اعلام الهداية الإمام الحسن العسكري (ع)

اعلام الهداية  الإمام الحسن العسكري (ع)18%

اعلام الهداية  الإمام الحسن العسكري (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام بن الحسن بن علي العسكري عليه السلام
الصفحات: 220

اعلام الهداية الإمام الحسن العسكري (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 220 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124333 / تحميل: 8198
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية  الإمام الحسن العسكري (ع)

اعلام الهداية الإمام الحسن العسكري (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أعلام الهداية

الإمام الحسن بن علي العسكريعليه‌السلام

المجمع العالمي لأهل البيتعليهم‌السلام

قم المقدسة

١

اسم الكتاب: أعلام الهداية(ج١٣) الإمام الحسن بن علي العسكريعليه‌السلام .

المؤلف: لجنة التأليف.

الموضوع:كلام وتاريخ.

الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيتعليهم‌السلام .

الطبعة الأولى: ١٤٢٢ هـ ق.

الطبعة الثانية: ١٤٢٥ هـ ق.

الطبعة الثالثة: ١٤٢٧ هـ ق.

المطبعة: ليلى.

الكمية: ٥٠٠٠.

isbn: ٩٦٤- ٥٦٨٨-٢٩-٩

حقوق الطبع والترجمة محفوظة للمجمع العالمي لأهل البيتعليهم‌السلام

www.ahl-ul-bayt-org

٢

أهل البيت في القرآن الكريم

( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً )

الأحزاب: ٣٣ / ٣٣

أهل البيت في الُسنّة النبويّة

(إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً)

(الصحاح والمسانيد)

٣

المقدمة

الحمد لله الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثم هدى، ثم الصلاة والسلام على من اختارهم هداةً لعباده، لا سيَّما خاتم الأنبياء وسيّد الرسل والأصفياء أبو القاسم المصطفى محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى آله الميامين النجباء.

لقد خلق الله الإنسان وزوّده بعنصري العقل والإرادة، فبالعقل يبصر ويكتشف الحقّ ويميّزه عن الباطل، وبالإرادة يختار ما يراه صالحاً له ومحقّقاً لأغراضه وأهدافه.

وقد جعل الله العقل المميِّز حجةً له على خلقه، وأعانه بما أفاض على العقول من معين هدايته ; فإنّه هو الذي علّم الإنسان ما لم يعلم، وأرشده إلى طريق كماله اللائق به، وعرّفه الغاية التي خلقه من أجلها، وجاء به إلى هذه الحياة الدنيا من أجل تحقيقها.

وأوضح القرآن الحكيم بنصوصه الصريحة معالم الهداية الربّانية وآفاقها ومستلزماتها وطرقها، كما بيّن لنا عللها وأسبابها من جهة، وأسفر عن ثمارها ونتائجها من جهة أخرى.

قال تعالى:

( قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ) (الأنعام (٦): ٧١).

( وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (البقرة (٢): ٢١٣).

( وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ) (الأحزاب (٣٣): ٤).

( وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (آل عمران (٣): ١٠١).

( قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إلى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (يونس (١٠): ٣٥).

( وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إلى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) (سبأ (٣٤): ٦).

( ومن أضلّ ممن اتّبع هواه بغير هدىً من الله ) (القصص (٢٨):٥٠).

٤

فالله تعالى هو مصدر الهداية. وهدايته هي الهداية الحقيقية، وهو الذي يأخذ بيد الإنسان إلى الصراط المستقيم وإلى الحقّ القويم.

وهذه الحقائق يؤيدها العلم ويدركها العلماء ويخضعون لها بملء وجودهم.

ولقد أودع الله في فطرة الإنسان النزوع إلى الكمال والجمال ثمّ مَنّ عليه بإرشاده إلى الكمال اللائق به، وأسبغ عليه نعمة التعرّف على طريق الكمال، ومن هنا قال تعالى: ( وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلاّ ليعبدونِ ) (الذاريات (٥١): ٥٦). وحيث لا تتحقّق العبادة الحقيقية من دون المعرفة، كانت المعرفة والعبادة طريقاً منحصراً وهدفاً وغايةً موصلةً إلى قمّة الكمال.

وبعد أن زوّد الله الإنسان بطاقتي الغضب والشهوة ليحقّق له وقود الحركة نحو الكمال; لم يؤمَن عليه من سيطرة الغضب والشهوة; والهوى الناشئ منهما، والملازم لهما فمن هنا احتاج الإنسان ـ بالإضافة إلى عقله وسائر

أدوات المعرفة ـ إلى ما يضمن له سلامة البصيرة والرؤية; كي تتمّ عليه الحجّة، وتكمل نعمة الهداية، وتتوفّر لديه كلّ الأسباب التي تجعله يختار طريق الخير والسعادة، أو طريق الشرّ والشقاء بملء إرادته.

ومن هنا اقتضت سُنّة الهداية الربّانية أن يُسند عقل الإنسان عن طريق الوحي الإلهي، ومن خلال الهداة الذين اختارهم الله لتولِّي مسؤولية هداية العباد وذلك عن طريق توفير تفاصيل المعرفة وإعطاء الإرشادات اللازمة لكلّ مرافق الحياة.

وقد حمل الأنبياء وأوصياؤهم مشعل الهداية الربّانية منذ فجر التاريخ وعلى مدى العصور والقرون، ولم يترك الله عباده مهملين دون حجة هادية وعلم مرشد ونور مُضيء، كما أفصحت نصوص الوحي ـ مؤيّدةً لدلائل العقل ـ بأنّ الأرض لا تخلو من حجة لله على خلقه، لئلاّ يكون للناس على الله حجّة، فالحجّة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق، ولو لم يبق في الأرض إلاّ اثنان لكان أحدهما الحجّة، وصرّح القرآن ـ بشكل لا يقبل الريب ـ قائلاً: ( إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) (الرعد (١٣): ٧).

٥

ويتولّى أنبياء الله ورسله وأوصياؤهم الهداة المهديّون مهمّة الهداية بجميع مراتبها، والتي تتلخّص في:

١ ـ تلقِّي الوحي بشكل كامل واستيعاب الرسالة الإلهية بصورة دقيقة. وهذه المرحلة تتطلّب الاستعداد التام لتلقّي الرسالة، ومن هنا يكون الاصطفاء الإلهي لرسله شأناً من شؤونه، كما أفصح بذلك الذكر الحكيم قائلاً: ( اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) (الأنعام (٦): ١٢٤) و( اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ ) (آل عمران (٣): ١٧٩).

٢ ـ إبلاغ الرسالة الإلهية إلى البشرية ولمن أرسلوا إليه، ويتوقّف الإبلاغ على الكفاءة التامّة التي تتمثّل في (الاستيعاب والإحاطة اللازمة) بتفاصيل الرسالة وأهدافها ومتطلّباتها، و (العصمة) عن الخطأ والانحراف معاً، قال تعالى: ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) (البقرة (٢): ٢١٣).

٣ ـ تكوين أُمة مؤمنة بالرسالة الإلهية، وإعدادها لدعم القيادة الهادية من أجل تحقيق أهدافها وتطبيق قوانينها في الحياة، وقد صرّحت آيات الذكر الحكيم بهذه المهمّة مستخدمةً عنواني التزكية والتعليم، قال تعالى: ( يُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) (الجمعة(٦٢): ٢) والتزكية هي التربية باتجاه الكمال اللائق بالإنسان. وتتطلّب التربية القدوة الصالحة التي تتمتّع بكلّ عناصر الكمال، كما قال تعالى: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (الأحزاب(٣٣): ٢١).

٤ ـ صيانة الرسالة من الزيغ والتحريف والضياع في الفترة المقرّرة لها، وهذه المهمة أيضاً تتطلّب الكفاءة العلمية والنفسية، والتي تسمّى بالعصمة.

٥ ـ العمل لتحقيق أهداف الرسالة المعنوية وتثبيت القيم الأخلاقية في نفوس الأفراد وأركان المجتمعات البشرية وذلك بتنفيذ الأطروحة الربّانية، وتطبيق قوانين الدين الحنيف على المجتمع البشري من خلال تأسيس كيان سياسيٍّ يتولّى إدارة شؤون الأمة على أساس الرسالة الربّانية للبشرية، ويتطلّب التنفيذ قيادةً حكيمةً، وشجاعةً فائقةً، وثباتاً كبيراً، ومعرفةً تامةً بالنفوس وبطبقات المجتمع والتيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية وقوانين الإدارة والتربية وسنن الحياة، ونلخّصها في الكفاءة العلمية لإدارة دولة عالمية دينية، هذا فضلاً عن العصمة التي تعبّر عن الكفاءة النفسية التي تصون القيادة

٦

الدينية من كلّ سلوك منحرف أو عمل خاطئ بإمكانه أن يؤثّر تأثيراً سلبيّاً على مسيرة القيادة وانقياد الأمة لها بحيث يتنافى مع أهداف الرسالة وأغراضها. وقد سلك الأنبياء السابقون وأوصياؤهم المصطفون طريق الهداية الدامي، واقتحموا سبيل التربية الشاقّ، وتحمّلوا في سبيل أداء المهامّ الرسالية كلّ صعب، وقدّموا في سبيل تحقيق أهداف الرسالات الإلهية كلّ ما يمكن أن يقدّمه الإنسان المتفاني في مبدئه وعقيدته، ولم يتراجعوا لحظة، ولم يتلكّأوا طرفة عين.

وقد توّج الله جهودهم وجهادهم المستمرّ على مدى العصور برسالة خاتم الأنبياء محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحمّله الأمانة الكبرى ومسؤولية الهداية بجميع مراتبها، طالباً منه تحقيق أهدافها. وقد خطا الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الطريق الوعر خطوات مدهشة، وحقّق في أقصر فترة زمنية أكبر نتاج ممكن في حساب الدعوات التغييرية والرسالات الثورية، وكانت حصيلة جهاده وكدحه ليل نهار خلال عقدين من الزمن ما يلي:

١ ـ تقديم رسالة كاملة للبشرية تحتوي على عناصر الديمومة والبقاء.

٢ ـ تزويدها بعناصر تصونها من الزيغ والانحراف.

٣ ـ تكوين اُمة مسلمة تؤمن بالإسلام مبدأً، وبالرسول قائداً، وبالشريعة قانوناً للحياة.

٤ ـ تأسيس دولة إسلامية وكيان سياسيٍّ يحمل لواء الإسلام ويطبّق شريعة السماء.

٥ ـ تقديم الوجه المشرق للقيادة الربّانية الحكيمة المتمثّلة في قيادتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولتحقيق أهداف الرسالة بشكل كامل كان من الضروري:

أ ـ أن تستمرّ القيادة الكفوءة في تطبيق الرسالة وصيانتها من أيدي العابثين الذين يتربّصون بها الدوائر.

ب ـ أن تستمرّ عملية التربية الصحيحة باستمرار الأجيال; على يد مربٍّ كفوء علمياً ونفسياً حيث يكون قدوة حسنة في الخلق والسلوك كالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يستوعب الرسالة ويجسّدها في كل حركاته وسكناته.

٧

ومن هنا كان التخطيط الإلهيّ يحتّم على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إعداد الصفوة من أهل بيته، والتصريح بأسمائهم وأدوارهم; لتسلّم مقاليد الحركة النبويّة العظيمة والهداية الربّانية الخالدة بأمر من الله سبحانه وصيانة للرسالة الإلهية التي كتب الله لها الخلود من تحريف الجاهلين وكيد الخائنين، وتربية للأجيال على قيم ومفاهيم الشريعة المباركة التي تولّوا تبيين معالمها وكشف أسرارها وذخائرها على مرّ العصور، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها.

وتجلّى هذا التخطيط الربّاني في ما نصّ عليه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله:(إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب الله وعترتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض) .

وكان أئمة أهل البيت صلوات الله عليهم خير من عرّفهم النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر من الله تعالى لقيادة الأمة من بعده.

إنّ سيرة الأئمّة الاثني عشر من أهل البيتعليهم‌السلام تمثّل المسيرة الواقعية للإسلام بعد عصر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودراسة حياتهم بشكل مستوعب تكشف لنا عن صورة مستوعبة لحركة الإسلام الأصيل الذي أخذ يشقّ طريقه إلى أعماق الأمة بعد أن أخذت طاقتها الحرارية تتضاءل بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأخذ الأئمة المعصومونعليهم‌السلام يعملون على توعية الأمة وتحريك طاقتها باتجاه إيجاد وتصعيد الوعي الرساليِّ للشريعة ولحركة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وثورته المباركة، غير خارجين عن مسار السنن الكونية التي تتحكّم في سلوك القيادة والأمة جمعاء.

وتبلورت حياة الأئمّة الراشدين في استمرارهم على نهج الرسول العظيم وانفتاح الأمة عليهم والتفاعل معهم كأعلام للهداية ومصابيح لإنارة الدرب للسالكين المؤمنين بقيادتهم، فكانوا هم الأدلَّاء على الله وعلى مرضاته، والمستقرّين في أمر الله، والتامّين في محبّته، والذائبين في الشوق إليه، والسابقين إلى تسلّق قمم الكمال الإنسانيّ المنشود.

وقد حفلت حياتهم بأنواع الجهاد والصبر على طاعة الله وتحمّل جفاء أهل الجفاء حتّى ضربوا أعلى أمثلة الصمود لتنفيذ أحكام الله تعالى، ثم اختاروا الشهادة مع العزّ على الحياة مع الذلّ، حتى فازوا بلقاء الله سبحانه بعد كفاح عظيم وجهاد كبير.

٨

ولا يستطيع المؤرّخون والكتّاب أن يلمّوا بجميع زوايا حياتهم العطرة ويدّعوا دراستها بشكل كامل، ومن هنا فإنّ محاولتنا هذه إنّما هي إعطاء قبسات من حياتهم، ولقطات من سيرتهم وسلوكهم ومواقفهم التي دوّنها المؤرّخون واستطعنا اكتشافها من خلال مصادر الدراسة والتحقيق، عسى الله أن ينفع بها إنّه وليّ التوفيق.

إنّ دراستنا لحركة أهل البيتعليهم‌السلام الرسالية تبدأ برسول الإسلام وخاتم الأنبياء محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتنتهي بخاتم الأوصياء، محمد بن الحسن العسكري المهدي المنتظر عجّل الله تعالى فرجه وأنار الأرض بعدله.

ويختصّ هذا الكتاب بدراسة حياة الإمام الحسن بن علي العسكريعليه‌السلام ، وهو الحادي عشر من أئمة أهل البيت الاثني عشر الذين استخلفهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر من الله تعالى ونص على إمامتهم وخلافتهم له وجعلهم أمناء على شريعته وأمته من بعده.

ولا بدَّ لنا من تقديم الشكر إلى كلّ الإخوة الأعزّاء الذين بذلوا جهداً وافراً وشاركوا في إنجاز هذا المشروع المبارك وإخراجه إلى عالم النور ، لا سيَّما أعضاء لجنة التأليف بإشراف سماحة السيد منذر الحكيم حفظه الله تعالى .

ولا يسعنا إلاّ أن نبتهل إلى الله تعالى بالدعاء والشكر لتوفيقه على إنجاز هذه الموسوعة المباركة فإنه حسبنا ونعم النصير.

المجمع العالمي لأهل البيتعليهم‌السلام

قم المقدسة

٩

الباب الأول

فيه فصول:

الفصل الأول: الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام في سطور.

الفصل الثاني: انطباعات عن شخصية الإمامعليه‌السلام .

الفصل الثالث: مظاهر من شخصية الإمامعليه‌السلام .

الفصل الأول: الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام في سطور

الإمام الحسن بن علي العسكري هو المعصوم الثالث عشر والإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

نشأ وتربّى في ظلّ أبيه الذي فاق أهل عصره علماً وزهداً وتقوىً وجهاداً. وصحب أباه اثنين أو ثلاثاً وعشرين سنة وتلقّى خلالها ميراث الإمامة والنبوّة فكان كآبائه الكرام علماً وعملاً وقيادةً وجهاداً وإصلاحاً لأمة جدّه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقد ظهر أمر إمامته في عصر أبيه الهاديعليه‌السلام وتأكّد لدى الخاصة من أصحاب الإمام الهادي والعامة من المسلمين أنه الإمام المفترض الطاعة بعد أبيه عليه‌السلام.

تولّى مهامّ الإمامة بعد أبيه واستمرّت إمامته نحواً من ست سنوات، مارس فيها مسؤولياته الكبرى في أحرج الظروف وأصعب الأيّام على أهل بيت الرسالة بعد أن عرف الحكّام العباسيون ـ وهم أحرص من غيرهم على استمرار حكمهم ـ أن المهدي من أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن ولد علي ومن ولد الحسينعليه‌السلام فكانوا يترصّدون أمره وينتظرون أيّامه كغيرهم، لا ليسلّموا له مقالد الحكم بل ليقضوا على آخر أمل للمستضعفين.

١٠

لقد كان الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام أستاذ العلماء وقدوة العابدين وزعيم المعارضة السياسية والعقائدية في عصره، وكان يشار إليه بالبنان وتهفو إليه النفوس بالحبّ والولاء كما كانت تهفو إلى أبيه وجدّه اللذين عُرف كل منهما بابن الرضاعليهما‌السلام ، كل هذا رغم معاداة السلطة لأهل البيتعليهم‌السلام وملاحقتها لهم ولشيعتهم.

وقد فرضت السلطة العباسيّة الإقامة الجبرية على الإمام الحسن العسكريّعليه‌السلام وأجبرته على الحضور في يومين من كل أسبوع في دار الخلافة العباسية.

وقد وُصِفَ حُضور الناس يوم ركوبه إلى دار الخلافة بأن الشارع كان يغصّ بالدوابّ والبغال والحمير، بحيث لا يكون لأحد موضع مشي ولا يستطيع أحد أن يدخل بينهم فإذا جاء الإمام هدأت الأصوات وتوسّد له الطريق حين دخوله وحين خروجه.

لقد كان جادّاً في العبادة طيلة حياته ولا سيّما حين كان في السجن حيث وكل به رجلان من الأشرار، فاستطاع أن يحدث تغييراً أساسياً في سلوكهما وصارا من العبادة والصلاة إلى أمر عظيم، وكان إذا نظر إليهما ارتعدت فرائصهما وداخلهما ما لا يملكان.

وقد لاحقت السلطة العباسية الإمام العسكريعليه‌السلام وأحاطته بالرقابة وأحصت عليه كلّ تحرّكاته لتشلّ نشاطه العلمي والسياسي وتحول بينه وبين ممارسة دوره القيادي في أوساط الأمة.

ومن هنا كان الإمام مهتمّاً كآبائهعليهم‌السلام بالعمل السرّي غاية الاهتمام بالإضافة إلى إحكامه لجهاز الوكلاء ليكون قادراً على أداء دوره القيادي بشكل تام وفي ظل تلك الظروف العصيبة حتى استطاع أن يقضي على محاولات الإبادة لِنهج أهل البيتعليهم‌السلام .

لقد خاض الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام كآبائه الكرامعليهم‌السلام ملحمة الكفاح السياسي لمواجهة الظلم والإرهاب والتلاعب بالسلطة ومقدرات الأمة ومصالحها فحافظ على أصول الشريعة والقيم الرسالية، ومهّد بذلك خير تمهيد لعصر الغيبة الذي أخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة من أهل بيتهعليهم‌السلام عن حتميّته وضرورته.

١١

وقد زخرت مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام في عصر الإمام العسكري بالعلم والدعوة إلى خطّ أهل البيت والدفاع عن الشريعة الإسلامية من خلال كوكبة أصحاب الإمام ورواة حديثه وطلاّب مدرسته.

وكان الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام ـ بالرغم من حراجة ظروفه السياسية ـ جادّاً في الدفاع عن الشريعة ومحاربة البدع وهداية المترددين والشاكّين وجذبهم إلى حضيرة الدين.

وعاصر الإمامعليه‌السلام مدة إمامته القصيرة جدّاً كلاً من المعتز والمهتدي والمعتمد العباسي ولاقى منهم أشدّ العنت والتضييق والملاحقة والإرهاب، كما تعرّض للاعتقال عدّة مرّات.

وازداد غيض المعتمد من إجماع الأمة ـ سنّة وشيعة ـ على تعظيم الإمامعليه‌السلام وتبجيله وتقديمه بالفضل على جميع العلويين والعباسيين في الوقت الذي كان المعتمد خليفةً غير مرغوب فيه لدى الأمة. فأجمع رأيه على الفتك بالإمام واغتياله فدسّ له السمّ. وقضى نحبه صابراً شهيداً محتسباً، وعمره دون الثلاثين عاماً. فسلام عليه يوم ولد ويوم جاهد في سبيل رسالة ربّه ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً.

١٢

الفصل الثاني: انطباعات عن شخصية الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام

احتلّ أهل البيتعليهم‌السلام المنزلة الرفيعة في قلوب المسلمين لما تحلّوا به من درجات عالية من العلم والفضل والتقوى والعبادة فضلاً عن النصوص الكثيرة الواردة عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحث على التمسّك بهم والأخذ عنهم.

والقرآن الكريم ـ كما نعلم ـ قد جعل مودّة أهل البيت وموالاتهم أجراً للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على رسالته كما قال تعالى:( قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (١) .

غير أن الحكّام والخلفاء الذين تحكّموا في رقاب الأمة بالسيف والقهر حاولوا طمس معالمهم وإبعاد الأمة عنهم بمختلف الوسائل والطرق ثم توّجوا أعمالهم بقتلهم بالسيف أو بدس السمّ.

ومع كل ما فعله الحكّام المنحرفون عن خطّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأهل البيتعليهم‌السلام ، لم يمنعهم ذلك السلوك العدائي من النصح والإرشاد للحكّام وحل الكثير من المعضلات التي واجهتها الدولة الإسلامية على امتداد تأريخها بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحتى عصر الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام .

وقد حُجبت عنّا الكثير من مواقفهم وسِيَرهم إما خشية من السلطان أو

ــــــــــــ

(١) الشورى(٤٢): ٢٣.

١٣

لأن من كتب تأريخنا الإسلامي إنّما كتبه بذهنية أموية ومداد عبّاسي لأنه قد عاش على فتات موائد الحكام المستبدّين.

ونورد هنا جملة من أقوال وشهادات معاصري الإمامعليه‌السلام وانطباعاتهم عن شخصيّته النموذجيّة التي فاقت شخصيته جميع من عاصره من رجال وعلماء الأمة الإسلامية.

١ ـ شهادة المعتمد العباسي:

كانت منزلة الإمام معروفة ومشهورة لدى الخاصة والعامة كما كانت معلومة لدى خلفاء عصره.

فقد روي أن جعفر بن علي الهادي طلب من المعتمد أن ينصبه للإمامة ويعطيه مقام أخيه الإمام الحسنعليه‌السلام بعده فقال له المعتمد: (اعلم أن منزلة أخيك لم تكن بنا وإنما كانت بالله عَزَّ وجَلَّ، ونحن كنا نجتهد في حطِ منزلته والوضع منه، وكان الله يأبى إلاّ أن يزيده كل يوم رفعة بما كان فيه من الصيانة وحسن السمت والعلم والعبادة وإن كنت عند شيعة أخيك بمنزلته فلا حاجة بك إلينا، وإن لم تكن عندهم بمنزلته ولم يكن فيك ما كان في أخيك، لم نغنِ عنك في ذلك شيئاً)(١) .

٢ ـ شهادة طبيب البلاط العباسي:

كان بختيشوع ألمع شخصية طبية في عصر الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام فهو طبيب الأسرة الحاكمة، وقد احتاج الإمام ذات يوم إلى

ــــــــــــ

(١) الخرائج والجرائح، للقطب الراوندي: ٣/١١٠٩ بحار الأنوار: ٥٢/٥٠.

١٤

طبيب فطلب من بختيشوع أن يرسل إليه بعض تلامذته ليقوم بذلك، فاستدعى أحد تلاميذه وأوصاه أن يعالج الإمامعليه‌السلام وحدّثه عن سموّ منزلته ومكانته العالية ثم قال له: (طلب مني ابن الرضا من يقصده فصر إليه، وهو أعلم في يومنا هذا بمن تحت السماء، فاحذر أن لا تعترض عليه في ما يأمرك به)(١) .

٣ ـ أحمد بن عبيد الله بن خاقان:

كان عامل الخراج والضياع في كورة قم، وأبوه عبيدالله بن خاقان أحد أبرز شخصيات البلاط السياسية وكان وزيراً للمعتمد، وكان أحمد بن عبيدالله أنصب خلق الله وأشدهم عداوة لأهل البيتعليهم‌السلام ، فجرى ذكر المقيمين من آل أبي طالب بسرّ من رأى ـ سامراء ـ ومذاهبهم وأقدارهم عند السلطان، فقال أحمد بن عبيد الله: (ما رأيت ولا عرفت بسر من رأى رجلاً من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن علي الرضاعليهم‌السلام ، ولا سمعت به في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكرمه عند أهل بيته والسلطان وجميع بني هاشم وتقديمهم إياه على ذوي السن منهم والخطر وكذلك القوّاد والوزراء والكتّاب وعوام الناس).

وينقل أحمد هذا قصة شهدها في مجلس أبيه إذ دخل عليه حجابه فقالوا له: إن ابن الرضا ـ أي الإمام العسكريعليه‌السلام ـ على الباب فقال بصوت عال: ائذنوا له، فقال أحمد: تعجبت ما سمعت منهم، إنهم جسروا حيث يكنون رجلاً على أبي بحضرته ولم يكن يُكنّى عنده إلاّ خليفة أو ولي عهد أو من أمر

ــــــــــــ

(١) الخرائج: ١ / ٤٢٢ ـ ٤٢٤ ح٣ ب١٢ وذكر الكليني في أصول الكافي: ١/٥١٢ ح٢٤ ب١٢٤ مختصراً قريباً منه.

١٥

السلطان أن يكنى، فدخل رجل أسمر أعين حسن القامة، جميل الوجه، جبير البدن، حدث السن فلما نظر إليه أبي قام فمشى إليه خُطى ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم ولا بالقواد ولا بأولياء العهد، فلما دخل عانقه وقبل وجهه ومنكبيه وأخذ بيده وأجلسه على مصلاه.

ثم يقول أحمد: ولما جلس أبي بعد أن صلَّى جئت فجلست بين يديه فقال: ياأحمد ألك حاجة ؟ فقلت: نعم ياأبه إن أذنت سألتك عنها ؟ فقال: قد أذنت لك يابني فقل ما أحببت.

فقلت له: ياأبه من كان الرجل الذي أتاك بالغداة وفعلت به ما فعلت من الإجلال والإكرام والتبجيل، وفديته بنفسك وبأبويك ؟

فقال: يابني ذاك إمام الرافضة، ذاك ابن الرضا، فسكت ساعة ثمّ قال: يابني لو زالت الخلافة عن خلفاء بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غير هذا، فإنّ هذا يستحقها في فضله وعفافه وهديه وصيانة نفسه وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه ولو رأيت أباه لرأيت رجلاً جليلاً نبيلاً خيراً فاضلاً(١) .

٤ ـ كاتب الخليفة المعتمد:

روي عن أبي جعفر أحمد القصير البصري قال: حضرنا عند سيدنا أبي محمدعليه‌السلام بالعسكر فدخل عليه خادم من دار السلطان، جليل فقال له: أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك: كاتبنا أنوش النصراني يريد أن يطهر ابنين له، وقد سألنا مُساءلتك أن تركب إلى داره وتدعو لابنه بالسلامة والبقاء، فأحب أن تركب وأن تفعل ذلك فإنا لم نجشمك هذا العناء إلاّ لأنه

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١/٥٠٣، ٥٠٤ ح١ ب ٢٤ وكمال الدين: ١ / ٤١ ـ ٤٢.

١٦

قال: نحن نتبرك بدعاء بقايا النبوة والرسالة.

فقال مولاناعليه‌السلام :الحمد لله الذي جعل النصارى أعرف بحقنا من المسلمين .

ثم قال:أسرجوا لنا ، فركب حتى وردنا أنوش، فخرج إليه مكشوف الرأس حافي القدمين، وحوله القسيسون والشماسة والرهبان، وعلى صدره الإنجيل، فتلقاه على بابه وقال للإمامعليه‌السلام ياسيدنا أتوسل إليك بهذا الكتاب الذي أنت أعرف به منا إلاّ غفرت لي ذنبي في عناك وحق المسيح عيسى بن مريم وما جاء به من الإنجيل من عند الله، ما سألت أمير المؤمنين مسألتك هذه إلاّ لأنّا وجدناكم في هذا الإنجيل مثل المسيح عيسى بن مريم عند الله.

فقال الإمامعليه‌السلام :أما ابنك هذا فباق عليك، وأما الآخر فمأخوذ عنك بعد ثلاثة أيام ـ أي ميت ـوهذا الباقي يسلم ويحسن إسلامه ويتولانا أهل البيت .

فقال أنوش: والله ياسيدي إن قولك الحق ولقد سهل عليَّ موت ابني هذا لما عرّفتني إنّ الآخر يسلم، ويتولاكم أهل البيت.

فقال له بعض القسيسين: ما لك لا تسلم ؟

فقال أنوش: أنا مسلم ومولانا يعلم ذلك.

فقال مولاناعليه‌السلام :صدق ولولا أن يقول الناس: إنا أخبرناك بوفاة ابنك ولم يكن ذلك كما أخبرناك لسألنا الله تعالى بقاءه عليك .

فقال أنوش: لا أريد ياسيدي إلاّ ما تريد.

قال أبو جعفر أحمد القصير البصري ـ راوي الحديث ـ: مات والله ذلك الابن بعد ثلاثة أيام وأسلم الآخر بعد سنة(كذا)، ولزم الباب معنا إلى وفاة سيدنا أبي محمدعليه‌السلام .(١)

ــــــــــــ

(١) مدينة المعاجز: ٥٨٣ وحلية الأبرار: ٢/٤٩٨ وعنه في سفينة البحار: ٢/٢٠٣.

١٧

٥ ـ راهب دير العاقول:

وكان من كبراء رجال النصرانية وأعلمهم بها، لمّا سمع بكرامات الإمامعليه‌السلام ورأى ما رآه، أسلم على يديه وخلع لباس النصرانية ولبس ثياباً بيضاء.

ولما سأله الطبيب بختيشوع عما أزاله عن دينه، قال: وجدت المسيح أو نظيره فأسلمت على يده ـ يعني بذلك الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام ـ وقال: وهذا نظيره في آياته وبراهينه. ثم انصرف إلى الإمام ولزم خدمته إلى أن مات. (١)

٦ ـ محمد بن طلحة الشافعي:

قال عن الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام :

(فأعلم المنقبة العليا والمزية الكبرى التي خصه الله عزّ وجلّ بها وقلّده فريدها ومنحه تقليدها وجعلها صفة دائمة لا يُبلي الدهر جديدها ولا تنسى الألسن تلاوتها وترديدها: أن المهدي محمد نسله، المخلوق منه، وولده المنتسب إليه، وبضعته المنفصلة عنه)(٢) .

٧ ـ ابن الصباغ المالكي:

قال: إنّه (سيد أهل عصره وإمام أهل دهره، أقواله سديدة وأفعاله حميدة، وإذا كانت أفاضل زمانه قصيدة فهو في بيت القصيدة، وإن انتظموا عقداً كان مكان الواسطة الفريدة، فارس العلوم لا يجارى ومبين غوامضها،

ــــــــــــ

(١) الخرائج والجرائح: ١/٤٢٢ ـ ٤٢٤ وعنه في بحار الأنوار: ٥٠/٢٦١.

(٢) مطالب السؤول: ٢/١٤٨.

١٨

فلا يحاول ولا يمارى، كاشف الحقائق بنظره الصائب مظهر الدقائق بفكره الثاقب المحدث في سره بالأمور الخفيات الكريم الأصل والنفس والذات تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنانه، بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آمين).(١)

٨ ـ العلامة سبط بن الجوزي:

قال: (هو الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن موسى الرضا بن جعفر ابن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام وكان عالماً ثقة روى الحديث عن أبيه، عن جده)(٢) .

٩ ـ العلامة محمد أبو الهدى أفندي:

قال واصفاً الأئمةعليهم‌السلام بأنهم قادة الناس الى الحضرة القدسية وأ نّهم أولياؤهم بعد الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (قد علم المسلمون في المشرق والمغرب أن رؤساء الأولياء وأئمة الأصفياء من بعدهعليه‌السلام من ذريته وأولاده الطاهرين يتسللون بطناً بعد بطن وجيلاً بعد جيل إلى زمننا هذا، وهم الأولياء بلا ريب، وقادتهم إلى الحضرة القدسية المحفوظة من الدنس والعيب ومن في الأولياء، الصدر الأول بعد الطبقة المشرفة بصحبة النبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كالحسن والحسين والسجاد والباقر والكاظم والصادق والجواد والهادي والتقي والنقي العسكريعليهم‌السلام .(٣)

ــــــــــــ

(١) الفصول المهمة: ٢٧٥.

(٢) تذكرة الخواص: ٣٦٢.

(٣) إحقاق الحق: ٢ / ٦٢١ عن كتاب ضوء الشمس ـ لأبي الهدى أفندي: ١ / ١١٩.

١٩

١٠ ـ العلاّمة الشبراوي الشافعي:

قال عنه: (الحادي عشر من الأئمة الحسن الخالص ويلقب أيضاً بالعسكري... ويكفيه شرفاً أنّ الإمام المهدي المنتظر من أولاده، فللّه در هذا البيت الشريف والنسب الخضم المنيف وناهيك به من فخار وحسبك فيه من علو مقدار... فيا له من بيت عالي الرتبة سامي المحلة، فلقد طاول السماك علاً ونبلاً، وسما على الفرقدين منزلة ومحملا واستغرق صفات الكمال، فلا يستثنى فيه بغير ولا بإلاّ، انتظم في المجد هؤلاء الأئمة، انتظام اللآلي وتناسقوا في الشرف فاستوى الأول والتالي، وكم اجتهد قوم في خفض منارهم والله يرفعه...)(١) .

إلى أقوال كثيرة غيرها في فضله صرح بها الفقهاء والمؤرخون والمحدثون من العامة والخاصة، ولا عجب في ذلك ولا غرابة فهو فرع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبو الإمام المنتظر والحادي عشر من أئمة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً وهم عدل القرآن كما ورد عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم سفينة النجاة. وقد شهد له أبوه الإمام الهاديعليه‌السلام بسموّ مقامه ورفعة منزلته بقوله الخالد: (أبو محمد أنصح آل محمّد غريزة وأوثقهم حجّة وهو الأكبر من ولدي وهو الخلف وإليه تنتهي عُرى الإمامة وأحكامها، فما كنت سائلي فسله عنه، فعنده ما يُحتاج إليه)(٢) .

ــــــــــــ

(١) الإتحاف بحب الأشراف: ١٧٨.

(٢) الكافي: ١ / ٣٢٧، ٣٢٨ ح ١١.

٢٠

الفصل الثالث: مظاهر من شخصية الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام

لقد كان الإمام أبو محمد الحسن العسكريعليه‌السلام في معالي أخلاقه نفحة من نفحات الرسالة الإسلامية فقد كان على جانب عظيم من سموّ الأخلاق، يقابل الصديق والعدو بمكارم أخلاقه ومعالي صفاته، وكانت هذه الظاهرة من أبرز مكوناته النفسية، ورثها عن آبائه وجده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي وسع الناس جميعاً بمكارم أخلاقه، وقد أثّرت مكارم أخلاقه على أعدائه والحاقدين عليه، فانقلبوا من بغضه إلى حبه والإخلاص له.(١)

ونقل المؤرخون أنّ المتوكل الذي عرف بشدّة عدائه لأهل البيتعليهم‌السلام ، وحقده على الإمام عليعليه‌السلام ، أمر بسجن الإمام العسكريعليه‌السلام والتشديد عليه إلاّ أنّه لمّا حلّ في الحبس ورأى صاحب الحبس سمو أخلاق الإمامعليه‌السلام وعظيم هديه وصلاحه انقلب رأساً على عقب، فكان لا يرفع بصره إلى الإمامعليه‌السلام إجلالاً وتعظيماً له، ولمّا خرج الإمام من عنده كان أحسن الناس بصيرة، وأحسنهم قولاً فيه.(٢)

ــــــــــــ

(١) حياة الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام : ٤٢.

(٢) أصول الكافي: ١/٥٠٨ ح ٨ وعنه في الإرشاد: ٢/٣٢٩، ٣٣٠ وفي أعلام الورى: ٢/١٥٠ وعن الإرشاد في كشف الغمة: ٣/٢٠٢.

٢١

سماحته وكرمه

نقل المؤرخون نماذج من السيرة الكريمة للإمام العسكري عليه‌السلام نذكر بعضاً منها:

١ ـ روى الشيخ المفيد عن محمد بن علي بن إبراهيم بن موسى بن جعفر عليه‌السلام : قال: ضاق بنا الأمر فقال لي أبي: امض بنا حتى نصير إلى هذا الرجل ـ يعني أبا محمد ـ فإنه قد وصف عنه سماحة.

فقلت: تعرفه ؟

قال: ما أعرفه، ولا رأيته قط.

قال: فقصدناه.

فقال لي أبي وهو في طريقه: ما أحوجنا إلى أن يأمر لنا بخمس مئة درهم مئتا درهم للكسوة ومئتا درهم للدقيق، ومئة درهم للنفقة.

وقلت في نفسي ليته أمر لي بثلاث مائة درهم، مائة اشتري بها حماراً ومائة للنفقة ومائة للكسوة، فأخرج إلى الجبل.

قال ـ أي محمد بن علي ـ فلما وافينا الباب خرج غلامه، فقال:يدخل علي بن إبراهيم ومحمد ابنه ، فلما دخلنا عليه وسلمنا، قال لأبي: ياعلي ما أخلفك عنا إلى هذا الوقت ، فقال: ياسيدي: استحييت أن ألقاك على هذا الحال، فلما خرجنا من عنده جاءنا غلامه فناول أبي صرة، وقال: هذه خمسمئة درهم، مئتان لِلكسوة، ومئتان للدقيق، ومئة للنفقة . وأعطاني صرة وقال: هذه ثلاثمئة درهم اجعل مئة في ثمن حمار، ومئة للكسوة، ومئة للنفقة، ولا تخرج إلى الجبل، وصر إلى

٢٢

قال: فصار إلى سوار وتزوج بامرأة منها فدخله اليوم ألف دينار ومع هذا يقول بالوقف.(١)

٢ ـ وروى إسحاق بن محمد النخعي قال: حدثني أبو هاشم الجعفري قال: شكوت إلى أبي محمدعليه‌السلام ضيق الحبس وكلب القيد(٢) ، فكتب إلي:(أنت تصلي اليوم الظهر في منزلك) ، فأخرجت وقت الظهر فصليت في منزلي كما قال، وكنت مضيقاً فأردت أن أطلب منه معونة في الكتاب الذي كتبته إليه فاستحييت، فلما صرت إلى منزلي وجّه إليّ بمئة دينار، وكتب إليّ:إذا كانت لك حاجة، فلا تستحِ ولا تحتشم واطلبها فإنك على ما تحب إن شاء الله .(٣)

٣ ـ وعن إسماعيل بن محمد بن علي بن إسماعيل بن علي بن عبد الله بن العباس قال: قعدت لأبي محمدعليه‌السلام على ظهر الطريق، فلما مرَّ بي شكوت إليه الحاجة وحلفت له أن ليس عندي درهم واحد، فما فوقه، ولا غذاء ولا عشاء قال: فقالعليه‌السلام :تحلف بالله كاذباً وقد دفنت مئتي دينار ؟! وليس قولي هذا دفعاً لك عن العطية، أعطه ياغلام ما معك ، فأعطاني غلامه مئة دينار ثم أقبل عليّ فقال:إنك تحرم الدنانير التي دفنتها أحوج ما تكون إليها ، وصدقعليه‌السلام ، وذلك أني أنفقت ما وصلني به، واضطررت ضرورة شديدة إلى شيء أنفقه، وانغلقت عليّ أبواب الرزق، فنبشت الدنانير التي كنت دفنتها فلم أجدها فإذا ابن لي قد عرف موضعها فأخذها وهرب، فما قدرت منها على شيء.(٤)

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١/٥٠٦ ح ٣ ب ١٢٤ وعنه في الإرشاد: ٢ / ٣٢٦، ٣٢٧ وعنه في كشف الغمة: ٣ / ٢٠٠.

(٢) كلب القيد: شدته وضيقه.

(٣) أصول الكافي: ١/٥٠٨ ح ١٠ وعنه في الإرشاد: ٢/٣٣٠ وفي إعلام الورى: ٢/١٤٠ وعن الإرشاد في كشف الغمة: ٣/٢٠٢.

(٤) أصول الكافي: ١/٥٠٩ ح ١٤ وعنه في الإرشاد: ٢/٣٢٢ وإعلام الورى: ٢/١٣٧ وعن الإرشاد في كشف الغمة: ٣/٢٠٣، ولعلّه كان من المغضوب عليهم لدى بني العباس ولذلك لم يكفوه.

٢٣

زهده وعبادته

عُرف الإمام العسكريعليه‌السلام في عصره بكثرة عبادته وتبتّله وانقطاعه إلى الله سبحانه واشتهر ذلك بين الخاصة والعامة، حتى أنّه حينما حبس الإمامعليه‌السلام في سجن علي بن نارمش ـ وهو من أشد الناس نصباً لآل أبي طالب ـ ما كان من علي هذا إلاّ أن وضع خديه له وكان لا يرفع بصره إليه إجلالاً وإعظاماً فخرج من عنده وهو أحسن الناس بصيرة وأحسن الناس قولاً فيه.(١)

ولما حبسه المعتمد كان يسأل السجّان ـ علي بن جرين ـ عن أحوال الإمامعليه‌السلام وأخباره في كل وقت فيخبره علي بن جرين أنّ الإمامعليه‌السلام يصوم النهار ويصلي الليل.(٢)

عن علي بن محمّد، عن محمّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمّد عن عليّ بن عبدالغفّار قال: دخل العبّاسيّون على صالح بن وصيف ودخل صالح بن عليّ وغيره من المنحرفين عن هذه الناحية على صالح بن وصيف عندما حبس أبا محمّدعليهما‌السلام .

فقال لهم صالح: وما أصنع قد وكّلت به رجلين من أشرّ من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام إلى أمر عظيم، فقلت لهما: ما فيه؟ فقالا: ما تقول في رجل يصوم النهار ويقوم اللّيل كلّه، لا يتكلّم ولا يتشاغل وإذا نظرنا إليه ارتعدت فرائصنا ويداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا، فلمّا سمعوا ذلك

ــــــــــــ

(١) الكافي: ١ / ٥٠٨ ح ٨.

(٢) مهج الدعوات: ٢٧٥.

٢٤

انصرفوا خائبين(١) .

عن محمّد بن إسماعيل العلوي قال: دخل العبّاسيّون على صالح بن وصيف عندما حُبس أبو محمّد فقالوا له: ضيّق عليه، قال: وكّلت به رجلين من شرّ من قدرت عليه عليّ بن بارمش واقتامش، فقد صارا من العبادة والصّلاح إلى أمر عظيم يضعان خدّيهما له، ثم أمر بإحضارهما فقال: ويحكما ما شأنكما في شأن هذا الرجل؟ فقالا: ما تقول في رجل يقوم اللّيل كلّه ويصوم النّهار ولا يتكلّم ولا يتشاغل بغير العبادة، فإذا نظرنا إليه ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا(٢) .

وكان يتسوّر عليه الدار جلاوزة السلطان في جوف الليل فيجدونه في وسط بيته يناجي ربّه سبحانه.

إنّ سلامة الصلة بالله سبحانه وما ظهر على يدي الإمام من معاجز وكرامات تشير إلى المنزلة العالية والشأن العظيم للإمامعليه‌السلام عند الله الذي اصطفاه لعهده والذي تجلّى في إمامته عليه‌السلام . (٣)

علمه ودلائل إمامته

وإليك شذرات من علوم الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام ودلائل إمامته:

١ ـ عن أبي حمزة نصر الخادم قال: سمعت أبا محمدعليه‌السلام غير مرة يكلّم غلمانه بلغاتهم، وفيهم ترك، وروم وصقالبة، فتعجّبت من ذلك وقلت: هذا ولد بالمدينة ولم يظهر لأحد حتى مضى أبو الحسن ـ أي الإمام

ــــــــــــ

(١) الكافي: ١/٥١٣.

(٢) المناقب: ٢/٤٦٢.

(٣) إشارة إلى قوله تعالى( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) . البقرة(٢): ١٢٤.

٢٥

الهاديعليه‌السلام ـ ولا رآه أحد فكيف هذا ؟! أُحدّث نفسي بذلك فأقبل عليَّ وقال:إنّ الله جلّ اسمه بيّنَ حجته من ساير خلقه وأعطاه معرفة بكل شيء ويعطيه اللغات ومعرفة الأسباب والآجال والحوادث: ولولا ذلك لم يكن بين الحجة والمحجوج فرق (١) .

٢ ـ وقال الحسن بن ظريف: اختلج في صدري مسألتان أردت الكتاب بهما إلى أبي محمدعليه‌السلام ، فكتبت إليه أسأله عن القائم إذا قام بم يقضي ؟ وأين مجلسه الذي يقضي فيه بين الناس ؟ وأردت أن أسأله عن شيء لحُمّى الربع، فأغفلت ذكر الحُمّى، فجاء بالجواب:

سألتَ عن القائم إذا قام قضى بين الناس بعلمه كقضاء داود عليه‌السلام ولا يسأل البينة، وكنت أردت أن تسأل عن حمّى الرُّبع، فأنسيت فاكتب ورقة وعلّقها على المحموم فإنّه يبرأ بإذن الله إن شاء الله: ( يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) . فكتبت ذلك وعلّقته على المحموم فبرئ وأفاق.(٢)

٣ ـ وروى الشيخ المفيد عن أبي القاسم جعفر بن محمد عن محمد بن يعقوب عن إسماعيل بن إبراهيم بن موسى بن جعفر، قال: كتب أبو محمدعليه‌السلام إلى أبي القاسم إسحاق بن جعفر الزبيري قبل موت المعتز بنحو عشرين يوماً:إلزم بيتك حتى يحدث الحادث ، فلما قُتل بريحة كتب إليه قد حدث الحادث، فما تأمرني ؟ فكتب إليه:ليس هذا الحادث، الحادث الآخر . فكان من المعتز ما كان.(٣)

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١/٥٠٩ ح ١١ وعنه في الإرشاد: ٢/٣٣٠ وإعلام الورى: ٢/١٤٥ وعن الإرشاد في كشف الغمة: ٣/٢٠٢.

(٢) أصول الكافي: ١/٥٠٩ ح ١٣ وعنه في الإرشاد: ٢/٣٣١ وإعلام الورى: ٢/١٤٥ وعن الإرشاد في كشف الغمة: ٣/٢٠٣ وحُمّى الرّبع: هو أن يأخذ يوماً ويترك يومين ويعود في اليوم الرابع، والآية من سورة الأنبياء: ٦٩.

(٣) أصول الكافي: ١/٥٠٦ ح ٢ وعنه في الإرشاد: ٢/٣٢٥ وعنه في كشف الغمة: ٣/٢٠٠ وابن «تريخة».كذا في النسخ وفي المصدر «بريحة» وقال الطريحي في المجمع «بريمة» هو: عبدالله بن محمد بن داود الهاشمي العباسي الناصبي من ندماء المتوكل وقتله اثنان من الحسنيين بالكوفة قبل المعتز بأيام كما في الطبري: ٩/٣٨٨ وعنه في الكامل: ٧/٥٦، وجاء في هامش الإرشاد: ٢/٣٢٥ بهامش بريحة وابن اُترجة

٢٦

أي أن الإمامعليه‌السلام ، أشار إلى موت المعتز، فطلب من مواليه أن يلتزموا بالبقاء في بيوتهم حتى ذلك الوقت لظروف خاصة كانت تحيط بالإمامعليه‌السلام وبهم من الشدة وطلب السلطان وجلاوزته لهم.

ومن الطبيعي أن موت الخليفة يعقبه غالباً اضطراب في الوضع يمكّن معارضيه من التحرك والتنقل بسهولة.

٤ ـ وروى الشيخ الكلينيرضي‌الله‌عنه عن علي بن محمد عن الحسن بن الحسين قال: حدثني محمد بن الحسن المكفوف قال: حدثني بعض أصحابنا عن بعض فصّادي العسكر ـ أي سامراء ـ من النصارى: أن أبا محمدعليه‌السلام بعث إلي يوماً في وقت صلاة الظهر فقال لي:

إفصد (١) هذا العرق ، قال: وناولني عرقاً لم أفهمه من العروق التي تفصد فقلت في نفسي، ما رأيت أمراً أعجب من هذا يأمرني أن أفصد في وقت وليس بوقت فصد، والثانية عرق لا أفهمه، ثم قال لي:انتظر وكن في الدار ، فلما أمسى دعاني فقال لي:سرّح الدم فسرّحت، ثم قال لي:أمسك فأمسكت، ثم قال لي:كن في الدار ، فلما كان نصف الليل أرسل إلي وقال لي:سرّح الدم ، قال: فتعجبت أكثر من عجبي الأول وكرهت أن أسأله: قال: فسرحت فخرج دم أبيض كأنه الملح: قال: ثم قال لي:احبس ، فحبست. ثم قال:كن في الدار (٢) ، فلما أصبحت قدم إلي تخت ثياب وخمسين ديناراً وقال:خذها واعذر وانصرف فصرت إلى بختيشوع وقلت له القصة ففكر ساعة ثم مكثنا ثلاثة أيام بلياليها

ــــــــــــ

(١) الفصد: شق العرق، يستخرج دمه ; لسان العرب، ابن منظور: ١٠ / ٢٧٠، طبع بيروت، إحياء التراث.

(٢) الكافي: ١ / ٥١٢.

٢٧

نقرأ الكتب على أن نجد لهذه القصة ذكراً في العالم فلم نجد.

ثم قال بختيشوع: لم يبق اليوم في النصرانية أعلم بالطب من راهب بدير العاقول، فكتب إليه كتاباً يذكر فيه ما جرى، فخرجت وناديته فأشرف عليّ فقال من أنت ؟ قلت صاحب بختيشوع. قال: أمعك كتابه ؟ قلت: نعم فأرخى لي زنبيلاً، فجعلت الكتاب فيه فرفعه فقرأ الكتاب ونزل من ساعته وقال: أنت الذي فصدت الرجل ؟ قلت: نعم، قال: طوبى لأمك، وركب بغلاً، وسرنا، فوافينا(سرّ من رأى) وقد بقي من الليل ثلثه، قلت: أين تحب ؟ دار أستاذنا أم دار الرجل ـ أي دار الإمام الحسن العسكري ـ ؟ قال: دار الرجل، فصرنا إلى بابه قبل الأذان الأول ففتح الباب وخرج إلينا خادم أسود وقال: أيكما راهب دير العاقول ؟ فقال: أنا جعلت فداك، فقال انزل، وقال لي الخادم: احتفظ بالبغلين، وأخذ بيده ودخلا فأقمت إلى أن أصبحنا وارتفع النهار ثم خرج الراهب، وقد رمى بثياب الرهبانية ولبس ثياباً بيضاً وأسلم فقال: خذني الآن إلى دار أستاذك، فصرنا إلى باب بختيشوع، فلما رآه بادر يعدو إليه ثم قال، ما الذي أزالك عن دينك ؟

قال: وجدت المسيح وأسلمت على يده، قال: وجدت المسيح ؟! قال: أو نظيره، فإن هذه الفصدة لم يفعلها في العالم إلاّ المسيح وهذا نظيره في آياته وبراهينه، ثم انصرف إليه ولزم خدمته إلى أن مات.(١)

٥ ـ وعن أبي علي المطهري أنه كتب إليه من القادسية يعلمه بانصراف الناس عن المضي إلى الحج وأنه يخاف العطش إن مضى، فكتبعليه‌السلام :امضوا فلا خوف عليكم إن شاء الله ، فمضوا سالمين(ولم يجدوا عطشاً)(٢) والحمد لله رب العالمين.

ــــــــــــ

(١) الخرائج والجرايح: ١ / ٤٢٢. وبحار الأنوار: ٥ / ٢٦٢.

(٢) الكافي: ١/٥٠٧، والمناقب: ٢/٤٦٤.

٢٨

الباب الثاني

فيه فصول:

الفصل الأول: نشأة الإمام الحسن بن علي العسكريعليه‌السلام .

الفصل الثاني: مراحل حياة الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام .

الفصل الثالث: الإمام الحسن العسكري في ظلّ أبيهعليهما‌السلام .

الفصل الأول: نشأة الإمام الحسن بن علي العسكريعليه‌السلام

نسبه الشريف

هو الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام .

وهو الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام (١) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

وأمه أم ولد يقال لها: حديث. أو سليل، وكانت من العارفات الصالحات.(٢) وذكر سبط بن الجوزي: أن اسمها سوسن. (٣)

محل الولادة وتأريخها

ولد الإمام أبو محمد الحسن العسكريعليه‌السلام ـ كما عليه أكثر المؤرخين ـ في شهر ربيع الآخر سنة(٢٣٢هـ) من الهجرة النبوية المشرفة في المدينة المنورة.

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١ / ٥٠٣.

(٢) الإرشاد: ١ / ٣١٣.

(٣) تذكرة الخواص: ٣٢٤.

٢٩

ويلاحظ هنا اختلاف المؤرخين والرواة في تاريخ ميلاده الشريف من حيث اليوم والشهر والسنة التي ولد فيها.

فمنهم من قال أنّ ولادته كانت سنة(٢٣٠هـ)(١) وقال آخرون إنها كانت سنة(٢٣١ هـ )(٢) أو سنة(٢٣٢هـ)(٣) أو سنة(٢٣٣هـ)(٤) .

وروي أنها كانت في السادس من ربيع الأوّل أو السادس أو الثامن أو العاشر من ربيع الآخر أو في رمضان(٥) .

ولا نرى غرابة في هذا الاختلاف، فربما يعزى إلى إجراءات كان الإمام الهاديعليه‌السلام يقوم بها من أجل المحافظة على حياة الإمام العسكري عليه‌السلام أو يكون لغير هذا من أسباب تعزى إلى ملابسات تأريخية خاصة.

ألقابهعليه‌السلام وكناه

أطلق على الإمامين علي بن محمد والحسن بن عليعليهما‌السلام (العسكريّان) لأنّ المحلة التي كان يسكنها هذان الإمامان ـ في سامراء ـ كانت تسمى عسكر(٦) .

و(العسكري) هو اللقب الذي اشتهر به الإمام الحسن بن عليعليه‌السلام . وله ألقاب أخرى، نقلها لنا المحدّثون، والرواة، وأهل السير وهي: الرفيق، الزكي، الفاضل، الخالص، الأمين، والأمين على سرّ الله، النقي، المرشد إلى

ــــــــــــ

(١) المنتظم في تاريخ الأمم والملوك: ٧ / ١٢٦.

(٢) تذكرة الخواص: ٣٢٤، وكشف الغمة: ٣/ ١٩٢ عن ابن طلحة الشافعي في مطالب السؤول.

(٣) وفيات الأعيان: ٢ / ٩٤.

(٤) دلائل الإمامة: ٢٢٣.

(٥) راجع حياة الإمام العسكري(دراسة تحليلية تاريخية علمية): ٥٨ ـ ٥٩.

(٦) بحار الأنوار: ٥٠ / ٢٣٥.

٣٠

الله، الناطق عن الله، الصادق، الصامت، الميمون، الطاهر، المؤمن بالله، وليّ الله، خزانة الوصيين، الفقيه، الرجل، العالم(١) .

وكل منها له دلالته الخاصّة على مظهر من مظاهر شخصيته وكمال من كمالاته.

وكان يكنّى بابن الرضا. كأبيه وجدّه، وكنيته التي اختص بها هي:(أبو محمد).

ملامحه

وصف أحمد بن عبيد الله بن خاقان ملامح الإمام الحسن العسكري بقوله: إنه أسمر، أعين(٢) ، حسن القامة، جميل الوجه، جيد البدن، له جلالة وهيبة(٣) . وقيل: إنّه كان بين السمرة والبياض(٤) .

النشأة وظروفها

نشأ الإمام أبو محمدعليه‌السلام في بيت الهداية ومركز الإمامة الكُبرى، ذلك البيت الرفيع الذي أذهب الله عن أهله الرجس وطهّرهم تطهيراً. وقد وصف الشبراوي هذا البيت الذي ترعرع فيه هذا الإمام العظيم قائلاً:

ــــــــــــ

(١) كمال الدين: ١ / ٣٠٧، إثبات الهداة: ١ / ٦٥١، ٥٤٤، ٤٦٩، الشيعة والرجعة: ١ / ٨٨.

وحياة الإمام العسكري: ٢٣ ـ ٢٨(للشيخ محمد جواد الطبسي. والألقاب الثلاثة الأخيرة هي الألقاب التي وردت في الكتب الرجالية باعتبار ورودها في أسانيد الروايات والتي كانت تلاحظ فيها ظروف النقل والرواية.

(٢) الأعين: الواسع العين.

(٣) أصول الكافي: ١/٥٠٣ ح ١ وعنه في الإرشاد: ٢/٣٢١، وفي كمال الدين: ١/٤٠ بطريق آخر، وعن الكليني أو المفيد في إعلام الورى: ٢/١٤٧، وعن الإرشاد في كشف الغمة: ٣/١٩٧، وعن كمال الدين والإرشاد والإعلام في بحار الأنوار: ٣٢٦ ـ ٣٣٠.

(٤) بحار الأنوار: ٥٠ / ٣٢٨ وأخبار الدول: ١١٧.

٣١

فللّه درّ هذا البيت الشريف، والنسب الخضم المنيف، وناهيك به من فخار، وحسبُك فيه من علوّ مقدار، فهم جميعاً في كرم الأرومة وطِيب الجرثومة كأسنان المشط; متعادلون، ولسهام المجد مقتسمون، فياله من بيت عالي الرتبة سامي المحلة، فلقد طاول السماء عُلاً ونُبلاً، وسما على الفرقدين منزلةً ومحلاًّ، واستغرق صفات الكمال فلا يستثنى فيه بـ «غير» ولا بـ «إلاّ»، انتظم في المجد هؤلاء الأئمة انتظام اللآلي، وتناسقوا في الشرف فاستوى الأوّل والتالي، وكم اجتهد قوم في خفض منارهم، والله يرفعه، وركبوا الصعب والذلول في تشتيت شملهم والله يجمعه، وكم ضيّعوا من حقوقهم ما لا يهمله الله ولا يضيّعه»(١) .

لقد ظفر الإمام أبو محمد بأسمى صور التربية الرفيعة وهو يترعرع في بيت زكّاه الله وأعلى ذكره ورفع شأنه حيث ( يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ... ) (٢) ، ذلك البيت الذي رفع كلمة الله لتكون هي العليا في الأرض وقدّم القرابين الغالية في سبيل رسالة الله.

وقطع الإمام الزكي شوطاً من حياته مع أبيه الإمام الهاديعليه‌السلام لم يفارقه في حلّه وترحاله، وكان يرى فيه صورة صادقة لمُثل جدّه الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما كان يرى فيه أبوه أنّه امتداد الرسالة والإمامة فكان يوليه أكبر اهتمامه، ولقد أشاد الإمام الهاديعليه‌السلام بفضل ابنه الحسن العسكري قائلاً:«أبو محمد ابني أصحّ آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غريزةً وأوثقهم حجة. وهو الأكبر من ولدي وهو الخلف وإليه تنتهي عرى الإمامة وأحكامها» (٣) ، والإمام الهادي بعيد عن

ــــــــــــ

(١) حياة الإمام الحسن العسكري(دراسة وتحليل): ١٠٣ عن الإتحاف بحبّ الأشراف: ٦٨.

(٢) النور(٢٤): ٣٧.

(٣) أصول الكافي: ١/٣٢٧ ح ١١ وعنه في الإرشاد: ٢/٣١٩ وإعلام الورى: ٢/١٣٥ وعن الإرشاد في كشف الغمة: ٣/١٩٦، وعن بعضها في أعيان الشيعة ٤ ق ٣: ٢٩٥ وعنه في حياة الإمام الحسن العسكري: ٢٣.

٣٢

المحاباة والاندفاع العاطفي مثله في ذلك آبائه المعصومين.

وقد لازم الإمام أبو محمدعليه‌السلام أباه طيلة عقدين من الزمن وهو يشاهد كل ما يجري عليه وعلى شيعته من صنوف الظلم والاعتداء. وانتقل الإمام العسكريعليه‌السلام مع والده إلى سرَّ من رأى(سامراء) حينما وُشي بالإمام الهاديعليه‌السلام عند المتوكل حيث كتب إليه عبد الله بن محمد بن داود الهاشمي: «يذكر أن قوماً يقولون إنه الإمام ـ أي علي الهاديعليه‌السلام ـ فأشخصه عن المدينة مع يحيى بن هرثمة حتى صار إلى بغداد، فلما كان بموضع يقال له الياسرية نزل هناك، وركب إسحاق بن إبراهيم لتلقّيه، فرأى تشوّق الناس إليه واجتماعهم لرؤيته، فأقام إلى الليل، ودخل به في الليل، فأقام ببغداد بعض تلك الليلة ثم نفذ إلى سرَّ من رأى»(١) .

ولقد أسرف المتوكّل العباسي في الجور والاعتداء على الإمام علي بن محمد الهاديعليه‌السلام ففرض عليه الإقامة الجبرية في سامرّاء وأحاط داره بالشرطة تحصي عليه أنفاسه وتمنع العلماء والفقهاء وشيعته من الاتصال به، وقد ضيّق المتوكّل على الإمام في شؤونه الاقتصادية أيضاً، وكان يأمر بتفتيش داره بين حين وآخر، وحمله إليه بالكيفية التي هو فيها.

وكان من شدّة عداء المتوكّل لأهل البيتعليهم‌السلام أن منع رسميًّا من زيارة قبر الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام بكربلاء، وأمر بهدم القبر الشريف الذي كان مركزاً من مراكز الإشعاع الثوري في أرض الإسلام.

وكانت كل هذه الظروف المريرة هي الظروف التي عاشها الإمام الزكي أبو محمد العسكريعليه‌السلام وهو في نضارة العمر وغضارة الشباب فكَوَتْ

ــــــــــــ

(١) تاريخ اليعقوبي: ٢ / ٤٨٤.

٣٣

نفسه آلاماً وأحزاناً وقد عاش تلك الفترة في ظل أبيه وهو مروّع فذابت نفسه أسىً وتقطّعت ألماً وحسرة(١) .

وكان استشهاد والده(سنة ٢٥٤هـ) وتقلّد الإمامة بعده وكانت فترة إمامته أقصر فترة قضاها إمام من أئمة أهل البيت الأطهار وهم أصح الناس أبداناً وسلامة نفسيّة وجسديّة. قد استشهد وهو بعد لمّا يكمل العقد الثالث من عمره الشريف، إذ كان استشهاده في سنة(٢٦٠هـ)(٢) فتكون مدة إمامتهعليه‌السلام ست سنين. وهذه المدة القصيرة تعكس لنا مدى رعب حكّام الدولة العباسية منه ومن دوره الفاعل في الأمة لذا عاجلوه بعد السجن والتضييق بدس السم له وهو لم يزل شاباً في الثامنة أو التاسعة والعشرين من عمره الميمون.(٣)

ولا بد من الإشارة إلى أنّ المنقول التاريخي عن الإمام العسكريعليه‌السلام في ظل حياة والده الإمام علي الهاديعليه‌السلام ومواقفهما لا يتعدى الولادة والوفاة والنسب الشريف وحوادث ومواقف يسيرة لا تتناسب ودور الإمامعليه‌السلام الذي كان يتمثل في حفظ الشريعة والعمل على إبعاد الأمة عن الانحراف ومواجهة التحديات التي كانت تواجهها من قبل أعداء الإسلام.

غير أن مجموعة من الروايات التي نقلها لنا بعض المحدثين تشير إلى أمور مهمّة من حياة الإمام العسكريعليه‌السلام ، وقد أشار الإمام العسكري نفسه إلى صعوبة ظرفه بقولهعليه‌السلام :«ما مُنيَ أحد من آبائي بمثل ما مُنيتُ به من شك هذه العصابة فيّ» .(٤)

ــــــــــــ

(١) حياة الإمام الحسن العسكري: ٢٤.

(٢) الإرشاد: ٢ / ٣١٥، وعنه في بحار الأنوار: ٥٠ / ٢٣٦.

(٣) مناقب آل أبي طالب: ٤ / ٤٢٢.

(٤) تحف العقول: ٥١٧.

٣٤

وهذا شاهد آخر على حراجة الظروف السياسية والاجتماعية التي كانت تحيط بالإمامين العسكريين علي بن محمد والحسن بن عليعليهما‌السلام والتي كانت تحتم إبعاد الإمام العسكري من الأضواء والاتصال بالعامة إلاّ في حدود يسمح الظرف بها أو تفرضها ضرورة بيان منزلته وإمامته وعلو مكانته وإتمام الحجة به على الخواص والثقاة من أصحابه، كل ذلك من أجل الحفاظ على حياته من طواغيت بني العباس.

وإن ما ورد منه في وفاة أخيه محمد يعدّ مؤشراً آخر يضاف إلى قول الإمامعليه‌السلام ويدل على صعوبة الظرف الذي كان يعيشه الإمامان وحالة الاستعداء التي كانت تفرضها السلطة عليهما، فعند وفاة محمد بن علي الهاديعليه‌السلام ـ كما يروي الكليني عن سعد بن عبد الله عن جماعة من بني هاشم منهم الحسن بن الحسين الأفطس ـ حيث قال: «إنهم حضروا يوم توفي محمد بن علي بن محمد دار أبي الحسنعليه‌السلام وقد بسط في صحن داره والناس جلوس حوله فقالوا: قدّرنا أن يكون حوله من آل أبي طالب ومن بني العباس وقريش مئة وخمسون رجلاً سوى مواليه وسائر الناس إذ نظرنا إلى الحسن بن عليعليه‌السلام قد جاء مشقوق الجيب حتى قام عن يمينه ونحن لا نعرفه فنظر إليه أبو الحسنعليه‌السلام بعد ساعة من قيامه ثم قال له:«يابني أحدث لله شكراً فقد أحدث فيك أمراً» .

فبكى الحسنعليه‌السلام واسترجع وقال:«الحمد لله رب العالمين، وإيّاه أسأل تمام نعمه لنا فيك وإنا لله وإنا إليه راجعون» .

فسألنا عنه فقيل لنا: هذا الحسن إبنه وقدّرنا له في ذلك الوقت عشرين

٣٥

سنة أو أرجح فيومئذ عرفناه وعلمنا أنه قد أشار إليه بالإمامة وأقامه مقامه»(١) .

ونلاحظ أن سؤال جماعة عن الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام وفي هذه المناسبة الأليمة التي حضرها أعيان الناس دليل قوي على مدى تكتّم الإمام الهادي على ولده العسكريعليهما‌السلام ، خصوصاً وهو قد بلغ العشرين من مراحل حياة الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام عمره الشريف.

الفصل الثاني: مراحل حياة الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام

تنقسم حياة الإمام العسكريعليه‌السلام إلى مرحلتين متميزتين:

المرحلة الأولى: هي الأيام التي قضاها الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام في ظلال إمامة أبيه الإمام الهاديعليه‌السلام والتي تقرب من(٢٢ سنة) حيث تنتهي باستشهاد أبيه سنة(٢٥٤هـ ).

ولا نملك صورة تفصيلية عن هذين العقدين من الزمن فيما يخص حياة الإمام الحسن العسكري سوى بضعة حوادث تتلخص في صور من خشيته لله منذ صباه وعلاقته الحميمة بأخويه محمد والحسين ثم رزؤه بأخيه محمد، ثم زواجه ونصّ الإمام الهادي على إمامته، ثم تجهيزه لأبيه حين وفاته صلوات الله عليه.

ولا بد لنا أن نلمّ بأحداث عصر الإمام الهاديعليه‌السلام ومواقفه منها كي نستطيع أن نخرج بصورة واضحة عن الظروف التي أحاطت بالإمام العسكريعليه‌السلام في المرحلة الثانية من حياته كي يتسنى لنا تقويمها ودراسة نشاطاتهعليه‌السلام في عصر إمامته الذي لا نجد عصراً أقصر منه ولا أشد حراجة بالنسبة للإمام نفسه ولشيعته ولأهدافه.

ــــــــــــ

(١) الكافي: كتاب الحجة، باب الإشارة والنص على أبي محمد عليه‌السلام ، الحديث رقم ٨.

٣٦

المرحلة الثانية: هي أيام إمامته حتى استشهاده والتي تبدأ من سنة(٢٥٤هـ) وحتى سنة استشهاده(٢٦٠هـ) وهي مرحلة حافلة بأحداث مهمة على الرغم من قصرها.

وقد عاصر فيها كُلاًّ من المعتزّ(٢٥٥ هـ ) والمهتدي(٢٥٦ هـ ) والمعتمد(٢٧٩ هـ )

وتبرز مدى أهميتها حينما نتصوّر أهمية مرحلة الغيبة التي كان لا بد للإمام الحسن العسكريعليه‌السلام أن يقوم بالتمهيدات اللازمة فيها لنقل شيعة أهل البيتعليهم‌السلام من مرحلة الحضور إلى مرحلة الغيبة التي يُراد من خلالها حفظ الإمام المعصوم وحفظ شيعته وحفظ خطّهم الرسالي من الضياع والانهيار والاضمحلال، حتّى تتهيّأ الظروف الملائمة لثورة أهل البيت الربّانية على كل صروح الظلم والطغيان وتحقيق جميع أغراض الرسالة الإلهية الخالدة على وجه الأرض من خلال دولة العدالة العالمية لأهل البيتعليهم‌السلام .

الفصل الثالث: الإمام الحسن العسكري في ظلّ أبيهعليهما‌السلام

كان شخوص الإمام الهادي مع ابنه الحسن العسكريعليه‌السلام من المدينة سنة(٢٣٤هـ)(١) ، ورافقه خلال مدة تواجده في سامرّاء البالغة عشرين سنة فيكون قد عاش الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام في ظل أبيه اثنين وعشرين سنة حيث استشهد أبوه الإمام الهاديعليه‌السلام سنة(٢٥٤هـ).

وقد عاش الظروف المأساوية القاسية التي كان يعيشها الإمام الهاديعليه‌السلام وشيعته والتي كانت تفرضها السلطة الغاشمة على الإمامعليه‌السلام وأتباعه من أجل إيقاف نشاط الإمام ونشاط أتباعه أو تحديده وتطويقه لئلاّ يتسع نشاط مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام وتنتشر آثارهم بين جميع أبناء الأمة الإسلامية ذلك النشاط الذي قد يؤدي إلى المواجهة معها ; لذا فهي كانت تعمد إلى الاضطهاد والسجن والنفي والمتابعة وهي وسائل السلطات الجائرة على امتداد تاريخ الإنسان.

١ ـ طفولة متميّزة

روي أن شخصاً مرّ بالحسن بن علي العسكريعليهما‌السلام وهو واقف مع

ــــــــــــ

(١) تاريخ الطبري: ٧ / ٥١٩.

٣٧

أترابه من الصبيان، يبكي، فظنّ ذلك الشخص أن هذا الصبيّ يبكي متحسّراً على ما في أيدي أترابه، ولذا فهو لا يشاركهم في لعبهم، فقال له: أشتري لك ما تلعب به ؟، فردّ عليه الحسنعليه‌السلام :«لا، ما للّعب خُلِقنا» .

وبهر الرجل فقال له: لماذا خلقنا ؟ فأجابهعليه‌السلام :«للعلم والعبادة» .

فسأله الرجل: من أين لك هذا ؟، فأجابهعليه‌السلام : من قوله تعالى( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ) .

وبهت الرجل ووقف حائراً، وانطلق يقول له: ما نزل بك، وأنت صغير لا ذنب لك ؟!!

فأجابهعليه‌السلام :«إليك عنّي، إني رأيت والدتي توقد النار بالحطب الكبار، فلا تتقد إلاّ بالصغار، وإني أخشى أن أكون من صغار حطب جهنّم» (١) .

وروي عن محمّد بن عبد الله أنه قال: وقع أبو محمدعليه‌السلام وهو صغير في بئر الماء وأبو الحسنعليه‌السلام في الصلاة، والنسوان يصرخن، فلمّا سلّم قال:لا بأس . فرأوه وقد ارتفع الماء إلى رأس البئر وأبو محمد على رأس الماء يلعب بالماء (٢) .

٢ ـ عصر الإمام الهاديعليه‌السلام

عاصر الإمام الهاديعليه‌السلام مدة إمامته ستّة من خلفاء بني العباس، المعتصم منذ سنة(٢٢٠ ـ ٢٣٢ هـ ) والمتوكل(٢٣٢ ـ ٢٤٧ هـ) حيث قتل على يد الأتراك، ثم جاءت أيام المنتصر ـ وكانت مدّة خلافته ستة أشهر ويومين، ثم المستعين(٢٤٨ ـ ٢٥٢هـ) كما عاصر الشطر الأكبر من خلافة

ــــــــــــ

(١) حياة الإمام الحسن العسكري: ٢٢ ـ ٢٣ عن جوهرة الكلام في مدح السادة الأعلام: ١٥٥.

(٢) الخرائج والجرائح: ١/٤٥١ ح ٣٦ وعنه في بحار الأنوار: ٥٠ / ٢٧٤.

٣٨

المعتز(٢٥٢ ـ ٢٥٥هـ) حيث كان استشهاد الإمام الهاديعليه‌السلام سنة(٢٥٤هـ)(١) ، وفي هذا العام تولى مهام الإمامة ابنه الحسن بن علي العسكريعليهما‌السلام .

وكانت الظروف التي تمر بها الدولة العباسية بعد تولي المتوكل ظروفاً صعبة جداً، إذ إنها كانت تعد مؤشراً على ضعفها، وتشكل بدايةً لانحلالها، فالحروب الداخلية والخارجية من جهة، والقتال بين أبناء الخلفاء على كرسي الحكم من جهة أخرى كالذي حصل بين المستعين والمعتز والذي أدّى إلى تولي المعتز وخلع الأول عام(٢٥٢هـ)(٢) . كل واحد من هذه الصراعات كان له تأثيره المباشر في إيجاد الضعف والانحلال.

وتمثّلت الأحداث الداخلية أيضاً بنشاط الخوارج والذي كان نشاطاً قوياً فعالاً مدعماً بالمال والسلاح بقيادة مادر الشاري، وهناك أيضاً الثورات والانتفاضات العلوية إلى جانب نزاعات الطامعين في السلطة.

كما ان الدولة كانت تعاني من سوء الحالة الاقتصادية نتيجة للبذخ والإسراف الذي كانت تعيشه رجالات البلاط والوزراء وحاشيتهم، وفي أيام المتوكل قام المتوكّل بهدم قبر الإمام الحسينعليه‌السلام (٣) ، ومَنَعَ القاصدين لزيارته عن زيارته; لأن المتوكل كان يتجاهر بعدائه لآل أبي طالب ومطاردتهم، ولم يرد تجاه تلك الأحداث أي تعليق من قبل الإمام الهاديعليه‌السلام ، ويمكن أن يقال: «إنه لم يرد إلينا عن موقف الإمامعليه‌السلام مع الخلفاء شيء سوى ما جاء عن موقفه من المتوكل وهو أقل القليل».(٤)

ــــــــــــ

(١) تاريخ الطبري: ٧ أحداث سنة ٢٣٤ وسنة ٢٥٤ هـ.

(٢) تاريخ اليعقوبي: ٢ / ٤٧٦.

(٣) تاريخ ابن الوردي: ١ / ٢١٦.

(٤) تاريخ الغيبة الصغرى: ١١٧.

٣٩

وكانت للإمام الهاديعليه‌السلام منزلة سامية ومكانة رفيعة القدر لدى أهل المدينة لإحسانه إليهم وعلاقته القوية معهم، فلمّا أشخصه المتوكل وأرسل يحيى ابن هرثمة لجلب الإمام من المدينة إلى سامراء عام(٢٣٤هـ) اضطرب الناس وضجّوا كما يروي يحيى بن هرثمة نفسه حيث قال: «فذهبت إلى المدينة فلمّا دخلتها ضجَّ أهلها ضجيجاً عظيماً، ما سمع الناس بمثله خوفاً على علي ـ أي الإمام الهاديعليه‌السلام ـ وقامت الدنيا على ساق، لأنه كان محسناً إليهم ملازماً للمسجد، لم يكن عنده ميل إلى الدنيا، فجعلت أسكّنهم، وأحلف لهم أني لم أؤمر فيه بمكروه، وأنه لا بأس عليه، ثم فتّشتُ منزله فلم أجد إلاّ مصاحف وأدعية، وكتب علم، فعظم في عيني»(١) .

وتعكس هذه الرواية لنا حجم ما كان يؤديه الإمام الهاديعليه‌السلام من دور في المدينة والذي نتج عنه حصول روابط ووشائج قوية تصل الأمة به كما كانت توصله بالأمة، وربما كان المتوكل قد وقف على هذا التأثير البالغ للإمامعليه‌السلام فكان سبباً لإبعاده عن المدينة المنوّرة إلى سامراء التي أسسها العباسيون أنفسهم والتي عُرفت بميول أهلها والذين كان أغلبهم من الأتراك إلى العباسيين أوّلاً، بالإضافة إلى ما عرفوا به من تطرّف في التوجه إلى السيطرة والسلطة ثانياً.

٣ ـ مواقف الإمام الهاديعليه‌السلام تجاه الأحداث

يتضح لنا من خلال الإجراءات التي قام بها المتوكل العباسي تجاه الإمام الهاديعليه‌السلام أنّ حركة الإمام وقيامه بمهامّه إزاء الأمة وخاصّته ـ وهي القواعد

ــــــــــــ

(١) تذكرة الخواص: ٣٦٠ عن علماء السير.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220