ثم شيعني الالباني

ثم شيعني الالباني18%

ثم شيعني الالباني مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 305

  • البداية
  • السابق
  • 305 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 68461 / تحميل: 7396
الحجم الحجم الحجم
ثم شيعني الالباني

ثم شيعني الالباني

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

محسوباً من المرّاق، فيحكم عليَّ بالردة وترك الحق، ويُسام عليَّ سوء العذاب، عن حقّ ــ بزعمهم ــ وعن استحقاق، وفعلاً قد حصل معي الكثير من ذلك فيما بعد، سَأُعرِّجُ على ذكر بعض ما فعلوه معي من تصرّفات وتهديدات وويلات في محلّه إن شاء الله(عزوجل) خالق البريات.

فترددت ــ مع كلّ هذه المخاطر والخطوب التي تنتظرني، وهذه الأجواء التي ستحيط بي، والعسر المادي والمعنوي الذي سيصيبني (١) ــ في خوض غمار هذا البحث الخطير الذي طالما حذّرني من خطورته وعدم جدواه أساتذتي وزملائي في المسجد، وأنّه قلما وصل من سلك طريقه إلى نتيجة مخالفة لما هو عليه من مذهب واعتقاد، كان قد ورثه عن الآباء والأجداد، وأنّه نادراً ما استفاد من سلك طريقه فحصل له الانتقال المنشود بعد بذل الجهد والجهاد، وبالتالي فقد تقرر عندي بأنّ بحثي هذا سوف يكون تضييعاً للعمر وللوقت والاجتهاد.

________________________

أمّا المعاناة المعنوية فلأنّ المفهوم المتعارف عند السنّة أنّ أسوأ وأكذب فرقة وأذل طائفة هم الرافضة ــ بزعمهم ــ وأفضل طريقة وأصحّها والفرقة الناجية والطائفة المنصورة هي السلفية!! فماذا سأقول إن تحوّلت من فرقة مغرورة مستعلية على سائر المسلمين لا ترى الحقّ إلاّ معها ولا ترى الباطل إلاّ في سائر الفرق الأخرى التي تخالفها وخصوصاً الشيعة! فهذه النظرة الدونية للشيعة والراسخة في الأذهان هو ما سيجعلني أشعر بالذنب والحياء إن أنا تحوّلت دون سائر الناس من السلفية إلى التشيّع فعلى الأقل سوف تقل قيمتي اجتماعياً! بعد أن كنت رأساً محترماً! يشار له بالبنان والأسبقية في هذا المضمار! وكذلك سوف أسأل نفسي دائماً وأشك في صحّة اختياري وتحوّلي لما ذكرته آنفاً ممّا رسخ في أذهاننا وما تربّينا عليه، وكذلك بالنسبة للمعاناة المادية فإنّني أعمل في بيع الكتب السلفية ولا أجيد غير ذلك، خصوصاً أنّ ذلك معروف عنّي في السوق فلا أستطيع بعد ذلك بيع كتب الشيعة أمام الجميع، لا سيما وأنّني قررت عدم مفارقة السنّة والبقاء معهم للمناصحة وتوحيد الصفوف وتقبُّل الآخر دون إعلان تشيّعي لعدم تقبّلهم مني حينها، هذا بالإضافة إلى الخوف من الأمن الصدامي! ولا أستطيع أيضاً بيع كتب السلفية بعد ذلك وأنا أقطع بأنّ أكثرها كتب ضلال.

١٢١

ولكنني ــ في نفس الوقت ــ خيرت نفسي بين الدنيا والآخرة، وبين الجنّة والنار، وبين الفوز والخسران؛ فحينئذ هانت الصعاب في نظري، وتضاءلت الخطوب في خاطري، وكان أسوتي وقدوتي في ذلك سلمان الفارسي (المحمّدي)، الذي شرّفه النبيّ(صلى الله عليه وآله) واعتبره من أهل البيت(عليهم السلام) بسبب بحثه عن الحق، واتّباعه وانقياده وتسليمه له أينما وكيفما ومع من كان، مع ما لاقاه من بيع واستعباد ومشاق، وترك للجاه والسمعة والقصور والمعابد ووراثة لآبائه السدان، فجازاه الله بالإكرام والإحسان، ورفعه وعوّضه أعلى المراتب والمنازل، فصار يشار إليه بالبنان، فكان حقّاً محمّدياً سلمان، فصار لكلّ باحث عن الحقّ عزاء وسلوان.

فبدأتُ الرحلة متوكّلاً على الله تعالى، قاصداً للبحث عن الحق بكلّ تجرّد، وتذكّرت حينها شعاراً سلفياً شيعياً "أن لا نعمل إلاّ بدليل"، وبعبارة شيعية "نحن أتباع الدليل أينما مال نميل"، وتعاهدت مع نفسي أن أتّبع الحقّ ولو كان مع المجوس أو اليهود ناهيك عن الصوفية أو الإخوان أو الشيعة، إن ثبت لي ذلك الحقّ بالدليل وحصل عندي معه الاطمئنان والتصديق، وبهذه الروح المجردة والمتجردة بدأت الرحلة لأكون منصفاً في الحكم غير مائل لجهة دون جهة، بخلاف ما كنت عليه في السابق من بذل قصارى جهدي في إيجاد الأعذار والتأويلات المقبولة وغيرها كي أصحح مذهبي ورأيي كما تعلمت ذلك من أساتذتي، ولو كانت غير مقبولة أو بعيدة أو دون دليل أو بترجيح المرجوح أو البقاء بلا جواب، لإحسان الظن بالعلماء لاعتقادي بأنّ هذا الإشكال أو ذاك قد ورد عليهم قطعاً وأجابوه حتماً، وما إلى ذلك من تبريرات وأعذار ما أنزل الله بها من سلطان، وقد تصل النوبة فيها إلى التعصّب والتقليد دون قناعة أو اطمئنان!!

١٢٢

القرار الصعب

قررت خوض هذه الرحلة بعد أن ثبت لي وجوب اتّباع أهل البيت(عليهم السلام) دون من سواهم، وبعد أن انكشفت لي حقيقة مذهب أهل السنّة وتهدّمت لديّ أهم أركانه، وسقط عندي أقوى دليل على صحّته؛ وهو اتّباع الكتاب والسنّة النبوية بنقل أيّ صحابي، وجواز الأخذ عنه لا على التعيين وبلا أي تخصيص أو استثناء أو قيد أو تأمّل في أحد منهم!! سقط من نظري عن بصيرة، وانهار كيانه باندهاش وحيرة، فسببت لي تلك الحقيقة وذلك الانكشاف صدمةً وتزلزلاً وشكّاً وعدم معرفة بكيفية التصرّف المناسب مع مثل هذه المستجدات والمفاجآت التي حصلت معي بالذات دون غيري من بين قرابة مليار مسلم على وجه هذه المعمورة، دون سابق إنذار أو توقّع أو استعداد، وهذه الصدمة جعلتني أدور في دوامة وشكوك لا أوّل لها ولا آخر، ولا مرشد لي فيها ولا ناصر غير الله، فأيّ أخٍ أستطيع التحدّث معه فيعذرني، وأيّ عالم أو أستاذ متجرّد يمكنني سؤاله واسترشاده فينفعني، وأيّ صديق يمكن أن أستسرّه فيؤمنني، فبقيت على هذه الحال من صراع وقلق وخوف من كلّ شيء حولي.

وقد يقول قائل هذه مبالغة! فأقول: لا والله، فإنّكم لو جرّبتم أو خضتم، لما قلتم ما قلتم، وما بذلك تفوّهتم، وكذلك لو تعرّض أحدكم ــ عافاه الله ــ لما تعرّضت إليه من تهديد ووعيد، لما قال ما قال، لأنّه فوق التصوّر ناهيك عن التصديق!

١٢٣

فبقيتُ في تلك الدوامة وذلك القلق أتقدّم خطوة وأرجع خطوات، فإلى من أشكو، ومن يسمعني، ولمن أعرض ما توصّلتُ إليه، ومن يطّلع على مثل هذه الأمور التي تضرّ بي ولا تنفعني ولو دنيوياً أو اجتماعياً، ناهيك عن عدم توقّعي أو تخطّري يوماً ما أن يكون الحقّ مع الشيعة؛ فالشيعة قد كانوا مشركين في نظري غير موحّدين، ولا يؤمنون بهذا القرآن، ويكفّرِون كلّ السلف والصحبان، وللأئمةِ عُبّاَد، وهم للدين هُدّام، بل هم أخطر وأشرّ على الإسلام عندنا من اليهود وأهل الصلبان، بالإضافة إلى كونهم منبوذين في العراق محارَبين، فهم يُعتَبرون مواطنين من الدرجة الثانية، فلا يحقّ لهم بناء مسجد واحد أو حسينية أو قاعة للمناسبات ولعقد اللقاءات، بل إنّ الكثير من مساجدهم قد اغتصبها بعض السلفيين دون أن يستطيع الشيعة منعهم، بل لم يستطيعوا حتّى الاعتراض عليهم، وكذلك منعوا بيع وشراء واقتناء الكتب الشيعية، بل حتّى صلاة الشيعة يصعب أداؤها في الأماكن العامّة أو الحكومية، بل حُبس الكثير من الشيعة وأُعدموا بتهمة الانتماء إلى (حزب الدعوة) لمجرد صلاتهم في المساجد، خصوصاً أثناء الحرب مع إيران، وهكذا سماع إذاعة إيران والمحاضرة الدينية للشيخ الوائلي(رحمه الله) وغيره أمر لا يتمّ إلاّ بشقِّ الأنفس والمجازفة؛ فهذا قليل من كثير ممّا يعانيه الشيعة في العراق؛ فلا أدري ما الذي سيقنعني ويدفعني لأن أكون فرداً من هذه الجماعة المظلومة المغلوبة على أمرها، المسلوبة إرادتها وحقوقها، بل المسلوبة حقوقها وهي في وطنها التي من حقّها أن تعيش بكرامة ومساواة مع غيرها، وحريتها في اختيار عقيدتها وممارساتها الدينية، ويزداد الألم حينما نعلم بأنّهم يشكّلون الأغلبية الساحقة من السكان، وأراضيهم أغنى بقاع العراق على الإطلاق، وهم يعيشون الحرمان بكلّ معانيه، ويعانون الذل والهوان بسبب تسلّط أولئك المتسلّطين المتجبّرين الطغام، وبأوامر مباشرة من سادتهم المستعمرين الأمريكان، وتواطيء الطائفيين من الجيران.

١٢٤

فما الذي سيعجبني من هذا الحال، ويدفعني للانضمام إلى صفوف أناس بهذه الصفات، وهذا البعد عن التوحيد والإنصاف، وهذا الحال من الجهل والبعد عن الحقّ، بل معاداة الدين ومحاولة الانتقام، وتمنّي هدمه بحسب عقيدتي فيهم وسابق ظنّي، أمّا من الناحية الاجتماعية فتعج بهم كلّ هذه الآلام، وكونهم فرقة لا يحقّ لهم الكلام، وطائفة محرومة ومسلوبة الحقوق بين السكان..

ولكن! من جانب آخر دلَّ عندي الدليل على أحقّيتهم، وأوجب عليّ البرهان متابعتهم؛ بحيث لا يمكن أن يهتدي من أراد الهداية إلاّ من خلالهم، لعدم وجود جماعة تَتَّبع أهل البيت(عليهم السلام) ــ الذين ثبت عندي وجوب اتّباعهم ــ سواهم، فهم ينتهلون من منهلهم ويعرفون أخبارهم وأخلاقهم ويهتمون بهم ويلتزمون حبّهم ويتمسّكون بحبلهم فلا أستطيع تجاوزهم مع امتيازهم وتميّزهم.

بخلاف غيرهم من المخالفين للشيعة، ممّن يدّعي محبّتهم ومتابعتهم وهم لا يعرفون عنهم أيّ شيء، بل لا يعرفون غير التنكيل بشيعتهم ومحاربة من يدّعي اتّباعهم وينتسب إليهم بعد رميه بالغلو فيهم، وفي نفس الوقت يقومون بتولّي أعدائهم والدفاع عمّن قتلهم وقاتلهم أو كفّرهم أو لعنهم وسبّهم وأبغضهم، مع روايتهم عمّن نصب العداء لأهل البيت(عليهم السلام) والخوارج والملوك والخلفاء بكلّ إخلاص وافتخار، ودفاع مستميت عنهم وتوثيقهم بأعلى الدرجات، وعدم مقارنة جلالتهم بأحد حتّى مع أهم علمائهم المعتدلين! فهؤلاء عندهم أوثق الناس، مع أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) يصفهم بأشنع الأوصاف وينفر عنهم ويحذّر من اتّباعهم أو التزام طريقتهم.

فقد رووا هم أنفسهم بأنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قد أثبت للمبغضين والنواصب النفاق حين أخبر عليّ(عليه السلام) عنه(صلى الله عليه وآله) بعهده إليه: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنّه عهد إلى

١٢٥

النبيّ الأمي أن لا يحبّني إلاّ مؤمن ولا يبغضني إلاّ منافق) (١) ، ورووا أيضاً بأنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) قد وصف الخوارج بأنّهم: (شرّ البرية) (٢) ، و(شرّ الخلق والخليقة) (٣) ، وأنّهم (كلاب النار) (٤) ، وأخبر(صلى الله عليه وآله) عماراً بخصوص معاوية والقاسطين وإنّه سوف (يدعوهم إلى الجنّة ويدعونه إلى النار) (٥) ، ومع ذلك يأتي أهل السنّة ويتولّونهم ويتبعونهم ويثقون برواياتهم ويأخذون الدين عنهم! مع أنّ المنافق قد وصفه النبيّ(صلى الله عليه وآله) لنا بأنّه: (إذا حدَّث كذب)، وفي نفس الوقت يتعاملون مع الشيعة الذين يسمّونهم الروافض بخلاف وعكس تعاملهم مع الخوارج والنواصب، فقد قرروا بأنّهم لا يروون عمّن يسبّ أبا بكر وعمر ولا كرامة كما يصرحون بذلك، بخلاف فعلهم مع من يبغض عليّاً! مع أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) فضح مبغضي عليّ(عليه السلام) لا غيرهم وحذّر منهم وبيّن بوضوح بأنّهم دعاة إلى النار!!

وقد أكّد الحافظ ابن حجر العسقلاني هذا المعنى تماماً ولكنّه برره بعد ذلك تبريراً بارداً يضحك الثكلى فقال كما في تهذيب التهذيب حيث قال: وقد كنتُ أستشكلُ توثيقهم الناصبي غالباً وتوهينهم الشيعة مطلقاً ولا سيما أنّ عليّاً ورد في حقّه: (لا يحبّهُ إلاّ مؤمن ولا يبغضه إلاّ منافق)، ثمّ ظهر لي في الجواب عن ذلك أنّ البُغض ها هنا مقيَّد بسببٍ هو كونه نصر النبيّ(صلى الله عليه وآله)... (٦) .

________________________

١- رواه مسلم في صحيحه (١/٦١) وغيره.

٢- الهيثمي في مجمع الزوائد (٦/٢٢٥) وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات، وأخرجه الحاكم في مستدركه (٢/١٥٤).

٣- صحيح مسلم (٣/١١٦).

٤- الترمذي (٤/٢٩٤)، وابن ماجة (١/٦١و٦٢)، والحاكم (٢/١٤٩) و(٣/٥٧١)، والهيثمي في مجمع الزوائد (٥/٢٣٠) و(٦/٢٣٠) وما بعدها، وأخرجه أيضاً البيهقي والطيالسي وأحمد وابن أبي شيبة وعبد الرزاق والحميدي وابن أبي عاصم في كتاب السنّة وغيرهم.

٥- صحيح البخاري (١/١١٥) وفيه أيضاً بلفظ: يدعوهم إلى الله ويدعونه إلى النار في (٣/٢٠٧).

٦- تهذيب التهذيب (٨/٤١١).

١٢٦

ولنأخذ مثلاً على اتّباع أهل السنّة لغير أهل البيت(عليهم السلام)، وتفضيل كلّ من هبَّ ودبَّ عليهم، فهم يأخذون دينهم ويروون السنّة المطهرة عن مثل أبي هريرة الذي رووا عنه (٥٣٧٤) حديثاً! تلك الشخصية القلقة المجهولة المشكوك فيها، والذي صحب النبيّ(صلى الله عليه وآله) أقل من سنتين! مع قوله بأنّه روى لهم جراباً من الجرابين ودلواً من الدلوين!! بينما يروون عن عليّ(عليه السلام) (٥٠) حديثاً صحيحاً فقط! وبما يتوافق مع مذهبهم طبعاً، كتحريم المتعة، وغسل الرجلين، وما إلى ذلك، مع أنّ الإمام(عليه السلام) تربّى منذ نعومة أظافره في حجر النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وعاشره وصحبه طيلة مدّة البعثة الشريفة وبقي بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله) ثلاثين سنة وهو الحافظ للقرآن، العالم بالسنّة، وأقضى الناس بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، والذي كان مستشاراً وناصحاً ومعلّماً لكلّ من طلب النصيحة منه، دون أن يسأل هو أحداً أو يحتاج إلى علم آيةٍ أو حديثٍ من أحدٍ مطلقاً.

ويروي البخاري في صحيحه الذي يعتبرونه أصحّ كتاب بعد كتاب الله تعالى عن مثل عمران بن حطان مادح قاتل عليّ وكبير الخوارج (١) ! وعن مروان بن الحكم الذي قتل طلحة غدراً (٢) والذي فعل ما فعل للاستحواذ على الخلافة والملك! وعن حريز بن عثمان كبير النواصب الذي كان يسبّ عليّاً(عليه السلام) ويلعنه على المنبر! وكان بعض النواصب يُنسبون إليه فيقولون عن الناصبي (كان حريزي المذهب) (٣) !

________________________

١- راجع سير أعلام النبلاء للذهبي (٤/٢١٤) وغيره.

٢- مجمع الزوائد للهيثمي (٩/١٥٠) وعن قيس بن أبي حازم قال رأيت مروان بن الحكم حين رمى طلحة يومئذ بسهم فوقع في عين ركبته فما زال يسيح إلى أن مات، رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

٣- راجع لمعرفة كلّ ذلك في ترجمته من تهذيب الكمال وتهذيب التهذيب والكامل في الضعفاء وميزان الاعتدال ولسانه وكلام ابن حبان في الجوزجاني السعدي الناصبي الذي يعتبرونه من أئمة الجرح والتعديل وقوله فيه (كان حريزي المذهب)!!!!! نستجير بالله تعالى.

١٢٧

وفي المقابل، يترك الرواية عن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)، ولم يخرج للإمام الحسن(عليه السلام) سيّد شباب الجنّة أيضاً ولو حديثاً واحداً!

فكيف يصح لي أن أترك من تمسّك بعليّ(عليه السلام)، وأصدّق وأتّبع من يُفضّل ويتّبع مثل هؤلاء المجاهيل؟! وآخذ ديني وعقيدتي ممّن يروي عن كعب الأحبار، ويروي عن مثل وهب وهمام ابني منبه روايات تفوح منها رائحة بني إسرائيل، خصوصاً بعد قول النبيّ الأعظم(صلى الله عليه وآله) لنا، ووصيته لمن أراد الهداية منّا، مراراً وتكراراً كما رواه جمع، منهم أبو سعيد الخدري عنه(صلى الله عليه وآله): (تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا بعدي الثقلين كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ألا وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما) (١) ، فكيف لي أن أخالف هذا الحديث الواضح الذي يصرّح بثقلهما ونفاستهما وخلافتهما لرسول الله(صلى الله عليه وآله) ووصيته بالتمسّك بهما ومراعاتهما واتّباعهما وأخذ الدين عنهما مع استمرارهما من بعده ودون انقطاع إلى يوم القيامة؟!!

أراد النبيّ(صلى الله عليه وآله) كتابة ذلك في وثيقة ــ كما استعرضته فيما مضى ــ في آخر أيام عمره الشريف ولكنهم اعترضوا على طلبه ورفضوا تقديم الكتاب له(صلى الله عليه وآله) ليكتب لهم ذلك ومنعوه من كتابة وصيته الشريفة، والتي صرّح لهم بأهميتها، فهذا النص

________________________

١- رواه بطرق وألفاظ مختلفة الكثير من أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد والمعاجم بألفاظ مختلفة ومتقاربة كمسلم والترمذي وأحمد والطبراني والحاكم والدارقطني والطحاوي في مشكل آثاره وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله وابن أبي عاصم في السنّة وصححه الألباني والحاكم والذهبي والهيثمي.

١٢٨

الذي يثبت الضلال عند المخالفة يدلّ على حصر خلافته(صلى الله عليه وآله) بالكتاب الكريم والعترة الطاهرة(عليهم السلام)؛ فلا يمكن بعد ذلك أن تختار الأمّة بصورة كيفية ومزاجية واجتهاد وإعمال رأي في قبال اختيار الله تعالى ونصّ رسوله(صلى الله عليه وآله): {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} (١) ، ومن ثمّ عمموا وجوّزوا خلافة رسول الله(صلى الله عليه وآله) وخلافة الله تعالى كما قال(عزوجل): {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (٢) لكلّ من هبّ ودبّ! بعد تخصيصه(صلى الله عليه وآله) وتحديده لخلفائه على نحو الحصر بأهل البيت(عليهم السلام) للأمن من الضلال، ومن ثمّ الهداية إلى الله وإلى الحقّ والفوز بالجنّة والنجاة من النار.

________________________

١- القصص: ٦٨.

٢- البقرة: ٣٠.

١٢٩

وجوب اتّباع أهل البيت(عليهم السلام)

في هذه الأحوال الصعبة وهذه الظروف العصيبة، وما ثبت لي فيها من فوارق جذرية بين الفريقين؛ قررت ترك ونبذ مذهب أهل السنّة عموماً، والسلفية خصوصاً، بعد أن تهدّمت وتهاوت أركانه ومعالمه وعرشه.

بدأت البحث عن مذهب أهل البيت(عليهم السلام) الذي ثبت لي وجوب اتّباعه بالحجّة والدليل والبرهان، إن أردتُ النجاة والهداية وعدم الضلال، والذي نصّ عليه رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأكّد على التمسّك به من بعده، في أكثر من مناسبة ومحفل؛ فأوصانا بالتمسّك بخليفتيه والثقلين اللذين تركهما في أمّته من بعده، وهما كتاب الله وأهل بيته من عترته (١) ، وأخبر بأنّه خَلَّف فينا بعده خلفاء شرعيين راشدين هاديين مهديين ربانيين تجب طاعتهم والتمسك بِسُنَّتِهم، مطلقاً دون قيد أو شرط، فإنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) قد أكّد على ذلك وشدد وحضّ عليه مطلقاً، بعد أن بيّن تعالى للجميع منزلتهم فأوضح لنا(وتعالى سبحانه) عصمتهم خلافاً لغيرهم، ونصّ في آية التطهير على طهارتهم وإذهاب الرجس عنهم، فأمرنا تعالى باتّباعهم وطاعتهم كما نطيعه ونطيع رسوله، وأمرنا على لسان رسوله(صلى الله عليه وآله)

________________________

١- أخرجه مسلم بتفصيل، والحاكم في مستدركه (٣/١١٠)، والترمذي وأحمد والطبراني وابن أبي عاصم والدارقطني والديلمي وابن عبد البر في جامع بيان العلم والطحاوي، وصحح بعض طرقه الحاكم ووافقه على أكثرها الذهبي، وحسنه الترمذي، وصححه الألباني (انظر السلسلة الصحيحة له: ح١٧٦١) والهيثمي وغيرهم كثير.

١٣٠

باتّباع سنّتهم والعضّ عليهم بالنواجذ بعد أن وصفهم بالخلفاء الراشدين المهديين (١) ، وأنّ عددهم اثنا عشر خليفة (٢) ، وأنّهم كعدّة نقباء بني إسرائيل (٣) ، وأنّه(صلى الله عليه وآله) أراد كتابة ذلك والنص على الإمامة ومساعدة الأمّة على قبولها وتثبيت إمامة عليّ(عليه السلام) بوصية واضحة صريحة لا لبس فيها وبمرأى ومسمع ممّن كان يرفض ذلك ويقاومه، لئلا ينكروا أو يغيرّوا أو يبدّلوا أو يتمرّدوا على الأمر الإلهي ويحاولوا عدم إمضائه وإنفاذه وتطبيقه وامتثاله بعد رحيله(صلى الله عليه وآله)، فقام رسول الله(صلى الله عليه وآله) بما قام وفعل ما فعل وبذل كلّ ما يمكنه بذله من جهد، لكي يوفّر لصحابته وأمّته من بعدهم وإلى يوم القيامة سبب هدايتهم.

فأغلق النبيّ(صلى الله عليه وآله) باب ذلك الخيار الذي يفضحهم مع أنّه سيفقد فرصة تحصيل تلك المصلحة بصورتها الكاملة، فاختار هذا الخيار الصعب بالرغم من مرجوحيته، وفضّله على الخيار الآخر وهو كتابة ذلك الكتاب رغماً عنهم، مع اعتراضهم ورفضهم القوي؛ لأنّ الأخير سيسبب رِدَّة الناس جميعاً عن الإسلام وترك التوحيد والنبوّة ناهيك عن الإمامة، فلو كان ذلك سيؤدّي إلى تعطيل الإمامة فحسب لهان الأمر، وكان إرغامهم على قبول كتابة الكتاب راجحاً من جهة إقامة الحجّة عليهم، والنبيّ(صلى الله عليه وآله) لا يعدل عن الراجح إلى المرجوح إلاّ بسبب يمسّ جوهر العقيدة والدين، فاختار النبيّ(صلى الله عليه وآله) حصول أقل الضررين واكتفى ببيان جريمتهم

________________________

١- رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة وابن أبي عاصم في السنّة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وصححه الألباني أيضاً.

٢- البخاري (٨/١٢٧)، ومسلم (٦/٣ - ٤)، وأحمد والترمذي وأبو داود والحاكم وغيرهم.

٣- رواه أحمد وأبو يعلى والبزار في مسانيدهم وحسنّه ابن حجر في فتح الباري (١٣/١٨٣) وقال عنه الهيثمي في مجمع الزوائد (٥/١٩٠): وفيه مجالد بن سعيد وثّقه النسائي وضعفه الجمهور وبقية رجاله ثقات.

١٣١

الكبرى وفساد فعلهم وخطأ اختيارهم بطردهم وقوله لهم بعد أن وصفوه بالهجر ونسبوه إلى الهذيان، وبعدما أكثروا من اللغط والاختلاف: (دعوني ــ قوموا عنّي ــ فالذي أنا فيه خير ممّا تدعونني إليه) (١) كما قرر ابن تيمية ذلك تماماً واعترف به حين قال في منهاج سنّته: (رأى النبيُّ(صلى الله عليه وآله) أنّ الكتاب في هذا الوقت لم يبق فيه فائدة ؛ لأنّهم يَشُكُّون هل أملاه مع تغيِّره بالمرض(أي: مع هجره)؟ أم مع سلامته من ذلك؟ فلا يرفع النزاع فتركه) (٢) !

وهذا الترديد بين القبول على مضض، وبين الرفض والقتال والمجابهة قد صرّح به عمر نفسه في حادثة السقيفة وبنصّه فلا يأتي أحد بعد ذلك ويقول قد افتريتم على عمر أو أنّه لا يمكن أن يفعل شيئاً من هذا القبيل، فهذا هو طبعه وهذه عقيدته! فقد قال عمر كما يروي البخاري ذلك: (فخشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا فإمّا بايعناهم على ما لا نرضى وإمّا أن نخالفهم فيكون فساد) (٣) ، فهذا التصريح منه وهذا النَفَس يتّفق مع فعلته في تلك الرزية وقوله الشنيع ؛ لأنّه عين قوله في تلك الحادثة المؤلمة تماماً؛ حيث شكك بعصمة النبيّ(صلى الله عليه وآله) وطعن في أوامره واجتهد في قبال نصّه(صلى الله عليه وآله)، فترك النبيّ(صلى الله عليه وآله) كتابة الوصية ــ لا نفس الوصية ــ ومن ثمّ لم يتمكّن من إلزامهم بها من بعده من دون أن يبقى مجال لأحد في إنكارها أو التشكيك بها أو تأويلها، ومن ثمّ ضيّعوا الهداية على الأمّة جمعاء، بحيث لم يكن ليضلَّ أحد ولو كان من الرعاع؛ ولكن قد سبق القدر والقضاء في مخالفتهم لإرادة أرحم الرحماء، هنا في يوم الرزية كما في يوم إنفاذ جيش أسامة وكما في حجّة الوداع، فكانوا من الأشقياء، وتسببوا في ضلال

________________________

١- البخاري (٣/١١١١ و١١٥٥) و(٤/ ١٦١١) ومسلم (٣/١٥٨).

٢- منهاج السنّة لابن تيمية (٦/٣١٥).

٣- البخاري (٨/٢٨).

١٣٢

الأمّة فحصل لها ما يخشى عليها من ضلال وتمزّق وانفتاق، فحرفوا الدين عن مساره فافترقت الأمّة أيّ افتراق، وأخذوا به بعيداً عن الحقّ فاختلف المسلمون وأصبحوا في فراق، وتكفيريين ومُرّاق، ففشلٌ وذهاب ريح وارتماء، فحُرِموا وحَرموا الأمّة من السموّ والارتقاء.

كلّ هذه المعاناة والمحاولات للنبيّ(صلى الله عليه وآله) تدلّ على حرصه على الأمّة وتبليغه الرسالة أعظم تبليغ، بل أقام الحجّة البالغة التي لا يجحدها ولا يشكك أحد فيها وإلى قيام الساعة، فجزاه الله عنا خير ما جازى به نبيّاً عن أمّته.

وقد بلّغ رسول الله(صلى الله عليه وآله) الرسالة وأدّى الأمانة ونصح للأمّة، ولكن البعض أبوا وأصرّوا على خلافه واجتهدوا في قبال أمره وصريح تبليغه، ففعلوا وخططوا وخالفوا إرادة الله تعالى من قبول حصر الإمامة والخلافة للنبيّ(صلى الله عليه وآله) في أهل بيته(عليهم السلام)، بعد اصطفائهم من الله تعالى وتطهيرهم بالإضافة إلى أفضليتهم الظاهرة على جميع الأمّة، والتي يعترفون هم أنفسهم بها حاشا الإمامة والخلافة للنبيّ(صلى الله عليه وآله)، كلّ ذلك لجدارتهم ولياقتهم لهذا الأمر الصعب والتكليف الرباني العسير من قيادة الناس وهدايتهم، وخلافة نبيّهم(صلى الله عليه وآله).

وهذا ليس ادّعاءً أو فهماً أو استنباطاً منّي دون دليل! وإنّما هو عين ما نصّ عليه الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) حين حذّر الصحابة، وبالتالي نبّه أمّته على ما سيحدث من بعده وما سيغيّر وما سينقلب عنه المسلمون ويجحدون من نعمة وفضل من الله تعالى عليهم قبل أن يكون تفضيلاً لأهل البيت(عليهم السلام) واصطفائهم لذلك الأمر دونهم؛ فإنّ الله تعالى وصف إمامة أهل البيت(عليهم السلام) بإكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الرب، فيا لها من نعمة قد جحدوها، ويا له من فضل كفروه، ويا له من لطف رفضوه، فحرموا منه ولم يجنوا ثماره اليانعة الطيبة.

فحرموا أنفسهم من فضل ونعمة ينبغي لهم أن يعترفوا بخسرانهم من دونها

١٣٣

في الدنيا والآخرة، ويجب عليهم أن ينتبهوا لتركهم ذلك الأمر العظيم فيعودوا إليه، ويعتذروا عن التمرّد عليه وجحده وهو بهذه المكانة والأهمية حتّى أمر الله تعالى ورسوله الكريم(صلى الله عليه وآله) بطاعتهم المطلقة والانقياد لهم ليهتدوا، كما نبّه النبيّ(صلى الله عليه وآله) على أهمية ذلك بوصفه لمن يترك إمامة وولاية أهل البيت(عليهم السلام) ولا ينقاد لها بأنّه يموت ميتة جاهلية، وأنّ من لا يتمسّك بالثقلين والخليفتين على الأمّة بعد نبيّها(صلى الله عليه وآله) فإنّه يضلّ من بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله) بلا شك ولا ريب.

فبعد أن رأيت ما بينّاه من حرصِ النبيّ(صلى الله عليه وآله) وإصراره على بيان أمر الخلفاء من بعده وجهاده ومعاناته الشديدة بتبليغهم هذا الأمر الإلهي العظيم المكلّف به من الله، وطعنهم في شخصه الشريف وعصمته ونبوّته، حيث لاقى ما لاقاه من الرادّين عليه والساخطين على أمره وحكمه الشرعي الإلهي هذا.

والذي يحتمل أنّ بعضهم ظنّ بأنّه اجتهاد شخصي من النبيّ(صلى الله عليه وآله) ورأي رآه وتحيّز وتفضيل لابن عمّه عليهم دون وجه استحقاق وفضل أو دون أمر إلهي شرعي، وإنّما كان ذلك لمجرد رغبة النبيّ(صلى الله عليه وآله) وحبّه لعليّ(عليه السلام) وترشيحه له برأيه الخاص والشخصي ــ إحساناً منّي للظن بالبعض ولكي لا نظلم أحداً ــ ولذلك قد يكون صدر منهم ما صدر فلا يدخل هذا الصنف مع المعاندين، ومع ذلك بقي(صلى الله عليه وآله) يبيّن ذلك الأمر ويحاول تطبيقه وتنفيذه بكلّ وسيلة مشروعة ومتاحة ومقدورة له وبشتّى الطرق والأساليب التي بيّنا بعضها هنا، وبكلّ عزم وإصرار ودون هوادة أو مداهنة أو تقصير أو يأس، واضعاً بين عينيه قول الله تعالى له وخطابه الشديد اللهجة معه، مبيّناً فيه عدم كون ذلك الأمر لقرابة أو رغبة شخصية منه لعليّ(عليه السلام) مهما ظنّت قريش ذلك، وإنّما هو أمر إلهي ونصّ شرعي ووجوب ديني، بل هو حكم عقلي وأصل عقائدي لا يتمّ الدين من دونه، فقال تعالى مبيّناً ذلك: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ

١٣٤

مِنَ النَّاسِ} (١) فلا يكون النبيّ(صلى الله عليه وآله) قد بلّغ تمام رسالته إلاّ بهذا الأمر الذي هو ليس منه بل من ربّه!! فيكون تبليغه ناقصاً غير تام من دون ذلك؛ ولا يعتبر حينئذ قد بلّغ الدين الذي أراده الله تعالى للأمّة، فلا يكون مبلّغاً للرسالة الحقيقية الكاملة الخاتمة، والتي بها صلاح الناس وكمالهم الذي أراده الله تعالى لهم وأحبّ أن يكونوا عليه، وشرّع ذلك الدين الخاتم الكامل المتكامل من أجل تحقيق هذه الغاية والوصول إليها، وبذلك الأمر (إمامة أهل البيت(عليهم السلام)) يؤمَن من تحريف الدين أو تأويله أو التلاعب به أو تضييعه أو ضياعه؛ لوجود قيّم معصوم عليه بصورة مستمرّة وعدم استغلال أحد للدين أو تسييسه من قبل السلطات والحكومات الغاصبة الظالمة، وبالتالي يؤمن من ضلال الأمّة واختلافها فتحصلُ الهداية العامّة للأمّة، والتي أومأ إليها رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأشار إليها وبلّغها بقوله: (إنّي تارك فيكم خليفتين كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنّهما لن يتفرقا حتّى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما) (٢) .

فرأيت بأنّ من المحتم عليّ أن أتأسّى برسول الله(صلى الله عليه وآله) حين تبليغه لهذا الأمر، وأتحمل مشاق هذا الطريق وصعوباته من باب أولى وأوجب؛ لأنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) ما فعل كلّ ذلك وأصرّ هذا الإصرار وبيّن ذلك البيان، وحذّر مَن يتركه مِن حتمية الضلال؛ إلاّ لأهمية هذا الأمر وعظمته وكونه أصلاً عقائدياً وركناً دينياً لا يتمّ الدين إلاّ به ومن خلاله.

ويشهد لذلك تحذير الله تعالى لنبيّه(صلى الله عليه وآله) من ترك تبليغه لهذا الأمر، وتهديده

________________________

١- المائدة: ٦٧.

٢- قال الهيثمي في مجمع الزوائد (١/١٧٠) ورجاله ثقات، و(٩/١٦٢): رواه أحمد وإسناده جيّد، وأخرى (١/١٧٠): رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات، وصححه الألباني في صحيح الجامع (٢٤٥٧).

١٣٥

بعدم تبليغ الرسالة أصلاً من دونه، وبيان الله تعالى لنبيّه(صلى الله عليه وآله) بأنّه معه ومؤيّده وعاصمه ممّن يخاف اعتراضهم وسخطهم وحتّى تهوّرهم وانتقامهم.

فأنا لم ولن أتعرّض لمثل ظرف رسول الله(صلى الله عليه وآله) والضغوط التي مورست عليه قطعاً، فلا يوجد حولي أناس بتلك الشراسة والدهاء، ولم يكن من حولي اليوم في مثل ظرف الأوّلين في فرصتهم الوحيدة لإمكانية اعتلائهم كرسي الخلافة وتحقيق الطموح الشخصي، والحقد والحسد والبغض لعليّ(عليه السلام) وبني هاشم، فليس السنّي مهما كان حاله كالقرشي في طموحه في كلّ ذلك وتقديم المصلحة الشخصية على الدين والاعتقاد الحقّ والاقتناع التام بالدين، فإعطاء قريش الحقّ لكلّ أحد في خلافة المسلمين بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) لم يجعله المسلم السنّي نصب عينيه مثل القرشي في زمن النبيّ(صلى الله عليه وآله) الأعظم مع أنّهم الآن سيستفيدون من ذلك أيضاً! إذْ إنّ القول بعموم الخلافة لكلّ من هبّ ودبّ تجعل طموح وأمل أيّ فرد من أفراد الأمّة مشروعاً في أن يكون يوماً ما إماماً على المسلمين وأميراً للمؤمنين! ولكن الأمر عند قريش كان أوضح وآكد منه عند أهل السنّة اليوم ممّن جاء بعدهم وأحسن الظن بهم.

فتشجّعت بذلك واطمأن قلبي له، فخضت وسلكت هذا الطريق الصعب بقوّة وسكينة، متوكّلاً على الله تعالى الذي تعهّد بهداية كلّ من جاهد فيه وطَلَبَ الوصول إليه وإلى سبله المؤدّية إلى رضوانه وقبوله، بواسطة طاعة أمره وشرعه هو لا بما يناسب هوانا وقناعتنا، فقد تعهّد الله(عزوجل) بذلك حين قال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (١) .

________________________

١- العنكبوت: ٦٩.

١٣٦

فسلكت السبيل

حينها استرجعت في ذاكرتي فضائل أمير المؤمنين(عليه السلام) خصوصاً وأهل البيت(عليهم السلام) عموماً، وصرت أراها برؤية أخرى تختلف جذرياً عن رؤيتي السابقة لها تماماً ــ إن لم أقل تناقضها حقيقة ــ فبعد أن كنت ملزماً بتأويل كلّ فضيلة لعليّ(عليه السلام) خشية تأثيرها على عقيدتي من وجوب تفضيل غيره عليه وعدالة من خالفه أو سبّه أو لعنه أو قاتله صلوات الله وسلامه عليه، أو خوفاً من تأدية ذلك إلى تقوية أو تصحيح قول الشيعة وعقيدتهم، وبالتالي مخالفة عقيدتي وأصول مذهبي.

فأصبحت بعد تحرري عن هذا الفهم الموهوم، وهذه القواعد المغلوطة المكذوبة أفهم الأمور وأراها على حقيقتها، ولا أخاف من مخالفة تلك القواعد وتلك الأسماء التي سمّيناها نحن وآباؤنا، والتي ما أنزل الله بها من سلطان.

فأصبحت دلالات الأحاديث والآيات الكريمة واضحة لي وضوح الشمس، وتعجّبت لحالي السابق حينها!! فأصبحت لا أتصوّر بأنّني كنت أفهمها فهماً آخر مخالفاً لفهمي الحالي، وكيف كنت مقتنعاً بذلك؟! بل أصبحت والله أضحك على نفسي وأستشنع قولي وفهمي السابق ولا أستسيغه أو أبرره لمن يقول به أبداً! لانكشاف الأمور لي بحمد الله وتوفيقه، حتّى أصبحت أفهم النصوص كأنّي أتلّقى الحقّ عن قلب النبيّ(صلى الله عليه وآله) وفمه الشريف مباشرة وكأنّي معه كواحد من الصحابة،

١٣٧

بحيث يخاطبني مباشرة بقوله، ويهمس في أذني وكأنّي أراه وأسمعه، وأعي ما يقول ويقصدهُ، فأفهمه على حقيقته، بخلاف ما كنت عليه في السابق، وقبل أيام فقط، من تكلّفٍ وتأويل وليّ أعناق النصوص، بل تجريدٍ للفضائل والخصائص العظيمة عن معناها وجعلها لا تدلّ على شيء البتة، نتصوّر ونصوّر النبيَّ(صلى الله عليه وآله) وكأنّه يتكلّم عن بديهيات ويوضّح واضحات، ولا يقصد بيان أيّ شيء مهم أو حكم شرعي أو تعليم إلهي، وإنّه لا همَّ له إلاّ حلِّ خلافات وفصل خصومات ونزاعات شخصية حصلت عرضاً ومصادفة بين ابن عمّه عليّ(عليه السلام) وخصومه أو مبغضيه أو المعترضين عليه أو منتقديه!!

وبالتالي فهذه الأفهام السقيمة المجردة للنصوص النبوّية عن معناها ومغزاها كما فعله ابن تيمية وورثناه عنه، بل قلبها إلى سيئات وأخطاء!! ناهيك عن تجريدها عن الفضيلة بعد الفراغ عن الردّ والإنكار والتضعيف والتكذيب بلا دليل ولا برهان!

١٣٨

شبهة أزيلت بجواب ربّاني أثلج قلبي

وبعد مطالعتي للأحاديث الشريفة في فضائل أهل البيت(عليهم السلام) وسيّدهم عليّ(عليه السلام)، راودتني بعض الشكوك وأثيرت في ذهني بعض الشبهات حول أفضلية الإمام عليّ(عليه السلام) على سائر الصحابة وأهل البيت(عليهم السلام)، بعد أن رأيت حديث النبيّ(صلى الله عليه وآله) في أفضلية سبطيه وريحانتيه من الدنيا وولديه الحسن والحسين(عليهما السلام) وهو يصفهم بقوله(صلى الله عليه وآله): (الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة) (١) ؛ ففهمت من هذا الحديث أفضليتهما(عليهما السلام) على كلّ الصحابة وأهل البيت(عليهم السلام) على الإطلاق ودون استثناء، لكون أهل الجنّة كلّهم شباب لقول النبيّ(صلى الله عليه وآله) في حديث آخر: (يدخل أهل الجنّة الجنّة: أبناء ثلاث وثلاثين في خَلق آدم وحسن يوسف وقلب أيوب) (٢) ، فإن ذلك الفهم للحديث سوف يصطدم بحقيقة لا خلاف عليها وهي أفضلية أبيهما عليّ(عليه السلام) عليهما، فإن استثنيته دون دليل فحينئذ يمكن استثناء غيره معه فلا يستقيم تفضيلهم(عليهم السلام) على من سواهم، ولا يتمّ لي الدليل في تفضيل عليّ(عليه السلام) على كلّ البشر بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)!

________________________

١- رواه أحمد والترمذي والطبراني وابن حبان والبزار والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وغيرهم؛ راجع في تفصيل تخريجه سلسلة الأحاديث الصحيحة للمحدث السلفي الألباني (ح٧٩٦) وقال في آخر تخريجه: فالحديث صحيح بلا ريب؛ بل هو متواتر كما نقله المناوي، وكذلك الزيادات التي سبق تخريجها، فهي صحيحة ثابتة. انتهى الحديث.

٢- رواه أحمد (٢/٢٩٥،٣٤٣) و(٥/٢٤٣) والترمذي (٤/٨٨) والطبراني والهيثمي في مجمع الزوائد (١٠/٣٩٨) وحسّن بعض طرقه.

١٣٩

ولكن رحمة الله تعالى وألطافه وتوفيقاته يسّرت وقوع حديث تحت أنظاري من حيث لا أحتسب حين قررت متابعة طرق هذا الحديث وألفاظه رغم علمي باتّفاق المسلمين على صحّته وشهرته، بل تواتره عندهم وعدم اطّلاعي على مخالف يضعّف أو يطعن في الحديث أبداً، فقلَّبتُ كتاب سلسلة الأحاديث الصحيحة لمحدّث العصر الشيخ السلفي الألباني ــ شيخي المفضّل حينها! ــ فاطّلعت على تخريجه المفصّل لهذا الحديث، فرأيت المفاجأة الجميلة والدواء الذي أزال ما كنت أشكو منه من شك وحيرة لفهم هذا الحديث على واقعه الظاهر والموافق لما توصّلت إليه من نتائج، وهي وجوب اتّباع أئمة أهل البيت(عليهم السلام) وكذلك أفضليتهم على سائر الصحابة، وأنّ عليّاً(عليه السلام) هو وصي رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأفضل الخلق من بعده، فرأيت الكثير من طرق الحديث تحتوي على زيادات مهمّة جدّاً تبيّن مراد النبيّ(صلى الله عليه وآله) الحقيقي من الحديث بشكل واضح وصريح ودون لبس أو شك كما عانيت من ذلك لفترة ليست بالقصيرة، وتصرّح هذه الزيادات في الحديث نفسه بأفضلية أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) على الحسن والحسين(عليهما السلام) واستثناء أبيهما(عليه السلام) من سيادتهما على جميع الأمّة، فزال اللبس واتّضح القصد وتم الفضل وبان حقّ كلّ ذي حقّ وأخذ كلّ ذي منزلة ومكانة ما يناسبه، والحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات.

فقد قال الألباني (١) بعد أن ذكر عشرة من الصحابة ورد الحديث عنهم وبطرق كثيرة منها:

١ــ وأمّا حديث ابن مسعود؛ فله عنه طريقان: ...فذكره. وفيه الزيادة: (وأبوهما خير منهما). أخرجه الحاكم (٣/١٦٧) وقال: صحيح بهذه الزيادة، ووافقه الذهبي. وأقول (والكلام كلّه للألباني): إنّما هو حسن للخلاف المعروف في عاصم".

وذكر أيضاً بعض طرقه، فقال: "٢ـ وأمّا حديث حذيفة... فقال (النبيّ(صلى الله عليه وآله)):

________________________

١- سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ المحدّث الألباني السلفي (ح٧٩٦).

١٤٠

مدّته، رمته قسيّ الفناء بنبال الموت، و أصبحت الديار منه خالية، و المساكن معطّلة، و ورثها قوم آخرون. و إنّ لكم في القرون السالفة لعبرة أين العمالقة و أبناء العمالقة أين الفراعنة و أبناء الفراعنة أين أصحاب مدائن الرّسّ الذين قتلوا النبيّين و أطفأوا سنن المرسلين، و أحيوا سنن الجبّارين أين الذين ساروا بالجيوش، و هزموا بالألوف، و عسكروا العساكر، و مدّنوا المدائن

اين عمّار

و من الخطبة السابقة نفسها: ألا إنه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلا، و أقبل منها ما كان مدبرا، و أزمع التّرحال عباد اللّه الأخيار ما ضرّ إخواننا الذين سفكت دماؤهم و هم بصفّين أن لا يكونوا اليوم أحياء يسيغون الغصص و يشربون الرّنق(١) ؟ أين إخواني الذين ركبوا الطريق و مضوا على الحقّ؟ أين عمّار؟

و أين ابن التّيهان؟ و أين ذو الشّهادتين(٢) ؟ و أين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على النيّة، و أبرد برؤوسهم إلى الفجرة(٣) ؟

____________________

(١) الرنق: الكدر.

(٢) عمار: عمار بن ياسر، و كان ممّن عذّب هو و أبوه و أخوه و أمه في بدء الدعوة.

و ابن التيهان: ابو الهيثم مالك بن التيهان، من أكابر الصحابة. ذو الشهادتين: خزيمة بن ثابت الانصاري، من الصحابة. و هؤلاء الثلاثة شهدوا صفين و استشهدوا بها.

(٣) أبرد برووسهم: أرسلت رؤوسهم مع البريد بعد قتلهم إلى البغاة للتشفّي منهم.

١٤١

الكبر و التّعصّب و البغي

من خطبة له طويلة تسمّى «القاصعة(١) »: و لا تكونوا كالمتكبّر على ابن أمّه من غير ما فضل جعله اللّه فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد، و قدحت الحميّة في قلبه من نار الغضب، و نفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر الذي أعقبه اللّه به الندامة.

فاللّه اللّه في كبر الحميّة و فخر الجاهلية، فإنه منافخ الشيطان التي خدع بها الأمم الماضية و القرون الخالية.

و لا تطيعوا الأدعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم، و أدخلتم في حقكم باطلهم، و هم أساس الفسوق اتّخذهم إبليس مطايا ضلال و جندا بهم يصول على الناس، و تراجمة ينطق على ألسنتهم استراقا لعقولكم و دخولا في عيونكم و نفثا في أسماعكم، فجعلكم مرمى نبله و موطى‏ء قدمه و مأخذ يده. فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس اللّه، و اتّعظوا بمثاوي خدودهم(٢) و مصارع جنوبهم. و استعيذوا باللّه من لواقح الكبر(٣) كما تستعيذون به من طوارق الدهر

____________________

(١) قصع فلان فلانا: حقّره. و قد سميت هذه الخطبة «القاصعة» لأن ابن أبي طالب حقّر فيها حال المتكبرين و أهل البغي.

(٢) مثاوي، جمع مثوى، بمعنى المنزل. و منازل الخدود: مواضعها من الأرض بعد الموت. و مصارع الجنوب: مطارحها على التراب.

(٣) لواقح الكبر: محدثاته في النفوس.

١٤٢

و لقد نظرت فما وجدت أحدا من العاملين يتعصّب لشي‏ء من الأشياء إلاّ عن علّة تحتمل تمويه الجهلاء أو حجّة تليط بعقول السفهاء، غيركم، فإنكم تتعصبون لأمر لا يعرف له سبب و لا علّة: أما إبليس فتعصّب على آدم لأصله، و طعن عليه في خلقته، فقال: «أنا ناريّ و أنت طينيّ» و أمّا الأغنياء من مترفة الأمم فتعصّبوا لآثار مواقع النّعم فقالوا: «نحن أكثر أموالا و أولادا و ما نحن بمعذّبين» فإن كان لا بدّ من العصبيّة فليكن تعصبكم لمكارم الخصال و محامد الأفعال و محاسن الأمور التي تفاضلت فيها المجداء و النّجداء بالأخلاق الرغيبة و الأحلام العظيمة، فتعصّبوا لخلال الحمد: من الحفظ للجوار و الوفاء بالذمام، و الطاعة للبرّ، و المعصية للكبر، و الكفّ عن البغي، و الإعظام للقتل، و الإنصاف للخلق، و الكظم للغيظ، و اجتناب الفساد في الأرض.

و احذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات(١) بسوء الأفعال و ذميم الأعمال، فتذكّروا في الخير و الشرّ أحوالهم و احذروا أن تكونوا أمثالهم.

أ لا و قد أمرني اللّه بقتال أهل البغي و النكث(٢) و الفساد في الأرض: فأمّا الناكثون فقد قاتلت. و أما القاسطون فقد جاهدت(٣) . و أمّا المارقة

____________________

(١) المثلات: العقوبات.

(٢) النكث: نقض العهد.

(٣) القاسطون: الجائرون على الحق.

١٤٣

فقد دوّخت. و أمّا شيطان الرّدهة(١) فقد كفيته بصعقة سمعت لها وجبة قلبه و رجّة صدره. و بقيت بقيّة من أهل البغي، و لئن أذن اللّه في الكرّة عليهم لأديلنّ منهم(٢) إلاّ ما يتشذّر في أطراف البلاد تشذّرا(٣) .

و إني لمن قوم لا تأخذهم في اللّه لومة لائم: سيماهم سيما الصدّيقين، و كلامهم كلام الأبرار، عمّار الليل و منار النهار(٤) لا يستكبرون و لا يعلون و لا يغلّون(٥) و لا يفسدون: قلوبهم في الجنان و أجسادهم في العمل.

الدّنيا تطوى من خلفكم

من عهد له إلى محمد بن أبي بكر حين قلّده مصر. و فيه تذكير بأحوال الدنيا و ترغيب للولاة في أن يعدلوا و يرحموا لئلاّ يعذّبوا، و ذلك بأروع ما تجري به ريشة العبقرية من بيان: و أنتم طرداء الموت: إن أقمتم له أخذكم، و إن فررتم منه أدرككم،

____________________

(١) الردهة: النقرة في الجبل قد يجتمع فيها. و شيطانها ذو الثدية من رؤساء الخوارج وجد مقتولا في ردهة.

(٢) لأديلن منهم: لأمحقننهم ثم أجعل الدولة لغيرهم.

(٣) يتشذّر: يتفرق، أي: لا يفلت مني إلاّ من يتفرّق في أطراف البلاد.

(٤) عمار، جمع عامر، أي: يعمرون الليل بالسهر للفكر و العبادة.

(٥) يغلون. يخونون.

١٤٤

و هو ألزم لكم من ظلّكم الموت معقود بنواصيكم(١) ، و الدنيا تطوى من خلفكم، فاحذروا نارا قعرها بعيد، و حرّها شديد، و عذابها جديد، ليس فيها رحمة و لا تسمع فيها دعوة

دستور الولاة

من رسالة كتبها للأشتر النخعي لما ولاّه على مصر و أعمالها في عهد خلافته. و هي من جلائل رسائله و وصاياه، و أجمعها لقوانين المعاملات المدنية و الحقوق العامة و التصرّفات الخاصة في نهج الإمام. كما انها من أروع ما أنتجه العقل و القلب جميعا في تقرير علاقة الحاكم بالمحكوم، و في مفهوم الحكومة، حتى أن الإمام سبق عصره أكثر من ألف سنة بجملة ما ورد في هذه الرسالة الدستور، من إشراق العقل النيّر و القلب الخيّر.

ثم اعلم يا مالك أني قد وجّهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل و جور، و أن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، و يقولون فيك ما كنت تقول فيهم، و إنّما يستدلّ على الصالحين بما يجري اللّه لهم على ألسن عباده، فليكن أحبّ الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك و شحّ بنفسك عمّا لا يحلّ لك

____________________

(١) النواصي، جمع ناصية، و هي: مقدّم شعر الرأس.

١٤٥

فإنّ الشّحّ بالنفس الإنصاف منها في ما أحبّت أو كرهت(١) . و أشعر قلبك الرحمة للرعية، و المحبّة لهم، و اللطف بهم. و لا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا تغنتم أكلهم فإنهم صنفان: إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل(٢) ، و تعرض لهم العلل، و يؤتى على أيديهم في العمد و الخطأ(٣) ، فأعطهم من عفوك و صفحك مثل الذي تحبّ أن يعطيك اللّه من عفوه و صفحه، فإنك فوقهم و والي الأمر عليك فوقك، و اللّه فوق من ولاّك و لا تندمنّ على عفو، و لا تبجحنّ بعقوبة و لا تسرعنّ إلى بادرة وجدت منها مندوحة(٤) .

أنصف اللّه و أنصف الناس من نفسك و من خاصّة أهلك و من لك فيه هوى من رعيّتك(٥) ، فإنك إلاّ تفعل تظلم و من ظلم عباد اللّه كان اللّه خصمه دون عباده. و ليس شي‏ء أدعى إلى تغيير نعمة اللّه و تعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإنّ اللّه سميع دعوة المضطهدين و هو للظالمين بالمرصاد.

و ليكن أحبّ الأمور إليك أوسطها في الحقّ، و أعمّها في العدل و أجمعها لرضا الرعية، فإنّ سخط العامّة يجحف برضا الخاصة،

____________________

(١) الشح: البخل. يقول: انتصف من نفسك في ما أحبت و كرهت، أي ابخل بها و لا تمكّنها من الاسترسال في ما أحبّت، و احرص على صفائها كذلك بأن تحملها على ما تكره إن كان ذلك في الحق.

(٢) يفرط: يسبق. الزلل: الخطأ.

(٣) يؤتى على أيديهم: تأتي السيئات على أيديهم.

(٤) بجح بالشي‏ء: فرح به. البادرة: ما يبدر من الحدة عند الغضب في قول أو فعل.

المندوحة: المتّسع الذي يمكّن المرء من التخلّص.

(٥) من لك فيه هوى، أي: من تميل اليه ميلا خاصا.

١٤٦

و إن سخط الخاصّة يغتفر مع رضا العامّة(١) . و ليس أحد من الرعيّة أثقل على الوالي مؤونة في الرّخاء و أقلّ معونة له في البلاء، و أكره للإنصاف، و أسأل بالإلحاف(٢) ، و أقلّ شكرا عند الإعطاء، و أبطأ عذرا عند المنع، و أضعف صبرا عند ملمّات الدهر، من أهل الخاصة(٣) .

أطلق عن الناس عقدة كلّ حقد، و اقطع عنك سبب كلّ وتر(٤) ، و لا تعجلنّ إلى تصديق ساع فإنّ الساعي غاشّ و إن تشبّه بالناصحين.

إن شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا، و من شركهم في الآثام، فلا يكوننّ لك بطانة(٥) فإنهم أعوان الأثمة و إخوان

____________________

(١) يحجف: يذهب. يقول للحاكم: إذا رضي عليك الخاصة و سخط عليك العامة، فلا ينفعك رضا أولئك مع سخط هؤلاء. أما إذا رضي عليك العامة، و هؤلاء لا يرضيهم إلا العدل، فسخط الخاصة مغتفر.

(٢) الإلحاف: الإلحاح.

(٣) يقول: ليس هنالك من هم أثقل على الحاكم، و أقل نفعا له و أكثر ضررا عليه من خاصته و المتقربين اليه من ذوي الثروة و الوجاهة يلازمونه و يلحون عليه في قضاء حاجاتهم و يرهقونه بالمسائل و الشفاعات و يغنمون عن سبيله المغانم و يثرون على حساب العامة، ثم يجحدون كل ذلك و لا يساندون الحاكم أو الجمهور في نائبة أو أزمة. فهم لذلك فئة يجب على الحاكم الصالح أن ينبذها و يعتمد على العامة دون سواهم.

(٤) الوتر: العداوة: يقول: احلل عقدة الأحقاد من قلوب الناس بالعدل فيهم و حسن السيرة معهم. و اقطع السبب في عداء الناس لك بالإحسان اليهم قولا و عملا.

(٥) البطانة: الخاصة.

١٤٧

الظّلمة(١) ، و أنت واجد منهم خير الخلف ممّن لم يعاون ظالما على ظلمه و لا آثما على إثمه. ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمرّ الحق لك(٢) و أقلّهم مساعدة في ما يكون منك ممّا كره اللّه لأوليائه واقعا [ذلك] من هواك حيث وقع. و الصق بأهل الورع و الصدق ثم رضهم على أن لا يطروك و لا يبجحوك بباطل لم تفعله(٣) .

و لا يكوننّ المحسن و المسي‏ء عندك بمنزلة سواء، فإنّ في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، و تدريبا لأهل الإساءة على الإساءة و ألزم كلاّ منهم ما ألزم نفسه(٤) و اعلم أنه ليس شي‏ء بأدعى إلى حسن ظنّ راع برعيّته من إحسانه إليهم(٥) و تخفيفه المؤونات عنهم، و ترك استكراهه إياهم على ما ليس قبلهم(٦) ، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به

____________________

(١) الأثمة: جمع آثم. الظلمة: جمع ظالم.

(٢) آثرهم: أفضلهم. مرارة الحق. صعوبته. يقول: ليكن أفضل وزرائك و أعوانك في نظرك أصدقهم و أكثرهم قولا بالحق مهما كان الحق صعبا على نفسك.

(٣) رضهم: عوّدهم. يطروك: يطنبوا في مدحك. يبجحوك بباطل لم تفعله: يفرّحوك بأن ينسبوا اليك عملا عظيما لم تكن فعلته.

(٤) أي: أحسن الى المحسن بما ألزم نفسه، و هو استحقاق الإحسان. و عاقب المسي‏ء بما ألزم نفسه كذلك، و هو استحقاق العقاب.

(٥) ليس هنالك ما يحمل الوالي على الاطمئنان إلى أن قلوب الناس معه كالاحسان اليهم و العدل فيهم و تخفيف الاثقال عن كواهلهم. و هم في غير هذه الحال أعداء له ينتهزون الفرصة للثورة عليه، و إذ ذاك يسوء ظنه بهم.

(٦) قبلهم، بكسر ففتح: عندهم.

١٤٨

حسن الظنّ برعيّتك، و إنّ أحقّ من حسن ظنّك به لمن حسن بلاؤك عنده، و إنّ أحقّ من ساء ظنّك به لمن ساء بلاؤك عنده(١) .

و أكثر مدارسة العلماء و مناقشة الحكماء(٢) في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، و إقامة ما استقام به الناس قبلك.

ولّ من جنودك أنصحهم في نفسك للّه و لرسوله و لإمامك، و أنقاهم جيبا و أفضلهم حلما: ممّن يبطى‏ء عن الغضب، و يستريح إلى العذر، و يرأف بالضعفاء، و ينبو على الأقوياء(٣) و ممن لا يثيره العنف، و لا يقعد به الضعف.

و إنّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، و ظهور مودّة الرعية، و إنه لا تظهر مودّتهم إلا بسلامة صدورهم، و لا تصحّ نصيحتهم إلاّ بحيطتهم على ولاة الأمور و قلّة استثقال دولهم(٤) .

ثم اعرف لكلّ امرى‏ء منهم ما أبلى، و لا تضيفنّ بلاء امرى‏ء إلى

____________________

(١) البلاء: الصنع، حسنا أو سيئا.

(٢) المنافثة: المحادثة.

(٣) ينبو: يشتدّ و يعلو. يأمر الحاكم بأن يولّي من جنوده من لا يضعف أمام الأقوياء و الأثرياء و النافذين بل يعلو عليهم و يشتدّ ليمنعهم من ظلم الضعفاء و الفقراء و البسطاء.

(٤) الحيطة، بكسر الحاء: مصدر «حاط» بمعنى: صان و حفظ، يقول: ان مودة الرعية لا تظهر و نصيحتهم لا تصحّ إلا بقدر ما يرغبون في المحافظة على ولاتهم و يحرصون على بقائهم و لا يستثقلون مدة حكمهم.

١٤٩

غيره(١) ، و لا يدعونّك شرف امرى‏ء إلى أن تعظّم من بلائه ما كان صغيرا، و لا ضعة امرى‏ء إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما.

ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك(٢) ممّن لا تضيق به الأمور و لا تمحكه الخصوم(٣) و لا يتمادى في الزلّة، و لا تشرف نفسه على طمع، و لا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه(٤) ، و أوقفهم في الشّبهات(٥) و آخذهم بالحجج، و أقلّهم تبرّما بمراجعة الخصم، و أصبرهم على تكشّف الأمور، و أصرمهم عند اتّضاع الحق، ممن لا يزدهيه إطراء، و لا يستميله إغراء، و أولئك قليل. ثم أكثر تعاهد قضائه(٦) و أفسح له في البذل ما يزيل علّته و تقلّ معه حاجته الى الناس و أعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصّتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك.

ثم انظر في أمور عمّالك فاستعملهم اختبارا، و لا تولّهم محاباة

____________________

(١) لا تنسبنّ صنيع امرى‏ء إلى غيره.

(٢) انتقال من الكلام في الجند الى الكلام في القضاة.

(٣) تمحكه: تغضبه.

(٤) لا يكتفي بما يبدو له بأول فهم و أقربه، بل يتأمل و يدرس حتى يأتي على أقصى الفهم و أدناه من الحقيقة.

(٥) الشبهات، جمع شبهة، و هي ما لا يتضح الحكم فيها بالنص، فينبغي العمل لردّ الحادثة التي ينظر فيها إلى أصل صحيح.

(٦) أي: تتبع قضاءه بالاستكشاف و التعرف.

١٥٠

و أثرة فإنهم جماع من شعب الجور و الخيانة(١) . ثم تفقّد أعمالهم و ابعث العيون(٢) من أهل الصدق و الوفاء عليهم، فإنّ تعاهدك في السرّ لأمورهم حدوة لهم(٣) على استعمال الأمانة و الرفق بالرعية. و تحفّظ من الأعوان فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه(٤) عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا فبسطت عليه العقوبة في بدنه، و أخذته بما أصاب به من عمله، ثم نصبته بمقام المذلّة، و وسمته بالخيانة، و قلّدته عار التهمة.

و تفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإنّ في صلاحه و صلاحهم صلاحا لمن سواهم. و لا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأنّ الناس كلّهم عيال على الخراج و أهله. و ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأنّ ذلك لا يدرك إلاّ بالعمارة. و من طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد و أهلك العباد و لم يستقم أمره إلاّ قليلا.

و لا يثقلنّ عليك شي‏ء خفّفت به المؤونة عنهم فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك.

و إن العمران محتمل ما حمّلته، و إنما يؤتى خراب الأرض من

____________________

(١) أي: ولّهم الأعمال بالاختبار و التجربة، لا ميلا منك لمعاونتهم و لا استبدادا منك برأيك، فإن المحاباة و الأثرة يجمعان الظلم و الخيانة معا.

(٢) العيون: الرقباء.

(٣) حدوة: سوق و حثّ.

(٤) اجتمعت عليها أخبار عيونك: اتفقت عليها أخبار رقبائك.

١٥١

إعواز أهلها، و إنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع(١) و سوء ظننهم بالبقاء و قلّة انتفاعهم بالعبر.

ثم انظر في حال كتّابك فولّ على أمورك خيرهم، ممّن لا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور، فإنّ الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل.

ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك و استنامتك(٢) و حسن الظنّ منك، فإنّ الرجال يتعرّفون لفراسات الولاة بتصنّعهم و حسن خدمتهم(٣) ، و ليس وراء ذلك من النصيحة و الأمانة شي‏ء. و مهما كان في كتّابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته(٤) .

ثم استوص بالتجّار و ذوي الصّناعات و أوص بهم خيرا: المقيم منهم و المضطرب بماله(٥) ، فإنهم موادّ المنافع و أسباب المرافق، و تفقّد أمورهم بحضرتك و في حواشي بلادك. و اعلم مع ذلك أنّ في كثير منهم ضيقا فاحشا و شحّا قبيحا و احتكارا للمنافع و تحكّما في البياعات، و ذلك باب مضرّة للعامّة و عيب على الولاة، فامنع من الاحتكار فإن رسول اللّه صلى

____________________

(١) إشراف انفس الولاة على الجمع: تطلّعهم الى جمع المال و ادّخاره لأنفسهم طمعا و جشعا.

(٢) الفراسة: قوة الظن و إدراك الباطن من النظر في الظاهر. الاستنامة: الاطمئنان إلى حسن الرأي. أي: لا يكن اختيارك للكتاب متأثرا بميلك الخاص و فراستك التي قد تخطى‏ء.

(٣) أي يخدمون الولاء بما يطيب لهم توسّلا إلى حسن ظنّ هؤلاء بهم.

(٤) إذا تغابيت عن عيب في كتابك كان ذلك العيب لاصقا بك.

(٥) المتردد بأمواله بين البلدان.

١٥٢

اللّه عليه و سلّم منع منه. و ليكن البيع بيعا سمحا: بموازين عدل، و أسعار لا تجحف بالفريقين من البائع و المبتاع(١) فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكّل به و عاقبه في غير إسراف(٢) .

ثم يتحدّث الإمام في رسالته هذه إلى مالك الأشتر عن الطققة المعوزة فيقول: و احفظ للّه ما استحفظك من حقّه فيهم، و اجعل لهم قسما من بيت مالك فإنّ للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، و كلّ قد استرعيت حقّه، فلا يشغلنّك عنهم بطر(٣) فإنك لا تعذر بتضييعك التافه(٤) لإحكامك المهمّ، فلا تشخص همّك عنهم(٥) و لا تصعّر خدّك لهم(٦) و تفقّد أمور من لا يصل إليك منهم ممّن تقتحمه العيون(٧) و تحقره الرجال، فإنّ هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم. و تعهّد

____________________

(١) المبتاع: المشتري.

(٢) قارف: خالط. الحكرة: الاحتكار. نكل به: أوقع به العذاب عقوبة له. يقول: من احتكر بعد النهي عن الاحتكار عاقبه لكن من غير إسراف في العقوبة يتجاوز عن حد العدل فيها.

(٣) البطر: طغيان النعمة.

(٤) يقول: لا عذر لك بإهمالك القليل إذا أحكمت الكثير.

(٥) لا تشخص همك عنهم: لا تصرف همك عنهم.

(٦) صعّر خده: أماله عن النظر إلى الناس تهاونا و كبرا.

(٧) تقتحمه العيون: تكره أن تنظر اليه احتقارا.

١٥٣

أهل اليتم و ذوي الرقّة في السن(١) ممّن لا حيلة له، و لا ينصب للمسألة نفسه، و ذلك على الولاة ثقيل، و الحقّ كلّه ثقيل و اجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرّغ لهم فيه شخصك، و تجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه للّه الذي خلقك، و تقعد عنهم جندك و أعوانك(٢) من أحراسك و شرطك حتى يكلّمك متكلّمهم غير متتعتع(٣) فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول في غير موطن(٤) : «لن تقدّس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القويّ غير متتعتع» ثم احتمل الخرق منهم و العيّ(٥) و نحّ عنهم الضيق و الأنف(٦) .

ثم أمور من أمورك لا بدّ لك من مباشرتها: منها إجابة عمّالك بما يعيا عنه كتّابك. و منها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك بما تحرج به صدور أعوانك(٧) ، و أمض لكلّ يوم عمله فإنّ لكلّ يوم ما فيه.

____________________

(١) ذوو الرقة في السن: المتقدمون فيه.

(٢) أي: تأمر بأن يقعد عنهم جندك و أعوانك و بألا يتعرضوا لهم.

(٣) التعتعة في الكلام: التردد فيه من عجز و عيّ، أو من خوف.

(٤) في مواطن كثيرة.

(٥) الخرق: العنف. العي: العجز عن النطق. أي: لا تضجر من هذا و لا تغضب من ذاك.

(٦) الأنف: الاستنكاف و الاستكبار.

(٧) تحرج: تضيق. يقول: إن الأعوان تضيق صدورهم بتعجيل الحاجات، و يحبون المماطلة في قضائها، استجلابا للمنفعة أو إظهارا للجبروت.

١٥٤

و لا تطوّلنّ احتجابك عن رعيّتك، فإنّ احتجاب الولاة عن الرعيّة شعبة من الضيق و قلّة علم بالأمور. و الاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير و يعظم الصغير، و يقبح الحسن و يحسن القبيح، و يشاب الحقّ بالباطل. و إنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، و ليست على الحقّ سمات(١) تعرف بها ضروب الصدق من الكذب، و إنما أنت أحد رجلين: إمّا امرؤ سخت نفسه بالبذل في الحق ففيم احتجابك(٢) من واجب حقّ تعطيه أو فعل كريم تسديه؟ أو مبتلى بالمنع فما أسرع كفّ الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك(٣) ، مع أنّ أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤونة فيه عليك من شكاة مظلمة أو طلب إنصاف في معاملة.

ثم إنّ للوالي خاصّة و بطانة فيهم استئثار و تطاول، و قلّة إنصاف في معاملة، فاحسم مادّة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال(٤) و لا تقطعنّ لأحد من حاشيتك و حامّتك قطيعة(٥) و لا يطمعنّ منك في اعتقاد عقدة تضرّ بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على

____________________

(١) سمات: علامات.

(٢) لأي سبب تحتجب عن الناس في أداء حقهم، أو في عمل تمنحهم إياه؟

(٣) يقول: و إن قنط الناس من قضاء مطالبهم منك أسرعوا الى البعد عنك، فلا حاجة للاحتجاب.

(٤) احسم: اقطع. يقول: اقطع مادة شرورهم عن الناس بقطع أسباب تعدّيهم، و إنما يكون ذلك بالأخذ على أيديهم و منعهم من التصرّف في شؤون العامة.

(٥) الاقطاع: المنحة من الأرض. القطيعة: الممنوح منها. الحامة، كالطّامة: الخاصة و القرابة. الاعتقاد: الامتلاك. العقدة: الضيعة.

١٥٥

غيرهم فيكون مهنأ ذلك(١) لهم دونك، و عيبه عليك في الدنيا و الآخرة.

و ألزم الحقّ من لزمه من القريب و البعيد، و كن في ذلك صابرا محتسبا، واقعا ذلك من قرابتك و خاصّتك حيث وقع، و ابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فإنّ مغبّة ذلك محمودة(٢) .

و إن ظنّت الرعيّة بك حيفا فأصحر(٣) لهم بعذرك، و اعدل عنك ظنونهم بإصحارك فإنّ في ذلك رياضة منك لنفسك(٤) و رفقا برعيّتك و إعذارا(٥) تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق.

و لا تدفعنّ صلحا دعاك إليه عدوّك و للّه فيه رضا، فإنّ في الصلح دعة لجنودك و راحة من همومك و أمنا لبلادك. و إن عقدت بينك و بين عدوّك عقدة أو ألبسته منك ذمّة فحط عهدك بالوفاء و ارع ذمّتك بالأمانة و اجعل نفسك جنّة دون ما أعطيت(٦) و لا تغدرنّ بذمّتك و لا تخيسنّ بعهدك

____________________

(١) المهنأ: المنفعة الهنيئة.

(٢) المغبة: العاقبة، يقول: إن إلزام الحق لمن لزمهم، و إن ثقل على الوالي و عليهم، محمود العاقبة يحفظ الدولة.

(٣) الحيف: الظلم. أصحر بهم: ابرز لهم.

(٤) رياضة منك لنفسك: تعويدا لنفسك على العدل.

(٥) الإعذار: تقديم العذر أو إبداؤه.

(٦) أصل معنى الذمة: وجدان مودع في جبلة الانسان ينبهه لرعاية حق ذوي الحقوق و يدفعه لأداء ما يجب عليه منها، ثم أطلقت على معنى العهد. الجنة: الوقاية.

يقول: حافظ بروحك على ما أعطيت من العهد.

١٥٦

و لا تختلنّ(١) عدوّك. و لا تعقد عقدا تجوّز فيه العلل(٢) و لا تعوّلنّ على لحن قول بعد التأكيد و التوثقة، و لا يدعونّك ضيق أمر لزمك فيه عهد اللّه إلى طلب انفساخه بغير الحقّ(٣) .

و لا تقوّينّ سلطانك بسفك دم حرام، فإنّ ذلك ممّا يضعفه و يوهنه بل يزيله و ينقله، و لا عذر لك عند اللّه و لا عندي في قتل العمد و إيّاك و المنّ على رعيّتك بإحسانك، أو التزيّد في ما كان من فعلك(٤) أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإنّ المنّ يبطل الإحسان، و التزيّد يذهب بنور الحق، و الخلف يوجب المقت عند اللّه و الناس.

و إياك و العجلة بالأمور قبل أوانها، أو التسقّط فيها عند إمكانها(٥) أو الوهن عنها إذا استوضحت. فضع كلّ أمر موضعه، و أوقع كلّ أمر موقعه.

____________________

(١) خاس بعهده: خانه و نقضه. الختل: الخداع.

(٢) العلل: جمع علة و هي في النقد و الكلام بمعنى ما يصرفه عن وجهه و يحوّله الى غير المراد، و ذلك يطرأ على الكلام عند إبهامه و عدم صراحته.

(٣) لحن القول: ما يقبل التوجيه كالتورية و التعريض. يقول: إذا ريت ثقلا من التزام العهد فلا تركن إلى لحن القول لتتملص منه، بل خذ بأصرح الوجوه لك و عليك.

(٤) التزيّد: إظهار الزيادة في الأعمال و المبالغة في وصف الواقع منها في معرض الافتخار.

(٥) التسقط: يريد به هنا: التهاون.

١٥٧

و إياك و الاستئثار بما الناس فيه أسوة(١) ، و التغابي عما تعنى به مما قد وضح للعيون، فإنه مأخوذ منك لغيرك، و عمّا قليل تنكشف عنك أغطية الأمور و ينتصف منك للمظلوم. إملك حميّة أنفك(٢) و سورة حدّك و سطوة يدك و غرب لسانك(٣) و احترس من كلّ ذلك بكفّ البادرة(٤) و تأخير السطوة حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار.

و الواجب عليك أن تتذكّر ما مضى لمن تقدّمك من حكومة عادلة أو سنّة فاضلة، و تجتهد لنفسك في اتّباع ما عهدت إليك في عهدي هذا، و استوثقت به من الحجّة لنفسي عليك، لكي لا تكون لك علّة عند تسرّع نفسك إلى هواها. و أنا أسأل اللّه أن يوفّقني و إياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح اليه و إلى خلقه(٥) .

____________________

(١) احذر أن تخصّ نفسك بشي‏ء تزيد به عن الناس، و هو مما تجب فيه المساواة من الحقوق العامة.

(٢) أي: أملك نفسك عند الغضب.

(٣) السورة: الحدة: و الحد: البأس. و الغرب: الحد، تشبيها للسان بحدّ السيف و نحوه.

(٤) البادرة: ما يبدر من اللسان عند الغضب، و إطلاق اللسان يزيد الغضب اتقادا، و السكون يطفى‏ء من لهبه.

(٥) يريد من العذر الواضح: العدل، فإنه عذر لك عند من قضيت عليه، و عذر عند اللّه في من أجريت عليه عقوبة أو حرمته من منفعة.

١٥٨

حدود الضّريبة

من وصية كان الإمام يكتبها لمن يستعمله على الصدقات، و هي تزخر بحنان الحاكم الأب على أبنائه، و تصلح لأن تدخل في دستور الدولة المثالية التي يحلم بها صفوة الخلق إذا قدمت على الحيّ فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض إليهم بالسكينة و الوقار حتى تقوم بينهم فتسلّم عليهم، و لا تخدج بالتحية لهم(١) ، ثم تقول: عباد اللّه، أرسلني اليكم وليّ اللّه و خليفته لآخذ منكم حقّ اللّه في أموالكم، فهل للّه في أموالكم من حقّ فتؤدّوه إلى وليّه؟

فإن قال قائل: لا فلا تراجعه. و إن أنعم لك منعم(٢) فانطلق معه من غير أن تخيفه و توعده أو تعسفه أو ترهقه(٣) فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضّة. فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلاّ بإذنه. فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلّط عليه و لا عنيف به، و لا تنفّرنّ بهيمة و لا تفزّعنّها و لا تسوءنّ صاحبها فيها. و اصدع المال صدعين(٤) ثم خيّره:

____________________

(١) أخدجت السحابة: قلّ مطرها.

(٢) أنعم لك منعم، أي: قال لك: نعم.

(٣) تعسفه: تأخذه بشدة. ترهقه: تكلفه ما يصعب عليه.

(٤) أي: اقسمه قسمين.

١٥٩

فإذا اختار فلا تعرّضنّ لما اختاره. فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحقّ اللّه في ماله، فاقبض حقّ اللّه منه. فإن استقالك فأقله(١) ، ثم اخلطهما، ثم اصنع مثل الذي صنعت أولا حتى تأخذ حق اللّه في ماله.

السفهاء و التجار

من كتاب بعث به الإمام الى أهل مصر مع مالك الاشتر لما ولاّه إمارتها: إني و اللّه لو لقيتهم واحدا و هم طلاع الأرض كلّها(٢) ما باليت و لا استوحشت. و إني من ضلالهم الذي هم فيه و الهدى الذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسي و يقين من ربّي، و لكني آسى(٣) أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها و فجّارها فيتّخذوا مال اللّه دولا و عباده خولا(٤) و الصالحين حربا و الفاسقين حزبا، فلو لا ذلك ما أكثرت تأليبكم و تأنيبكم، و جمعكم و تحريضكم

____________________

(١) أي: فإن ظنّ في نفسه سوء الاختيار و أنّ ما أخذت منه من الزكاة اكرم مما في يده، و طلب الإعفاء من هذه القسمة، فاعفه منها، و اخلط، و أعد القسمة.

(٢) الطلاع: مل‏ء الشي‏ء. يقول: لو كنت واحدا و هم يملأون الأرض للقيتهم غير مبال بهم. و الضمير يعود هنا على خصومه و محاربيه من وجهاء ذلك الزمان.

(٣) آسى: أحزن.

(٤) دولا، جمع دولة «بالضم»: أي شيئا يتداولونه بينهم و يتصرفون به في غير حق اللّه. الخول: العبيد.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305