الإمامة الإلهية الجزء ٤

الإمامة الإلهية25%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 320

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 320 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 102924 / تحميل: 8148
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (١) .

وعن الأصبغ بن نباتة، قال: كنت جالساً عند أمير المؤمنين عليه‌السلام فجاء ابن الكوّا، فقال: ياأمير المؤمنين مَنْ البيوت في قول اللَّه عزّ وجل: ( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَاْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَاْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ) (٢) ؟

قال علي عليه‌السلام : (نحن البيوت التي أمر اللَّه بها أن تؤتى من أبوابها، نحن باب اللَّه وبيوته التي يؤتى منه، فمن تابعنا وأقرّ بولايتنا فقد أتى البيوت من أبوابها ومن خالفنا وفضّل علينا غيرنا فقد أتى البيوت من ظهورها) (٣) .

ج - قوله تعالى: ( يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) .

وقد بيّن القرآن الكريم في آيات أخرى الذين يخافون من ربّهم، كما في سورة الدهر، قال تعالى: ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيًما وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ) (٤) .

فقد روى الفريقان أن هذه الآيات نزلت في أهل البيت عليهم‌السلام ، وقد تعرّضت كتب التفاسير لقصة هذه الآيات المباركة بنحو مفصَّل (٥) .

____________________

(١) الأعراف: ١٥٧.

(٢) البقرة: ١٨٩.

(٣) تفسير فرات الكوفي، ص١٤٢.

(٤) الإنسان: ٧ - ١١.

(٥) لاحظ: تفسير القمي، ج٢، ص٣٩٨، وتفسير القرطبي، ج١٩، ص١٣٤.

١٢١

وهذا يكشف عن حقيقة أولئك الرجال الذين اختصّهم الله عزّ وجلّ بنوره، وهم أهل بيت العصمة والطهارة، والبيوت التي أذن الله أن ترفع وتعظّم ويتوسَّل بها إلى الله عزّ وجلّ، ويذكر في حضرتها اسمه، ويسبّح له بالغدو والآصال.

لا يتبادر إلى الذهن أن من أهل البيت فاطمة عليها‌السلام فكيف تكون من الرجال المقصودين في الآية المباركة؟

فإن الجواب عن ذلك واضح؛ لأن كلمة الرجل والرجال في الآية المباركة بمعونة القرائن والشواهد التي احتفّت بها يراد منها الشخصية العظيمة، الثابتة الأقدام في المقامات الشامخة، فيراد من الرجال في الآية المباركة تلك الشخصيات التي تسنّمت بأرجل القدرة المقامات العالية والدرجات الرفيعة في مجال العصمة والتقوى، وقد جاء التعبير القرآني بالرجل عن الأعم من الذكر في آيات عديدة، كقوله تعالى لإبراهيم عليه‌السلام : ( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) (١) ، فالمراد في هذه الآية الكريمة الإقدام بأرجل الإيمان إلى دعوة إبراهيم عليه‌السلام للحجّ أعم من كون القادم ذكراً أو أنثى، ونظير ذلك أيضاً قوله تعالى: ( رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) (٢) فوصفهم بالرجولية هنا للثبات والاستقامة والصدق.

ولا شك أن هذا كلّه مع القرينة لا مطلقاً، والقرائن الدالّة على إرادة الأعمّ من الذكر والأنثى في الآية التي هي محلّ بحثنا كثيرة جدّاً، منها ما ذكرناه سابقاً من

____________________

(١) الحج: ٢٧.

(٢) سورة الأحزاب: ٢٣.

١٢٢

القرائن الدالّة على أن المقصود بالرجال في الآية هم أهل البيت عليهم‌السلام ومنهم فاطمة الزهراء عليها‌السلام .

خلقة أهل البيت عليهم‌السلام النوريَّة:

ونختم الحديث في هذه النقطة بذكر بعض الشواهد الدالّة على أن اللَّه تعالى خلق أهل البيت أنواراً مضافاً إلى ما تقدّم في آية النور:

الأول: قوله تعالى لرسوله الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (١) ، فهذه الآية المباركة صريحة في أن اللَّه عزّ وجلّ أوحى إلى نبيّه الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله نوراً وهو الروح من أمره، ولا شك أن الإيحاء الخفيّ إنما هو إلى ذات وحقيقة النبيّ الأكرم المباركة، فيتّحد ذلك النور بشخص النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ ولذا قالت الآية المباركة أن من آثار ذلك النور ( نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ) ، ثم جعلت ذلك الأثر بعينه لخاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ حيث قالت: ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) وهذا صريح في اتحاد الذات النبويّة الطاهرة مع ذلك النور في الحقيقة والأثر.

وإذا كانت ذات النبيّ الأكرم نوراً يهدي إلى صراط مستقيم، فكذلك أهل بيته عليهم‌السلام الذين هم نفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بنصّ آية المباهلة وآية التطهير، بل وبنص نفس هذه الآية المباركة في المقام، حيث ذكر فيها أن هذا الروح الأمري الذي أوحي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يهدي به اللَّه ويوحيه إلى مَن يشاء ويجتبيه من عباده، فلم

____________________

(١) الشورى: ٥٢.

١٢٣

يخصص ذلك بالأنبياء أو بكونهم أنبياء أو رسل. ونظير ذلك قوله تعالى: ( يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (١) فذكر لفظ العباد ولم يخصص بلفظ الأنبياء أو الرسل، ويدلّ على أن الذين يشائُهم اللَّه وتتعلّق مشيئته بهم ويجتبيهم لذلك غير منحصر بالأنبياء والرسل، بل يعمُّ مَن يصطفيهم للعصمة والطهارة والوصاية، وهكذا الأحاديث المتواترة في كون فاطمة عليها‌السلام بضعة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) ، وكون الحسن والحسين عليهما‌السلام من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو منهم (٣) ، وكذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (عليّ مني وأنا منه) (٤) .

الثاني: قول النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : (كنت أنا وعلي بن أبي طالب نوراً بين يدي اللَّه قبل أن يخلق آدم بأربعة آلاف عام، فلمَّا خلق اللَّه آدم قسم ذلك النور جزئين، فجزء أنا وجزء عليّ بن أبي طالب) (٥) .

الثالث: الروايات المتضافرة التي دلّت على أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان نوراً يتنقل من الأصلاب الشامخة إلى الأرحام المطهّرة، وقد أضاء منه صلى‌الله‌عليه‌وآله نوراً عند ولادته ملأ الخافقين، كما نقلت ذلك آمنة بنت وهب(سلام اللَّه عليها) أم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حين ولادته، قالت: (إنّي رأيت حين ولدته أنه خرج مني نور أضاءت منه قصور بصرى من أرض الشام) (٦) .

____________________

(١) سورة النحل ٢: ١٦.

(٢) لاحظ: ابن حنبل، فضائل الصحابة، ص ٧٨.

(٣) مسند أحمد، ج ٤، ص ٢٧٢.

(٤) فضائل الصحابة، ص١٥.

(٥) الصدوق، الخصال، ص ٦٤، والزرندي الحنفي، نظم درر السمطين، ص ٧٩، وابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، ج٤٢، ص٦٧، و الذهبي، ميزان الاعتدال، ج١، ص ٥٠٧.

(٦) الطبراني، المعجم الكبير، ج٢٤، ص ٢١٥، وتفسير ابن كثير، ج ٤، ص ٣٨٤.

١٢٤

إلى غير ذلك من الشواهد الدالّة على الخلقة النورية للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام .

١١ - بناء المساجد على قبور الأولياء معالم للدين:

كما في قوله تعالى في قصّة أصحاب الكهف: ( وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ) (١) .

ذكر المفسِّرون: أن أصحاب الكهف لمَّا بعثوا بأحدهم إلى المدينة بورقهم لجلب الطعام وعثر عليهم أهل المدينة وعلموا بأمرهم، جاءوا إلى الكهف، فلمَّا دخل الذي هو من أصحاب الكهف، دعا اللَّه تعالى مع أصحابه أن يميتهم لئلاّ يكونوا فتنة للناس، فأماتهم اللَّه تعالى، وخفي على أهل المدينة مدخل الكهف، فلم يهتدوا إليه، فقال المشركون: نبني عليهم بنياناً ونحوطهم بجدار نجعلهم وراءه، وقال المسلمون: بل نحن أحقّ بهم، هم منّا، نبني عليهم مسجداً نصلّي فيه ونعبد اللَّه فيه (٢) .

وقال المفسّرون أيضاً: إن قوله تعالى: ( قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ) دلّ على أن الغلبة كانت للمؤمنين بقرينة ذكر اتخاذ المسجد (٣) .

ثم إن القرآن الكريم في استعراضه لهذه الواقعة أقرّ المؤمنين على رأيهم، ولم يفنّد اتخاذهم المسجد على قبور أصحاب الكهف من أجل التبرّك والعبادة،

____________________

(١) الكهف: ٢١.

(٢) لاحظ: الشيخ الطوسي، التبيان، ج ٧، ص ٢٥، والطبري، جامع البيان، ج١٥، ص٢٨٢.

(٣) الطبرسي، مجمع البيان، ج ٦، ص ٣٢٨، والشوكاني، فتح القدير، ج ٣، ص ٢٧٧.

١٢٥

خصوصاً وأن القرآن الكريم إنما عرض لنا قصّة أصحاب الكهف، لأجل تعميق مبدأ الإيمان والتوحيد، والقرآن يذكر القصّة في ضمن بيان مآثر ومعالم أهل الكهف المشيَّدة والخالدة، وأنه بُني على قبورهم مسجداً لإظهار معجزتهم، وليبقى ذكرهم خالداً في أذهان البشر و موعظة للمؤمنين، فلو كان بناء المسجد على قبورهم والتبرّك بهم والتعبّد عندهم شركاً ووثناً من الأوثان، لكان ذلك على خلاف المطلوب، ومنافياً للحكمة التي أرادها اللَّه عزّ وجلّ من سرد القصّة.

إذن، قبور الأولياء وبناء المساجد عليها والتبرّك بها وجعلها واسطة في التوجّه إلى اللَّه عزّ وجلّ في العبادة من المبادئ القرآنية الصريحة والشعائر الإلهية التي يوجب تخليد ذكرها تخليد الدين ومعالم التوحيد التي شيّدوها بسيرتهم المباركة ونهجهم التوحيدي، وهذا عين الأمر الإلهي باتخاذ مقام إبراهيم مصلّى، فإن تشعير مقام إبراهيم وتخليد ذكره بذلك، يكون سبباً لخلود التوحيد وباعثاً للناس على التمسّك بهديه.

ومن ذلك أيضاً قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة ) (١) ، فإن ذلك تشعيراً لقبره صلى‌الله‌عليه‌وآله وجعله محلّاً للعبادة ونيل القربان والمقامات عند اللَّه تعالى.

وذلك كلّه يعني أن مقامات الأنبياء والأولياء والحجج من الحريّ بها أن تعمّر وتشعّر محلّاً للعبادة والتقرّب إلى اللَّه تعالى.

____________________

(١) والحميري، قرب الإسناد، ص ١٣، الصدوق، مَن لا يحضره الفقيه، ج ٢، ص ٥٦٨، ومسند أحمد، ج ٣، ص ٦٤، وصحيح البخاري، ج ٢، ص ٥٧.

١٢٦

ولا شك أن الآيات والوسائط علامات على عظمة الصفات الإلهية، ففعل الذات العظيمة عظيم أيضاً، فلابدّ أن يعظّم، وتعظيمه تعظيماً للَّه عزّ وجل، والذي يحقّر آيات اللَّه ويهينها بكلّ نوع من أنواع الإهانات يكون قد هتك الحرمة والحريم الإلهي؛ ولذا قال اللَّه عزّ وجل: ( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (١) .

والحاصل: أن ترك تعظيم وليّ اللَّه والإعراض عن التوسّل والتوجّه به إلى اللَّه تعالى إخفاق في عقيدة التوحيد.

١٢ - حبط الأعمال وقبولها:

قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) (٢) .

هذه الآية المباركة صريحة أيضاً في أن الخضوع للنبيّ الأكرم والإقبال عليه والتوجّه إليه وتوقيره وتعظيمه وحفظ الأدب في حضرته سبب وواسطة في قبول الأعمال، وموجب لتحقّق التقوى والمغفرة والقرب من اللَّه تعالى ونيل الأجر العظيم؛ وذلك لأن الخضوع للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله تعظيم له بما هو آية كبرى من آيات اللَّه عزّ وجلّ وشعيرة من شعائره ومعْلماً من أعلام دينه، وقد سبق قوله تعالى:

____________________

(١) الحج: ٣٢.

(٢) الحجرات: ٣ - ٢.

١٢٧

( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) .

وأمَّا الذين لا يخضعون للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا يحافظون على التزام الآداب في ساحة الحضرة النبويّة، برفعهم الأصوات فوق صوته والتعامل معه كأحدهم، فقد توعّدهم اللَّه تعالى بحبط أعمالهم؛ لأن ذلك يوجب الإعراض عن الآيات الإلهية والوسائط الربانية التي نصبها لعباده والاستكبار عليها، فلا يكون لأعمالهم حينئذٍ وزن عند اللَّه تعالى، بما في ذلك العقيدة التي هي عمل من الأعمال الجوانحية.

١٣ - آيات القسم الإلهي بشخص النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله :

لقد وردت آيات عديدة يُقسم فيها اللَّه تعالى بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نذكر بعضاً منها:

١ - قوله تعالى: ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) (١) ، والقسم بعمر النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله من قبل اللَّه تعالى يدلّل على تعظيمه وتشريفه، خصوصاً وأن المفسّرين ذكروا أن الباري تعالى لم يقسم بعمر أحد في القرآن الكريم سوى القسم بعمر خاتم الأنبياء وسيّد المرسلين‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

٢ - قوله تعالى: ( لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ) (٢) .

قال بعض المفسّرين: إن (لا) في قوله تعالى: ( لَا أُقْسِمُ ) أصلية نافية؛ والمعنى هو أن اللَّه تعالى لا يقسم بمكّة والنبيّ حلّ وحالّ فيها وذلك تعظيماً له صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنه مع وجوده في مكّة هو الأحرى أن يقسم به دون غيره، ذكر

____________________

(١) الحجر: ٢٢.

(٢) البلد: ١ - ٣.

١٢٨

ذلك أبو البقاء العكبري في إملائه، حيث قال:

(وقيل: لا أقسم به وأنت حلّ فيه، بل أقسم بك) (١) .

وفي فتح القدير للشوكاني قال: (وقيل: المعنى لا أقسم بهذا البلد وأنت حالّ به ومقيم فيه وهو محلّك، فعلى القول بأن (لا) نافية غير زائدة يكون المعنى لا أقسم به وأنت حالّ به، فأنت أحقّ بالإقسام بك) (٢) .

والبعض الآخر من المفسّرين قال: إن (لا) أصلية أيضاً، ولكن المعنى هو: لا أقسم بهذا البلد وأنت لا حرمة لك في هذا البلد، يستحلّون دمك وقتالك، وفي ذلك دلالة واضحة على عظمة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ وذلك لأن القسم لأجل عظمة المقسوم به والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله له عظمة فوق ذلك، فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله موضع قسم أيضاً؛ إذ لو كان ما هو دونه من موارد القسم ولا يقسم به لعظمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكيف بك بذات النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي هو أعظم من الكعبة؟ وعلى هذا يكون في هذه الآية مديح له صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنه أكرم الخلق على اللَّه تعالى.

ذكر هذا المعنى عدد وافر من المفسّرين:

منهم: علي بن إبراهيم القمّي، حيث قال في تفسيره:

( وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ) كانت قريش لا يستحلّون أن يظلموا أحداً في هذا البلد، ويستحلّون ظلمك فيه (٣) .

ومنهم: الطبرسي في مجمع البيان، قال: (وقيل: معناه لا أقسم بهذا البلد وأنت حلّ فيه، منتهك الحرمة، مستباح العرض، لا تُحترم، فلم يبن للبلد حرمة،

____________________

(١) أبو البقاء العكبري، إملاء ما منّ به الرحمن، ج ٢، ص ٢٨٧.

(٢) الشوكاني، فتح القدير، ج ٥، ص ٤٤٣.

(٣) تفسير القمي، ج ٢، ص ٤٢٢.

١٢٩

حيث هتكت حرمتك، عن أبي مسلم، وهو المروي عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام قال: (كانت قريش تعظّم البلد، وتستحلّ محمّد(صلَّى الله عليه وآله فيه)، فقال: ( لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ) ، يريد أنهم استحلّوك فيه، فكذّبوك وشتموك... فاستحلّوا من رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ما لم يستحلّوه من غيره، فعاب اللَّه ذلك عليهم) (١) .

ومنهم: ابن الجوزي في زاد المسير، حيث ذكر لقوله تعالى: ( لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ) ثلاثة معانٍ، قال: (والثالث: أنت حلّ عند المشركين بهذا البلد يستحلّون إخراجك وقتلك ويحرّمون قتل الصيد، حكاه الثعلبي) (٢) .

وبعض ثالث قال: إن (لا) زائدة، ولكن مع ذلك هي دالّة على أفضلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على الكعبة، وأن شرفها لحلول النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها، والقسم بها لأجل ذلك، فإذا كان القسم بها لأجل حلول النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها يكون القسم بذات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أولى وأدلّ.

وقد ذكر هذا المعنى أيضاً كثير من المفسّرين:

منهم: الشيخ الطوسي، حيث قال بعد تصريحه بأن (لا) زائدة: (وقيل: معناه أنت حلّ بهذا البلد أي أنت فيه مقيم وهو محلّل، والمعنى بذلك التنبيه على شرف البلد بشرف من حلّ فيه من الرسول الداعي إلى تعظيم اللَّه وإخلاص عبادته المبشِّر بالثواب والمنذر بالعقاب) (٣) .

ومنهم: الشوكاني في فتح القدير، قال: (وعلى القول بأنها زائدة، يكون المعنى: أقسم بهذا البلد الذي أنت مقيم به تشريفاً وتعظيماً لقدرك؛ لأنه قد صار

____________________

(١) مجمع البيان، ج ١٠، ص ٣٦١.

(٢) زاد المسير، ج ٨، ص ٢٥١.

(٣) التبيان، ج١٠، ص ٣٥٠.

١٣٠

بإقامتك فيه عظيماً شريفاً وزاد على ما كان فيه من الشرف والعظم) (١) .

كذلك ذكر بعض المفسّرين أن قوله تعالى: ( وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ) المقصود منه إبراهيم والولد هو النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله . قال ابن الجوزي: )والثاني: أن الوالد إبراهيم وما ولد محمّد، قاله الحسن أبو عمران الجوني) (٢) .

وهذا قسم آخر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما نصّ على ذلك القاضي عياض (٣) .

ثمّ إن هذه الآية المباركة دالّة على أن إنكار ولاية الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وكونه واسطة ووسيلة بينهم وبين اللَّه تعالى مع تعظيم الكعبة من عمل المشركين، وأن تعظيم البيت الحرام بضمّ تعظيم النبيّ الأكرم وببركة وجوده فيه.

٣ - قوله تعالى: ( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) (٤) .

٤ - قوله تعالى: ( ق وَالْقُرْآنِ الَْمجِيدِ ) (٥) .

٥ - قوله تعالى: ( يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ) (٦) .

٦ - قوله تعالى: ( الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ ) (٧) .

٧ - قوله تعالى: ( طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ ) (٨) .

وقد ورد عن الإمام السجّاد عليه‌السلام في الصحيفة السجّادية بأن كلّ قسَم في

____________________

(١) فتح القدير، ج ٥، ص ٤٤٣.

(٢) ابن الجوزي، زاد المسير، ج٨، ص٢٥١.

(٣) الشفا بتعريف حقوق المصطفى، ج ١، ص ٣٤.

(٤) ص: ١.

(٥) ق: ١.

(٦) يس: ١و٢.

(٧) الحجر: ١.

(٨) النمل: ١.

١٣١

القرآن الكريم بالقرآن والكتاب يسبقه اسم فهو من أسماء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال عليه‌السلام في دعائه: (وقلت جلّ قولك له حين اختصصته بما سمّيته من الأسماء ( طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) ، وقلت عزّ قولك: ( يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ) ، وقلت تقدّست أسماؤك: ( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) ، وقلت عظمت آلاؤك: ( ق وَالْقُرْآنِ الَْمجِيدِ ) ، فخصصته أن جعلته قسمك حين أسميته وقرنت القرآن به، فما في كتابك من شاهد قسم والقرآن مردف به إلّا وهو اسمه، وذلك شرف شرّفته به، وفضل بعثته إليه، تعجز الألسن والأفهام عن وصف مرادك به) (١) .

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام قال: (يس اسم رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

ذكر بعض المفسّرين أن صاد وقاف وغيرهما من أسماء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقال ابن الجوزي: (والثالث: أن معناها [يس] يامحمّد، قاله ابن الحنفيّة والضحّاك) (٣) .

كانت هذه هي بعض الموارد التي أقسم اللَّه عزّ وجلّ بنبيّه الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله تعظيماً له، وتبياناً لعلوّ مقامه ومكانته عند اللَّه عزّ وجلّ، وأنه أكرم مخلوقاته.

والقسم بالشي‏ء نحو توسيط له؛ وذلك لأن القسم نوع من الذمّة والتوثيق، وهو نحو من أنحاء الشفاعة، لأن أحد أشكال القسم هو قسم المناشدة كما في المقام، وفي المناشدة يُذكر القسم لأجل التشفّع وجعل الشفيع والوسيط، فإذا صحّ القسم بذات النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، صحّ القسَم على اللَّه تعالى به في قضاء الحوائج في الدنيا والآخرة.

إذاً القسم كما يستخدم للاستيثاق من الخبر، يستخدم أيضاً

____________________

(١) الصحيفة السجادية، ص ٣١٠ - ٣١١.

(٢) تفسير القمي، ج ٢، ص ٢١١.

(٣) زاد المسير، ج ٦، ص ٢٦١.

١٣٢

في الاستيثاق من التشفّع والتوسّل كما لو كان القسم على إنشاء، كقولك: (واللَّه لتفعلنّ كذ)، وإذا صحّ التشفّع به صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقسم، صحّ التوسّل به والتشفّع مطلقاً، وهذا نوع من الاستدلال بالدلالة الالتزامية البيّنة.

١٤ - الآيات الآمرة بالتوسُّل بالنبيّ الأكرم‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله

وسائر الأنبياء والأوصياء:

الآيات القرآنية الواردة في هذا المجال عديدة نشير إلى بعضها:

١ - قوله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ) (١) .

فإن هذه الآية المباركة ناصّة وصريحة في أن التوجّه إلى اللَّه عزّ وجلّ والإقبال عليه بالاستغفار والتوبة والأوبة لابدّ أن يكون عن طريق التوجّه والمجي‏ء إلى الباب الذي نصبه اللَّه تعالى لذلك، وهو النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث قال تعالى: ( جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ ) أي يأتونك ويتوجّهون إلى اللَّه بك، فالمجي‏ء إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مجي‏ء إلى اللَّه تعالى.

إذن، استغفارهم لأنفسهم عند اللَّه تعالى لا يغنيهم عن التوجّه بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومعنى ذلك أن للمجي‏ء عند النبيّ ثم الاستغفار موضوعية في حصول المغفرة.

ولا شك أن الاستغفار وطلب المغفرة عبادة من العبادات ونوع خاص من أنواع الدعاء وحالة من الارتباط بين العبد وربّه، وللكون عند النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والمجي‏ء عنده دخالة في قبول تلك العبادة وتوثيق الدعاء والارتباط بين العبد

____________________

(١) النساء: ٦٤.

١٣٣

وربّه والإقبال على اللَّه تعالى.

وهذا هو معنى أن للَّه عزّ وجلّ مواضع ومواطن مشرَّفة يُقبل الدعاء بالكون فيها والمثول تحت قبّتها، كما في الكون في عرفة وتحت الميزاب وعند الملتزم والمستجار وغيرها، وكما ورد من أن الصلاة في البيت الحرام تعدل كذا ألف ركعة، وهذا يعني أن للكون في البيت الحرام دخالة في توثيق الارتباط بين العبد وبين اللَّه تبارك وتعالى.

والحاصل: إن اللَّه عزّ وجلّ يخاطب المذنبين الظالمين لأنفسهم أن تكون عبادتهم في طلب المغفرة بالقصد إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمجي‏ء عنده؛ لأن ذلك من مواطن استجابة الدعاء وتفتّح أبواب السماء وقبول التوبة وتحقّق المغفرة، وهذا نوع من أنواع التوسّل والتشفّع به صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى اللَّه عزّ وجلّ، فمجيئهم عند النبيّ والاستغفار في حضرته نوع من أنواع التوسّل، واستغفار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد توسلهم به نوع من أنواع الشفاعة؛ ولذا قال عزّ وجلّ: ( وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ) ، وبعد التوسّل والشفاعة قال تعالى: ( لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ) .

٢ - قوله تعالى: ( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ) (١) .

وهذا أمر من اللَّه عزّ وجلّ لنبيّه الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يتشفّع للمؤمنين ويكون وسيلة وواسطة لهم في المغفرة.

٣ - قوله تعالى: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ) (٢) .

____________________

(١) آل عمران: ١٥٩.

(٢) المنافقون: ٥.

١٣٤

إن في هذه الآية المباركة أمر إلهي لعصاة هذه الأمة، بأن يأتوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ويتوسلون به ليستغفر لهم اللَّه عزّ وجلّ.

والباري تعالى يقول: إن الإباء عن المجي‏ء عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله صدود واستكبار على اللَّه تعالى، وهو نفس الجرم الذي وقع به إبليس عندما أبى عن السجود لوليّ اللَّه وخليفته آدم، حيث قال تعالى: ( أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) ، كذلك الفسق وصَفَ به اللَّه عزّ وجلّ المنافقين كما وصف به إبليس، وليس ذلك إلّا لأنهم لوّوا رؤوسهم وأبوا زيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتوسيطه والتوجّه به إلى اللَّه تعالى في الاستغفار، وذلك سواء قبل وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعدها؛ لأن الرسول الأكرم حيّ بالآيات وبروايات الفريقين، تُعرض عليه الأعمال ويسمع السلام ويردّه وهو شهيد على جميع الأمم.

٤ - قوله تعالى: ( وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (١) .

وفي هذه الآية المباركة والآيات التي سبقتها تأكيد على أن هذه الأمة لا ترحم إلّا بنبيّها صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو شفيع هذه الأمة ووسيلتها، وإن اللَّه عزّ وجلّ أمره بذلك وأمر الأمة بالرجوع إليه لنيل الرحمة والمغفرة.

٥ - قوله تعالى حكاية لكلام إبراهيم عليه‌السلام مع عمّه آزر: ( قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ) (٢) .

وهذه الآية المباركة صريحة فيما نحن بصدد إثباته؛ إذ إن النبيّ إبراهيم عليه‌السلام يعلّل شفاعته ووساطته في الاستغفار بأن اللَّه كان به حفيّاً، فالحفاوة والحظوة

____________________

(١) النور: ٦٢.

(٢) مريم: ٤٧.

١٣٥

والحبوة والوجيه والوجاهة التي يوليها اللَّه عزّ وجلّ لإبراهيم عليه‌السلام وسيلة وباباً ووجهاً يتوجّه به إلى اللَّه عزّ وجلّ، كما تقدم ذلك في الآيات التي صرّحت بأن موسى وعيسى عليهما‌السلام وجيهان عند اللَّه تعالى ومن المقرّبين، فكلّ مقرّب ووجيه وحبيب لدى اللَّه ومن له كرامة وعزّة عنده عزّ وجلّ يتوجّه ويتوسّل به إلى اللَّه ويجعل شفيعاً في قول القائل: (إنّا توسّلنا وتوجّهنا واستشفعنا بك إلى اللَّه يا وجيهاً عند اللَّه اشفع لنا عند اللَّه).

والتعليل المذكور في هذه الآية الكريمة عامّ، وقد أقرّ اللَّه تعالى إبراهيم عليه، فيكون هذا التعليل دليلاً عامّاً على أن كلّ من كان له حفاوة وقرباً عند اللَّه عزّ وجلّ يتوسل به ويتشفّع به عند اللَّه تعالى.

وهذه هي الملّة الإبراهيمية الحنيفية التي نحن عليها، ( وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ) (١) .

٦ - قوله تعالى حكاية لقول موسى عليه‌السلام : ( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) (٢) .

فالنبيّ موسى عليه‌السلام في هذه الآية المباركة يستغفر لنفسه ويتوسّط في طلب الاستغفار لأخيه هارون عليه‌السلام ، وهذا معناه أن الوسيلة والشفاعة قد تكون أيضاً من الوليّ الذي هو أقرب وأكثر حظوة عند اللَّه تعالى للوليّ الذي هو دونه في القرب، كما ورد ذلك في شفاعة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لبقيّة الأنبياء، بل ولخصوص الأئمة الاثني عشر من أهل بيته عليهم‌السلام في الكينونة معه في مقامه.

____________________

(١) سورة البقرة: ١٣٠.

(٢) الأعراف: ١٥١.

١٣٦

وإذا كان النبيّ موسى عليه‌السلام واسطة ووسيلة رحمة وغفران بين هارون النبي وبين اللَّه تعالى، وهو نبيّ من الأنبياء، فكيف ظنّك بسائر البشر؟!

٧ - قوله تعالى حكاية عن قول يعقوب عليه‌السلام وولده: ( قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (١) .

وهذا توسّل من أبناء يعقوب بأبيهم عليه‌السلام ، ونفس فعلهم هذا هو توبة وندامة وأوبة وإنابة إلى اللَّه عزّ وجلّ، ففي التوبة التي هي من العبادة للَّه تعالى توجّهوا إلى أبيهم؛ لحفاوته عند اللَّه تعالى، والنبيّ يعقوب عليه‌السلام أقرّهم على فعلهم هذا، وقال لهم: ( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ) ، فقوله هذا شفاعة منه عليه‌السلام لأبنائه عند اللَّه تعالى، وقولهم وتوجّههم إليه توسّل منهم بأبيهم وتوسيط له بينهم وبين اللَّه عزّ وجلّ؛ وذلك بحسب ما تقدّم ويأتي أيضاً من الرابطة الوثيقة بين التوسّل والشفاعة، وجاء في ذيل سورة يوسف قوله تعالى: ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ ) (٢) أي أن ما ذكر في الآيات عبرة لمن يقرأ القرآن ليتخذها سنّة ينتهجها.

٨ - قوله تعالى: ( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ) (٣) .

وهذه الآية المباركة تبيّن وساطة حملة العرش في غفران الذنوب، وقد روى الفريقان أن حملة العرش يوم القيامة ثمانية، أربعة من الأولين وأربعة من

____________________

(١) يوسف: ٩٧ - ٩٨.

(٢) سورة يوسف: ١١١.

(٣) غافر: ٧.

١٣٧

الآخرين. أمَّا الأولون فهم الأنبياء أولو العزم؛ نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم‌السلام . وأمَّا الآخرون فهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وثلاثة من هذه الأمة؛ وهم الإمام عليّ عليه‌السلام والحسن والحسين عليهما‌السلام . أخرج الكليني في الكافي عن يحيى بن سليمان المازني عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام قال: (إذا كان يوم القيامة كان على عرش الرحمن أربعة من الأولين وأربعة من الآخرين؛ فأمَّا الأربعة الذين هم من الأولين، فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم‌السلام . وأمَّا الأربعة من الآخرين، فمحمّد وعليّ والحسن والحسين (صلوات اللَّه عليهم) (١) .

وسواء كان حملة العرش من الملائكة أم من الأنبياء والأوصياء، فإنهم شفعاء ووسيلة يستغفرون للذين آمنوا.

٩ - قوله تعالى على لسان بني إسرائيل: ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرُ ) (٢) .

فإن سؤال بني إسرائيل في هذه الآية المباركة لم يكن بالخطاب في الدعاء مباشرة للَّه تعالى، وإنما سألوا اللَّه تعالى وتوجّهوا إليه بنبيّه، وموسى عليه‌السلام أجابهم على ما سألوا بقوله: ( فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ) ولم ينكر عليهم توسيطه في قضاء الحاجة وطلب ونيل المقصود، وكذلك اللَّه عزّ وجلّ لم ينكر عليهم ذلك في القرآن الكريم، وإنما أنكر عليهم استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير.

١٠ - قوله تعالى على لسان نبيّه سليمان عليه‌السلام : ( قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي

____________________

(١) الكافي، ج٤، ص٥٨٥.

(٢) البقرة: ٦١.

١٣٨

بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَأَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) (١) ، حيث توسّل النبيّ سليمان عليه‌السلام للإتيان بعرش بلقيس بمَن عنده علم من الكتاب، وهو وصيّه آصف بن برخيا.

والحاصل: إن هذا الوجه القرآني الذي ذكرناه بطوائفه المتعدّدة من الآيات، حصيلته أن هناك أمراً إلهياً للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يكون وسيلة وشفيعاً لهذه الأمة، وأمر الناس بأن يأتوه ويقصدوه ويزوروه طلباً للشفاعة وقضاءً للحوائج، وأن مجرّد الندامة والتوبة لا تكفي، بل لابدّ من التوجّه إلى الواسطة، كما فعل أولاد يعقوب، الذين كان في قصصهم عبرة لهذه الأمة، وهذه كلّها أوامر تعظّم مبدأ التوسّل وتحثّ عليه وتهدّد مَن يستكبر عليه، وأن مصيره يكون كمصير إبليس.

١٥ - آيات التوسّل بمخلوقات كريمة أضيفت إلى الأنبياء والأولياء:

هناك آيات عديدة تنصّ على مشروعية التوسّل بغير الأنبياء والرسل من المخلوقات الكريمة على اللَّه تعالى، والتي أُضيفت إلى الأنبياء والأولياء، فهي توجب تحقيق المقصود وإنجاح بعض الحوائج، نشير إلى بعضها:

١ - ما هو مذكور في قصة يوسف عليه‌السلام ، حيث أمر إخوته أن يُلقوا قميصه على وجه أبيه ليرتدّ بصيراً ببركة ذلك القميص، وذلك في قوله تعالى: ( إِذْهَبُوا

____________________

(١) النمل: ٣٨ - ٤٠.

١٣٩

بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّى لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِى ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) (١) ، فالمشافى في هذه الآيات المباركة نبيّ كبير من الأنبياء، وهو يعقوب عليه‌السلام ، والشفاء حصل بتوسّط قميص لامس بدن يوسف عليه‌السلام ، وهذا نوع من التوسّل والتوسيط في إفاضة الشفاء من اللَّه عزّ وجلّ، فإن الشفاء حقيقة من اللَّه تعالى والفيض كلّه منه تعالى؛ لأنه الخالق الحقيقي لكلّ الممكنات بما فيها الشفاء والاستشفاء، كما في قول إبراهيم عليه‌السلام : ( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) (٢) إلّا أن ذلك لا يمانع جعل الوسائط وأن يتوسَّل الشخص بوسيلة منصوبة من اللَّه عزّ وجلّ ومجعولة لإفاضة الشفاء منه تعالى، كالأشياء المضافة إلى الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام ، والسرّ في ذلك أن اللَّه عزّ وجلّ جعل عالم الخلقة محكوماً بقانون الأسباب والمسببات، لتكون مواطن ومجاري فيضه إلى المراتب النازلة من الوجود.

إذن، إذا كان نبيّ من الأنبياء يتوسل بجاه نبيّ آخر من الأنبياء، وهو ابنه يوسف عليه‌السلام ، وذلك ببركة قميصه بجعله واسطة فيض في الشفاء، فكيف بنا نحن؟

ثم إنه ليس في المورد، وهو القميص، خصوصية، بل ذلك شامل لكلّ ما له نسبة وإضافة إلى نبيّ من الأنبياء أو وصيّ من الأوصياء بما يوجب حصول

____________________

(١) يوسف:٩٣ - ٩٦.

(٢) الشعراء: ٨٠.

١٤٠

بنو الحارث بن فهر بن مالك

بنو عامر بن لؤى

بنو سهم بن عمرو

بنو جمح بن عمرو

بنو أنمار بن بغيض

بنو تيم بن مرة بن كعب

بنو عدي بن كعب الخ.

ولكن الفعل والتأثير كان للقبائل المهمة، والزعماء المهمين، وهم بضع قبائل، والباقون تبعٌ لهم الى حد كبير فقد وصف ابن هشام اجتماع دار الندوة الذي بحث فيه قادة القبائل ( مشكلة نبوة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ) فقال في 2 / 331: وقد اجتمع فيها أشراف قريش:

من بني عبد شمس: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب.

ومن بني نوفل بن عبد مناف: طعيمة بن عدي، وجبير بن مطعم، والحارث بن عامر بن نوفل.

ومن بني عبد الدار بن قصي: النضر بن الحارث بن كلدة.

ومن بني أسد بن عبد العزى: أبوالبختري بن هشام، وزمعة بن الأسود بن المطلب، وحكيم بن حزام.

ومن بني مخزوم: أبو جهل ابن هشام.

ومن بني سهم: نبيه ومنبه ابنا الحجاج.

ومن بني جمح: أمية بن خلف.

ومن كان معهم وغيرهم ممن لا يعد من قريش، فقال بعضهم لبعض:

إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأياً.

١٤١

قال: فتشاوروا ثم قال قائل منهم: إحبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه باباً، ثم تربصوا به...الخ.

- وقال في: 2 / 488 مسمياً المنفقين على جيش المشركين في بدر:

وكان المطعمون من قريش ثم من بني هاشم بن عبد مناف: العباس بن عبد المطلب بن هاشم.

ومن بني عبد شمس بن عبد مناف: عتبة بن ربيعة بن عبد شمس.

ومن بني نوفل بن عبد مناف: الحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي بن نوفل، يعتقبان ذلك.

ومن بني أسد بن عبد العزى: أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد، وحكيم بن حزام بن خويلد بن أسد، يعتقبان ذلك.

ومن بني عبد الدار بن قصي: النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار. انتهى.

واليك هذا الترتيب الذي رتبه الخليفة عمر لقبائل قريش، في سجل الدولة لتوزيع العطاءات، فإنه يدل على تركيبة قبائلها، وتميز بني هاشم عليهم:

- قال البيهقي في سننه: 6 / 364:

عن الشافعي وغيره، أن عمر رضي‌الله‌عنه لما دوَّن الدواوين قال: إبدأ ببني هاشم، ثم قال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم وبني المطلب فوضع الديوان على ذلك، وأعطاهم عطاء القبيلة الواحدة.

ثم استوت له عبد شمس ونوفل في جذم النسب، فقال: عبد شمس إخوة النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه وأمه دون نوفل، فقدمهم، ثم دعا بني نوفل يتلونهم.

ثم استوت له عبد العزى وعبد الدار، فقال في بني أسد بن عبد العزى أصهار النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم أنهم من المطيبين فقدمهم على بني عبد الدار، ثم دعا بني عبد الدار يتلونهم.

١٤٢

ثم انفردت له زهرة فدعاها تلو عبد الدار.

ثم استوت له تيمٌ ومخزوم، فقال في بني تيم إنهم من حلف الفضول والمطيبين وفيهما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل ذكر سابقةً، وقيل ذكر صهراً فقدمهم على مخزوم.

ثم دعا مخزوم يتلونهم.

ثم استوت له سهمٌ وجمحٌ وعديُّ بن كعب، فقيل له إبدأ بعدي فقال بل أقر نفسي حيث كنت، فإن الاسلام دخل وأمرنا وأمر بني سهم واحد، ولكن انظروا بني جمح وسهم، فقيل قدم بني جمح.

ثم دعا بني سهم، وكان ديوان عدي وسهم مختلطاً كالدعوة الواحدة، فلما خلصت اليه دعوته كبر تكبيرة عالية، ثم قال: الحمد لله الذى أوصل اليَّ حظي من رسوله.

ثم دعا بني عامر بن لؤي، قال الشافعي: فقال بعضهم إن أبا عبيدة بن عبد الله بن الجراح الفهري لما رأى من تقدم عليه قال: أكل هؤلاء تدعو أمامي؟!

فقال: يا أبا عبيدة، إصبر كما صبرتُ أو كلم قومك فمن قدمك منهم على نفسه لم أمنعه، فأما أنا وبنو عدي فنقدمك إن أحببت على أنفسنا.

قال فقدم معاوية بعدُ بني الحارث بن فهر، فصل بهم بين بني عبد مناف وأسد بن عبد العزى.

وشجر بين بني سهم وعدي شيء في زمان المهدي فافترقوا، فأمر المهدي ببني عدي فقدموا على سهم وجمح، للسابقة فيهم.

* *

وقد اعترف الجميع بأن فرع هاشم كانوا متميزين على بقية الفروع في فكرهم وسلوكهم، متفوقين في فعاليتهم وقيمهم وأن جمهور القبائل والملوك كانوا

١٤٣

يحترمونهم احتراماً خاصاً حتى حسدهم زعماء قريش، وتحالفوا ضدهم من أيام هاشم وعبد المطلب.

فقد رتب هاشم ( رحلة الصيف ) الى الشام وفلسطين ومصر لقبائل قريش كلها، فسافر في الصحاري والدول، وفاوض رؤساء القبائل، والملوك، الذين تمر في مناطقهم قوافل قريش، وعقد معهم جميعاً معاهداتٍ بعدم الغارة على قوافل قريش وضمان سلامتها.

وقد فرحت قبائل قريش بهذا الإنجاز، وبادرت الى الإستفادة منه، ولكنها حسدت هاشماً، وتمنى زعماؤها لو أن ذلك تم على يدهم، وكان فخره لهم.

وقد توفي هاشم مبكراً في إحدى سفراته في أرض غزة، في ظروف من حق الباحث أن يشك فيها!

ولكن بيت هاشم لم ينطفئ بعده، فسرعان ماظهر ولده عبد المطلب، وساد في قومه، وواصل مآثر أبيه، فرتب لقريش رحلة الشتاء الى اليمن، وعقد معاهداتٍ لحماية قوافلها مع كل القبائل التي تمر عليها ومع ملك اليمن، وفاز بفخرها كما فاز أبوه بفخر رحلة الصيف.

* *

وعلى الصعيد المعنوي، كانت قبائل قريش ترى أن بني هاشم وعبد المطلب يباهون دائماً بانتمائهم الى إسماعيل، واتباعهم لملة ابراهيم، كأنهم وحدهم أبناء إسماعيل وابراهيم عليهما‌السلام .

وتفاقم الأمر عندما أخذ عبد المطلب يدعي الإلهام عن طريق الرؤيا الصادقة، وأخبرهم بأن الله تعالى أمره بحفر زمزم التي جفت وانقرضت من قديم، فحفرها ونبع ماؤها بإذن الله تعالى، ووجد فيها غزالين من ذهب، فزين بذهبهما باب الكعبة ففاز بمأثرةٍ جديدة وصار - بسبب شحة الماء في مكة - ساقي الحرم والحجيح!

١٤٤

ثم طمأن الناس عند غزو الحبشة للكعبة، بأن الجيش لن يصل اليها، وأن الله تعالى سيتولى دفعهم، فصدقت نبوءته، وأرسل الله عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول.

ثم وضع عبد المطلب للناس مراسم وسنناً، كأنه نبي أو ممهد لنبي، فجعل الطواف سبعاً وكان بعض العرب يطوفون بالبيت عريانين لأن ثيابهم ليست حلالاً، فحرم عبد المطلب ذلك. ونهى عن قتل الموؤودة. وأوجب الوفاء بالنذر، وتعظيم الاشهر الحرم. وحرم الخمر. وحرم الزنا ووضع الحد عليه، ونفى البغايا ذوات الرايات الى خارج مكة. وحرم نكاح المحارم. وأوجب قطع يد السارق. وشدد على القتل، وجعل ديته مئة من الإبل.

وقد عظمت مكانة عبد المطلب في قريش وفي قبائل العرب، وكان زعماء قريش يأكلهم الحسد منه! حتى جروه مرتين الى المنافرة والإحتكام الى الكهان فنصره الله عليهم بكرامة جديدة، وتعاظمت مكانته أكثر!

ولعل أكثر ما أثار زعماء قريش في آخر أيام عبد المطلب، أنه ادعى أنه مثل جده ابراهيم عليه‌السلام ، ونذر أن يذبح أحد أولاده قرباناً لرب الكعبة الخ.

وما أن استراح زعماء قريش من عبد المطلب، حتى ظهر ولده أبو طالب وساد في قومه وفي قريش والعرب، وأخذ مكانة أبيه وجده، وواصل سيرة أبيه عبد المطلب ومقولاته.

وفي أيام أبي طالب وقعت المصيبة على زعماء قريش عندما ادعى ابن أخيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النبوة، وطلب منهم الإيمان به وإطاعته!

وزاد من خوفهم أن عدداً من بني هاشم وبني المطلب آمنوا بنبوته، وأعلن عمه أبو طالب حمايته لابن أخيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليبلغ رسالة ربه بكامل حريته، وهدد قريشاً بالحرب إن هي مست منه شعرة، ووقف في وجه مؤامراتها، وأطلق قصائده في

١٤٥

فضح زعماءها فسارت بشعره الركبان يمدح فيه محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويهجو زعماء قريش حتى أنه سمى زعيم مخزوم أبا الحكم ( أحيمق مخزوم ) كما سماه ابن أخيه محمد ( أبا جهل )!!

ونشط الزعماء القرشيون في مقاومة النبوة بأنواع الإغراءات والتهديدات لأبي طالب وابن أخيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ففشلوا!

ثم اتخذوا قراراً باضطهاد المسلمين الذين تطالهم أيديهم، فهرب أكثرهم الى الحبشة وفشل زعماء قريش!

ثم اتخذوا قراراً بالإجماع وضموا اليهم بني كنانة، بعزل كل بني هاشم ومقاطعتهم مقاطعة تامة شاملة، وحصروهم في شعبهم ثلاث سنوات أو أربع فأفشل الله محاصرتهم بمعجزة!

وما أن فقد بنو هاشم رئيسهم أبا طالب، حتى اتحد زعماء قريش قراراً بالإجماع بقتل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الذي بقي بزعمهم بلا حامٍ ولا ناصر فأفشل الله كيدهم ونقل رسوله الى المدينة التي أسلم أكثر أهلها!

وحاول القرشيون أن يضغطوا على أهل المدينة بالإغراء والوعيد، واليهود ولكنهم فشلوا، لأن المدينة صارت في يد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي تقع على طريق شريانهم التجاري، وتهددهم بقطع تجارتهم مع الشام ومنطقتها!

فقرروا دخول الحرب مع ابن بني هاشم، وحاربوه في بدر، وأحد، والخندق ففشلوا!

وحاربوه باليهود، واستنصروا عليه بالفرس والروم ففشلوا!

وما هو إلا أن فاجأهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السنة الثامنة من هجرته ودخل عليهم عاصمتهم مكة، بجيش من جنود الله لا قبل لهم به. فاضطروا أن يعلنوا إلقاء سلاحهم، والتسليم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !

١٤٦

وقام أهل مكة سماطين ينظرون الى دخول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والى جيشه ..

وتقدم براية الفتح بين يديه شابٌّ أنصاري من قبيلة الخزرج اليمانية، هو عبد الله بن رواحة، وهو يقول للفراعنة:

خلُّوا بني الكفار عن سبيلِهِ

فاليوم نضربْكم على تنزيلهِ

ضرباً يزيل الهام عن مَقِيلِهِ

ويذهلُ الخليلَ عن خليله

تالله لا يحكم فينا ابن الدعي (2)

فقال عمر بن الخطاب: يابن رواحة، أفي حرم الله وبين يدي رسول الله، تقول الشعر!!

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مهْ يا عمر، فو الذي نفسي بيده، لكلامه هذا أشد عليهم من وقع النبل )! ( البيهقي في سننه: 10 / 228، ونحوه الترمذي: 4 / 217، والذهبي في سير أعلام النبلاء: 1 / 235 )

فعمر يريد أن يخفف على زعماء قريش وقع هزيمتهم، ولا يتحداهم في عاصمتهم ولا ننسى أن عمر من قبيلة عدي الصغيرة، وأنه نشأ على احترام زعماء قريش وإكبارهم.

ولكن الرؤية النبوية أن هؤلاء الفراعنة لا يفهمون إلا لغة السيوف والسهام، وأن عمل عبد الله بن رواحة عملٌ صحيحٌ، وقيمته عاليةٌ عند الله تعالى، لأنه أشد على أعداء الله من وقع النبل!!

* *

وأعلن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمان لقريش، وجمع زعماءهم في المسجد الحرام وسيوف جنود الله فوق رؤوسهم وشرح لهم تكبرهم وتجبرهم وتكذيبهم لآيات الله ومعجزاته، وعداءهم لله ورسوله، واضطهادهم لبني هاشم والمسلمين، وحروبهم ومكائدهم ضد الإسلام ورسوله ..

١٤٧

- قال الطبري في تاريخه: 2 / 337:

عن قتادة السدوسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام قائماً حين وقف على باب الكعبة ثم قال:

لا إله الا إلله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.

ألا كل مأثرةٍ أو دمٍ أو مالٍ يدَّعى، فهو تحت قدميَّ هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ...

يا معشر قريش: إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس من آدم وآدم خلق من تراب. ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) الآية.

يا معشر قريش ويا أهل مكة: ماترون أني فاعلٌ بكم؟!

قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم.

ثم قال: إذهبوا فأنتم الطلقاء.

فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان الله أمكنه من رقابهم عنوةً، وكانوا له فَيْأً، فبذلك يسمى أهل مكة الطلقاء. انتهى.

لقد خيرهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين إعلان إسلامهم أو القتل: فأعلنوا إسلامهم، فقال لهم: إذهبوا فأنتم الطلقاء، وذلك يعني أنه منَّ عليهم بحياتهم، مع أنهم يستحقون أن يتخذهم عبيداً، أو يقتلهم!!

ويعني أن إعلان إسلامهم الشكلي، لم يرفع جواز استرقاقهم أو قتلهم!

* *

ومما صادفته في تصفحي، ما ارتكبه الشيخ ناصر الدين الألباني من تعصبٍ مفضوح للقرشيين، حيث ضعف هذا الحديث! فقال في سلسلة أحاديثه الضعيفة

١٤٨

3 / 307 برقم 1163: ضعيف. رواه ابن إسحاق في السيرة 4 / 31 - 32، وعنه الطبري في التاريخ 3 / 120، ونقله الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 4 / 300 - 301، ساكتاً عليه. وهذا سندٌ ضعيف مرسل، لأن شيخ ابن إسحاق فيه لم يسمَّ، فهو مجهول. ثم هو ليس صحابياً، لأن ابن إسحاق لم يدرك أحداً من الصحابة، بل هو يروي عن التابعين وأقرانه، فهو مرسل، أو معضل. انتهى.

وكأن هذا المحدث لم يطلع على وجود هذا الحديث ومؤيداته في المصادر الأخرى، ولم ير المحدثين والفقهاء وهم يرسلونه إرسال المسلمات ..

وما أدري هل هو جهلٌ بالتاريخ والحديث الى هذا الحد أم حبٌّ للقرشيين ومحاولةٌ لتخليصهم من صفة الرق الشرعية للرسول وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

فإن مسألة الطلقاء ثابتة مشهورة عند جميع الفرق، واسم ( الطلقاء ) كالعلم لأكثر قريش، وهو كثيرٌ في مصادر الحديث، وقد دخلت أحكامه في فقه المذاهب.

- فقد روى البخارى في صحيحه: 5 / 105 - 106

قال لما كان يوم حنين التقى هوازن ومع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف والطلقاء، فأدبروا ...

- وفي مسلم: 3 / 106: ومعه الطلقاء فأدبروا عنه حتى بقي وحده!!

ونحوه في: 5 / 196 ونحوه في مسند أحمد: 3 / 190 و 279

والصحيح أنه لم يثبت معه إلا بنو هاشم.

- وفي مسند أحمد: 4 / 363: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض، الى يوم القيامة.

وقد صححه الحاكم في المستدرك: 4 / 80، وقال عنه في مجمع الزوائد: 10 / 15:

رواه أحمد والطبراني بأسانيد، وأحد أسانيد الطبراني رجاله رجال الصحيح، وقد جوده رضي‌الله‌عنه وعنا، فإنه رواه عن الأعمش عن موسى بن عبد الله بن يزيد بن عبد الرحمن بن هلال العبسي، عن جرير وموسى بن عبد الله بن هلال العبسي.

١٤٩

- وقال الشافعي في كتاب الأم: 7 / 382

قال الأوزاعي: فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة، فخلى بين المهاجرين وأرضهم ودورهم بمكة، ولم يجعلها فيئاً.

قال أبو يوسف رحمه‌الله : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عفا عن مكة وأهلها وقال:

من أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ونهى عن القتل إلا نفراً قد سماهم، إلا أن يقاتل أحدٌ فيقتل، وقال لهم حين اجتمعوا في المسجد: ما ترون أني صانعٌ بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم.

قال: إذهبوا فأنتم الطلقاء. ولم يجعل شيئاً قليلاً ولا كثيراً من متاعهم فيئاً. وقد أخبرتك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في هذا كغيره، فهذا من ذلك، وتفهَّم فيما أتاك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن لذلك وجوهاً ومعاني. انتهى.

وراجع أيضاً مغني ابن قدامة: 7 / 321، ومبسوط السرخسي: 10 / 39، ومسند أحمد: 3 / 279، وسنن البيهقي: 6 / 306، و: 8 / 266 و: 9 / 118، وكنز العمال: 12 / 86.

- وفي كنز العمال: 5 / 735: قال لهم عمر: إن هذا الأمر لا يصلح للطلقاء ولا لأبناء الطلقاء، فإن اختلفتم فلا تظنوا عبد الله بن أبي ربيعة عنكم غافلاً - ابن سعد. انتهى.

وكذلك الأمر في مصادرنا:

- ففي نهج البلاغة شرح الشيخ محمد عبده: 3 / 30 في جواب علي عليه‌السلام لمعاوية:

وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلانٌ وفلانٌ، فذكرت أمراً إن تم اعتزلك كله، وإن نقص لم تلحقك ثلمته.

وما أنت والفاضل والمفضول والسائس والمسوس؟! وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين، وترتيب درجاتهم، وتعريف طبقاتهم.

هيهات، لقد حنَّ قدحٌ ليس منها، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها.

ألا تربع أيها الإنسان على ظلعك، وتعرف قصور ذرعك، وتتأخر حيث أخرك

١٥٠

القدر، فما عليك غلبة المغلوب، ولا لك ظفر الظافر وإنك لذهاب في التيه رواغ عن القصد.

- وفي الكافي: 3 / 512

من أسلم طوعاً تركت أرضه في يده وما أخذ بالسيف فذلك الى الإمام يقبِّله بالذي يرى كما صنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخيبر وقال: إن أهل الطائف أسلموا وجعلوا عليهم العشر ونصف العشر، وإن أهل مكة دخلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنوةً فكانوا أسراء في يده، فأعتقهم وقال: إذهبوا فأنتم الطلقاء.

قريش بعد فتح مكة

ماذا فعلت قريش بعد أن اضطر بقية فراعنتها وألوف الطلقاء من أتباعهم الى الدخول في الإسلام؟؟

من الطبيعي أن مشاعر الغيظ والكبرياء القرشي بقيت محتدمةً في قلوب أكثرهم إن لم نقل كلهم ولكن في المقابل ظهر فيهم منطقٌ يقول: إن دولة محمد دولتنا فمحمد أخٌ كريمٌ، وابن أخٍ كريم، ودولته دولة قريش، وعزه عزها وفخره فخرها، فهو مهما كان ابن قريش الرحيم، ودولته أوسعُ من دولة قريش وأقوى، والمجال أمام زعمائها مفتوحٌ من داخل هذه الدولة، فلماذا نحاربها، ولماذا نتركها بأيدي الغرباء من الأوس والخزرج اليمانيين!.

أما مسألة من يرث دولة محمد بعده، فهي مسألةٌ قابلةٌ للعلاج، وهي على كل حال مسألةٌ قرشيةٌ داخلية!!

من البديهي عند الباحث أن يفهم أن قريشاً وجهت جهودها لمرحلة ما بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن الهدف الأهم عندها كان: منع محمد أن يرتب الأمر من بعده لبني هاشم، ويجمع لهم بين النبوة والخلافة على حد تعبير قريش!

فالنبوة لبني هاشم، ولكن خلافة محمد يجب أن تكون لقريش غير بني هاشم!

١٥١

لكن رغم وجود هذا المنطق، فإن النصوص واعترافات بعض زعمائهم تدل على أنهم كانوا يعملون على كل الجبهات الممكنة! وأن أكثريتهم كانوا يائسين من أن يشركهم محمد في حكم دولته، لأنه يعمل بجدٍّ لتركيز حكم عترته من بعده ..

لذلك اتجه تفكيرهم بعد فتح مكة الى اغتيال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسرعان ما حاولوا تنفيذ ذلك في حنين ..!!

إن فراعنة قريش كفراعنة اليهود أبناء عمهم، فهم لا يعرفون الوفاء، بل كأنهم إذا لم يغدروا بمن عفا عنهم وأحسن اليهم، يصابون بالصداع!!

لقد اعلنوا إسلامهم، وادعوا أنهم ذهبوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليساعدوه في حربه مع قبيلتي هوازن وغطفان، وكان عدد جيشهم ألفين، وعدد جيش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي فتح مكة عشرة آلاف، وعندما التقوا بهوازن في حنين انهزموا من أول رشق سهام، وسببوا الهزيمة في صفوف المسلمين فانهزموا جميعاً، كما حدث في أحد!

وثبت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعه بنو هاشم فقط، كالعادة، وقاتلوا بشدةٍ مع مئة رجعوا اليهم مئة من الفارين حتى ردوا الحملة، ثم رجع المسلمون الفارون وكتب الله النصر.

وفي أثناء هزيمة المسلمين، قامت قريش بعدة محاولاتٍ لقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !

نكتفي منها بذكر ما نقله زعيم بني عبد الدار النضير بن الحارث، الذي سيأتي ذكره في تفسير الآية الثالثة! ونقله عنه محب له ولقريش ولبني أمية هو ابن كثير فقال في سيرته: 3 / 691:

كان النضير بن الحارث بن كلدة من أجمل الناس، فكان يقول: الحمد لله الذي من علينا بالإسلام، ومن علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولم نمت على ما مات عليه الآباء، وقتل عليه الإخوة وبنو العم.

ثم ذكر عداوته للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه خرج مع قومه من قريش الى حنين، وهم على دينهم بعد، قال: ونحن نريد إن كانت دائرة على محمد أن نغير عليه، فلم يمكنا ذلك.

١٥٢

فلما صار بالجعرانة فوالله إني لعلى ما أنا عليه، إن شعرت إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنضير؟

قلت: لبيك.

قال: هل لك الى خير مما أردت يوم حنين مما حال الله بينك وبينه؟

قال: فأقبلت إليه سريعاً.

فقال: قد آن لك أن تبصر ما كنت فيه توضع!

قلت: قد أدري أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئاً، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم زده ثباتاً.

قال النضير: فوالذي بعثه بالحق لكأن قلبي حجرٌ ثباتاً في الدين، وتبصرة بالحق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي هداه. انتهى.

وأنت تلاحظ أن هذه الكلام يتضمن إقراراً من هذا الزعيم القرشي على نفسه، وإقرار الإنسان على نفسه حجة وأنه يتضمن ادعاء منه بإيمانه بالله تعالى، فقد ذكر أنه تشهده الشهادة الأولى فقط، ولم يذكر الثانية!

ولكن الدعوى لا تثبت بادعاء صاحبها بدون شهادة غيره!

ومهما يكن فقد اعترف زعيم بني عبد الدار أصحاب راية قريش التي يصدر حاملها الأوامر لألفي مسلح في حنين، بأن إعلان إسلامهم في مكة كان كاذباً، وبأنه كل زعماء قريش كانوا متفقين على قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنهم حاولوا محاولاتٍ في حنين ولم يتوفقوا فقد أحبط الله تعالى خططهم، وكشف لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نواياهم!!

بل تدل أحاديث السيرة، على أن زعماء قريش لم يملكوا أنفسهم عند انهزام المسلمين في حنين في أول الأمر، فأظهروا كفرهم الراسخ، وفضحوا أنفسهم!

- ففي سيرة ابن هشام: 4 / 46

قال ابن اسحاق: فلما انهزم الناس، ورأى من كان مع رسول الله صلى الله عليه

١٥٣

وسلم من جفاة أهل مكة الهزيمة، تكلم رجالٌ منهم بما في أنفسهم من الضغن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وإن الأزلام لَمَعَهُ في كنانته! وصرخ جبلة بن الحنبل - قال ابن هشام كلدة بن الحنبل - وهو مع أخيه صفوان بن أمية مشركٌ في المدة التي جعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا بطل السحر اليوم!

قال ابن اسحاق: وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة أخو بني عبد الدار: قلت اليوم أدرك ثأري من محمد، وكان أبوه قتل يوم أحد، اليوم أقتل محمداً، قال:

فأدرت برسول الله لأقتله، فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي فلم أطلق ذاك، وعلمت أنه ممنوعٌ مني!! انتهى.

وهذا آخر من أصحاب راية جيش قريش المسلمة، يعترف بأنه في حنين عند الهزيمة أو بعدها ( دار ) مرة أو مراتٍ حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليقتله!

إن الناظر في مقومات شخصيات زعماء قريش، وتفكيرهم واهتماماتهم، يصل الى أن قناعة بأن عنادهم بلغ حداً أنهم اتخذوا قراراً بأن يكذبوا بكل الآيات والمعجزات التي يأتيهم بها محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويكفروا بكل القيم والأعراف الإنسانية التي يدعو اليها ويعاملهم بها وأن لا يدخلوا في دينه إلا في حالتين لا ثالثة لهما:

إذا كان السيف فوق رؤوسهم!

أو صارت دولة محمد وسلطانه بأيديهم!

لقد حاربوا هذا الدين ونبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكل الوسائل حتى عجزوا وانهزموا ..

ثم واصلوا تآمرهم ومحاولاتهم اغتيال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى عجزوا ..

ثم جاؤوا يشترطون الشروط مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليأخذوا سهماً من دولته فعجزوا ..

ثم جاؤوا يدعون أنهم أصحاب الحق في دولة نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنه من قبائل قريش!!!

- قال في مناقب آل أبي طالب: 2 / 239

قال الشريف المرتضى في تنزيه الأنبياء: إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما نص على أمير المؤمنين

١٥٤

بالإمامة في ابتداء الأمر، جاءه قوم من قريش وقالوا له: يا رسول الله إن الناس قريبوا عهد بالإسلام لا يرضون أن تكون النبوة فيك والإمامة في ابن عمك علي بن أبي طالب فلو عدلت به الى غيره، لكان أولى!

فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما فعلت ذلك لرأيي فأتخير فيه، لكن الله تعالى أمرني به وفرضه عليَّ.

فقالوا له: فإذا لم تفعل ذلك مخافة الخلاف على ربك، فأشرك معه في الخلافة رجلاً من قريش تركن الناس اليه، ليتم لك أمرك، ولا تخالف الناس عليك. فنزلت الآية: لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين .

عبد العظيم الحسني عن الصادق عليه‌السلام في خبر: قال رجل من بني عدي اجتمعت اليَّ قريش، فأتينا النبي فقالوا: يا رسول الله إنا تركنا عبادة الأوثان واتبعناك، فأشركنا في ولاية علي فنكون شركاء، فهبط جبرئيل على النبي فقال: يا محمد لئن أشركت ليحبطن عملك الآية. انتهى. ( والحديث الأول في تنزيه الأنبياء/ 167 )

* *

قريش تتمحور حول زعامة سهيل بن عمرو

رغم خيانات زعماء قريش بعد فتح مكة وتآمرهم، فقد حاول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستقطبهم، فأكرمهم وتألفهم وأعطاهم أكثر غنائم المعركة، وأطمعهم بالمستقبل إن هم أسلموا وحسن إسلامهم الخ.

لقد أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقاوم عُقَدهم بنور الحلم، وظلماتهم بنور الإحسان ..!!

وفي هذه الفترة تراجعت زعامة أبي سفيان، ولم يبق منها إلا ( أمجاد ) حربه مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فشخصية أبي سفيان تصلح للزعامة في الحرب فقط وفي التجارة، ولا تصلح في السلم للزعامة والعمل السياسي، لذلك تراه بعد أن انكسر في فتح مكة ذهب الى المدينة وطلب منصباً من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعينه جابياً للزكاة من بعض القبائل!!

١٥٥

أما الزعيم الذي يجيد العمل لمصلحة قريش المنكسرة عسكرياً فقد وجدته قريش في سهيل بن عمرو، العقل السياسي المفكر والمخطط ..

وسرعان ما صار سهيل محوراً لقريش، ووارثاً لقيادة زعمائها الذين قتلهم محمد أو أماتهم رب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وسهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود، هو في نظر قريش: قرشي أصيل. ولئن كان من بني عامر بن لؤي، الذين هم أقل درجة من بني كعب بن لؤي ( سيرة ابن هشام: 2 / 489 ) ، ولكنه صاحب تاريخ مع محمد، فهو من الزعماء الذين فاوضوا أبا طالب بشأنه.

وهو من أعضاء دار الندوة الذين قرروا مقاطعة بني هاشم.

وهو من الذين ائتمروا على قتله عندما ذهب الى الطائف، وقرروا نفيه من مكة، وهددوه بالقتل إن هو دخلها، ورفضوا أن يجيروه حتى يستطيع الدخول الى مكة وتبليغ رسالة ربه ففي تاريخ الطبري: 2 / 82 : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال للأخنس بن شريق: ائت سهيل بن عمرو فقل له إن محمداً يقول لك: هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالات ربي؟ فأتاه فقال له ذلك، قال فقال: إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب! انتهى.

وهو من الزعماء الذين واصلوا العمل لقتل محمد بعد وفاة أبي طالب، حتى أنجاه الله منهم بالهجرة.

وهو أحد الذين حبسوا المسلمين وعذبوهم على إسلامهم، ومن المعذبين على يده ولده أبو جندل.

وهو أحد قادة المشركين في بدر، وأحد أثريائهم الذين كانوا يطعمون الجيش.

وهو أحد الذين كانوا يؤلمون قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفعالياتهم الخبيثة، فلعنهم الله تعالى وطردهم من رحمته، وأمر رسوله أن يلعنهم، ويدعو عليهم في صلاته.

وهو أحد المنفقين أموالهم على تجهيز الناس لحرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أحد والخندق وغيرهما.

١٥٦

- قال في سير أعلام النبلاء: 1 / 194

يكنى أبا يزيد، وكان خطيب قريش وفصيحهم ومن أشرافهم وكان قد أسر يوم بدر وتخلص. قام بمكة وحض على النفير، وقال: يال غالب أتاركون أنتم محمداً والصباة يأخذون عيركم! من أراد مالاً فهذا مال، ومن أراد قوة فهذه قوة.

وكان سمحاً جواداً مفوهاً.

وقد قام بمكة خطيباً عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحو من خطبة الصديق بالمدينة فسكنهم!! وعظم الإسلام. انتهى.

وهو الذي انتدبته قريش لمفاوضة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديبية، وقد أجاد المفاوضة وشدد عليه بالشروط، ولم يقبل أن يكتب في المعاهدة ( رسول الله ) ووقع الصلح معه نيابة عن كل قريش.

وهو المعروف عند قريش بأنه سياسي حكيم، أكثر من غيره من فراعنتها.

وهو أخيراً من أئمة الكفر الذين أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتالهم! وإعلانه الإسلام تحت السيف لا يغير من آيات الله شيئاً! ففي تفسير الصنعاني: 1 / 242 : عن قتادة في قوله ( وقاتلوا أئمة الكفر ) هو أبو سفيان بن حرب، وأمية بن خلف، وعتبه بن ربيعة، وأبو جهل، وسهيل بن عمرو. انتهى.

وقد اختار سهيل بن عمرو البقاء في مكة بعد فتحها ودخولها تحت حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يهاجر الى المدينة كبعض الطلقاء، ولم يطلب من محمد منصباً، لأن كبرباءه القرشي وتاريخه في الصراع مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأبيان عليه ذلك!!

ولكنه قبل هدية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حنين وكانت مئة بعير، بينما كان رفضها في أيام القحط والسنوات العجاف التي حدثت على قريش بدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم أشفق عليهم وأرسل اليهم مساعدة، وكانت أحمالاً من المواد الغذائية، فقبلها أكثرهم وكان سهيل ممن رفضوها!

١٥٧

إنه تاريخٌ طويلٌ مشرقٌ عند القرشييين، وإن كان أسود عند الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !! ومن أجل هذا النسب وهذا التاريخ والصفات، اجتمعت حوله قريش بعد فتح مكة، وانضوت تحت زعامته!

* *

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عين حاكماً لمكة بعد فتحها، هو عتاب بن أسيد الأموي وحعل معه أنصارياً، ولكن قريشاً كانت تفضل عليه سهيلاً، وتسمع كلامه أكثر منه!

والدليل على ذلك أنه بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ارتدت قريش عن الإسلام، وخاف حاكمها عتاب أن يقتلوه فاختبأ مع أنه قرشي أموي وبعد أيام وصلهم خبر يطمئنهم ببيعة أبي بكر التيمي، وأن أحداً من بني هاشم لن يحكم بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمأن سهيل بن عمرو، وخطب في قريش بنفس خطبة أبي بكر في المدينة، والتي مفادها أنه من كان يعبد محمداً فإن إلهه قد مات، ونحن لا نعبد محمداً، بل هو رسولٌ بلغ رسالته ومات، وهو ابن قريش وسلطانه سلطان قريش، وقد اختارت قريش حاكماً لنفسها بعده وهو أبو بكر، فاسمعوا له وأطيعوا.

لقد طمأنهم سهيل بأن الأمر بيد قريش، وليس بيد بني هاشم والأنصار اليمانية الذين ( يعبدون ) محمداً، فلماذا الرجوع عن الإسلام!

فأطاعته قريش وانتهى مشروع الردة!

وأصدر سهيل أمره لعتاب الحاكم من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أخرج من مخبئك، واحكم مكة باسم الزعيم القرشي غير الهاشمي أبي بكر بن أبي قحافة التيمي!

( راجع سيرة ابن هشام: 4 / 1079، وفيها: فتراجع الناس وكفوا عما هموا به، وظهر عتاب بن أسيد ).

سهيل بن عمرو يحاول الإستقلال!

اقتنعت قريش بعد فتح مكة أن العمل العلني ضد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محكوم بالفشل ..

١٥٨

فركزت جهودها على العمل السياسي المتقن، والعمل السري الصامت، لإبعاد عترته عن الحكم، وجعله في قريش ..

ولكن المشكلة عندها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسير قدماً في ترتيب الأمر من بعده لعلي ومن بعده للحسن والحسين، أولاد بنته فاطمة وقريش لا تطيق علياً ولا أحداً من بني هاشم لذلك قرر قادتها وفي مقدمتهم سهيل بن عمرو أن يقوموا بأنشطة متعددة، منها محاولة جريئة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد كتبوا اليه ثم جاؤوه وفداً برئاسة سهيل بن عمرو، طالبين اليه أن يرد ( اليهم ) عدداً من أبنائهم وعبيدهم، الذين تركوا مكة أو مزارعهم في الطائف، وهاجروا الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليتفقهوا في الدين، كما تنص الآية القرآنية!

قال سهيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحن اليوم حلفاؤك، وقد انتهت الحرب بيننا وتصالحنا، وأنا الذي وقعت الصلح السابق معك في الحديبية!

وهؤلاء أولادنا وعبيدنا هربوا منا وجاؤوك، ولم يأتوك ليتفقهوا في الدين كما زعموا، ثم إن كانت هذه حجتهم فنحن نفقههم في الدين، فأرجعهم الينا!!

ومعنى هذا الطلب البسيط من زعيم قريش الجديد: أن قريشاً حتى بعد فتح مكة واضطرارها الى خلع سلاحها وإسلامها تحت السيف تريد من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإعتراف بأنها وجودٌ سياسيٌّ مستقل، في مقابل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودينه ودولته!!

- روى الترمذي في: 5 / 298

عن ربعي بن حراش قال: أخبرنا علي بن أبي طالب بالرحبة فقال: لما كان يوم الحديبية خرج إلينا ناس من المشركين فيهم سهيل بن عمرو وأناس من رؤساء المشركين، فقالوا يا رسول الله: خرج إليك ناس من أبنائنا وإخواننا وأرقائنا، وليس لهم فقه في الدين، وإنما خرجوا فراراً من أموالنا وضياعنا، فارددهم إلينا فإن لم يكن لهم فقه في الدين سنفقههم.

١٥٩

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معشر قريش لتنتهن أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين، قد امتحن الله قلوبهم على الإيمان! قالوا من هو يا رسول الله؟

فقال له أبو بكر: من هو يا رسول الله؟

وقال عمر: من هو يا رسول الله؟

قال هو خاصف النعل، وكان أعطى علياً نعله يخصفها. هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث ربعي عن علي.

- وروى أبو داود: 1 / 611

عن ربعي بن حراش عن علي بن أبي طالب قال: خرج عبدانٌ الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني يوم الحديبية قبل الصلح، فكتب إليه مواليهم فقالوا: يا محمد والله ما خرجوا إليك رغبة في دينك، وإنما خرجوا هرباً من الرق!

فقال ناسٌ: صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم!

فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا!

وأبى أن يردهم وقال: هم عتقاء الله عز وجل. انتهى.

ولا يغرك ذكر الحديبية في الحديث، فهذا من أساليب الرواة القرشيين في التزوير فالحادثة وقعت بعد فتح مكة، ولو كانت قبله لطالب سهيلٌ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالوفاء لهم بشرطهم، لأنهم شرطوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صلح الحديبية أن يرد اليهم من يأتيه منهم، ولا يردون اليه من يأتيهم من المسلمين!

ولو كانت قبل فتح مكة، لكانت مطالبةً بشرطهم، وما استحقت هذا الغضب النبوي الشديد، وهو لا يغضب إلا بحق، ولا يغضب إلا لغضب الله تعالى، ولا يرضى إلا بما يرضي الله تعالى!

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320