اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)0%

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام محمد بن علي الجواد عليه السلام
الصفحات: 214

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الصفحات: 214
المشاهدات: 63522
تحميل: 7542

توضيحات:

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 214 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 63522 / تحميل: 7542
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وطفق يقول:(قد ولد لي شبيه موسى بن عمران فالق البحار، وشبيه عيسى بن مريم، قدّست أم ولدته..) (١) .

٤ ـ كنيته: أبو جعفر، وهي كنية جده الباقرعليه‌السلام وللتمييز بينهما يكنّى بأبي جعفر الثاني، وأضاف فيدلائل الإمامة كنية ثانية له هي: أبو علي الخاص، وفسّر المتأخرون هذه العبارة بأنّ له كنية خاصة هي: (أبو علي)، وليست كنيته هي (أبو علي الخاص) كما يبدو للناظر في عبارة دلائل الإمامة.

٥ ـ ألقابه: أمّا ألقابه الكريمة فهي تدل على معالم شخصيته العظيمة وسمو ذاته وهي:

١ ـ الجواد: لُقب به لكثرة ما أسداه من الخير والبر والإحسان إلى الناس.

٢ ـ التقي: لقب به لأنه اتّقى الله وأناب إليه، واعتصم به ولم يستجب لأي داع من دواعي الهوى.

٣ ـ المرتضى.

٤ ـ القانع.

٥ ـ الرضي.

٦ ـ المختار.

٧ ـ باب المراد (٢) .

نقش خاتمه: يدل نقش خاتمهعليه‌السلام على شدة انقطاعهعليه‌السلام إلى الله سبحانه، فقد كان (العزّة لله)(٣) .

ـــــــــ

(١) حياة الإمام محمد الجوادعليه‌السلام : ٢٢.

(٢) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٢٧ ـ ٢٩.

(٣) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٣١.

٤١

الفصل الثاني: مراحل حياة الإمام محمد الجوادعليه‌السلام

ولد الإمام محمّد بن علي الجواد عام (١٩٥ هـ) أي في السنة التي بويع فيها للمأمون العباسي، وعاش في ظلّ أبيه الرضاعليه‌السلام حوالي سبع سنين، وعاصر أحداث البيعة بولاية العهد لأبيه الرضاعليه‌السلام وما صاحبها وتلاها من حوادث ومحن حتى تجلّت آخر محن أبيهعليه‌السلام في اغتيال المأمون للرضاعليه‌السلام .

وبقي الإمام محمد الجوادعليه‌السلام بعد حادث استشهاد أبيهعليه‌السلام في منعة من كيد المأمون الذي قتل الإمام الرضاعليه‌السلام وبقي عند الناس متّهماً بذلك. لكنه لم ينج من محاولات التسقيط لشخصيّته ومكانته المرموقة والسامية في القلوب. وقد تحدّى كل تلك المحاولات إعلاءً لمنهج أهل البيتعليهم‌السلام وشيعتهم في عقيدة الإمامة والزعامة وما يترتب عليها من الآثار السياسية والاجتماعية.

وينتهي عهد المأمون العباسي في سنة (٢١٨ هـ) ويتربّع أخوه المعتصم على كرسي الخلافة حتى سنة (٢٢٧ هـ) ولم يسمح للإمام الجوادعليه‌السلام بالتحرّك ويراقب ـ بكل دقّة ـ النشاط الاجتماعي والسياسي للإمامعليه‌السلام ثمّ يغتاله على يد ابنة أخيه المأمون، المعروفة بأم الفضل والتي زوّجها المأمون من الإمام الجوادعليه‌السلام ولم تنجب له من الأولاد شيئاً، وذلك في سنة (٢٢٠ هـ)، وهكذا قضى المعتصم على رمز الخط الهاشمي وعميده، الإمام محمّد التقي أبي جعفر الجوادعليه‌السلام .

إذن تنقسم الحياة القصيرة لهذا الإمام المظلوم إلى قسمين وثلاث مراحل:

القسم الأول: حياته في عهد أبيه ، وهي المرحلة الأولى من حياته القصيرة والمباركة وتبلغ سبع سنوات تقريباً.

و القسم الثاني: حياته بعد استشهاد أبيه حتى شهادته. وتبلغ حوالي سبع عشرة سنة.

وينقسم هذا القسم بدوره إلى مرحلتين متميّزتين:

المرحلة الأولى: حياته في عهد المأمون ، وهي المرحلة الثانية من حياته وتبلغ حوالي خمس عشرة سنة ، وهي أطول مرحلة من مراحل حياته القصيرة.

والمرحلة الثانية: وهي مدة حياته في عهد المعتصم العباسي وتبلغ حوالي سنتين وتمثّل المرحلة الثالثة من حياته الشريفة.

٤٢

وهكذا تتلخص مراحل حياتهعليه‌السلام كما يلي:

المرحلة الأولى: سبع سنوات وهي حياته في عهد أبيه الرضاعليه‌السلام حيث ولد سنة (١٩٥ هـ) ـ وفي حكم محمد الأمين العبّاسي ـ واستشهد الإمام الرضاعليه‌السلام في صفر من سنة (٢٠٣ هـ).

المرحلة الثانية: خمس عشرة سنة وهي حياته بقية حكم المأمون من سنة (٢٠٣ هـ) إلى سنة (٢١٨هـ).

المرحلة الثالثة: حياته بعد حكم المأمون وقد بلغت حوالي سنتين من أيّام حكم المعتصم أي من سنة (٢١٨ ـ ٢٢٠ هـ).

الفصل الثالث: الإمام الجواد في ظل أبيهعليهما‌السلام

قامت الدولة العباسية ـ في بداية أمرها ـ على الدعوة إلى العلويين خاصة، ثم لأهل البيتعليهم‌السلام ، ثم إلى الرضا من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان سرّ نجاحها في ربطها بأهل البيتعليهم‌السلام ، حيث تحكّم العباسيون وتسلّطوا على الأمة بدعوى القربى النسبية من الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ومن هنا فإنّ من الطبيعي، أن يكون الخطر الحقيقي الذي يتهدد العباسيين وخلافتهم، هو من جهة أبناء عمّهم العلويين، الذين كانوا أقوى منهم حجة وأقرب إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم نسباً ووشيجة.

فادّعاء العلويين الخلافة له مبرراته الكاملة، ولا سيَّما وأن من بينهم من له الجدارة والأهلية، ويتمتع بأفضل الصفات والمؤهلات لهذا المنصب من العلم والعقل والحكمة وبعد النظر في الدين والسياسة، علاوة على ما كان يكنه الناس لهم من الاحترام والتقدير.

أضف إلى ذلك كله أن رجالات الإسلام وأبطاله، كانوا هم آل أبي طالب (رضوان الله تعالى عليه) ؛ فأبو طالب مربي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكفيله، وعليعليه‌السلام وصيه وظهيره، وكذلك الحسن والحسين وعلي زين العابدين وبقية الائمةعليهم‌السلام .

٤٣

وقد كان الخلفاء من بني العباس يدركون جيداً مقدار نفوذ العلويين، ويتخوَّفون منه، منذ أيامهم الأولى في السلطة. فمثلاً وضع السفاح من أول عهده الجواسيس على بني الحسن، حيث قال لبعض ثقاته، وقد خرج وفد بني الحسن من عنده: قم بإنزالهم ولا تأل في ألطافهم، وكلما خلوت معهم فأظهر الميل إليهم، والتحامل علينا وعلى ناحيتنا وأنهم أحق بالأمر منّا، واحص لي ما يقولون وما يكون منهم في مسيرهم ومَقدمهم)(١) .

أجل لقد أدرك العباسيون أن الخطر الحقيقي الذي يتهدّدهم إنّما هو من قبل العلويين وعليه كان عليهم أن يتحركوا لمواجهة الخطر المحدق بهم بكل وسيلة، وبأي أسلوب كان، سيَّما وهم يشهدون عن كثب سرعة استجابة الناس للعلويين، وتأييدهم ومساندتهم لكل دعوة من قبلهم.

سياسة العباسيين مع الرعية:

لا نريد أن نعرض لأنواع الظلامات التي كان العباسيون يمارسونها، فإن ذلك مما لا يمكن الإلمام به ولا استقصاؤه في هذه العجالة.

وإنما نريد فقط أن نعطي لمحة سريعة عن سيرتهم السيئة في الناس، ومدى اضطهادهم وظلمهم لهم، وجورهم عليهم، الأمر الذي أسهم إسهاماً كبيراً في كشف حقيقتهم أمام الملأ، حتى لقد قال أبو عطاء السندي المتوفّى سنة (١٨٠ هـ):

يا ليت جور بني مروان دام لنا

وليت عدل بني العباس في النار(٢)

ـــــــــ

(١) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ٦٦.

(٢) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ١٠٨.

٤٤

إنّ المثل الأعلى للعدالة والمساواة الذي انتظره الناس من العباسيين، قد أصبح وهماً من الأوهام، فشراسة المنصور والرشيد وجشعهم، وجور أولاد علي بن عيسى وعبثهم بأموال المسلمين، يذكّرنا بالحجّاج وهشام ويوسف بن عمرو الثقفي، ولقد عمّ الاستياء أفراد الشعب بعد أن استفتح أبو عبد الله المعروف بـ (السفّاح) وكذلك (المنصور)، بالإسراف في سفك الدماء، على نحو لم يعرف من قبل(١) .

ويقول المؤرخون أيضاً عن أبي العباس السفاح أنّه كان سريعاً إلى سفك الدماء، فاتبعه عمّاله في ذلك، في المشرق والمغرب، واستنوا بسيرته، مثل: محمد بن الأشعث بالمغرب، وصالح بن علي بمصر، وخازم بن خزيمة، وحميد بن قحطبة، وغيرهم..(٢) .

لقد كان أبو جعفر المنصور يعلق الناس من أرجلهم حتى يؤدّوا ما عليهم..(٣) . ووصفه آخرون بأنه كان غادراً خدّاعاً، لا يتردد البتة في سفك الدماء... كان سادراً في بطشه، مستهتراً في فتكه، وتُعتبر معاملته لأولاد عليّ من أسوأ صفحات التاريخ العباسي(٤) .

وأما الهادي فقد كان يتناول المسكر ويحب اللهو والطرب وكان ذا ظلم وجبروت. وكان سيئ الأخلاق، قاسي القلب، جبّاراً، يتناول المسكر، ويلعب(٥) .

ـــــــــ

(١) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ١٠٨ ـ ١٠٩.

(٢) مروج الذهب: ٣/٢٢٢.

(٣) المحاسن والمساوئ: ٣٣٩.

(٤) مختصر تاريخ العرب و التمدن الإسلامي: ١٨٤.

(٥) تاريخ الخميس: ٢ / ٣٣١.

٤٥

وأما الرشيد، فيكفيه أنه ـ كما ينص المؤرخون ـ يشبه المنصور في كل شيء إلاّ في بذل المال حيث يقولون إن المنصور كان بخيلاً.

وهكذا لم يكن بقية الخلفاء العباسيين أفضل من الذين أشرنا إليهم، ولا كانت أيامهم بدعاً من تلك الأيام.

ولعل الكلمة التي تجمع صفات بني العباس الخلقيّة، هي الكلمة التي كتبها المأمون، وهو في مرو في رسالة منه للعباسيين، بني أبيه في بغداد، والمأمون هو من أهل ذلك البيت، الذين هم أدرى من غيرهم بما فيه، لأنهم عاشوا في خضمّ الأحداث، وشاهدوا كل شيء عن كثب، يقول المأمون في تلك الرسالة: (... وليس منكم إلاّ لاعب بنفسه، مأفون في عقله وتدبيره، إما مغنّ، أو ضارب دفّ، أو زامر، والله لو أن بني أمية الذين قتلتموهم بالأمس نُشِروا، فقيل لهم: لا تأنفوا من معائب تنالوهم بها، لما زادوا على ما صيّرتموه لكم شعاراً ودثاراً، وصناعة وأخلاقاً. ليس منكم إلاّ من إذا مسّه الشر جزع، وإذا مسّه الخير منع. ولا تأنفون، ولا ترجعون إلاّ خشية، وكيف يأنف من يبيت مركوباً، ويصبح بإثمه معجباً كأنه قد اكتسب حمداً، غايته بطنه وفرجه، لا يبالي أن ينال شهوته بقتل ألف نبي مرسل، أو ملك مقرب، أحب الناس إليه مَن زيّن له معصية، أو أعانه في فاحشة، تنظفه المخمورة..)(١) .

ـــــــــ

(١) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ٤٦٣ ـ ٤٦٤.

٤٦

الحالة السياسية في هذه المرحلة:

لا يمكن من الناحية التاريخية أن يفصل دور أي إمام من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام عن دور مَن سبقه من الائمة أو دَور مَن يليه منهم، بالنظر إلى تنوع الأدوار والأعمال والمهمّات التي ينهضون بها مع اتحاد الهدف والغاية والمقصد.

كما إن من العناصر المهمّة في فهم دور الإمام الجوادعليه‌السلام في تحريك الأوضاع في الاتجاه الذي يخدم المصالح العليا للإسلام والمسلمين، إلمامنا بالخطوط العامة للوضع السياسي في مرحلتي تصديه للقيادة بعد شهادة أبيه الإمام الرضاعليه‌السلام وقبل التصدي عندما كان في ظل أبيهعليه‌السلام وقد عاصر الإمام في هاتين المرحلتين خليفتين متميّزين بأسلوب الحكم وإن اشتركا بغصبهما لمنصب القيادة الشرعية والكيد لها وكانت إمامة الجوادعليه‌السلام واقعة في ملك ولدَي هارون الرشيد المأمون والمعتصم. وقبل تصديه للإمامة كان قد عاصر الأمين والمأمون معاً.

ولأجل أن نقف على أهم ملامح المرحلة الأولى من حياة هذا الإمام العظيم فلابد لنا أن نقف على أهم الأحداث السياسية لهذه المرحلة ونلمّ بأهم أسبابها وما خلّفته من آثار سلبية اجتماعية ودينية واقتصادية على الأمة الإسلامية عامة وعلى الدولة الإسلامية بشكل خاص.

ومن هنا لزم الوقوف عند ما يلي:

١ ـ الفتنة بين الأمين والمأمون.

٢ ـ الأمين ونزعاته واتجاهاته وسياسته.

٣ ـ المأمون ونزعاته واتجاهاته وسياسته.

إن الفتنة بين محمد الأمين وعبد الله المأمون ولدَي هارون الرشيد تعتبر أهمّ حدث سياسي قد وقع في هذه الرحلة التي نتكلم عن ملامحها، وقد عُبّر عنها بالفتنة الكبرى التي أدّت إلى إشعال نار الحرب بينهما وكلّفت المسلمين ثمناً باهضاً بذلوه من دماء وأموال وطاقات في سبيل استقرار الملك والسلطان لكل منهما.

وللوقوف على أسباب هذه الفتنة لابد أن نقف على شخصية كل واحد من هذين الأخوين بالإضافة إلى ما قام به الرشيد شخصياً لزرع بذور هذه الفتنة حيث عهد لأبنائه الثلاثة: الأمين ثم المأمون ثم المؤتمن وبذلك قد مهّد لهم سبيل التنافس على المُلك مع ما منحهم من إمكانيات وقدرات مادّية يتنافسون بسببها ويأمل كل منهم حذف من سواه، وسوق منصب الخلافة لأبنائه دون إخوته.

٤٧

محمّد الأمين: نزعاته وسياسته

لم تكن في الأمين أيّة صفة كريمة يستحق بها هذا المنصب الخطير في الإسلام، فقد أجمع المترجمون له على أنّه لم يتّصف بأيّة نزعة شريفة، وإنما قلّده الرشيد منصب الخلافة نظراً لتأثير زوجته السيدة زبيدة عليه وفيما يلي بعض صفاته:

١ ـ كراهيته للعلم: كان الأمين ينفر من العلم، ويحتقر العلماء، وكان أُمّياً لا يقرأ ولا يكتب(١) وإذا كان بهذه الصفة كيف قلّده الرشيد الخلافة الإسلامية؟

٢ ـ ضعف الرأي: وكان الأمين ضعيف الرأي، وقد أعطي المُلك العريض ولم يحسن سياسته، وقد وصفه المسعودي بقوله: كان قبيح السيرة ضعيف الرأي

ـــــــــ

(١) السلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي: ١ / ١٦.

٤٨

يركب هواه، ويهمل أمره، ويتّكل في جليلات الخطوب على غيره، ويثق بمن لا ينصحه (١) .

ووصفه الكتبي بقوله: وكان قد هانَ عليه القبيح فاتّبع هواه، ولم ينظر في شيء من عقباه. وكان من أبخل الناس على الطعام، وكان لا يبالي أين قعد، ولا مع من شرب(٢) .

وممّا لا شبهة فيه أنّ أصالة الفكر والرأي من أهم الشروط التي يجب أن تتوفر فيمن يلي أمور المسلمين.

٣ ـ احتجابه عن الرعيّة: واحتجب الأمين عن الرعية كما احتجب عن أهل بيته وأمرائه وعمّاله واستخفّ بهم(٣) وانصرف إلى اللهو والطرب، وقد عهد إلى الفضل بن الربيع أمور دولته، فجعل يتصرف فيها حسب رغباته وميوله، وقد خفّ إلى الأمين إسماعيل بن صبيح، وكان أثيراً عنده، فقال له: يا أمير المؤمنين أنّ قوّادك وجُندك وعامة رعيتك، قد خبثت نفوسهم، وساءت ظنونهم وكبر عندهم ما يرون من احتجابك عنهم، فلو جلست لهم ساعة من نهار فدخلوا عليك فإنّ في ذلك تسكيناً لهم، ومراجعة لآمالهم.

واستجاب له الأمين فجلس في بلاطه ودخل عليه الشعراء فأنشدوه قصائدهم، ثمّ انصرف فركب الحرّاقة إلى الشماسية، واصطفّت له الخيل وعليها الرجال، وقد اصطفّوا على ضفاف دجلة، وحملت معه المطابخ والخزائن. أمّا الحرّاقة التي ركبها فكانت سفينة على مثال أسد وما رأى الناس منظراً كان أبهى من ذلك المنظر.

لقد كان الأمين إنساناً تافهاً قد اتجه إلى ملذّاته وشهواته ولم يُعنَ بأيّ شأن من شؤون الدولة الإسلامية.

ـــــــــ

(١) التنبيه والأشراف: ٣٠٢.

(٢) عيون التواريخ: ٣، ورقة: ٢١٢.

(٣) سمط النجوم: ٣ / ٣٠٦.

٤٩

٤ ـ خلعه للمأمون: وتقلّد الأمين الخلافة يوم توفّي الرشيد، وقد ورد عليه خاتم الخلافة والبردة والقضيب التي يتسلّمها كلّ من يتقلّد الخلافة من ملوك العباسيين وحينما استقرت له الأُمور خلع أخاه المأمون، وجعل العهد لولده موسى وهو طفل صغير في المهد وسمّاه الناطق بالحق، وأرسل إلى الكعبة من جاءه بكتاب العهد الذي علّقه فيها الرشيد، وقد جعل فيه ولاية العهد للمأمون بعد الأمين، وحينما أتى به مزّقه.

الحروب الطاحنة:

وبعد ما خلع الأمين أخاه المأمون عن ولاية العهد، وأبلغه ذلك رسمياً ندب إلى حربه علي بن عيسى، ودفع إليه قيداً من ذهب، وقال له: أوثق المأمون، ولا تقتله حتى تقدم به إلَيَّ وأعطاه مليوني دينار سوى الأثاث والكراع، ولمّا علم المأمون ذلك سمّى نفسه أمير المؤمنين، وقطع عنه الخراج، وألغى اسمه من الطراز والدراهم والدنانير، وأعلن الخروج عن طاعته، وندب طاهر بن الحسين، وهرثمة بن أعين إلى حربه، والتقى الجيشان بالري، وقد التحما في معركة رهيبة جرت فيها أنهار من الدماء وأخيراً انتصر جيش المأمون على جيش الأمين، وقتل القائد العام للقوات المسلحة في جيش الأمين، وانتهبت جميع أمتعته وأسلحته، وكتب طاهر بن الحسين إلى الفضل بن سهل وزير المأمون يخبره بهذا الانتصار الباهر وقد جاء في رسالته: (كتبت إليك، ورأس علي بن عيسى في حجري، وخاتمه في يدي والحمد لله ربّ العالمين) ودخل الفضل على المأمون فسلّم عليه بالخلافة، وأخبره بالأمر، وأيقن المأمون بالنصر فبعث إلى طاهر القائد العام في جيشه بالهدايا والأموال، وشكره شكراً جزيلاً على ذلك، وقد سمّاه ذا اليمينين، وصاحب خيل اليدين، وأمره بالتوجه إلى احتلال العراق والقضاء على أخيه الأمين.

٥٠

وخفّت جيوش المأمون إلى احتلال بغداد بقيادة طاهر بن الحسين، فحاصرت بغداد، وقد دام الحصار مدة طويلة تخرّبت فيها معالم الحضارة في بغداد، وعمّ الفقر والبؤس جميع سكانها وكثر العابثون، والشذّاذ فقاموا باغتيال الأبرياء، ونهبوا الأموال وطاردوا النساء حتى تهيأت جماعة من خيار الناس تحت قيادة رجل يقال له سهل بن سلامة فمنعوا العابثين وتصدوا لهم بقوة السلاح حتى أخرجوهم من بغداد(١) .

وقد زحفت جيوش المأمون إلى قصر الأمين وطوّقته وألحقت الهزائم بجيشه، فلم تتمكّن قوّات الأمين من الصمود أمام جيش المأمون الذي كان يتمتّع بروح معنوية عالية بالإضافة إلى ما كان يملكه من العتاد والسلاح.

قتل الأمين:

وكان الأمين في تلك المحنة مشغولاً بلهوه، إذ كان يصطاد سمكاً مع جماعة من الخدم وكان فيهم (كوثر) الذي كان مغرماً به فكان يوافيه الأنباء بهزيمة جنوده، ومحاصرة قصره فلم يعن بذلك، وكان يقول: اصطاد كوثر ثلاث سمكات وما اصطدت إلاّ سمكتين!! وهجمت عليه طلائع جيش المأمون فأجهزت عليه، وحمل رأسه إلى طاهر بن الحسين فنصبه على رمح وتلا قوله تعالى:( اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ) (٢) .

ـــــــــ

(١) اتّجاهات الشعر العربي: ٧٣.

(٢) عيون التواريخ: ٣، ورقة: ٢١١ / حياة الإمام محمد الجواد عليه‌السلام : ١٩٣ ـ ١٩٧.

٥١

خلافة إبراهيم الخليع:

سمّي إبراهيم بالخليع لأنه لم يترك لوناً من ألوان المجون إلاّ ارتكبه، وكان مدمناً على الخمر في أكثر أوقاته، وقد نصّبه العبّاسيون خليفة عليهم، وذلك لحقدهم على المأمون وكراهيّتهم له، وقد بايعه الغوغاء، وأهل الطرب من الناس، ومن الطريف أنّ الغوغاء أرادوا منه المال فجعل يسوّفهم، وطال عليهم الأمر فأحاطوا بقصره فخرج إليهم رسوله فأخبرهم أنّه لا مال عنده، فقام بعض ظرفاء بغداد فنادى: (أخرجوا إلينا خليفتنا ليغنّي لأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات، ولأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات فتكون عطاءً لهم...)(١) .

وزحف المأمون بجيوشه نحو بغداد للقضاء على تمرّد إبراهيم، فلمّا علم ذلك هرب، وهرب من كان يعتمد على نصرته، وظلّ إبراهيم مختفياً في بغداد يطارده الرعب والخوف، وقد ظفر به المأمون فعفا عنه لأنّه لم يكن له أي وزن سياسي حتى يخشى منه.

ثورة أبي السرايا:

من أعظم الثورات الشعبية التي حدثت في عصر الإمام أبي جعفرعليه‌السلام ثورة أبي السرايا التي استهدفت القضايا المصيرية لجميع الشعوب الإسلامية، فقد رفعت شعار الدعوة إلى (الرضا من آل محمّدعليه‌السلام ) الذين كانوا هم الأمل الكبير للمضطهدين والمحرومين، وكادت أن تعصف هذه الثورة بالدولة العبّاسية، فقد استجاب لها معظم الأقطار الإسلامية، فقد كان قائدها الملهم أبو السرايا ممّن هذّبته الأيام، وحنّكته التجارب، وقام على تكوينه عقل كبير، فقد استطاع

ـــــــــ

(١) حياة الإمام محمّد الجوادعليه‌السلام : ١٩٨.

٥٢

بمهارته أن يجلب الكثير من أبناء الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ويجعلهم قادة في جيشه، ممّا أوجب اندفاع الجماهير بحماس بالغ إلى تأييد ثورته والانضمام إليها إلاّ أنّ المأمون قد استطاع بمهارة سياسية فائقة أن يقضي على هذه الحركة، ويقبرها في مهدها، فقد جلب الإمام الرضاعليه‌السلام إلى خراسان، وأرغمه على قبول ولاية العهد، وأظهر للمجتمع الإسلامي أنّه علوي الرأي، فقد رفق بالعلويّين، وأوعز إلى جميع أجهزة حكومته بانتقاص معاوية والحطّ من شأنه، وتفضيل الإمام أمير المؤمنين على جميع صحابة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاعتقد الجمهور أنّه من الشيعة واستطاع بهذا الأسلوب الماكر أن يتغلّب على الأحداث ويخمد نار الثورة(١)

لقد عاش الإمام أبو جعفر محمّد الجوادعليه‌السلام معظم حياته في عهد المأمون، ولم يلبث بعده إلاّ قليلاً حتى وافاه الأجل المحتوم.. ويرى بعض المؤرّخين أنّ المأمون كان يكنّ له أعظم الودّ وخالص الحبّ، فزوّجه من ابنته أم الفضل، ووفّر له العطاء الجزيل، وكان يحوطه، ويحميه ويخشى عليه عوادي الدهر، ويضنّ به على المكروه، وكان يصرّح أنّه يبغي بذلك الأجر من الله، وصلة الرحم التي قطعها آباؤه، وفيما أحسب أنّ ذلك التكريم لم يكن عن إيمان بالإمام أو إخلاص له، وإنّما كان لدوافع سياسية نعرض لها في المباحث الآتية.

وعلى أيّة حال فلابدّ لنا من وقفة قصيرة لدراسة حياة المأمون، والوقوف على اتّجاهاته الفكرية والعقائدية، والنظر فيما صدر منه من تكريم للإمامعليه‌السلام فإنّ ذلك ممّا يرتبط ارتباطاً موضوعيّاً بالبحث عن حياة الإمام أبي جعفرعليه‌السلام .

ـــــــــ

(١) راجع حياة الإمام محمد الجوادعليه‌السلام : ١٩٨ ـ ١٩٩.

٥٣

عبد الله المأمون: نزعاته وسياسته

عبد الله المأمون هو أبو العباس بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، ولد بالياسرية في ليلة الجمعة منتصف ربيع الأول سنة (١٧٠ هـ) وبويع له بمرو فتوجه إلى بغداد وقدمها وعمره إذ ذاك تسع وعشرون سنة وعشرة أشهر وعشرة أيام.

وأمه أم ولد تسمّى مراجِل.

من أبرز نزعات المأمون وصفاته:

١ ـ الدهاء: لم يعرف العصر العبّاسي من هو أذكى من المأمون، ولا من هو أدرى منه في الشؤون السياسية العامّة ، فقد كان سياسياً من الطراز الأوّل، حتّى استطاع بحدّة ذكائه، وقدراته السياسية أن يتغلّب على كثير من الأحداث الرهيبة التي ألمّت به، وكادت تطوي حياته، وتقضي على سلطانه، فقد استطاع أن يقضي على أخيه الأمين الذي كان يتمتّع بتأييد مكثّف من قِبل الأسرة العبّاسيّة، والسلطات العسكرية، كما استطاع أن يقضي على أعظم حركة عسكرية مضادّة له، تلك ثورة أبي السرايا التي اتّسع نطاقها فشملت الأقاليم الإسلامية حتى سقط بعضها بأيدي الثوار، وكان شعار تلك الثورة الدعوة إلى الرضا من آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحمل الإمام الرضاعليه‌السلام إلى خراسان، وكانعليه‌السلام زعيم الأسرة العلويّة وعميدها، فأرغمه على قبول ولاية العهد، وعهد إلى جميع أجهزة حكومته بإذاعة فضائله ومآثره، كما ضرب السكّة باسمه، فأوهم بذلك على الثوار والقوى الشعبية المؤيّدة لهم أنّه جادّ فيما فعله، حتى أيقنوا أنّه لا حاجة إلى الثورة وإراقة الدماء بعد أن حصل الإمامعليه‌السلام على ولاية العهد، وقضى بذلك على الثورة، وطوى معالمها، وهذا التخطيط كان من أروع المخطّطات السياسية التي عرفها العالم في جميع مراحل التاريخ.

٢ ـ القسوة: وانعدام الرحمة والرأفة من آفاق نفسه هي صفة أخرى له، والذي يدعم ذلك فهو قتله لأخيه حينما استولت عليه قوّاته العسكرية، ولو كان يملك شيئاً من الرحمة لما قتل أخاه. كما أنّه قابل العلويّين بعد قتله للإمام الرضاعليه‌السلام بمنتهى الشدّة والقسوة، فعهد إلى جلاّديه بقتلهم والتنكيل بهم أينما وجِدوا.

٥٤

٣ ـ الغدر: فقد بايع للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، وبعد ما تحققت مآربه السياسية دسّ إليه السمّ فقتله ليتخلّص منه.

٤ ـ ميله إلى اللهو: أمّا الميل إلى اللهو فقد أقبل عليه بنهم وفيما يلي بعض ما أثر عنه:

لعبه بالشطرنج:

ولم يكن شيء من الملاهي أحبّ إلى المأمون من الشطرنج(١) فقد هام في هذه اللعبة وقد وصفها بهذه الأبيات:

أرض مربّعة حمراء من أدم

ما بين ألفين موصوفين بالكرم

تذاكرا الحرب فاحتلالها شبهاً

من غير أن يسعيا فيها بسفك دم

هذا يغير على هذا وذاك على

هذا يغير وعين الحرب لم تنم

فانظر إلى الخيل قد جاشت بمعركة

في عسكرين بلا طبل ولا علم(٢)

وألمّ هذا الشعر بوصف دقيق للشطرنج، ولعلّه أسبق من نظم فيه الشعر الذي أحاط بأوصافه، وكان أبوه الرشيد مولعاً بالشطرنج، وقد أهدى إلى ملك فرنسا أدواته، وتوجد حالياً في بعض متاحف فرنسا.

ـــــــــ

(١) العقد الفريد: ٣ / ٢٥٤.

(٢) المستطرف: ٢ / ٣٠٦.

٥٥

ولعبه بالموسيقى:

وكان المأمون مولعاً بالغناء والموسيقى، وكان له هوى شديد في ذلك وكان معجباً كأشدّ ما يكون الإعجاب بأبي إسحاق الموصلي، الذي كان من أعظم العازفين والمغنّين في العالم العربي، وقد قال فيه: كان لا يغنّي أبداً إلاّ وتذهب عنّي وساوسي المتزايدة من الشيطان(١) .

وكان يحيي لياليه بالغناء والرقص والعزف على العود، ولم يمرّ اسم الله ولا ذكره في قصوره ولياليه.

٥ ـ تظاهره بالتشيّع:

لقد تظاهر المأمون بالتشيّع، حتى اعتقد الكثيرون أنّه من الشيعة ; لأنّه قام بما يلي:

أ ـ ردّ فدك للعلويّين: بعد أن صادرتها الحكومات السابقة عليه وكان قصدها إشاعة الفقر بين العلويّين، وفرض الحصار الاقتصادي عليهم حتى يشغلهم الفقر والبؤس عن مناهضة أولئك الحكّام، وقد أنعش المأمون العلويّين، ورفع عنهم تلك الضائقة الاقتصادية التي كانت آخذة بخناقهم، واعتبر البعض هذا الإجراء دليلاً على تشيّعه.

ب ـ تفضيل الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام على الصحابة: وقام المأمون بإجراء خطير فقد أعلن رسمياً فضل الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام على عموم الصحابة كما أعلن الحطّ من معاوية بن أبي سفيان.

وكان هذا الإجراء من أهمّ المخطّطات التي تُلفت النظر إلى تشيّعه، فقد جرى سلفه على انتقاص الإمامعليه‌السلام ، والحطّ من شأنه، وتقديم سائر الصحابة عليه.

ـــــــــ

(١) الحضارة العربية لجاك س. ريلر: ١٠٨.

٥٦

ج ـ ولاية العهد للإمام الرضا عليه‌السلام : حيث قيل إنّ معناها أنه قد أخرج بذلك الخلافة من العبّاسيّين إلى العلويّين.

ويلاحظ على كل هذه الظواهر أنه إنّما صنع الأُمور المتقدّمة تدعيماً لسياسته وأغراضه، ويدلّ على ذلك ما يلي:

أوّلاً: إنّه كان مختلفاً كأشدّ ما يكون الاختلاف مع الأسرة العبّاسية الذين كانت ميولهم مع أخيه الأمين لأنّ أُمّه زبيدة كانت من أندى الناس كفّاً، ومن صميم العبّاسيّين، أمّا أُمّ المأمون فهي مراجل، وكانت من إماء القصر العبّاسي، وكان العبّاسيّيون ينظرون إليه نظرة احتقار باعتبار أمه، فأراد المأمون بما أظهره من التشيّع إرغام أسرته الذين كانوا من ألدّ الأعداء لآل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشيعتهم.

ثانياً: إنّه أراد كشف الشيعة، ومعرفة السلطة بهم بعدما كانوا في الخفاء، ولم تستطع الحكومات العبّاسية معرفتهم والوقوف على أسمائهم وخلاياهم، فأراد المأمون بما صدر منه من إحسان لهم أن يكشفهم، وقد دلّت على ذلك بعض الوثائق الرسمية التي صدرت منه.

ثالثاً: إنّه أراد القضاء على الحركة الثورية التي فجّرتها الشيعة بقيادة الزعيم الكبير أبي السرايا، فرأى المأمون أن خير وسيلة للقضاء عليها وشلّ فعّاليّاتها هو الإحسان إلى الشيعة(١) .

ـــــــــ

(١) راجع حياة الإمام محمد الجوادعليه‌السلام : ٢٢١ ـ ٢٢٥.

٥٧

وقفة عند سلوك المأمون ونزعاته:

كانت حياة المأمون ـ قبل توليه الخلافة ـ حياة جد ونشاط وتقشف، على العكس من أخيه الأمين، الذي كان يميل إلى اللعب والبطالة أكثر منه إلى الجد والحزم.

ولعل سرّ ذلك يعود إلى أن المأمون لم يكن كأخيه، يشعر بأصالة محتده، ولا كان مطمئناً إلى مستقبله، والى رضا العبّاسيين به، بل كان يقطع بعدم رضاهم به خليفةً وحاكماً، ولهذا فقد وجد انه ليس لديه أي رصيد يعتمد عليه غير نفسه، فشمر عن ساعد الجد وبدأ يخطط لمستقبله منذ أن أدرك واقعه، والمميزات التي كان يتمتع بها أخوه الأمين عليه.

ويُلاحظ أنه كان يستفيد من أخطاء أخيه الأمين وأن الفضل عندما رأى اشتغال الأمين باللهو واللعب، أشار على المأمون بإظهار الورع والدين، وحسن السيرة، فأظهر المأمون ذلك وكان كلما اعتمد الأمين حركة ناقصة اعتمد المأمون حركة شديدة.

ومن هنا يتبيّن السرّ فيما يبدو من رسالته للعبّاسيين، حيث نصب فيها نفسه واعظاً تقيّاً، وأضفى عليها هالة من الورع والزهد في الدنيا والالتزام بأحكام الشريعة، ليروه ويراه الناس نوعية أخرى تفضل على نوعية أخيه الأمين.

وقد برع المأمون في العلوم والفنون حتى فاق أقرانه، بل فاق جميع خلفاء بني العباس، فإنه لم يكن في بني العباس أعلم من المأمون(١) .

وهو أعلم الخلفاء بالفقه والكلام(٢) .

وكل مَن تعرّض من المؤرخين وغيرهم، لشرح حال المأمون، قد شهد له

ـــــــــ

(١) حياة الحيوان: ١ / ٧٢.

(٢) الفهرست: ١٧٤، ابن النديم.

٥٨

بالتقدم، وبأنه رجل خلفاء بني العباس وواحدهم (١) .

وما يهمنا هنا، هو مجرد الإشارة إلى حال المأمون، وما كان عليه من الدهاء والسياسة وحسن التدبير.

وبالرغم من جدارة المأمون فيما إذا قورن إلى أخيه الأمين باعتراف أبيه الرشيد بذلك، لكن الرشيد قد اعتذر عن إسناده الأمر إلى الأمين بأن العبّاسيين لا يرضون بالمأمون خليفة(٢) .

ويرى بعض المؤرخين أنّ السرّ في عدم رضا العبّاسيين بالمأمون يرجع إلى أن الأمين كان عبّاسيّاً، بكل ما لهذه الكلمة من معنى فأبوه: هارون، وأمه زبيدة حفيدة المنصور... وكان في كنف الفضل بن يحيى البرمكي أخي الرشيد من الرضاعة وأعظم رجل نفوذاً في بلاط الرشيد، وكان يشرف على مصالحه الفضل بن الربيع، العربي الذي لم يكن ثمّة من شك في ولائه للعبّاسيين.

أمّا المأمون فقد كان في كنف جعفر بن يحيى، الذي كان أقل نفوذاً من أخيه الفضل. وكان مؤدبه والذي يشرف على مصالحه ذلك الرجل الذي لم يكن العباسيون يرتاحون إليه لأنه كان متهماً بالميل إلى العلويين... أما أم المأمون فخراسانية غير عربية...(٣) .

التحدّيات التي واجهت حكم المأمون وموقفه منها

لقد جابه حكم المأمون تحديات خطيرة كانت تهدد كيانه وكادت تعصف به، وكان بقاؤه في السلطة يحتاج إلى الكثير من الدهاء.

ـــــــــ

(١) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ١٥٤.

(٢) راجع الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ١٥٢.

(٣) راجع الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ١٥٦ ـ ١٥٧.

٥٩

وأهمّ ما كان يواجه المأمون ما يلي:

١ ـ تحرك الشيعة ضده وكان تحركاً عنيفاً، وكانت ثورة أبي السرايا التي عمّت الكثير من الحواضر الإسلامية آنذاك نموذجاً له.

٢ ـ تكتل العائلة العباسية ضد المأمون ووقوفها إلى جانب الأمين أولاً، ثم عزلها له وتعيين عمه إبراهيم بن المهدي بعد ذلك.

٣ ـ تحركات الخوارج والفئات المناوئة الأخرى.

٤ ـ وجود المخاطر الخارجية من جانب الدول المتربصة بالدولة الإسلامية، خصوصاً الدولة البيزنطية.

وأمام هذه التحديات قام المأمون بما يلي:

أولاً ـ تصفيته لتحرك أخيه الأمين والقوى المتحركة القوية ضده.

ثانياً ـ القيام بلعبة تولية الإمام الرضاعليه‌السلام لولاية العهد بالإكراه ليصوّر للأمة أنه مع القيادة الشرعية وأنه نقل الحكم إليها وهذا من شأنه أن يقلل من الروح الثورية للأمة باتجاه إقامة الحكم بقيادة أهل البيتعليهم‌السلام .

ثالثاً ـ محاربة وتصفية ثورات العلويين.

رابعاً ـ التصفية الجسدية للإمام الرضاعليه‌السلام بعد انتهائه من تصفية الثورات الخطيرة.

خامساً ـ التوجّه إلى بغداد للقضاء على معارضة البيت العباسي.

سادساً ـ تصفية مراكز القوى في الدولة باتجاه تعزيز قوته ووضعه.

سابعاً ـ إشاعة فتنة خلق القرآن لإشغال الناس بها عمّا يهمّهم.

ثامناً ـ تصفية قوى المعارضة من قبيل الخوارج.

تاسعاً ـ التوجه لمحاربة الدولة البيزنطية ودفع خطرها.

العلاقة بين الإمام الرضاعليه‌السلام والمأمون

وصلت المسيرة الإسلامية إثناء إمامة الرضاعليه‌السلام إلى مرحلة متقدمة نتيجة الجهود العظيمة التي بذلها الأئمة السابقون على الإمام الرضاعليه‌السلام مما جعل السلطة العباسية مضطرة للدخول فيما دخلت فيه من تولية الإمام الرضاعليه‌السلام لولاية العهد والإيحاء بتحويل الخلافة من العباسيين لأهل البيتعليهم‌السلام . ولإيضاح هذا الأمر نذكر الأُمور التالية:

٦٠