ثم شيعني الالباني

ثم شيعني الالباني12%

ثم شيعني الالباني مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 305

  • البداية
  • السابق
  • 305 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 68545 / تحميل: 7444
الحجم الحجم الحجم
ثم شيعني الالباني

ثم شيعني الالباني

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

محسوباً من المرّاق، فيحكم عليَّ بالردة وترك الحق، ويُسام عليَّ سوء العذاب، عن حقّ ــ بزعمهم ــ وعن استحقاق، وفعلاً قد حصل معي الكثير من ذلك فيما بعد، سَأُعرِّجُ على ذكر بعض ما فعلوه معي من تصرّفات وتهديدات وويلات في محلّه إن شاء الله(عزوجل) خالق البريات.

فترددت ــ مع كلّ هذه المخاطر والخطوب التي تنتظرني، وهذه الأجواء التي ستحيط بي، والعسر المادي والمعنوي الذي سيصيبني (١) ــ في خوض غمار هذا البحث الخطير الذي طالما حذّرني من خطورته وعدم جدواه أساتذتي وزملائي في المسجد، وأنّه قلما وصل من سلك طريقه إلى نتيجة مخالفة لما هو عليه من مذهب واعتقاد، كان قد ورثه عن الآباء والأجداد، وأنّه نادراً ما استفاد من سلك طريقه فحصل له الانتقال المنشود بعد بذل الجهد والجهاد، وبالتالي فقد تقرر عندي بأنّ بحثي هذا سوف يكون تضييعاً للعمر وللوقت والاجتهاد.

________________________

أمّا المعاناة المعنوية فلأنّ المفهوم المتعارف عند السنّة أنّ أسوأ وأكذب فرقة وأذل طائفة هم الرافضة ــ بزعمهم ــ وأفضل طريقة وأصحّها والفرقة الناجية والطائفة المنصورة هي السلفية!! فماذا سأقول إن تحوّلت من فرقة مغرورة مستعلية على سائر المسلمين لا ترى الحقّ إلاّ معها ولا ترى الباطل إلاّ في سائر الفرق الأخرى التي تخالفها وخصوصاً الشيعة! فهذه النظرة الدونية للشيعة والراسخة في الأذهان هو ما سيجعلني أشعر بالذنب والحياء إن أنا تحوّلت دون سائر الناس من السلفية إلى التشيّع فعلى الأقل سوف تقل قيمتي اجتماعياً! بعد أن كنت رأساً محترماً! يشار له بالبنان والأسبقية في هذا المضمار! وكذلك سوف أسأل نفسي دائماً وأشك في صحّة اختياري وتحوّلي لما ذكرته آنفاً ممّا رسخ في أذهاننا وما تربّينا عليه، وكذلك بالنسبة للمعاناة المادية فإنّني أعمل في بيع الكتب السلفية ولا أجيد غير ذلك، خصوصاً أنّ ذلك معروف عنّي في السوق فلا أستطيع بعد ذلك بيع كتب الشيعة أمام الجميع، لا سيما وأنّني قررت عدم مفارقة السنّة والبقاء معهم للمناصحة وتوحيد الصفوف وتقبُّل الآخر دون إعلان تشيّعي لعدم تقبّلهم مني حينها، هذا بالإضافة إلى الخوف من الأمن الصدامي! ولا أستطيع أيضاً بيع كتب السلفية بعد ذلك وأنا أقطع بأنّ أكثرها كتب ضلال.

١٢١

ولكنني ــ في نفس الوقت ــ خيرت نفسي بين الدنيا والآخرة، وبين الجنّة والنار، وبين الفوز والخسران؛ فحينئذ هانت الصعاب في نظري، وتضاءلت الخطوب في خاطري، وكان أسوتي وقدوتي في ذلك سلمان الفارسي (المحمّدي)، الذي شرّفه النبيّ(صلى الله عليه وآله) واعتبره من أهل البيت(عليهم السلام) بسبب بحثه عن الحق، واتّباعه وانقياده وتسليمه له أينما وكيفما ومع من كان، مع ما لاقاه من بيع واستعباد ومشاق، وترك للجاه والسمعة والقصور والمعابد ووراثة لآبائه السدان، فجازاه الله بالإكرام والإحسان، ورفعه وعوّضه أعلى المراتب والمنازل، فصار يشار إليه بالبنان، فكان حقّاً محمّدياً سلمان، فصار لكلّ باحث عن الحقّ عزاء وسلوان.

فبدأتُ الرحلة متوكّلاً على الله تعالى، قاصداً للبحث عن الحق بكلّ تجرّد، وتذكّرت حينها شعاراً سلفياً شيعياً "أن لا نعمل إلاّ بدليل"، وبعبارة شيعية "نحن أتباع الدليل أينما مال نميل"، وتعاهدت مع نفسي أن أتّبع الحقّ ولو كان مع المجوس أو اليهود ناهيك عن الصوفية أو الإخوان أو الشيعة، إن ثبت لي ذلك الحقّ بالدليل وحصل عندي معه الاطمئنان والتصديق، وبهذه الروح المجردة والمتجردة بدأت الرحلة لأكون منصفاً في الحكم غير مائل لجهة دون جهة، بخلاف ما كنت عليه في السابق من بذل قصارى جهدي في إيجاد الأعذار والتأويلات المقبولة وغيرها كي أصحح مذهبي ورأيي كما تعلمت ذلك من أساتذتي، ولو كانت غير مقبولة أو بعيدة أو دون دليل أو بترجيح المرجوح أو البقاء بلا جواب، لإحسان الظن بالعلماء لاعتقادي بأنّ هذا الإشكال أو ذاك قد ورد عليهم قطعاً وأجابوه حتماً، وما إلى ذلك من تبريرات وأعذار ما أنزل الله بها من سلطان، وقد تصل النوبة فيها إلى التعصّب والتقليد دون قناعة أو اطمئنان!!

١٢٢

القرار الصعب

قررت خوض هذه الرحلة بعد أن ثبت لي وجوب اتّباع أهل البيت(عليهم السلام) دون من سواهم، وبعد أن انكشفت لي حقيقة مذهب أهل السنّة وتهدّمت لديّ أهم أركانه، وسقط عندي أقوى دليل على صحّته؛ وهو اتّباع الكتاب والسنّة النبوية بنقل أيّ صحابي، وجواز الأخذ عنه لا على التعيين وبلا أي تخصيص أو استثناء أو قيد أو تأمّل في أحد منهم!! سقط من نظري عن بصيرة، وانهار كيانه باندهاش وحيرة، فسببت لي تلك الحقيقة وذلك الانكشاف صدمةً وتزلزلاً وشكّاً وعدم معرفة بكيفية التصرّف المناسب مع مثل هذه المستجدات والمفاجآت التي حصلت معي بالذات دون غيري من بين قرابة مليار مسلم على وجه هذه المعمورة، دون سابق إنذار أو توقّع أو استعداد، وهذه الصدمة جعلتني أدور في دوامة وشكوك لا أوّل لها ولا آخر، ولا مرشد لي فيها ولا ناصر غير الله، فأيّ أخٍ أستطيع التحدّث معه فيعذرني، وأيّ عالم أو أستاذ متجرّد يمكنني سؤاله واسترشاده فينفعني، وأيّ صديق يمكن أن أستسرّه فيؤمنني، فبقيت على هذه الحال من صراع وقلق وخوف من كلّ شيء حولي.

وقد يقول قائل هذه مبالغة! فأقول: لا والله، فإنّكم لو جرّبتم أو خضتم، لما قلتم ما قلتم، وما بذلك تفوّهتم، وكذلك لو تعرّض أحدكم ــ عافاه الله ــ لما تعرّضت إليه من تهديد ووعيد، لما قال ما قال، لأنّه فوق التصوّر ناهيك عن التصديق!

١٢٣

فبقيتُ في تلك الدوامة وذلك القلق أتقدّم خطوة وأرجع خطوات، فإلى من أشكو، ومن يسمعني، ولمن أعرض ما توصّلتُ إليه، ومن يطّلع على مثل هذه الأمور التي تضرّ بي ولا تنفعني ولو دنيوياً أو اجتماعياً، ناهيك عن عدم توقّعي أو تخطّري يوماً ما أن يكون الحقّ مع الشيعة؛ فالشيعة قد كانوا مشركين في نظري غير موحّدين، ولا يؤمنون بهذا القرآن، ويكفّرِون كلّ السلف والصحبان، وللأئمةِ عُبّاَد، وهم للدين هُدّام، بل هم أخطر وأشرّ على الإسلام عندنا من اليهود وأهل الصلبان، بالإضافة إلى كونهم منبوذين في العراق محارَبين، فهم يُعتَبرون مواطنين من الدرجة الثانية، فلا يحقّ لهم بناء مسجد واحد أو حسينية أو قاعة للمناسبات ولعقد اللقاءات، بل إنّ الكثير من مساجدهم قد اغتصبها بعض السلفيين دون أن يستطيع الشيعة منعهم، بل لم يستطيعوا حتّى الاعتراض عليهم، وكذلك منعوا بيع وشراء واقتناء الكتب الشيعية، بل حتّى صلاة الشيعة يصعب أداؤها في الأماكن العامّة أو الحكومية، بل حُبس الكثير من الشيعة وأُعدموا بتهمة الانتماء إلى (حزب الدعوة) لمجرد صلاتهم في المساجد، خصوصاً أثناء الحرب مع إيران، وهكذا سماع إذاعة إيران والمحاضرة الدينية للشيخ الوائلي(رحمه الله) وغيره أمر لا يتمّ إلاّ بشقِّ الأنفس والمجازفة؛ فهذا قليل من كثير ممّا يعانيه الشيعة في العراق؛ فلا أدري ما الذي سيقنعني ويدفعني لأن أكون فرداً من هذه الجماعة المظلومة المغلوبة على أمرها، المسلوبة إرادتها وحقوقها، بل المسلوبة حقوقها وهي في وطنها التي من حقّها أن تعيش بكرامة ومساواة مع غيرها، وحريتها في اختيار عقيدتها وممارساتها الدينية، ويزداد الألم حينما نعلم بأنّهم يشكّلون الأغلبية الساحقة من السكان، وأراضيهم أغنى بقاع العراق على الإطلاق، وهم يعيشون الحرمان بكلّ معانيه، ويعانون الذل والهوان بسبب تسلّط أولئك المتسلّطين المتجبّرين الطغام، وبأوامر مباشرة من سادتهم المستعمرين الأمريكان، وتواطيء الطائفيين من الجيران.

١٢٤

فما الذي سيعجبني من هذا الحال، ويدفعني للانضمام إلى صفوف أناس بهذه الصفات، وهذا البعد عن التوحيد والإنصاف، وهذا الحال من الجهل والبعد عن الحقّ، بل معاداة الدين ومحاولة الانتقام، وتمنّي هدمه بحسب عقيدتي فيهم وسابق ظنّي، أمّا من الناحية الاجتماعية فتعج بهم كلّ هذه الآلام، وكونهم فرقة لا يحقّ لهم الكلام، وطائفة محرومة ومسلوبة الحقوق بين السكان..

ولكن! من جانب آخر دلَّ عندي الدليل على أحقّيتهم، وأوجب عليّ البرهان متابعتهم؛ بحيث لا يمكن أن يهتدي من أراد الهداية إلاّ من خلالهم، لعدم وجود جماعة تَتَّبع أهل البيت(عليهم السلام) ــ الذين ثبت عندي وجوب اتّباعهم ــ سواهم، فهم ينتهلون من منهلهم ويعرفون أخبارهم وأخلاقهم ويهتمون بهم ويلتزمون حبّهم ويتمسّكون بحبلهم فلا أستطيع تجاوزهم مع امتيازهم وتميّزهم.

بخلاف غيرهم من المخالفين للشيعة، ممّن يدّعي محبّتهم ومتابعتهم وهم لا يعرفون عنهم أيّ شيء، بل لا يعرفون غير التنكيل بشيعتهم ومحاربة من يدّعي اتّباعهم وينتسب إليهم بعد رميه بالغلو فيهم، وفي نفس الوقت يقومون بتولّي أعدائهم والدفاع عمّن قتلهم وقاتلهم أو كفّرهم أو لعنهم وسبّهم وأبغضهم، مع روايتهم عمّن نصب العداء لأهل البيت(عليهم السلام) والخوارج والملوك والخلفاء بكلّ إخلاص وافتخار، ودفاع مستميت عنهم وتوثيقهم بأعلى الدرجات، وعدم مقارنة جلالتهم بأحد حتّى مع أهم علمائهم المعتدلين! فهؤلاء عندهم أوثق الناس، مع أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) يصفهم بأشنع الأوصاف وينفر عنهم ويحذّر من اتّباعهم أو التزام طريقتهم.

فقد رووا هم أنفسهم بأنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قد أثبت للمبغضين والنواصب النفاق حين أخبر عليّ(عليه السلام) عنه(صلى الله عليه وآله) بعهده إليه: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنّه عهد إلى

١٢٥

النبيّ الأمي أن لا يحبّني إلاّ مؤمن ولا يبغضني إلاّ منافق) (١) ، ورووا أيضاً بأنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) قد وصف الخوارج بأنّهم: (شرّ البرية) (٢) ، و(شرّ الخلق والخليقة) (٣) ، وأنّهم (كلاب النار) (٤) ، وأخبر(صلى الله عليه وآله) عماراً بخصوص معاوية والقاسطين وإنّه سوف (يدعوهم إلى الجنّة ويدعونه إلى النار) (٥) ، ومع ذلك يأتي أهل السنّة ويتولّونهم ويتبعونهم ويثقون برواياتهم ويأخذون الدين عنهم! مع أنّ المنافق قد وصفه النبيّ(صلى الله عليه وآله) لنا بأنّه: (إذا حدَّث كذب)، وفي نفس الوقت يتعاملون مع الشيعة الذين يسمّونهم الروافض بخلاف وعكس تعاملهم مع الخوارج والنواصب، فقد قرروا بأنّهم لا يروون عمّن يسبّ أبا بكر وعمر ولا كرامة كما يصرحون بذلك، بخلاف فعلهم مع من يبغض عليّاً! مع أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) فضح مبغضي عليّ(عليه السلام) لا غيرهم وحذّر منهم وبيّن بوضوح بأنّهم دعاة إلى النار!!

وقد أكّد الحافظ ابن حجر العسقلاني هذا المعنى تماماً ولكنّه برره بعد ذلك تبريراً بارداً يضحك الثكلى فقال كما في تهذيب التهذيب حيث قال: وقد كنتُ أستشكلُ توثيقهم الناصبي غالباً وتوهينهم الشيعة مطلقاً ولا سيما أنّ عليّاً ورد في حقّه: (لا يحبّهُ إلاّ مؤمن ولا يبغضه إلاّ منافق)، ثمّ ظهر لي في الجواب عن ذلك أنّ البُغض ها هنا مقيَّد بسببٍ هو كونه نصر النبيّ(صلى الله عليه وآله)... (٦) .

________________________

١- رواه مسلم في صحيحه (١/٦١) وغيره.

٢- الهيثمي في مجمع الزوائد (٦/٢٢٥) وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات، وأخرجه الحاكم في مستدركه (٢/١٥٤).

٣- صحيح مسلم (٣/١١٦).

٤- الترمذي (٤/٢٩٤)، وابن ماجة (١/٦١و٦٢)، والحاكم (٢/١٤٩) و(٣/٥٧١)، والهيثمي في مجمع الزوائد (٥/٢٣٠) و(٦/٢٣٠) وما بعدها، وأخرجه أيضاً البيهقي والطيالسي وأحمد وابن أبي شيبة وعبد الرزاق والحميدي وابن أبي عاصم في كتاب السنّة وغيرهم.

٥- صحيح البخاري (١/١١٥) وفيه أيضاً بلفظ: يدعوهم إلى الله ويدعونه إلى النار في (٣/٢٠٧).

٦- تهذيب التهذيب (٨/٤١١).

١٢٦

ولنأخذ مثلاً على اتّباع أهل السنّة لغير أهل البيت(عليهم السلام)، وتفضيل كلّ من هبَّ ودبَّ عليهم، فهم يأخذون دينهم ويروون السنّة المطهرة عن مثل أبي هريرة الذي رووا عنه (٥٣٧٤) حديثاً! تلك الشخصية القلقة المجهولة المشكوك فيها، والذي صحب النبيّ(صلى الله عليه وآله) أقل من سنتين! مع قوله بأنّه روى لهم جراباً من الجرابين ودلواً من الدلوين!! بينما يروون عن عليّ(عليه السلام) (٥٠) حديثاً صحيحاً فقط! وبما يتوافق مع مذهبهم طبعاً، كتحريم المتعة، وغسل الرجلين، وما إلى ذلك، مع أنّ الإمام(عليه السلام) تربّى منذ نعومة أظافره في حجر النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وعاشره وصحبه طيلة مدّة البعثة الشريفة وبقي بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله) ثلاثين سنة وهو الحافظ للقرآن، العالم بالسنّة، وأقضى الناس بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، والذي كان مستشاراً وناصحاً ومعلّماً لكلّ من طلب النصيحة منه، دون أن يسأل هو أحداً أو يحتاج إلى علم آيةٍ أو حديثٍ من أحدٍ مطلقاً.

ويروي البخاري في صحيحه الذي يعتبرونه أصحّ كتاب بعد كتاب الله تعالى عن مثل عمران بن حطان مادح قاتل عليّ وكبير الخوارج (١) ! وعن مروان بن الحكم الذي قتل طلحة غدراً (٢) والذي فعل ما فعل للاستحواذ على الخلافة والملك! وعن حريز بن عثمان كبير النواصب الذي كان يسبّ عليّاً(عليه السلام) ويلعنه على المنبر! وكان بعض النواصب يُنسبون إليه فيقولون عن الناصبي (كان حريزي المذهب) (٣) !

________________________

١- راجع سير أعلام النبلاء للذهبي (٤/٢١٤) وغيره.

٢- مجمع الزوائد للهيثمي (٩/١٥٠) وعن قيس بن أبي حازم قال رأيت مروان بن الحكم حين رمى طلحة يومئذ بسهم فوقع في عين ركبته فما زال يسيح إلى أن مات، رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

٣- راجع لمعرفة كلّ ذلك في ترجمته من تهذيب الكمال وتهذيب التهذيب والكامل في الضعفاء وميزان الاعتدال ولسانه وكلام ابن حبان في الجوزجاني السعدي الناصبي الذي يعتبرونه من أئمة الجرح والتعديل وقوله فيه (كان حريزي المذهب)!!!!! نستجير بالله تعالى.

١٢٧

وفي المقابل، يترك الرواية عن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)، ولم يخرج للإمام الحسن(عليه السلام) سيّد شباب الجنّة أيضاً ولو حديثاً واحداً!

فكيف يصح لي أن أترك من تمسّك بعليّ(عليه السلام)، وأصدّق وأتّبع من يُفضّل ويتّبع مثل هؤلاء المجاهيل؟! وآخذ ديني وعقيدتي ممّن يروي عن كعب الأحبار، ويروي عن مثل وهب وهمام ابني منبه روايات تفوح منها رائحة بني إسرائيل، خصوصاً بعد قول النبيّ الأعظم(صلى الله عليه وآله) لنا، ووصيته لمن أراد الهداية منّا، مراراً وتكراراً كما رواه جمع، منهم أبو سعيد الخدري عنه(صلى الله عليه وآله): (تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا بعدي الثقلين كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ألا وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما) (١) ، فكيف لي أن أخالف هذا الحديث الواضح الذي يصرّح بثقلهما ونفاستهما وخلافتهما لرسول الله(صلى الله عليه وآله) ووصيته بالتمسّك بهما ومراعاتهما واتّباعهما وأخذ الدين عنهما مع استمرارهما من بعده ودون انقطاع إلى يوم القيامة؟!!

أراد النبيّ(صلى الله عليه وآله) كتابة ذلك في وثيقة ــ كما استعرضته فيما مضى ــ في آخر أيام عمره الشريف ولكنهم اعترضوا على طلبه ورفضوا تقديم الكتاب له(صلى الله عليه وآله) ليكتب لهم ذلك ومنعوه من كتابة وصيته الشريفة، والتي صرّح لهم بأهميتها، فهذا النص

________________________

١- رواه بطرق وألفاظ مختلفة الكثير من أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد والمعاجم بألفاظ مختلفة ومتقاربة كمسلم والترمذي وأحمد والطبراني والحاكم والدارقطني والطحاوي في مشكل آثاره وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله وابن أبي عاصم في السنّة وصححه الألباني والحاكم والذهبي والهيثمي.

١٢٨

الذي يثبت الضلال عند المخالفة يدلّ على حصر خلافته(صلى الله عليه وآله) بالكتاب الكريم والعترة الطاهرة(عليهم السلام)؛ فلا يمكن بعد ذلك أن تختار الأمّة بصورة كيفية ومزاجية واجتهاد وإعمال رأي في قبال اختيار الله تعالى ونصّ رسوله(صلى الله عليه وآله): {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} (١) ، ومن ثمّ عمموا وجوّزوا خلافة رسول الله(صلى الله عليه وآله) وخلافة الله تعالى كما قال(عزوجل): {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (٢) لكلّ من هبّ ودبّ! بعد تخصيصه(صلى الله عليه وآله) وتحديده لخلفائه على نحو الحصر بأهل البيت(عليهم السلام) للأمن من الضلال، ومن ثمّ الهداية إلى الله وإلى الحقّ والفوز بالجنّة والنجاة من النار.

________________________

١- القصص: ٦٨.

٢- البقرة: ٣٠.

١٢٩

وجوب اتّباع أهل البيت(عليهم السلام)

في هذه الأحوال الصعبة وهذه الظروف العصيبة، وما ثبت لي فيها من فوارق جذرية بين الفريقين؛ قررت ترك ونبذ مذهب أهل السنّة عموماً، والسلفية خصوصاً، بعد أن تهدّمت وتهاوت أركانه ومعالمه وعرشه.

بدأت البحث عن مذهب أهل البيت(عليهم السلام) الذي ثبت لي وجوب اتّباعه بالحجّة والدليل والبرهان، إن أردتُ النجاة والهداية وعدم الضلال، والذي نصّ عليه رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأكّد على التمسّك به من بعده، في أكثر من مناسبة ومحفل؛ فأوصانا بالتمسّك بخليفتيه والثقلين اللذين تركهما في أمّته من بعده، وهما كتاب الله وأهل بيته من عترته (١) ، وأخبر بأنّه خَلَّف فينا بعده خلفاء شرعيين راشدين هاديين مهديين ربانيين تجب طاعتهم والتمسك بِسُنَّتِهم، مطلقاً دون قيد أو شرط، فإنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) قد أكّد على ذلك وشدد وحضّ عليه مطلقاً، بعد أن بيّن تعالى للجميع منزلتهم فأوضح لنا(وتعالى سبحانه) عصمتهم خلافاً لغيرهم، ونصّ في آية التطهير على طهارتهم وإذهاب الرجس عنهم، فأمرنا تعالى باتّباعهم وطاعتهم كما نطيعه ونطيع رسوله، وأمرنا على لسان رسوله(صلى الله عليه وآله)

________________________

١- أخرجه مسلم بتفصيل، والحاكم في مستدركه (٣/١١٠)، والترمذي وأحمد والطبراني وابن أبي عاصم والدارقطني والديلمي وابن عبد البر في جامع بيان العلم والطحاوي، وصحح بعض طرقه الحاكم ووافقه على أكثرها الذهبي، وحسنه الترمذي، وصححه الألباني (انظر السلسلة الصحيحة له: ح١٧٦١) والهيثمي وغيرهم كثير.

١٣٠

باتّباع سنّتهم والعضّ عليهم بالنواجذ بعد أن وصفهم بالخلفاء الراشدين المهديين (١) ، وأنّ عددهم اثنا عشر خليفة (٢) ، وأنّهم كعدّة نقباء بني إسرائيل (٣) ، وأنّه(صلى الله عليه وآله) أراد كتابة ذلك والنص على الإمامة ومساعدة الأمّة على قبولها وتثبيت إمامة عليّ(عليه السلام) بوصية واضحة صريحة لا لبس فيها وبمرأى ومسمع ممّن كان يرفض ذلك ويقاومه، لئلا ينكروا أو يغيرّوا أو يبدّلوا أو يتمرّدوا على الأمر الإلهي ويحاولوا عدم إمضائه وإنفاذه وتطبيقه وامتثاله بعد رحيله(صلى الله عليه وآله)، فقام رسول الله(صلى الله عليه وآله) بما قام وفعل ما فعل وبذل كلّ ما يمكنه بذله من جهد، لكي يوفّر لصحابته وأمّته من بعدهم وإلى يوم القيامة سبب هدايتهم.

فأغلق النبيّ(صلى الله عليه وآله) باب ذلك الخيار الذي يفضحهم مع أنّه سيفقد فرصة تحصيل تلك المصلحة بصورتها الكاملة، فاختار هذا الخيار الصعب بالرغم من مرجوحيته، وفضّله على الخيار الآخر وهو كتابة ذلك الكتاب رغماً عنهم، مع اعتراضهم ورفضهم القوي؛ لأنّ الأخير سيسبب رِدَّة الناس جميعاً عن الإسلام وترك التوحيد والنبوّة ناهيك عن الإمامة، فلو كان ذلك سيؤدّي إلى تعطيل الإمامة فحسب لهان الأمر، وكان إرغامهم على قبول كتابة الكتاب راجحاً من جهة إقامة الحجّة عليهم، والنبيّ(صلى الله عليه وآله) لا يعدل عن الراجح إلى المرجوح إلاّ بسبب يمسّ جوهر العقيدة والدين، فاختار النبيّ(صلى الله عليه وآله) حصول أقل الضررين واكتفى ببيان جريمتهم

________________________

١- رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة وابن أبي عاصم في السنّة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وصححه الألباني أيضاً.

٢- البخاري (٨/١٢٧)، ومسلم (٦/٣ - ٤)، وأحمد والترمذي وأبو داود والحاكم وغيرهم.

٣- رواه أحمد وأبو يعلى والبزار في مسانيدهم وحسنّه ابن حجر في فتح الباري (١٣/١٨٣) وقال عنه الهيثمي في مجمع الزوائد (٥/١٩٠): وفيه مجالد بن سعيد وثّقه النسائي وضعفه الجمهور وبقية رجاله ثقات.

١٣١

الكبرى وفساد فعلهم وخطأ اختيارهم بطردهم وقوله لهم بعد أن وصفوه بالهجر ونسبوه إلى الهذيان، وبعدما أكثروا من اللغط والاختلاف: (دعوني ــ قوموا عنّي ــ فالذي أنا فيه خير ممّا تدعونني إليه) (١) كما قرر ابن تيمية ذلك تماماً واعترف به حين قال في منهاج سنّته: (رأى النبيُّ(صلى الله عليه وآله) أنّ الكتاب في هذا الوقت لم يبق فيه فائدة ؛ لأنّهم يَشُكُّون هل أملاه مع تغيِّره بالمرض(أي: مع هجره)؟ أم مع سلامته من ذلك؟ فلا يرفع النزاع فتركه) (٢) !

وهذا الترديد بين القبول على مضض، وبين الرفض والقتال والمجابهة قد صرّح به عمر نفسه في حادثة السقيفة وبنصّه فلا يأتي أحد بعد ذلك ويقول قد افتريتم على عمر أو أنّه لا يمكن أن يفعل شيئاً من هذا القبيل، فهذا هو طبعه وهذه عقيدته! فقد قال عمر كما يروي البخاري ذلك: (فخشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا فإمّا بايعناهم على ما لا نرضى وإمّا أن نخالفهم فيكون فساد) (٣) ، فهذا التصريح منه وهذا النَفَس يتّفق مع فعلته في تلك الرزية وقوله الشنيع ؛ لأنّه عين قوله في تلك الحادثة المؤلمة تماماً؛ حيث شكك بعصمة النبيّ(صلى الله عليه وآله) وطعن في أوامره واجتهد في قبال نصّه(صلى الله عليه وآله)، فترك النبيّ(صلى الله عليه وآله) كتابة الوصية ــ لا نفس الوصية ــ ومن ثمّ لم يتمكّن من إلزامهم بها من بعده من دون أن يبقى مجال لأحد في إنكارها أو التشكيك بها أو تأويلها، ومن ثمّ ضيّعوا الهداية على الأمّة جمعاء، بحيث لم يكن ليضلَّ أحد ولو كان من الرعاع؛ ولكن قد سبق القدر والقضاء في مخالفتهم لإرادة أرحم الرحماء، هنا في يوم الرزية كما في يوم إنفاذ جيش أسامة وكما في حجّة الوداع، فكانوا من الأشقياء، وتسببوا في ضلال

________________________

١- البخاري (٣/١١١١ و١١٥٥) و(٤/ ١٦١١) ومسلم (٣/١٥٨).

٢- منهاج السنّة لابن تيمية (٦/٣١٥).

٣- البخاري (٨/٢٨).

١٣٢

الأمّة فحصل لها ما يخشى عليها من ضلال وتمزّق وانفتاق، فحرفوا الدين عن مساره فافترقت الأمّة أيّ افتراق، وأخذوا به بعيداً عن الحقّ فاختلف المسلمون وأصبحوا في فراق، وتكفيريين ومُرّاق، ففشلٌ وذهاب ريح وارتماء، فحُرِموا وحَرموا الأمّة من السموّ والارتقاء.

كلّ هذه المعاناة والمحاولات للنبيّ(صلى الله عليه وآله) تدلّ على حرصه على الأمّة وتبليغه الرسالة أعظم تبليغ، بل أقام الحجّة البالغة التي لا يجحدها ولا يشكك أحد فيها وإلى قيام الساعة، فجزاه الله عنا خير ما جازى به نبيّاً عن أمّته.

وقد بلّغ رسول الله(صلى الله عليه وآله) الرسالة وأدّى الأمانة ونصح للأمّة، ولكن البعض أبوا وأصرّوا على خلافه واجتهدوا في قبال أمره وصريح تبليغه، ففعلوا وخططوا وخالفوا إرادة الله تعالى من قبول حصر الإمامة والخلافة للنبيّ(صلى الله عليه وآله) في أهل بيته(عليهم السلام)، بعد اصطفائهم من الله تعالى وتطهيرهم بالإضافة إلى أفضليتهم الظاهرة على جميع الأمّة، والتي يعترفون هم أنفسهم بها حاشا الإمامة والخلافة للنبيّ(صلى الله عليه وآله)، كلّ ذلك لجدارتهم ولياقتهم لهذا الأمر الصعب والتكليف الرباني العسير من قيادة الناس وهدايتهم، وخلافة نبيّهم(صلى الله عليه وآله).

وهذا ليس ادّعاءً أو فهماً أو استنباطاً منّي دون دليل! وإنّما هو عين ما نصّ عليه الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) حين حذّر الصحابة، وبالتالي نبّه أمّته على ما سيحدث من بعده وما سيغيّر وما سينقلب عنه المسلمون ويجحدون من نعمة وفضل من الله تعالى عليهم قبل أن يكون تفضيلاً لأهل البيت(عليهم السلام) واصطفائهم لذلك الأمر دونهم؛ فإنّ الله تعالى وصف إمامة أهل البيت(عليهم السلام) بإكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الرب، فيا لها من نعمة قد جحدوها، ويا له من فضل كفروه، ويا له من لطف رفضوه، فحرموا منه ولم يجنوا ثماره اليانعة الطيبة.

فحرموا أنفسهم من فضل ونعمة ينبغي لهم أن يعترفوا بخسرانهم من دونها

١٣٣

في الدنيا والآخرة، ويجب عليهم أن ينتبهوا لتركهم ذلك الأمر العظيم فيعودوا إليه، ويعتذروا عن التمرّد عليه وجحده وهو بهذه المكانة والأهمية حتّى أمر الله تعالى ورسوله الكريم(صلى الله عليه وآله) بطاعتهم المطلقة والانقياد لهم ليهتدوا، كما نبّه النبيّ(صلى الله عليه وآله) على أهمية ذلك بوصفه لمن يترك إمامة وولاية أهل البيت(عليهم السلام) ولا ينقاد لها بأنّه يموت ميتة جاهلية، وأنّ من لا يتمسّك بالثقلين والخليفتين على الأمّة بعد نبيّها(صلى الله عليه وآله) فإنّه يضلّ من بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله) بلا شك ولا ريب.

فبعد أن رأيت ما بينّاه من حرصِ النبيّ(صلى الله عليه وآله) وإصراره على بيان أمر الخلفاء من بعده وجهاده ومعاناته الشديدة بتبليغهم هذا الأمر الإلهي العظيم المكلّف به من الله، وطعنهم في شخصه الشريف وعصمته ونبوّته، حيث لاقى ما لاقاه من الرادّين عليه والساخطين على أمره وحكمه الشرعي الإلهي هذا.

والذي يحتمل أنّ بعضهم ظنّ بأنّه اجتهاد شخصي من النبيّ(صلى الله عليه وآله) ورأي رآه وتحيّز وتفضيل لابن عمّه عليهم دون وجه استحقاق وفضل أو دون أمر إلهي شرعي، وإنّما كان ذلك لمجرد رغبة النبيّ(صلى الله عليه وآله) وحبّه لعليّ(عليه السلام) وترشيحه له برأيه الخاص والشخصي ــ إحساناً منّي للظن بالبعض ولكي لا نظلم أحداً ــ ولذلك قد يكون صدر منهم ما صدر فلا يدخل هذا الصنف مع المعاندين، ومع ذلك بقي(صلى الله عليه وآله) يبيّن ذلك الأمر ويحاول تطبيقه وتنفيذه بكلّ وسيلة مشروعة ومتاحة ومقدورة له وبشتّى الطرق والأساليب التي بيّنا بعضها هنا، وبكلّ عزم وإصرار ودون هوادة أو مداهنة أو تقصير أو يأس، واضعاً بين عينيه قول الله تعالى له وخطابه الشديد اللهجة معه، مبيّناً فيه عدم كون ذلك الأمر لقرابة أو رغبة شخصية منه لعليّ(عليه السلام) مهما ظنّت قريش ذلك، وإنّما هو أمر إلهي ونصّ شرعي ووجوب ديني، بل هو حكم عقلي وأصل عقائدي لا يتمّ الدين من دونه، فقال تعالى مبيّناً ذلك: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ

١٣٤

مِنَ النَّاسِ} (١) فلا يكون النبيّ(صلى الله عليه وآله) قد بلّغ تمام رسالته إلاّ بهذا الأمر الذي هو ليس منه بل من ربّه!! فيكون تبليغه ناقصاً غير تام من دون ذلك؛ ولا يعتبر حينئذ قد بلّغ الدين الذي أراده الله تعالى للأمّة، فلا يكون مبلّغاً للرسالة الحقيقية الكاملة الخاتمة، والتي بها صلاح الناس وكمالهم الذي أراده الله تعالى لهم وأحبّ أن يكونوا عليه، وشرّع ذلك الدين الخاتم الكامل المتكامل من أجل تحقيق هذه الغاية والوصول إليها، وبذلك الأمر (إمامة أهل البيت(عليهم السلام)) يؤمَن من تحريف الدين أو تأويله أو التلاعب به أو تضييعه أو ضياعه؛ لوجود قيّم معصوم عليه بصورة مستمرّة وعدم استغلال أحد للدين أو تسييسه من قبل السلطات والحكومات الغاصبة الظالمة، وبالتالي يؤمن من ضلال الأمّة واختلافها فتحصلُ الهداية العامّة للأمّة، والتي أومأ إليها رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأشار إليها وبلّغها بقوله: (إنّي تارك فيكم خليفتين كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنّهما لن يتفرقا حتّى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما) (٢) .

فرأيت بأنّ من المحتم عليّ أن أتأسّى برسول الله(صلى الله عليه وآله) حين تبليغه لهذا الأمر، وأتحمل مشاق هذا الطريق وصعوباته من باب أولى وأوجب؛ لأنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) ما فعل كلّ ذلك وأصرّ هذا الإصرار وبيّن ذلك البيان، وحذّر مَن يتركه مِن حتمية الضلال؛ إلاّ لأهمية هذا الأمر وعظمته وكونه أصلاً عقائدياً وركناً دينياً لا يتمّ الدين إلاّ به ومن خلاله.

ويشهد لذلك تحذير الله تعالى لنبيّه(صلى الله عليه وآله) من ترك تبليغه لهذا الأمر، وتهديده

________________________

١- المائدة: ٦٧.

٢- قال الهيثمي في مجمع الزوائد (١/١٧٠) ورجاله ثقات، و(٩/١٦٢): رواه أحمد وإسناده جيّد، وأخرى (١/١٧٠): رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات، وصححه الألباني في صحيح الجامع (٢٤٥٧).

١٣٥

بعدم تبليغ الرسالة أصلاً من دونه، وبيان الله تعالى لنبيّه(صلى الله عليه وآله) بأنّه معه ومؤيّده وعاصمه ممّن يخاف اعتراضهم وسخطهم وحتّى تهوّرهم وانتقامهم.

فأنا لم ولن أتعرّض لمثل ظرف رسول الله(صلى الله عليه وآله) والضغوط التي مورست عليه قطعاً، فلا يوجد حولي أناس بتلك الشراسة والدهاء، ولم يكن من حولي اليوم في مثل ظرف الأوّلين في فرصتهم الوحيدة لإمكانية اعتلائهم كرسي الخلافة وتحقيق الطموح الشخصي، والحقد والحسد والبغض لعليّ(عليه السلام) وبني هاشم، فليس السنّي مهما كان حاله كالقرشي في طموحه في كلّ ذلك وتقديم المصلحة الشخصية على الدين والاعتقاد الحقّ والاقتناع التام بالدين، فإعطاء قريش الحقّ لكلّ أحد في خلافة المسلمين بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) لم يجعله المسلم السنّي نصب عينيه مثل القرشي في زمن النبيّ(صلى الله عليه وآله) الأعظم مع أنّهم الآن سيستفيدون من ذلك أيضاً! إذْ إنّ القول بعموم الخلافة لكلّ من هبّ ودبّ تجعل طموح وأمل أيّ فرد من أفراد الأمّة مشروعاً في أن يكون يوماً ما إماماً على المسلمين وأميراً للمؤمنين! ولكن الأمر عند قريش كان أوضح وآكد منه عند أهل السنّة اليوم ممّن جاء بعدهم وأحسن الظن بهم.

فتشجّعت بذلك واطمأن قلبي له، فخضت وسلكت هذا الطريق الصعب بقوّة وسكينة، متوكّلاً على الله تعالى الذي تعهّد بهداية كلّ من جاهد فيه وطَلَبَ الوصول إليه وإلى سبله المؤدّية إلى رضوانه وقبوله، بواسطة طاعة أمره وشرعه هو لا بما يناسب هوانا وقناعتنا، فقد تعهّد الله(عزوجل) بذلك حين قال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (١) .

________________________

١- العنكبوت: ٦٩.

١٣٦

فسلكت السبيل

حينها استرجعت في ذاكرتي فضائل أمير المؤمنين(عليه السلام) خصوصاً وأهل البيت(عليهم السلام) عموماً، وصرت أراها برؤية أخرى تختلف جذرياً عن رؤيتي السابقة لها تماماً ــ إن لم أقل تناقضها حقيقة ــ فبعد أن كنت ملزماً بتأويل كلّ فضيلة لعليّ(عليه السلام) خشية تأثيرها على عقيدتي من وجوب تفضيل غيره عليه وعدالة من خالفه أو سبّه أو لعنه أو قاتله صلوات الله وسلامه عليه، أو خوفاً من تأدية ذلك إلى تقوية أو تصحيح قول الشيعة وعقيدتهم، وبالتالي مخالفة عقيدتي وأصول مذهبي.

فأصبحت بعد تحرري عن هذا الفهم الموهوم، وهذه القواعد المغلوطة المكذوبة أفهم الأمور وأراها على حقيقتها، ولا أخاف من مخالفة تلك القواعد وتلك الأسماء التي سمّيناها نحن وآباؤنا، والتي ما أنزل الله بها من سلطان.

فأصبحت دلالات الأحاديث والآيات الكريمة واضحة لي وضوح الشمس، وتعجّبت لحالي السابق حينها!! فأصبحت لا أتصوّر بأنّني كنت أفهمها فهماً آخر مخالفاً لفهمي الحالي، وكيف كنت مقتنعاً بذلك؟! بل أصبحت والله أضحك على نفسي وأستشنع قولي وفهمي السابق ولا أستسيغه أو أبرره لمن يقول به أبداً! لانكشاف الأمور لي بحمد الله وتوفيقه، حتّى أصبحت أفهم النصوص كأنّي أتلّقى الحقّ عن قلب النبيّ(صلى الله عليه وآله) وفمه الشريف مباشرة وكأنّي معه كواحد من الصحابة،

١٣٧

بحيث يخاطبني مباشرة بقوله، ويهمس في أذني وكأنّي أراه وأسمعه، وأعي ما يقول ويقصدهُ، فأفهمه على حقيقته، بخلاف ما كنت عليه في السابق، وقبل أيام فقط، من تكلّفٍ وتأويل وليّ أعناق النصوص، بل تجريدٍ للفضائل والخصائص العظيمة عن معناها وجعلها لا تدلّ على شيء البتة، نتصوّر ونصوّر النبيَّ(صلى الله عليه وآله) وكأنّه يتكلّم عن بديهيات ويوضّح واضحات، ولا يقصد بيان أيّ شيء مهم أو حكم شرعي أو تعليم إلهي، وإنّه لا همَّ له إلاّ حلِّ خلافات وفصل خصومات ونزاعات شخصية حصلت عرضاً ومصادفة بين ابن عمّه عليّ(عليه السلام) وخصومه أو مبغضيه أو المعترضين عليه أو منتقديه!!

وبالتالي فهذه الأفهام السقيمة المجردة للنصوص النبوّية عن معناها ومغزاها كما فعله ابن تيمية وورثناه عنه، بل قلبها إلى سيئات وأخطاء!! ناهيك عن تجريدها عن الفضيلة بعد الفراغ عن الردّ والإنكار والتضعيف والتكذيب بلا دليل ولا برهان!

١٣٨

شبهة أزيلت بجواب ربّاني أثلج قلبي

وبعد مطالعتي للأحاديث الشريفة في فضائل أهل البيت(عليهم السلام) وسيّدهم عليّ(عليه السلام)، راودتني بعض الشكوك وأثيرت في ذهني بعض الشبهات حول أفضلية الإمام عليّ(عليه السلام) على سائر الصحابة وأهل البيت(عليهم السلام)، بعد أن رأيت حديث النبيّ(صلى الله عليه وآله) في أفضلية سبطيه وريحانتيه من الدنيا وولديه الحسن والحسين(عليهما السلام) وهو يصفهم بقوله(صلى الله عليه وآله): (الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة) (١) ؛ ففهمت من هذا الحديث أفضليتهما(عليهما السلام) على كلّ الصحابة وأهل البيت(عليهم السلام) على الإطلاق ودون استثناء، لكون أهل الجنّة كلّهم شباب لقول النبيّ(صلى الله عليه وآله) في حديث آخر: (يدخل أهل الجنّة الجنّة: أبناء ثلاث وثلاثين في خَلق آدم وحسن يوسف وقلب أيوب) (٢) ، فإن ذلك الفهم للحديث سوف يصطدم بحقيقة لا خلاف عليها وهي أفضلية أبيهما عليّ(عليه السلام) عليهما، فإن استثنيته دون دليل فحينئذ يمكن استثناء غيره معه فلا يستقيم تفضيلهم(عليهم السلام) على من سواهم، ولا يتمّ لي الدليل في تفضيل عليّ(عليه السلام) على كلّ البشر بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)!

________________________

١- رواه أحمد والترمذي والطبراني وابن حبان والبزار والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وغيرهم؛ راجع في تفصيل تخريجه سلسلة الأحاديث الصحيحة للمحدث السلفي الألباني (ح٧٩٦) وقال في آخر تخريجه: فالحديث صحيح بلا ريب؛ بل هو متواتر كما نقله المناوي، وكذلك الزيادات التي سبق تخريجها، فهي صحيحة ثابتة. انتهى الحديث.

٢- رواه أحمد (٢/٢٩٥،٣٤٣) و(٥/٢٤٣) والترمذي (٤/٨٨) والطبراني والهيثمي في مجمع الزوائد (١٠/٣٩٨) وحسّن بعض طرقه.

١٣٩

ولكن رحمة الله تعالى وألطافه وتوفيقاته يسّرت وقوع حديث تحت أنظاري من حيث لا أحتسب حين قررت متابعة طرق هذا الحديث وألفاظه رغم علمي باتّفاق المسلمين على صحّته وشهرته، بل تواتره عندهم وعدم اطّلاعي على مخالف يضعّف أو يطعن في الحديث أبداً، فقلَّبتُ كتاب سلسلة الأحاديث الصحيحة لمحدّث العصر الشيخ السلفي الألباني ــ شيخي المفضّل حينها! ــ فاطّلعت على تخريجه المفصّل لهذا الحديث، فرأيت المفاجأة الجميلة والدواء الذي أزال ما كنت أشكو منه من شك وحيرة لفهم هذا الحديث على واقعه الظاهر والموافق لما توصّلت إليه من نتائج، وهي وجوب اتّباع أئمة أهل البيت(عليهم السلام) وكذلك أفضليتهم على سائر الصحابة، وأنّ عليّاً(عليه السلام) هو وصي رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأفضل الخلق من بعده، فرأيت الكثير من طرق الحديث تحتوي على زيادات مهمّة جدّاً تبيّن مراد النبيّ(صلى الله عليه وآله) الحقيقي من الحديث بشكل واضح وصريح ودون لبس أو شك كما عانيت من ذلك لفترة ليست بالقصيرة، وتصرّح هذه الزيادات في الحديث نفسه بأفضلية أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) على الحسن والحسين(عليهما السلام) واستثناء أبيهما(عليه السلام) من سيادتهما على جميع الأمّة، فزال اللبس واتّضح القصد وتم الفضل وبان حقّ كلّ ذي حقّ وأخذ كلّ ذي منزلة ومكانة ما يناسبه، والحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات.

فقد قال الألباني (١) بعد أن ذكر عشرة من الصحابة ورد الحديث عنهم وبطرق كثيرة منها:

١ــ وأمّا حديث ابن مسعود؛ فله عنه طريقان: ...فذكره. وفيه الزيادة: (وأبوهما خير منهما). أخرجه الحاكم (٣/١٦٧) وقال: صحيح بهذه الزيادة، ووافقه الذهبي. وأقول (والكلام كلّه للألباني): إنّما هو حسن للخلاف المعروف في عاصم".

وذكر أيضاً بعض طرقه، فقال: "٢ـ وأمّا حديث حذيفة... فقال (النبيّ(صلى الله عليه وآله)):

________________________

١- سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ المحدّث الألباني السلفي (ح٧٩٦).

١٤٠

(عرض عليَّ ملك استأذن ربّه أن يسلّم عليّ ويبشّرني في أنّ الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة)، وزاد الترمذي وأحمد: (وأنّ فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة). وقال الترمذي: حسن غريب، لا نعرفه إلاّ من حديث إسرائيل. قال (الألباني): وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح؛ غير ميسرة.. وهو ثقة، وصحح الزيادة الحاكم (٣/١٥١)، ووافقه الذهبي".

ثمّ ختم الألباني تخريجه لهذا الحديث بقوله: "وبالجملة؛ فالحديث صحيح بلا ريب؛ بل هو متواتر كما نقله المنّاوي، وكذلك الزيادات التي سبق تخريجها، فهي صحيحة ثابتة، ومنها طبعاً: (وأبوهما خير منهما وفاطمة سيّدة نسائها)". انتهى الحديث.

فارتحت لذلك كثيراً وأُثلج صدري وقلبي وسررت بهذه الكلمات العظيمة والتي لا يفهم الحديث على واقعه ومراد النبيّ(صلى الله عليه وآله) منه إلاّ بوجودها، ولكن يد الغدر والتحريف والتلاعب والهوى امتّدت لتشوّه هذا الحديث وتعبث به وتحرّف معناه وتلوي عنقه وتسلبه بريقه ونوره الذي تتضح من خلاله منزلة أهل البيت الطاهرين، وكذلك تفهم سائر فضائلهم(عليهم السلام) على حقيقتها لا كما يفهمونها بعد تلاعبهم بألفاظها ومعانيها، ناهيك عن ردّها وإنكارها كما هو ديدنهم في التعامل مع فضائل أهل البيت(عليهم السلام)، كما رووا في مقابل هذا الحديث الرائع الشريف حديثاً مكذوباً لا طعم له ولا لون ولا رائحة، فرووا أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) قد قال أيضاً: (أبو بكر وعمر سيّدا كهول أهل الجنّة)!!

وهذا ديدن جميع السلفيين مع فضائل أهل البيت(عليهم السلام)، وخصوصاً شيخ إسلامهم ومنظّرهم ابن تيمية، والذي قال بالحرف الواحد في منهاج سنّته عن

١٤١

فضائل وخصائص أمير المؤمنين(عليه السلام) (١) عند ردّه على استدلال العلاّمة الحلّي بفضائل أمير المؤمنين(عليه السلام) الصحيحة ومن كتبهم المعتبرة: "إنّ هذه الأحاديث التي ذكرها ــ يعني العلامة ــ أكثرها كذب أو ضعيف باتّفاق أهل المعرفة بالحديث، والصحيح الذي فيها ليس فيه ما يدلّ على إمامة عليّ ولا على فضيلته على أبي بكر وعمر وليست من خصائصه، بل هي فضائل شاركه فيها غيره بخلاف ما ثبت من فضائل أبي بكر وعمر فإن كثيراً منها خصائص لهما" (٢) .

وكذلك أعاد ذلك: "وقد قال العلماء: ما صحّ لعليّ من الفضائل فهي مشتركة شاركه فيها غيره بخلاف الصديق فإنّ كثيراً من فضائله وأكثرها خصائص له لا يشركه فيها غيره" (٣) .

فلا ندري من يكون هؤلاء العلماء؟ وأين قولهم؟ والدليل بخلافها وعلى العكس منها تماماً!

وكذلك قال: "فإنَّ فضائل عليّ الثابتة عامّتها مشتركة بينه وبين غيره بخلاف فضائل أبي بكر وعمر فإنّ عامّتها خصائص لم يشاركا فيها" (٤) .

عامله الله بما يستحق على هذا النصب الصارخ والعداء الفاضح!!

فحمدت الله تعالى وشكرته على هدايته وتوفيقه لي ورفع الغشاوة والظلمة عن عيني وقلبي حتّى رأيت حقائق الأشياء بواقعها والمراد منها؛ فجزمت بكذب

________________________

١- التي ألّف فيها النسائي صاحب أصح السنن الأربعة جزءاً وأسماه خصائص علي، والتي وصف الحافظ ابن حجر أسانيد أحاديثه بأنّها كلّها جياد.

٢- منهاج السنّة (٥/٦).

٣- منهاج السنّة (٧/١٢١).

٤- منهاج السنّة (٧/١٧٣).

١٤٢

ووضع حديث (أبو بكر وعمر سيّدا كهول أهل الجنّة) (١) ، وأصبح وضعه واضحاً جليّاً عندي وعند كلّ عاقل وكلّ شخص صادق غير متعصّب ولا معاند.

فإنّ تمام حديث الحسنين(عليهما السلام) ونصّه الكامل يبيّن المراد الحقيقي منه وهو أفضلية سيادة الحسن والحسين(عليهما السلام) على أهل الجنّة أجمعين عدا رسول ربّ العالمين(صلى الله عليه وآله) سيّد ولد آدم وسيّد العترة بضرورة الدين، وكذلك أبويهما لاستثنائهما في نفس الحديث؛ فإنّ استثناء النبيّ(صلى الله عليه وآله) لأجناس مختلفة عن جنسهما كبعض الأنبياء وأبيهما وأمّهما يبيّن ويثبت العموم المراد منه، بحيث إنّه لولا الاستثناء ومزيد البيان لفُهِم أنّهما(عليهما السلام) أفضل البشر سواء الأنبياء منهم أو الشباب أو الشيوخ والكهول أو النساء؛ فعليّ(عليه السلام) قد استشهد وهو في سن أبي بكر وعمر فلا يبقى لهم أيُّ عذر بعد استثناء عليّ(عليه السلام) دون أقرانه في نفس الحديث ليخصصوا الحديث بمن مات وهو شاب وعدم شموله لمن مات شيخاً أو كهلاً ــ مع استشهادهما(عليهما السلام) كهلين أو شيخين أيضاً ــ أو تأويلهم له بمن كان كذلك في الجنّة كما أبطلنا ذلك آنفاً من كون أهل الجنّة في عمر واحد! وما إلى ذلك من أجوبة متكلّفة لليّ عنق الحديث عن وجهته الصحيحة، وتحريف دلالته الواضحة الصريحة؛ كما فهم ذلك أتباعهم ومن عرف حقّهم، والتزم وصية نبيّه(صلى الله عليه وآله) فيهم، والذي لا مصلحة له في جحد فضلهم وتحريف ما ورد فيهم حسداً أو حقداً أو تنافساً.

________________________

١- أخرجه الترمذي (٥/٢٧٢) بثلاثة طرق، ضعّف واحدة، وسكت عن أخرى، ووصف الثالثة بأنّها حسنة غريبة، وراجع في تخريجه وتضعيف كلّ أسانيده وعدم تصحيح أيّ منها مجمع الزوائد للهيثمي (٩/٥٣)، وخصوصاً لو أُخذ بنظر الاعتبار قول أبي حاتم فيه كما نقله الألباني عن ابنه في السلسلة الصحيحة (ح٨٢٤)، فقد نقل ابنه عنه قوله في هذا الحديث: هذا حديث باطل (يعني بهذا الإسناد) وامتنع أن يحدّثنا وقال: اضربوا عليه. ومن الواضح أنّ كلام أبي حاتم شيء وكلام ابنه وفهمه له شيء آخر، خصوصاً مع تصريحه ببطلان الحديث لا الإسناد!!

١٤٣

وبذلك تبيّن لي الطريق بكلّ وضوح، وزال عنّي كلّ شك وجحود، فاستعنت بالله أن يقدرني على اتّباع الحقّ ويسهّل لي سلوك سبيل الصدق، وترك ما كنت عليه ممّا توارثته عن الآباء والأجداد دون دليل أو برهان أو كتاب منير، وقد قال تعالى وتعهّد لكلّ من طلب الحقّ ورام الصدق والبر والمعروف بأن يوفّقه للوصول له وإدراكه وتيسير رحلته وإتمام مهمّته بيسر وتسديد وتأييد وتوفيق ليس له نظير وغير متوقّع ودون أيّ حساب أو احتساب، فقال(عزوجل): {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (١) ، وقال عزّ من قائل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (٢) .

________________________

١- الليل: ٥ ــ ٧.

٢- النازعات: ٤٠ - ٤١.

١٤٤

أصعب ما واجهني

كان أصعب موقف صادفني خلال هذه الأحداث هو يوم تلجلجت هذه المعلومات في صدري، وانكشفت هذه الأمور أمام عيني، وتيقّن قلبي بوجوب اتّباع أهل البيت(عليهم السلام) من عترة النبيّ(صلى الله عليه وآله) دون غيرهم ؛ للأمن من الضلال والوصول إلى رضا الجبّار ودخول جنان الرحمن، وبعد تبين عدم وجود دليل لي على اتّباع الصحبان دون المنتجبين الأطهار، واتّخاذ الصحابة أئمة دون القرابة والآل.

فاحترت وتحيّرت ماذا أفعل بعد ذلك؟!! وكيف أتصرّف مع أهلي وقرابتي وجيراني وأصدقائي ورفاقي في المسجد ومعارفي في السوق وزملائي في الجامعة؟!

ففكّرت باللجوء إلى أحد أصدقائي لأبث له ما أصبت به من هم وغمّ، وما كشفتُ من حقيقة ليست بالسهلة عليَّ، سواء بالاعتقاد بها أو ترجيحها أو بالتكلّم بها أو طرحها على مائدة البحث والنظر والتحليل، فهذا أمر صعب ومتعسّر القبول، ولا يصدّق السلفي ولا يؤخذ كلامه على محمل الجد إن طرحه أو تكلّم به! ولكن كيف أعتقد بذلك وحدي دون أن أعرض ذلك الأمر الخطير على إنسان عاقل؟ لأستفيد من ملاحظاته أو خبرته أو فهمه أو علمه، ولأستفيد من عقله ومعلوماته وتحليله ورأيه بذلك، فقد يخطئ الإنسان ويجهل دون أن يعلم فيحصل له جهل مركب، لذا رأيت أنّ ذلك محتّم عليّ ومكمّل لبحثي، وعلى الأقل

١٤٥

ليطمئن قلبي بأنّي لم أعتقد ذلك عن هوى أو غباء أو تسويل نفس أو تضليل من شيطان، أو حتّى تلبّس جنّ كما ادّعاه أحد أصدقائي السلفيين ممّن أصيب بالدهشة والذهول لخبر تشيّعي وما أُشيع عن تحوّلي! فأخبرني مرّة بأنّه لا يصدّق تحوّلي وتشيّعي وإنّما يعتقد جازماً بأنّ جنّياً رافضياً قد تلبّسني!!

فلم يخطر في بالي إلاّ صديقي (المهندس حارث السامرائي)، وهو أعزّ شخص عليّ وأقرب الناس إلي والذي كنت أقضي أكثر أوقاتي معه، حيث كنا متفاهمين على أعلى درجات التفاهم والتوافق في الأفكار وحتّى الخواطر، وكان مهندساً طيّب القلب متواضعاً ذكياً متوقد الذهن، قد كان من قبل مائلاً للإخوان المسلمين ليس له كثير باع بأمور الدين وطلب العلم، وقد كنت أدعوه ليكون من السلفيين، فأصبح سلفياً بعد اللتيا والتي، وبعد شقّ الأنفس، والكثير من المتاعب والمشاكل والمفارقات التي حصلت بيني وبينه، والتي وصلت حدّ العداوة والبغضاء، طبعاً بسبب أسلوبي السلفي الحادّ والفظ، وتجريحي بأبي حنيفة ونقده والذي كان يقلّده وكذلك لكونه من أهالي الأعظمية التي تحوي ضريح أبي حنيفة النعمان، حتّى أثّرنا فيه أنا وأصدقائي، فتحوّل سلفياً في نهاية المطاف، وأصبحنا صديقين حميمين لصيقين، ثمّ درس وتعلّم بعض الأمور وفهم المنهج السلفي جيّداً وأصبح من دعاته والمعجبين به على أحسن ما كنت أتوقّعه منه وعلى أتمّ وجه وأبلغ صورة، فأطلق لحيته الكثة الطويلة بعد أن كان يعتاد حلقها وتخفيفها، ولبس الثوب القصير بعد أن كان يرتدي البنطال، وكان ممّا درسه كتاب التوحيد بشرح قرة عيون الموحّدين وفتح المجيد وبدأ بقراءة كتب ابن تيمية، ودرسنا مصطلح الحديث (الباعث الحثيث) سوية عند شيخنا (أبو دعاء) بعد أن كان يقرأ سابقاً لسيّد قطب، وخصوصاً تفسيره (في ظلال القرآن) وبعض كتب عبد القادر الكَِيلاني والصوفية لكون أخيه صوفياً وما إلى ذلك من ترهات... (بزعمنا واعتقادنا كسلفية)!!!

١٤٦

فمرّة أردت مفاتحته بما اكتشفت، ولكن خانتني الشجاعة في البوح بذلك، وخشيت على نفسي من التفوّه له بشيء عن هذا الموضوع مع كونه ثقتي وموضع سرّي وأعزّ صديق عندي، ولكن الأمر ليس بالهيّن ومعلومات الرجل ليست كثيرة في هذا الباع من آراء وأقوال الفرق والمذاهب، فكيف سيكون ردّه لو أبحت له بما في داخلي وأعلنت له تشيّعي بعد أن عانيت ما عانيت معه لكي يصبح سلفياً ويقتنع بهذا المذهب الممقوت والمكروه في العراق ولا سيما في مسجدنا الإخواني الصبغة والتوجّه، ولم يمض على اقتناعه بالسلفية سوى سنتين تقريباً! فكيف أقنعه مرّة أخرى بترك السلفية واعتناق التشيّع مع أنّ التشيّع عندنا ممقوت مكروه منبوذ أكثر بكثير من السلفية؟!

ومرّت الأيام والشهور وأنا أحترق وأتألّم من حالي ومآلي، وما أنا فيه من انهيار مذهب أهل السنّة عندي بشكل قاطع وأكيد، وعدم استطاعتي ترك المذهب والمسجد والأصدقاء والأخوان هكذا دون نقاش مع أحد أو طرح لما توصّلت إليه واقتنعت به من دون تأكّدٍ من عدم إصابتي بالجنون أو الجنوح عن الصراط بإضلال النفس أو الشيطان أو انتقام الله وإمداده لي وتضليلي إن كنتُ مستحقاً للضلال؛ فكان لابدّ لي من مفاتحة أحد ممّن أعرفه بهذا الأمر، لأتأكّد من عدم فقداني لعقلي وعدم ضلالي، فأكون بالتالي على بينة من أمري وما أفعله من فهم وتفكير أدّى بي إلى ترك مذهبي وتغيير عقيدتي وهي أعزّ شيء أمتلكه، فتغيير العقيدة من أصعب الأمور على الإنسان على الإطلاق ؛ لأنّك ستهدم عقيدة راسخة عادة وتأتي بدلاً عنها بأخرى تحلّ محلّها فكأنّك تميت نفساً وتحيي أخرى!

فلم يبق أمامي سواه لأصارحه، لعلّه يقتنع بما اقتنعت به أو يوقظني من منامي على أقل تقدير!

١٤٧

وكانت أوّل مرّة تكلّمت فيها معه عن بعض ما أعانيه من صراع من دون توضيح، وبالعموميات وبصورة غير مباشرة، فلم يفهمني جيّداً ولم يعرف مرادي ومقصدي! وهذا أمر متوقّع بل أكيد حينما شكوت له من السلفية ومنهجهم غير المنضبط، وقلت له بأنّ كلّ مجموعة وكلّ جامع وكلّ شخص أصبح مذهباً بذاته فأين الفرقة الناجية؟ إن كان السلفيون أنفسهم فرقاً يضلل بعضهم بعضاً، ويختلف بعضهم مع بعض، ويكره بعضهم بعضاً، فكيف بسائر الفرق والجماعات؟! وكيف تكون الجماعات السلفية على اختلافها وافتراقها تمثّل فرقة واحدة وناجية؟!

وخذ على ذلك مثلاً، في بغداد فقط ترى جماعة الشيخ عبد الملك المفتي (١) يختلفون مع جماعة الشيخ محمود (٢) ، وهؤلاء يختلفون مع جماعة شيخ عادل (٣) وجماعة شيخ فؤاد (٤) ، وهؤلاء بدورهم يختلفون مع جماعة شيخ سامي (٥) ، وأمّا جماعة شيخ فائز (٦) فحدّث ولا حرج في الاختلاف والتكفير، وما إلى ذلك لسائر الفرق الأخرى عداهم، لأنهم وهابيون تكفيريون حتّى السلفيين عندهم ليسوا بسلفيين أصلاً، وليسوا من الفرقة الناجية.. بل حتّى الجماعة الواحدة من السلفيين

________________________

١- هذه الجماعة في منطقة حي الجامعة في كرخ بغداد.

٢- هذه الجماعة تتواجد في قرية سعيدة والزعفرانية في رصافة بغداد.

٣- هؤلاء يتواجدون في منطقة الغزالية وهي في كرخ بغداد.

٤- هؤلاء في بغداد الجديدة، نّواب ضبّاط في رصافة بغداد، وقد اغتيل شيخ فؤاد من قبل نظام صدام وهو في اليمن.

٥- هؤلاء يتواجدون في حي العامل لوجود شيخ سامي في مسجد المنطقة وهو جامع العشرة المبشرة في كرخ بغداد.

٦- هذه الجماعة تعتبر أعرق وأقدم وأوّل حركة وهابية تنشأ في العراق، ويتواجدون بحسب علمي في منطقة الشعب وحي أور والطالبية في رصافة بغداد، وقد قام صدام بإعدام ثمانية من كبار ومؤسسي هذه الجماعة، فأفل نجمها واضمحل حجمها وتفككت قاعدتها ويبدو أنّ فكرهم مطابق إلى حدّ كبير لفكر القاعدة.

١٤٨

من أبناء المسجد الواحد فإنّهم كانوا يختلفون أشدّ الاختلاف في بعض الأحكام وبعض القضايا وبعض الأفهام للحديث أو الآية أو كلام ابن تيمية أو غيره.

فقلت له: ألا ترى بأنّه ينطبق علينا معاشر السلفيين قول الله تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} (١) ؟

فوافقني (حارث) بذلك الشعور ظاهراً! وعرفت بعد ذلك بأنّه ذهب إلى أصدقائي من السلفيين في جامع آخر وهو (جامع الفردوس) (٢) وأخبرهم بأنّي قد أكون تأثّرتُ بالإخوان فيجب أن يدركوني من الضياع والضلال والردّة عن الحقّ، فقاموا بالتردد عليَّ حينها كثيراً حتّى أنّ زياراتهم لي كانت يومية تقريباً، فاستغربت حينها لذلك وارتبت كثيراً من تصرّفهم وتقرّبهم وتوددهم هذا.

فقلت في نفسي: لمَ يفعلون ذلك وفي هذا الوقت بالذات؟ ماذا فعلت وماذا تكلّمت بعدُ حتّى يفعلوا مثل هذا الفعل! ويواسوني ويُسمِعوني بعض الكلمات مزاحاً ويومئون إلى تأثّري بالإخوان المسلمين وانحرافي عن السلفية نوعاً ما بزعمهم؟! بعد أن كنت متشدداً بعض الشيء، ففعلت وتركت بعض ما لا ينبغي لمثلي فعله أو تركه، من ارتدائي حينها البنطال (الكابوي)، وتخفيف لحيتي وتساهلي في بعض الأمور كعدم لبس القصير، أو تحريك الإصبع في التشهّد، أو رفع اليدين على الصدر في التكتف، وما إلى ذلك بالإضافة إلى انتقادي للمدرسة السلفية عند (حارث) ــ الذي أخبرهم بذلك النقد اللاذع ــ وبذلك حاولوا أن يُحسِّنوا صورتهم وصورة المدرسة السلفية بإظهار بعض المحاسن، كالزيارة والتواصل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأسلوب جديد وتفاهم وتفهّمٍ للآخرين، دون تفسيق مباشر، وهجر للمخالف لهم، كما كان ديدنهم!!

________________________

١- الحشر: ١٤.

٢- في منطقة حي أور في بغداد الرصافة.

١٤٩

يوم الفصل

بعد ذلك حاولت مراراً وتكراراً مفاتحته مباشرة فلم أجد لذلك سبيلاً، واستطعت مرّة أن أفاتحه بالموضوع حين خرجنا من صلاة العصر من المسجد وكان يوم جمعة وكانت بداية أيام محرم.

ففاتحته في الموضوع فحصل الفتح بتوفيق الله تعالى ومنّه وقدرته ولطفه وبركة أيام سيّد الشهداء وأبي الأحرار الإمام الحسين(عليه السلام)، فبعد أخذ العهود والمواثيق الغليظة منه بأن لا يخرج كلامي لأيّ شخص غيرنا كائناً من كان، استغرب كثيراً من قولي وتشديدي وإقسامي عليه بهذا الشكل!

فقال: نحن بيننا كلام وأسرار وتفاصيل عن حياتنا الخاصّة فلماذا هذا التشديد اليوم؟!

فقلت له: إنّ الأمر مهم وشديد وخطير ويختلف عن كلّ ما نتكلّم به كلّ يوم! فاشتدّ شوقه لمعرفة الكلام الجديد والمخيف، فخاطبته حينها بأسلوب ارتجالي ودون تكلّف أو تحضير مسبق، فذكرت له صلاة الجمعة في ذلك اليوم وما تكلّم فيه الخطيب دون ذكر سيّد شباب أهل الجنّة وريحانة رسول الله(صلى الله عليه وآله) وسبطه ونحن في أيامه وأيام شهادته(عليه السلام) وأنكرت ذلك عليه فوافقني.

وذكّرته بعد ذلك بما جرى قبل أشهر في جامع عبد الله بن عمر حينما حضرنا محاضرة للشيخ عداب محمود الحمش المحدّث السلفي المبعد عن

١٥٠

السعودية الذي تكلّم عن أهمية السنّة النبويّة! فتذكّرها.

فقلت له: هل تذكر ما قاله في ذلك اليوم عن حديث كتاب الله وعترتي؟

قال: لا.

فأخبرته بما قال، فتذكّر ذلك وقال: صحيح، فقد خرجنا يومئذٍ غير راضين عليه، كنت أراك غاضباً منه لأجل كلامه عن حديث الثقلين، أمّا أنا فقد استغربت حينها من كلامه في البدعة وتفصيله فيها على غير المعروف والمألوف عند السلفية، ولم أنتبه أصلاً لكلامه في هذا الحديث!

فذكرت له كلامه في تضعيف الألباني حديث (كتاب الله وسنّتي)، وأنّي قد راجعت بعد ذلك وتأكّدت من صحّة دعواه وأنّ الشيخ الألباني قد ضعّف فعلاً كلّ أسانيد حديث (كتاب الله وسنّتي) وصحح حديث (كتاب الله وعترتي) بأسانيده الصحيحة بذاتها والحسنة بذاتها والصحيحة والحسنة لغيرها وكثرة طرقه أيضاً.

وسألته بعد ذلك: ماذا نعرف عن أهل البيت(عليهم السلام) كي نطبّق هذا الحديث ووصية رسول الله(صلى الله عليه وآله) هذه ونعمل بها؟! هل نعرف مثلاً ولاداتهم أو وفياتهم أو نهتمّ بها كما يفعل الشيعة؟ وها نحن في أيام محرم فانظر إلى اهتمام الشيعة وحزنهم ومعرفتهم بهم، وهل نعرف أو ننقل أخلاقهم أو أقوالهم أو خطبهم أو أحاديثهم أو فقههم أو عقائدهم؟

فقال: لا والله، لا نعرف شيئاً عنهم! ولم يذكرهم علماؤنا أو خطباؤنا إلاّ عرضاً.

فقلت له: مع أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قد خلّفهم فينا وأوصانا باتّباعهم وأخذ الدين والسنّة عنهم!

١٥١

فقال: فعلاً هذا أمر محيِّر! ولكن ما العمل؟ فعلماؤنا لم يرووا عنهم والرواة عنهم كلّهم كاذبون!

فقلت له: وكيف نترك أهل البيت(عليهم السلام) للكاذبين إن كنّا فعلاً نعمل بوصية رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟! كيف نترك الإمام الصادق(عليه السلام) يحدّث الكاذبين فقط دون الصادقين فيفعلون بأحاديثه ما يشاؤون، ويكذبون عليه بما يهوون، ويشكّلون مذهباً معارضاً لنا، مشتتاً لجمعنا وجماعتنا، هادماً لإسلامنا، مخالفاً لأحكامنا، سارقاً منّا أئمتنا، ونحن من يجب أن يتمسّك به ويأخذ الدين عنه! فهل يعقل ذلك؟! هل يعقل أن نترك الصادق للكاذبين ونتركه لهم وندّعي بعد ذلك بأنّنا نحن من يلتزم بوصية رسول الله(صلى الله عليه وآله) فيهم؟! ونحن من يلازمهم ويأخذ الدين عنهم وليس من انتسب إليه والتزم به وأحاطه وحدّث عنه!

فقال: فعلاً هذا الكلام منطقي، وهذا الأمر غير طبيعي!

فقلت له: أتعرف أنّ أئمة أهل البيت(عليهم السلام) مجمع على عدالتهم عندنا! وأنّهم أفضل أهل زمانهم! وأنّ الإمام عليّ(عليه السلام) هو أفضل الصحابة، وهو من يجب اتّباعه بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو خليفته الشرعي!

قال: كيف ذلك؟

فأخبرته بحديث الغدير بعد حديث الثقلين، وأخبرته بفضائل عليّ(عليه السلام) واحدة تلو الأخرى، وهو يستمع إليّ وكأنّ على رأسه الطير متعجّباً مصدوماً فاتحاً عينيه وفمه بدهشة واضحة وكأنّه لم يسمعها من قبل!!

حتّى قال لي: كلّ هذه الأحاديث عندنا صحيحة السند أيضاًَ؟!!

قلت له: لم آتك بحديث واحد ضعيف أو حديث من غير كتب أهل السنّة المعتبرة!

١٥٢

حتّى وصلت إلى ذكر كلام ابن عباس ــ الذي حصل لنا بعده ما حصل ــ حين قلت له: ويكفي في تفضيل أمير المؤمنين(عليه السلام) قول ابن عباس فيه وهو حبر الأمّة وترجمان القرآن، كما روى ذلك الحافظ ابن حجر في الإصابة: "إن أتانا الثبت عن عليّ لا نعدل به" (١) ! فهذه شهادة من ابن عباس بوجود خصيصة للإمام عليّ(عليه السلام) تفضّله وتميّزه عمّن سواه وعلى لسان حبر الأمّة الذي دعا له رسول الله(صلى الله عليه وآله) بأنّ يفقّهه الله تعالى في الدين ويعلّمه التأويل، فأين علم عليّ(عليه السلام) هذا الذي يعتزّ به حبر الأمّة بهذا الشكلّ! وهل نحن نفعل ذلك مع أحاديث عليّ(عليه السلام)؟!

أبداً ــ والكلام لي ــ خذ مثلاً: البخاري يروي حديث شرب الماء واقفاً عن عليّ(عليه السلام) وقد فعله أمام الناس مستنكراً على من يشرب الماء عن جلوس ومن يتورّع عن شربه قائماً، بالإضافة إلى أنّه(عليه السلام) نقل فعل ذلك عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، بالإضافة إلى كونه(عليه السلام) خليفةً راشداً وإماماً للمسلمين وأميراً للمؤمنين، ومع ذلك لا يأخذ السلفيون بهذا الحديث ولم يعملوا به وردّوه عليه! فخالفوه وفضّلوا أحاديث أنس وأبي هريرة على أحاديث عليّ(عليه السلام) وفقهه، مع إنّها أصحّ منها إسناداً!! وهو خليفة راشد تجب متابعته وتقديمه على غيره بنص حديث رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو نصّ في المسألة، وقول ابن عباس أيضاً الذي ذكرناه، فكيف نسمّي أنفسنا وندعي بأنّنا نحن من يتّبع أهل البيت(عليهم السلام) دون غيرنا؟!!

فتعجّب (حارث) لذلك!! وأيّدني تماماً في كلامي.

وذكّرته بالبخاري الذي لم يحتج بالإمام الصادق(عليه السلام) وهو يُلقّب في الأمّة كلّها بالصادق، فهو لم يصدّقه ولم يحتج بحديثه مع أنّه يحتج بحديث مثل مروان ابن الحكم وعمران بن حطان وحريز بن عثمان وأمثالهم! فكيف ندّعي بعد هذا

________________________

١- سبق تخريجه.

١٥٣

كلّه بأنّنا نحن من يتّبع أهل البيت(عليهم السلام) ويحبّهم ويتمسّك بهم في الحقيقة والواقع؟! فأيّ حقيقة هذه وأيّ واقع؟!

حصل الفتح في هذه اللحظة العظيمة أخيراً.. واقتنع صديقي (حارث) بكلامي حينها، ورجّحه وتقبّله.

وقال لي: كلّ هذه الفضائل وهذه الأحاديث عندنا؟!

قلت له: إي والله وفي أصحّ كتبنا وعند أفضل علمائنا ومحققينا كالبخاري ومسلم في صحيحيهما، والحاكم في مستدركه عليهما، وبموافقة الذهبي في تلخيصه، وابن حجر في الإصابة، والذهبي في سير أعلام النبلاء، والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، والمزي في تهذيب الكمال، والبداية والنهاية لأشدّ عالم سنّي سلفي يقلّد شيخه ابن تيمية ومنهجه في كلّ شيء وهو ابن كثير الدمشقي والذي يكاد يكون ناصبياً كشيخه، والاستيعاب لابن عبد البر، وأسد الغابة لابن الأثير، وما إلى ذلك من كتب لعلماء محققين ومعتبرين عند السلفيين دون غيرهم ممّن نعدّهم من المتساهلين!

وقلت له: إن شئتَ نذهب الآن إلى بيتي لنتأكّد وأريك أكثر ممّا ذكرت لك من فضائل لأمير المؤمنين(عليه السلام) عند ابن حجر والألباني والآخرين، كحديث المؤاخاة، وسدّ كلّ الأبواب إلاّ باب عليّ، وكون عليّ باب مدينة العلم وباب دار الحكمة، وأقضى الصحابة، وأنّه كرار وليس بفرار يقاتل جبرائيل عن يمينه وميكائيل عن شماله، وأنه لا يحبّه إلاّ مؤمن ولا يبغضه إلاّ منافق، وأنّ من سبّه وأبغضه فقد سبّ وأبغض النبيّ ومن سبّ النبيّ وأبغضه فقد سبّ الله تعالى وأبغضه، وما إلى ذلك!

فأذعن لي قائلاً: الله أكبر، كلّ ذلك عندنا ونحن لا ندري!! فكيف نفضّل

١٥٤

غيره عليه؟! وكيف نتّبع غيره ونستبدله بمن هو أدنى منه، ومن لم يوص رسول الله باتّباعه وليس له من الفضائل نصف ما لعليّ ولا حتّى عُشرها؟!!

فقلت له: إذن يجب أن نعترف بوجوب اتّباع أهل البيت(عليهم السلام) وأفضلية عليّ(عليه السلام) على الشيخين!

فقال: أكيد!

بعد ذلك ذهبنا إلى البيت وأريته ما قلت له بأمّ عينيه، قلت مشكلاً: ولكننا لا نروي عن أهل البيت(عليهم السلام) شيئاً كثيراً وديناً كاملاً! فكيف العمل؟

فقال: دعنا نبحث، فأنا متأكّد بأنّنا سنجد ذلك.

قلت له: إنّي بحثت كثيراً ولم أصل إلى نتيجة في ذلك!

قال: كيف ذلك؟

قلت له: قد قلت لك: إنّ علماءنَا يروون الأحاديث عن أهل البيت(عليهم السلام) التي تناسب مذهبنا فقط دون التي يختصون بها، ودون التي تخالف روايات النواصب والحكومات وسنّة أبي بكر وعمر!

فقال مغضباً: كيف؟!

قلت له: بالإضافة إلى ما ذكرته لك من مقارنة بين روايتنا لأبي هريرة ورواياتنا عن عليّ(عليه السلام) ومخالفتهم لرواية عليّ(عليه السلام) التي تخالف روايات غيره كأبي هريرة وأنس، فهل يمكن أن يقرن المنصف عليّاً(عليه السلام) بمثل هؤلاء؟!

قال: طبعاً لا.

قلت له: انظر لو أخذنا مثلاً على ذلك رواية شرب الماء واقفاً، والإمام عليّ(عليه السلام) هو خليفة وإمام عندنا، وروايته أصحّ سنداً، فهي في صحيح البخاري، وكذلك انظر لإعراض البخاري عن رواية جعفر الصادق(عليه السلام) وعدم الاحتجاج به!

١٥٥

وأنّ مالكاً كان لا يروي عن جعفر بن محمّد(عليه السلام) حتّى يضمّه إلى آخر من أولئك الرفعاء ثمّ يجعله بعده!! وفي رواية تظهر عملهم للحكومات قال الراوي: لم يرو مالك عن جعفر حتّى ظهر أمر بني العباس (١) !! وقال ابن حجر بعد ذلك: وقال ابن سعد: كان كثير الحديث ولا يُحتج به ويُستضعف؛ سُئل مرّة: سمعت هذه الأحاديث من أبيك؟ فقال: نعم، وسئل مرّة، فقال: إنّما وجدتها في كتبه، قلت (ابن حجر): يحتمل أن يكون الأؤلان وقعا عن أحاديث مختلفة فذكر فيما سمعه أنّه سمعه وفيما لم يسمعه أنّه وجده وهذا يدلّ على تثبّته، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان من سادات أهل البيت(عليهم السلام) فقهاً وعلماً وفضلاً يحتج بحديثه من غير رواية أولاده عنه، وقد اعتبرت حديث الثقات عنه فرأيت أحاديث مستقيمة ليس فيها شيء يخالف حديث الأثبات، ومن المحال أن يلصق به ما جناه غيره (٢) .

بل قال ابن حبان (٣) بعد قوله: يحتج بحديثه من غير رواية أولاده عنه: "لأنّ في حديث ولده عنه مناكير كثيرة، وإنّما مَرَّضَ القول فيه مَن مرّض من أئمتنا لِما رأوا في حديثه من رواية أولاده، وقد اعتبرت حديثه من الثقات عنه مثل ابن

________________________

١- تهذيب التهذيب (٢/٨٨) وغيره كتهذيب الكمال وميزان الاعتدال والكامل فراجع ثمت.

٢- تهذيب التهذيب (٢/٨٨) وغيره فراجع.

ويقصد بعبارته الأخيرة بأنّ أبناء جعفر هم الكذابون فليس من الإنصاف إلصاق الكذب بجعفر بسبب أبنائه. الله أكبر (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلاّ كذباً) فأولاد جعفر هم موسى الكاظم وعلي بن موسى الرضا وهم من أوثق الناس وأئمتهم وعدول الأمّة بالاتّفاق فكيف يدّعى بأنّ الخلل في أحاديث الصادق كان بسبب كذب أولاده!!؟؟ فهذا يكشف ويدل بوضوح بأنّ لجعفر الصادق وأولاده مذهباً خاصاً وأحاديث مخالفة لما يرويه العامّة السنّة تروى عنه بواسطة خواصّه والأئمة من ولده ممّا يختلف ويخالف روايات العامّة ويصطدم معها، وهذا يرد الشبهة التي تثار على الشيعة بأنّ أهل الكوفة الرافضة وابن سبأ والفرس هم من وضعوا الأحاديث على جعفر وكذبوا عليه وأسسوا هذا المذهب الذي لا يمت بصلة لأهل البيت، فابن حبان والقطان وابن خلدون يشهدون بأنّ هذه الأحاديث المخالفة وهذا المذهب المخالف هو ثابت عن أهل البيت ونسبته لهم حقيقية والمتهم فيه هم أهل البيت أنفسهم ولو شكك المرجفون المنحرفون.

٣- الثقات (٦/١٣١).

١٥٦

جريج والثوري ومالك وشعبة وابن عيينة ووهب بن خالد ودونهم، فرأيتُ أحاديث مستقيمة ليس فيها شيء يخالف حديث الأثبات، ورأيت في رواية ولده عنه أشياء ليس من حديثه ولا من حديث أبيه ولا من حديث جدّه، ومن المحال أن يلزق به ما جنت يدا غيره" انتهى.

وكذلك أبو حنيفة يبيّن لنا عمله للحكومات ومعاداة أئمة السنّة وحكوماتهم لأهل البيت(عليهم السلام) واختلافهم معهم جذرياً، فأوضح بقصّته هذه أعلمية أهل البيت(عليهم السلام) على الجميع ووجود مذهب خاص ينفردون به، يختلف عن مذاهب أهل السنّة!

فقد رووا عن أبي حنيفة أنّه قال: ما رأيت أحداً أفقه من جعفر بن محمّد، قالوا: كيف؟ قال: لمّا أقدمه المنصور إلى الحيرة بعث إليّ فقال: يا أبا حنيفة إنّ الناس قد فتنوا بجعفر بن محمّد فهيّئ له من مسائلك الصعاب قال: فهيّأت له أربعين مسألة، ثمّ بعث إليّ أبو جعفر، فأتيته بالحيرة فسلَّمتُ وأذن لي فجلست، ثمّ التفت إلى جعفر فقال: يا أبا عبد الله تعرف هذا؟ قال: نعم، هذا أبو حنيفة، ثمّ أتبعها: قد أتانا! ثمّ قال: يا أبا حنيفة هات مسائلك نسأل أبا عبد الله، وابتدأت أسأله، وكان يقول في المسألة: أنتم تقولون كذا وكذا وأهل المدينة يقولون كذا وكذا ونحن (أهل البيت) نقول كذا وكذا، فربما تابعنا وربما تابع أهل المدينة وربما خالفنا جميعاً، حتّى أتيت على أربعين مسألة ما أخرم منها مسألة! ثمّ قال أبو حنيفة: أليس قد رُوينا أنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس (١) .

وفي نفس هذا المسار جاء قول ابن خلدون: "وشذَّ أهل البيت بمذاهب

________________________

١- تهذيب الكمال للمزي (٥/٧٩)، سير أعلام النبلاء للذهبي (٦/٢٥٨)، تاريخ الإسلام للذهبي أيضاً (٩/٨٩)، الكامل لابن عدي (٢/١٣٢).

١٥٧

ابتدعوها وفقه انفردوا به وبنوه على مذهبهم" (١) !!

ولو نظرنا إلى كلامهم الذي يثبت بأنّ لأهل البيت(عليهم السلام) مذهباً خاصاً ينفردون به؛ تجدهم يتخبّطون في إلصاق الذنب بمخالفة الأئمة وأحاديثهم لمذهب السنّة، فحاول بعضهم الطعن بالإمام الصادق(عليه السلام) نفسه المجمع على وثاقته عندهم! وبعضهم طعن في أولاده في روايتهم عنه(عليه السلام) كما رأينا صنع ابن حبان وابن خلدون! وآخرون لم يرووا عنهم تجنّباً لأحاديثهم المخالفة لمشهور أهل السنّة كمالك فلم يرو عنه إلاّ خوفاً أو طمعاً بعد ظهور أمر بني العباس أو عند موافقته لروايات السنّة! وآخرون حاولوا التآمر والتعاون مع الحكومات والسلطات والقوّة لإرهاب الإمام(عليه السلام) وسائر الأئمة(عليهم السلام) تزلفاً له أو اقصاءً وحسداً للإمام(عليه السلام)! وبهذه الأساليب وغيرها تعامل أهل السنّة مع أهل البيت(عليهم السلام) ورواياتهم!

فأين دعوى اتّباعهم وقبولهم والتزامهم؟! وأين رعاية وصية جدّهم فيهم صلوات ربّي وسلامه عليه وعليهم؟! وأين الكاذبون الذين يدّعي أهل السنّة بأنّهم هم من كذبوا ونسبوا للإمام الصادق كذباً(عليه السلام) ما يخالف أهل السنّة؟!

إذن، فكيف ندّعي بعد كلّ هذا الكلام بأنّنا أولى بأهل البيت(عليهم السلام) من الشيعة؟! وأنّنا نحن الذين نتّبع أهل البيت(عليهم السلام) ونروي عنهم لا الشيعة؟! وأنَّ عِلمَهم عندنا وأنّ الشيعة كذبوا عليهم وجاؤوا بمذهب مكذوب نسبوه إليهم كذباً وزوراً ما أنزل الله به من سلطان لا يمت بأيّ صلة بأهل البيت(عليهم السلام)؟!

فقال لي (حارث): أرجوك دعنا من الشيعة، ولنجد حلاًّ لهذه المصيبة! كيف سنصل إلى أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) ومذهبهم بطرق صحيحة ثابتة؟

________________________

١- تاريخ ابن خلدون (١/ ٤٤٦).

١٥٨

فقلت له: قد بيّنْت لك بأنّه لا توجد عندنا هكذا أحاديث بحيث يتكوّن منها مذهب كامل في الفقه والأخلاق والعقائد! وذكرت لك طريقة رواية علمائنا عن أهل البيت(عليهم السلام) وعدم وثوقهم بما يروونه! وعدم روايتهم عنهم إلاّ بما يتناسب مع مذهبنا ورواياتنا وروايات النواصب والخوارج وآراء الحكومات التي كوّنوا منها مذهباً أطلقوا عليه مذهب أهل السنّة والجماعة في مقابل مذهب أهل البيت(عليهم السلام) ومدرستهم!!

فقال لي: ما الحل إذن؟

فقلت له ــ بعد أن يئستُ بصورة غير مباشرة من إقناعه بأنّ الشيعة هم من يتّبع أهل البيت ــ : عندي حل!

قال: قل ما هو؟

فقلت له: هناك من العلماء من السلف من قيل عنه بأنّه شيعي أو متشيّع وهو مع ذلك يسير على منهج أهل السنّة، وهم محدّثون وعلماء محترمون حتّى عند السنّة أنفسهم، كالكوفيين (١) والنسائي والحاكم وعبد الرزاق الصنعاني ووكيع بن الجراح شيخ الشافعي وسفيان الثوري وسعيد بن جبير ومقاتل ومجاهد والكلبي وابن إسحق، وغيرهم.. فما رأيك بأن نبحث عن عقائدهم وأقوالهم الفقهية لكونهم متابعين وموالين لأهل البيت(عليهم السلام) ومعروفين بالتشيّع لهم؟

فقال: أحسنت! هؤلاء هم من سينقذنا ممّا نحن فيه، وهؤلاء يمثّلون الحقّ إن شاء الله، فهم برزخ وسط بين الفريقين بلا إفراط ولا تفريط.

فبحثنا كثيراً عمّا رجوناه فلم نهتدِ إلى شيء يذكر ممّا تأمّلناه منهم، بل لا يوجد عندنا نقل يثبت أيّ رأي لهم فقهي أو عقائدي يختلف عن أقوال أهل

________________________

١- على اصطلاح أهل السنّة وكلام المحدّثين في أهل الكوفة وإلاّ فالكوفة فيها مذاهب ومشارب شتّى.

١٥٩

السنّة ؛ لأنّهم لا يمثّلون مدرسة مستقلة لها كيانها ومنهجها الخاص وطلاّبها، وبالتالي فلم نهتد لأيّ شيء جديد يجعلنا نطمئن بأنّنا نلتزم وصية رسول الله(صلى الله عليه وآله) في اتّباع العترة الطاهرة!

وبعد ثلاثة أو أربعة أيام قلت لحارث: سوف لن نصل إلى نتيجة في فعلنا هذا، ونحن في الواقع نضيّع وقتنا الثمين ونضيّع أنفسنا بهذه المحاولة!

قال لي حارث: وكيف ذلك؟!

قلت له: يا أخي نحن تركنا الوصية الحقيقية وذهبنا نتمسّك بمن نظن أنّه اتّبع العترة، والنبيّ(صلى الله عليه وآله) يأمرنا ويوصينا باتّباع العترة ولم يأمرنا باتّباع من نظن فيهم وبلا دليل بأنّهم يتّبعون العترة، هذا أوّلاً.

وثانياً: سوف لن نحصل على مذهب هؤلاء من خلال كتب أهل السنّة ؛ لأنّ هؤلاء كغيرهم من الشيعة ممكن أن يكونوا خائفين ويستعملون التقية مع الناس والعلماء والحكّام لا سيما وهم في وسط سنّي مستمر، فكيف سنصل إلى آرائهم الحقيقية والصحيحة والتي لو صرّحوا بها لما أصبحوا من كبار علماء وأئمة أهل السنّة؟!

وثالثاً: إن النبيّ(صلى الله عليه وآله) وعدنا فقال: (لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحقّ لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتّى يأتي أمر الله وهم على ذلك) (١) ، وهؤلاء العلماء كانوا متواجدين في فترة واحدة تقريباً ولا نعرف من قبلهم ممّن يحمل أفكارهم ولا من بعدهم، فكيف ينطبق عليهم الحديث؟ وكيف يكونون هم الفرقة الناجية؟ فهؤلاء يتواجدون في وسط السلسلة فلا أوّل لهم ولا آخر!

________________________

١- رواه البخاري (٤/١٨٧) و(٨/١٤٩و١٨٩) ومسلم (١/٩٥) و(٦/٥٢ـ٥٣) بألفاظ وطرق متعددة.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305