تسليك النفس إلى حظيرة القدس

تسليك النفس إلى حظيرة القدس23%

تسليك النفس إلى حظيرة القدس مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 257

تسليك النفس إلى حظيرة القدس
  • البداية
  • السابق
  • 257 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84834 / تحميل: 6281
الحجم الحجم الحجم
تسليك النفس إلى حظيرة القدس

تسليك النفس إلى حظيرة القدس

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

[ أدلّة الأشاعرة وإبطالها ]

هذا ، وينبغي التعرّض لأدلّة الأشاعرة ، وإبطالها ، تتميما للفائدة ، فنقول :

استدلّوا على مذهبهم بالعقل ـ وقد تقدّم بما فيه(١) ـ وبالنقل ، وهو أمران :

[ الأمر ] الأوّل :

ما يدلّ على إمكان الرؤية ، وهو قوله تعالى حكاية عن موسى ٧ : (قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي )(٢)

والحجّة به من جهتين :

[ الجهة ] الأولى :

إنّ موسى ٧ سأل الرؤية لنفسه ، ولو امتنعت لما سألها(٣) .

وأجيب عنه بأمور

__________________

(١) راجع الصفحة ٦٣ وما بعدها من هذا الجزء.

(٢) سورة الأعراف ٧ : ١٤٣.

(٣) انظر : الإبانة عن أصول الديانة : ٦٠ ـ ٦١ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٢٧٧ ـ ٢٧٨ ، شرح المقاصد ٤ / ١٨٢.

١٢١

أحسنها : أنّه إنّما سألها على لسان قومه ، ويشهد لصحّته أمور :

الأوّل : الآيات الدالّة على طلبهم لها من موسى ٧.

الثاني : قوله في هذه الآية : (سُبْحانَكَ )(١) فإنّه ظاهر في تنزيه الله عن الرؤية ، وهو يقتضي كونها نقصا ممتنعا عليه سبحانه ، فإذا كان عالما بكونها نقصا ، لم يجز أن يكون قد سألها من نفسه.

واحتمال عدم علمه بالنقص قبل السؤال ـ لو تمّ بالنسبة إلى موسى ـ كان لنا لا علينا ؛ لأنّه لا يصلح حينئذ الاستدلال بسؤاله الرؤية!

على إنّه يكفينا علمه في ثاني الحال بامتناع الرؤية ، ولذا قال : (سُبْحانَكَ ).

الثالث : قوله تعالى حكاية عن موسى ٧ : (قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا )(٢) فإنّ المراد ب‍ : (بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ ) هو سؤال الرؤية ، كما عن جماعة من المفسّرين(٣) .

فإن قلت :

على هذا كان ينبغي أن يقول : أرهم ينظرون إليك.

__________________

(١) سورة الأعراف ٧ : ١٤٣.

(٢) سورة الأعراف ٧ : ١٥٥.

(٣) انظر مثلا : تفسير الطبري ٦ / ٧٧ ، تفسير الماوردي ٢ / ٢٦٥ ، الكشّاف ٢ / ١٢١ ، زاد المسير ٣ / ٢٠٦ ، تفسير الفخر الرازي ١٥ / ٢٠ ، تفسير القرطبي ٧ / ١٨٧ ، تفسير البيضاوي ١ / ٣٦٢ ، البحر المحيط ٤ / ٢٩٩ ، تفسير ابن كثير ٢ / ٢٣٩ ، الدرّ المنثور ٣ / ٥٦٩.

١٢٢

قلت :

إنّما قال : (أَرِنِي ) لأنّه أثبت لظلمهم ، وأقوى حجّة عليهم ؛ لأنّهم إذا استحقّوا نزول الصاعقة بمجرّد تسبيبهم طلب الرؤية ـ والحال أنّ سائلها لنفسه موسى ، وهو المقرّب عند الله تعالى ـ فكيف لو طلبها لهم؟! وليس سؤاله تقريرا للباطل ، بل هو نوع من بيان الامتناع بلحاظ ما يتعقّبه من أخذ الصاعقة ، الكاشف عن كون طلب الرؤية ظلما فتمتنع.

الجهة الثانية :

إنّه تعالى علّق الرؤية على أمر ممكن في نفسه ، وهو استقرار الجبل ، والمعلّق على الممكن ، ممكن(١) .

وفيه :

منع الكبرى إذا كان المقصود مجرّد فرض الطرفين أو أحدهما ، لا الحقيقة.

ولو سلّمناها فيحتمل أن يكون استقرار الجبل ممتنعا بالغير ، وهو كاف في صحّة تعليق الممتنع عليه ، ولذلك صحّ العكس ، وتعليق الممكن بالذات على الممتنع في قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا )(٢) .

__________________

(١) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٢٨١ ، شرح المقاصد ٤ / ١٨٢.

(٢) سورة الأنبياء ٢١ : ٢٢.

١٢٣

على إنّه يكفي في صحّة التعليق على الممكن ، إمكان الرؤية في اعتقاد السائلين ، ليترتّب عليه معرفة الامتناع بالعقاب على السؤال ، الذي هو أدلّ من القول ، مضافا إلى قول موسى بعد ذلك : (سُبْحانَكَ ) الدالّ على الامتناع كما عرفت.

الأمر الثاني :

ما دلّ على وقوع الرؤية ، وهو آيات وأخبار عندهم.

أمّا الآيات ، فهي :

قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ )(١) .

وقوله تعالى : (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ )(٢) ، حيث حقّر الكفّار وخصّهم بالحجب ، فكان المؤمنون غير محجوبين ، وهو معنى الرؤية(٣) .

وقوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ )(٤) ؛ لأنّ المراد بالزيادة : الرؤية ، كما رواه صهيب عن النبيّ ٦ ، وذهب إليه كثير من المفسّرين(٥) .

__________________

(١) سورة القيامة ٧٥ : ٢٢ و ٢٣.

(٢) سورة المطفّفين ٨٣ : ١٥.

(٣) انظر : الإبانة عن أصول الديانة : ٥٩ و ٦٣ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٢٩٢ و ٢٩٥ ، شرح المقاصد ٤ / ١٩٢ و ١٩٥.

(٤) سورة يونس ١٠ : ٢٦.

(٥) انظر مثلا : تفسير الطبري ٦ / ٥٥١ ح ١٧٦٤١ ، تفسير البغوي ٢ / ٢٩٦ ، تفسير الفخر الرازي ١٧ / ٨١ ، تفسير القرطبي ٨ / ٢١٠.

١٢٤

وأمّا الأخبار :

فروايات كثيرة(١) ، حتّى قال القوشجي : « روى حديث الرؤية أحد وعشرون رجلا من كبار الصحابة »(٢) .

وفيه :

إنّه بعدما قام الدليل العقلي على امتناع رؤيته سبحانه ، يجب التصرّف في الظواهر كما في قوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا )(٣) ، لا سيّما وقد أقرّ الخصم وغيره بأنّهم لا يقولون بالرؤية المعهودة القائمة بالشرائط ، التي هي المستفادة من تلك الظواهر ، فيلزم التصرّف فيها عند الفريقين.

ولا معيّن لحملها على المعنى الذي زعموه(٤) ، لا سيّما وهو إلى الآن لم يعرف ما هو؟! ولم يحك الاستعمال عليه في مورد!

على إنّ أخبارهم ليست حجّة علينا ، خصوصا وجلّها ـ أو كلّها ـ مطعون بأسانيدها عندهم ، ومجرّد الرواية عن صحابي لا تثبت روايته لها ، مع إنّهم إن كانوا أمثال أبي هريرة فباب الطعن أوسع!!

__________________

(١) انظر : التصديق بالنظر إلى الله تعالى في الآخرة ـ للآجري ـ : ٣٧ ـ ١١٣ ح ١ ـ ٦٤.

(٢) شرح التجريد : ٤٣٣ ـ ٤٣٤.

(٣) سورة الفجر ٨٩ : ٢٢.

(٤) وهو كون الرؤية معنى يحصل في الرائي أو يحدثه الله فيه وإن فقدت جميع شروط الرؤية ، من المقابلة وسلامة الحاسّة وقصد الرؤية وعدم البعد المفرط وغيرها ، وقد لا تحدث الرؤية وإن توفّرت جميع هذه الشروط.

١٢٥

وأمّا الآية الأخيرة : فلا ظهور لها في المدّعى ، والرجوع في تفسيرها إلى رواية صهيب عمل بالرواية ، وقد عرفت ما فيه.

وأمّا الآية الثانية : فظاهرها الحجب عن الله تعالى بلحاظ المكان ، وهو غير مراد قطعا ؛ لأنّ الله سبحانه لا يحويه مكان ، ولا معيّن لإرادة الحجب عن الرؤية حتّى يلزم عدم حجب المؤمنين عنها ، بل يحتمل ـ كما هو الأقرب ـ إرادة الحجب عن رحمته ، ومحلّ القرب المعنوي منه(١) .

وأمّا الآية الأولى : فيمكن أن تكون فيها (ناظِرَةٌ ) بمعنى : منتظرة ، كما هو المرويّ عن أمير المؤمنين ٧ ، ونسب إلى مجاهد ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، والضحّاك(٢) .

وأورد عليه :

أوّلا : بإنكار استعمال النظر بمعنى : الانتظار ، لا سيّما مع التعدية ب‍ ( إلى ).

وثانيا : بأنّ انتظار النعمة غمّ فلا يقع في الجنّة.

والجواب عن الأوّل : إنّ إنكار الاستعمال لا يلتفت إليه مع نصّ علماء اللغة على الوقوع ، كصاحب « القاموس »(٣) ، وعن « الصحاح » وغيره(٤) .

__________________

(١) انظر : شرح الأصول الخمسة : ٢٦٧ ، الكشّاف ٤ / ٢٣٢ ، مجمع البيان ١٠ / ٢٦٣.

(٢) مجمع البيان ١٠ / ١٧٧ ، وانظر : تفسير الطبري ١٢ / ٣٤٣ ـ ٣٣٤ ح ٣٥٦٥٦ ـ ٣٥٦٦٣ ، شرح الأصول الخمسة : ٢٤٧ وما بعدها.

(٣) القاموس المحيط ٢ / ١٥٠ مادّة « نظر ».

(٤) الصحاح ٢ / ٨٣٠ ، النهاية في غريب الحديث والأثر ٥ / ٧٨ ، لسان العرب ١٤ / ١٩٢ ، تاج العروس ٧ / ٥٣٩ ، مادّة « نظر ».

١٢٦

وقد ورد به الكتاب العزيز وغيره

قال تعالى. (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ )(١) (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ )(٢) (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ )(٣) .

وقال الشاعر(٤) :

وجوه ناظرات يوم بدر

إلى الرحمن يأتي بالفلاح

وقال آخر(٥) :

كلّ الخلائق ينظرون سجاله(٦)

نظر الحجيج إلى طلوع هلال

فإنّ المراد به الانتظار لمناسبة المقام ، ولو أريد به الرؤية لعدّاه إلى ( سجال ) ب‍ ( إلى ) كما قيل.

والجواب عن الثاني : إنّه لا غمّ في انتظار النعم لمن يتيقّن بحصولها عند إرادته ، وطوع مشيئته ، بل ذلك زيادة في نعيمه.

على إنّه لم يظهر من الآية أنّ النظر في الجنّة ، فلعلّه يوم القيامة ، كما

__________________

(١) سورة النمل ٢٧ : ٣٥.

(٢) سورة الحديد ٥٧ : ١٣.

(٣) سورة الأحزاب ٣٣ : ٥٣.

(٤) نسبه الباقلّاني في تمهيد الأوائل : ٣١٢ إلى حسّان بن ثابت ، ولم نجده في ديوانه ؛ فلاحظ ، فلعلّه ممّا أسقط من أشعاره فلم يذكر في ديوانه.

وانظر : تبصرة الأدلّة في أصول الدين ـ للنسفي ـ ١ / ٣٩٧ ، مجمع البيان ١٠ / ١٧٥ ، تفسير الفخر الرازي ٣٠ / ٢٢٨ و ٢٣٠ ، شرح المواقف ٨ / ١٣٢ ، باختلاف يسير في بعضها.

(٥) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٣٢.

(٦) السجال : الخير والكرم والجود هنا على المجاز ، ورجل سجل : جواد ، وأشجل الرجل : كثر خيره وبرّه وعطاؤه للناس ؛ انظر مادّة « سجل » في : لسان العرب ٦ / ١٨١ ، تاج العروس ١٤ / ٣٣٤.

١٢٧

يناسبه ما بعدها ، وهو قوله تعالى : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ )(١) .

ولو سلّم أنّ (ناظِرَةٌ ) ليس بمعنى : منتظرة ، فلا يتّجه استدلالهم بالآية ؛ لأنّ النظر : تأمّل العين للشيء ، لا الرؤية كما في « القاموس » وغيره(٢)

ولذا يتحقّق بدون الرؤية ، قال تعالى : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ )(٣) مع إنّه قال : (تَراهُمْ يَنْظُرُونَ )

والرؤية لا ترى ، وإنّما يرى تأمّل العين وتقليب الحدقة.

وأيضا : يقال : نظرت إلى الهلال فرأيته ؛ ولو كان النظر بمعنى الرؤية ، لما صحّ تفريعها عليه.

وأيضا : يصحّ وصف النظر بما لا توصف به الرؤية ، كالشزر والخشوع ، ونحوهما ، فلا يكون بمعناها.

فحينئذ لا تدلّ الآية على تعلّق الرؤية به تعالى.

ودعوى : إنّ النظر ، وإن لم يكن بمعنى الرؤية ولا يستلزمها ، إلّا أنّ تأمّل عيونهم ، وتقليب أحداقهم إلى ربّهم ، يدلّ على رجائهم رؤيته تعالى ، فيلزم أن تكون ممكنة ، وإن لم تلزم فعليّتها.

إذ لو كانت نقصا عليه تعالى ، وممتنعة ، لنهوا عن التأمّل إليه

باطلة ؛ لأنّ صريح الآية أنّ نظرهم إليه تعالى نعمة وفائدة لهم.

__________________

(١) سورة القيامة ٧٥ : ٢٤ و ٢٥.

(٢) القاموس المحيط ٢ / ١٤٩ ، الصحاح ٢ / ٨٣٠ ، لسان العرب ١٤ / ١٩١ ، تاج العروس ٧ / ٥٣٨ ، مادّة « نظر ».

(٣) سورة الأعراف ٧ : ١٩٨.

١٢٨

ومن الواضح أنّ التأمّل ليس بنفسه نعمة وفائدة فلا بدّ :

إمّا من حمل النظر إليه تعالى على رؤيته ، فيكون مجازا في المفرد ، ويثبت مطلوبهم

أو من حذف مضاف ، أي : ناظرة إلى نعمة ربّها وثوابه ، فيكون مجازا في الحذف.

ولا معيّن للأوّل ، بل المتعيّن الثاني ، لتعديته ب‍ ( إلى ) ، إذ لو كان بمعنى الرؤية لتعدّى بنفسه رعاية للمعنى.

فمع هذه الأمور كلّها ، كيف يمكنهم الاستدلال بالآية؟! والحال أنّه يكفينا في منع دلالتها أنّها على تقدير ظهورها في الرؤية ، تكون ظاهرة في الرؤية المعروفة ذات الشرائط الخاصة ، وهم لا يقولون بها كما ذكروا ، فلا بدّ من حمل النظر في الآية على أمر آخر ، ولا معيّن للمعنى الذي يدّعونه.

هذا ، وقد نسب القوشجي إلى أمير المؤمنين ٧ أنّ المعنى : ناظرة إلى ثواب ربّها(١) .

فمن الغرائب إعراصه عنه بعد النسبة ، وأخذه بغيره!!

فإذا تركوا قول عالم علم الكتاب ، وباب مدينة علم النبيّ ٦ ، وعديل القرآن ، الذي أمروا بالتمسّك به ، فنحن لرواية صهيب وأبي هريرة وأمثالهما أترك!

واعلم أنّ استدلال القوم على الإمكان والوقوع بالظواهر التي لا تفيد اليقين ، ليس في محلّه ما لم يثبت الإمكان بدليل يقيني ، فتكون مؤيّدة له ؛

__________________

(١) شرح التجريد : ٤٣٥.

١٢٩

لأنّ احتمال الامتناع ـ ما دام باقيا ـ لا ترفعه الظواهر الظنّية.

والمسألة ممّا يطلب فيها اليقين ، فلا وجه للاستدلال بالظواهر لمن عجز عن إثبات الإمكان بدليل عقلي ، أو ضرورة ، كالرازي والتفتازاني وشارح « المواقف » وغيرهم(١) .

ونحن لمّا أثبتنا الامتناع بضرورة العقل ، ساغ لنا الاستدلال بالظواهر تأييدا لحكم العقل.

__________________

(١) الأربعين في أصول الدين ١ / ٢٦٨ و ٢٧٧ ، شرح المقاصد ٤ / ١٨١ و ١٩١ ، شرح المواقف ٨ / ١١٥ و ١١٦ و ١٢٩ ، شرح التجريد : ٤٣٣ و ٤٣٧ ـ ٤٣٨.

١٣٠

مباحث النظر

١٣١
١٣٢

العلم بالنتيجة واجب بعد المتقدّمتين

قال المصنّف ـ قدّس الله نفسه ـ(١) :

المسألة الثانية

في النظر وفيه مباحث :

[ المبحث ] الأوّل

إنّ النظر الصحيح يستلزم العلم

الضرورة قاضية بأنّ كلّ من عرف أنّ الواحد نصف الاثنين ، وأنّ الاثنين نصف الأربعة ، فإنّه يعلم أنّ الواحد نصف نصف الأربعة.

وهذا الحكم لا يمكن الشكّ فيه ، ولا يجوز تخلّفه عن المقدّمتين السابقتين ، وأنّه لا يحصل من تينك المقدّمتين : أنّ العالم حادث ، و [ لا ] أنّ النفس جوهر ، [ أ ] وأنّ الحاصل أوّلا أولى من حصول هذين.

وخالفت الأشاعرة كافّة العقلاء في ذلك(٢) ، فلم يوجبوا حصول

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٩ ـ ٥٠.

(٢) انظر : شرح العقائد النسفية : ٦٩ ـ ٧٠ ، شرح المقاصد ١ / ٢٤٠ ـ ٢٤٧ ، شرح المواقف ١ / ٢٠٧ ـ ٢٢٤.

١٣٣

العلم عند حصول المقدّمتين ، وجعلوا حصول العلم عقيب المقدّمتين اتّفاقيا ، يمكن أن يحصل ، وأن لا يحصل!

ولا فرق بين حصول العلم بأنّ الواحد نصف نصف الأربعة ، عقيب قولنا : « الواحد نصف الاثنين ، والاثنان نصف الأربعة » ؛ وبين حصول العلم بأنّ العالم محدث ، أو أنّ النفس جوهر ، أو أنّ الإنسان حيوان ، أو أنّ العدل حسن ، عقيب قولنا : « الواحد نصف الاثنين ، والاثنان نصف الأربعة »!

وأيّ عاقل يرضى لنفسه اعتقاد أنّ من علم أنّ الواحد نصف الاثنين ، والاثنين نصف الأربعة ، يحصل له علم أنّ العالم محدث؟!

وأنّ من علم أنّ العالم متغيّر ، وأنّ كلّ متغيّر محدث ، يحصل له العلم بأنّ الواحد نصف نصف الأربعة ، وأنّ زيدا يأكل ، ولا يحصل له العلم بأنّ العالم محدث؟!

وهل هذا إلّا عين السفسطة؟!

١٣٤

وقال الفضل(١) :

مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري أنّ حصول العلم ـ الذي هو النتيجة ـ عقيب النظر الصحيح ، بالعادة.

وإنّما ذهب إلى ذلك بناء على إنّ جميع الممكنات مستندة ـ عنده ـ إلى الله سبحانه ابتداء ، أي بلا واسطة ، وعلى إنّه قادر مختار ، فلا يجب عنه صدور شيء منها ، ولا يجب عليه ، ولا علاقة بوجه بين الحوادث المتعاقبة إلّا بإجراء العادة ، بخلق بعضها عقيب بعض ، كالإحراق عقيب مماسّة النار ، والريّ بعد شرب الماء ، فليس للمماسّة والشرب مدخل في وجود الإحراق والريّ ، بل الكلّ واقعة بقدرته واختياره تعالى ، فله أن يوجد المماسّة بدون الإحراق ، وأن يوجد الإحراق بدون المماسّة ، وكذا الحال في سائر الأفعال.

وإذا تكرّر صدور الفعل منه ، وكان دائما أو أكثريّا ، يقال : إنّه فعله بإجراء العادة ؛ وإذا لم يتكرّر ، أو تكرّر قليلا ، فهو خارق العادة أو نادر.

ولا شكّ أنّ العلم بعد النظر ممكن ، حادث ، محتاج إلى مؤثّر ، ولا مؤثّر إلّا الله ، فهو فعله الصادر عنه بلا وجوب منه ، ولا عليه ، وهو دائم أو أكثريّ ، فيكون عاديّا(٢) .

هذا مذهب الأشاعرة في هذه المسألة.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٤٨ ـ ١٤٩.

(٢) شرح المواقف ١ / ٢٤١ ـ ٢٤٣ ، وانظر : محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخرين : ٦٦.

١٣٥

وقد بيّنّا في ما سبق أنّ المراد من العادة ماذا(١) .

فالخصم إمّا أنيقول : إنّ استلزام النظر الصحيح للعلم واجب ، وتخلّفه عنه محال عقلا ؛ فهذا باطل ؛ لإمكان عدم التفطّن للنتيجة مع حصول جميع الشرائط [ عقلا ] ، فلا يكون التخلّف محالا عقلا.

وإن أراد الوجوب عادة ـ بمعنى استحالة التخلّف عادة وإن جاز عقلا ـ ، فهذا عين مذهب الأشاعرة كما بيّنّا.

وأمّا قوله : إنّ الأشاعرة « جعلوا حصول العلم عقيب المقدّمتين اتّفاقيا » ، فافتراء محض ؛ لأنّ من قال بالاستلزام عادة ـ على حسب ما ذكرناه من مراده ـ لم يكن قائلا بكونه اتّفاقيا ، كما صوّره هو في الأمثلة على شاكلة طامّاته وترّهاته ، وكأنّه لم يفرّق بين اللزوم العادي ، وكون الشيء اتّفاقيا ؛ أو يفرّق ولكن يتعامى ليتيسّر له التشنيع والتنفير.

والله العالم.

* * *

__________________

(١) انظر الصفحة ٦٣ من هذا الجزء.

١٣٦

وأقول :

قد عرفت ممّا سبق في المبحث الثاني من المسألة الأولى(١) أنّه لو قلنا باستناد الممكنات كلّها إلى الله تعالى بلا واسطة ، وأنكرنا العلاقة والسببية بين الحوادث المتعاقبة خارجا ، أو طبعا ، لزم عدم الحكم على الجسم بالحدوث ، ولا على المركّب بالإمكان ، ولزم جواز وجود العرض بلا معروض ، والجسم بلا مكان ؛ وكلّها باطلة إلى غير ذلك ممّا مرّ.

ومنه يعلم ما في قوله : « لا مؤثّر إلّا الله تعالى » كما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

وأمّا قوله : « فله أن يوجد المماسّة بدون الإحراق ، وإن يوجد الإحراق بدون المماسّة ».

فإن أراد به أنّ له أن يوجد المماسّة بدون الإحراق ، مع كون النار والمماسّ لها على طبيعتهما ، فممنوع ؛ إذ ليس محلّا للقدرة ، لكونه محالا.

وإن أراد به أنّ له الإيجاد ، مع تغيير الطبيعة ، فمسلّم ؛ ولكنّه خارج عن محلّ الكلام.

كما أنّ إيجاد الإحراق بلا مماسّة إن أراد به الإحراق المطلق ، فمسلّم.

وإن أراد به الإحراق الذي ينشأ بشخصه من النار ، فممنوع.

ولا يخفى أنّ التوقّف على الأسباب لا ينافي القدرة ؛ لأنّ المقدور

__________________

(١) انظر الصفحة ٥١ وما بعدها من هذا الجزء.

١٣٧

بالواسطة مقدور.

كما أنّ وجوب المسبّب بعد اختيار السبب لا ينافي القدرة والاختيار ، فظهر وجوب العلم بالنتيجة عند حصول النظر الصحيح.

وقوله : « هذا باطل ؛ لإمكان عدم التفطّن للنتيجة مع حصول جميع الشرائط »

واضح البطلان ؛ لأنّه إن أراد بالشرائط الأعمّ من شرائط القياس وشرائط العلم ـ من العقل ، والحياة ، وعدم النوم ، والغفلة ـ فإمكان عدم التفطّن مع اجتماع الشرائط من أظهر المحالات.

وإن أراد بها خصوص شرائط القياس ، فإمكان عدم التفطّن مسلّم ، لكن اعتبار وجود شرائط العلم مفروغ عنه في كلام كلّ مباحث بمثل المقام.

وأمّا ما ذكره من أنّ نسبة المصنّف إلى الأشاعرة أنّهم جعلوا حصول العلم عقيب المقدّمتين اتّفاقيا ، افتراء محض ؛ فغريب!

إذ لم يرد المصنّف بكون الحصول اتّفاقيا الحصول في بعض الأوقات دون بعض ، بل أراد به الحصول بلا لزوم ؛ لأنّه قال : « اتّفاقيا ، يمكن أن يحصل ، وأن لا يحصل » فوصف الاتّفاقي بما يمكن حصوله وعدمه ، لا بالحصول في وقت دون آخر ؛ وهو صريح في ما قلنا.

على إنّه لو أراد بالحصول الاتّفاقي الحصول في بعض الأوقات ، لم يبعد عن الصدق ؛ لأنّ الخصم لم يجعل في أوّل كلامه حصول العلم بعد النظر دائميا ، بل قال : هو دائم أو أكثري ، كما هو عين كلام شارح « المواقف ».

١٣٨

فإنّه نقل لفظ « المواقف » وشرحها بعينه ، من قوله : « بناء » إلى قوله : « فيكون عاديّا »(١) ، وحينئذ فأيّ الأمرين أراده المصنّف يكون ما صوّره من الأمثلة واردا عليهم ؛ وهو ظاهر.

__________________

(١) المواقف : ٢٧ ، شرح المواقف ١ / ٢٤١ ـ ٢٤٣.

١٣٩
١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

المرصد السّادس

في العدل

وفيه مطالب

١٦١

١٦٢

[المطلب] الأوّل

في الحسن والقبح العقليّين

الفعل إن لم يكن له صفةٌ زائدةٌ على حدوثه فهو كحركة السّاهي والنّائم. وإن كان، فهو إمّا حسنٌ لا صفة زائدة له على حسنه، وهو المباح؛ أو له صفةٌ زائدةٌ، فإن أوجبت الذّمّ على التّرك فهو الواجبُ، وإلاّ النّدبُ؛ وإمّا قبيحٌ، وهو ما يستحقّ فاعله العالمُ بحاله الذّمّ.

واتّفقت المعتزلة على أنّ من الأشياء ما يُعلم كونه حسناً وقبيحاً بالضّرورة، كحسن الصّدق النافع والإنصاف والإحسان وشكر المُنعم وقبح الكذب الضّارّ والظلم والفساد وتكليفِ ما لا يُطاق؛ ومنها ما يعلم حسنه وقبحه بنظر العقل، كحُسن الصّدق الضّارّ وقبح الكذب النّافع، ومنها ما يُعلم من جهة الشّرع، لا بمعنى أنّه علّةٌ في الحُسن والقبح، بل إنّه كاشف لجزم من لم يعتقد الشّرعُ به، ولأنّه لولاه لجاز إظهار المعجزة (١) على يد الكاذب، والخُلف في وعده ووعيده. والتّعذيب على الطاعة والإثابة على المعصية، فينتفي فائدةُ التّكليف ولأُفحِمَتِ الأنبياءُ.

____________________

(١) ألف: المعجز.

١٦٣

وقالت الأشاعرة: إنهما شرعيّان، فالحسنُ ما أمر الشّارعُ به، والقبيحُ ما نهى عنه؛ لأنّ العلمُ به ليس نظريّاً إجماعاً ولا ضروريّاً، وإلاّ لساوى العلم بأنّ الكلّ أعظمُ من الجزء. والتّالي باطلٌ قطعاً، فكذا المقدّمُ، ولأنّ الكذبَ قد يحسنُ إذا اشتمل على مصلحة، كتخليص نبيّ من ظالم، أو قال: لأكذبنّ غداً، ولأنّه - تعالى - كلّف من علم عدمَ إيمانه، وخلافُ معلوم الله - تعالى - مُحال، وكلّف أبا لهب بالإيمان بجميع ما أخبر به. ومن جملة ما أخبر (١) أنّه لا يؤمنُ، فقد كلّفه بأن يؤمن بأن لا يؤمن. وهو جمعٌ بينَ النّقيضين؛ ولأنّ أفعال العبد اضطراريّةٌ، فلا حسنَ ولا قبحَ.

والجوابُ: المنعُ من الملازمة فإنّ التّصديقات الضّروريّة تتفاوتُ بتفاوت التّصوّرات في الكمال والنّقصان، ومن بطلان التّالي، والكذب ليس بحسن مطلقاً. ويجب التّوريةُ لتخليص النّبيّ، فينتفي الكذبُ، أو يأتي بصورة الإخبار من غير قصد له، بل للاستفهام. ويجبُ ترك الكذب في الغد، لاشتماله على وجهي حسن، هما ترك الكذب وترك إتمام العزم عليه وإن اشتمل على وجه قبح، وهو أولى من الكذب المشتمل على وجهي قبح هُما الكذب وإتمام العزم عليه، وعلى وجه حَسن وهو الصدق، والعلم تابعٌ، فلا يؤثّرُ في المتبوع.

ونمنع إخباره عن أبي لهب بعدم الإيمان. والسّورةُ اشتملت (٢) على

____________________

(١) ج: أجزائه.

(٢) ج: إنه اشتملت.

١٦٤

ذمّه، لا على الإخبار بعدم إيمانه. ويُحتَملُ نزولها بعدَ موته. ويؤيّده قوله تعالى: ( مَا أَغْنَى‏ عَنْهُ ) (١) وقوله تعالى: ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أأنذرتهم ) (٢) يُحتَمل نزولها بعدَ موتهم أو حالَ غفلتهم. والغافل غير مكلّف. وسيأتي بيانُ اختيار العبد.

تذنيبٌ

القبائحُ إنّما قبحت لما هي عليه. وكذا الواجباتُ، فإنّ العقلاء متى علموا الظلمَ، أو منعَ ردّ الوديعة، أو ترك شكر المنعم، (٣) ذمّوا فاعل ذلك، ومتى علموا ردّ الوديعة أو شكر النّعمة مدحوا فاعله. فإذا طلب منهم العلّة بادروا إلى ذكر الظّلم أو منع الوديعة أو كفران النّعمة أو فعل الشّكر أو الرّدّ. فلو لا علمهم الضّروريّ بالعلم لما بادروا إليها وللدوران، فإنّ الضّرر متى كان ظلماً كان قبيحاً. وإذا انتفى الظلم انتفى قبحه فكان علّةً.

____________________

(١) المسد: ١١١/٢.

(٢) البقرة: ٢/٦.

(٣) ب، ج: النعمة.

١٦٥

المطلب الثاني

في أنّه - تعالى - لا يفعل القبيح ولا يُخلّ بالواجب

يدلّ عليه أنّ له صارفاً عن القبيح، لأنّه غنيٌّ عنه وعالمٌ بقبحه، ولا داعيّ له إليه، لانتفاء داعي الحاجة والحكمة، فلا يصدرُ الفعل عنه قطعاً.

والأشاعرة أسندوا القبائح إليه - تعالى عن ذلك -، لأنّه كلّف الكافر مع علمه بامتناع الإيمان منه، وتكليفُ ما لا يُطاقُ قبيحٌ عندكم، ولأنّه - تعالى - جمع بين الرّجال والنّساء في الدّنيا ومكّن بعضَهم من بعض، وجعل لهم ميلاً إلى الاجتماع وحرّمه، وذلك قبيح، كما يقبح منّا جمع العبيد والإماء،

وقد بيّنا أنّ العلمَ تابعٌ، والغرضُ في التّكليف هو التّعريض على معنى أنّه يجعله بحيثُ يتمكن من الوصول إلى النّفع وقد حصل الغرضُ، والجامع بينَ العبيد والإماء إذا نهاهم عن وصول بعضهم إلى بعض وتوعّدهم عليه بعظيم الضّرر، وفعل بهم ما يُقرّبهم من الامتثال ويُبعّدهم عن المخالفة، ونصب لهم من يؤدّبهم إذا أخلّوا بما أُمروا به عاجلاً ووعدهم على الامتثال بعظيم النّفع الّذي لا يمكن الوصول إليه إلاّ به لم يكن قبيحاً.

١٦٦

المطلب الثّالث

في خلق الأعمال

ذهب جهم بنُ صفوان إلى أن لا فاعل إلاّ الله - تعالى - وقالت الأشاعرةُ والنّجّاريّة، إنّ المُحدِثَ هو الله - تعالى - والعبدَ مكتسبٌ، وأنّه - تعالى - يخلقُ قدرة للعبد والفعل معاً. واختلفوا في الكسب، فقال الأشعريّ: هو إجراء العادة بإيجاد الله - تعالى - الفعل والقدرة معاً عندَ اختيار العبد، ولا أثرَ لقدرة العبد. وقال بعضُ أصحابه، معناه تأثيرُ قدرة العبد في كون الفعل طاعةً أو معصيةً أو عبثاً وغيرها من صفات الفعل الّتي يتناولها التّكليف وبها يستحقّ المدح والذّمّ. وقال آخرون: إنّه غيرُ معلوم.

وذهب أهل العدل إلى أنّ للحيوان أفعالاً تقعُ بقدرتهم (١) واختيارهم، فعندَ أبي الحسين ومن تابعه أنّ العلمَ به ضروريٌّ. وهو الحقّ. وعند باقي مشايخ المعتزلة ومن تابعهم من شيوخ الإماميّة أنّه كسبيٌّ.

لنا أنّ كلّ عاقل يعلمُ بالضّرورة حُسنَ المدح على الإحسان والذّمّ على الإساءة، وهو يتوقفُ على كون الممدوح والمذموم فاعلاً، ولأنّ أفعالنا

____________________

(١) ألف، ب: بقدرهم.

١٦٧

واقعةٌ بحسب قصودنا ومنتفية بحسب صوارفنا. وهو معنى الفاعل. ولأنّ الضّرورة قاضية بالفرق بينَ حركاتنا الاختياريّة والاضطراريّة، ولقبح منه - تعالى - الأمر والنّهي كما يقبح أمرُ الجماد ونهيه؛ وللسّمع.

احتجّ الخصمُ بأنّ العبدَ حالَ الفعل إن لم يمكنه التّرك فهو الجبر؛ وإن أمكنه: فإن لم يتوقّف التّرجيحُ على مرجّح لزم ترجيحُ الممكن من غير مرجّح، وإن توقّف، فإن كان منه عاد البحث، وإلاّ لزم الجبر، لامتناع الفعل من دونه ووجوبه عنده، ولأنّه لو كان موجداً لفعله لكان عالماً بتفاصيله، فإنّ القصد (١) الكلّيّ لا يكفي في حصول الجزئيّ لتساوي نسبته إلى الجميع. والتّالي باطل قطعاً، لعدم العلم بقدر السّكنات المتخلّلة في الحركات البطيئة، ولأنّه لو أراد العبدُ حركةَ جسم وأراد الله - تعالى - تسكينه، فإن وقعا أو لم يقعا لزم المُحال، وإن وقع أحدهما كان ترجيحاً من غير مرجّح، لاستقلال كلّ منهما؛ ولأنّه - تعالى - إن علم الوقوعَ وجب وإلاّ امتنع، فلا قدرةَ.

والجوابُ: أنّه متمكنٌ من التّرك نظراً إلى القدرة وغيرُ متمكّن نظراً إلى الدّاعي ولا يخرجه عن القدرة، لتساوي الطرفين بالنّسبة إلى القدرة وحدَها، وهو آتٍ في حقّ واجب الوجود. والعلم الإجماليّ كافٍ في الإيجاد. والقصد الكلّيّ قد ينبعث عنه الفعل الجزئيّ باعتبار تخصيصه

____________________

(١) ألف: الفصل.

١٦٨

بالمحلّ والوقت لا باعتبار القصد، وقدرته - تعالى - أقوى، فكان صدورُ فعله أولى، والوجوب المستند إلى العلم لاحقٌ. (١)

وكما أنّ فرضَ أحد النّقيضين يقتضي وجوبَه لاحقاً دونَ امتناع الآخر، كذا فرضُ العلم، لأنّه مطابقٌ له. والأصل في هيئة التطابق هو المعلوم، مع أنّه آتٍ في حقّه تعالى. والكسب غيرُ مفيد، لأنّ تجويز صدور الاختيار يقتضي تجويز صدور غيره، لعدم الأولويّة؛ ولانسحاب أدلّتهم عليه، فإنّ اختيار المعصية مغايرٌ لاختيار الطاعة. فحصولُ أحدهما إن لم يكن لمرجّح لزم ترجيح أحد الطرفين لا لمرجّح، وإن كان لمرجّح تسلسل. وكذا باقي الأدلّة.

____________________

(١) ج: اللاحق.

١٦٩

المطلب الرّابع

في أنّه - تعالى - يريدُ الطاعات ويكره المعاصي

هذا مذهبُ العدليّة، خلافاً للأشاعرة، لأنّ له داعياً إلى الطاعة، ولا صارفَ له عنها، وله صارفٌ عن المعصية، ولا داعيَ له إليها، لأنّه حكيمٌ، والحكيمُ له داعٍ إلى الحَسَن، والطاعة حسنة، وله صارفٌ عن القبيح، والمعصية قبيحةٌ؛ ولأنّ إرادة القبيح قبيحةٌ، لاستحسان العقلاء ذمّ مريد القبيح، ولأنّه أمر بالطاعة ونهى عن المعصية. وهما يستلزمان الإرادة والكراهة؛ فإنّ الأمر إنّما هو أمرٌ باعتبار إرادة المأمور به؛ ولقوله تعالى: ( كُلّ ذلِكَ كَانَ سَيّئُهُ عِندَ رَبّكَ مَكْرُوهاً ) (١) وكذب من قال: ( لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا ) (٢) وقوله: ( وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ ) (٣) ، ( وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الْفَسَادَ ) (٤) ، ( وَلاَ يَرْضَى‏ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ) (٥) ، و ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالْإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ ) (٦) ، ( وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ) (٧) .

____________________

(١) الإسراء: ١٧/٣٨.

(٢) الأنعام: ٦/١٤٨.

(٣) آل عمران: ٣/١٠٨.

(٤) البقرة: ٢/٢٠٥.

(٥) الزمر: ٣٩/٧.

(٦) الذاريات: ٥١/٥٦.

(٧) البيّنة: ٩٨/٥.

١٧٠

احتجّوا بأنّ إرادةَ الطاعة من الكافر تستلزم وقوعها وكراهةَ المعصية تستلزم عدمها؛ ولأنّ الأمر قد يوجد بدون الإرادة، كطالب العذر عن ضرب (١) عبده بعدم قبوله منه، فيأمره ولا يريد فعلَه، ليظهرَ عذره؛ وقوله تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ رَبّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلّهُمْ جَميعاً ) (٢) .

والجوابُ: أنّه أراد إيقاعَها اختياراً وكره إيقاعَ المعصية اختياراً، لئلاّ يبطلَ التّكليف. والمولى يوجد صورةَ الأمر ولا طلب، كما لا إرادة، والآية يدلّ على القسر (٣) .

____________________

(١) ج: بضرب العبد.

(٢) يونس: ١٠/٩٩.

(٣) ج: على التخيير.

١٧١

المطلب الخامس

في التكليف

وهو إرادةُ من يجبُ طاعته على جهة الابتداء ما فيه مشقّةٌ بشرط الإعلام. وهو حسنٌ لأنّه من فعلِه تعالى، والله لا يفعل القبيح؛ ولابُدّ من غرضٍ، لقبح العبثِ، وليس عائداً إليه تعالى، لاستغنائه، ولا إلى غير المكلّف، لقبح إلزام المشقّة لنفع (١) الغير، ولا ضرر المكلّف لقبحه ابتداء، ولا نفعه، لانتقاضه بتكليف من علم كفره، ولا تعريضه للضرر لقبحه ولا لنفع يصحّ الابتداء به، لأنّه يصيرُ عبثاً، فهو التّعريضُ لنفع لا يمكن الابتداء به.

والأشاعرة نفوا الغرضَ في أفعاله، وإلاّ لكان ناقصاً في ذاته مستكملاً بذلك الغرض، إذ بحصوله يحصل له ما هو الأولى له. وليس بجيّد، وإلاّ لزم العبثُ وإبطال غايات المصنوعات الظاهرة حِكمها. (٢) والاستفادةُ باطلة، كما في الخالقيّة.

وهو واجبٌ عندَ المعتزلة خلافاً للأشاعرة، وإلاّ لكان مغرياً بالقبيح،

____________________

(١) ج: منفعة.

(٢) ج: حكمتها.

١٧٢

لأنّ للعاقل ميلاً إلى القبيح ونفوراً عن الحسن.

فلولا التّكليف الزّاجر عن القبيح لزم ارتكابه،

وشرطه كونُ المكلّف عالماً بصفة الفعل لئلاّ يكلّفَ بالقبيح أو المباح، وبقدر المستحقّ عليه من الثّواب ليؤمن انتفاء الظلم، والقدرة على الإيصال، وكونه منزّهاً عن فعل القبيح والإخلال بالواجب، وأن يكون ما كلّف به ممكناً، لقبح التّكليف بالمُحال، وكونه ممّا يستحقّ به الثّواب، كالواجب والنّدب وترك القبيح، وقدرة المكلّف عليه، مميّزاً بينَه وبينَ ما لم يكلّفه متمكناً من الآلة والعلم بما يحتاج إليه، والعلّة فيحسن تكليف المؤمن آتيةٌ في الكافر؛ فإنّ العلم غير مؤثر والتّعريض للنّفع ثابت فيه. واختيار الكفر (١) لا يُخرج الحَسن عن حُسنه.

____________________

(١) ب، ج: اختياره الكفر.

١٧٣

المطلب السّادس

في اللّطف

وهو ما كان المكلّف معه أقرب إلى فعل الطاعة وأبعدَ من فعل القبيح، (١) ولم يكن له حظٌّ في التّمكين ولم يبلغ إلى حدّ الإلجاء، فالآلة ليست لطفاً؛ لأنّ لها مدخلاً في التّمكين. والإلجاء ينافي التّكليف، بخلاف اللّطف وهو واجبٌ خلافاً للأشعريّة، وإلاّ لزم نقض الغرض، فإنّه - تعالى - إذا علم أنّ المكلّف لا يختارُ الطاعة أو لا يكونُ أقرب إليها إلاّ عندَ فعل يفعله به وجب عليه فعلُه، وإلاّ كان مُناقضاً لغرضه، كمن قدّم طعاماً إلى غيره ويعلمُ أنّه لا يأكلُ (٢) إلاّ إذا فعل معه نوعاً من التأدّب لا مشقّةَ فيه ولا غضاضةَ، فلو لم يفعله لم يكن مريداً لأكله.

لا يقال: الفعل بدون اللطف إن كان ممكناً لم يتوقّف على اللّطف، وإلاّ صار من جملة التّمكين، كالقدرة، ولأنّ وجه الوجوب غير كافٍ فيه ما لم ينتف عنه وجوه (٣) القبح، فلم لا يجوزُ اشتمال اللّطف على وجه قبح، ولأنّ اللطف إن اقتضى رجحاناً مانعاً من النّقيض كان إلجاءً. وإن كان غير مانع لم

____________________

(١) ج: فعل المعصية.

(٢) ج: لا يأكله.

(٣) ج: وجوب القبح.

١٧٤

يكف في وجود الفعل، وإن لم يقتض رجحاناً البتة انتفت فائدته.

لأنّا نقول: الفعل يتوقّفُ على الدّاعي. واللّطفُ أمّا الدّاعي أو سببه أو مقوّيه، فيتوقّف عليه الفعل وليس تمكيناً. ووجوه القبح محصورة مضبوطة، لأنّا مكلّفون باجتنابها، وهي منفيّةٌ عن اللطف، واقتضاء الرّجحان المانع من النّقيض لا يستلزم الإلجاء، كالدّاعي الّذي يجب الفعل عنده، وإن كان غيرَ مانع كفى مع الدّاعي والقدرة.

واللطف إن كان من فعله - تعالى - وجب عليه فعله، وإن كان من فعل المكلّف وجب عليه - تعالى - أن يُعرّفه إيّاه ويُوجبه عليه، وإن كان من فعل غيرهما لم يجز أن يكلّفه فعلاً متوقّفاً على ذلك اللّطف إلاّ إذا علم أنّ ذلك يفعله قطعاً.

١٧٥

المطلب السّابع

في الآلام والأعواض

الألمُ منه قبيحٌ، وهو صادرٌ عنّا والعوض فيه علينا، ومنه حَسنٌ، فإن كان من فعلنا، مباحاً أو مندوباً أو واجباً فالعوض عليه تعالى، وإن كان من فعله - تعالى - فإمّا على وجه الاستحقاق بالعقاب، (١) وإمّا على جهة الابتداء.

واختلفَ فيه، فنفاه البكريّة، وقالت الأشاعرة لا عوضَ عليه - تعالى - في ما يفعله من الألم ولا في ما يأمر به. وقالت التّناسخيّة، إنّه - تعالى - يؤلمُ على وجه العقوبة لا غير. وعند العدليّة أنّه - تعالى - يؤلم ابتداءً بشرط اشتماله على مصلحة لا تحصل بدونه، وهو اللّطف إمّا للمؤلم أو لغيره. وأن يكونَ في مقابلته عوضٌ للمؤلم يزيد عليه أضعافاً كثيرةً بحيثُ يختارُ المتألمُ العوضَ والألم؛ لأن عراءه عن العوض ظلمٌ وعن اللّطف عبثٌ.

والعوضُ، هو النّفعُ المستحقُّ الخالي من تعظيم وإجلال، فالمستحقّ علينا مساوٍ للألم، والمستحقّ عليه - تعالى - بفعله أو إباحته أو أمره أو تمكينه لغير العاقل زائدٌ عليه. واختلف أهل العدل في الأخير، فقال بعضهم بما

____________________

(١) ب، ج: كالعقاب.

١٧٦

تقدّم، وآخرون بأنّ العوضَ على الحيوان. والباقون قالوا: لا عوضَ هنا.

لنا، أنّه - تعالى - مكّنه وجعل فيه ميلاً شديداً إلى الإيلام ولم يخلق له عقلاً يزجره عن القبيح مع إمكانه.

احتجّ الخصمُ بقوله (عليه السلام): ((يُنتصفُ للجمّاء من القرناء)) (١) وإنّما يكون بأخذ العوض من الجاني وبقوله (عليه السلام): ((جُرحُ العجماء جبارٌ)) (٢) والانتصاف بأخذ العوض إمّا من الجاني أو غيره، وصحّ أن يكونَ جباراً لانتفاء القصاص فيه.

والعوض واجبٌ، خلافاً للأشاعرة، وإلاّ لزم الظلمُ، واختلف الشّيوخُ، فقال أبو هاشم والبلخيّ: يجوزُ أن يُمكّن الله - تعالى - من الظلم من لا عوض له في الحال يوازي فعله.

ثمّ قال البلخيّ: يجوز أن يخرج من الدّنيا ولا عوضَ له، ويتفضّل الله - تعالى - عليه بالعوض، فيدفعه إلى المظلوم. ومنعه أبو هاشم وأوجب التّبقيةَ إلى أن يستحقّ عوضاً موازياً، لأنّ الانتصافَ واجبٌ والتّفضّل ليس بواجب، فلا يُعلّقُ عليه الواجبَ. قال المرتضى: التّبقيةُ أيضاً ليست واجبةً، فلا يعلّق عليها الانتصافَ الواجب. بل، يجب أن يكون له في حال ظلمه عوضاً موازياً.

____________________

(١) الاقتصاد: ٩١؛ كشف المراد: ٤٥٥.

(٢) الموطأ: ٢/٨٦٩؛ بحار الأنوار: ٨٧/٢٦٧.

١٧٧

المطلب الثّامن

في الآجال والأرزاق والأسعار

ألف - الأجل، هو الوقتُ الّذي يحدث فيه الشّيء. ويعنى بالوقت، الحادثُ الّذي جعل علماً لحدوث غيره. كما يقال: قدم زيدٌ عندَ طلوع الشّمس. وأجلُ الحياة هو الوقت الّذي يحدث فيه، وأجل الموت كذلك. فأيّ ميّتٍ مات على اختلاف أسباب الموت، فإنّ موته في أجله.

واختلف في المقتول لو لم يقتل فقيل: يعيشُ قطعاً، لأنّه لو مات قطعاً لكان ذابحُ غنم غيره محسناً إليه. وقيل: يموتُ قطعاً، وإلاّ لزم انقلابُ علمه - تعالى - جهلاً لو عاش.

والملازمةُ الأولى ممنوعةٌ، لأنّه فوّته العوضَ على الله تعالى. وهو أزيدُ من العوض عليه. (١)

والثّانيةُ أيضاً، لجواز تعلّق علم الموت بالقتل والحياة لولاه.

وأمّا الرّزقُ، فعند العدليّة ما صحّ الانتفاع به ولم يكن لأحد منعه منه،

____________________

(١) قال المصنّف في كشف المراد: ٣٤٠: إذ لو ماتت الغنم استحق مالكها عوضاً زائداً على الله فقال، فبذبحه فوت عليه الاعواض الزائدة.

١٧٨

لقوله تعالى: ( وَأَنفِقُوا مِن مَا رَزَقْنَاكُم ) (١) والله - تعالى - لا يأمرُ بالحرام.

وعند الأشاعرة، الرّزق ما أكل وإن كان حراماً. ويجوز طلبُه إجماعاً. ولقوله تعالى: ( فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللّهِ ) (٢) .

وأمّا السّعرُ، فهو تقدير البدل فيما يُباع به الأشياء. ولا يقال: هو البدل؛ لأنّ البدل هو الثّمن أو المثمنُ. وليس أحدهما سِعراً. وهو إمّا رخصٌ، وهو السّعرُ المنحطّ عمّا جرت به العادة، والوقت والمكان واحدٌ. وإمّا غلاءٌ، وهو ما يقابله، وكلّ منهما إمّا من الله تعالى أو من العباد.

____________________

(١) المنافقون: ٦٣/١٠.

(٢) الجمعة: ٦٢/١٠.

١٧٩

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257