تسليك النفس إلى حظيرة القدس

تسليك النفس إلى حظيرة القدس23%

تسليك النفس إلى حظيرة القدس مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 257

تسليك النفس إلى حظيرة القدس
  • البداية
  • السابق
  • 257 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84676 / تحميل: 6263
الحجم الحجم الحجم
تسليك النفس إلى حظيرة القدس

تسليك النفس إلى حظيرة القدس

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

المرصدُ الأوّل

في الأُمور العامّة

وفيه فصول

٢١

٢٢

الفصل الأوّل

في المقدمات

المقدّمة الأُولى: [في التّصور والتّصديق]

العلم إمّا تصوّرٌ، وهو حصولُ صورة الشّيء في العقل من غير حكم؛ وإمّا تصديقٌ، وهو الحكمُ ببعض المتصوّرات على بعض إيجاباً أو سلباً. وكلٌّ منهما ضروريٌّ ومكتسبٌ:

فالضّروريّ من التّصوّرات، ما لا يتوقّف حصوله على طلب وكسب، كتصوّر الحرارة والبرودة؛ والمكتسبُ، ما يتوقّف، كتصوّر الجوهر والعرض.

والضّروريّ من التّصديقات ما يكفي تصوّرُ طرفيه في الحكم، كالتّصديق بأنّ (الكلّ أعظمُ من الجزء)؛ والمكتسبُ ما لا يكفي، كالحكم بحدوث العالم.

وكاسبُ التّصوّر: الحدُّ، وهو التّعريفُ بالأجزاء؛ أو الرّسمُ، وهو التّعريفُ بالأعراض الخارجيّة (١) .

____________________

(١) ألف: الخارجة.

٢٣

وكاسبُ التّصديق هو الحجّةُ؛ وهي (١) إمّا قياسٌ، إن استدلّ بالعامّ على الخاصّ؛ وإمّا استقراءٌ، إن كان بالعكس؛ وإمّا تمثيلٌ، إن استدلّ بالمُساوي على المُساوي (٢) .

والأوّلُ يقينيٌّ والأخيران (٣) ظنّيان.

المقدّمةُ الثّانيةُ: [في التعريف]

اعلم أنّ المعلوم من كلّ وجه، والمجهول من كلّ وجه، لا يمكنُ طلبهما لاستحالة تحصيل الحاصل؛ وعدم الاشتياق إلى ما لا شعورَ به البتّةَ؛ فلابُدّ وأن يكونَ معلوماً من وجه ومجهولاً من آخر. والوجهان متغايران، والمطلوبُ ليس كلّ واحد منهما، بل معروضُهما، وهو الماهيّة ذاتُ الوجهين.

والماهيّة إن كانت مركّبةً جاز تحديدُها وإلاّ عُرِّفت بالرّسم (٤) لا غير؛ وإن (٥) كانت جزءاً من غيرها جاز التّحديدُ بها وإلاّ فلا.

والحدُّ إن اشتمل على جميع المقوّمات فهو التّامّ، وإلاّ فهو النّاقصُ.

والرسم إن أفاد تمييز الماهية عن جميع ما عداها فهو التّام وإلاّ فهو الناقص؛ والحدُّ إنّما يتألّفُ من الجنس والفصل.

____________________

(١) ج: هو.

(٢) ألف، ج: مثله.

(٣) ب: الآخران.

(٤) ألف: بالرّسوم.

(٥) ألف: فإن.

٢٤

والجنسُ هو كمالُ الجزء (١) المشترك، وهو الكلّيّ المقول على كثيرين مختلفين بالحقائق في جواب ما هو؟

والفصل هو الجزء المميّز، وهو الكلي المقول على كثيرين في جواب أيُّما هو في جوهره.

والمركّبُ منهما هو النّوعُ.

وتترتبُ (٢) الأجناسُ بعضُها فوقَ بعض إلى أن ينتهي إلى جنس لا جنسَ فوقه، ويُسمّى جنس الأجناس، وفي التّنازل إلى جنس لا جنسَ تحته، وهو الجنسُ السّافلُ، والأنواعُ كذلك.

والخارج عن الماهيّة إن اختصّ بها فهو الخاصّةُ، وإلاّ فهو العرضُ العامُّ.

فالكليّاتُ هي هذه الخمسةُ لا غير: الجنسُ والفصلُ والنّوعُ والخاصّةُ والعرض العامُّ.

المقدّمةُ الثّالثةُ: [في القياس]

اعلم أنّ كلّ قياس إنّما يتركّبُ من مقدّمتين لا أزيدَ ولا أقلّ، ويشترك المقدّمتان في حدّ (واحد) هو أوسط، وتتباينان بجزأين (٣) آخرين هما الأصغر والأكبر.

____________________

(١) ب: الحد.

(٢) ب: ترتيب/ ج: يتربَّت.

(٣) ج: في جزأين.

٢٥

وهذا المشترك إن كان محمولاً في الصّغرى موضوعاً في الكبرى فهو الشّكل الأوّل؛ وعكسهُ الرّابعُ؛ وإن كان محمولاً فيهما فهو الثّاني؛ وإن كان موضوعاً فيهما فهو الثّالثُ.

ويشترط: في الأوّل: إيجابُ الصّغرى وكلّيّةُ الكبرى.

وفي الثّاني: اختلافُ المقدّمتين بالإيجاب والسّلب، وكلّيّة الكبرى.

وفي الثّالث: إيجابُ الصّغرى وكلّيّة إحداهما.

وفي الرّابع: عدمُ اجتماع الخِسّتين (١) إلاّ إذا كانت الصّغرى موجبة جزئيّة واستعمال السّالبة الكليّة الكبرى مع الموجبة الجزئيّة الصّغرى لا غير.

المقدّمةُ الرّابعةُ: [في مواد الأقيسة وصورها]

مقدّمتا الدّليل إن كانتا قطعيّتين فالنّتيجة كذلك، وإن كانتا ظنّيتين أو إحداهما فالنّتيجة ظنّيّة؛ لأنّها تتبعُ أخسّ المقدّمتين (٢) .

والضّروريّاتُ ستّةٌ: الأوّلياتُ والمشاهداتُ والمجرّباتُ والحدسيّاتُ والمتواترات وقضايا قياساتُها معها.

ولا يكفي حصول المقدّمتين في اكتساب (٣) النّتيجة، بل لابُدَّ

____________________

(١) ب: الحيثيتين.

(٢) ب: الأخس من المقدّمتين.

(٣) ب: في النتيجة.

٢٦

من ترتيب مخصوص بينهما، وهو الجزء الصّوريّ للنّظر، والمقدّمتان أجزاءٌ مادّيّةٌ، وبصحّتهما يصحّ النّظرُ، وبفسادهما أو فساد إحداهما يكون فاسداً.

فهذه إشارةٌ مختصرةٌ إلى كيفيّة اكتساب المطالب، والتّفريعُ مذكورٌ في كتبنا العقليّة.

٢٧

الفصل الثّاني

في مباحث الوجود والعدم

وهي أربعةٌ:

[البحثُ] الأوّل: [تصوّر الوجود والعدم]

تصوّرُ الوجود والعدم بديهيٌّ، إذ لا تصوّر أجلى (١) منهما. وقد يذكرُ على سبيل التّعريف اللّفظيّ: أنَّ الوجود هو الثّابتُ العين، والمعدومَ هو المنفيُّ العين.

والوجود قد يكون ذهنيّاً وقد يكون خارجيّاً.

وكلّ من الوجود والعدم إمّا أن يكونَ واجباً للماهيّة لذاتها أو ممكناً.

فواجبُ الوجود لذاته هو اللهُ تعالى؛ وممكنُ الوجود لذاته هو ما عداه؛ وواجبُ العدم لذاته هو الممتنعُ؛ ولغيره هو الممكنُ؛ فكلّ ماهيّة إذا نُسِبَ الوجودُ إليها إمّا أن تكونَ واجبة الوجود لذاته أو ممكنة أو ممتنعَةُ.

____________________

(١) ب: أعلى/ ج: أصلاً.

٢٨

البحثُ الثاني: في أنّ الوجودَ معنىً مشترك (بينَ الموجودات)

(المشهور أنَّ الوجود معنى مشترك بين الموجودات) وقال أبو الحسين البصريّ (١) وأبو الحسن الأشعريّ (٢) إنّه مشترك لفظاً لا معنىً، ووجودُ كلّ شيء نفسُ حقيقته.

والحقُّ: الأوّلُ.

لنا: أنّا نُقسّمُ الوجودَ إلى الواجب والممكن، وموردُ التّقسيم مشترك فيه.

ولأنَّ العدمَ واحدٌ، لاستحالة التّميّز والاختلاف (٣) والتماثل (٤) في العدم، فيكونُ مقابلُهُ، وهو الوجود، [واحداً] (٥) ، وإلاّ لبطل الحصرُ في الموجود والمعدوم.

احتجّوا: بأنّ محلّ الوجود إن كان معدوماً لزم اتّصاف المعدوم بالوجود، وهو باطلٌ بالضّرورة؛ وإن كان موجوداً لزم الدّورُ أو التّسلسلُ.

والجواب: المحلُّ الماهيّةُ لا باعتبار القيدين.

____________________

(١) هو أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي، المتوفّى ٤٣٦هـ، صاحب كتاب المعتمد في أُصول الفقه.

(٢) هو أبو الحسن علي بن إسماعيل شيخ أهل السنّة والجماعة إمام الأشاعرة، كان معتزلياً وتاب من ذلك بعد أن أقام على عقيدتهم أربعين سنة، توفّي ٣٢٤هـ. وفيات الأعيان: ١/٤٦٤.

(٣) ألف: لاختلاف.

(٤) ب: التمكن.

(٥) ألف، ب: واحدٌ.

٢٩

تذنيبٌ

لمّا ثبت أنّ الوجودَ مشترك ثبت أنّه زائدٌ على الماهيّات، لاستحالة أن يكونَ نفسَها، وإلاّ لزم اشتراك الحقائق المختلفة في تمام الماهيّة؛ وأن يكونَ جزءاً منها، وإلاّ لكان جنساً، لكونه أعم الأجزاء (١) المشتركة، فيفتقرُ إلى فصل، وفصل الوجود موجود، فيكونُ الجنسُ داخلاً في الفصل ويتسلسلُ.

البحث الثالث: [ما هو المعدوم؟]

ذهب المحقّقون إلى أنّ المعدومَ نفيٌ محضٌ؛ وليس بشيءٍ. وذهب جماعةٌ من المعتزلة إلى أنّه شيءٌ ثابتٌ خارجَ الذّهن ولا تأثيرَ للفاعل فيه، بل في جَعْلِ الذات موجودةً؛ وتلك المعدومات متباينة بأشخاصها. والثّابتُ من كلّ نوع عددٌ غيرُ متناه، وإنّها بأسرها متّفقةٌ في كونها ذواتاً، وإنّما تتباينُ بالصّفات.

لنا : أنّ المفهوم من الثّبوت إنّما هو الوجود؛ فلو كان المعدوم ثابتاً في العدم كان موجوداً، وهو محال؛ ولأنّه إذا أوجد اللهُ - تعالى - منها شيئاً، فإن بقيت كما كانت كان الشّيءُ مع غيره كهو (٢) لا مع غيره وهو باطلٌ بالضّرورة؛

____________________

(١) ب: أتمّ الأجزاء.

(٢) ج: كما هو.

٣٠

وإن نقصت تناهت، فيتناهى مقدوراتُ الله تعالى، وهو محال؛ ولأنّه يلزمُ الاستغناء عن الفاعل، إذ الذّواتُ أزليّة، فلا تكونُ مقدورةً.

والوجود من قبيل الأحوال عندهم فلا يكون مقدوراً، والاتّصاف ليس أمراً زائداً على الماهيّة والصّفة، وإلاّ لزم التّسلسلُ فتكون الذّاتُ الموجودة غنيّةً عن الفاعل، هذا خلفٌ.

احتجّوا: بأنَّ المعدومَ متميّزٌ. وكلّ متميّزٍ ثابتٌ.

أمّا الصّغرى فلأنّ المعدوم معلوم؛ لأنّا نعلمُ طلوعَ الشّمس غداً من المشرق، وكلّ معلوم متميّزٌ؛ ولأنّ الحركة المقدورة لنا متميّزةٌ عن الممتنعة وإن كانتا معدومتين؛ ولأنّ بعض المعدومات يرادُ وقوعها كاللّذات، وبعضها لا يرادُ، فتكونُ متميّزةً.

وأمّا الكبرى، فلأنّ المتميّز هو الموصوفُ بصفةٍ لا يُشاركه فيها غيرُه، وذلك يستدعي كونه متعيّناً في نفسه متحقّقاً (١) . ولا نعني بالثّابت إلاّ ذلك.

والجواب: التّميّز قد يكون ذهنيّاً وقد يكون خارجيّاً؛ والمعدوم متميّزٌ بالاعتبار الأوّل دون الثّاني، كما يتصوّرُ الممتنعاتُ والمركّباتُ والوجود، وليس شيءٌ منها بثابتٍ (٢) .

____________________

(١) ج: محققاً.

(٢) ج: ثابتاً.

٣١

البحث الرّابع: [لا واسطة بين الموجود والمعدوم]

لا واسطةَ بين الموجود والمعدوم؛ لأنّ العقلَ قاضٍ بالضّرورة بأنَّ قولنا: (الشّيء إمّا أن يكون موجوداً أو معدوماً) حاصرٌ، فالواسطةُ غير معقولة.

وأثبت أبو هاشم واسطةً بينهما وهي صفة لموجود لا موجودةٌ ولا معدومةٌ ولا معلومةٌ، وسمّاها بـ (الحال).

واحتجّ بأنّ الوجودَ لا يوصفُ بالوجود، أمّا أولاً، فلاستحالة التّسلسل، وأمّا ثانياً، فلأنّ الموجودَ كلّ ذاتٍ لها صفةُ الوجود، والوجود ليس بذات، فلا يوصف بالوجود ولا يوصف بالعدم للتّغاير (١) بين الوجود والعدم، فإنّ المعدوم (٢) كلّ ذات ليس لها صفةُ الوجود.

والجوابُ: الغلطُ نشأ من تخصيص الموجود والمعدوم بالذّوات، (٣) ولا يلزمُ من عدم اتّصاف الشّيء بنفسه ونقيضه ثبوتُ واسطة بينه وبين نقيضه.

____________________

(١) ب: للتعاند.

(٢) ب: فالمعدوم.

(٣) ج: بالذات.

٣٢

الفصل الثالث

في مباحث الوجوب وقسيميه

وهي ثلاثة:

(البحث) الأوّل: [الوجوب والإمكان والامتناع]

الوجوب والإمكان والامتناع من التّصوّرات البديهيّة، لا شيء منها بثابتٍ، وإلاّ لزم التّسلسلُ ووجود المعدوم، ولأنّها أُمورٌ نسبيّة، فتتوقف على وجود المنتسبين.

والوجوب (١) والإمكان متأخّران عن (هذا) الوجود، هذا، خلفٌ.

والامتناع يتوقّفُ على ما لا يوجد، فلا يكونُ موجوداً.

وأثبت الأوائل الإمكانَ في الخارج، وإلاّ لم يبق فرقٌ بين نفي الإمكان والإمكان المنفيّ.

وهو خطأ؛ لأنّ التمايز (٢) يقعُ في الأحكام العقليّة كما يقعُ في الأُمور العينيّة. ولو اقتضى ذلك الثّبوتَ لزم كون الامتناع ثبوتيّاً.

____________________

(١) ب: فالوجوب.

(٢) ب: المائز.

٣٣

[البحث] الثاني: [في خواص الواجب]

الشّيء الواحد لا يكونُ واجباً لذاته ولغيره، لأنّ الواجبَ لذاته مستغنٍ عن الغير، والواجبَ لغيره غيرُ مستغنٍ عن ذلك الغير، فيجتمع النّقيضان.

والواجبُ لذاته بسيطٌ، لافتقار كلّ مركّب إلى جزئه، وجزؤه غيرُه.

ووجوده نفسُ حقيقته؛ لأنّه لو كان زائداً عليه (١) لكان ممكناً؛ لأنّه حينئذٍ يكونُ صفةً له وكلّ صفة مفتقرةٌ إلى الموصوف؛ والتّالي باطلٌ، لأنّ المؤثّر فيه إن كان غير الله تعالى لزم افتقاره إلى غيره، فيكونُ ممكناً، وإن كان هو الله - تعالى - لزم تأثيرُ المعدوم في الموجود أو وجودُ الماهيّة مرّتين أو الدّورُ.

البحث الثالث: [في عروض الإمكان للماهيّة]

الإمكانُ واجبُ للماهيّة، وإلاّ جاز انتقالُها منه إلى الوجوب أو الامتناع، وهو مُحال.

وكلّ ممكن الوجود فإنّه لا يوجَدُ ولا يُعدَمُ إلاّ بسبب منفصل، لاستحالة ترجيح أحد الطرفين المتساويين على الآخر لا لمرجّحٍ؛ ثمّ مع ذلك السّبب يجبُ، وإلاّ فإن بقي الاستواء افتقر إلى غيره؛ وإن ترجّح أمكن

____________________

(١) ب: عليها.

٣٤

وقوع المرجوح مع الأولويّة في وقتٍ وعدمِه في آخر: فاختصاصُ أحد الوقتين بالوجود يقتضي الاحتياجَ إلى سبب غير الأوّل، فلا يجوزُ أن يكونَ أحد الطرفين أولى.

والإمكانُ علّةُ الاحتياج إلى المؤثّر، لقضاء العقل به (١) عنده وبانتفائه عند عدمه.

ولا يجوز أن يكونَ هي الحدوثَ، كما ذهب إليه بعضُ قدماء المتكلّمين، لأنّه كيفيّة للوجود، فيتأخّرُ عنه، والوجودُ متأخّرٌ عن الإيجاد المتأخّر عن الاحتياج المتأخّر عن علّة الاحتياج؛ فلو كانت هي الحدوث لزم تقدّمُ الشّيء على نفسه بمراتب.

تذنيبٌ

لمّا ثبت أنّ علّة الاحتياج (٢) هي الإمكان وهو ثابتٌ للباقي ثبت معلولُه، وهو الاحتياج إلى المؤثّر. وذهب بعض قدماء المتكلّمين إلى استغنائه.

واحتجّوا: بأنّ المؤثّر إن لم يكن له فيه أثرٌ كان مستغنياً قطعاً؛ وإن كان له أثرٌ فإن كان هو الوجود الحاصل أوّلاً (٣) لزم تحصيلُ الحاصل، وهو

________________________

(١) ج: - به

(٢) ب، ألف: الحاجة .

(٣) ج: وإلاّ / ب: - أوّلاً.

٣٥

مُحال؛ وإن كان أمراً جديداً كان التّأثير في الجديد لا في الباقي، فيكون الباقي مستغنياً.

والجوابُ: المنعُ من الملازمة الأخيرة، لأنّ الباقي مفتقرٌ إلى البقاء الجديد.

٣٦

المرصد الثّاني

في تقسيم الموجودات

وفيه مقصدان

٣٧

٣٨

[المقصد] الأوّل

في التّقسيم على رأي المتكلّمين

قالوا: الموجود إمّا أن يكونَ قديماً أو مُحدثاً، لأنّه إن لم يكن لوجوده أوّل، فهو القديمُ وهو اللهُ تعالى، وإن كان لوجوده أوّلُ فهو المحدثُ، وهو ما عداه.

وقد يفسّرون القديمَ بأنّه: الّذي لا يسبقه العدمُ، والمُحدَث بما سبقه العدم. فهاهُنا مباحث ثلاثةٌ:

[البحث] الأوّل: في مباحث القديم

معنى قولنا: (الله - تعالى - قديم) هو أنّا لو قدّرنا أزمنةً لا نهاية لها في جانب الماضي لكان الله (١) - تعالى - مصاحباً لها. ولا يعتبر في القدم والحدوث الزّمان وإلاّ لكان للزّمان زمان آخر ويتسلسل. وليس القدم والحدوث من الصّفات الثّبوتيّة، بل من الاعتبارات الذّهنيّة، وإلاّ لزم التّسلسل؛ خلافاً لعبد الله بن سعيد من الأشعريّة في الأوّل، والكرّاميّة في الثّاني.

____________________

(١) ألف: إنّه تعالى.

٣٩

البحث الثاني: في خواصّ القديم

لا يمكن إسناد (١) القديم إلى المؤثّر المختار، لأنّ الفاعل بالاختيار إنّما يفعل بواسطة القصد والاختيار، وإنّما يصحّ توجّه القصد إلى معدوم ليوجده ولا يصحّ توجّهه إلى موجود. نعم يصحّ إسناده (٢) إلى المُوجَب؛ والتّنازع بين الحكماء والمتكلّمين يرتفع بهذا التّفصيل.

والقديمُ لا يصحّ عليه العدم؛ لأنّه إمّا واجب لذاته أو معلول له مطلقاً أو بشرطٍ قديم؛ وعلى كلّ تقدير يستحيل عدم علّته (٣) ، فيستحيل عدمُه.

لا يقال: لم لا يتوقّف على شرط عدميّ أزليّ، ويجوز زوال الشّرط الأزليّ، لكونه عدميّاً، فيعدم القديم لعدم شرطه.

لأنّا نقول: المقتضي لوجود ملكة ذلك العدم ليس هو القديم ولا معلوله، للتّنافي بينهما؛ ولا علّته، لاستحالة صدور المتنافيين عن علّة واحدة.

والقديم لا يجوز أن يكون أكثر من واحد؛ لأنّ واجب الوجود واحدٌ مختارٌ، على ما يأتي، فباقي الموجودات محدثة.

____________________

(١) ج: استناد.

(٢) ج: استناده.

(٣) ج، ب: عليه.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

وأقول :

لا تنفعهم الاصطلاحات الصرفة ، وأنّ الخلق غير الفعل ـ كما سبق(١) ـ.

ولو سلّم ، فالمصنّف يلزمهم بأنّه إذا كان الله تعالى خالقا للقبائح كالظلم والعبث ، فقد جاز أن تكون مخلوقاته كلّها منها ، فلا يكون في الكون إلّا ما هو من جنس العبث والظلم واللواط والزنا والقيادة والفساد في الأرض ونحوها ، فإذا جاز ذلك عندهم ، فقد جوّزوا أن يكون الله سبحانه عابثا ظالما ، إذ لا شكّ لكلّ عاقل أنّ من تكون مخلوقاته هكذا لا غير ، يكون عابثا ظالما ؛ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

وقوله : « لا قبيح بالنسبة إليه » ؛ قد عرفت أنّه باللغو أشبه(٢) .

وأمّا ما زعمه من أنّ خالق الصفة غير المتّصف بها

ففيه : إنّه عليه لا يصحّ وصف الله تعالى بالصفات الفعلية ، فلا يقال له : هاد ورحمن ورازق ؛ لأنّ الهداية والرحمة والرزق مخلوقة له ، ولا محيي ولا مميت ولا معزّ ولا مذلّ إلى غير ذلك.

فالحقّ أنّ الصفات منها ما يكون التلبّس بمبدئها باعتبار إيجاده ، كالظالم والعابث والأبيض والهادي والمحيي والضارب ، ونحوها.

ومنها : ما يكون التلبّس به باعتبار قيامه وحلوله بالموصوف ،

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ٩ من هذا الجزء.

(٢) انظر ردّ الفضل في الصفحة ٧ وردّ الشيخ المظفّر1 عليه في الصفحة ٩ من هذا الجزء ، وانظر كذلك ردّ الشيخ المظفّر في ج ٢ / ٢٦١ وما بعدها.

٢٢١

كالحيّ والميّت والأبيض والأسود ، ونحوها.

ومنها : غير ذلك كما سبق بيانه(١) .

فحينئذ لا وجه لنقض الخصم بالأسود في محلّ الكلام ، من نحو الظالم والعابث واللاعب ، كما لا ريب في صدق هذه المشتقّات على من أوجد مبادئها ، وهي الظلم والعبث واللعب ، لا سيّما إذا اختصّت مصنوعاته بهذه المبادئ.

وأمّا ما أورده من النقض بخلق الخنزير ونحوه ، بدعوى أنّها قبائح ، فقد مرّ أنّها لم تخلق إلّا لحكم ومصالح فيها ، فلا توصف بالقبح واقعا وإن وصفت به تسامحا وببعض الجهات(٢)

على أنّ القبح المتنازع فيه هو القبح في الأفعال ، وهو المعنى الثالث الذي ذكره(٣) ، والقبح في الأعيان لا يكون إلّا بالمعنى الثاني ، وهو معنى الملاءمة والمنافرة الذي ليس هو محلّا للنزاع باعترافهم.

* * *

__________________

(١) انظر ج ٢ / ٢٣٣.

(٢) انظر الصفحة ٢٦ من هذا الجزء.

(٣) راجع ردّ الفضل في ج ٢ / ٣٢٧.

٢٢٢

قال المصنّف ـ عطّر الله ضريحه ـ(١) :

ومنها : إنّه يلزم إلحاق الله تعالى بالسفهاء والجهّال ، تعالى الله عن ذلك ؛ لأنّ من جملة أفعال العباد الشرك بالله تعالى ، ووصفه بالأضداد والأنداد والأولاد ، وشتمه وسبّه.

فلو كان الله تعالى فاعلا لأفعال العباد ، لكان فاعلا للأفعال كلّها ولكلّ هذه الأمور ، وذلك يبطل حكمته ؛ لأنّ الحكيم لا يشتم نفسه ، وفي نفي الحكمة إلحاقه بالسفهاء ، نعوذ بالله من هذه المقالات الرديّة.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١١٦.

٢٢٣

وقال الفضل(١) :

ونحن نقول : نعوذ بالله من هذه المقالة المزخرفة الباطلة ، وهذا شيء نشأ له لعدم الفرق بين الخالق والفاعل ، فإنّ الله يخلق الأشياء ، فالسبّ والشتم له ـ وإن كانا مخلوقين لله تعالى ـ فبما فعل العبد ، والمذمّة للفعل لا للخلق ، فلا يلزم كونه شاتما لنفسه.

وخلق هذه الأفعال ليس سفها حتّى يلزم إلحاقه تعالى بالسفهاء ، نعوذ بالله من هذا ؛ لأنّ الله تعالى قدّر في الأزل شقاوة الشاتم له ، والسابّ له ، وأراد إدخاله النار ، فيخلق فيه هذه الأفعال ، لتحصل الغاية التي هي دخول الشاتم النار ، فأيّ سفه في هذا؟!

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٧٢.

٢٢٤

وأقول :

لو سلّم أنّ الخالق غير الفاعل فلا يرتفع السفه ؛ لأنّه إنّما ينشأ من إيجاد الشخص سبّ نفسه وما ينقصه ، سواء سمّي خلقا أم فعلا ، فإنّ مجرّد الاصطلاح لا يدفع المحذور.

ولكنّ هذا ليس بأعظم من قوله بإرادة الله سبحانه إدخال عبده النار ، فيتسبّب إليه بجعله محلّا لسبّه وسائر القبائح ، مع عجزه عن الدفع لتحصل الغاية ، وهي تعذيب عبده الضعيف الأسير بأشدّ العذاب!

والحال أنّه لا حاجة إلى هذا التسبّب المستهجن ؛ لأنّه يصحّ عندهم أن يعذّب عبده ابتداء وبلا سبب ، فما أعجب أقوال هؤلاء وما أقبحها وما أجرأهم على الله العظيم!

* * *

٢٢٥

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ(١) :

ومنها : إنّه يلزم مخالفة الضرورة ؛ لأنّه لو جاز أن يخلق الزنا واللواط ، لجاز أن يبعث رسولا هذا دينه.

ولو جاز ذلك لجوّزنا أن يكون في ما سلف من الأنبياء من لم يبعث إلّا للدعوة إلى السرقة ، والزنا ، واللواط ، وكلّ القبائح ، ومدح الشيطان وعبادته ، والاستخفاف بالله تعالى ، والشتم له ، وسبّ رسوله ، وعقوق الوالدين ، وذمّ المحسن ، ومدح المسيء.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١١٦.

٢٢٦

وقال الفضل(١) :

لو أراد من نفي جواز بعثه الرسول بهذه الأشياء الوجوب على الله تعالى ، فنحن نمنعه ؛ لأنّه لا يجب على الله شيء.

وإن أراد بنفي هذا الجواز الامتناع عقلا ، فهو لا يمتنع عقلا.

وإن أراد الوقوع ، فنحن نمنع هذا ؛ لأنّ العلم العادي يفيدنا عدم وقوع هذا ، فهو محال عادة ، والتجويز العقلي لا يوجب وقوع هذه الأشياء كما عرفته مرارا(٢) .

ثمّ إنّه صدّر كلامه بلزوم مخالفة الضرورة ، وأيّ مخالفة للضرورة في هذا المبحث؟!

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٧٤.

(٢) انظر الصفحات ٧ و ٦٥ و ٩٩ من هذا الجزء.

٢٢٧

وأقول :

يمكن اختيار الشقّ الأوّل ؛ لأنّ الله سبحانه أوجب على نفسه الهدى وقصد السبيل حيث قال :( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى ) (١) ( وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) (٢) .

ولا ريب أنّ إرسال الرسول بتلك الفواحش والقبائح وقطع السبيل ، مناف للهدى وقصد السبيل.

ويمكن اختيار الشقّ الثاني ؛ لحكم العقل(٣) بامتناع أن يبعث الله تعالى رسولا بهذا الدين ؛ لأنّه من أظهر منافيات الحكمة وأعظم النقص بالملك العدل ، فهو ممتنع عقلا بالغير ، بل مثله نقص في حقّ أقلّ العقلاء.

ويمكن اختيار الشقّ الثالث ، أعني الوقوع احتمالا ؛ لأنّه إذا جاز أن يخلق الله سبحانه تلك القبائح ، احتملنا أن يكون قد بعث بها رسولا.

ودعوى العلم العادي بالعدم ممنوعة ، إذ لم يطّلع أحدنا على جميع الأنبياء وشرائعهم ، ولم نعرف منهم إلّا النادر ، فلعلّ هناك نبيّ أو أنبياء هذه شريعتهم لم يتّبعهم أحد ، أو اندرست أممهم.

ولا عجب من الخصم إذ أنكر على دعوى الضرورة ، فإنّ أمرهم مبنيّ على إنكار الضروريات!

__________________

(١) سورة الليل ٩٢ : ١٢.

(٢) سورة النحل ١٦ : ٩.

(٣) كذا في المخطوط ، وفي المطبوعتين : الكلّ.

٢٢٨

قال المصنّف ـ شرّف الله منزلته ـ(١) :

ومنها : إنّه يلزم أن يكون الله سبحانه أشدّ ضررا من الشيطان ؛ لأنّ الله لو خلق الكفر في العبد ثمّ يعذّبه عليه لكان أضرّ من الشيطان ؛ لأنّ الشيطان لا يمكن أن يلجئه إلى القبائح ، بل يدعوهم إليها كما قال الله تعالى :( وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ) (٢) .

ولأنّ دعاء الشيطان هو أيضا من فعل الله تعالى ، وأمّا الله سبحانه فإنّه يضطرّهم إلى القبائح!

ولو كان كذلك لحسن من الكافر أن يمدح الشيطان وأن يذمّ الله ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١١٦.

(٢) سورة إبراهيم ١٤ : ٢٢.

٢٢٩

وقال الفضل(١) :

نعوذ بالله من التفوّه بهذه المقالة ، والاستجراء على تصوير أمثال هذه الترّهات ، فإنّ الله تعالى يخلق كلّ شيء ، والتعذيب مرتّب على المباشرة والكسب ، وخلق الكفر ليس بقبيح ؛ لأنّ غايته دخول الشقي النار ، كما يقتضيه نظام عالم الوجود.

والتصرّف في العبد بما شاء ليس بظلم ؛ لأنّه تصرّف في ملكه ، وقد عرفت أنّ تصرّف المالك في الملك بما شاء ليس بظلم(٢) ، والله تعالى وإن خلق الكفر في العبد ، ولكنّ العبد هو يباشره ويكسبه.

والله تعالى بعث الأنبياء ، وخلق أيضا قوّة النظر ، وبثّ دلائل الوحدانية في الآفاق والأنفس.

فهذه كلّها ألطاف من الله تعالى ، والشيطان يضرّ بالإغواء والوسوسة ، فأين نسبة اللطيف الهادي ـ وهو الله تعالى ـ بالشيطان الضارّ المضلّ؟! ومن أين لزم هذا؟!

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٧٥.

(٢) تقدّم في الصفحة ٩٣.

٢٣٠

وأقول :

قد خرج بكلامه عن المقصود ، وتشبّث بالتمويهات الصرفة ، فإن كانت غايته من كلامه جعل أثر للعبد والشيطان في الفعل أو الكسب ، فقد خرج عن مذهبه ، وإلّا لم يكن له مناص عن إلزام المصنّف لهم.

وقد عرفت تفصيل ما في هذه الكلمات الفارغة عن التحصيل(١) .

وأمّا الاجتراء على الله سبحانه فهو ممّن قال بما يستلزم هذا الكفر ، لا ممّن صوّره للردع عنه.

وما باله إذا كان يتعوّذ من التفوّه بهذه الكلمات يعتقد بحقيقتها ، ويعلم أنّ جوابه عنها يشتمل على الإقرار بها ، لكن بشيء من التمويه!

* * *

__________________

(١) راجع الصفحة ٩٥ من هذا الجزء وج ٢ / ٣٣٦.

٢٣١

قال المصنّفـ ضاعف الله ثوابه ـ (١) :

ومنها : إنّه يلزم مخالفة العقل والنقل ؛ لأنّ العبد لو لم يكن موجدا لأفعاله لم يستحقّ ثوابا ولا عقابا ، بل يكون الله تعالى مبتدئا بالثواب والعقاب من غير استحقاق منهم.

ولو جاز ذلك لجاز منه تعذيب الأنبياءعليهم‌السلام ، وإثابة الفراعنة والأبالسة ، فيكون الله تعالى أسفه السفهاء ، وقد نزّه الله تعالى نفسه عن ذلك فقال :( أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (٢) ( أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) (٣) .

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١١٧.

(٢) سورة القلم ٦٨ : ٣٥ و ٣٦.

(٣) سورة ص ٣٨ : ٢٨.

٢٣٢

وقال الفضل(١) :

جوابه : إنّ استحقاق العبد للثواب والعقاب بواسطة المباشرة والكسب ، وهو يستحقّ الثواب والعقاب بالمباشرة ، لا أنّه يجب على الله إثابته.

فالله متعال عن أن يكون إثابة المطيع وتعذيب العاصي واجبا عليه ، بل جرى عادة الله تعالى بإعطاء الثواب عقيب العمل الصالح ، والتعذيب عقيب الكفر والعصيان.

وجواز تعذيب الأنبياء وإثابة الفراعنة والأبالسة المراد به نفي الوجوب على الله تعالى ، وهو لا يستلزم الوقوع ، بل وقوعه محال عادة ـ كما ذكرناه مرارا(٢) ـ فلا يلزم المحذور.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٧٦.

(٢) راجع الصفحة ٢١٤ من هذا الجزء وج ٢ / ٣٥٧ و ٤٢٨.

٢٣٣

وأقول :

الكسب والمباشرة أثر صادر عن الله تعالى وحده بزعمهم ، كأصل الفعل ، لأنّه خالق كلّ شيء ، فكيف يستحقّ العبد الثواب والعقاب على الكسب؟!

وكيف يتّجه تخصيص الاستحقاق عليه دون أصل الفعل ، وكلاهما من الله وحده ، والعبد محلّ بالاضطرار؟!

ثمّ إنّه إذا كان العبد مستحقّا للثواب بواسطة الكسب ، كان حكمه بعدم وجوب إثابته مناقضا له ، إذ كيف يكون حقّا له على الله تعالى ولا يجب عليه أداؤه له ، وهو العدل؟!

نعم ، لمّا كان العقاب حقّا لله تعالى ، كان له العفو عنه ، كما سبق(١) ويأتي إن شاء الله تعالى.

وأمّا دعوى العادة ، فباطلة ؛ لأنّ الثواب والعقاب غيب ومتأخّران ، فما وجه العادة والعلم بها؟! إلّا أن يدّعي العلم العادي بأخبار الله تعالى في كتابه المجيد ، وهو مع توقّفه على ثبوت صدق كلامه تعالى على مذهبهم غير تامّ ؛ لأنّه تعالى أيضا أخبر بأنّه يمحو ما يشاء ويثبت(٢) .

وأمّا قوله : « وهو لا يستلزم الوقوع » فمسلّم ؛ لكن لا يستلزم أيضا عدم الوقوع ، ويكفينا الاحتمال ، إذ لا يجوز على غير السفيه تعذيب

__________________

(١) تقدّم في ج ٢ / ٣٩٨.

(٢) في قوله تعالى :( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) سورة الرعد ١٣ : ٣٩.

٢٣٤

الأنبياء وإثابة الفراعنة والأبالسة ؛ تعالى الله عن ذلك.

وقد أنكر عليه سبحانه هذا الحكم فقال :( ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (١) .

* * *

__________________

(١) سورة الصافّات ٣٧ : ١٥٤ ، سورة القلم ٦٨ : ٣٦.

٢٣٥

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

ومنها : يلزم مخالفة الكتاب العزيز من انتفاء النعمة عن الكافر ؛ لأنّه تعالى إذا خلق الكفر في الكافر لزم أن يكون قد خلقه للعذاب في نار جهنّم.

ولو كان كذلك لم يكن له عليه نعمة أصلا ، فإنّ نعمة الدنيا مع عقاب الآخرة لا تعدّ نعمة ، كمن جعل لغيره سمّا في حلواء وأطعمه ، فإنّه لا تعدّ اللذّة الحاصلة من تناوله نعمة.

والقرآن قد دلّ على أنّه تعالى منعم على الكفّار ، قال الله تعالى :

( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً ) (٢) ( وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ ) (٣) .

وأيضا : قد علم بالضرورة من دين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه ما من عبد إلّا ولله عليه نعمة ، كافرا كان أو مسلما.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١١٧.

(٢) سورة إبراهيم ١٤ : ٢٨.

(٣) سورة القصص ٢٨ : ٧٧.

٢٣٦

وقال الفضل(١) :

هذا أيضا من غرائب الاستدلالات ، فإنّ نعمة الله تعالى على الكافر محسوسة ، والهداية أعظم النعم.

وإرسال الرسل وبثّ الدلائل العقليّة كلّها نعم عظام ، والكافر استحقّ دخول النار بالمباشرة والكسب ، والخلق من الله تعالى ليس بقبيح.

ثمّ ما ذكره من لزوم عدم كون الكافر منعما عليه ، يلزمه أيضا بإدخاله النار ، فإنّ الله تعالى يدخل الكافر النار ألبتّة ، فيلزم أن لا يكون عليه نعمة.

فإن قال : إدخاله لكونه آثر الكفر ورجّحه واختاره.

قلنا : في مذهبنا أيضا كذلك ، وإدخاله لكونه باشر الكفر ، وكسبه ، وعمل به.

ولو كان الواجب على الله تعالى أن ينعم على الكافر ـ وهو المفهوم من ضرورة الدين ـ لكان الواجب عليه أن لا يدخل النار ، بأيّ وصف كان الكافر ؛ لأنّه يلزم أن لا يكون منعما عليه ، وهو خلاف ضرورة الدين.

وأمثال هذه الاستدلالات ترّهات ومزخرفات.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٧٨.

٢٣٧

وأقول :

لا ينكر أنّ الهداية والرسل والدلائل نعم عظام على العباد ، لكن إذا خلق الله سبحانه الكفر في الكافر وأعجزه عن اتّباع الرسل والدلائل لم تكن في حقّه نعمة بالضرورة ، وإنّما تكون نعمة عليه إذا مكّنه من اتّباعها ، وأهّله لتحصيل الثواب بعمله الميسور له ، وإن فوّت على نفسه بكفره الاختياري نعمة الثواب.

وهذا هو الجواب عن نقض الخصم على المصنّفرحمه‌الله بأنّه إذا أدخل الله الكافر النار لم تكن له نعمة عليه ، لا ما ذكره بقوله : « فإن قال : إدخاله لكونه آثر الكفر ورجّحه واختاره » فإنّ هذا إنّما يكون مصحّحا لعقابه ، لا لإثبات كونه منعما عليه كما هو محلّ الكلام ، وقد بيّنّا ثبوته على مذهبنا فيكون هو الجواب.

ولعلّ الخصم إنّما أجاب بهذا ليتمكّن بزعمه من الجواب بمثله! ويقول : « قلنا : في مذهبنا أيضا كذلك ، وإدخاله لكونه باشر الكفر » إلى آخره.

وفيه : مع ما ظهر لك من أنّ مثل هذا لا يصلح أن يكون جوابا عن إشكال عدم النعمة على الكافر ، ليس صحيحا في نفسه ؛ لما سبق مرارا من أنّ الكسب ليس ممّا للعبد فيه أثر ـ على قولهم(١) ـ فلا يكون مصحّحا للعقاب.

__________________

(١) انظر قول الفضل في ص ٩٣ ، وردّ الشيخ المظفّر عليه في ص ٩٥ من هذا الجزء.

٢٣٨

وأمّا قوله : « ولو كان الواجب على الله تعالى أن ينعم على الكافر لكان الواجب عليه أن لا يدخل النار ».

ففيه : إنّ المصنّف إنّما قال : « قد علم بالضرورة من دين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه ما من عبد إلّا ولله تعالى عليه نعمة ، كافرا أو مسلما » وهذا لا يدلّ على أصل وجوب الإنعام على الكافر ، فضلا عن أن يجب على الله تعالى أن يجعل الكافر محلّا لكلّ نعمة ، وأن لا يدخله النار.

* * *

٢٣٩

قال المصنّف ـ طيّب الله ثراه ـ(١) :

ومنها : صحّة وصف الله تعالى بأنّه ظالم وجائر ؛ لأنّه لا معنى للظالم إلّا فاعل الظلم ، ولا الجائر إلّا فاعل الجور ، ولا المفسد إلّا فاعل الفساد ؛ ولهذا لا يصحّ إثبات أحدها إلّا حال نفي الآخر(٢) .

ولأنّه لمّا فعل العدل سمّي عادلا ، فكذا لو فعل الظلم سمّي ظالما.

ويلزم أن لا يسمّى العبد ظالما ولا سفيها ؛ لأنّه لم يصدر عنه شيء من هذه.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١١٧.

(٢) أي إنّ ثبوت الصفة يستلزم نفي ضدّها ، فكونه عادلا يستلزم أن لا يكون ظالما.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257