فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها8%

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 672

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 302751 / تحميل: 7564
الحجم الحجم الحجم
فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

١٠ - عقيدتنا في القضاء والقدر

ذهب قوم - وهم المجبرة(١) - الى انه تعالى هو القاعل لافعال المخلوقين ، فيكون قد اجبر الناس على فعل المعاصي ، وهو مع ذلك يعذبهم عليها ، واجبرهم على فعل الطاعات ومع ذلك يثيبهم عليها ؛ لانهم يقلون : ان افعالهم في الحقيقة افعاله ، وانما تنسب اليه الطبيعة بين الاشياء ، وانه تعالى هو السبب الحقيقي لا سبب سواه.

وقد انكروا السببية الطبيعية بين الاشياء ؛ اذ ظنوا ان ذلك هو مقتضى كونه تعالى هو الخالق الذي لا شريك له.

ومن يقول بهذه المقالة فقد نسب الظلم اليه ، تعالى عن ذلك.

وذهب قوم آخرون - وهم المفوضة(٢) - الى انه تعالى فوض الافعال

____________________

(١)ومنهم الاشاعرة الذين ذهبوا الى انكار السببية ، وانحصار السبب في الله تعالى ،وقالوا : ان النار - مثلا - لا تحرق شيئا بل عادة الله جرت على احراق الثوب المماس بها مثلا من دون مدخلية للنار في الاحراق وبذلك فقد ذهبوا الى ان افعال العباد مخلوقة له تعالى من دون دخل للعباد فيها ، أي أن العبد لا أثر له في ايجاد الفعل راجع : بداية المعارف الالهية : ١/١٥٩ وما بعدها.

ولا يخفى على من تتبع كتب الامامية انهم يبطلون الجبر خلافا للاشاعرة ، كما يبطلون التفويض خلافا للمعتزلة ، فقد روي عن الامام ابي الحسن علي بن محمد الهاديعليه‌السلام انه سئل عن افعال العباد فقيل له : هل هي مخلوقة لله تعالى ؟ فقالعليه‌السلام : (لو كان خالقا لها لما تبرأ منها وقد قال سبحانه( إن الله بريء من المشركين ورسوله ) [ التوبة ٩: ٣] ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم وانما تبرأ من شركهم وقبائحهم).

لاحظ : تصحيح الاعتقاد من مصنفات الشيخ المفيد : ٥/٤٣ ، بحار الانوار: ٥/٢٠.

(٢) وهم الذين نفوا حقيقة الجبر ، وأكثرهم المعتزلة ممن قالوا أن الفعل مفوض الينا ، ولا مدخلية

=

٤١

إلى المخلوقين، ورفع قدرته وقضاءه وتقديره عنها، باعتبار أنّ نسبة الأفعال إليه تعالى تستلزم نسبة النقص إليه، وأنّ للموجودات أسبابها الخاصة، وإن انتهت كلُّها إلى مسبِّب الأسباب والسبب الأول، وهو الله تعالى.

ومن يقول بهذه المقالة فقد أخرج الله تعالى من سلطانه(١) ، وأشرك

____________________

=

فيه لا رادته وإذنه تعالى، والذي أوجب هذا الزعم الفاسد هو الاحتراز عن نسبة المعاصي والفكر والقبائح إليه تعالى. والتفويض هو القول برفع الحظر عن الخلق في الأفعال والاباحة لهم مع ما شاؤوا من الاعمال وهذا قول الزنادقة وأصحاب الاباحات.

راجع: تصحيح الاعتقاد من مصنفات الشيخ المفيد: ٥/ ٤٧، بداية المعارف الإلهية: ١/ ١٦٦.

(١) ومن المستحسن أن نذكر في هذا الصدد ما رواه الاَصبغ بن نباته في حديث طويل: «إنّ شيخاً قام إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام في منصرفه عن صفين فقال: أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء الله وقدره؟ فقال: والذي فلق الحبّة، وبرأ النسمة، ما وطأنا موطئاً، ولا هبطنا وادياً إلاّ بقضاء الله وقدره، فقال الشيخ: عند الله تعالى احتسب عنائي؛ ما أرى لي من الأجر شيئاً. فقال لهعليه‌السلام : مه! أيّها الشيخ! لقد عظّم الله أجركم في مسيركم وانتم سائرون. وفي منصرفكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليها مضطرين. فقال الشيخ: فكيف والقضاء والقدر ساقانا؟ فقالعليه‌السلام : ويحك لعلك ظننت قضاءاً لازماً وقدراً حتماً؟ لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب، والوعد والوعيد، والامر والنهي، ولم تأت لائمة من الله لمذنب ولا محمدة لمحسن ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء، ولا المسيء أولى بالذم من المحسن. تلك مقالة عبدة الأوثان، وجنود الشيطان، وشهود الزور وأهل العمى عن الصواب. وهم قدرية هذه الامة ومجوسها؛ إنّ الله تعالى أمر تخييراً ونهى تحذيراً، وكلّف يسيراً. لم يعص مغلوباً، ولم يطع مكرهاً، ولم يرسل الرسل عبثاً، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً( ذَلِكَ ظَنُّ الّذينَ كَفروُا فَوَيلٌ للّذينَ كفَرُوا مِنَ النَّارِ ) [سورة ص ٣٨: ٢٧]. فقال الشيخ: وما القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلاّ بهما؟ فقالعليه‌السلام : هو الأمر من الله تعالى والحكم، وتلى قوله تعالى:( وَقَضَى ربُّكَ الاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إيّاهُ ) [الاسراء ١٧: ٢٣] فنهض الشيخ مسروراً وهو يقول:

أنت الامام الذي نرجوا بطاعته

يوم النشور من الرحمن رضوانا

=

٤٢

غيره معه في الخلق.

واعتقادنا في ذلك تبع لما جاء عن أئمتنا الأطهارعليهم‌السلام من الأَمر بين الأمرين، والطريق الوسط بين القولين، الذي كان يعجز عن فهمه أمثال أولئك المجادلين من أهل الكلام، ففرَّط منهم قوم وأفرط آخرون، ولم يكتشفه العلم والفلسفة إلاّ بعد عدة قرون(١) .

وليس من الغريب ممَّن لم يطّلع على حكمة الأَئمّةعليهم‌السلام وأقوالهم أن يحسب أنّ هذا القول - وهو الأمر بين الاَمرين - من مكتشفات بعض فلاسفة الغرب المتأخرين، وقد سبقه إليه أئمتنا قبل عشرة قرون.

فقد قال إمامنا الصادقعليه‌السلام لبيان الطريق الوسط كلمته المشهورة: «لا جبر ولا تفويض،ولكن أمر بين أمرين»(٢) .

____________________

=

أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً

جزاك ربّك عنّا منه إحساناً

شرح نهج البلاغة: ١٨/٢٢٧.

وأسند ابن عساكر هذا الحديث عن ابن عباس في تاريخ دمشق: ٣/٢٣١، وذكره الشيخ الصدوق في التوحيد: ٣٨٠، تجريد الاعتقاد بتحقيق محمد جواد الحسيني الجلالي: ٢٠٠، عقائد الاسلام من القرآن الكريم: ٤٥٥.

(١) قال الشيخ المفيد في تصحيح الاعتقاد: ٤٧(والواسطة بين هذين القولين - أي الجبر والتفويض - أنّ الله تعالى أقدر الخلق على أفعالهم، ومكّنهم من أعمالهم، وحدّ لهم الحدود في ذلك، ورسم لهم الرسوم، ونهاهم عن القبائح بالزجر والتخويف والوعد والوعيد، فلم يكن بتمكينهم من الأعمال مجبراً لهم عليها، ولم يفوّض إليهم الأعمال لمنعهم من أكثرها، ووضع الحدود لهم فيها، وأمرهم بحسنها، ونهاهم عن قبيحها، فهذا هو الفصل بين الجبر والتفويض) مصنّفات الشيخ المفيد المجلد الخامس.

(٢) الكافي: ١/١٦٠ ح١٣، الاحتجاج: ٢/٤٩٠، التوحيد: ٣٦٢، الاعتقادات للشيخ

=

٤٣

ما أجلَّ هذا المغزى، وما أدقّ معناه، وخلاصته: إنّ أفعالنا من جهة هي أفعالنا حقيقة ونحن اسبابها الطبيعية، وهي تحت قدرتنا واختيارنا، ومن جهة أخرى هي مقدورة لله تعالى، وداخلة في سلطانه؛ لاَنّه هو مفيض الوجود ومعطيه، فلم يجبرنا على افعالنا حتى يكون قد ظلمنا في عقابنا على المعاصي؛ لاَنّ لنا القدرة والاختيار فيما نفعل، ولم يفوِّض إلينا خلق أفعالنا حتى يكون قد أخرجها عن سلطانه، بل له الخلق والحكم والأمر، وهو قادر على كل شيء ومحيط بالعباد(١) .

وعلى كل حال، فعقيدتنا : أنّ القضاء والقدر سر من أسرار الله تعالى، فمن استطاع أن يفهمه على الوجه اللائق بلا إفراط ولا تفريط فذاك، وإلاّ فلا يجب عليه أن يتكلّف فهمه والتدقيق فيه؛ لئلاّ يضل وتفسد عليه عقيدته؛ لاَنّه من دقائق الأمور، بل من أدق مباحث الفلسفة التي لا يدركها إلاّ الأوحدي من الناس، ولذا زلّت به أقدام كثير من المتكلّمين(٢) .

____________________

=

الصدوق: ١٠، تصحيح الاعتقاد من مصنفات الشيخ المفيد: ٥/٤٦.

(١) سأل أبو حنيفة الامام أبا الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام عن أفعال العباد، ممن هي؟ فقال لهعليه‌السلام : «إنّ أفعال العباد لا تخلو من ثلاثة منازل؛ إمّا أن تكون من الله تعالى خاصّة، أو من الله ومن العبد على وجه الاشتراك فيها، أو من العبد خاصّة. فلو كانت من الله تعالى خاصة لكان أولى بالحمد على حسنها والذم على قبحها ولم يتعلق بغيره حمد ولا لوم فيها. ولو كانت من الله ومن العبد لكان الحمد لهما معاً فيها والذم عليهما جميعاً فيها، وإذا بطل هذان الوجهان ثبت انها من الخلق، فان عاقبهم الله تعالى على جنايتهم بها فله ذلك، وإن عفا عنهم فهو أهل التقوى وأهل المغفرة».

تصحيح الاعتقاد من مصنفات الشيخ المفيد: ٥/٤٤.

(٢) لخّص الشيخ المظفر في محاضراته الفلسفية هذه الفكرة الدقيقة بقوله: (كلّ من المجبّرة والمفوّضة نظروا إلى جهة وغفلوا عن الجهة الاخرى، ولكن الانسان يجب أن يكون ذا عينين

=

٤٤

فالتكليف به تكليف بما هو فوق مستوى مقدور الرجل العادي، ويكفي أن يعتقد به الانسان على الاجمال اتّباعاً لقول الأئمة الأطهارعليهم‌السلام من أنّه أمر بين الأمرين؛ ليس فيه جبر ولا تفويض.

وليس هو من الاصول الاعتقادية حتى يجب تحصيل الاعتقاد به على كل حال على نحو التفصيل والتدقيق.

____________________

=

لا ذا عين واحدة، فمن نظر بعين واحدة كان أعور، ينظر إلى إفاضة الوجود من جهة واحده فيتصور أنّ الناس مجبورون، وينظر من الجهة الاخرى وهو أنّ الناس يعملون اعمالهم باختيارهم فيتخيل أنّهم مفوضون، ولكن لو انقطع فيض الله تعالى عني لحظة واحدة لانعدمت وانعدمت أفعالي وأنا أسبح في سلطانه وعظمته.

معنى الجبر: أنّ فاعل ما منه الوجود هو فاعل ما به الوجود، وهو الله تعالى، ومعنى التفويض: أنّ العبد هو فاعل ما به الوجود وما منه الوجود، ولكن القوم لم يلتفتوا إلى هذه النكتة، وهي أنّ العبد فاعل ما به الوجود، والله تعالى فاعل ما منه الوجود، فمن ناحية فاعل ما به الوجود لا جبر، ومن ناحية فاعل ما منه الوجود لا تفويض، فيصحّ في العقل ما جاء في الاثر عن أهل البيتعليهم‌السلام : «لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين»).

الفلسفة الاسلامية: ٨٤.

٤٥

١١ - عقيدتنا في البداء

البداء في الانسان: أن يبدو له رأي في الشيء لم يكن له ذلك الرأي سابقاً، بأن يتبدَّل عزمه في العمل الذي كان يريد أن يصنعه؛ إذ يحدث عنده ما يغيِّر رأيه وعلمه به، فيبدو له تركه بعد أن كان يريد فعله، وذلك عن جهل بالمصالح، وندامة على ما سبق منه.

والبداء بهذا المعنى يستحيل على الله تعالى. لاَنّه من الجهل والنقص، وذلك محال عليه تعالى، ولا تقول به الامامية.

قال الصادقعليه‌السلام : «مَن زعم أنّ الله تعالى بدا له في شيء بداء ندامة فهو عندنا كافر بالله العظيم»(١) .

وقال أيضاً: «من زعم أن الله بدا له في شيء ولم يعلمه أمس فأبرأ منه»(٢) .

غير أنّه وردت عن أئمتنا الأطهارعليهم‌السلام روايات توهم القول بصحة البداء بالمعنى المتقدِّم، كما ورد عن الصادقعليه‌السلام : «ما بدا لله في شيء كما بدا له في اسماعيل ابني»(٣) ولذلك نَسبَ بعض المؤلّفين

____________________

(١) إكمال الدين: ٦٩.

(٢) المصدر السابق: ٧٠.

(٣) التوحيد: ٣٣٦ ح١٠، إكمال الدين: ٦٩، تصحيح الاعتقاد من مصنّفات الشيخ المفيد: ٥/٦٦. وقد أوضح الشيخ المفيد معنى الحديث بقوله: (أراد بهعليه‌السلام ما ظهر من الله تعالى فيه من دفاع القتل عنه، وقد كان مخوفاً عليه من ذلك مظنوناً به، فلطف له في دفعه عنه.

وقد جاء الخبر بذلك عن الصادقعليه‌السلام ، فروي عنه أنّه قال: «كان القتل قد كتب على اسماعيل مرّتين فسألت الله في دفعه عنه فدفعه»، وقد يكون الشيء مكتوباً بشرط فيتغيّر

=

٤٦

في الفرق الاسلامية إلى الطائفة الامامية القول بالبداء طعناً في المذهب وطريق آل البيت، وجعلوا ذلك من جملة التشنيعات على الشيعة.

والصحيح في ذلك أن نقول كما قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:( يَمْحوُا اللهُ ما يَشَآءُ وَيُثبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ ) (١) .

ومعنى ذلك: أنّه تعالى قد يُظهر شيئاً على لسان نبيِّه أو وليِّه، أو في ظاهر الحال لمصلحة تقتضي ذلك الاِظهار، ثم يمحوه فيكون غير ما قد ظهر أولاً، مع سبق علمه تعالى بذلك، كما في قصة اسماعيل لما رأى ابوه إبراهيم أنّه يذبحه(٢) .

فيكون معنى قول الامامعليه‌السلام : أنّه ما ظهر لله سبحانه أمر في شيء كما ظهر له في اسماعيل ولده؛ إذ اخترمه قبله ليعلم الناس أنّه ليس بإمام، وقد كان ظاهر الحال أنّه الاِمام بعده؛ لاَنّه أكبر ولده(٣) .

____________________

الحال فيه).

(١) الرعد ١٣: ٣٩.

(٢) قال تعالى:( فَلمّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعيَ قالَ يبنَيَّ إنّي أرَى في المَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرُ مَاذا تَرىَ قال يا أَبَتِ افْعَل مَا تُؤمَرُ سَتَجدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرينَ * فَلَمّا أَسْلَما وَتَلّهُ لِلجبيِن* وَنادَيْناهُ أَنْ يا إبراهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤيا إِنّا كذلِكَ نَجْزِي المُحسِنينَ * إنّ هَذا لَهُوَ البل-وءُ المُبيِنُ * وَفَدَيْنهُ بِذِبْحٍ عَظيمٍ ) الصافات ٣٧: ١٠٢ - ١٠٧.

(٣) ونجد أنّ مجموعة من الشيعة - وعلى الرغم ممّا فعله الامام الصادقعليه‌السلام ، وما قاله في وفاة وتجهيز وتكفين ولده اسماعيل - قالوا بإمامة اسماعيل بعد أبيه الامام الصادقعليه‌السلام ، وهؤلاء هم الذين يدعون ب- «الاسماعيلية»، وهم يفترقون عن الشيعة الامامية بقولهم: إنّ الامامة بعد الامام الصادقعليه‌السلام انتقلت الى ولده الاكبر اسماععيل ويزعمون ان الامام الصادقعليه‌السلام نص عليه في حياته. وقد اختلفوا في اسماعيل، فمنهم من قال بموته في حياة أبيه - وهو الثابت والمتواتر تأريخياً كما يشير إليه المصنّف هنا - وهؤلاء قالوا بأنّ الامامة تبقى في ذريته، وأولهم محمد بن اسماعيل وقسم منهم يقول بأنّه

=

٤٧

وقريب من البداء في هذا المعنى نسخ أحكام الشرائع السابقة بشريعة نبيِّناصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل نسخ بعض الأحكام التي جاء بها نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

____________________

=

- أي اسماعيل - لم يمت وإنّما أظهر أبوهعليه‌السلام موته تقيّةً من العباسيين، وأشهد على موته وتجهيزه عامل المنصور بالمدينة محمد بن سليمان، وهؤلاء بين من وقف على محمد بن إسماعيل ولم يتجاوزه إلى غيره - وهم المسمّون بالواقفة - ، وبين من تعدّى عن محمد بن إسماعيل وجعل الامامة في سبعة سبعة؛ بين ظاهر ومستور كأيّام الاسبوع وعدد السموات والاَرضين والاَفلاك، وانّ أول سبعة ظاهرين يبدأون من الامام عليعليه‌السلام وينتهون باسماعيل، وأوّل سبعة مستورين يبدأون بمحمد بن اسماعيل، ثمّ ولده جعفر المصدّق، ثمّ ولده محمد الحبيب، ثم عبدالله المهدي الذي ظهر في شمال افريقيه ومن ولده تكونت الدولة الفاطمية.

راجع، فرق الشيعة: ٦٧، الفصول المختارة من العيون والمحاسن: ٣٠٨، الشيعة بين الاَشاعرة والمعتزلة: ٧٨، تاريخ المذاهب الاسلامية: ٥٤، الملل والنحل للشهرستاني: ١/١٤٩، الفرق بين الفرق: ٦٢.

(١) يذكر الامام الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء في هذا الصدد قوله: (البداء في عالم التكوين كالنسخ في عالم التشريع، فكما أنّ لنسخ الحكم وتبديله بحكم آخر مصالح وأسراراً بعضها غامض وبعضها ظاهر فكذلك في الاخفاء والابداء في عالم التكوين، على أنّ قسماً من البداء يكون من اطّلاع النفوس المتّصلة بالملأ الأعلى على الشيء وعدم اطّلاعها على شرطه أو مانعه. مثلاً اطّلع عيسىعليه‌السلام أنّ العروس يموت ليلة زفافه، ولكن لم يطّلع على أنّ ذلك مشروط بعدم صدقة أهله، فاتفق أنّ أمه تصدّقت عنه، وكان عيسىعليه‌السلام أخبر بموته ليلة عرسه فلم يمت وسئل عن ذلك فقال: «لعلّكم تصدّقتم عنه والصدقة قد تدفع البلاء المبرم» وهكذا نظائرها... ولولا البداء لم يكن وجه للصدقة، ولا للدعاء، ولا للشفاعة، ولا لبكاء الأنبياء والأولياء وشدّة خوفهم وحذرهم من الله مع أنّهم لم يخالفوه طرفة عين، إنّما خوفهم من ذلك العلم المصون المخزون الذي لم يطّلع عليه أحد).

أصل الشيعة وأصولها: ٣١٤.

٤٨

١٢ - عقيدتنا في أحكام الدين

نعتقد: أنّه تعالى جعل أحكامه - من الواجبات والمحرَّمات وغيرهما - طبقاً لمصالح العباد في نفس أفعالهم، فما فيه المصلحة الملزمة جعله واجباً، وما فيه المفسدة البالغة نهى عنه، وما فيه مصلحة راجحة ندبنا إليه...

وهكذا في باقي الأحكام، وهذا من عدله ولطفه بعباده.

ولا بدّ أن يكون له في كل واقعة حكم(١) ، ولا يخلو شيء من الأشياء من حكم واقعي لله فيه، وإن انسدَّ علينا طريق علمه.

ونقول أيضاً: إنّه من القبيح أن يأمر بما فيه المفسدة، أو ينهى عمّا فيه المصلحة.

غير أنّ بعض الفِرق من المسلمين يقولون: إنّ القبيح ما نهى الله تعالى عنه، والحسن ما أمر به، فليس في نفس الاَفعال مصالح أو مفاسد ذاتية، ولا حسن أو قبح ذاتيان(٢) ، وهذا قول مخالف للضرورة العقلية.

كما أنّهم جوَّزوا أن يفعل الله تعالى القبيح فيأمر بما فيه المفسدة، وينهى عما فيه المصلحة. وقد تقدَّم أنّ هذا القول فيه مجازفة عظيمة ، وذلك

____________________

(١) قال تعالى:( مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيءٍ ) الانعام ٦: ٣٨. وورد في الحديث: «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب الله» الكافي: ١/٧٨ ح٦. وورد أيضاً. «ما من حادثة إلاّ ولله فيها حكم» البحار: ٩٣/٩١.

(٢) قالت الاَشاعرة: إنّ الحسن والقبح شرعيان، ولا يقضي العقل بحسن شيء منها ولا بقبحه، بل القاضي بذلك هو الشرع، فما حسّنه فهو حسن وما قبّحه فهو قبيح.

لاحظ: نهج الحق: ٨٣، الملل والنحل: ١/٨٩، شرح التجريد للقوشجي: ٣٧٥.

٤٩

لاستلزامه نسبة الجهل أو العجز إليه سبحانه، تعالى علواً كبيراً.

والخلاصة: أنّ الصحيح في الاعتقاد أن نقول: إنّه تعالى لا مصلحة له ولا منفعة في تكليفنا بالواجبات ونهينا عن فعل ما حرَّمه، بل المصلحة والمنفعة ترجع لنا في جميع التكاليف، ولا معنى لنفي المصالح والمفاسد في الأفعال المأمور بها والمنهي عنها؛ فإنّه تعالى لا يأمر عبثاً ولا ينهى جزافاً، وهو الغني عن عباده.

٥٠

الفصل الثاني

النبوّة

عقيدتنا في النبوّة

النبوّة لطف

عقيدتنا في معجزة الأنبياء

عقيدتنا في عصمة الأنبياء

عقيدتنا في صفات النبي

عقيدتنا في الأنبياء وكتبهم

عقيدتنا في الاِسلام

عقيدتنا في مشرّع الاِسلام

عقيدتنا في القرآن الكريم

طريقة إثبات الاِسلام والشرائع السابقة

٥١

١٣ - عقيدتنا في النبوّة

نعتقد: أنّ النبوّة وظيفة إلهية، وسفارة ربّانية، يجعلها الله تعالى لمن ينتجبه ويختاره من عباده الصالحين وأوليائه الكاملين في إنسانيّتهم، فيرسلهم إلى سائر الناس لغاية إرشادهم إلى ما فيه منافعهم ومصالحهم في الدنيا والآخرة، ولغرض تنزيههم وتزكيتهم من درن مساوئ الأخلاق ومفاسد العادات، وتعليمهم الحكمة والمعرفة، وبيان طرق السعادة والخير؛ لتبلغ الانسانية كمالها اللائق بها، فترتفع إلى درجاتها الرفيعة في الدارين دار الدنيا ودار الآخرة.

ونعتقد: أنّ قاعدة اللطف - على ما سيأتي معناها - توجب أن يبعث الخالق - اللطيف بعباده - رسله لهداية البشر، وأداء الرسالة الاصلاحية، وليكونوا سفراء الله وخلفاءه.

كما نعتقد: أنّه تعالى لم يجعل للناس حق تعيين النبي أو ترشيحه أو انتخابه، وليس لهم الخيرة في ذلك، بل أمر كلّ ذلك بيده تعالى؛ لاَنّه( أَعلمُ حَيثُ يَجعَلُ رِسَالَتهُ ) (١) .

وليس لهم أن يتحكَّموا فيمن يرسله هادياً ومبشِّراً ونذيراً، ولا أن يتحكَّموا فيما جاء به من أحكام وسنن وشريعة(٢) .

____________________

(١) الاَنعام ٦: ١٢٤.

(٢) وقد قال الامام عليعليه‌السلام في خطبة له يصف فيها ابتداء خلق السماء والارض وخلق آدمعليه‌السلام ، ويذكر الانبياء وبعثتهم فيقول:

«واصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم لمّا بدّل أكثرُخلقه عهد الله إليهم فجهلوا حقّه، واتخذوا الانداد معه، واجتالتهم الشياطين

٥٢

____________________

=

عن معرفته، واقتطعتهم عن عبادته، فبعث إليهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكّروهم منسيّ نعمته، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم آيات المقدرة؛ من سقف فوقهم مرفوع، ومهاد تحتهم موضوع، ومعايش تحييهم، وآجال تفنيهم، وأوصاب تهرمهم، وأحداث تتابع عليهم، ولم يخل الله سبحانه خلقه من نبي مرسل، أو كتاب منزل، أو حجّة لازمة أو محجّة قائمة، رسل لا تقصر بهم قلّة عددهم ولا كثرة المكذبين لهم، من سابق سُمّي له مَن بعده، أو غابر عرّفه من قبله. على ذلك نسلت القرون، ومضت الدهور، وسلفت الآباء، وخلفت الأبناء، إلى أن بعث الله سبحانه محمّداً رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لاِنجاز عدتِه، وإتمام نبوّته، مأخوذاً على النبيين ميثاقه، مشهورة سماته، كريماً ميلاده، وأهل الأرض يومئذٍ مللّ متفرّقة، وأهواء منتشرة، وطرائق متشتتة؛ بين مشبّه لله بخلقه، أو ملحد في اسمه، أو مشير إلى غيره، فهداهم به من الضلالة، وأنقذهم بمكان من الجهالة...». راجع: نهج البلاغة: الخطبة: ١، وغيرها من الخطب أيضاً ففيها إشارات وذكر حول بعثة الأنبياءعليهم‌السلام .

٥٣

١٤ - النبوّة لطف

إنّ الانسان مخلوق غريب الأطوار، معقَّد التركيب في تكوينه وفي طبيعته وفي نفسيّته وفي عقله، بل في شخصية كلّ فرد من أفراده، وقد اجتمعت فيه نوازع الفساد من جهة، وبواعث الخير والصلاح من جهة أخرى(١) .

فمن جهة قد جُبل على العواطف والغرائز من حب النفس، والهوى، والاثرة، وإطاعة الشهوات، وفطر على حب التغلُّب، والاستطالة، والاستيلاء على ما سواه، والتكالب على الحياة الدنيا وزخارفها ومتاعها كما قال تعالى:( إنَّ الاِنسنَ لَفِي خُسْرٍ ) (٢) و( إنَّ الاِنسنَ لَيَطْغَى * أَنْ رآهُ استَغنَى ) (٣) و( إنَّ النَّفْس لاَمَّارَةٌ بالسُّوءِ ) (٤) إلى غير ذلك من الآيات المصرِّحة والمشيرة إلى ما جُبلت عليه النفس الاِنسانية من العواطف والشهوات.

ومن الجهة الثانية، خلق الله تعالى فيه عقلاً هادياً يرشده إلى الصلاح ومواطن الخير، وضميراً وازعاً يردعه عن المنكرات والظلم ويؤنبه على فعل ما هو قبيح ومذموم.

ولا يزال الخصام الداخلي في النفس الانسانية مستعراً بين العاطفة والعقل، فمن يتغلَّب عقله على عاطفته كان من الأعلين مقاماً، والراشدين

____________________

(١) فقد قال تعالى:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّيها* فَألْهَمهَا فُجُورَهَا وتَقْوَيها ) الشمس ٩١: ٧ - ٨.

(٢) العصر ١٠٣: ٢.

(٣) العلق ٩٦: ٦، ٧.

(٤) يوسف ١٢: ٥٣.

٥٤

في انسانيتهم، والكاملين في روحانيتهم، ومن تقهره عاطفته كان من الأخسرين منزلة، والمتردّين إنسانية، والمنحدرين إلى رتبة البهائم.

واشد هذين المتخاصمين مراساً على النفس هي العاطفة وجنودها، فلذلك تجد أكثر الناس منغمسين في الضلالة، ومبتعدين عن الهداية، بإطاعة الشهوات، وتلبية نداء العواطف( وَمَا أَكثَرُ النَّاسِ ولو حَرَصتَ بِمُؤمِنيِنَ ) (١) .

على أنّ الانسان لقصوره، وعدم اطّلاعه على جميع الحقائق، وأسرار الأشياء المحيطة به، والمنبثقة من نفسه، لا يستطيع أن يعرف بنفسه كل ما يضرّه وينفعه، ولا كل ما يسعده ويشقيه؛ لا فيما يتعلَّق بخاصّة نفسه، ولا فيما يتعلّق بالنوع الانساني ومجتمعه ومحيطه، بل لا يزال جاهلاً بنفسه، ويزيد جهلاً، أو ادراكاً لجهله بنفسه، كلّما تقدّم العلم عنده بالأشياء الطبيعية، والكائنات المادية.

وعلى هذا، فالانسان في أشدّ الحاجة ليبلغ درجات السعادة إلى من ينصب له الطريق اللاحب، والنهج الواضح إلى الرشاد واتّباع الهدى؛ لتقوى بذلك جنود العقل، حتى يتمكن من التغلب على خصمه اللَّدود اللجوج عندما يهيىء الانسان نفسه لدخول المعركة الفاصلة بين العقل والعاطفة.

وأكثر ما تشتد حاجته إلى من يأخذ بيده إلى الخير والصلاح عندما تخادعه العاطفة وتراوغه - وكثيراً ما تفعل - فتزيِّن له أعماله، وتحسّن لنفسه انحرافاتها؛ إذ تريه ما هو حسن قبيحاً، أو ما هو قبيح حسناً، وتلبس على العقل طريقه إلى الصلاح والسعادة والنعيم، في وقت ليس له تلك المعرفة التي تميّز له كلّ ما هو حسن ونافع، وكل ما هو قبيح وضار. وكل واحد منّا

____________________

(١) يوسف ١٢: ١٠٣.

٥٥

صريع لهذه المعركة من حيث يدري ولا يدري، إلاّ من عصمه الله.

ولأجل هذا يعسر على الانسان المتمدِّن المثقَّف - فضلاً عن الوحشي الجاهل - أن يصل بنفسه إلى جميع طرق الخير والصلاح، ومعرفة جميع ما ينفعه ويضرّه في دنياه وآخرته، فيما يتعلَّق بخاصة نفسه أو بمجتمعه ومحيطه، مهما تعاضد مع غيره من أبناء نوعه ممّن هو على شاكلته وتكاشف معهم، ومهما أقام بالاشتراك معهم المؤتمرات والمجالس والاستشارات.

فوجب أن يبعث الله تعالى في الناس رحمة لهم ولطفاً بهم( رَسُولاً مِنهُم يَتلوُا عَلَيهِم ءايتِه وَيُزكِّيهِم ويُعلّمُهُمُ الكِتبَ والحكمَةَ ) (١) وينذرهم عمّا فيه فسادهم، ويبشّرهم بما فيه صلاحهم وسعادتهم.

وإنّما كان اللطف من الله تعالى واجباً، فلأنّ اللطف بالعباد من كماله المطلق، وهو اللطيف بعباده الجواد الكريم، فإذا كان المحل قابلاً ومستعدّاً لفيض الجود واللطف، فإنّه تعالى لا بد أن يفيض لطفه؛ إذ لا بخل في ساحة رحمته، ولا نقص في جوده وكرمه.

وليس معنى الوجوب هنا أنّ أحداً يأمره بذلك فيجب عليه أن يطيع تعالى عن ذلك، بل معنى الوجوب في ذلك هو كمعنى الوجوب في قولك: إنّه واجب الوجود (أي اللزوم واستحالة الانفكاك).

____________________

(١) الجمعة ٦٢: ٢.

٥٦

١٥ - عقيدتنا في معجزة الأنبياء

نعتقد: أنّه تعالى إذ ينصّب لخلقه هادياً ورسولاً لا بدّ أن يعرِّفهم بشخصه، ويرشدهم إليه بالخصوص على وجه التعيين، وذلك منحصر بأن ينصب على رسالته دليلاً وحجّة يقيمها لهم(١) ؛ إتماماً للطف، واستكمالاً للرحمة.

وذلك الدليل لا بدّ أن يكون من نوع لا يصدر إلا من خالق الكائنات، ومدبر الموجودات - أي فوق مستوى مقدور البشر - فيجريه على يدي ذلك الرسول الهادي؛ ليكون معرِّفاً به، ومرشداً إليه، وذلك الدليل هو المسمى بالمعجز أو المعجزة؛ لاَنّه يكون على وجه يعجز البشر عن مجاراته والاِتيان بمثله.

وكما أنّه لا بد للنبي من معجزة يظهر بها للناس لاِقامة الحجة عليهم، فلا بد أن تكون تلك المعجزة ظاهرة الاِعجاز بين الناس على وجه يعجز عنها العلماء وأهل الفن في وقته، فضلاً عن غيرهم من سائر الناس، مع اقتران تلك المعجزة بدعوى النبوّة منه؛ لتكون دليلاً على مدَّعاه، وحجة بين يديه، فإذا عجز عنها أمثال أولئك عُلم أنّها فوق مقدور البشر، وخارقة للعادة، فيُعلم أنّ صاحبها فوق مستوى البشر، بما له من ذلك الاتصال الروحي بمدبِّر الكائنات.

وإذا تمَّ ذلك لشخص، من ظهورالمعجز الخارق للعادة، وادّعى - مع

____________________

(١) قال تعالى:( رُسلاً مُبَشِّرينَ وَمُنْذِرِينَ لِئلا يَكُونَ للِنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةً بَعْدَ الرُّسُلِ وكَانَ اللهُ عَزِيزَاً حَكِيماً ) النساء ٤: ١٦٥.

٥٧

ذلك - النبوة والرسالة، يكون حينئذٍ موضعاً لتصديق الناس بدعواه، والايمان برسالته، والخضوع لقوله وأمره، فيؤمن به من يؤمن، ويكفر به من يكفر.

ولأجل هذا وجدنا أنّ معجزة كل نبي تناسب ما يشتهر في عصره من العلوم والفنون، فكانت معجزة موسىعليه‌السلام هي العصا التي تلقف السحر وما يأفكون؛ إذ كان السحر في عصره فنّاً شائعاً، فلما جاءَت العصا بطل ما كانوا يعملون، وعلموا أنّها فوق مقدروهم، وأعلى من فنّهم، وأنّها ممّا يعجز عن مثله البشر، ويتضاءل عندها الفن والعلم(١) .

وكذلك كانت معجزة عيسىعليه‌السلام ، وهي إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى؛ إذ جاءَت في وقت كان فن الطب هو السائد بين الناس، وفيه علماء وأطباء لهم المكانة العليا، فعجز علمهم عن مجاراة ما جاء به عيسىعليه‌السلام (٢) .

ومعجزة نبينا الخالدة هي القرآن الكريم، المعجز ببلاغته وفصاحته، في وقت كان فن البلاغة معروفاً. وكان البلغاء هم المقدَّمين عند الناس بحسن بيانهم وسموِّ فصاحتهم، فجاء القرآن كالصاعقة؛ أذلّهم وأدهشهم، وأفهمهم أنّهم لا قِبَل لهم به، فخنعوا له مهطعين عندما عجزوا عن مجاراته،

____________________

(١) قال تعالى:( وَأَوحَيْنا إلى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأفِكُونَ * فَوقَعَ الحَقُّ وبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلوُنَ * فَغُلِبوُا هُنَالِكَ وانْقَلَبوُا صَاغِريِنَ * وأُلقِيَ السَحَرَةُ سجدين ) الاعراف ٧: ١١٧ - ١٢٠.

(٢) قال تعالى:( وَرَسُولاً إلى بَنيِ إِسرءِيلَ أَنِّي قد جئتُكُم بِآيةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أنِّي أخَلُقُ لَكُمْ مِنَ الْطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَيْرِ فَأنفخُ فِيهِ فَيَكُونُ طيراً بإذنِ الله وأُبْريءُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ وأُحْيي الموتَى بإذْن الله وأُنَبِّئُكُمْ بما تأكلُونَ وما تَدَّخِرون في بيوتِكُمْ إنّ في ذلِكَ لآيةً لَكُمْ إنّ كُنتُمْ مُؤمِنينَ ) آل عمران ٣: ٤٩.

٥٨

وقصروا عن اللحاق بغبارة»(١) .

ويدلّ على عجزهم أنّه تحدّاهم بإتيان عشر سور مثله فلم يقدروا(٢) ، ثمّ تحدّاهم أن يأتوا بسورة من مثله(٣) فنكصوا، ولمّا علمنا عجزهم عن مجاراته - مع تحدّيه لهم، وعلمنا لجوءهم إلى المقاومة بالسنان دون اللسان - علمنا أنّ القرآن من نوع المعجز، وقد جاء به محمد بن عبدالله مقروناً بدعوى الرسالة. فعلمنا أنّه رسول الله، جاء بالحق وصدق به،صلى‌الله‌عليه‌وآله .

____________________

(١) قال تعالى:( قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الاِنْسُ والجِنُّ عَلَى أَنْ يَأتُوا بِمِثْلِ هذا القُرءانَ لاَ يَأتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) الاسراء ١٧: ٨٨.

(٢)( أَمْ يَقُولُونَ افتريهُ قُلْ فَأتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صدِقِيْنَ ) هود ١١: ١٣.

(٣) قال تعالى أيضاً:( وَإنْ كُنْتُم في رَيْبٍ مِمَّا نزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وادعوا شهُدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُم صَدِقِينَ ) البقرة ٢: ٢٣.

وقال تعالى أيضاً :( أَمْ يَقُولُونَ افْتريهُ قُلْ فَأتُوا بِسُوَرَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ استَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَدقِينَ ) يونس ١٠: ٣٨.

٥٩

١٦ - عقيدتنا في عصمة الأنبياء

ونعتقد: أنّ الأنبياء معصومون قاطبة، وكذلك الأئمة عليهم جميعاً التحيات الزاكيات، وخالَفَنا في ذلك بعض المسلمين، فلم يوجبوا العصمة في الأنبياء ، فضلاً عن الأئمة.

والعصمة: هي التنزُّه عن الذنوب والمعاصي صغائرها وكبائرها، وعن الخطأ والنسيان(٢) ، وإن لم يمتنع عقلاً على النبي أن يصدر منه ذلك، بل

____________________

(١) انظر: شرح المقاصد: ٥/٥٠، الغنية في اصول الدين: ١٦١.

وذكر السيد المرتضى في تنزيه الانبياء ما نصه: (وجوّز أصحاب الحديث والحشوية على الأنبياء الكبائر قبل النبوّة، ومنهم من جوّزها في حال النبوّة سوى الكذب فيما يتعلّق بأداء الشريعة، ومنهم من جوّزها كذلك - في حال النبوّة - بشرط الاستسرار دون الاِعلان، ومنهم من جوّزها على الأحوال كلها. ومنعت المعتزلة من وقوع الكبائر والصغائر المستخفة من الانبياءعليهم‌السلام قبل النبوّة وفي حالها، وجوّزت في الحالين وقوع ما لا يستخف من الصغائر، ثم اختلفوا؛ فمنهم من جوّز على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الاِقدام على المعصية الصغيرة على سبيل العمد، ومنهم من منع ذلك وقال إنّهم لا يقدمون على الذنوب التي يعلمونها ذنوباً بل على سبيل التأويل، وحكي عن النظام وجعفر بن مبشر وجماعة ممّن تبعهما أنّ ذنوبهم لا تكون إلاّ على سبيل السهو والغفلة، وأنّهم مؤاخذون بذلك وإن كان موضوعاً عن أممهم بقوّة معرفتهم وعلوّ مرتبتهم). تنزيه الأنبياء: المقدمة.

(٢) معنى العصمة في أصل اللغة هي: ما اعتصم به الانسان من الشيء؛ كأنّه امتنع به عن الوقوع فيما يكره، وليس هو جنساً من أجناس الفعل، ومنه قولهم: إعتصم فلان بالجبل، إذا امتنع به، ومنه سميت العصم، وهي وعول الجبال؛ لامتناعها بها.

وقال في لسان العرب: (إنّ العصمة هي الحفظ، يقال: عصمته فانعصم،، واعتصمت بالله، إذا امتنعت بلطفه من المعصية).

والعصمة من الله تعالى هي: التوفيق الذي يسلم به الانسان ممّا يكره إذا أتى بالطاعة، وذلك مثل إعطائنا رجلاً غريقاً حبلاً ليتشبّث به فيسلم، وقد بيّن الله تعالى هذا المعنى في

=

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

ومحنهم ومصائبهم التي قد تبلغ حدّ الكوارث.

الرابع : المدّ الإلهي غير المحدود، والكرامات الباهرة، والمعاجز القاهرة التي تأخذ بالأعناق؛ حيث يعطي ذلك حيوية ودفعاً للدعوة باستمرار.

فرض الكيان الشيعي على أرض الواقع

وكانت نتيجة ذلك كلّه أن فرض هذا الكيان المتميّز نفسه على أرض الواقع - رغم المعوّقات الكثيرة، والصراع المرير على طول التاريخ حتى يومنا الحاضر - من دون أن يعتمد على سلطة ينسّق معها وتدعمه، وإن كان قد يستفيد من السلطة في بعض الفترات من دون أن يكون تابعاً لها منصهراً بها، أو تتحكّم فيه وفي توجهاته.

وقد حصل ذلك بفضل جهود الأئمّة من ذرية الإمام الحسين (صلوات الله عليهم) بعد أن أصحروا بإعراضهم عن السلطة، وتفرّغوا لشيعتهم؛ ليكملوا الشوط، ويستثمروا المكاسب العظيمة التي حقّقها الأئمّة الأوّلون (صلوات الله عليهم) والخاصة من شيعتهم في سلوكهم الحكيم، وتضحياتهم الجسيمة.

تحقيق الوعد الإلهي ببقاء جماعة تلتزم الحقّ وتدعو له

كلّ ذلك من أجل قيام طائفة في الأُمّة ظاهرة، تنطق بالحق، وتعمل به، وتدعو له، وتكبح جماح الانحراف، وتنكر عليه.

تحقيقاً للوعد الإلهي الذي يشير إليه قوله (عزّ وجلّ) في محكم كتابه المجيد:( وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) (١) .

وقوله تعالى:( وَإِن تَتَوَلَّوْا

____________________

١ - سورة الأعراف/١٨١.

٥٢١

يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثمّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) (١) ، وقوله سبحانه:( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (٢) .

وهو صريح ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: «لا تزال طائفة من أُمّتي ظاهرين على الحقّ، لا يضرّهم مَنْ خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك»(٣) .

وحديث سليمان بن هارون عن الإمام الصادق (صلوات الله عليه) الذي يردّ فيه على بعض الدعوات المنحرفة عن خطّ الإمامية حيث قال (عليه السّلام) عن سيف النبي صلى الله عليه وآله وسلم منكراً دعواهم: «وإنّ صاحبه لمحفوظ محفوظ له. ولا يذهبن يميناً ولا شمالاً؛ فإنّ الأمر واضح. والله لو أنّ أهل الأرض اجتمعوا على أن يحوّلوا هذا الأمر من موضعه الذي وضعه الله ما استطاعوا. ولو أنّ خلق الله كلّهم جميعاً كفروا حتى لا يبقى أحد جاء الله لهذا الأمر بأهل يكونون هم أهله»(٤) ... إلى غير ذلك ممّا ورد في الكتاب المجيد وعن النبي وأهل البيت (صلوات الله عليهم أجمعين).

كلّ ذلك لإلفات نظر الناس وتنبيههم، وإقامة الحجّة عليهم؛ ليبحثوا عن الحقّ، وينظروا في أدلّته الظاهرة وحججه القاهرة، ولا يقولوا:( إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ) (٥) .

____________________

١ - سورة محمد/٣٨.

٢ - سورة التوبة/٣٢.

٣ - صحيح مسلم ٦/٥٢ - ٥٣، واللفظ له، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تزال طائفة من أُمّتي ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم مَنْ خالفهم، صحيح البخاري ٨/١٤٩ كتاب الاعتصام بالكتاب والسُنّة، صحيح ابن حبان ١/٢٦١ كتاب العلم، ذكر إثبات النصرة لأصحاب الحديث إلى قيام الساعة، ١٥/٢٤٨ كتاب التاريخ، باب إخباره صلى الله عليه وآله وسلم عمّا يكون في أُمّته من الفتن والحوادث، ذكر البيان بأنّ الفتن إذا وقعت والآيات إذا ظهرت كان في خللها طائفة على الحقّ أبداً، وغيرها من المصادر الكثيرة جدّاً.

٤ - بحار الأنوار ٢٦/٢٠٤.

٥ - سورة الأعراف/١٧٢.

٥٢٢

تميّز دين الإسلام الحقّ ببقاء دعوته وظهور حجّته

وبذلك تميّز دين الإسلام الحقّ عن بقيّة الأديان حيث ظهرت حجّته، ولم تنطمس معالمه مع طول المدّة، وتعاقب الفتن، وتكالب الأعداء عليه من الداخل والخارج.

وقد سبق في حديث العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهاره، لا يزيغ عنها بعدي إلّا هالك»(١) .

كلّ ذلك لأنّ الإسلام هو الدين الخاتم للأديان، والباقي ما بقيت الدنيا؛ فيجب أن تبقى معالمه واضحة، ودعوته مسموعة، وحجّته معه ظاهرة.

المقارنة بين فترة ما بين المسيح والإسلام ومدّة الغيبة

وذلك هو المبرّر المنطقي والتفسير الطبيعي لطول عصر غيبة الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) مع شدّة الفتن، وتظاهر الزمن، وتكالب الأعداء، وعنف الصراع وشراسته.

بينما كانت المدّة بين رفع النبي عيسى (على نبينا وآله وعليه الصلاة والسّلام) وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا تتجاوز الستة قرون، وقد ضاعت فيها معالم الدين الحقّ الذي جاء به عيسى (عليه السّلام)، وانطمست أعلامه، وانفردت بالساحة دعوة الانحراف والتحريف.

وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى:( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٢) .

____________________

١ - تقدّمت مصادره في/١٥٢.

٢ - سورة المائدة/١٩.

٥٢٣

وعن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) أنّه قال عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «بعثه حين لا علم قائم، ولا منار ساطع، ولا منهج واضح»(١) .

وقال (عليه السّلام): «أرسله بالدين المشهور، والعلم المأثور...، والناس في فتن انجذم فيها حبل الدين، وتزعزعت سواري اليقين...، فالهدى خامل، والعمى شامل؛ عُصي الرحمن، ونُصر الشيطان، وخُذل الإيمان، فانهارت دعائمه، وتنكرّت معالمه، ودُرست سبله، وعفت شركه...»(٢) .

وقال (عليه السّلام): «إلى أن بعث الله سبحانه محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لإنجاز عدته وتمام نبوّته...، وأهل الأرض يومئذ ملل متفرّقة، وأهواء منتشرة، وطوائف متشتتة؛ بين مشبّه لله بخلقه، أو ملحد في اسمه، أو مشير إلى غيره...»(٣) ... إلى غير ذلك.

بينما قال (صلوات الله عليه) عن عصر الغيبة الذي نحن فيه: «اللّهمّ إنّه لا بدّ لك من حجج في أرضك، حجّة بعد حجّة على خلقك؛ يهدونهم إلى دينك، ويعلّمونهم علمك؛ كيلا يتفرّق أتباع أوليائك. ظاهر غير مطاع، أو مكتتم يترّقب. إن غاب عن الناس شخصهم في حال هدنتهم فلم يغب عنهم قديم مبثوث علمهم، وآدابهم في قلوب المؤمنين مثبتة، فهم بها عاملون»(٤) .

وفي حديث المفضل بن عمر عن الإمام الصادق (عليه السّلام) قال: «أقرب ما يكون العباد من الله (جلّ ذكره)، وأرضى ما يكون عنهم إذا افتقدوا حجّة الله (عزّ جلّ) ولم يظهر لهم ولم يعلموا مكانه، وهم في ذلك يعلمون أنّه لم تبطل حجّة الله

____________________

١ - نهج البلاغة ٢/١٧٠.

٢ - نهج البلاغة ١/٢٨ - ٢٩.

٣ - نهج البلاغة ١/٢٤ - ٢٥.

٤ - الكافي ١/٣٣٩، واللفظ له، الغيبة - للنعماني/١٣٧.

٥٢٤

جلّ ذكره، ولا ميثاقه...، وقد علم أنّ أولياءه لا يرتابون، ولو علم أنّهم يرتابون ما غيّب حجّته عنهم طرفة عين...»(١) .

وفي حديثه الآخر: كنت عند أبي عبد الله (عليه السّلام) وعنده في البيت أناس، فظننت أنّه إنّما أراد بذلك غيري، فقال: «أما والله ليغيبنَّ عنكم صاحب هذا الأمر، وليخملنَّ هذا حتى يُقال: مات؟ هلك؟ في أيّ وادٍ سلك؟ ولتُكفأن كما تُكفأ السفينة في أمواج البحر، لا ينجو إلّا مَنْ أخذ الله ميثاقه، وكتب الإيمان في قلبه، وأيّده بروح منه، ولترفعنّ اثنتا عشرة راية مشتبهة لا يدري أيّ من أيّ». قال: فبكيت. فقال: «ما يبكيك يا أبا عبد الله؟». فقلت: جعلت فداك، كيف لا أبكي وأنت تقول: اثنتا عشرة راية مشتبهة لا يدري أيّ من أيّ؟! قال وفي مجلسه كوّة تدخل فيها الشمس. فقال: «أبيّنة هذه؟». فقلت: نعم. قال: «أمرنا أبين من هذه الشمس»(٢) . وقريب منه حديثه الآخر(٣) .

حيث يظهر من هذه النصوص وغيرها ظهور دعوة الحقّ في عصر الغيبة، ووضوح حجّته، وثبات أهل التوفيق وذوي السعادة عليه رغم طول المدّة، وشدّة المحنة، واختلاف الآراء والاجتهادات، وكثرة الشبهات والضلالات والفتن والأهواء.

وهو ما حصل حتى الآن في دعوة التشيّع لأهل البيت (صلوات الله عليهم) رفع الله (عزّ وجلّ) شأنها وأعلى كلمتها.

وكلّما تأخّر الزمن زادت ظهوراً وانتشاراً، وفرضت نفسها على أرض الواقع، وكسبت تعاطف الناس وإعجابهم واحترامهم.

____________________

١ - الكافي ١/٣٣٣، واللفظ له، الغيبة - للنعماني/١٦٥.

٢ - الكافي ١/٣٣٨ - ٣٣٩.

٣ - الكافي ١/٣٣٦.

٥٢٥

بل كثيراً ما اهتدى لنورها ودخل في حوزتها، واستظلّ برايتها مَنْ كتب الله (عزّ وجلّ) له التوفيق والسعادة، ولله أمر هو بالغه، وإليه يرجع الأمر كلّه.

ومن جميع ما سبق يظهر أنّ الأئمّة من ذرية الإمام الحسين (صلوات الله عليهم) قد أتمّوا ما بدأه الأئمّة الأوّلون (عليهم أفضل الصلاة والسّلام) من كبح جماح الانحراف الذي حصل، والعمل لإقامة الحجّة على الدين الحقّ، والمنع من ضياعه على الناس، وانطماس أعلامه وبيناته( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ) (١) .

فجزاهم الله تعالى جميعاً عن دينه وأهل دينه أفضل جزاء المحسنين، وثبّتنا على ولايتهم، وربط على قلوبنا، وزادنا بصيرة في أمرنا، ويقيناً في ديننا، وتسليماً لربّنا، إنّه أرحم الراحمين، وولي المؤمنين، وهو حسبنا ونِعْمَ الوكيل.

____________________

١ - سورة الأنفال/٤٢.

٥٢٦

الخاتمة

يحسن الحديث فيها حول أمرين يتعلّقان بفاجعة الطفّ وما استتبعته من إيضاح معالم دين الإسلام ووضوح حجّته.

الأوّل: أثر ذلك في تعديل مسار الفكر الديني والإنساني عامّة، وإيضاح الضوابط التي ينبغي أن ينهجها طالب الحقيقة.

الثاني: في أهمّية إحياء الفاجعة، والسعي لتجديدها والتذكير بها، وآليّة ذلك.

وذلك يكون في فصلين:

الفصل الأوّل

في أثر وضوح معالم الإسلام في استقامة

منهج الفكر الإنساني

لا يخفى أنّ كبح جماح انحراف السلطة، والحيلولة دون تحكّمها في الدين، وقيام الحجّة على الدين الحقّ ووضوح معالمه، ونشاط فرقة الإمامية الاثني عشرية المؤكّدة على إمامة أهل البيت (صلوات الله عليهم)، والمتبنّية لثقافتهم الرفيعة، وتعاليمهم المنطقية الموافقة للفطرة السليمة، والمنكرة للظلم والطغيان، وتشويه الحقائق، وتحريف مفاهيم الدين الحنيف؛ نتيجة العوامل المتقدّمة، كلّ ذلك وإن كان بالدرجة الأولى فتحاً مبيناً لدين الإسلام العظيم ورموزه الشامخة،

٥٢٧

إلاّ إنّه في الوقت نفسه نصر للأديان السماوية عامّة، ولرموزها المقدّسة.

دافعت ثقافة الإسلام الحقّ عن الأديان السابقة ونبهت لتحريفه

حيث نبّهت هذه التعاليم الموافقة للفطرة السليمة على تحريف تلك الأديان وتشويه صورة رموزها بفعل الظالمين، وإنّ تلك الأديان - في الحقيقة - منزّهة عمّا نسبته لها يد التحريف من مفاهيم وتعاليم متناقضة أو خرافية أو تافهة أو جائرة؛ لتكون آلة بيد المؤسسات السلطوية والمافيات الإجرامية؛ لتقوية نفوذها وتعزيز مواقعها، ولا يصل إلى جمهور الناس منها إلّا طقوس جوفاء لا تسمن ولا تغني من جوع.

وإنّ تلك الأديان في حقيقتها تحمل مفاهيم سليمة، وتعاليم سامية مطابقة للحكمة والفطرة؛ من أجل إصلاح البشرية عامّة، وتنظيم علاقتها فيما بينها على أفضل وجه، وتقريبها من الله (عزّ وجلّ)، وهدايتها إلى الصراط المستقيم.

تنزيه رموز تلك الأديان عمّا نسبته لهم يد التحريف

كما إنّ رموزها العظام (عليهم السّلام) في غاية الرفعة والجلالة والقدسية والكرامة على الله تعالى، والفناء في ذاته والقرب منه (جلّ شأنه)، وهم معصومون من الزلل، مطهّرون من الرجس.

وإنّهم (عليهم السّلام) قد جدّوا واجتهدوا في أداء رسالاتهم والتبليغ بها، والنصح لأممهم، وحملهم على الطريق الواضح من دون أن تأخذهم في الله لومة لائم.

وهم أيضاً منزّهون عمّا نسبته لهم يد التحريف الظالمة من الرذائل والموبقات ممّا يندى له الجبين، وتأباه كرامة الإنسان، ويهوي به إلى الحضيض.

وببيان آخر: الضوابط والتعاليم العامّة في دين الإسلام العظيم التي

٥٢٨

يتبّناها القرآن المجيد، والسُنّة الشريفة، والثقافة المتميّزة لأهل البيت (صلوات الله عليهم) لا تبتني على الاختصاص بالإسلام، بل على العموم لجميع الأديان السماوية؛ سواء التي وصلت بقاياها لنا، أم التي لم تصل.

لاشتراكها جميعاً في كونها مشرّعة من قبل الله (عزّ وجلّ)، وهو الحكيم المطلق، المحيط بكلّ شيء، ولا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء، والرؤوف بعباده الرحيم بهم، والعالم بما يصلحهم.

ولازم ذلك:

أوّلاً : أن لا يشرّع لهم من الدين إلّا ما يصلح شأنهم ويقرّبهم منه (عزّ وجلّ).

وثانياً : أن لا يأتمن على دينه وعباده إلّا مَنْ هو أهل لهذه الأمانة العظمى في علمه وورعه وعمله؛ ليعرّفهم بدينه، ويبلغهم به، ويحملهم عليه بقوله وسيرته، ويكون قدوة لهم يهتدون بهداه، ويستضيئون بنوره.

وكلّ ما خرج عن ذلك ممّا نُسب لتلك الأديان ورموزها المقدّسة لا بدّ أن يكون بهتاناً وزوراً، وتشويهاً ظالماً حتى لو صدرت نسبة ذلك ممّنْ ينتسب لتلك الأديان ويُعدّ من أتباعها.

كما إنّه ورد عن النبي وآله (صلوات الله عليهم أجمعين) الكثير من مفردات ذلك، وبيان تعاليم تلك الأديان التي تعالج مشاكل البشرية، والتأكيد على رفعة مقام رموزها العظام ونزاهتهم، وجهادهم في سبيل أداء رسالتهم، وما نالهم من الظلم والعدوان من أعداء دعوتهم ومن أممهم.

ولأجل ذلك فالحفاظ على الثقافة الإسلامية الأصيلة - نتيجة العوامل السابقة - كما يكون نصراً للإسلام العظيم يكون انتصاراً لتلك الأديان الشريفة ودفاعاً عنها، وحفاظاً على كرامتها وكرامة رموزها وقدسيتهم.

٥٢٩

تحريف الأديان بنحو مهين

ومن الملفت للنظر أنّه قد حصل بسبب تحريف تلك الأديان من التعدّي على مقام الله (عزّ وجلّ)، وعلى الوسائط بينه وبين خلقه - من الرسل والأوصياء (صلوات الله عليهم) - وعلى تشريعاته القويمة ما ترفضه العقول وتأباه النفوس بفطرته، بل يندى له الجبين وتقشعرّ لهوله الأبدان.

إلاّ إنّ ذلك وحده لا يكفي في وضوح بطلان ذلك وتكذيبه، وظهور الحقيقة، وتنزيه تلك الأديان إذا لم تكن هناك ثقافة سليمة متكاملة ذات قواعد وأصول محكمة متينة، وكان لتلك الثقافة دعوة مسموعة يلجأ إليها طالب الحقيقة.

وبدون ذلك يبقى الإنسان الذي يحترم نفسه، ويعتزّ بعقله، ويستضيء به مذبذباً بين الدعاوى المتناقضة للأديان المختلفة غير الخالية في نفسها عن السلبيات المذكورة حتى قد يرفضها جميعاً ويكفر بها، ويلجأ للثقافة المادية الصرفة، أو يعتنق بعض تلك الأديان بمجرد الانتساب تقليداً للآباء من دون إيمان حقيقي متركز في أعماق النفس ودخائله.

لو تمّ تحريف الإسلام لضاعت معالم الحقّ على البشرية

ونتيجة لذلك فلو فُتح المجال لتحريف الإسلام الخاتم للأديان، ولم يكبح جماحه؛ نتيجة العوامل المتقدّمة، لضاعت المعالم ولم يبقَ بيد الناس حقيقة مقدّسة تقبلها العقول، وتركن إليها النفوس، وتأخذ بمجامع القلوب، وتتفاعل بها من أجل خيرها وصلاحها.

ولبقي المجتمع الإنساني في حيرة وضياع بين الثقافات الدينية المحرّفة - المملوءة بالأساطير والخرافات والسلبيات، التي تأباها النفوس وترفضها العقول، كما سبق - والثقافة المادية الجافة التي تأباها الفطرة السليمة، والتي

٥٣٠

تسير بالمجتمع نحو الدمار الشامل في الأخلاق والمثل.

وحتى في مقوّمات نمو المجتمع الإنساني وبقائه في المعمورة؛ لاهتمام الثقافة المادية بحرية الفرد، وفسحها المجال لتمتّعه باللذة من أقرب طرقها من دون تركيز على بناء المجتمع، وتنظيم علاقة بعضه ببعض على أسس رصينة.

وقد كان لكبح جماح التحريف في الإسلام، وظهور دعوة الحقّ فيه أعظم الأثر في وضوح كثير من الحقائق في حق الله (عزّ وجلّ) وحق ملائكته وأنبيائه (صلوات الله عليهم) وتشريعاته القويمة، وظهور تشويهها في الأديان الأخرى، وحتى في بعض تراث المسلمين المشوّه.

ومن هنا كان لفاجعة الطفّ وغيرها من خطوات أهل البيت (عليهم السّلام) السابقة وجهودهم التي حدّت من محاولات التحريف لدين الإسلام العظيم، الفضل على الفكر الإنساني عامّة في وضوح منهجه وتعديل مساره.

ظهور السلبيات التي أفرزها التحريف

ويتضح ذلك بملاحظة أمر له أهميته، وهو أنّ الغرض المباشر من إقحام التراث المشوّه في الأديان - بما في ذلك دين الإسلام العظيم - هو تقبّل أتباعها له وإيمانهم به، وهو لا يكون إلّا لوجود الأرضية الصالحة لذلك بسبب اختلاط الأمر على الناس، وعدم وضوح معالم الحقّ من الباطل لهم. فوجود التراث المذكور في الأديان يكشف عن تحقّق تلك الأرضية حين إقحامه.

ولو أنّ الإسلام جرى على سنن الأديان السابقة، وتمّ للخطّ المخالف لأهل البيت (صلوات الله عليهم) ما أرادوا، ولم يكبح جماح الانحراف والتحريف نتيجة ما سبق، لبقيت هذه الأرضية ولتقبّل أهل كلّ دين تراثهم على ما هو عليه من التشويه، ولم يتوجهوا للسلبيات؛ لتشابه الأديان في ذلك

٥٣١

كواقع قائم، ولبقي الأمر مختلطاً على الناس.

بينما نرى الآن أنّ ما يحمله التشوّه - من خرافات أو ظلم للحقيقة لا يتناسب مع حقيّة تلك الأديان، أو تنافي كمال الله (عزّ وجلّ) المشرع له، أو قدسية الوسائط بينه وبين خلقه من الأنبياء والأوصياء (صلوات الله عليهم) - قد صار سمة عار على تلك الأديان وعلى المنتسبين إليه.

بحيث يكون مثاراً للنقد، بل الهجوم من طرف الخصوم، وسبباً لإحراج المنتسبين لتلك الأديان حتى قد يضطرون لتأويلها والخروج عن ظاهرها إن وجدوا لذلك سبيلاً، أو للفّ والدوران، وإشغال الخصوم بأمور جانبية تهرّباً من الجواب.

وربما يتهرّبون من فتح باب الحوار، أو يغلقونه بعد فتحه؛ لشعورهم بالعجز عن الدفاع والاستمرار في حلبة الجدال والصراع.

بل كثيراً ما يحاول حملة تلك الأديان والمعنيون بها صرف أتباع دينهم عن النظر في تراثه والاطلاع عليه والتدبّر فيه، أو منعهم عن فتح باب الحوار مع الآخرين والاطلاع على تراثهم والتعرّف على وجهة نظرهم، حذراً من أن يُصاب أتباع ذلك الدين بصدمة تزعزع عقيدتهم، وتجعلهم يبحثون عن البديل له.

وذلك يكشف عن اهتزاز تلك الأرضية، وأنّ معالم الحقّ والباطل أخذت موقعها المناسب من مرتكزات الناس، وصارت من الوضوح بحيث يتسالم عليها الكلّ، وقامت الثوابت التي يرجع إليها في مقام البحث والاستدلال.

كلّ ذلك بسبب كبح جماح الانحراف في الإسلام نتيجة الجهود المتقدّمة. ولا أقلّ من أنّ لذلك تأثيره المهم من هذه الجهة.

ولا نعني بذلك أنّ الناس قد اهتدت للدين الحقّ، ورفضت الأديان المحرّفة؛ إذ لازالت الحواجز عن ذلك قائمة من تقليد، أو تعصّب أو مصالح

٥٣٢

مادية، أو عدم الاهتمام بمعرفة الحقيقة... إلى غير ذلك من العوامل.

بل كلّ ما حصل هو وضوح معالم الحقّ بحيث جعل أهل الأديان المحرّفة يدركون سلبيات أديانهم، ويضيقون به على خلاف ما كان عليه أسلافهم.

أمّا الاهتداء للدين الحقّ فيبقى منوطاً بأسبابه، وأهمّها النظرة الموضوعية في الأدلّة والحجج، والشجاعة في تخطّي الحواجز، والاهتمام بالوصول للحقيقة، مع التوفيق والتسديد الإلهي. و( الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ) (١) .

____________________

١ - سورة الأعراف/٤٣.

٥٣٣

٥٣٤

الفصل الثاني

في إحياء فاجعة الطفّ

قد تبيّن في غير موضع ممّا سبق أهمية إحياء فاجعة الطفّ، وجميع مناسبات أهل البيت (صلوات الله عليهم) بمختلف الوجوه؛ من زيارة مراقدهم الشريفة، وتعاهد مشاهدهم الكريمة وعمارتها، وإقامة المجالس المذكرة في مناسبات أحزانهم وأفراحهم، والقيام بمظاهر الحزن والأسى، أو مظاهر الفرح والسرور بالنحو الذي يتناسب مع الحدث، وقول الشعر فيهم (عليهم السّلام)... إلى غير ذلك.

ولاسيما مع تأكيد الأئمّة (صلوات الله عليهم) على ذلك بوجه مذهل لا يدع مجالاً لقائل، ولا عذراً لمعتذر كما يظهر بالرجوع لتراثهم الرفيع.

والذي يهمّنا هنا هو التنبيه لأمور تتعلّق بإحياء هذه المناسبات كنّا قد تعرّضنا لها في مناسبات مختلفة بنحو متفرّق، ويحسن بنا هنا جمعها، وربما أضفنا هنا ما لم نتعرّض له سابقاً.

اختلاف الناس في مظاهر التعبير عن شعورهم إزاء الأحداث

الأمر الأوّل: إنّ الناس تختلف في مظاهر تعبيرها عن عواطفها نحو الأحداث المتعلّقة بأهل البيت (صلوات الله عليهم)، ومناسبات أفراحهم وأحزانهم، فلكلّ فئة من الناس مظهر وطريقة في التعبير تتناسب مع مداركها وأحاسيسها وبيئاتها وخصوصياتها المزاجية، ولو حملت على طريقة أخرى لم

٥٣٥

تتأثّر به، أو لم تتفاعل معها كتفاعلها مع ما تألفه.

فاللازم أن تُترك لكلّ فئة الحرية في أن تختار لنفسها الطريقة التي تناسبها في التعبير عن شعورها وعواطفها ما لم يتجاوز الحدّ المشروع.

إذ لو حرمت منه، وحملت على طريقة أُخرى لم تتجاوب معها، أو لم تتفاعل بها ذلك التفاعل، وخبت جذوة العاطفة فيها تدريجاً بمرور الزمن، وخسرنا طاقاتها في إبراز شعورها وعاطفتها نحو الحدث.

أهمية السواد الأعظم في حمل الدعوة والحفاظ عليها

كما إنّ الأحداث والتجارب من أعماق التاريخ حتى يومنا الحاضر قد أثبتت أنّ الذين يحملون لواء دعوة الحقّ وعناءه، ويستطيعون الاستمرار بها - عبر المعوّقات والمشاكل والمتاعب والمخاطر - هم جمهور المؤمنين وكثرتهم الكاثرة، وسوادهم الأعظم.

حيث إنّهم - بسبب كثرتهم - لا يسهل القضاء عليهم من قِبَل أعداء تلك الدعوة، ولا تجميد فعالياتهم وإيقاف مدّهم، ولا يتيسّر تبديل مفاهيمهم بالإغراء والتضليل.

ولاسيما أنّ مناسبات أهل البيت (صلوات الله عليهم) في أفراحهم وأحزانهم قد أخذت موقعها في نفوس عموم المؤمنين، وتجذّرت في أعماقهم؛ نتيجة انشدادهم لأهل البيت (عليهم السّلام) ولاءً وتقديساً كما ذكرناه سابقاً.

موقع الخاصة من الدعوة

أمّا الخاصة من المؤمنين - كرجال الدين والمثقّفين، وأهل المال، وذوي المقام الاجتماعي الرفيع - فهم وإن كان لهم موقعهم المهمّ في دعوة الحقّ، بل هم

٥٣٦

أوسمة فخر تتزيّن به، وفيهم الهداة لأتباعها في مسيرتهم، والحصون الواقية للدعوة الشريفة نفسها من التحريف والتشويه، والقوى الداعمة لها مادياً ومعنوياً، إلّا إنّهم لا يستطيعون لوحدهم الوقوف أمام الهجمة المعادية؛ بسبب قلّتهم وتميّزهم.

بل يسهل على الأعداء الحدّ من فعالياتهم، والمنع من تأثيرهم؛ إمّا بتصفيتهم جسدياً، أو تطويقهم وتجميد فعالياتهم بالسجن أو التخويف أو نحوهم، أو صرفهم بالترغيب والترهيب عن خدمة دعوة الحقّ، بل قد يحاولون حملهم على الوقوف ضدّها.

ولا يحمي الدعوة الشريفة إلّا الجمهور والسواد الأعظم الذين يحملون لواءها؛ فهم الحصن الحصين لها، والدرع التي تقيها من كيد الأعداء كما سبق.

بل إنّهم - بسبب كثرتهم وإصرارهم - قد يحمون الخاصة من ذوي المقام المتميّز في الدعوة؛ لأنّ في التنكيل بهم جرحاً لشعور الجمهور، ومثاراً لسخطهم قد يحسب له الخصم حسابه، ويخشى عاقبته.

أهمية فعاليات الجمهور في إحياء المناسبات الدينية

ونتيجة لِما سبق يجب تمكين جمهور الناس والسواد الأعظم من الطريقة التي يختارونها في التعبير عن شعورهم في المناسبات الدينية المختلفة، بل تشجيعهم على ذلك بمختلف الوسائل؛ لتتجذر في أعماقهم، وتنتشر بينهم من أجل أن يؤدّوا دورهم الرسالي على أرض الواقع باستمرار وإصرار.

وليكونوا ذخراً في الأزمات، وأمام الضغوط التي تضطر الخاصة للوقوف مكتوفي الأيدي لا يستطيعون حتى الإشارة والتلميح بما يختلج في صدورهم، بل قد يضطرون أو يختار بعضهم - نتيجة المغريات - تثبيط العزائم

٥٣٧

وإضعاف الهمم.

بينما نرى السواد الأعظم إذا اقتنعوا بإحياء المناسبات، وتجذّر ذلك في أعماقهم فهم أقدر على التمسّك بعاداتهم والاستمرار عليها؛ لأنّهم أبعد عن الضغوط، وأقدر على التخلّص منها أو الالتفاف عليها، ولنا في تجربة العراق القريبة أعظم العبر.

ويزيد في أهمية فعاليات الجمهور والسواد الأعظم أنّ كثرتهم، وسعة رقعة تواجدهم، واختيارهم في التعبير عن شعورهم الطريقة الأكثر إلفاتاً للحدث والأقوى وقعاً في التنبيه له، كلّ ذلك يجعل ممارساتهم سبباً في تبدّل جوّ المجتمع الذي يعيشون فيه، وتحويل صورته لصالح الحدث بنحو يدعو الجاهل، وينبّه الغافل، ويشدّ في اندفاع العامل، ويزيده ثباتاً وإصراراً وعزماً وتصميماً.

وبذلك تترك الممارسات المذكورة بصماتها في المجتمع وتجعله يعيش الحدث، ويتفاعل معه حتى يكون جزءاً من كيانه.

على الخاصة دعم الجمهور في إحياء المناسبات بطريقتهم

وإذا كانت الخاصة لا تستطيع المشاركة في هذه الممارسات عند الأزمات، بل قد لا تستطيع الإعلان عن شرعيتها فضلاً عن التشجيع عليها؛ للأسباب السابقة، فإنّها تستطيع ذلك كلّه عند انفراج الأزمة، وإطلاق الحريات.

فاللازم قيامها بذلك حينئذ من أجل رفع معنويات الجمهور، وإشعارهم بأهمّية موقعهم وموقفهم في إحياء المناسبات المذكورة، وتأكيد شرعية ذلك كلّه، وشكرهم عليه.

وبذلك تسدّ الطريق على مَنْ يحاول أن يفتّ في عضد الجمهور في ممارساتهم، ويحطّ من قدرهم، ويصمهم أو يشنّع عليهم بالجهل في قيامهم

٥٣٨

بتلك الممارسات؛ من أجل تهوين أمرها، أو التنفير عنها، والحدّ من اتساعها وانتشارها.

ولاسيما أنّ هذه الممارسات لاتزال مدعومة بالمدّ الإلهي، والكرامات الباهرة، والمعاجز الخارقة التي يلمسها الناس بأيديهم ويعيشونها في واقعهم باستمرار؛ حيث يكشف ذلك عن حبّ الله (عزّ وجلّ) لها، وشكره للقائمين بها وتشجيعهم عليها.

بل لذلك أعظم الأثر في تمسّك الناس بها وإصرارهم عليها، واستمرارهم فيها رغم المعوّقات الكثيرة، والمقاومات العنيفة المادية والمعنوية على مدى الزمن.

أهمّية الممارسات الصارخة

الأمر الثاني: إنّ للممارسات الصارخة التي تلفت الأنظار، والتي يقوم بها كثير من جمهور الشيعة وعامتهم، ويتحمّلون عناءها وجهدها، أعظم الأثر في إحياء فاجعة الطفّ وانتشارها على الصعيد العام؛ لأنّها الأحرى بإظهار عواطف الجمهور نحو الفاجعة، وتفاعلهم بها، وتجذّرها في أعماقهم، واستنكارهم للظلم الذي تعرّض له الإمام الحسين وأهل البيت (صلوات الله عليهم) عموماً، كما تعرّض له شيعتهم تبعاً لهم على امتداد التاريخ.

كما إنّ هذه الممارسات هي الأحرى بإلفات نظر الآخرين وتنبيههم للحدث، وحملهم على السؤال والاستفسار عن حقيقته، والتعرّف على خصوصياته وتفاصيله، ثمّ التجاوب مع الشيعة واحترام شعورهم، والتفاعل معهم أو مشاركتهم في آخر الأمر، بل الدخول في حوزتهم والانتماء لخطّهم في ظلّ ولاية أهل البيت (صلوات الله عليهم).

٥٣٩

وها نحن نرى هذه الأيام أثر هذه الممارسات في إلفات نظر العالم، وتوجيه وسائل الإعلام المختلفة نحو الفاجعة في مواسمها المشهودة.

وذلك يفسّر ما سبق في حديث معاوية بن وهب من دعاء الإمام الصادق (عليه السّلام) لزوّار الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، وقوله: «اللّهمّ إنّ أعداءنا عابوا عليهم بخروجهم فلم ينههم ذلك عن الشخوص إلينا، خلافاً منهم على مَنْ خالفنا؛ فارحم تلك الوجوه التي غيّرتها الشمس، وارحم تلك الخدود التي تتقلّب على حضرة أبي عبد الله (عليه السّلام)، وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا، وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا...»(١) .

نعم، لا بدّ أن ينضمّ إلى تلك الممارسات بعض الممارسات الهادئة، كقراءة المقتل الفجيع، ومجالس العزاء الشارحة لظروف الفاجعة وأهدافها، والكتب أو النشرات المتحدّثة عنها بإسهاب أو إيجاز، كلّ على اختلاف الظروف والمناسبات.

كلّ ذلك من أجل التثقيف العام، والتعريف بالحدث، والتذكير به، واستيعاب مفرداته ومقارناته التي تزيد في وقعه، والتفاعل به.

الكلام في تطوير طرق إحياء المناسبات

الأمر الثالث: قد يظنّ الظانّ أنّ تطوّر الأوضاع في العالم المعاصر يلزم بتطوير وسائل الدعوة للمبدأ وكيفية إحياء هذه المناسبات، وتبديلها بما يتلاءم مع واقع العصر وينسجم معها.

لكنّنا في الوقت الذي نحبّذ فيه إيجاد وسائل تناسب التطوّر المذكور، نرى أنّ ذلك يجب أن يكون مصاحباً لهذه الشعائر بواقعها المعهود المألوف لا بدلاً عنها.

فإنّ هذه الشعائر والممارسات حينما وجدت في غابر الزمان وجدت غريبة

____________________

١ - تقدّم في/٤٩٨ - ٤٩٩.

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672