الإمامة الإلهية الجزء ٤

الإمامة الإلهية18%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 320

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 320 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 102907 / تحميل: 8143
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) (١) .

وقد صرّحت آيات أخرى بأن الأمر الملكوتي يتنزّل على عباد اللَّه من دون أن تخصّص من لهم الأمر بالأنبياء والرسل، قال عزّ وجل: ( يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ) (٢) .

وحاصل ما ذكرناه من الآيات: أن الأمر من عالم الملكوت والغيب، وأنه مرتبط بتدبير السماوات والأرض وغير مختصّ بالشؤون الدنيوية المادّية، وأن الشرائع وهداية الناس وإنذارهم مرتبطة به، وأنه شامل لأولياء اللَّه الأصفياء المجتبين وليس خاصّاً بمقام النبوّة والرسالة، وذلك لارتباطه المباشر بمقام الهداية والإيصال إلى المطلوب، وهو مقام الخلافة والإمامة كما تقدم؛ ولذا قال تعالى: ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (٣) ، والصبر واليقين للأئمة من أولي الأمر في هذه الآية المباركة إشارة إلى العصمة في مقام العلم والعمل.

ولا يوجد أولو أمر في هذه الأمة بعد رسول اللَّه تجب طاعتهم غير أهل بيته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. ولا يمكن اقتصار الأمر الإلهي على السياسة والأمور الاجتماعية، بل هو أمر ملكوتي من عالم الغيب لهداية الأمة وتدبير السماوات والأرض يتنزّل في ليلة القدر على أولياء اللَّه وأصفيائه، وهؤلاء هم أوصياء رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة من بعده الدالّون على أوامره والذين أوكل لهم البيان الشرعي والقانوني للأوامر

____________________

(١) الجاثية: ١٨.

(٢) النحل: ٢.

(٣) السجدة: ٢٤.

١٦١

الإلهية والنبويّة، فكما أن الدالّ على أوامر اللَّه ونواهيه هو النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمره ونهيه، كذلك الدالّ على أوامر الرسول الأكرم ونواهيه أولو الأمر من بعده بأمرهم ونهيهم، فالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر ونهى في ضمن إطار الفرائض الإلهية، وأولو الأمر أيضاً يأمرون وينهون في ضمن دائرة السنن النبويّة المباركة، بما يشبه الحالة التراتبية في التنزّل القانوني الوضعي في الأدوار والصلاحيات، فهم الدالّون على طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كما كان هو دالّا على طاعة ربّه.

وبعبارة أخرى: إن أصول تشريع اللَّه تعالى وفرائضه يتبعها تشريعات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تفصيلاً وبياناً، ويتبعها تشريع أولي الأمر على نحو التنزّل القانوني، الذي هو الفتق بعد الرتق، والتفصيل بعد الإجمال، والبسط بعد القبض للتشريعات، وهذه لغة قانونية جعلها اللَّه تعالى جسراً لإيصال أحكامه على ما جرى عليه البشر، كالتشريع للفقه الدستوري ثم النيابي ثم الوزاري، على نحو التبعية بلا منافاة، وهذا برهان قانوني على التشريعات التي لابدّ من طاعتها، فالرتق يُفسَّر ويفتق فتقاً قانونياً تابعاً له.

ويتجلى ذلك المعنى أكثر إذا علمنا أن معظم بيان تشريع الشرائط والموانع وتفاصيل الأجزاء هي من تشريعات أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، فلا تستعلم تلك الأمور مع تركهم والإعراض عنهم وعدم الطاعة لأوامرهم.

إذن؛ الطاعة في الدين بطاعة اللَّه، وطاعة اللَّه بطاعة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأولي الأمر، فالوليّ بعد اللَّه تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد الرسول أولي الأمر، الذين لهم حقّ استنباط الدين وبيانه وتفصيله، قال تعالى: ( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ

١٦٢

أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) (١) .

والذي يتّضح ممَّا ذكرناه أن طاعة أولي الأمر على حدّ طاعة رسول اللَّه مقترنة بها وشاملة للدين كلّه، كما أن ولاية اللَّه تعالى وطاعته كذلك غير مختصّة ببعض الشؤون السياسية أو الاجتماعية.

فالإتيان بجميع العبادات والطقوس الدينية طاعة لأمر اللَّه وأمر رسوله وأولي الأمر من بعده وهم أهل بيته عليهم‌السلام ، فالعبد ينقاد ويفد على اللَّه تعالى ويتقرّب ويتوجّه إليه بطاعة الرسول وطاعة أولي الأمر، وهذا يعني أن الشهادة الثانية والثالثة مأخوذتان واسطتين في حاقّ عبادة اللَّه تعالى بما فيها عبادة المعرفة، التي هي أعظم العبادات.

ومن ثمّ كان الدين عبارة عن ولاية اللَّه وولاية الرسول وولاية أولي الأمر والطاعة لهم، قال اللَّه تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) (٢) .

والولاية والطاعة أصالة للَّه وبالتبع للنبيّ وأولي الأمر بإذن وأمر من اللَّه تعالى، كما أخضع اللَّه عزَّ وجلَّ ملائكته ومن خلق من الجنّ وغيرهم لوليّ اللَّه وخليفته آدم بما هو النموذج والمصداق لخليفة اللَّه في الأرض، فكلّ مَن يتسنَّم مقام الخلافة الإلهية لابدّ من الانقياد والخضوع والطاعة له.

____________________

(١) النساء: ٨٣.

(٢) المائدة: ٥٥ - ٥٦.

١٦٣

وحيث إن التوجّه والقربة والزلفى لا تحصل إلّا بالطاعة للَّه وللرسول، كذلك لا تحصل إلّا بطاعة أولي الأمر مقترنة مع طاعة اللَّه ورسوله، فلا يمكن قصد القربة في العبادة ولا يحصل القرب إلى اللَّه تعالى في العبادات إلّا بالخضوع والطاعة لوليّ الأمر والإتيان بالعبادة امتثالاً لأمره، تبعاً لأمر اللَّه والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ حيث يستعلم أمرهما بأمره.

واتّضح من ذلك البيان أيضاً أن جميع العبادات فرائض من اللَّه تعالى وسنّة من نبيّه ومنهاج وهدي من أهل بيته عليهم‌السلام وعلى جميع المستويات الاعتقادية والعبادية.

كذلك تبيّن أن مَن يعبد اللَّه من دون التوجّه بحجّة اللَّه ووليّه بطاعته وامتثال أمره، عمله هباء؛ إذ لا تتحقّق منه القربة لعدم الطاعة في مقاماتها الثلاثة وعدم ضمّ الشهادات الثلاث إلى بعضها البعض، فلا يُصار إلى التوجّه إلى اللَّه تعالى إلّا عن طريق آياته وبيّناته، وهم الوسيلة إليه في المقامات الثلاثة التي ذكرناها في صدر البحث، بل في الدين كلّه.

ولو كان إقحام اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وذكره والتوجّه القلبي إليه وإلى أولي الأمر موجباً للشرك، لَمَا قرن اللَّه تعالى طاعته بطاعتهم، فليس إنكار التوسّل والواسطة إلّا دعوة إلى التفريق بين اللَّه ورسوله وأولي الأمر، وفصل الشهادات الثلاث وبتر بعضها عن البعض الآخر، وهذه هي عبادة الشرك التي آمن بها إبليس؛ الذي أراد أن يفرّق بين طاعة اللَّه وطاعة خليفته، بخلاف الملائكة أهل عبادة التوحيد الذين خضعوا للَّه ولوليّه آدم عليه‌السلام .

ثم إن مورد هذه الآية وهي آية ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ

١٦٤

مِنْكُمْ ) (١) التي حكمت بوجوب الطاعة، هو الدين كلّه، فكما أن طاعة اللَّه عزّ وجل في الدين كلّه، كذلك ما اقترن بها من طاعة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأولي الأمر من أهل بيته عليهم‌السلام .

وما ورد من قوله تعالى: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) لبيان أن محلّ بدن الخليفة هو الأرض، ولكن خلافته ليست خاصّة بالأرض، ومن ثمّ أُطوع له جميع الملائكة في جميع النشآت؛ والشاهد على ذلك أيضاً تقديم الجار والمجرور (في الأرض) على الخليفة، فالدين الذي هو معرفة اللَّه تعالى عامّ لا يستثنى منه أحد في جميع النشآت، ومن ثمّ تكون جميع المخلوفات مكلّفة بالطاعة لأولي الأمر؛ ولذا أمر اللَّه تعالى الملائكة بالسجود بما فيهم إبليس، وهو من الجنّ، فخلافة وطاعة أولي الأمر وولايتهم لا تحدّ بالجنّ والإنس ولا بأمر سياسي أو اجتماعي، والكلّ يبتغي إلى اللَّه الوسيلة ويخضع لولي اللَّه في توجّهه إلى خالقه، والتوجّه إلى اللَّه من دون التوجّه إليه بطاعة نبيّه ووليّه نجس وشرك ووثنيّة قرشية.

ونيّة القربة إذا لم تكن على هذا المنوال في العبادة لا تقبل؛ لعدم تفتّح الأبواب بالآيات.

وبذلك كلّه يتمّ ما ذكرناه من شرطية التوسّل والتوجّه في المقامات الثلاثة المتقدّمة، استناداً إلى وجوب الطاعة في مراتبها الثلاث.

____________________

(١) النساء: ٥٩.

١٦٥

الدليل الرابع: اقتران اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته بأعظم العبادات

لقد رفع اللَّه عزّ وجل ذكر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وقرنه باسمه في مجمل العبادات التي تقع في مصافّ أسس الدين وأركان الإيمان؛ من حيث محوريَّتها في المنظومة الدينية، ونشير فيما يلي إلى بعض تلك الشواهد في هذا المجال:

الشاهد الأول: الإتيان باسم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في تشهّد الصلاة، حيث إن الصلاة على النبي وأهل بيته راجحة بإجماع المسلمين (١) ، وهي شرط واجب في الصلاة عند بعض المذاهب الإسلامية، كمذهب أهل البيت عليهم‌السلام (٢) وبعض فقهاء المذاهب الأخرى (٣) ؛ تمسّكاً بما روته عائشة من الوجوب، حيث روت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: (لا يقبل اللَّه صلاة إلّا بطهور والصلاة عليّ) (٤) . وقد بيّن النبي الأكرم الصلاة عليه عندما سُئل عن كيفيّتها، فقال: (قولوا: اللّهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد) (٥) ، كذلك يستحبّ الصلاة على النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله بعد القنوت في الصلاة، جزم بذلك النووي تبعاً للغزالي في المُهذّب ونسبه إلى الجمهور (٦) . ولا شك أن ذكر الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام نوع دعاء لهم وتحيّة وسلام، ونوع توجّه لهم بالمحيى والدعاء.

____________________

(١) لاحظ: النووي، المجموع، ج٣، ص٤٦٠ وما بعد.

(٢) الشيخ الطوسي، النهاية، ص٨٩.

(٣) الرافعي، فتح العزيز، ج٣، ص٥٠٤، والنووي، المجموع، ج٣، ص٤٦٧ وغيرهم.

(٤) سنن الدارقطني، ج١، ص٣٤٨.

(٥) صحيح البخاري، ج٤، ص١١٨، والوسائل، أبواب الدعاء، ب ٣٦.

(٦) المجموع، ج٣، ص٤٩٩.

١٦٦

وهذا يعني أن المصلّي في صلاته - التي هي الركن الركين في العبادات، والموجبة للعروج والقربان من اللَّه تعالى، إن قبلت قبل ما سواها وإن رُدّت رُدّ ما سواها - على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام يتوجّه بالدعاء وإلقاء التحيّة والسلام لكي تقبل صلاته وتوجب مزيداً من القرب إلى اللَّه تعالى، فالصلاة التي هي من دعائم الدين مقرونة بالوسائط والأبواب الإلهية، لكي تكون صحيحة مقبولة عند اللَّه تعالى، أو موجبة لمزيد القرب منه، وإذا كانت الصلاة كذلك، فكيف بباقي العبادات الأخرى؟!

ولو كان إقحام اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام في الصلاة والتوجّه إليهم بالقلب موجباً للشرك، لَمَا كان الأمر فيها على هذه الحال، فالفرق بين صلاة المشركين وصلاة الموحّدين في أن صلاة المشركين تفتقد لذكر النبيِّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها، بخلاف صلاة المسلمين؛ حيث يقرن فيها اسم النبيِّ الأكرم إلى جانب ذكر اللَّه تعالى.

وقد قُرن وجوب أو استحباب بعض العبادات الأخرى، غير الصلاة، باستحباب الصلاة على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كاستحباب الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا فرغ الحاج من التلبية في الحجّ (١) ، واستحباب الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ذبح الهدي أو الأضحية (٢) ، وقد جعلت الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أحد أركان الخطبة في صلاة الجمعة (٣) .

____________________

(١) الأم، الشافعي، ج٢، ص١٧١.

(٢) المجموع، النووي، ج٨، ص٤١٢.

(٣) روضة الطالبين، النووي، ج١، ص٥٣٠.

١٦٧

كذلك من أركان صلاة الميّت الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله عليهم‌السلام (١) ، ويستحبّ أيضاً الصلاة على النبي وآله قبل الأذان والإقامة وبعدهما، كما نصّ على ذلك عبد العزيز الهندي - نقلاً عن النووي في شرح الوسيط - في كتابه الفقهي فتح المعين (٢) ، إلى غير ذلك من الموارد التي لا تحصى في الفقه، والتي قرنت فيها جملة وافرة من العبادات باسم النبي المبارك صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الطاهرين، وليس ذلك إلّا توجّه وتوسّل بهم عليهم‌السلام لقبول العبادة وحصول القرب من اللَّه تعالى، ولفتح أبواب السماء لصعود العمل. وهذا ما ورد النصّ عليه في روايات عديدة ومتضافرة من طرقنا وطرق السُّنَّة، حيث نصّت على أن الدعاء محجوب عن السماء ما لم يصلَّ على النبي وآله:

منها: ما ورد عن الإمام علي عليه‌السلام قال: (الدعاء محجوب عن السماء حتى يُتبع بالصلاة على محمّد وآله) (٣) .

ومنها: ما ورد عن أبي ذرّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (لا يزال الدعاء محجوباً حتَّى يصلَّى عليَّ وعلى أهل بيتي) (٤) .

ومنها: ما جاء عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام قال: (قال رسول

____________________

(١) نفس المصدر، ص٦٤٠.

(٢) فتح المعين، ج١، ص٢٨٠.

(٣) لسان‏ الميزان، ابن حجر، ج٤، ص٥٣، وابن ‏إسحاق الحاكم، شعار أصحاب ‏الحديث، ص٦٤.

(٤) الخزاز القمي، كفاية الأثر، ص٣٨.

١٦٨

اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : صلاتكم عليّ إجابة لدعائكم وزكاة لأعمالكم) (١) .

ومنها: ما ورد أيضاً عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، حيث قال: (إن رجلاً أتى رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يارسول اللَّه، إني جعلت ثلث صلاتي لك، فقال له خيراً. فقال له: يارسول اللَّه، إني جعلت نصف صلاتي لك، فقال له: ذاك أفضل. فقال: إني جعلت كلّ صلاتي لك، فقال: إذن يكفيك اللَّه عزَّ وجل ما أهمّك من أمر دنياك وآخرتك، فقال له رجل: أصلحك اللَّه، كيف يجعل صلاته له؟ فقال أبو عبداللَّه عليه‌السلام : لا يسأل اللَّه عزّ وجل إلّا بدأ بالصلاة على محمّد وآله) (٢) .

ومنها: ما رواه فضالة بن عبيد، حيث قال: (سمع رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله رجلاً يدعو في صلاته لم يمجّد اللَّه تعالى ولم يصلِّ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (عجّل هذا)، ثم دعاه فقال له أو لغيره: (إذا صلّى أحدكم فليبدأ بتحميد ربّه عزّ وجل والثناء عليه، ثم يصلّي على النبي، ثم يدعو بعد بما شاء) (٣) .

وعن ابن مسعود قال: (إذا أراد أحدكم أن يسأل فليبدأ بالمدحة والثناء على اللَّه بما هو أهله، ثم ليصلِّ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم ليسأل؛ فإنه أجدر أن ينجح) (٤) . قال الهيثمي في زوائده: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (٥) .

ومنها: ما عن جابر بن عبداللَّه قال: قال رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لا تجعلوني كقدح الراكب، فإن الراكب إذا أراد أن ينطلق، علّق معالقه، وملأ قدح ماء. فإن كانت له

____________________

(١) الأمالي، الطوسي، ص٢١٥.

(٢) الكافي، ج٢، ص٤٩٣.

(٣) سنن أبي داود، ج١، ص٣٣٣، ح١٤٨١.

(٤) الطبراني، المعجم الكبير، ج٩، ص١٥٦.

(٥) مجمع الزوائد، ج١٠، ص١٥٥.

١٦٩

حاجة في أن يتوضّأ توضّأ، وأن يشرب شرب، وإلاّ أهراق، فاجعلوني في وسط الدعاء وفي أوّله وفي آخره) (١) .

ومنها: ما أخرجه القاضي عياض عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (كلّ دعاء محجوب دون السماء، فإذا جاءت الصلاة عليّ صعد الدعاء) (٢) .

ومن الروايات التي من طرقنا أيضاً ما في موثقة السكوني عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام قال: (مَن دعا ولم يذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رفرف الدعاء على رأسه، فإذا ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع الدعاء) (٣) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال: (إذا كانت لك إلى اللَّه حاجة، فابدأ بمسألة الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم سل حاجتك، فإن اللَّه أكرم من أن يُسأل حاجتين فيقضي إحداهما ويمنع الأخرى) (٤) .

كذلك عن أبي عبداللَّه عليه‌السلام قال: (إذا دعا أحدكم فليبدأ بالصلاة على النبي، فإن الصلاة على النبي مقبولة، ولم يكن اللَّه ليقبل بعض الدعاء ويردّ بعض) (٥) .

وعن الإمام الحسن بن علي العسكري عن آبائه عليهم‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (إن اللَّه سبحانه يقول: عبادي، مَن كانت له إليكم حاجة، فسألكم بمَن تحبّون أجبتم

____________________

(١) الصنعاني، المصنف، ج٢، ص٢١٦.

(٢) الشفا بتعريف حقوق المصطفى، ج٢، ص٦٦.

وقال ابن عطاء: للدعاء أركان وأجنحة وأسباب... وأسبابه الصلاة على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله .

(٣) وسائل الشيعة، ج٧، ص٩٤ - ٩٣، ح٨٨٢٩.

(٤) المصدر، ص٩٧، ح٨٨٤٠.

(٥) المصدر، ص٩٦، ح٨٨٣٦.

١٧٠

دعاءه، ألا فاعلموا أن أحبّ عبادي إليّ وأكرمهم لديّ محمّد وعليّ حبيبيَّ وولييَّ، فمَن كانت له حاجة إليّ فليتوسل إليّ بهما، فإني لا أردّ سؤال سائل يسألني بهما وبالطيبين من عترتهما، فمَن سألني بهم فإني لا أردّ دعاءه؛ وكيف أردّ دعاء مَن سألني بحبيبي وصفوتي وولييّ وحجّتي وروحي ونوري وآيتي وبابي ورحمتي ووجهي ونعمتي؟ ألا وإني خلقتهم من نور عظَمتي، وجعلتهم أهل كرامتي وولايتي، فمَن سألني بهم عارفاً بحقّهم ومقامهم أوجبت له منّي الإجابة، وكان ذلك حقّاً عليّ) (١) .

وهذه الروايات بمجموعها والأحكام التي سبقت للصلاة على النبي وآله في الصلاة وغيرها من العبادة كاشفة عن اقتران اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الطاهرين بأعظم العبادات، بل معظمها، وهذا يعني أن اللَّه عزَّ وجل جعل تلك الأسماء المباركة واسطة لفيضه وشرطاً حقيقياً للتوسل إليه في التوبة وسائر العبادات القربية والمقامات الإلهية، وأن أبواب السماء مغلقة إلّا عن سبيلهم عليهم‌السلام وطريقهم، الذي نصبه اللَّه تعالى مناراً لعباده ومحجّة واضحة لخلقه.

هذا كلّه في الشاهد الأوّل؛ وهو اقتران الصلاة على النبي وأهل بيته بالصلاة وغيرها من العبادات.

الشاهد الثاني ، وهو كذلك اقتران اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المبارك بالصلاة، وذلك بالإتيان به في جزء التسليم من الصلاة، وهو قول المصلّي: السلام عليك أيها النبيُّ ورحمة اللَّه وبركاته. فإن التسليم الذي هو جزء من أجزاء الصلاة ولا تتمّ الصلاة إلّا بإتمامه والفراغ منه، جُعل شطر منه التسليم على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله .

____________________

(١) وسائل الشيعة، ص١٠٢، ح٨٨٥٠.

١٧١

فقبل إتمام الصلاة وفي حاقّها يستحبّ للمصلّي أن يسلّم على نبيّ الإسلام باتفاق فرق المسلمين.

ولا شك أن هذا التسليم بالكيفية المذكورة نوع زيارة للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وخطاب ونداء عن قرب بـ (أيُّها) وتوسّل واستغاثة وتوجّه إليه وبه إلى اللَّه عزّ وجل؛ وذلك لأن اللَّه تعالى عندما شرّع التسليم والتحيّة للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في الصلاة، التي شُرّعت لذكره عزّ وجل والتقرّب منه والعروج إليه، فإن ذلك يعني أن ذكر النبي ذكر للَّه تعالى، ونداءه نداء للباري عزّ وجل؛ وليس ذلك إلّا لكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الآية العظمى والوسيلة المحمودة بين اللَّه وبين خلقه في الصلاة، التي هي من عظيم العبادات والقربات عند اللَّه تعالى.

إذن؛ طبيعة الزيارة والنداء والندبة والاستغاثة والتوجّه بالنبي لنيل مقامات القرب في الصلاة، التي هي قربان كلّ تقي، موجودة في نفس الصلاة التي هي أكبر العبادات التوحيدية ويمارسها الفرد المسلم في يومه عدّة مرّات.

والحاصل: إذا كانت الصلاة التي هي من دعائم الدين مقرونة بذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لنيل مقامات القرب عند اللَّه تعالى، فكيف هو الحال بباقي العبادات والقربات الأخرى في الدين؟!

وعلى هذا كيف يقال: إن ذكر غير اللَّه تعالى في التوجّه إليه عزّ وجل شرك؟!

وهل هذا إلّا طمس لمعالم الشهادة الثانية؟

الشاهد الثالث: اقتران اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله باسم اللَّه عزّ وجل في الأذان، الذي هو عبادة من العبادات، ويُعدّ بوابة للصلاة التي إن قبلت قبل ما سواها وإن ردّت ردّ ما سواها، كذلك في الإقامة؛ حيث إن الفرد المسلم كما يشهد أن لا إله إلّا اللَّه

١٧٢

كذلك يشهد أن محمّداً رسول اللَّه، وليس ذلك إلّا لكون اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله باب اللَّه الأعظم، وأن الصلاة التي هي الركن الركين في العبادات ومعراج المؤمن إلى ربّه مفتاحُها وباب الولوج إليها اسم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مقروناً باسم اللَّه تعالى.

ولو كان اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وذكره والتوجّه القلبي إليه أثناء العبادة موجباً للشرك، لََمَا أمكن تشريع الأمر على هذا الحال، ولَمَا أمر اللَّه عزّ وجل بالتوجّه إليه بنبيّه.

الشاهد الرابع: الهجرة التي هي من العبادات العظيمة عند اللَّه تعالى، وأكّدت عليها الآيات القرآنية في مواطن عديدة، لا يمكن أن تحصل إلّا بالهجرة إلى اللَّه ورسوله، فلكي تصحَّ عبادة الهجرة لابدّ أن يتوجّه فيها إلى اللَّه وإلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال اللَّه عزّ وجل: ( وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) (١) .

والذي يتحصَّل من هذه الشواهد وغيرها أن اسم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وكذا أهل بيته عليهم‌السلام اقترن باسم اللَّه تعالى في أعظم العبادات كالصلاة والحجّ وغيرهما، هذا فضلاً عمّا دونها من العبادات، وهو اقتران واجب في بعض موارده كما تقدّم في الصلاة، ومعنى ذلك شرطية التوسّل والواسطة في العبادات كما ادّعيناه في بداية البحث.

وقد أحصى بعضهم في هذا المجال جملة من المواطن العبادية التي تقرن باسم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والصلاة عليه وعلى آله.

منها: في التشهّد الأول والثاني في الصلاة، وآخر قنوت الصلاة، وفي صلاة

____________________

(١) النساء: ١٠٠.

١٧٣

الجنائز، وخطبة العيدين والجمعة والاستسقاء، وبعد إجابة المؤذن، وعند الإقامة، وعند الدعاء، وعند دخول المسجد وعند الخروج منه، وعلى الصفا والمروة، وعند الفراغ من التلبية، وعند استلام الحجر، وعند الوقوف على قبره الشريف، وعقيب ختم القرآن الكريم، وعند الهمّ والشدائد وطلب المغفرة، وعند تبليغ العلم، وعقب الذنب إذا أراد أن يكفّر عنه، وبعد الفراغ من الوضوء، وفي كلّ موطن يُجتمع فيه لذكر اللَّه، وعند طلب قضاء الحاجة، وعقيب الصلوات في سائر أجزاء الصلاة غير التشهّد، إلى غير ذلك من المواطن.

وقد ذُكر أيضاً للصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فوائد كثيرة جدّاً، منها:

١ - أنها سبب لغفران الذنوب.

٢ - أنها تُصاعد الدعاء إلى عند رب العالمين.

٣ - أنها سبب لشفاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله .

٤ - أنها سبب كفاية العبد ما أهمّه.

٥ - أنها سبب لقرب العبد منه يوم القيامة.

٦ - أنها سبب لقضاء الحوائج.

٧ - أنها سبب لتبشير العبد قبل موته بالجنّة.

٨ - أنها سبب للنجاة من أهوال يوم القيامة.

٩ - أنها سبب لتذكّر العبد ما نسيه.

١٠ - أنها سبب لطيب المجلس.

١١ - أنها سبب لنفي الفقر.

١٢ - أنها سبب لنفي البخل.

١٧٤

١٣ - أنها ترمي صاحبها على طريق الجنّة وتخطي بتاركها عن طريقها.

١٤ - أنها تُنجي من نتن المجلس.

١٥ - أنها سبب لوفور نور العبد على الصراط.

١٦ - أنه يخرج بها العبد من الجفاء.

١٧ - أنها سبب لإبقاء اللَّه سبحانه الثناء الحسن للمصلّي عليه بين أهل السماء والأرض.

١٨ - أنها سبب للبركة في ذات المصلّي وعمله وعمره وأسباب مصالحه.

١٩ - أنها سبب لنيل رحمة اللَّه له.

٢٠ - أنها سبب لدوام محبته للرسول وزيادتها وتضاعفها.

٢١ - أنها سبب لمحبّته صلى‌الله‌عليه‌وآله للعبد.

٢٢ - أنها سبب لهداية العبد وحياة قلبه.

٢٣ - أنها سبب لعرض اسم المصلّي وذكره عنده.

إلى غير ذلك من الفوائد والثمرات.

الدليل الخامس: ابتغاء الوسيلة ضرورة قرآنية

إن حقيقة هذا الدليل الخامس عبارة عن مزيد إيضاح وتعميق ونظرة أدقّ لِمَا تقدَّم من قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (١) .

وفي المقدّمة لابدّ من التنبيه على أن التدبر في الآية الكريمة يفيد أن الابتغاء

____________________

(١) المائدة: ٣٥.

١٧٥

المأمور به جعل متعلّقاً لكلّ من الوسيلة وذي الوسيلة وهو اللَّه عزّ وجل.

فجعل الابتغاء والقصد والتوجّه إلى كلّ من الوسيلة والذات الإلهية المقدّسة، فكلّ منهما أُمرنا بقصده والتوجّه إليه، إلّا أن القصد والتوجّه إلى الوسيلة ابتداءً هو الذي يؤدّي وينتهي بنا إلى قصد اللَّه تعالى، فالغاية القصوى هو اللَّه عزّ وجل، إلّا أن الذي يُقصد ابتداءً هو الوسيلة بداعي القصد إلى منتهى الغاية والأمل، وهو اللَّه تبارك وتعالى.

بل لعلّ التدبّر الأعمق والنظر الأدقّ في الآية المباركة يكشف عن أن لفظ (وابتغو) أُسند إلى الوسيلة فقط، وأن لفظ (إليه) مرتبط بالوسيلة، لا بـ (ابتغو)، أي أن الوسيلة هي إليه، فالابتغاء متوجّه إلى الوسيلة فقط، وصفة الوسيلة أنها إليه.

وبعبارة أخرى:

إن فعل (وابتغو) عمل في لفظ (الوسيلة) كمفعول به، وأمَّا لفظ (إليه)، فليس متعلّقاً بـ (ابتغو)، وإنما الذي يعمل في الجار والمجرور هو لفظ (الوسيلة)؛ إذ فيها معنى المصدر والحدث، وأنَّ التوسّل والوسيلة هو إلى اللَّه تعالى، فالابتغاء من جهة التركيب الإعرابي يعمل في الوسيلة فقط ويتعلّق بها، والوسيلة تتعلّق بلفظ إليه وتعمل فيه؛ وعليه فيكون الابتغاء والتوجّه والقصد بحسب ظاهر الدلالة متعلّقاً بالوسيلة، فهي التي يتوجّه إليها النداء والرجاء والخطاب، وحيث إن صفتها الذاتية أنها تؤدّي إلى اللَّه تعالى فيكون التوجّه إليها توجّهاً إلى اللَّه عزّ وجل ونداؤها نداءً بها إليه تعالى، وقصدها قصد بها إليه جل ثناؤه، كما في التوجّه إلى الكعبة واستقبالها، فإنه توجّه بها إلى اللَّه تعالى.

١٧٦

ومن ذلك يظهر أن مقتضى مفاد الآية هو أن الإلتجاء وتوجيه الخطاب إنما يكون إلى الوسيلة، كقول الداعي والمتوسل: يامحمّد يانبيّ الرحمة، إني أتوجّه بك إلى اللَّه ربي وربك لقضاء حاجتي. فيوجّه الخطاب والنداء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويكون ذلك منه ابتغاءً للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كوسيلة إلى اللَّه عزّ وجل، وإلّا فإن جعل الخطاب للَّه تعالى فقط من دون التوجّه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الخطاب كوسيلة، لا يكون ابتغاءً وطلباً وتوجهاً إلى الوسيلة، بل ابتغاء مباشري للَّه تعالى من دون ابتغاء الوسيلة.

وعلى كلا البيانين لدلالة الآية الشريفة تكون الآية نصّ في الدلالة على الأمر بالتوجّه والنداء ودعاء الوسيلة وأنه دعاء للَّه تعالى.

ثم إن صيغة الأمر في الآية الكريمة يفيد ضرورة التوسّل بالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ حيث إن هذه الآية المباركة ليست في مقام بيان مشروعية التوسّل فحسب، بل الآية المباركة ترمي إلى بيان حتمية ولا بدِّية التوسّل، وأنه أمر تعيينيّ عينيّ، وذلك لأن المقصود من ابتغوا الوسيلة أي اقصدوها وتوجّهوا إليها في مقام توجّهكم إلى اللَّه عزّ وجل، ومعنى (ابتغوا) أيضاً في الآية المباركة أن هناك بُعداً بين العبد والباري تعالى وأن هناك مسافة لابدّ أن تطوى بابتغاء الوسيلة والحضور عندها، ولو كان هناك قُرباً تلقائياً من طرف العبد إلى ربّه فلا حاجة إلى الوسيلة حينئذٍ للاقتراب من اللَّه تعالى؛ لكونه تحصيلاً للحاصل ولا يكون معنى للوسيلة وابتغائها ولو بنحو التخيير أيضاً.

١٧٧

قرب اللَّه وقرب العبد:

فالأمر بابتغاء الوسيلة وقصدها معناه أن هناك بُعداً بين العبد وبين اللَّه تعالى، وهو بُعد من جهة العبد فقط لا من طرف الباري عزّ وجل؛ لأن اللَّه تعالى قريب أقرب إلى العباد من حبل الوريد، كما قال تعالى ذكره: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِْنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) (١) ، لكن العبد من طرفه يحتاج إلى الوسيلة لبُعده؛ لأن قرب اللَّه تعالى إلى العبد ليس قرباً جسمانياً جغرافياً، لكي يكون هناك تلازم تضايفي بين العبد وربه في القرب والبُعد، وكذا ليس من نوع القرب العقلي أو الروحيّ ليحصل التجانس أو التماثل في القرب؛ وذلك لِمَا تقدّم من كون اللَّه تعالى منزّه عن التضايف والتقابل الجسماني أو العقلي أو الروحي، لأنه تشبيه باطل مناف لعظمة ذات الباري تعالى.

إذن؛ القرب الإلهي تجاه العبد قرب القدرة والسلطنة والهيمنة والإحاطة، فالمقتدر والمهيمن والمحيط كلّما كانت قدرته وهيمنته وإحاطته أشدّ كلّما كان أقرب من المحاط به، وعلى العكس يكون الطرف المقابل الضعيف؛ فهو يزداد ضعفاً كلّما كان طرفه المقابل أشدّ قوة واقتداراً، كذلك كلّما ازداد المهيمن إحاطة ازداد الطرف الآخر مُحاطيّة وبُعداً عن أن يحيط بالمحيط، فالقويّ قريب محيط والضعيف بعيد محاط، ويبعد كلّما ازداد القويّ قوّة وهيمنة؛ لأن الضعيف حينئذٍ بعيد من حيث افتقاده للصفات والكمالات اللّامتناهية شدّة وعدّة، التي للقويّ المحيط.

والحاصل: إن هناك نمطاً من التعاكس في القرب والبُعد، فطرف يكون قريباً

____________________

(١) ق: ١٦.

١٧٨

والآخر بعيداً، كلّما ازداد الباري قرباً وإحاطة من حيث الصفات كلّما ازداد المخلوق بعداً من طرفه بالنسبة إلى اللَّه تعالى، وذلك من حيث التعاكس في الصفات.

ومن ثمّ لابدّ من ابتغاء الوسيلة التي هي أشدّ كمالاً وأقرب إلى الباري تعالى، لكي يطوي المخلوق شيئاً من ذلك البُعد وينال درجة من درجات القرب برقيّه في مدارج الكمال عن طريق الواسطة والوسيلة.

والوسيلة هي الأقرب إلى اللَّه تعالى من حيث الكمالات؛ إذ كلّما تكامل المخلوق في الصفات ازداد قربه من الحضرة الربوبية، وكلّما عظم المخلوق صفة وكمالاً كلّما كان أقرب من الخالق لازدياد علمه ومعرفته بصفاته تعالى، والعلم درجة من درجات القرب والوصول، إذ طالما تجلت في المخلوق صفات الخالق أكثر عرف ذلك المخلوق بتلك الكمالات والصفات، صفات الخالق عزّ وجل، ولذا يكون أكمل المخلوقات أعرفهم بربّه وأقربهم منه وأكثر دلالة عليه وأشدّهم آية وعلامة ترشد إليه وتقرّب منه؛ لأن ما يتجلى فيه من بديع الكمالات آيات لكمال الباري عزّ وجل، على العكس من ذلك ما لو قلّت في المخلوق الكمالات، فإنه تقلّ فيه الآيات الدالّة على عظمة اللَّه تعالى وتقلُّ بالطبع معرفته.

ومن هنا كان المخلوق الذي يتّسم بالضعف والفقر والحاجة والبعد عن اللَّه تعالى بحاجة إلى الوسيلة، التي هي أقرب صفة وكمالاً من اللَّه عزّ وجل، كي تكون سبباً يقرّبه إلى ربّه.

فالوسيلة والوسائط هي أعاظم المخلوقات، وهي آيات اللَّه وأسمائه

١٧٩

وعلاماته الدالّة عليه، والتي يستدلّ الخلق بعظمتها على عظمة الباري، فتزداد المعرفة ويحصل القرب بنيل الكمالات.

ولا شك أن الخطاب الوارد في الآية المباركة - الكاشف عن ضرورة الوسيلة بالبيان المتقدم - عامّ وشامل للتوبة ومطلق العبادات وللمعرفة والإيمان أو التوجّه إلى الحضرة الإلهية لنيل مقام أو حظوة عند اللَّه تعالى.

الوسيلة معنى الشفاعة:

فللعلاقة بين العبد وربّه ولقطع مسافة البُعد لابدّ من الوسيلة، سواء في المعرفة والإيمان أو في قبول التوبة أو العبادات أو نيل المقامات، وقد أُطلق عن مثل هذا المقام في لسان الشارع بالشفاعة؛ لأن الشفع في الأصل بمعنى الزوج والاقتران، وهو في المقام اقتران الذات الربوبية بالآيات والأسماء الإلهية.

ثم إنه سبق أن الآيات العظمى والكلمات التامّات هم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، وقد وصف اللَّه تعالى رسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله بالعظمة، وذلك في قوله تعالى: ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (١) ، فهم عليهم‌السلام الأسماء الحسنى التي أمر اللَّه أن يُدعى بها وتاب بها على آدم وامتحن بها إبراهيم عليه‌السلام لنيل مقام الخلافة والإمامة، وهذا البيان الذي ذكرناه؛ من ضرورة الواسطة والوسيلة لعظمة اللَّه تعالى، هدى إليه أمير المؤمنين عليه‌السلام عند بيانه لقوله تعالى: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ

____________________

(١) القلم: ٤.

١٨٠

حصوله غير معلوم لا أصل تحقّقه(١) !

إلّا أنّ جماعة من المفسّرين قالوا إنّ المراد من «ريب المنون» في الآية محلّ البحث هو حوادث الدهر ، حتّى أنّه نقل عن ابن عبّاس أنّه قال حيث ما وردت كلمة «ريب» في القرآن فهي بمعنى الشكّ والتردّد ، إلّا في هذه الآية من سورة الطور فمعناها الحوادث(٢) .

وقال جماعة منهم أنّ المراد منه هو حالة الاضطراب ، فيكون معنى «ريب المنون» على هذا القول هو حالة الاضطراب التي تنتاب أغلب الأفراد قبل الموت!

ويمكن أن يعود هذا التّفسير (الأخير) على المعنى السابق ، لأنّ حالة الشكّ والتردّد أساس الاضطراب ، وكذلك الحوادث التي لم ينبّأ بها من قبل ، فهي تقترن بنوع من الاضطراب والشكّ والتردّد ، وهكذا فإنّ جميع هذه المفاهيم تنتهي إلى أصل «الشكّ والتردّد».

وبتعبير آخر ، فإنّ للريب ثلاثة معان مذكورة : الشكّ ، والاضطراب ، والحوادث ، وهذه جميعا من باب اللازم والملزوم!.

وعلى كلّ حال ، فأولئك كانوا يطمئنون أنفسهم ويرضون خاطرهم بأنّ حوادث الزمان كفيلة بالقضاء على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكانوا يتصوّرون أنّهم سيتخلّصون من هذه المشكلة العظمى التي أحدثتها دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سائر المجتمع لذلك فإنّ القرآن يردّ عليهم بجملة موجزة مقتضبة ذات معنى غزير ويهدّد هؤلاء ـ عمي القلوب ـ مخاطبا نبيّه فيقول :( قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ) .

فأنتم تنتظرون تحقّق تصوّراتكم الساذجة التافهة!! وأنا أنتظر أن يصيبكم عذاب الله!.

__________________

(١) راجع المفردات للراغب.

(٢) القرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٢٤٢.

١٨١

وعليكم أن تنتظروا أن ينطوي بموتى بساط الإسلام!! وأنا بعون الله أنتظر أن أجعل الإسلام يستوعب العالم كلّه في حياتي وأن يبقى بعد حياتي أيضا مواصلا طريقه دائما!

أجل إنّما تعوّلون على تصوراتكم وخيالاتكم ، وأنا أعتمد على لطف الله الخاصّ سبحانه.

ثمّ يوبّخهم القرآن توبيخا شديدا فيقول في شأنهم :( أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ ) (١) .

كان سراة قريش يعرفون بين قومهم بعنوان «ذوي الأحلام» ، أي أصحاب العقول ، فالقرآن يقول : أي عقل هذا الذي يدّعي بأنّ وحي السماء ـ الذي تكمن فيه دلائل الحقّ والصدق ـ شعر أو كهانة؟! وأن يزعم بأنّ حامله «النبي» الذي عرف بالصدق والأمانة منذ عهد بعيد ، بأنّه شاعر أو مجنون!؟

فبناء على ذلك ينبغي أن يستنتج أنّ هذه التّهم والافتراءات ليست ممّا تقول به عقولهم وتأمرهم به ، بل أساسها طغيانهم وتعصّبهم وروح العصيان والتمرّد فما أن وجدوا منافعهم غير المشروعة في خطر حتّى ودّعوا العقل!! ولوّوا رؤوسهم نحو الطغيان عنادا عن اتّباع الحقّ!.

«الأحلام» جمع حلم ومعناه العقل ، ولكن كما يقول الراغب في مفرداته أنّ الحلم في الحقيقة بمعنى ضبط النفس والتجلّد عند الغضب ، وهو واحد من دلائل العقل والدراية ، ويشترك مع الحلم على زنة العلم ـ في الجذر اللغوي!.

وكلمة «الحلم» قد تأتي بمعنى الرؤيا والمنام ولا يبعد مثل هذا التّفسير في

__________________

(١) هناك احتمالات وأقوال بين المفسّرين في معنى «أم» هنا أهي استفهامية أم منقطعة وبمعنى بل كلّ له رأيه فيها وإن كان الرأي الثاني أكثر ترجيحا عندهم ، إلّا أنّ سياق الآيات يتناسب والمعنى الأوّل غير أنّه ينبغي أن يعرف بأنّ أم في مثل هذه المواطن ينبغي أن تكون مسبوقة بهمزة الاستفهام ولذلك فإنّ الفخر الرازي قدر لها ما يلي : «أأنزل عليهم ذكر أم تأمرهم أحلامهم بهذا» وهو يشير إلى أنّ الإسلام ينبغي أن يتّبع دليل أو النقل أو العقل!.

١٨٢

الآية محلّ البحث فكأنّ كلماتهم ناتجة عن أحلامهم الباطلة!!

ومرّة اخرى يشير القرآن إلى اتّهام آخر ـ من اتّهاماتهم ـ الذي يعدّ الرابع في سلسلة اتّهاماتهم فيقول :( أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ ) .

«تقوّله» : مشتقّ من مادّة تقوّل ـ على وزن تكلّف ـ ومعناه الكلام الذي يفتعله الإنسان بينه وبين نفسه دون أن يكون له واقع(١) .

وهذه ذريعة اخرى من ذرائع المشركين والكفّار المعاندين لئلّا يستسلموا أمام القرآن المجيد ودعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد تكرّرت الإشارة إليها مرارا عديدة في آيات القرآن!.

غير أنّ القرآن يردّ عليهم ردّا يدحرهم ويتحدّاهم متهكما فيقول :( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ ) .

فأنتم أناس مثله ولديكم العقل والقدرة على البيان والاطلاع والخبرة على أنواع الكلام فلم لا يأتي مفكّروكم وخطباؤكم وفصحاءكم بمثل هذا الكلام!.

وجملة «فليأتوا» أمر تعجيزي ، والهدف منه بيان عجزهم وعدم قدرتهم على مجاراة القرآن.

وهذا ما يعبّر عنه في علم الكلام والعقائد بالتحدّي أي دعوة المخالفين إلى المعارضة والإتيان بالمثل «في مواجهة المعجزات!».

وعلى كلّ حال ، فهذه آية من الآيات التي تبيّن إعجاز القرآن بجلاء ، ولا يختصّ مفهومها بمن عاصروا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل يشمل جميع الذين يزعمون ـ بأنّ القرآن كلام بشر ، وأنّه مفترى على الله ـ على امتداد القرون والأعصار ، فهم مخاطبون بهذه الآية أيضا أي هاتوا حديثا مثله إن كنتم تزعمون بأنّه ليس من الله وأنّه كلام بشر.

__________________

(١) يقول صاحب مجمع البيان : التقوّل : تكلّف ولا يقال ذلك إلّا في الكذب.

١٨٣

وكما نعلم بأنّ نداء القرآن في هذه الآية والآيات المشابهة كان عاليا أبدا ، ولم يستطع أي إنسان خلال أربعة عشر قرنا ـ منذ بعثة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى يومنا هذا ـ أن يرد بجواب إيجابي.

ومن المعلوم أنّ أعداء الإسلام وخاصّة أصحاب الكنيسة واليهود ينفقون ما لا يحصى من الأموال الطائلة للتبليغ ضدّ الإسلام ، فما كان يمنعهم أن يدعوا قسما منها تحت تصرّف أصحاب الفكر والقلم المخالفين لينهضوا بوجه معارضة القرآن ويكونوا مصداقا لقوله تعالى :( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ) وهذا العجز «العمومي» شاهد حي على أصالة هذا الوحي السماوي!

يقول بعض المفسّرين في هذا الصدد شيئا جديرا بالملاحظة فلا بأس بالالتفات والإصغاء إليه

«إنّ في هذا القرآن سرّا خاصا يشعر به كلّ من يواجه نصوصه ابتداء قبل أن يبحث عن مواضع الإعجاز فيها إنّه يشعر بسلطان خاصّ في عبارات هذا القرآن يشعر أنّ هنالك شيئا ما وراء المعاني التي يدركها العقل من التعبير وأنّ هنالك عنصرا ما ينسكب في الحسّ بمجرّد الاستماع لهذا القرآن ، يدركه بعض الناس واضحا ويدركه بعض الناس غامضا ، ولكنّه على كلّ حال موجود هذا العنصر الذي ينسكب في الحسّ ، يصعب تحديد مصدره ، أهو العبارة ذاتها؟! أهو المعنى الكامن فيها ، أهو الصور والضلال التي تشعّها؟ أهو الإيقاع القرآني الخاصّ المتميّز من إيقاع سائر القول المصوغ من اللغة؟. أهي هذه العناصر كلّها مجتمعة؟. أم أنّها هي وشيء آخر وراءها غير محدود!

ذلك سرّ مستودع في كلّ نصّ قرآني ، يشعر به كلّ من يواجه نصوص هذا القرآن ابتداء ثمّ تأتي وراءه الأسرار المدركة بالتدبير والنظر والتفكير في بناء

١٨٤

القرآن كلّه»(١) .

ولمزيد الإيضاح حول إعجاز القرآن من أبوابه المختلفة يراجع ذيل الآية (٢٣) من سورة البقرة إذ ذكرنا هناك بحثا مفصّلا في هذا الصدد وكذلك ذيل الآية (٨٨) من سورة الإسراء.

* * *

__________________

(١) في ظلال القرآن ، ج ٧ ، ص ٦٠٥.

١٨٥

الآيات

( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣) )

التّفسير

ما هو كلامكم الحقّ؟

هذه الآيات تواصل البحث الاستدلالي السابق ـ كذلك ـ وهي تناقش المنكرين للقرآن ونبوّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقدرة الله سبحانه.

وهي آيات تبدأ جميعها بـ «أم» التي تفيد الاستفهام وتشكّل سلسلة من

١٨٦

الاستدلال في أحد عشر سؤالا متتابعا (بصورة الاستفهام الإنكاري) ، وبتعبير أجلى : إنّ هذه الآيات تسدّ جميع الطرق بوجه المخالفين فلا تدع لهم مهربا في عبارات موجزة ومؤثّرة جدّا بحيث ينحني الإنسان لها من دون إختياره إعظاما ويعترف ويقرّ بانسجامها وعظمتها. فأوّل ما تبدأ به هو موضوع الخلق فتقول :( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ ) (١) .

وهذه العبارة الموجزة والمقتضبة في الحقيقة هي إشارة إلى «برهان العليّة» المعروف الوارد في الفلسفة وعلم الكلام لإثبات وجود الله ، وهو أنّ العالم الذي نعيش فيه ممّا لا شكّ ـ فيه ـ حادث (لأنّه في تغيير دائم ، وكلّ ما هو متغيّر فهو في معرض الحوادث ، وكلّ ما هو في معرض الحوادث محال أن يكون قديما وأزليّا).

والآن ينقدح هذا السؤال ، وهو إذا كان العالم حادثا فلا يخرج عن الحالات الخمس التالية :

١ ـ وجد من دون علّة!

٢ ـ هو نفسه علّة لنفسه.

٣ ـ معلولات العالم علّة لوجوده.

٤ ـ إنّ هذا العالم معلول لعلّة اخرى وهي معلولة لعلّة اخرى إلى ما لا نهاية.

٥ ـ إنّ هذا العالم مخلوق لواجب الوجود الذي يكون وجوده ذاتيا له.

وبطلان الاحتمالات الأربع المتقدّمة واضح ، لأنّ وجود المعلول من دون علّة محال ، وإلّا فينبغي أن يكون كلّ شيء موجودا في أي ظرف كان ، والأمر ليس كذلك!

والاحتمال الثاني وهو أن يوجد الشيء من نفسه محال أيضا ، لأنّ مفهومه أن

__________________

(١) هناك تفسيرات أخر واحتمالات متعدّدة في وجوه هذه الآية ، منها أنّ مفادها : هل خلقوا بلا هدف ولم يك عليهم أيّة مسئولية؟! وبالرغم أنّ جماعة من المفسّرين اختاروا هذا الوجه إلّا أنّه مع الالتفات لبقيّة الآية :( أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) يتّضح أنّ المراد هو ما ذكر في المتن ، أي خلقوا من دون علّة. أم هم علّة أنفسهم؟!.

١٨٧

يكون موجودا قبل وجوده ، ويلزم منه اجتماع النقيضين [فلاحظوا بدقّة].

وكذلك الاحتمال الثالث وهو أنّ مخلوقات الإنسان خلقته ، وهو واضح البطلان إذ يلزم منه الدور!.

وكذلك الاحتمال الرابع وهو تسلسل العلل وترتّب العلل والمعلول إلى ما لا نهاية أيضا محال ، لأنّ سلسلة المعلولات اللّامحدودة مخلوقة ، والمخلوق مخلوق ويحتاج إلى خالق أوجده ، ترى هل تتحوّل الأصفار التي لا نهاية لها إلى عدد؟! أو ينفلق النور من ما لا نهاية الظلمة؟! وهل يولد الغنى من ما لا نهاية له في الفقر والفاقة؟

فبناء على ذلك لا طريق إلّا القبول بالاحتمال الخامس ، أي خالقية واجب الوجود [فلاحظوا بدقّة أيضا].

وحيث أنّ الركن الأصلي لهذا البرهان هو نفي الاحتمال الأوّل والثاني فإنّ القرآن اقتنع به فحسب.

والآن ندرك جيّدا وجه الاستدلال في هذه العبارات الموجزة!

الآية التالية تثير سؤالا آخر على الادّعاء في المرحلة الأدنى من المرحلة السابقة فتقول :( أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) .

فإذا لم يوجدوا من دون علّة ولم يكونوا علّة أنفسهم أيضا ، فهل هم واجبو الوجود فخلقوا السماوات والأرض؟! وإذا لم يكونوا قد خلقوا الوجود ، فهل أو كل الله إليهم أمر خلق السماء والأرض؟ فعلى هذا هم مخلوقون وبيدهم أمر الخلق أيضا!!.

من الواضح أنّهم لا يستطيعون أن يدّعوا هذا الادّعاء الباطل ، لذلك فإنّ الآية تختتم بالقول :( بَلْ لا يُوقِنُونَ ) !

أجل ، فهم يتذرّعون بالحجج الواهية فرارا من الإيمان!

ثمّ يتساءل القرآن قائلا : فإذا لم يدّعوا هذه الأمور ولم يكن لهم نصيب في

١٨٨

الخلق ، فهل عندهم خزائن الله( أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ ) (١) ليهبوا من شاؤوا نعمة النبوّة والعلم أو الأرزاق الآخر ويمنعوا من شاؤوا ذلك :( أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ ) على جميع العوالم وفي أيديهم امور الخلائق؟!

انّهم لا يستطيعون ـ أن يدّعوا أبدا أنّ عندهم خزائن الله تعالى ، ولا يملكون تسلّطا على تدبير العالم ، لأنّ ضعفهم وعجزهم إزاء أقل مرض بل حتّى على بعوضة تافهة وكذلك احتياجهم إلى الوسائل الابتدائية للحياة خير دليل على عدم قدرتهم وفقدان هيمنتهم! وإنّما يجرّهم إلى إنكار الحقائق هوى النفس والعناد وحبّ الجاه والتعصّب والأنانية!.

وكلمة : «مصيطرون» إشارة إلى أرباب الأنواع التي هي من خرافات القدماء ، إذ كانوا يعتقدون أنّ كلّ نوع من أنواع العالم إنسانا كان أمّ حيوانا آخر أم جمادا أم نباتا له مدبّر وربّ خاصّ يدعى بربّ النوع ويدعون الله «ربّ الأرباب» وهذه العقيدة تعدّ في نظر الإسلام «شركا» والقرآن في آياته يصرّح بأنّ التدبير لجميع الأشياء هو لله وحده ويصفه بربّ العالمين.

وأصل هذه الكلمة من «سطر» ومعناه صفّ الكلمات عند الكتابة ، و «المسيطر» كلمة تطلق على من له تسلّط على شيء ما ويقوم بتوجيهه ، كما أنّ الكاتب يكون مسيطرا على كلماته (وينبغي الالتفات إلى أنّ هذه الكلمة تكتب بالسين وبالصاد على السواء ـ مسيطر ومصيطر ـ فهما بمعنى واحد وإن كان الرسم القرآن المشهور بالصاد «مصيطر»).

ومن المعلوم أنّه لا منكرو النبوّة ولا المشركون في العصر الجاهلي ولا سواهما يدّعي أيّا من الأمور الخمسة التي ذكرها القرآن ، ولذلك فإنّه يشير إلى موضوع آخر في الآية التالية فيقول : إنّ هؤلاء هل يدعون أنّ الوحي ينزل عليهم

__________________

(١) الخزائن جمع الخزينة ومعناها مكان كلّ شيء محفوظ لا تصل إليه اليد ويدّخر فيه ما يريد الإنسان يقول القرآن في هذا الصدد( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [الحجر الآية ٢١].

١٨٩

أو يدعون أنّ لهم سلّما يرتقون عليه إلى السماء فيستمعون إلى أسرار الوحي :( أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ ) .

وحيث إنّه كان من الممكن أن يدّعوا بأنّهم على معرفة بأسرار السماء فإنّ القرآن يطالبهم مباشرة بعد هذا الكلام بالدليل فيقول :( فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) .

ومن الواضح أنّه لو كانوا يدّعون مثل هذا الادّعاء فإنّه لا يتجاوز حدود الكلام فحسب ، إذ لم يكن لهم دليل على ذلك أبدا(١) .

ثمّ يضيف القرآن قائلا : هل صحيح ما يزعمون أنّ الملائكة إناث وهم بنات الله؟!( أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ) ؟!

وفي هذه الآية إشارة إلى واحد من اعتقاداتهم الباطلة ، وهو استياؤهم من البنات بشدّة ، وإذا علموا أنّهم رزقوا من أزواجهم «بنتا» اسودّت وجوههم من الحياء والخجل! ومع هذا فإنّهم كانوا يزعمون أنّ الملائكة بنات الله ، فإذا كانوا مرتبطين بالملإ الأعلى ويعرفون أسرار الوحي ، فهل لديهم سوى هذه الخرافات المضحكة وهذه العقائد المخجلة؟!

وبديهي أنّ الذكر والأنثى لا يختلفان في نظر القيمة الإنسانية والتعبير في الآية المتقدّمة هو في الحقيقة من قبيل الاستدلال بعقيدتهم الباطلة ومحاججتهم بها.

والقرآن يعوّل ـ في آيات متعدّدة ـ على نفي هذه العقيدة الباطلة ويحاكمهم في هذا المجال ويفضحهم(٢) !!

__________________

(١) سلّم يعني «المصعد» كما يأتي بمعنى أيّة وسيلة كانت وقد اختلف المفسّرون في المراد من الآية فأيّ شيء كانوا يدعونه؟! فقال بعضهم : ادّعوا الوحي وقال آخرون هو ما كانوا يدّعونه في النّبي بأنّه شاعر أو مجنون أو ما كانوا يدّعون من الأنداد والشركاء لله وفسّر بعضهم ذلك بنفي نبوّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ولا مانع من الجمع بين هذه المعاني وإن كان المعنى الأوّل أجلى».

(٢) كانت لنا بحوث مفصّلة في سبب جعل العرب الملائكة بنات الله في الوقت الذي كانوا يستاءون من البنات. وذكرنا

١٩٠

ثمّ يتنازل القرآن إلى مرحلة اخرى ، فيذكر واحدا من الأمور التي يمكن أن تكون ذريعة لرفضهم فيقول :( أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ) .

«المغرم» ـ على وزن مغنم وهو ضدّ معناه ـ أي ما يصيب الإنسان من خسارة أو ضرر دون جهة ، أمّا الغريم فيطلق على الدائن والمدين أيضا.

و «المثّقل» مشتقّ من الأثقال ، ومعناه تحميل العبء والمشقّة ، فبناء على هذا المعنى يكون المراد من الآية : ترى هل تطلب منهم غرامة لتبليغ الرسالة فهم لا يقدرون على أدائها ولذلك يرفضون الإيمان؟!

وقد تكرّرت الإشارة في عدد من الآيات القرآنية لا في النّبي فحسب ، بل في شأن كثير من الأنبياء ، إذ كان من أوائل كلمات النبيين قولهم لأممهم : لا نريد على إبلاغنا الرسالة إليكم أجرا ليثبت عدم قصدهم شيئا من وراء دعوتهم ولئلّا تبقى ذريعة للمتذرّعين أيضا.

ومرّة اخرى يخاطبهم القرآن متسائلا( أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ) فهؤلاء يدّعون أنّ النّبي شاعر وينتظرون موته لينطوي بساطه وينتهي كلّ شيء بموته وتلقى دعوته في سلّة الإهمال ، كما تقدّم في الآية السابقة ذلك على لسان المشركين إذ كانوا يقولون( نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) .

فمن أين لهم أنّهم سيبقون أحياء بعد وفاة النبي؟! ومن أخبرهم بالغيب؟!

ويحتمل أيضا أنّ القرآن يقول إذا كنتم تدّعون معرفة الأسرار الغيبية وأحكام الله ولستم بحاجة إلى القرآن ودين محمّد فهذا كذب عظيم(١) .

ثمّ يتناول القرآن احتمالا آخر فيقول : لو لم يكن كلّ هذه الأمور المتقدّمة ، فلا بدّ أنّهم يتآمرون لقتل النّبي وإجهاض دعوته ولكن ليعلموا أنّ كيد الله أعلى

__________________

الدلائل الحيّة التي أقامها القرآن ضدّهم فليراجع ذيل الآية (٥٧) سورة النحل وذيل الآية (١٤٩) من سورة الصافات

(١) قال بعض المفسرين أنّ المراد بالغيب هو اللوح المحفوظ ، وقال بعضهم : بل هو إشارة إلى ادّعاءات المشركين وقولهم إذ كانت القيامة فسيكون لنا عند الله مقام كريم. إلّا أنّ هذه التفاسير لا تتناسب والآية محلّ البحث ولا يرتبط بعضها ببعض.

١٩١

وأقوى من كيدهم :( أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ ) (١) .

والآية الآنفة يطابق تفسيرها تفسير الآية (٥٤) من سورة آل عمران التي تقول :( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ) .

واحتمل جماعة من المفسّرين أنّ المراد من الآية محلّ البحث هو : «انّ مؤامراتهم ستعود عليهم أخيرا وتكون وبالا عليهم ...» وهذا المعنى يشبه ما ورد في الآية (٤٣) من سورة فاطر :( وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ) .

والجمع بين التّفسيرين الآنفين ممكن ولا مانع منه.

ويمكن أن يكون لهذه الآية ارتباط آخر بالآية المتقدّمة ، وهو أنّ أعداء الإسلام كانوا يقولون : ننتظر موت محمّد. فالقرآن يردّهم بالقول بأنّهم ليسوا خارجين عن واحد من الأمرين التاليين أمّا أنّهم يدّعون بأنّ محمّدا يموت قبل موتهم حتف أنفه. فلازم هذا الادّعاء أنّهم يعلمون الغيب ، وأمّا أنّ مرادهم أنّه سيمضي بمؤامراتهم فالله أشدّ مكرا ويردّ كيدهم إليهم ، فهم المكيدون!

وإذا كانوا يتصوّرون أنّ في اجتماعهم في دار الندوة ورشق النّبي بالتّهم كالكهانة والجنون والشعر أنّهم سينتصرون على النّبي فهم في منتهى العمى والحمق ، لأنّ قدرة الله فوق كلّ قدرة ، وقد ضمن لنبيّه السلامة والنجاة حتّى يبلغ دعوته العالمية.

وأخيرا فإنّ آخر ما يثيره القرآن من أسئلة في هذا الصدد قوله :( أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ ) ؟! ويضيف ـ منزّها ـ( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

فعلى هذا لا أحد يستطيع أن يمنعهم من الله ويحميهم ، وهكذا فإنّ القرآن يستدرجهم ويضعهم أمام استجواب عجيب وأسئلة متّصلة تؤلّف سلسلة متكاملة مؤلّفة من أحد عشر سؤالا! ويقهقرهم مرحلة بعد مرحلة إلى الوراء!! ويضطرهم

__________________

(١) الكيد على وزن صيد نوع من الحيلة وقد يستعمل في التحيّل إلى سبيل الخير ، إلّا أنّه غالبا ما يستعمل في الشرّ ، وتعني هذه الكلمة المكر والسعي أو الجدّ كما تعني الحرب أحيانا

١٩٢

إلى التنزّل من الادّعاءات ثمّ يوصد عليهم سبل الفرار كلّها ويحاصرهم في طريق مغلق!.

كم هي رائعة استدلالات القرآن وكم هي متينة أسئلته واستجوابه! فلو أنّ في أحد منهم روحا تبحث عن الحقّ وتطلبه لأذعنت أمام هذه الأسئلة واستسلمت لها.

الطريف أنّ الآية الأخيرة من الآيات محلّ البحث لا تذكر دليلا لنفي المعبودات ممّا سوى الله ، وتكتفي بتنزيه الله( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

وذلك لأنّ بطلان الوهية الأصنام والأوثان المصنوعة من الأحجار والخشب وغيرهما مع ما فيها من ضعف واحتياج أجلى وأوضح من أي بيان وتفصيل آخر ، أضف إلى كلّ ذلك فإنّ القرآن استدلّ على إبطال هذا الموضوع بآيات متعدّدة غير هذه الآية.

* * *

١٩٣

الآيات

( وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩) )

التّفسير

إنّك بأعيننا!

تعقيبا على البحث الوارد في الآيات المتقدّمة الذي يناقش المشركين والمنكرين المعاندين ، هذا البحث الذي يكشف الحقيقة ساطعة لكلّ إنسان يطلب الحقّ ، تميط الآيات محلّ البحث النقاب عن تعصّبهم وعنادهم فتقول :( وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ ) (١) .

__________________

(١) «الكشف» : على وزن فسق ـ معناه القطعة من كلّ شيء ، ومع ملاحظة بقيّة التعبير. «من السماء» : يظهر المراد منه هنا

١٩٤

هؤلاء المشركين معاندون إلى درجة إنكارهم الحقائق الحسيّة وتفسيرهم الحجارة الساقطة من السماء بالسحاب ، مع أنّ كلّ من رأى السحاب حين ينزل ويقترب من الأرض لم يجده سوى بخار لطيف ، فكيف يتراكم هذا البخار اللطيف ويتبدّل حجرا!؟

وهكذا يتّضح حال هؤلاء الأشخاص إزاء الحقائق المعنوية! أجل انّ ظلمة الإثم وعبادة الهوى والعناد كلّ ذلك يحجب أفق الفكر السليم فيجعله متجهّما حتّى تنجرّ عاقبة أمره إلى إنكار المحسوسات وبذلك ينعدم الأمل في هدايته.

و «المركوم» معناه المتراكم ، أي ما يكون بعضه فوق بعض!

لذلك فإنّ الآية التالية تضيف بالقول :( فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ) .

وكلمة «يصعقون» مأخوذة من صعق ، والإصعاق هو الإهلال ، وأصله مشتقّ من الصاعقة ، وحين أنّ الصاعقة تهلك من تقع عليه فإنّ هذه الكلمة استعملت بمعنى الإهلاك أيضا.

وقال بعض المفسّرين أنّ هذه الجملة تعني الموت العامّ والشامل الذي يقع آخر هذه الدنيا مقدّمة للقيامة.

إلّا أنّ هذا التّفسير يبدو بعيدا ، لأنّهم لا يبقون إلى ذلك الزمان بل الظاهر هو المعنى الأوّل ، أي دعهم إلى يوم موتهم الذي يكون بداية لمجازاتهم والعقاب الاخروي!

ويتبيّن ممّا قلنا أنّ جملة «ذرهم» أمر يفيد التهديد ، والمراد منه أنّ الإصرار على تبليغ مثل هؤلاء الأفراد لا يجدي نفعا إذ لا يهتدون.

فبناء على ذلك لا ينافي هذا الحكم إدامة التبليغ على المستوى العامّ من قبل

__________________

القطعة من حجر السماء ، وقد دلّت عليه بعض كتب اللغة وهذه الكلمة تجمع على كسف على وزن عنب ، إلّا أنّ أغلب المفسّرين يرون بأنّ الكلمة هنا مفردة وظاهر الآية أنّها مفردة أيضا ، لأنّها وصفتها بالمفرد ساقطا

١٩٥

النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا ينافي الأمر بالجهاد. فما يقوله بعض المفسّرين أنّ هذه الآية نسخت آيات الجهاد غير مقبول!

ثمّ يبيّن القرآن في الآية التالية هذا اليوم فيقول :( يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) .

أجل : من يمت تقم قيامته الصغرى «من مات قامت قيامته» وموته بداية للثواب أو العقاب الذي يكون قسم منه في البرزخ والقسم الآخر في القيامة الكبرى ، أي القيامة العامّة ، وفي هاتين المرحلتين لا تنفع ذريعة متذرّع ولا يجد الإنسان وليّا من دون الله ولا نصيرا.

ثمّ تضيف الآية أنّه لا ينبغي لهؤلاء أن يتصوّروا أنّهم سيواجهون العذاب في البرزخ وفي القيامة فحسب ، بل لهم عذاب في هذه الدنيا أيضا :( وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) .

أجل ، إنّ على الظالمين أن ينتظروا في هذه الدنيا عذابا كعذاب الأمم السابقة كالصاعقة والزلازل والكسف من السماء والقحط أو القتل على أيدي جيش التوحيد كما كان ذلك في معركة بدر وما ابتلي به قادة المشركين فيها إلّا أنّ يتيقّظوا ويتوبوا ويعودوا إلى الله آيبين منيبين.

وبالطبع فإنّ جماعة منهم ابتلوا بالقحط والمحل ، ومنهم من قتل في معركة بدر كما ذكرنا آنفا ـ إلّا أنّ طائفة كبيرة تابوا وأنابوا والتحقوا بصفوف المسلمين الصادقين فشملهم الله بعفوه(١) .

وجملة( وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) تشير إلى أنّ أغلب أولئك الذين ينتظرهم العذاب في الدنيا والآخرة هم جهلة ، ومفهومها أنّ القليل منهم يعرف هذا المعنى ، إلّا أنّه في الوقت ذاته يصرّ على المخالفة لما فيه من اللجاجة والعناد عن الحقّ.

__________________

(١) من قال بأنّ جملة فيه يصعقون تشير إلى يوم القيامة فسّر العذاب «في الآية» محلّ البحث بعذاب البرزخ في القبر ، إلّا أنّه حيث كان تفسيرها ضعيفا فهذا الاحتمال ضعيف أيضا.

١٩٦

وفي الآية التالية يخاطب القرآن نبيّه ويدعوه إلى الصبر أمام هذه التّهم والمثبّطات وأن يستقيم فيقول :( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ) (١) .

فإذا ما اتّهموك بأنّك شاعر أو كاهن أو مجنون فاصبر ، وإذا زعموا بأنّ القرآن مفترى فاصبر ، وإذا أصرّوا على عنادهم وواصلوا رفضهم لدعوتك برغم كلّ هذه البراهين المنطقيّة فاصبر ، ولا تضعف همّتك ويفتر عزمك :( فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا ) !.

نحن نرى كلّ شيء ونعلم بكلّ شيء ولن ندعك وحدك.

وجملة( فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا ) تعبير لطيف جدّا حاك عن علم الله وكذلك كون النّبي مشمولا بحماية الله الكاملة ولطفه!

أجل ، إنّ الإنسان حين يحسّ بأنّ قادرا كبيرا ينظره ويرى جميع سعيه وعمله ويحميه من أعدائه فإنّ إدراك هذا الموضوع يمنحه الطاقة والقوّة أكثر كما يحسّ بالمسؤولية بصورة أوسع.

وحيث أنّ الحاجة لله وعبادته وتسبيحه وتقديسه وتنزيهه والالتجاء إلى ذاته المقدّسة كلّ هذه الأمور تمنح الإنسان الدّعة والاطمئنان والقوّة ، فإنّ القرآن يعقّب على الأمر بالصبر بالقول :( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ) .

سبّحه حين تقوم سحرا للعبادة وصلاة الليل.

... وحين تنهض من نومك لأداء الصلاة الواجبة.

... وحين تقوم من أي مجلس ومحفل ، فسبّحه واحمده.

وللمفسّرين أقوال مختلفة في تفسير هذه الآية ، إلّا أنّ الجمع بين هذه الأقوال ممكن أيضا ، سواء كان الحمد التسبيح سحرا ، أو عند صلاة الفريضة ، أو عند القيام من أي مجلس كان.

__________________

(١) قد يكون المراد من «حكم ربّك» هو تبليغ حكم الله الذي امر النّبي به ، فعليه أن يصير عند إبلاغه ، أو أنّه عذاب الله الذي وعد أعداؤه به أي : اصبر يا رسول الله حتّى يعذّبهم الله ، أو المراد منه أوامر أي بما إنّ الله أمرك فاصبر لحكمه ، والجمع بين هذه المعاني وإن كان ممكنا إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب خاصّة بملاحظة فإنّك بأعيننا.

١٩٧

أجل ، نوّر روحك وقلبك بتسبيح الله وحمده فإنّهما يمنحان الصفاء وعطر لسانك بذكر الله واستمدّ منه المدد واستعدّ لمواجهة أعدائك!.

وقد جاء في روايات متعدّدة أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين كان يقوم من مجلسه كان يسبّح الله ويحمده ويقول : «إنّه كفّارة المجلس»(١) .

ومن ضمن ما كان يقول بعد قيامه من مجلس كما جاء في بعض الأحاديث عنه : «سبحانك اللهمّ وبحمدك أشهد أن لا إله إلّا أنت أستغفرك وأتوب إليك!».

وسأل بعضهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذه الكلمات فقال : «هنّ كلمات علمنيهنّ جبرئيل كفّارات لما يكون في المجلس»(٢) .

ثمّ يضيف القرآن في آخر آية من الآيات محلّ البحث قائلا :( وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ ) .

وقد فسّر كثير من المفسّرين جملة( وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ ) بصلاة الليل ، وأمّا إدبار النجوم فقالوا هي إشارة إلى «نافلة الصبح» التي تؤدّي عند طلوع الفجر واختفاء النجوم بنور الصبح.

كما ورد في حديث عن عليعليه‌السلام أنّ المراد من «إدبار النجوم» هو «ركعتان قبل الفجر» نافلة الصبح اللتان تؤدّيان قبل صلاة الصبح وعند غروب النجوم ، أمّا «إدبار السجود» الوارد ذكرها في الآية ٤٠ من سورة «ق» فإشارة إلى «ركعتان بعد المغرب» «وبالطبع فإنّ نافلة المغرب أربع ركع إلّا أنّ هذا الحديث أشار إلى ركعتين منها فحسب»(٣) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ العبادة والتسبيح وحمد الله في جوف الليل وعند طلوع الفجر لها صفاؤها ولطفها الخاصّ ، وهي في منأى عن الرياء ، ويكون الاستعداد

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٩ ، ص ٢٤

(٢) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٢٠.

(٣) مجمع البيان ذيل الآية (٤٠) ، سورة ق ، ج ٩ ، ص ١٥٠.

١٩٨

الروحي لها أكثر في ذلك الوقت ، لأنّ الإنسان يكون فيه بعيدا عن امور الدنيا ومشاكلها ، والاستراحة في الليل تمنح الإنسان الدّعة ، فلا صخب ولا ضجيج ، وفي الحقيقة هذه الفترة تقترن بالوقت الذي عرج بالنّبي إلى السماء ، فبلغ قاب قوسين أو أدنى يناجي ربّه ويدعوه في الخلوة!

ولذلك فقد عوّلت الآيات محلّ البحث على هذين الوقتين ، ونقرأ حديثا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول فيه : ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها(١) .

اللهمّ وفّقنا للقيام في السحر ومناجاتك طوال عمرنا.

اللهمّ اجعل قلوبنا بعشقك مطمئنة ونوّرها بمحبّتك وأمّلها بلطفك.

اللهمّ منّ علينا بالصبر والاستقامة بوجه قوى الشياطين ومؤامرات أعدائك وكيدهم لنتأسّى برسولك فنعيش على هديه ونموت على سنّته.

آمين يا ربّ العالمين

انتهاء سورة الطّور

* * *

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٩ ص ٦٢٥١ ذيل الآيات محلّ البحث.

١٩٩
٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320