أبو الفرج في مقاتل الطالبيين: قدّم أخاه جعفر بين يديه؛ لأنّه لم يكن له ولدٌ ليحوز ميراثه العبّاس، فشدّ عليه هاني بن ثبيت فقتله(٢) . وفي مقتل العبّاس، قال: قدّم إخوته لاُمّه وأبيه فقُتلوا جميعاً، فحاز مواريثهم، ثُمّ تقدّم وقُتل فورثهم وإيّاه عبيدُ اللّه، ونازعه في ذلك عمّه عمر بن علي، فصولح على شيء رضي به(٣) .

هذا غاية ما عندهم، وقد تفرّدا به من بين المؤرّخين وأرباب المقاتل، ولا يخفى على مَن له بصيرة وتأمّل بعدُهُ عن الصواب. وما أدري كيف خفي عليهما حيازة العبّاس ميراث إخوته مع وجود اُمّهم اُمّ البنين، وهي من الطبقة المـُتقدّمة على الأخ، ولم يجهل العبّاس شريعة تربّى في خلالها؟!

على أنّ هذه الكلمة لا تصدر من أدنى النّاس، سيّما في ذلك الموقف الذي يذهل الواقف عن نفسه وماله، فأيّ شخص كان يدور في خُلدهِ ذلك اليوم حيازة المواريث بتعريض ذويه وإخوته للقتل، وعلى الأخصّ يصدر ذلك من رجل يعلم أنّه لا يبقى بعدهم ولا يتهنّأ بمالهم، بل يكون فعله لمحض أنْ تتمتّع به أولاده؟!

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣٤٢، الكامل في التاريخ ٤ / ٧٦.

(٢) مقاتل الطالبيين لأبي الفرج / ٥٤.

(٣) مقاتل الطالبيين لأبي الفرج / ٥٥.

١٨٤

بئست الكلمة القبيحة التي راموا أنْ يُلوّثوا بها ساحة ذلك السيّد الكريم!

فهل ترغب أنت أنْ يقال لك: عرّضت إخوتك وبني اُمّك لحومة الوغى لتحوز مواريثهم؟! أمْ أنّ هذا من الدَّناءة والخسّة فلا ترضاه لنفسك، كما لا يرغب به سوقة النّاس وأدناهم، فكيف ترضى أيّها المـُنصف ذلك لمَن علّم النّاس الشّهامة وكرم الأخلاق، وواسى حجّة وقته بنفسه الزاكية؟! وكيف يُنسب هذا لخرّيج تلك الجامعة العُظمى والمدرسة الكبرى؛ جامعة النّبّوة ومدرسة الإمامة، وتربّى بحجر أبيهعليه‌السلام ، وأخذ المعارف منه ومن أخويه الإمامينعليهما‌السلام ؟!

ولو تأمّلنا جيداً في تقديمه إيّاهم للقتل، لعرفنا كبر نفسه، وغاية مفاداته عن أخيه السّبطعليه‌السلام ، فلذّة كبد النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومهجة البتولعليها‌السلام ، فإنّ من الواضح البيّن أنّ غرضه من تقديمهم للقتل:

١ - إمّا لأجل أنْ يشتدّ حزنه، ويعظم صبره، ويُرزأ بهم، ويكون هو المطالب بهم يوم القيامة، إذ لا ولد لهم يُطالبون بهم.

٢ - وإمّا لأجل حصول الاطمئنان والثقة من المفادات دون الدِّين أمامَ سيّد الشُّهداءعليه‌السلام ، ويشهد له ما ذكره الشيخ المفيد في الإرشاد، وابن نما في مُثير الأحزان من قوله لهم: تقدّموا حتّى أراكم قد نصحتم للّه ولرسوله؛ فإنّه لا ولد لكم. ولم يقصد بهم المخايل، وإنمّا رام أبو الفضل أنْ يتعرّف مقدار ولائهم لقتيل العبرة؛ وهذا منهعليه‌السلام إرفاق بهم وحنان عليهم، وأداء لحقّ الاُخوّة بإرشادهم إلى ما هو الأصلح لهم.

١٨٥

٣ - وإمّا لأجل أنْ يكون غرضه الفوز بأجر الشهادة بنفسه، والتجهيز للجهاد بتقديم إخوته ليُثاب أيضاً بأجر الصابرين، ويحوز كلتا السّعادتين، وربما يدلّ عليه ما ذكره أبو الفرج في مقتل عبد اللّه من قول العبّاس له: تقدّم بين يدَي حتّى أراك قتيلاً واحتسبك. فكان أوّل مَن قُتل من إخوته.

وذكر أبو حنيفة الدينوري، أنّ العبّاس قال لإخوته: تقدّموا بنفسي أنتم، وحاموا عن سيّدكم حتّى تموتوا دونه. فتقدّموا جميعاً وقُتلوا.

ولو أراد أبو الفضل من تقديمهم للقتل حيازة مواريثهم - وحاشاه - لم يكن لاحتساب أخيه عبد اللّه معنى، كما لا معنى لتفديتهم بنفسه الكريمة كما في الأخبار الطوال(١) .

وهناك مانع آخر من ميراث العبّاس لهم وحده حتّى لو قلنا على بُعدٍ ومنعٍ بوفاة اُمّ البنين يوم الطَّفِّ؛ فإنّ ولد العبّاس لم يكنْ هو الحائز لمواريثهم، لوجود الأطراف وعبيد اللّه بن النّهشلية؛ فإنهّما يشتركان مع العبّاس في الميراث، كما يُشاركهم سيّد شباب أهل الجنّة وزينب العقيلة، واُمُّ كلثوم ورقيّة، وغيرهنّ من بنات أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فكيف والحال هذا يختصّ العبّاس بالميراث وحده؟!

هذا كُلّه إنْ قلنا بوفاة اُمّ البنّين يوم الطَّفِّ، ولكنَّ التاريخ يُثبت حياتها يومئذ وأنّها بقيت بالمدينة، وهي التي كانت ترثي أولادها الأربعة.

____________________

(١) الأخبار الطوال / ٢٥٧.

١٨٦

والذي أظنّه أنّ منشأ ذلك التقوّل على العبّاس أنّه أوقفهم السّير على قوله لإخوته: لا ولد لكم. من غير رويّة وتفكير في غرضه ومراده، فحسبوه أنّه يُريد الميراث، فنّوه به واحد باجتهاده أو احتماله، وحسبه الآخرون رواية فشوّهوا به وجه التاريخ، ولم يفهموا المراد، ولا أصابوا شاكلة الغرض؛ فإنّ غرضه من قوله: لا ولد لكم تُراقبون حاله بعدكم، فأسرعوا في نيل الشهادة والفوز بنعيم الجنان.

على أنّ شيخنا العلاّمة الشيخ عبد الحسين الحلّي في النّقد النّزيه ج١ ص٩٩، احتمل تصحيف ( أرثكم ) من ( اُرزأ بكم ) أو ( أرزأكم )، وليس هذا ببعيد. وأقرب منه احتمال شيخنا الحجّة، الشيخ آغا بزرك مؤلّف كتاب ( الذريعة إلى تصانيف الشيعة ) تصحيف ( أرثكم ) من ( أرثيكم )، فكأنّهعليه‌السلام أرادأوّلاً : أنْ يفوز بالإرشاد إلى ناحية الحقّ،وثانياً : تجهيز المـُجاهدين،وثالثاً: البكاء عليهم ورثائهم؛ فإنّه محبوب للمولى تعالى.

ويُشبه قول العبّاس لإخوته قول عابس بن أبي شبيب الشاكري لشوذب مولى شاكر: يا شوذب، ما في نفسك أنْ تصنع؟ قال: اُقاتل معك دون ابن بنت رسول اللّه حتّى اُقتل. فقال: ذلك الظنّ بك، فتقدّم بين يدَي أبي عبد اللّه حتّى يحتسبك كما احتسبَ غيرَكَ من أصحابه، وحتّى احتسبك أنا؛ فإنّه لو كان معي السّاعة أحدٌ أنا أولى به منك لسرّني أنْ يتقدّم بين يدَي حتّى أحتسبه؛ فإنّ هذا يوم ينبغي لنا أنْ نطلب الأجر فيه بكُلِّ ما قدرنا عليه؛ فإنّه لا عمل بعد اليوم، وإنّما هو الحساب(١) . ( الطبري ج٦ ص٢٥٤ ).

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣٣٨.

١٨٧

حديث الصادقعليه‌السلام :

إنّ ما يتعرّف منه منزلة أبي الفضل العالية، وإثبات الخصال الحميدة له، إخبارُ أئمّة الدِّين العارفين بضمائر العباد وسرائرهم، الواقفين على نفسيّات الاُمّة على كَثَب بتحقّقها فيه، وقد عبثت أيدي التلف في أكثرها، فإنّ الصدوق يُحدّث في الخصال ج١ ص٣٥، بعد ذكره حديث السجّادعليه‌السلام في فضل العبّاس، أنّه أخرج الخبر بتمامه مع أخبارٍ في فضائل العبّاس في كتاب مقتل الحسينعليه‌السلام .

وظاهره أنّ هناك أخباراً كثيرة في فضل أبي الفضل زويت عنّا ككتابه المقتل، ولا غرو، فلقد اندثر بتعاقب الحوادث الكثير من المؤلّفات.

وكيف كان، فلعلّ من تلك الأخبار ما رواه في عمدة الطالب، عن الشيخ الجليل أبي نصر البخاري النّسّابة، عن المـُفضّل بن عمر، أنّه قال: قال الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام :« كان عمُّنا العبّاسُ بنُ عليٍّ نافذَ البصيرة، صلبَ الإيمانِ، جاهدَ مع أبي عبد اللّهِ وأبلى بلاءً حَسَناً، ومضى شهيداً » (١) .

وكذلك قولهعليه‌السلام فيما علّم شيعته أنْ يُخاطبوه به من لفظ الزيارة المروريّة بسند صحيح مُتَّفق عليه؛ فإنّه عند التأمّل فيما

____________________

(١) عمدة الطالب لابن عنبة / ٣٥٦، مقتل الحسين لأبي مخنف / ١٧٦. الأنوار العلويّة للنقدي / ٤٤٢.

١٨٨

خاطبه به الإمام العارف بأساليب الكلام ومقتضيات الأحوال، تظهر لنا الحقيقة، ونعرف منزلةً للعبّاس سامية لا تُعدّ ومنزلة المعصومين (عليهم السلام)، فقالعليه‌السلام في صدر سلام الإذن:« سلامُ اللّهِ، وسلامُ ملائكتهِ المـُقرّبين وأنبيائِهِ المـُرسَلين، وعباده الصالحين، وجميعِ الشُّهداء والصّدّيقين، الزَّاكيات الطَّيّبات، فيما تغتَدي وتروحُ عليكَ يابنَ أميرِ المـُؤمنين » .

فإنّه أشار بهذا إلى مصبِّ سلام اللّه الذي هو رحمته المتواصلة، والعطف الغير محدود، اللَّذين لا انقطاع لهما، وسلام الملائكة المـُشاهدين لمقادير الرِّجال في ملأ القدس وحظيرة الجلال، وسلام الأنبياء الذين لا يعدّون مرضات اللّه ووحيه في أفعالهم وتروكهم، وسلام الصالحين والشُّهداء الذين أدركوا بفضل الاتّصال بالرُّسل وأوصيائهم، أو بالتَّجرّد ومشاهدة الحقائق الثابتة في عالم الغيوب، زيادةً على ما عرفوه من مقام أبي الفضل وفضله.

فكُلُّ هؤلاء يتقرّبون إلى اللّه تعالى بالدّعاء له، واستنزال الرحمة منه سبحانه، وإهداء التّسليمات إليه؛ لما عرفوا أنّه من أقرب الوسائل إليه، وحيث كانت خالصة للزّلفة، ماحضة في التقرّب إليه جلّ ذكره، عادت زاكيةً طيّبةً بنصّ الزيارة:« الزَّاكيات الطَّيّبات » .

وأمّا على رواية ابن قولويه في كامل الزيارات من زيادة ( واو العطف ) قبل الزّاكيات الطَّيّبات، فيُراد بهما العنايات الخاصّة التي ليست بدعاءٍ من أحد، ولا بأسباب عاديّة، ولا يعدم هذه الأنبياء

١٨٩

والأوصياء والأقلّون ممّن اقتفوا أثرهم، وليست هي شرعة لكُلّ واردٍ، وإنّما يحظى بها الأفذاذ ممّن كهربتهم القداسة الإلهيّة، وجذبتهم جاذبة الصقع الربوبي، وهكذا المـُقرّبون والأفذاذ عند صعودهم.

وإذا قرأنا زيارة الصادقعليه‌السلام لجدّه الحسينعليه‌السلام :« سلامُ اللّهِ وسلامُ ملائكتِهِ فيما تروحُ وتغدو، والزَّاكيات الطَّاهرات لك، وعليك سلامُ الملائكةِ المـُقرَّبينَ والمـُسلِّمين لك بقلوبهم، والنّاطقين بفضلك... » (١) . وضح لنا أنّ منزلة أبي الفضل تضاهي منزلة الحسينعليه‌السلام ؛ حيث اُثبت له مثل هذا السّلام.

ثُمّ قالعليه‌السلام :« أشهد لك بالتسليم والتصديق، والوفاء والنّصيحة لخلف النّبي المرسل » (٢) . ها هنا أثبت لأبي الفضل منزلة التسليم التي هي من أقدس منازل السّالكين، وفوق مرتبة الرضا والتوكّل؛ فإنّ أقصى مرتبة الرضا أنْ يكون محبوب المولى سبحانه محبوباً له، موافقاً لطبعه، فالطبع ملحوظ فيه.

وأقصى مراتب التوكّل أنْ يُنزل نفسه بين يدي المولى سبحانه وتعالى منزلة الميّت بين يدي الغاسل، بحيث لا إرادة له إلاّ ما يفعله الغاسل به، فصاحب التوكّل مسلوب الإرادة، وأمّا صاحب التسليم فلا يرى لغير اللّه وجوداً مع اللّه فضلاً عن نفسه، ولا يكون له طبعٌ يوافق أو يخالف في الإرادة، أو نفساً قد تنفّست بالإرادة، فهو قريب من عالم الفناء.

____________________

(١) كامل الزيارات / ٣٥٨، بحار الأنوار ٩٨ / ١٤٨.

(٢) كامل الزيارات / ٤٤٠.

١٩٠

وهذه المرتبة فوق مرتبة التوكّل، التي هي فوق مرتبة الرضا، لا تحصل إلاّ بالبصيرة النّافذة، والوصول إلى أعلى مراتب اليقين، تلك المرتبة التي أخبر عنها أمير المؤمنينعليه‌السلام :« لو كُشِف الغطاءُ ما ازدَدتُ يقيناً » .

أمّا العناوين الثلاثة، وهي:التصديق ،والوفاء ،والنّصيحة ، فلا شكّ أنّ الإمامعليه‌السلام يُريد أنّ أبا الفضل في أرقى مراتبها؛ لانبعاثها عن التسليم وهو حقّ اليقين؛ فإنّه المناسب لتصديقه بأخيه الحجّة، وبنهضته في ذلك الموقف الحرج، وهكذا وفاؤه ونصيحته؛ فإنّ وفاء شخص لآخر كما يُمكن أنْ يكون لأجل الاُخوّة والرحم والصحبة، يمكنْ أنْ يكون لأجل المعرفة التامّة بما أوجب اللّه له من الحرمة والحقّ على الاُمّة.

 وحيث إنّ الإمامعليه‌السلام أثبت لأبي الفضل أرقى مرتبة السّالكين، وهي التسليم اللازم لحقّ اليقين، فلا بدّ أنْ يكون ما صدر منه من التصديق بنهضة أخيهعليه‌السلام ، والوفاء لحقّه والمـُناصحة في العمل، منبعثاً عن حقّ اليقين بذلك الأمر الواجب، لا لأجل أنّ الحسينعليه‌السلام أخوه أو رحمه أو ابن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فإنّ هذه المرتبة وإنْ مُدح عليها الشخص إلاّ أنّ المرتبة الاُولّى أرقى وأرفع، ولا ينالها إلاّ ذوو النّفوس القُدسيّة ممّن وجبت لهم العصمة.

ويؤيّد ذلك تعقيب العناوين الثلاثة بقولهعليه‌السلام :« لِخَلَفِ النّبيِّ المـُرْسَل » . فإنّه لو لم يرد هذا لقال في الخطاب: ( لأخيك ) أو ( للحسين ) أو ( لابن أمير المؤمنين )، فالتعبير بخلف النّبيِّ لا يُراد منه إلاّ أنّ الدافع لأبي الفضل على التسليم والتصديق، والوفاء والنّصيحة بالمفادات إلاّ كون الحسينعليه‌السلام إماماً مفروض الطّاعة، وهذا

١٩١

مغزى لا يبعث إليه إلاّ البصيرة المميّزة لشرف الغايات المـُتحرّية لكرائمها.

ثُمّ إنّ من تخصيص الإمامعليه‌السلام الخطاب له دون غيره من الشُّهداء، بقوله:« لَعنَ اللّهُ مَنْ جَهلَ حَقّكَ، واسْتَخفَّ بحُرمَتِكَ » . نعرف أنّ غيره من الشُّهداء لم يُدرك هذا المدى، وإنْ كان لكُلٍّ منهم حقّاً وحرمة، إلاّ أنّ شبل أمير المؤمنينعليه‌السلام كانت معارفه أوسع، وإيمانه أثبت، فكان له حقٌّ في الدِّين، وحقٌّ على الاُمّة لا يُنكر، فاستحقّ بكُلٍّ منهما اللعن على جاهلِهِ والمـُستخفِ به.

فالشُّهداء وإنْ أخلصوا في التضحية والمفادات، وكان منبعثاً عن طهارة الضمائر والمعرفة بحقِّ الإمامعليه‌السلام ، فلهم حقوقٌ وحُرمات، لكنّ لحقِّ العبّاس منعةً بين هاتيك الحقوق، ولحرمته بذخ بين تلك الحرمات، بعد ما ثبت منهما لأخيه الإمام المظلومعليه‌السلام ، لنفوذ بصيرته وصلابة إيمانه بنصّ الصادقعليه‌السلام .

ثُمّ قال الصادقعليه‌السلام في الزيارة المتلوّة داخل الحرم:« أشهدُ واُشهدُ اللّهَ أنّكَ مضيتَ على مَا مضَى به البَدريّون » (١) .

لقد جرى التشبيه بالبدريّين مجرى التقريب إلى الأذهان في الإشادة بموقف أبي الفضل من البصيرة؛ فإنّ أهلَ بدر أظهر أفراد أهل البصائر؛ لأنّهم قابلوا طواغيت قريش على حين ضعف في المسلمين، وقلّة في العدّة والعتاد، فلم يملكوا إلاّ فَرسين، أحدهما: لمرثد بن أبي مرثد الغنوي، والآخر: للمقداد بن الأسود الكندي، وكانوا يتعاقبون على سبعين بعير، الاثنان والثلاثة(٢) .

____________________

(١) المزار للشيخ المفيد / ١٢٢، المزار للمشهدي / ١٦٦، بحار الأنوار ٩٧ / ٤٢٧.

(٢) الطبقات الكبرى لابن سعد ٢ / ١٢، تاريخ الطبري ٢ / ١٧٢، سُبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي ٤ / ٢٤، تفسير البغوي ١ / ٢٨٣.

١٩٢

لكنّهم خاضوا غمرات الموت تحت راية النّبوَّة، بقوّة الإيمان وعتاد البصيرة، إلاّ مَن استولى الرَّينُ على قلبه، فردّوا سيوف قريش مفلولة، ورماحهم محطّمة، وجموعهم بين قتلى وأسرى ومُشرّدين، فحظوا بأوّل فتح إسلامي قويت به دعائمُهُ، وشُيّدت معالمـُه من الإمداد:( بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ ) (١) .

وأعظم من ذلك مشهد الطَّفِّ الذي التطمت فيه أمواج الموت، وكشفت الحرب عن ساقها، وكشفت عن نابها.

وللأخْطَارِ وَجهٌ مُكفَهِرٌ

يُشيِبُ لِهَولِهِ المـُردِي الغُلامُ

تَرَى الأبطَالَ مِنْ فَرقٍ سُكَارَى

يُدَارُ مِنَ الرَّدَى فِيهمْ مُدَامُ

فقابلهم عصبة الحقِّ من غير مدد يأملونه، أو نصرة يرقبونها، والعطش مُعتلج بصدورهم، ونشيج الفواطم من ورائهم، فتلقّوا جبال الحديد بكُلِّ صدرٍ رحيب وجنان طامن، فلم تسل تلك النّفوس الطّاهرة إلاّ على قتل اُميّة المنقوض، ولا اُريقت دماؤهم الزاكية إلاّ على حبلهم المـُنتكث، فلم تبرح آلُ حربٍ إلاّ كلعقة الكلب أنفه حتّى اكتُسحت معرّتُهم من أديم الأرض، وتفرّقوا أيدي سبا، فيوم الطَّفِّ فتحٌ إسلامي بعد الجاهليّة المـُستردَّة من جراء أعمال الأمويّين(٢) .

____________________

(١) سورة آل عمران / ١٢٥، قال تعالى:( بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ ) .

(٢) لقد أجاد العلاّمة السيّد باقر نجل آية اللّه السيّد محمّد الهنديرحمه‌الله ، إذ يقول:

لَو لَمْ تَكُنْ جُمعَتْ كُلُّ العُلا فينا

لكَانَ مَا كَانَ يَومَ الطّفِّ يَكفيِنَا

يَومٌ نَهضنَا كأمثالِ الاُسودِ بهِ

وأَقبلَتْ كالدِّبا زَحفَاً أعاديِنَا

جَاؤوا بسبعيِنَ ألفاً سَلْ بَقيَّتَهُمْ

هَل قَابلونَا وَقد جِئنَا بِسبْعينَا

١٩٣

وإليه أشار الإمام الشهيدعليه‌السلام في كتابه إلى بني هاشم لمـّا حلّ أرض كربلاء:« مَن لحقَ بيْ منكُمْ اسْتُشهدْ، ومَنْ تخلّفَ عنِّي لَمْ يَبلغ الفتحَ » (١) .

فإنّهعليه‌السلام لم يُرد بالفتح إلاّ ما ترتّب على نهضته المـُقدّسة وتضحيته الكريمة؛ من نقض دعائم الإلحاد، وكسح أشواك الباطل عن صراط الشريعة المـُطهّرة، وإحياء دين جدّه الصادع به الذي لاقى المتاعب في تأييده وتشييده.

وأنت أيّها البصير، إذا استشففت الحادثة من وراء نظارةٍ في التنقيب، تجد سيّدنا أبا الفضل سيّد القوم بعد أخيه السّبطعليه‌السلام ، وهو المـُسدّد لهم في النّضال. كما أنّ الباحث إذا أعطى النّظر حقّه، يجد ضحايا ( الطَّفِّ ) أشدّ انقطاعاً عن المدد من مجاهدي يوم بدر، وأبلغ بأساً وأقلّ عدداً - مع اكتناف الكوارث بهم - وإعواز الملجأ أكثر ممّا احتفّ بأهل بدر.

مع أنّ المناوئين لشهداء ( الطَّفّ ) أوفر عدداً، وأقوى عتاداً، وأوثق مدداً، وأنّ لهم دولةً مُؤسَّسة تنضَّدت جحافلُها، وخفقت بنودُها، وتواصلت قوّاتُها بخلاف الحالة يوم بدر.

____________________

(١) بصائر الدرجات للصفّار / ٥٠٢، دلائل الإمامة للطبري الشيعي / ١٨٨، الخرائج والجرائح للراوندي ٢ / ٧٧١، مُثير الأحزان لابن نما / ٢٧.

١٩٤

فلقد كان المحاربون للمسلمين شتاتاً من طواغيت العرب، حداهم إلى الحرب بواعثُ الحُقدِ والنّخوة، ومن المـُحتمل القريب انحلال جامعتهم إذا ضربت الحرب عليهم بجرانها؛ لأنّهم كانوا يفقدون أيّ مدد من القبائل، ولم يخرجوا متأهّبين للاستمداد، حيث ظنّوا خوراً في المسلمين، وحسبوا استئصالَ شأفتهم وأنّهم كشربة ماء، ( ولكنْ لا مُبدّل لحُكمِ اللّه تعالى ).

فالموقف يوم الطَّفِّ أحرج، والكرب أكثر، والمقاسات أصعب، وبقدر المشقّة تجري الاُجور وتُقسّم الفضائل، فشهداء كربلاء أولى بالفضيلة.

وضَرب الإمامعليه‌السلام المثل لهم بأهل بدر، إذ يقول:« إنّكَ مضيتَ على ما مَضَى به البدريّون » . لا يوجب فضيلة أهل بدر عليهم، كما هي قاعدة التشبيه، وإنّما ذلك من باب التقريب إلى الأفهام، كما في قوله تعالى:( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاة فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ... ) (١) . وأين من النّور الإلهي المشكاة ومصباحها، ولكنْ لمـّا لم تُدرك الأبصار ذلك النّور الأقدس، وإنّما تُدركه البصائر، ضرب اللّه تعالى المثل بما يُدركونه؛ تقريباً للأذهان، وهكذا الحال فيما نحن فيه.

وإلى هذه الدقيقة وقع الإيعاز منهعليه‌السلام فيما بعد هذه الفقرة من الزيارة بقولهعليه‌السلام :« فجزاكَ اللّهُ أفضلَ الجَزاءِ وأكثرَ الجَزاءِ، وأوفرَ الجَزاءِ وأوفَى جزاءِ أحَدٍ مِمّنْ وفَى ببيعتِهِ، واسْتَجابَ له دعوتَهُ، وأطاعَ ولاةَ أمرِهِ » (٢) .

____________________

(١) سورة النّور / ٣٥.

(٢) كامل الزيارات / ٤٤١، تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ٦ / ٦٦، المزار للمفيد / ١٢٢، المزار للمشهدي / ١٧٨.

١٩٥

فلو كان في المجاهدين مَن هو أوفر فضلاً من أبي الفضل العبّاس، لكان هذا الدعاء، أو الإخبار عن أمره شططاً من القول، خارجاً عن ميزان العدل، تعالى عنه كلامُ المعصوم، فإذاً لمْ يكنْ غيره من المجاهدين مطلقاً أوفر فضلاً، ولا أكثر جزاءً، ولا أوفى بيعةً إلاّ مَن أخرجه الدليل من الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام .

ثُمّ إنّ هناك مرتبة اُخرى ثبتت لأبي الفضل، خصّه بها الإمام الصادقعليه‌السلام بقوله:« أشهدُ أنّكَ قدْ بالغتَ في النَّصيحةِ، وأعطيتَ غايةَ المَجْهودِ، فبعثكَ اللّهُ في الشُّهداءِ، وجَعلَ روحَكَ مَعَ أرواحِ السُّعداءِ، وأعطاكَ مِنْ جنانِهِ أفسَحَها مَنْزلاً، وأفضلها غُرَفاً » (١) .

فإنّ المبالغة في أمثال المقام عبارة عن بلوغ الأمر إلى حدوده اللازمة، وكم له من نظير في استعمالات العرب ومحاوراتهم. ولا شكّ أنّ كُلَّ واحدٍ من شهداء الطَّفِّ قد بالغ في النّصيحة، ولم يألُ جهداً في أداء ما وجب عليه، ولكُلٍّ منهم في ذلك المشهد الدامي شواهد من أقواله وأعماله.

ومن المـُسلَّم أنّ المعروف بقدر المعرفة كمَّاً وكيفاً، فصاحب السّنام الأرفع في العرفان، المـُتربّع على أعلى منصّة من الإيمان، لا بدّ وأنْ يُقاسي أشدَّ ضروب الجهاد، ويتظاهر بأجمل مظاهرها؛ من الدؤوب على الحرب والضرب، وإنْ طال المدى وبعد الأمد إنْ كان الجهاد نضالاً، كما لا بدَّ له من المثابرة على مكافحة النّفس

____________________

(١) كامل الزيارات / ٤٤١، تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ٦ / ٦٦، المزار للمفيد / ١٢٢، المزار للمشهدي / ١٧٨.

١٩٦

الأمّارة وكسر شوكتها، وردّ صولتها وكبح جماحها، وترويض النّفس بالطّاعة، وإلزامها بلوازمها الشاقّة طيلة حياته إنْ كان الجهاد نفسيّاً.

وفي هذين الحالتين لا بدّ وأنْ يكتنف العمل المقارنات المطلوبة، مثل: نيّة القربة، والإخلاص فيها المنبعث عن حبِّ المولى سبحانه، الهادي إلى معرفة تؤهله إلى الطاعة، وعن معرفة نِعم الباري عزّ وجل الواجب شكره، وعن الهيبة النّاشئة عن لحاظ عظمته، إلى أمثال هذه من الملحوظات.

وقصارى القول: كما أنّ مراتبَ الإيمان والمعرفة متفاوتةٌ مقولة بالتشكيك، كذلك مراتب العمل متفاوتة حسب تفاوت تلك المراتب، فصاحب عمل كُلِّ مرتبة محدود بحدودها، وحينئذ فلا شكّ أنّ كُلَّ واحد من شهداء الطَّفِّ، وإنْ بلغ الغاية في الجهاد وأدّى حقّ النّصيحة، لكنّ ( شهيد العلقمي ) لمـّا كانت بصيرته أنفذ، وعلمه أوفر، وإيمانه أثبت، كان مداه أبعد، وغايته أسمى، وحدوده أوسع؛ ولذلك خاطبه الصادقعليه‌السلام بهذا الخطاب، وخصّه بالمبالغة في التضحية، فكان هذا كفضيلة مخصوصة به؛ لأنّ هاتيك المراتب الراقية لم توجد في غيره.

ولعلّ من ناحية هذه المراتب الثلاث ثبت لهعليه‌السلام حقٌّ في الدِّين، وحقٌّ على الاُمّة، وحرمةٌ لا تُنكر، فاستحقّ أنْ يُخاطبه الإمامعليه‌السلام في سلام الإذن بقوله:« لَعنَ اللّهُ مَنْ جَهلَ حَقّكَ، واسْتَخفَّ بحُرمَتِكَ » (١) .

____________________

(١) المزار للشهيد الأوّل / ١٦٥.

١٩٧

وهناك درجة أربى وأربع أشار إليها الصادقعليه‌السلام بقوله:« ورَفَعَ ذكْرَكَ في عِلِّيِّينْ » (١) .

فإنّ ( حامى الشريعة ) لمْ يبرح مواصلاً في الخدمات حتّى أقبل إلى اللّه تعالى مُتلفّعاً بدم الشّهادة، شهادة صكٍّ نَبؤها مسامع الملكوت حتّى أشرأب له هنالك من أنبياءَ ومُرسَلين، وحُججٍ معصومين، وملائكة مُقرّبين، وحورٍ وولدان، وأرواح مُقدّسة، ومُقدّساتٍ زاكياتٍ طيِّباتٍ، فلمْ يلقَعليه‌السلام في صعوده إليهم إلاّ ثغوراً باسمةً ووجوهاً مُستبشرةً، وايذاناً له بالبشرى الخالدة ونعيمَ الأبد؛ فطفق يرفل بين ذلك الجيل القُدسي، الزّاهر بنور العصمةِ ورونقِ العلم، وهيبةِ العظمة وسماتِ الجلالة، وشاراتِ النّزاهة وبهجةِ العطفِ الإلهي، وبهاءِ النّظر إلى الجلال السّرمدي، والاتّصالِ بالرّضوان الأكبر، وعليه اُبّهةُ الولاء وجلالةُ الطّاعة، وبلجُ التضحية وزُلفى المفادات، وزهو العلمِ والعملِ، ولذكره في ذلك المـُنتدى الرهيب رفعةٌ ومنعةٌ، وإليه يُشير الإمام الصادقعليه‌السلام في لفظ الزيارة:« ورَفَعَ ذكْرَكَ في عِلِّيِّينْ » .

فإنّ الغرضَ من هذا التعبير ليس إلاّ ما شرحناه، لا مجرّد صعود ذكرهِ الطيّب إلى ذلك الملأ الأرفع، شأن كُلِّ صالح في عالم الوجود، لكنّ الشأن كُلَّه أنْ يكون [ لذكره المجيد ](٢) هنالك بذخٌ وإكبارٌ، فيرمقه كُلُّ طرفٍ بنظر الإجلال، ويسمع الهتافَ به بإذنِ التقدير، وتنعقد الضمائر على تقديسه، ولو أراد الإمامعليه‌السلام مُجرّد ذكره إلى ذلك العالم القدسي، لقال في الخطاب: ورفع ذكرَك إلى

____________________

(١) كامل الزيارات / ٤٤١، المزار للشهيد الأوّل / ١٣٣.

(٢) وردت العبارة في الأصل بهذا النّحو: ( لذكر ما لمجيد ) ولا معنى لها، ولعلّ الصحيح ما استقربناه.(موقع معهد الإمامَين الحسنَين)

١٩٨

علِّيِّين، ولكنْ حيث إنّه أراد رفع الذكر بين أفراد اُولئك الذين أختصّ محلّهم فيه، جاء بفاء الظرفيّة، فقال:« في علِّيِّين » .

وأمّا قولهعليه‌السلام في الزيارة التي رواها المجلسي في مزار البحار ص١٦٥، عن مزار الشيخ المفيد وابن المشهدي:« لعَنَ اللّهُ اُمّةً استحلَّتْ منكَ المحارِمَ، وانْتهكتْ فيك حُرمةَ الإسلامِ » (١) . فيرشدنا إلى مكانة سامية لأبي الفضل تصعد به إلى فوق مرتبة العصمة؛ فإنّا لم نجد مثل هذا الخطاب في أيِّ واحد من الشُّهداء، مع بلوغهم أعلى مرتبة الفضل التي لم يحزها أيُّ شهيد غيرهم، حتّى استحقّوا أنْ يخاطبهم الإمامعليه‌السلام في زيارة النّصف من رجب بقوله:« السّلامُ عليكُمْ يا مَهديُّون، السّلامُ عليكُمْ يا طاهرونَ مِنَ الدَّنَس » (٢) . ويقول أيضاً:« طبتُمْ وطابَتْ الأرضُ الّتِي فيها دُفنْتُمْ » (٣) .

بل لم يخاطب بمثل ذلك عليّاً الأكبر الذي لا شكّ في عصمته، ومنه يظهر أنّ للعبّاس منزلة ومقاماً يُشارف مقام الحُجج المعصومينعليهم‌السلام ، تُناط به حرمةُ الإسلام كما تُناط بهم صلوات اللّه عليهم، وإنّها تُنتَهك بمثله كما تُنتَهك بمثلهمعليهم‌السلام ، وهذا مقام فوق العصمة المرجوّة له.

____________________

(١) بحار الأنوار ٩٨ / ٢١٩، المزار للمفيد / ١٢٤، المزار للمشهدي / ٣٩١.

(٢) بحار الأنوار ٩٨ / ٣٣٠، والوارد في الزيارة:«... السّلامُ عليكُمْ يا طاهرونَ، السّلامُ عليكُمْ يا مَهديُّونَ... » . نعم ورد في زيارات اُخرى قولهعليه‌السلام :« وطهّرَكُمْ مِنَ الدَّنسِ » . كامل الزيارات / ٥٢٧.

(٣) المزار للشهيد الأوّل / ١٢٩، المزار للمشهدي / ٤٦٥.

١٩٩

العبّاس في نظر الأئمّةعليهم‌السلام :

إنّي لا أحسب القارئ في حاجةٍ إلى الإفاضة في هذه الغاية بعد ما أوقفناه على مكانة أبي الفضلعليه‌السلام من العلم والتّقى، والملكات الفاضلة؛ من إباء وشمم، وتضحية في سبيل الهدى، وتهالك في العبادة؛ فإنّ أئمّة الهدى من أهل البيتعليهم‌السلام يُقدّرون لمَن هو دونه في تلكم الأحوال فضله، فكيف به وهو من لُحمتهم وفرعِ أرومتهم، وغصن باسق في دوحتهم؟! وقد أثبت له الإمام السّجادعليه‌السلام منزلة كبرى لم يَنلها غيره من الشُّهداء، ساوى بها عمّه الطيّار، فقالعليه‌السلام :

 « رحمَ اللّهُ عمِّي العبّاسَ بنَ عليٍّ، فلقد آثرَ وأبلَى، وفدَى أخاه بنفسِهِ حتّى قُطِعتْ يَداهُ، فأبدلَهُ اللّهُ عزّ وجل جناحينِ يطيرُ بهمَا مع الملائكةِ في الجنّةِ، كما جعلَ لجعْفرِ بنِ أبي طالبٍ. إنّ للعبّاسِ عندَ اللّهِ تباركَ وتعالى منزلةً يَغبطُهُ عليها جميعُ الشُّهداءِ يومَ القيامةِ » (١) .

ولفظ ( الجميع ) يشمل مثل حمزة وجعفر الشاهدين للأنبياء بالتبليغ وأداء الرسالة، وقد نفى البُعد عنه العلاّمة المـُحقّق المـُتبحّر في الكبريت الأحمر ص٤٧ ج٣.

____________________

(١) الأمالي للشيخ الصدوق / ٥٤٨، الخصال / ٦٨.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

نقول أوّلا : إنّ هؤلاء لم يكونوا جميعا ينكرون يوم القيامة ، فقد كان فريق منهم يؤمنون بنوع من البعث.

وثانيا : قد يكون المعنى بالساعة هي ساعة الموت ، أو الساعة الرهيبة التي تنزل فيها على الإنسان مصيبة تضعه على شفا الهلاك.

وثالثا : قد يكون هذا تعبيرا مجازيا عن الحوادث المخيفة ، فالقرآن يكرر القول بأنّ يوم القيامة يقترن بسلسلة من الحوادث المروعة ، كالزلازل والعواصف والصواعق وأمثالها.

3 ـ إنّنا نعلم أنّ يوم القيامة وما يصحبه من وقائع وأمور حتمية الوقوع ، ولا يمكن تغييرها إطلاقا ، فكيف تقول الآية :( بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ ) ؟فهل القصد هو إظهار قدرة الله ، أم أنّ هناك قصد آخر؟

في جواب هذا السؤال نقول : لا يعني هذا أنّ الله سوف يلغي بالدعاء البعث وقيام الساعة أصلا ، بل الآية تقصد القول بأنّ المشركين ـ وحتى غير المشركين عند مشاهدتهم الحوادث الرهيبة عند قيام الساعة وبالأهوال والعذاب الذي ينتظرهم ، يستولي عليهم الفزع والجزع ، فيدعون الله ليخفف عنهم تلك الأهوال ، وينجيهم من تلك الأخطار ، فدعاؤهم يكون لنجاتهم من أهوال يوم القيامة الرهيبة ، لا للإلغاء ذلك اليوم من الأساس.

* * *

٢٨١

الآيات

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45) )

التّفسير

مصير الذين لا يعتبرون :

تواصل هذه الآيات توجيه الكلام للضّالين والمشركين ، ويتخذ القرآن فيها طريقا آخر لإيقاظهم وذلك بأن ينقلهم إلى القرون السالفة والأزمان الماضية ، يشرح لهم حال الأمم الضالة والظالمة والمشركة ، ويبيّن لهم كيف أتيح لها جميع عوامل التربية والتهذيب والوعي ، غير أنّ جمعا منهم لم يلقوا بالا إلى أي من تلك العوامل ، ولم يعتبروا بما حاق بهم من (بأساء) و (ضراء)(1) ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ

__________________

(1) «البأساء» الشدة والمكروه ، وتطلق على الحرب أيضا ، وكذلك القحط والجفاف والفقر ، أما «الضراء» فأكثر ما تعني العذاب

٢٨٢

مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ) .

أما كان من الأجدر بهؤلاء أن يستيقظوا عند ما جاءهم البأس وأحاطت بهم الشدائد؟!( فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا ) أنّهم لم يستيقظوا ، ولذلك سببان :

الأوّل : إنّهم لكثرة آثامهم وعنادهم في الشرك زايلت الرحمة قلوبهم والليونة أرواحهم :( وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ) .

والثّاني : إنّ الشيطان قد استغل عبادتهم أهواءهم فزيّن في نظرهم أعمالهم ، فكل قبيح ارتكبوه أظهره لهم جميلا ، ولكل خطأ فعلوه جعله في عيونهم صوابا :( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

ثمّ تذكر الآية الثّانية أنّه لمّا لم تنفع معهم تلك المصائب والمشاكل والضغوط عاملهم الله تعالى بالعطف والرحمة ، ففتح عليهم أبواب أنواع النعم ، لعلهم يستيقظون ويلتفتون إلى خالقهم الذي وهب لهم كل تلك النعم ، ويشخصوا الطريق السوي :( فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ ) .

إلّا أنّ هذه النعم كانت في الواقع ذات طابع مزدوج ، فهي مظهر من مظاهر المحبّة التي تستهدف إيقاظ النائمين ، وهي كذلك مقدمة لنزول العذاب الأليم إذا استمرت الغفلة ، والذي ينغمس في النعمة والرفاهية ، يشتد عليه الأمر حين تؤخذ منه هذه النعم فجأة ، بينما لو أخذت منه بالتدريج ، فلا يكون وقع ذلك عليه شديدا ، ولهذا يقول إنّنا أعطيناهم الكثير من النعم( حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ ) (1) .

وهكذا استؤصلت جذور أولئك الظلمة وانقطع نسلهم :( فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ

__________________

الروحي ، كالهم والغم والاكتئاب والجهل ، أو الآلام الناشئة عن الأمراض أو عن فقدان مال أو مقام.

ولعل الاختلاف بين معنيي اللفظتين ناشئ عن أن «البأساء» تشير إلى المكروه الخارجي و «الضراء» تشير إلى المكروه الداخلي ، النفسي أو الروحي ، وعلى هذا تكون «البأساء» من عوامل إيجاد «الضراء» فتأمل بدقة!

(1) «الإبلاس» الحزن المعترض من شدة التألم بسبب كثرة المنغصات المؤلمة ، ومنها اشتقت كلمة «إبليس» ، وهي هنا تدل على شدة الغم والهم اللذين يصيبان المذنبين يومئذ.

٢٨٣

الَّذِينَ ظَلَمُوا ) .

و «الدابر» بمعنى المتأخر والتابع.

ولما كان الله قد وفر لهؤلاء كل وسائل التربية ولم يبخل عليهم بأي شيء منها ، لذلك فانّ الحمد يختص بالله الذي يربي أهل الدنيا كافة( وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

* * *

ملاحظات :

لا بدّ هنا من التنبه إلى بضع نقاط :

1 ـ قد يبدو لبعضهم أنّ هذه الآيات تتعارض مع الآيات السابقة ، فقد بيّنت الآيات السابقة أنّ المشركين إذا هاجمتهم المصاعب والشدائد يتوجهون إلى الله وينسون كل ما عداه ، ولكن هذه الآيات تقول : إنّ هؤلاء لا يستيقظون حتى بعد تعرضهم للمنغصات الشديدة.

هذا التباين الظاهري يزول إذا انتبهنا إلى النقطة التّالية ، وهي أنّ اليقظة الخاطفة المؤقتة عند ظهور الشدائد لا تعتبر يقظة حقيقية ، لأنّهم سرعان ما يعودون إلى الغفلة السابقة.

في الآيات السابقة كان الكلام عن التوحيد الفطري ، فكان التيقظ والتوجه العابر ونسيان كل شيء سوى الله في تلك اللحظات الحساسة ما يكفي لإثبات ذلك ، أمّا في هذه الآيات فالكلام يدور عن الاهتداء والرجوع عن الضلال إلى الطريق المستقيم ، لذلك فانّ اليقظة العابرة المؤقتة لا تنفع شيئا.

قد يتصور أنّ الاختلاف بين الموضعين هو أنّ الآيات السابقة تشير إلى المشركين الذين عاصروا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والآيات التي بعدها تشير إلى الأقوام

٢٨٤

السابقين ، ولذلك لا تعارض بينهما(1) .

ولكن من المستبعد جدّا أن يكون المشركون المعاندون المعاصرون لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيرا من الضالين السابقين ، وعليه فلا حلّ للإشكال إلّا بما قلناه.

2 ـ نقرأ في هذه الآيات أنّه عند ما لم يكن لابتلائهم بالشدائد تأثير في توعيتهم ، فإنّ الله يفتح أبواب الخيرات على أمثال هؤلاء الآثمين ، فهل هذا ترغيب بعد المعاقبة ، أم هو مقدمة لعقاب أليم؟ أي : هل هذه النعم نعم استدراجية ، تغمر المتمرد تدريجيا بالرفاهية والتنعم والسرور تغمره بنوع من الغفلة ، ثمّ ينتزع منه كل شيء دفعة واحدة؟

ثمّة قرائن في الآية تؤيد الاحتمال الثّاني ، ولكن ليس هناك ما يمنع من قبول الاحتمالين ، أي أنّه ترغيب وتحريض على الاستيقاظ ، فإن لم يؤثر ، فمقدمة لسلب النعمة ومن ثمّ إنزال العذاب الأليم.

جاء في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب ، فإنّما هو استدراج) ثمّ تلى الآية( فَلَمَّا نَسُوا ) (2) .

وفي حديث عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام قال : «يا ابن آدم ، إذا رأيت ربّك سبحانه يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره»(3) .

وفي كتاب (تلخيص الأقوال) عن الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام قال : «إنّ قنبر مولى أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أدخل على الحجاج ، فقال : ما الذي كنت تلي من علي بن أبي طالب؟ قال : كنت أوضيه ، فقال له : ماذا يقول إذا فرغ من وضوئه؟ فقال : كان يتلو هذه الآية :( فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ ، فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا

__________________

(1) يشير الفخر الرازي في تفسيره إلى هذه الاختلاف في ج 12 ، ص 224.

(2) تفسير مجمع البيان وتفسير نور الثقلين ، ذيل الآية.

(3) نهج البلاغة ، الكلمة 25.

٢٨٥

وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) ، فقال الحجاج : أظنّه كان يتأولها علينا؟! قال : نعم»(1) .

3 ـ يتّضح من هذه الآيات أنّ هدف الكثير من الحوادث المؤلمة هو الإيقاظ والتوعية ، وهذا جانب من فلسفة «المصائب والآفات» التي تحدثنا بشأنها في بحث التوحيد ، ولكن الملفت للنظر هو أنّه يبدأ الموضوع بكلمة «لعل» ، وذلك لأنّ نزول البلاء وحده لا يكفي للإيقاظ ، بل هو تمهيد للقلوب المستعدة (سبق أن قلنا أنّ «لعل» في كلام الله تستعمل حيثما تكون هناك شروط أخرى).

هنالك أيضا كلمة «تضرع» التي تعني أصلا نزول اللبن في الثدي واستسلامه للرضيع ، ثمّ انتقل المعنى إلى الاستسلام مع الخضوع والتواضع ، أي أنّ تلك الحوادث الشديدة تهدف إلى إنزالهم عن مطية الغرور والتمرد والأنانية ، والاستسلام لله.

4 ـ ممّا يلفت النظر اختتام الآية بقول :( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) وهذا دليل على أنّ استئصال جذور الظلم والفساد والقضاء على شأفة الذين يمكن أن يواصلوا هذا الأمر من الأهمية بحيث يستوجب الحمد لله.

في حديث ينقله فضيل بن عياض عن الإمام الصادقعليه‌السلام يقول : «من أحبّ بقاء الظالمين فقد أحبّ أن يعصي الله ، إنّ الله تبارك وتعالى حمد بنفسه بهلاك الظلمة فقال :( فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

* * *

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 1 ، ص 718.

٢٨٦

الآيات

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49) )

التّفسير

اعرفوا واهب النعم!

الخطاب ما يزال موجها إلى المشركين.

في هذه الآيات حثّ استدلالي على إيقاظهم ببيان آخر يعتمد غريزة دفع الضرر ، فيبدأ بالقول : إنّه إذا سلب منكم الله النعم الثمينة التي وهبها لكم ، مثل السمع والبصر ، وأغلق على قلوبكم أبواب التمييز بين الحسن والسيء ، والحقّ الباطل ، فمن يا ترى يستطيع أن يعيد إليكم تلك النعم؟( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ

٢٨٧

سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ ) .

في الواقع ، كان المشركون أنفسهم يعتقدون أنّ الخالق والرازق هو الله ، وكانوا يعبدون الأصنام للاستشفاع بها عند الله.

والقرآن يحثّهم على الاتجاه المباشر نحو الله مصدر كل الخيرات والبركات بدل الاتجاه إلى أصنام لا قيمة لها.

وإضافة إلى ما كان يحمله عبدة الأصنام من اعتقاد بالله ، فإنّ القرآن استجوب عقولهم هنا لإبداء رأيها وحكمها في أمر أصنام لا تملك هي نفسها عينا ولا أذنا ولا عقلا ولا شعورا ، فهل يمكنها أن تهب أمثال هذه النعم للآخرين؟

ثمّ تقول الآية : انظر إلى هؤلاء الذين نشرح لهم الآيات والدلائل بمختلف الوسائل ، ولكنّهم مع ذلك يعرضون عنها :( انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ) .

وفيما يتعلق بمعنى «ختم» وسبب ورود «سمع» بصيغة المفرد ، و «أبصار» بصيغة الجمع في القرآن راجع المجلد الاوّل من هذا التّفسير ، (92).

«نصرف» من «التصريف» بمعنى «التغيير» ، والكلمة هنا تشير إلى مختلف الاستدلالات في صور متنوعة.

و «يصدفون» من «صدف» بمعنى «الجانب» و «الناحية» أي أنّ المعرض عن شيء يدير وجهه إلى جانب أو ناحية أخرى.

وهذه الكلمة تستعمل بمعنى الإعراض أيضا ، ولكنه «الإعراض الشديد» كما يقول الراغب الأصفهاني.

تشير الآية الثّانية ، بعد ذكر هذه النعم الثلاث «العين والأذن والإدراك» التي هي منبع جميع نعم الدنيا والآخرة ـ إلى إمكان سلب هذه النعم كلها دفعة واحدة ، فتقول :( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ

٢٨٨

الظَّالِمُونَ ) (1) .

«بغتة» بمعنى «فجأة» و «جهرة» بمعنى «الظاهر» والعلانية ، والمألوف استعمال «سرّا» في مقابل «جهرة» لا «بغتة» ، ولكن لما كانت مقدمات العمل المباغت خافية غالبا ، إذ لو لا خفاؤه لما كان مباغتا ، فإن في «بغتة» يكمن معنى الخفاء والسرية أيضا.

والقصد هو أنّ القادر على إنزال مختلف العقوبات ، وسلب مختلف النعم هو الله وحده ، وإنّ الأصنام لا دور لها في هذا أبدا ، لذلك ليس ثمّة ما يدعو إلى اللجوء إليها ، لكن الله لحكمته ورحمته لا يعاقب إلّا الظالمين.

ومن هذا يستفاد أنّ للظلم معنى واسعا يشمل أنواع الشرك والذنوب ، بل إنّ القرآن يعتبر الشرك ظلما عظيما ، كما قال لقمان لابنه :( لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) (2) .

الآية الثالثة تشير إلى مركز الأنبياء ، فتقول : ليست الأصنام العديمة الروح هي وحدها العاجزة عن القيام بأي أمر ، فإن الأنبياء العظام والقادة الإلهيين أيضا لا عمل لهم سوى إبلاغ الرسالة والإنذار والتبشير ، فكل ما هنالك من نعم إنّما هي من الله وبأمره ، وأنّهم إن أرادوا شيئا طلبوه من الله :( وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ) .

والاحتمال الآخر في ربط هذه الآية بالآيات السابقة هو أنّ تلك الآيات كانت تتكلم عن البشارة والإنذار ، وهنا يدور القول على أنّ هذا هو هدف بعثة الأنبياء ، فهم مبشرون ومنذرون.

ثمّ تقول : إنّ طريق النجاة ينحصر في أمرين ، فالذين يؤمنون ويصلحون

__________________

(1) شرحنا معنى «أرأيتكم» عند تفسير الآية 40 من هذه السورة وقلنا : ليس هناك ما يدعو إلى اعتبار المعنى «أخبروني» بل المعنى هو «أعلمتم»؟

(2) لقمان ، 13.

٢٨٩

أنفسهم و( يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ ) فلا خوف عليهم من العقاب الإلهي ، ولا حزن على أعمالهم السابقة.( فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) .

أمّا أولئك الذين لا يصدقون بآياتنا ، بل يكذبون بها فإنّ عقابهم على فسقهم وعصيانهم عذاب من الله :( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) .

من الجدير بالانتباه أنّ الآية ذكرت عقاب الذين يكذبون بآيات الله بعبارة( يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ ) ، فكأنّ هذا العقاب يطاردهم في كل مكان حتى يشملهم بأشد ما يكون من العذاب.

كذلك ينبغي القول أنّ لكلمة «فسق» معنى واسعا أيضا ، يشمل كل أنواع العصيان والخروج عن طاعة الله وعبوديته وحتى الكفر في بعض الأحيان ، وهذا المعنى هو المقصود في هذه الآية ، لذلك لا محل للبحوث التي عقدها الفخر الرازي ومفسّرون آخرون بشأن معنى «الفسق» وشمولها الذنوب ، ومن ثمّ الدفاع عن ذلك.

* * *

٢٩٠

الآية

( قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) )

التّفسير

معرفة الغيب :

هذه الآية استمرار للردّ على اعتراضات الكفار والمشركين المختلفة ، والرد يشمل ثلاثة أقسام من تلك الاعتراضات في جمل قصيرة :

الأوّل : هو أنّهم كانوا يريدون من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القيام بمعجزات عجيبة وغريبة ، وكان كل واحد يتقدم باقتراح حسب رغبته ، بل إنّهم لم يكونوا يقنعون بمشاهدة معجزات طلبها آخرون ، فمرّة كانوا يطلبون بيوتا من ذهب ، ومرّة يريدون هبوط الملائكة ، ومرّة يريدون أن تتحول أرض مكّة القاحلة المحرقة إلى بستان مليء بالمياه والفواكه وغير ذلك ممّا كانوا يطلبونه من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ممّا سيأتي شرحه في تفسير الآية (90) من سورة الإسراء.

ولعلهم بطلباتهم الغريبة تلك كانوا يتوقعون أن يروا للنبي مقام الألوهية وامتلاك الأرض والسماء ، فللردّ على هؤلاء يأتي الأمر من الله :( قُلْ لا أَقُولُ

٢٩١

لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ ) .

«الخزائن» جمع الخزينة ، بمعنى المكان الذي تخزن فيه الأشياء التي يراد حفظها وإخفاؤها عن الآخرين ، واستنادا إلى الآية :( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) (1) يتّضح أنّ «خزائن الله» تشمل مصدر ومنبع جميع الأشياء ، وهي في الحقيقة تستقي من ذات الله اللامتناهية منبع جميع الكمالات والقدرات.

ثمّ تردّ الآية على الّذين كانوا يريدون من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكشف لهم عن جميع أسرار المستقبل ، بل ويطلعهم على ما ينتظرهم من حوادث لكي يدفعوا الضرر ويستجلبوا النفع ، فتقول :( وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ) .

سبق أن قلنا إنّه لا يكون أحد مطلعا على كل شيء إلّا إذا كان حاضرا وشاهدا في كل مكان وزمان ، وهو الله وحده ، أمّا الذي يكون وجوده محددا بمكان وزمان معينين فلا يمكن بالطبع أن يطلع على كل شيء ، ولكن ما من شيء يحول دون أن يمنح الله جزءا من عمله هذا إلى الأنبياء والقادة الإلهيين لإكمال مسيرة القيادة ، حسبما يراه من مصلحة ، وهذا بالطبع لا يكون علما بالغيب بالذات ، بل هو «علم بالغيب بالعرض» أي أنّه تعلم من عالم الغيب.

هنالك آيات عديدة في القرآن تدل على أنّ الله لا يظهر علمه هذا للأنبياء والقادة الإلهيين وحدهم ، بل قد يظهره لغيرهم أيضا ، ففي الآيتين (26 و 27) من سورة الجن نقرا :( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ ) .

لا شك أنّ مقام القيادة ، وخاصة القيادة العالمية العامة ، يتطلب الاطلاع على كثير من المسائل الخافية على عامّة الناس ، فإذا لم يطلع الله مبعوثيه وأولياءه على علمه ، فإنّ مراكزهم القيادية لن تكون كاملة (تأمل بدقّة).

__________________

(1) الحجر ، 21.

٢٩٢

وإذا تجاوزنا ذلك ، فإنّنا نلاحظ أنّ بعض الكائنات الحيّة لا بدّ لها أن تعلم الغيب للمحافظة على حياتها ، فيهبها الله ما تحتاجه من علم ، فنحن ـ مثلا ـ قد سمعنا عن بعض الحشرات التي تتنبأ في الصيف بما سيكون عليه الجو في الشتاء ، أي أنّ الله قد وهبها هذا العلم بالغيب ، لأنّ حياتها ستتعرض لخطر الفناء دون هذه المعرفة ، وسوف نفصل هذه الموضوع أكثر إن شاء الله عند تفسير الآية (188) من سورة الأعراف.

في الجملة الثّالثة ردّ على الذين كانوا يتصورون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملكا ، أو أن يصاحبه ملك ، وان لا يتصف بما يتصف به البشر من تناول الطعام والسير في الطرقات ، وغير ذلك ، فقال :( وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ ) .

يتّضح من هذه الآية بجلاء أن كل ما عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من علم ، وكل ما فعله كان بوحي من السماء ، وإنّه لم يكن يفعل شيئا باجتهاده ولا بالعمل بالقياس ولا بأي شيء آخر كما يرى بعض ـ وإنّما كان يتبع الوحي في كل أمر من أمور الدين.

وفي الختام يؤمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ يقول لهم : هل يمكن للذين يغمضون أعينهم ويغلقون عقولهم فلا يفكرون أن ينظر إليهم على قدم المساواة مع الذين يرون الحقائق جيدا ويتفهمونها؟( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ ) .

إنّ ذكر هذه الجملة في أعقاب الجملات الثلاث السابقة قد يكون لأنّ رسولاللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبق أن قال :( لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ ) و( وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ) و( لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ) بل( إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ ) ، ولكن هذا كلّه لا يعني إنّني مثلكم ، أيّها المشركون ، بل أنا إنسان بصير بالواقع بينما المشرك أشبه بالأعمى ، فهل يستويان؟

ثمّة احتمال آخر لربط هذه الجمل ، وهو أن الأدلة والبراهين على التوحيد

٢٩٣

وعلى صدق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واضحة جلية ، ولكنّها تتطلب عينا بصيرة لكي تراها ، فإذا كنتم لا تقبلونها فليس لأنها أدلة غامضة معقدة ، بل لكونكم تفتقرون إلى العين البصيرة ، فهل يستوي الأعمى والبصير؟

* * *

٢٩٤

الآية

( وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) )

التّفسير

في ختام الآية السابقة ذكر سبحانه عدم استواء الأعمى بالبصير ، وفي هذه الآية يأمر نبيّه أن ينذر الذين يخشون يوم القيامة( وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ ) أي أن هؤلاء لهم هذا القدر من البصيرة بحيث يحتملون وجود حساب وجزاء ، وفي ضوء هذا الاحتمال والخوف من المسؤولية تتولّد فيهم القابلية على التلقّي والقبول.

سبق أن قلنا : إنّ وجود القائد المؤهل والبرنامج التربوي الشامل لا يكفيان وحدهما لهداية الناس ، بل ينبغي أن يكون لدى هؤلاء الناس الاستعداد لتقبل الدعوة ، تماما مثل أشعة الشمس التي لا تكفي وحدها لتشخيص معالم الطريق ، بل لا بدّ من وجود العين الباصرة أيضا ، ومثل البذرة السليمة التي لا يمكن أن تنمو بغير وجود الأرض الصالحة للزراعة.

يتّضح من هذا أنّ الضمير في «به» يعود على القرآن ، وهذا يتبيّن من القرائن ، على الرغم من أنّ القرآن لم يذكر في الآيات السابقة صراحة.

٢٩٥

كما أنّ المقصود من «يخافون» أي يحتملون وجود الضرر ، إذ يخطر ببال كل عاقل يستمع إلى دعوة الأنبياء الإلهيين ، بأنّ من المحتمل أن تكون دعوة هؤلاء صادقة ، وأنّ الإعراض عنها يوجب الخسران والضرر ، ويستنتج من ذلك أنّ من الخير له أن يدرس الدعوة ويطلع على الأدلة.

وهذا واحد من شروط الهداية ، وهو ما يطلق عليه علماء العقائد اسم «لزوم دفع الضرر المحتمل» ويعتبرونه دليل وجوب دراسة دعوى من يدعي النّبوة ، ولزوم المطالعة لمعرفة الله.

ثمّ يقول : إنّ أمثال هؤلاء من ذوي القلوب الواعية يخافون ذلك اليوم الذي ليس فيه غير الله ملجأ ولا شفيع :( لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ ) .

نعم ، أنذر أمثال هؤلاء الناس وادعهم إلى الله ، إذ أنّ الأمل في هدايتهم موجود :( لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) .

بديهي أنّ نفي «الشفاعة» و «الولاية» في هذه الآية عن غير الله لا يتناقض مع شفاعة أولياء الله وولايتهم ، إذ إنّنا سبق أن أشرنا إلى أنّ المقصود هو نفي الشفاعة والولاية بالذات ، أي أنّ هذين الأمرين مختصان ذاتا بالله ، فإذا كان لأحد غيره مقام الشفاعة والولاية فبإذن منه وبأمره ، كما يصرح القرآن بذلك :( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) (1) .

للمزيد من التوضيح بشأن الشفاعة عموما ، انظر المجلد الأوّل : ص 198. والمجلد الثّاني من هذا التّفسير.

* * *

__________________

(1) البقرة ، 255.

٢٩٦

الآيتان

( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) )

سبب النّزول

ذكرت روايات عديدة في سبب نزول هاتين الآيتين ، ولكنّها متشابهة ، من ذلك ما جاء في تفسير «الدار المنثور» : مرّت جماعة من قريش بمجلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث كان «صهيب» و «عمار» و «بلال» و «خباب» وأمثالهم من الفقراء والعمال حاضرين فيه ، فتعجبوا من ذلك (لأنّهم كانوا يحسبون أن شخصية المرء مرهونة بالثروة والجاه والمقام ، ولم يستطيعوا إدراك المنزلة المعنوية لهؤلاء الأشخاص ، ولا ما سيكون لهم من دور بناء في إيجاد المجتمع الإسلامي والإنساني الكبير) فقالوا : يا محمّد! أرضيت بهؤلاء من قومك ، أفنحن نكون تبعا لهم؟ ، أهؤلاء الذين منّ الله عليهم؟! اطردهم عنك ، فلعلك إن طردتهم اتّبعناك ،

٢٩٧

فأنزل الله الآية.

بعض مفسّري أهل السنة ، مثل صاحب تفسير (المنار) يورد حديثا أشبه بذاك ، ثمّ يقول : إنّ عمر بن الخطاب كان حاضرا واقترح على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقبل عرض هؤلاء الملأ من قريش ، ليتبيّن مدى صدق قولهم؟ فنزلت الآيتان في رفض اقتراحه.

ينبغي ألّا يغرب عن البال أنّ ذكر سبب نزول بعض آيات هذه السورة لا يتنافى مع نزول السورة كلها في مكان واحد ، فقد سبق أن قلنا إنّ من الممكن أن تقع حوادث مختلفة في أوقات مختلفة قبل نزول السورة ، ثمّ تنزل السورة بشأن تلك الحوادث.

يلزم هنا أن نذكر أنّه جاء في رواية أنّ الملأ من قريش ـ حينما رفض رسول الله عرضهم ـ اقترحوا عليه شيئا آخر ، وقالوا له : لو نحيت هؤلاء حتى نخلو بك فإذا انصرفنا ، فإذا شئت أعدتهم إلى مجلسك ، فأجابهم النّبي إلى ذلك ، فقالوا له : اكتب لنا بهذا على نفسك كتابا ، فدعا بصحيفة وأحضر عليا ليكتب ، فنزل جبرائيل بالآية تنهى عن ذلك.

غير أنّ هذه الرواية ، على الرغم من كونها لا تنسجم مع روح تعاليم الإسلام التي رفضت دوما المساومة في مثل هذه الحالات ، وأكّدت باستمرار على وحدة المجتمع الإسلامي ، فإنّها لا تنسجم مع الآية السابقة :( إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ ) فكيف يمكن لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبول الاقتراح دون انتظار للوحي.

ثمّ إنّ عبارة( وَلا تَطْرُدِ ) في بداية الآية تدل على أنّهم قد طلبوا طرد أولئك ، لا التناوب معهم ، والبون شاسع بين طلب الطرد وطلب التناوب ، وهذا يدل على أنّ سبب نزول الآية هو ما أوردناه أوّلا.

* * *

٢٩٨

مكافحة التّفكير الطّبقي :

في هذه الآية إشارة إلى واحد من احتجاجات المشركين ، وهو أنّهم كانوا يريدون من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقرّ ببعض الامتيازات لطبقة الأغنياء ويفضلهم على طبقة الفقراء ، إذ كانوا يرون في جلوسهم مع الفقراء من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منقصة لهم أي منقصة! مع أنّ الإسلام كان قد جاء للقضاء على مثل هذه الامتيازات الزائفة الجوفاء ، كانوا يصرون على هذا الطلب في طرد أولئك عنه ، غير أنّ القرآن ردّ هذا الطلب مستندا إلى أدلة حية ، فيقول :( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) (1) .

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن لم يشر إلى هؤلاء الأشخاص إشارة خاصّة ، بل اكتفى بصفتهم البارزة وهي أنّهم يذكرون الله صباح مساء ، أي دائما ، وانّ ذكرهم الله هذا ليس فيه رياء ، بل هو لذات الله وحده ، فهم يريدونه وحده ويبحثون عنه ، وليس ثمّة امتياز اسمى من هذا.

يتبيّن من آيات قرآنية مختلفة أنّ هذا لم يكن أوّل طلب من نوعه يتقدم به هؤلاء المشركون الأغنياء المتكبرون إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل لقد تكرر اعتراضهم على النّبي بشأن اجتماع الفقراء حوله ، ومطالبتهم إياه بطردهم.

في الحقيقة كان هؤلاء يستندون في طلبهم ذاك إلى سنة قديمة خاطئة تقيم المرء على أساس ثروته ، وكانوا يعتقدون أنّ المعايير الطبقية القائمة على أساس الثروة يجب أن تبقى محفوظة ، ويرفضون كل دعوة تستهدف إلغاء هذه القيم والمعايير.

في سيرة النّبي نوحعليه‌السلام نرى أنّ أشراف زمانه كانوا يقولون له :( وَما نَراكَ

__________________

(1) معنى «الوجه» في اللغة معروف ، ولكن الكلمة قد تعني «الذات» كما في هذه الآية ، وهناك شرح أوفى لذلك في المجلد الثاني من هذا التفسير.

٢٩٩

اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ ) (1) واعتبروا ذلك دليلا على بطلان رسالته.

إنّ واحدا من دلائل عظمة الإسلام والقرآن ، وعظمة مدرسة الأنبياء عموما ، هو أنّها وقفت ثابتة لا تتزحزح في وجه أمثال هذه الطلبات ، وراحت تحطم هذه الامتيازات الموهومة في كل المجتمعات التي تعتبر التمايز الطبقي مسألة ثابتة ، لتعلن أنّ الفقر ليس نقصا في أشخاص مثل سلمان وأبي ذر والخباب وبلال ، كما أنّ الثروة ليست امتيازا اجتماعيا ، أو معنويا لهؤلاء الأثرياء الفارغين المتحجرين المتكبرين.

ثمّ تقول الآية : إنّه ليس ثمّة ما يدعو إلى إبعاد هؤلاء المؤمنين عنك ، لأنّ حسابهم ليس عليك ، ولا حسابك عليهم :( ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ، وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) ، ولكنّك مع ذلك إذا فعلت تكون ظالما :( فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ) .

يختلف المفسّرون في توضيح المقصود من «الحساب» هنا.

منهم من يقول : إنّ المقصود هو حساب رزقهم ، أي أنّهم وإن كانوا فقراء فإنّهم لا يثقلون عليك بشيء ، لأنّ حساب رزقهم على الله ، كما أنّك أنت أيضا لا تحملهم ثقل معيشتك ، إذ ليس من حساب رزقك عليهم من شيء.

غير أنّ هذا الاحتمال يبدو بعيدا ، لأن الظاهر أن القصد من الحساب هو حساب الأعمال ، كما يقول كثير من المفسّرين ، أمّا لماذا يقول الله أن حساب أعمالهم ليس عليك ، مع أنّهم لم يبدر منهم أي عمل سيء يستوجب هذا القول؟ فالجواب : إنّ المشركين كانوا يتهمون أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الفقراء بالابتعاد عن الله بسبب فقرهم ، زاعمين أنّهم لو كانت أعمالهم مقبولة عند الله لزمه الترفية والتوسعة عليهم في معيشتهم ، بل كانوا يتهمونهم بأنّهم لم يؤمنوا إلّا لضمان

__________________

(1) هود ، 27.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394