الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليهالسلام )
(المرتضى من سيرة المرتضى)
الجزء السابع
السيد جعفر مرتضى العاملي
هذا الكتاب
نشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف
شبكة الإمامين الحسنين (عليهماالسلام ) للتراث والفكر الإسلامي
بانتظار أن يوفقنا الله تعالى لتصحيح نصه وتقديمه بصورة أفضل في فرصة أخرى قريبة إنشاء الله تعالى.
الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليهالسلام )
(المرتضى من سيرة المرتضى)
الجزء السابع
السيد جعفر مرتضى العاملي
الفصل الرابع: تبليغ سورة براءة
إرسال أبي بكر إلى مكة:
قلنا في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي (صلىاللهعليهوآله ): إن أبا بكر حج بالناس في سنة تسع بأمر رسول الله (صلىاللهعليهوآله ).
ثم بعث رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) علياً (عليهالسلام ) على أثر أبي بكر ليأخذ سورة براءة منه، ويقرأها هو على الناس، فأدركه بالعرج في قول ابن سعد، أو في ضجنان(١) كما قاله ابن عائذ. وكان علي (عليهالسلام ) على العضباء ناقة رسول الله (صلىاللهعليهوآله ).
فزعموا: أن أبا بكر لما رآه قال: أميراً أو مأموراً؟!
قال: لا بل مأمور. ثم مضيا(٢) .
وحسب نص آخر: بعث أبا بكر على إقامة الحج سنة تسع، وبعث في أثره علياً يقرأ على الناس سورة براءة.
____________
١- العرج: قرية تبعد عن المدينة نحو ثمانية وسبعين ميلاً. وضجنان: جبل يبعد عن مكة اثني عشر ميلاً.
٢- راجع: سبل الهدى والرشاد ج١٢ ص٧٣ و ٧٤ والدرر لابن عبد البر ص٢٥٠ وإمتاع الأسماع ج١٤ ص٣٢٢.
فقيل: لأن أولها نزل بعد أن خرج أبو بكر إلى الحج(١) .
وقيل: بل لأن عادة العرب كانت أنه لا تحل العقود والعهود ويعقدها إلا المطاع، أو رجل من أهل بيته، فلهذا بعث علياً (عليهالسلام ) في أثره(٢) .
وقيل: أردفه به عوناً له ومساعداً، ولهذا قال له الصدِّيق: أأميراً أو مأموراً؟!
قال: بل مأموراً.
وقالوا: وأما أعداء الله الرافضة، فيقولون: عزله بعلي، وليس هذا ببدع من بهتهم وافترائهم(٣) .
وقيل: كان في سورة براءة الثناء على الصدِّيق، فأحب أن يكون على لسان غيره، قال في الهدى: لأن السورة نزلت بعد ذهاب أبي بكر إلى
____________
١- راجع: الدرر لابن عبد البر ص٢٥٠ وإمتاع الأسماع ج١٤ ص٣٢١ و ٣٢٢.
٢- راجع: سبل الهدى والرشاد ج١١ ص٣٣٨ وج١٢ ص٧٥ ودلائل الصدق ج٢ ص٢٤٥ و ٢٤٦ عن الفضل بن روزبهان، والجامع لأحكام القرآن ج٨ ص٦١ وبحار الأنوار ج٣٠ ص٣١٩ عن الجبائي، والمغني للقاضي عبد الجبار ج٢٠ ص٣٥١ وتفسير الرازي ج١٥ ص٢١٨ والكشاف للزمخشري ج٢ ص١٧٢ وتفسير البيضاوي ج١ ص٤٠٥ وشرح التجريد للقوشجي ص٣٧٢ وتفسير القرآن العظيم ج٢ ص٣٤٥.
٣- راجع: سبل الهدى والرشاد ج١١ ص٣٣٨.
الحج(١) .
ونقول:
لا بد من ملاحظة ما يلي:
وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ:
إن هذا العرض لما جرى لأبي بكر في تبليغ مضامين سورة براءة في موسم الحج يمثل أنموذجاً لمكر الماكرين، وجحود الجاحدين، وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ(٢) ..
مع أن أحداث هذه القضية كالنار على المنار، وكالشمس في رابعة النهار، ولم يزل العلماء يتداولونها، ويستدلون بها في قضايا الإمامة، ولا يجد الآخرون مناصاً عن البخوع لمقتضيات مضامينها، والتسليم بدلالاتها، ولو وجدوا أي مجال للتأويل أو التحوير لما ترددوا في اللجوء إليه، والتعويل عليه.
ونحن نوضح هنا الحقيقة في هذه القضية، فنقول:
حقيقة ما جرى:
عن الحارث بن مالك: أنه سأل سعد بن أبي وقاص (أو: سعد بن مالك): هل سمعت لعلي منقبة؟!
____________
١- راجع: سبل الهدى والرشاد ج١٢ ص٧٥.
٢- الآية ٤٦ من سورة إبراهيم.
قال: قد شهدت له أربعاً، لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من الدنيا، أُعمّر فيها مثل عمر نوح: إن رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بعث أبا بكر ببراءة إلى مشركي قريش، فسار بها يوماً وليلة. ثم قال لعلي: اتبع أبا بكر فخذها وبلغها.
فَرَدَّ عليٌّ أبا بكر، فرجع يبكي، فقال: يا رسول الله، أنزل فيَّ شيء؟!
قال: لا، إلا خيراً، إنه ليس يبلغ عني إلا أنا أو رجل مني.
أو قال: من أهل بيتي الخ..)(١) .
وكان مع أبي بكر، قبل أن يرجع ثلاث مائة رجل(٢) .
خلاصات ضرورية:
ولتوضيح هذه القضية نحتاج إلى إيراد خلاصة جامعة لما جرى فيها، وهي كما يلي:
يظهر من النصوص المتوافرة لدينا: أنه (صلىاللهعليهوآله ) أمر أبا بكر أن يسير إلى مكة ليقيم للناس حجهم في سنة تسع، وليبلغ الناس عنه صدر
____________
١- كفاية الطالب ص٢٨٧ وبحار الأنوار ج٣٥ ص٢٨٥ عن علل الشرايع ص٧٤ ومقام الإمام علي "عليهالسلام " لنجم الدين العسكري ص٣٦ والغدير للشيخ الأميني ج١ ص٤٠ وج٦ ص٣٤٦ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٤ ص٤٤٥ وج١٥ ص٦٦١ وج٢٢ ص٤٢٩ عن مختصر تاريخ دمشق (ط إسلامبول) ج١٧ ص١٣٠.
٢- بحار الأنوار ج٣٥ ص٣٠٩ عن الكامل لابن الأثير.
سورة براءة، بالإضافة إلى قرارات أخرى يريد (صلىاللهعليهوآله ) أن يلزم الناس بمراعاتها.
ويستفاد من مجموع الروايات: أنه (صلىاللهعليهوآله ) كتب عشر آيات، أو ثلاثين أو أربعين آية من سورة براءة، وكتب أيضاً:
١ ـ أن لا يطوفنَّ بالبيت عريان.
٢ ـ لا يجتمع المسلمون والمشركون.
٣ ـ ومن كان بينه وبين رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) عهد، فأجله إلى مدته، ومن لم يكن بينه وبينه عهد فأجله إلى أربعة أشهر.
٤ ـ إن الله بريء من المشركين وَرَسُولُهُ.
٥ ـ لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة (أو إلا من كان مسلماً).
٦ ـ لا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد عامه هذا.
٧ ـ أن هذه أيام أكل وشرب.
٨ ـ أن يرفع الخمس من قريش، وكنانة وخزاعة إلى عرفات(١) .
والخمس: هي أحكام كانوا قد قرروها لأنفسهم: هي ترك الوقوف بعرفات والإفاضة منها(٢) .
____________
١- تفسير فرات ص١٦١ وبحار الأنوار ج٣٥ ص٣٠٠ عنه، وراجع: تفسير الميزان للسيد الطباطبائي ج٨ ص٨٧.
٢- راجع: السيرة النبوية لابن هشام ج١ ص١٩٩.
فلما كان أبو بكر ببعض الطريق إذ سمع رغاء ناقة رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، وإذا هو علي (عليهالسلام )، فأخذ الكتاب من أبي بكر ومضى.
ويبدو أن الكتب كانت ثلاثة:
أحدها: ما أشير إليه آنفاً.
والثاني: كتاب يشتمل على سنن الحج، كما روي عن عروة.
والكتاب الثالث: كتبه النبي (صلىاللهعليهوآله ) الى أبي بكر وفيه: أنه استبدله بعلي (عليهالسلام ) لينادي بهذه الكلمات في الموسم، ويقيم للناس حجهم.
وعند المفيد: أنه (صلىاللهعليهوآله ) قال لعلي: (وخيِّر أبا بكر أن يسير مع ركابك، أو يرجع إليَّ).
فاختار أبو بكر أن يرجع إلى رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فلما دخل عليه قال: (يا رسول الله، إنك أهلتني لأمر طالت الأعناق فيه إليَّ، فلما توجهت له رددتني عنه؟! ما لي؟! أنزل فيَّ قرآن؟!
فقال (صلىاللهعليهوآله ): لا، الخ..)(١) .
وفي نص آخر: فأخبره النبي (صلىاللهعليهوآله ) بأن جبرئيل جاءه وقال له: إنه لا يبلغ عنه إلا هو أو رجل منه، وهو علي (عليهالسلام ).
____________
١- الإرشاد ج١ ص٦٥ و ٦٦ وبحار الأنوار ج٢١ ص٢٧٥ وج٣٥ ص٣٠٣ عنه، وعن المناقب ج١ ص٣٢٦ و ٣٢٧ والمستجاد من كتاب الإرشاد (المجموعة) ص٥٥ ونهج الإيمان لابن جبر ص٢٤٧ وكشف اليقين ص١٧٣.
فقرأ علي (عليهالسلام ) في موقف الحج سورة براءة حتى ختمها كما عن جابر.
وعن عروة: أنه (صلىاللهعليهوآله ) أمر علياً (عليهالسلام ) أن يؤذّن بمكة وبمنى، وعرفة، وبالمشاعر كلها: بأن برئت ذمة رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) من كل مشرك حج بعد العام، أو طاف بالبيت عريان الخ..
ولهذا الحديث مصادر كثيرة جداً، فراجعه في مظانه(١) .
____________
١- راجع هذا الحديث في المصادر التالية: الدر المنثور ج٣ ص٢٠٩ و ٢١٠ عن أحمد، وابن أبي شيبة، والترمذي، وأبي الشيخ، وابن مردويه، وابن حبان، والطبراني، والتراتيب الإدارية ج١ ص٧٢ ورسالات نبوية ص٧٢ وبحار الأنوار ج٢١ ص٢٦٦ و ٢٦٧ و ٢٧٤ و ٢٧٥ وج٣٥ ص٢٨٥ ـ ٣٠٩ والجامع لأبي زيد القيرواني ص٣٩٦ وتاريخ اليعقوبي ج٢ ص٦٦ والرياض النضرة ج٣ ص١١٨ و ١١٩ وذخائر العقبى ص٦٩ وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج٣ ص٩١ وعن تاريخ الأمم والملوك ج٣ ص١٢٢ و ١٢٣ و (ط أخرى) ص١٥٢ والكفاية للخطيب ص٣١٣ والسنة لابن أبي عاصم ص٥٨٩ وكنز العمال ج٢ ص٤٢٢ و ٤١٧ و ٤٣١ وج١٣ ص١٠٩ ومجمع الزوائد ج٧ ص٢٩ وتفسير المنار ج١٠ ص١٥٧ و ١٥٦ والعمدة لابن البطريق ص١٦٠ وكشف اليقين ص١٧٢ والبداية والنهاية ج٥ ص٣٨ وج٧ ص٣٥٧ وعمدة القاري ج١٨ ص٢٦٠ وج٤ ص٧٨ ووسيلة المآل ص١٢٢ والجمل للمفيد ص٢١٩ والكامل لابن عدي (ط دار الفكر) ج٣ ص٢٥٦ و ٤١٣ وابن زنجويه ج١ ص٦٦٣ والمعجم الكبـير ج١١ = = ص٤٠٠ وفتح القدير ج٢ ص٣٣٤ والمناقب للخوارزمي ص٩٩ و ١٦٥ و ١٦٤ وزوائد المسند ص٣٥٣ وفرائد السمطين ج١ ص٦١ وأنساب الأشراف ج١ ص٣٨٣ وجامع البيان ج١٠ ص٤٤ ـ ٤٧ وتفسير القرآن العظيم ج٢ ص٣٣٣ والصواعق المحرقة ص٣٢ وتفسير أبي حيان ج٥ ص٦ وإمتاع الأسماع ص٤٩٩ والإصابة ج٢ ص٥٠٩ وخصائص الإمام علي بن أبي طالب للنسائي ص٩٢ و ٩٣ والأموال لأبي عبيد ص٢١٣ و ٢١٥ وتيسير الوصول ج١ ص١٥٨ وعن الكشاف ج٢ ص٢٤٣ والسيرة النبوية لابن هشام ج٤ ص٢٠٣ والسنن الكبرى ج٥ ص١٢٨ ح٨٤٦١ وج٩ ص٢٢٤ وكفاية الطالب ص٢٥٥ و ٢٥٤ و ٢٨٥ عن أحمد، وابن عساكر، وأبي نعيم، وتشييد المطاعن ج١ ص١٦٤ و ١٦٥ ونور الثقلين ج٢ ص١٧٧ و ١٨٢ وتهذيب تاريخ دمشق ج٣ ص٨٩ ومسند أحمد ج١ ص٣ و ١٥١ و ١٥٠ وج٣ ص٢١٢ و ٢٨٣ وإرشاد الساري ج١٠ ص٢٨٣ وغرائب القرآن (مطبوع بهامش جامع البيان) ج١٠ ص٣٦ وتذكرة الخواص ص٣٧ وترجمة الإمام علي "عليهالسلام " من تاريخ مدينة دمشق (بتحقيق المحمودي) ج٢ ص٣٧٦ و ٣٩٠ والمستدرك على الصحيحين ج٢ ص٣٦١ وج٣ ص٥٢ وينابيع المودة ص٨٩ والطرائف ص٣٨ و ٣٩ وعن فتح الباري ج٨ ص٣١٨ ومختصر تاريخ دمشق ج١٨ ص٦ وج٢٠ ص٦٨ والجامع الصحيح للترمذي ج٥ ص٢٥٧ و ٢٥٦ وتفسير النسفي ج٢ ص١١٥ والطبقات الكبرى لابن سعد ج٢ ص١٦٨ وتفسير البيضاوي ج١ ص٣٩٤ ومطالب السؤل ص١٧ وشرح نهج البلاغة للـمـعتـزلـي ج١٢ ص٤٦ وج٧ ص٢٨٨ وسنن الـدارمي ج٢ ص٦٧ و ٢٣٧ = وصحيح ابن خزيمة ج٤ ص٣١٩ والروض الأنف ج٧ ص٣٧٤ والكامل في التاريخ ج١ ص٦٤٤ والتفسير الكبير للرازي ج١٥ ص٢١٨ والإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ج٥ ص١٩ وج١٥ ص١٦ والجامع لأحكام القرآن ج٨ ص٤٤ والمواهب اللدنية ج١ ص٦٤٠ والسيرة النبوية لدحلان ج٢ ص١٤٠ وروح المعاني ج١٠ ص٤٤ و ٤٥ وتاريخ الخميس ج٢ ص١٤١ والسنن الكبرى للنسائي ج٥ ص١٢٨ وج٢ ص٤٠٧ وعن ابن خزيمة، وأبي عوانة، والدارقطني في الإفراد، وابن أبي حاتم، وتفسير البغوي (مطبوع مع تفسير الخازن) ج٣ ص٤٩ وتفسير الخازن ج٢ ص٢٠٣ والإرشاد للمفيد ج١ ص٦٥ و ٦٦ والبرهان (تفسير) ج٢ ص١٠٠ و ١٠١ وإعلام الورى ص١٣٢ وعن علل الشرايع ص٧٤ وعن الخصال ج٢ ص١٦ و ١٧ ومسند علي ص٧٤١.
وقد نظم الشعراء هذه المنقبة شعراً، فقال شمس الدين المالكي المتوفى سنة ٧٨٠هـ:
وأرسله عنه الرسول مبلغاً وخُص بهذا الأمر تخصيص مفردِ
وقال: هل التبليغ عني ينبغي لمن ليس من بيتي من القوم فاقتدِ(١)
استمرار أبي بكر في مسيره إلى مكة:
اختلفت روايات غير الرافضة! في مسير أبي بكر إلى مكة، أو رجوعه إلى المدينة، فهي على ثلاثة أقسام:
الأول: لم يتعرض للنفي، ولا للإثبات..
____________
١- الغدير ج٦ ص٥٨ و ٣٣٨ عن نفح الطيب ج١٠ ص٢٤٤.
الثاني: صرح بمواصلة مسيره إلى مكة، وحج مع علي (عليهالسلام )، رووا ذلك عن أبي هريرة، وابن عباس، ونسب إلى أبي جعفر أيضاً.
الثالث: تحدث عن رجوع أبي بكر إلى المدينة، وهو المروي عن علي (عليهالسلام )، وابن عباس، وأبي هريرة والسدي(١) ، وزيد بن بثيع، وأبي بكر نفسه.
وتعبير بعض روايات هؤلاء: بأنه (صلىاللهعليهوآله ) بعث (براءة) أولاً مع أبي بكر، ثم دعاه فبعث بها علياً (عليهالسلام )(٢) .
فيلاحظ: أن أصحاب الرأي الثاني هم ثلاثة فقط، وهم أنفسهم رووا رجوعه إلى المدينة، ووافقهم عليه آخرون، حتى أبو بكر نفسه.
فلا يصح ما ادعاه ابن روزبهان، من أن علياً لم يكن أمير الحج، لأنه كان مكلفاً فقط بتبليغ الآيات، مع تواتر الأخبار بأن أبا بكر قد حج في تلك
____________
١- مكاتيب الرسول ج١ ص٢٦٨.
٢- راجع: مسند أحمد ج٣ ص٢٨٣ ونحوه في سنن الترمذي في تفسير سورة التوبة. وقال: هذا حديث حسن. وكنز العمال ج٢ ص٤٢٢ وراجع: الغدير ج٦ ص٣٤٥ وشواهد التنزيل للحسكاني ج١ ص٣٠٩ وتاريخ مدينة دمشق ج٤٢ ص٣٤٤ وكشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد (بتحقيق الآملي) للعلامة الحلي ص٥٠٩ و (بتحقيق السبحاني) ص٢٠٤ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٢٢ ص٤٢٢.
السنة(١) . انتهى.
ولا يصح أيضاً ما ادعاه القاضي عبد الجبار: من أن ولاية أبي بكر على الموسم والحج في تلك السنة قد ثبت بلا خلاف بين أهل الأخبار، ولم يصح أنه عزله..
قال: ولا يدل رجوع أبي بكر إلى النبي (صلىاللهعليهوآله ) مستفهماً عن القصة على العزل(٢) .
نعم، لا يصح ذلك.
أولاً: لأنه قد ظهر مما ذكرناه آنفاً، أن الأخبار متواترة في رجوع أبي بكر إلى المدينة.. ولم يرو عندهم مضي أبي بكر مع علي (عليهالسلام ) إلى مكة سوى ما نسبوه إلى أبي جعفر..
أما رواية أبي هريرة، وابن عباس ذهابه إلى مكة فهي مشكوكة، لمعارضتها بروايتهما رجوعه إلى المدينة..
ثانياً: إن مهمة أبي بكر أولاً كانت إقامة الحج وتبليغ الآيات، فما الذي يمنع من أن يتولى علي (عليهالسلام ) ـ بعد رجوع أبي بكر ـ تبليغ الآيات،
____________
١- دلائل الصدق ج٣ ق١ ص١٨ و ١٩ عن فضل بن روزبهان، وشرح إحقاق الحق (الأصل) ص٢٢٢.
٢- بحار الأنوار ج٣ ص٣١٤ وج٣٠ ص٤١٦ والمغني لعبد الجبار ج٢٠ ص٣٥٠ وراجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج١٧ ص١٩٥ والشافي في الإمامة ج٤ ص١٥٣.
وإقامة الحج أيضاً؟! فلماذا يريد ابن روزبهان أن يشكك في هذا الأمر..
ثالثاً: لا إجماع على تولية أبي بكر الحج في تلك السنة كما ظهر من رواية علي (عليهالسلام )، وابن عباس، وابن بثيع، وأبي هريرة وأبي بكر نفسه، وغيرهم.
وتقدم: أن راوي مواصلة أبي بكر مسيره إلى مكة واحد.
يضاف إلى ذلك: قول الطبرسي عن علي (عليهالسلام ): (روى أصحابنا أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) ولاه أيضاً الموسم، وأنه حين أخذ البراءة من أبي بكر رجع أبو بكر(١) .
رابعاً: إن إجماع بعض أهل الأخبار على مسير أبي بكر إلى مكة مع روايتهم رجوعه إلى المدينة عمن ذكرناهم عن قريب، يؤكد التهمة لهؤلاء الناس، في أنهم يسعون لتحسين صورة أبي بكر، وإبعاد الظنون والشبهات عنه.
والقول بأن الرجوع إلى المدينة رجوع بهدف الاستفهام، ولا يدل على عدم استئناف سفر جديد إلى مكة، لإنجاز مهمة الحج بالناس.. مجازفة ظاهرة.. فإن القائلين بذلك لم يدعوا استئناف السفر إلى مكة وتولي الحج من جديد، بل هم يقولون: إنه رجع إلى المدينة بصورة نهائية.
____________
١- مجمع البيان ج٥ ص٩ وبحار الأنوار ج٢١ ص٢٦٦ وج٣٠ ص٤١٧ والصافي (تفسير) ج٢ ص٣٢١ والتبيان للطوسي ج٥ ص١٦٩ ونور الثقلين ج٢ ص١٨٢.
تبدل آراء الأنبياء:
وقد يتساءل البعض فيقول:
كيف يتبنى النبي (صلىاللهعليهوآله ) رأياً، ويباشر بتنفيذه ثم يعدل عنه؟!
هل لأنه ظهر له خطؤه؟!
ألا يضعف ذلك ثقة الناس بالنبي (صلىاللهعليهوآله )، ويخل بمكانته في نفوسهم؟!
ونجيب:
ليست القضية قضية خطأ في الرأي قد بان صوابه، بل كان هناك أمران لا بد من ملاحظتهما، وهما:
١ ـ أن المطلوب كان إرسال أبي بكر إلى المكان الذي أرسل إليه، وأن يرى الناس ذلك.
٢ ـ ثم إرسال علي (عليهالسلام ) في أثره ليأخذ الكتاب، وأن يرى الناس ذلك أيضاً.
وقد كان الأمران كلاهما بوحي من الله، لا برأي بان خطؤه، لأننا نعلم: أنه (صلىاللهعليهوآله ) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(١) .
وأما المصلحة في ذلك فسيأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى.
____________
١- الآيتان ٣ و٤ من سورة النجم.
لماذا يتبرع أبو بكر؟!:
إذا كان أبو بكر يرغب في جمع الدلائل على أهليته للخلافة، فمن المتوقع: أن يتبرع هو بالذهاب إلى مكة، لا أن ينزعج من اختياره لها، إلا إن كانت خشيته على حياته هي التي أوجبت له هذا الانزعاج..
وحينئذ نقول:
لقد كان علي (عليهالسلام ) أولى بهذه الخشية منه، فإنه هو الذي وتر قريشاً، وأسقط هيبتها.
ومن جهة أخرى: إذا كان أبو بكر يخاف على نفسه من أهل مكة، فلماذا ينزعج من إرجاعه؟! لا سيما بعد التوضيح له: بأن سبب إرجاعه هو أن الذي يبلغ عن النبي (صلىاللهعليهوآله ) شخص له أوصاف لا تنطبق عليه..
سبب إرجاع أبي بكر:
لعل من أسباب إرجاع أبي بكر عن تبليغ رسالة النبي (صلىاللهعليهوآله )، وآيات سورة براءة لأهل مكة الأمور التالية:
١ ـ قد يقال: إن من أهداف ذلك بيان أن أبا بكر لا يصلح للنيابة عن النبي (صلىاللهعليهوآله ) في أمر الإبلاغ.. ربما لأنه لا يؤدي الأمر بحرفيته التامة، بل يراعي أموراً تجعله يقدم على التغيير والتبديل، وربما تكون هذه الأمور مصالح شخصية، تعود إليه.. ككونه لا يريد جرح مشاعر قومه، ولا إزعاجهم، ولا تصعيب علاقته بهم، أو غير ذلك..
والخلاصة: النبي (صلىاللهعليهوآله ) يريد تعريف الناس بأن أبا بكر
ونحر عن عليّ عليهالسلام - وهو غائب - وعنهصلىاللهعليهوآله مائة ناقة ثلثيها(١) عنهصلىاللهعليهوآله وثلثها عن عليّعليهالسلام (٢) .
وتجوز النيابة في الجهاد ؛ لأنّ الغرض حراسة المسلمين ، وحفظ عمود الدين ، وليس الغرض متعلّقاً بمباشرة معيّن ، إلّا أن يعيّنه الإمام للخروج بنفسه إمّا لشدّة بلائه في الحرب ، أو لجودة شوره ووفور عقله وربط جأشه(٣) وقوّة بأسه ، أو لغير ذلك من الحِكَم والمصالح ، فحينئذٍ لا تجوز الاستنابة فيه.
مسألة ٦٧١ : يصحّ التوكيل في البيع إيجاباً وقبولاً ، وفي جميع أنواعه - كالسَّلَم والصرف والتولية وغيرها - وفي جميع أحكامه وتوابعه من الفسخ بالخيار والأخذ بالشفعة وإسقاطهما ، فإنّه قد يترفّع عن التردّد في الأسواق ، وقد لا يُحْسن التجارة ، وقد لا يتفرّغ لها ، وقد يكون مأموراً بالتخدير ، كالمرأة ، فأجاز الشارع التوكيل فيه ؛ دفعاً للحاجة ، وتحصيلاً لمصلحة الآدمي المخلوق لعبادة الله تعالى ، كما قال عزّ من قائل :( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ ) (٤) .
ويجوز التوكيل في الحوالة والضمان والكفالة وعقد الرهن والشركة والوكالة والصلح ؛ لأنّه إمّا بيع عند الشافعي(٥) ، أو عقد مستقلّ برأسه.
____________________
(١) في « ث ، ج ، خ » والطبعة الحجريّة : « ثلثاها ».
(٢) الفقيه ٢ : ١٥٣ / ٦٦٥ ، الكامل في التاريخ ٢ : ٣٠٢ ، صحيح مسلم ٣ : ٨٨٦ - ٨٩٢ / ١٢١٨ ، سنن البيهقي ٥ : ١٣٤ ، الاستذكار ١٣ : ٩٥ - ٩٦ / ١٨١٨٨ ، التمهيد ٢ : ١١١.
(٣) جأش القلب هو رُواعه إذا اضطرب عند الفزع ، يقال : فلان رابط الجأش ، أي يربط نفسَه عن الفرار ، لشجاعته. الصحاح ٣ : ٩٩٧ « جأش ».
(٤) الذاريات : ٥٦.
(٥) الحاوي الكبير ٦ : ٣٦٧ ، التنبيه : ١٠٣ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٠ ، =
والتفليس لا يتصوّر فيه الوكالة.
وأمّا الحجر فيصحّ أن يوكّل الحاكم مَنْ ينوب عنه فيه ، ويوكّل الغرماء مَنْ يطلبه من الحاكم. وأمّا المحجور عليه فلا يتصوّر فيه أن يستنيب مَنْ يحكم عليه بالحجر عليه.
وكذا تصحّ الوكالة في القراض في عقده وفعله بأن يستنيب العامل إن أذن له المالك ، وإلّا فلا.
وفي الإقرار خلاف يأتي(١) .
ويصحّ التوكيل في الهبة والعارية - لأنّها هبة المنافع - في عقدها وفعلها ، إلّا في مثل إعارة الثوبِ ليلبسه ، والدابّةِ ليركبها بنفسه ، وشبه ذلك.
والغصب لا يتصوّر فيه التوكيل ، فإذا وكّل رجل رجلاً في غصبٍ ، كان الغاصبُ الوكيلَ ، دون الموكّل ؛ لأنّ فعل ذلك حرام ، فلا تصحّ النيابة فيه.
وتصحّ النيابة في المطالبة بالشفعة وأخذها.
وكذا تصحّ في المساقاة والمزارعة والإجارة والوديعة والجعالة والفعل المتعلّق بالجعالة ، والحوالة والقرض عقداً وتسليماً وأخذاً ، والوقف والحبس والعمرى والرقبى ، والوصيّة إيجاباً وقبولاً ، وفعل متعلّقها.
ولبعض الشافعيّة قولٌ في منعها ؛ لأنّها قربة(٢) .
والقربة لا تنافي النيابة ، كالحجّ وصلاة الطواف.
____________________
= الوسيط ٤ : ٤٩ ، الوجيز ١ : ١٧٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٤١ - ١٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٢٨ ، منهاج الطالبين : ١٢٥.
(١) في ص ٤٩ ، المسألة ٦٧٨.
(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٤.
وتصحّ النيابة في ال صدقة - كالزكاة وشبهها - والإبراء وقبض الأموال ، مضمونةً كانت أو غير مضمونة ، وفي قبض الديون وإقباضها ؛ لأنّ ذلك كلّه في معنى البيع في الحاجة إلى التوكيل فيها ، فيثبت فيها حكمه.
ولا نعلم في شيء من ذلك خلافاً ، إلّا ما قلناه.
وكذا تصحّ النيابة في العطايا وقسمة الفيء والغنيمة والصدقة.
مسألة ٦٧٢ : يصحّ التوكيل في عقد النكاح إيجاباً وقبولا ؛ لأنّ النبيّصلىاللهعليهوآله وكّل عمرو بن أُميّة الضمري وأبا رافع في النكاح له(١) .
ولأنّ الحاجة قد تدعو إلى ذلك ، فإنّه ربما احتاج إلى التزويج من مكانٍ بعيد لا يمكنه السفر إليه ، فإنّ النبيّصلىاللهعليهوآله تزوّج أُمّ حبيبة وهي يومئذٍ بأرض الحبشة(٢) .
ويجوز التوكيل في الطلاق ، حاضراً كان الموكّل أو غائباً على ما قدّمناه ، وفي الخلع ، وفي الرجعة - وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(٣) - كابتداء النكاح ، فإنّ كلّ واحدٍ منهما استباحة فرجٍ محرَّم.
والثاني : المنع ، كما لو أسلم الكافر على أكثر من أربع نسوة ووكّل بالاختيار ، وكذا لو طلّق إحدى امرأتيه ، أو أعتق أحد عبديه ، ووكّل بالتعيين(٤) .
____________________
(١) راجع المصادر في الهامش ( ٢ و ٣ ) من ص ٦.
(٢) الكامل في التاريخ ٢ : ٣٠٨ ، تاريخ الطبري ٣ : ١٦٥ ، تاريخ مدينة دمشق ٦٩ : ١٣٥ ، دلائل النبوّة - للبيهقي - ٣ : ٤٦٠ ، سنن النسائي ٦ : ١١٩ ، المعجم الكبير - للطبراني - ٢٣ : ٢١٩ / ٤٠٢ ، مسند أحمد ٧ : ٥٧٩ / ٢٦٨٦٢.
(٣) بحر المذهب ٨ : ١٥١ ، البيان ٦ : ٣٥٤ - ٣٥٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٤.
(٤) بحر المذهب ٨ : ١٥١ ، البيان ٦ : ٣٥٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٤.
ونمنع الملازمة وثبو ت الحكم في الأصل.
وكذا يصحّ التوكيل في تعيين المهر وقبضه ، ولا تصحّ الوكالة في القَسْم ؛ لأنّه يتعلّق ببدن الزوج ويتضمّن استمتاعاً.
مسألة ٦٧٣ : كما يصحّ التوكيل في العقود ، كذا يصحّ في فسخها والتوكيل في الإقالة منها وسائر الفسوخ.
وما هو على الفور قد يكون التأخير بالتوكيل تقصيراً.
ويصحّ التوكيل في خيار الرؤية.
وللشافعيّة خلاف فيه(١) .
ويجوز التوكيل في الإعتاقِ والتدبيرِ.
وللشافعيّة فيه وجهان يبنى على أنّه وصيّة أو تعليق عتقٍ بصفةٍ؟ فإن قلنا بالثاني منعناه(٢) .
والكتابةِ.
ولا يتصوّر في الاستيلاد ؛ لأنّه متعلّق بالوطي ، والوطء مختصّ بالفاعل.
ولا تصحّ الوكالة في الإيلاء ؛ لأنّه يمين. وكذا اللعان لا يصحّ التوكيل فيه أيضاً ؛ لأنّه يمين كالإيلاء ، أو شهادة على خلافٍ ، وكلاهما لا تدخلهما النيابة ، وكذا القسامة.
ولا تصحّ في الظهار ؛ لأنّه منكر وزور وبهتان ، فلا تدخله النيابة.
وللشافعيّة وجهان مبنيّان على أنّ المغلَّب فيه معنى اليمين أو
____________________
(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٢ ، و ٥ : ٢٠٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٣ ، و ٥٢٤.
(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٣.
الطلاق؟ ومعظمهم مَنَع من التوكيل فيه(١) .
وأمّا العدّة فلا تدخلها النيابة ؛ لأنّها تجب لاستبراء رحمها.
والرضاع لا تدخله النيابة ؛ لأنّه متعلّق بالمـُرضع والمرتضع ؛ لأنّه يختصّ بإنبات لحم المرتضع وانتشار عظمه بلبن الـمُرضع.
والنفقة يصحّ التوكيل في دفعها وقبضها.
ولا تصحّ النيابة في الأيمان ؛ لأنّها عبادة. ولأنّ الحكم في الأيمان يتعلّق بتعظيم اسم الله ، فامتنعت النيابة فيها ، كالعبادات.
وكذا النذور والعهود لا تدخلها النيابة.
وأمّا الشهادات فلا يصحّ التوكيل فيها ؛ لأنّا علّقنا الحكم بخصوص لفظ الشهادة حتى لم يقم غيرها مقامها ، فكيف يحتمل السكوت عنها بالتوكيل!؟ ولأنّ الشهادة تتعلّق بعين الشاهد ؛ لكونها خبراً عمّا سمعه أو رآه ، ولا يتحقّق هذا المعنى في نائبه.
فإن استناب فيها ، كان النائب شاهداً على شهادته ؛ لكونه يؤدّي ما سمعه من شاهد الأصل ، وليس ذلك بتوكيل ، فحينئذٍ تصحّ الاستنابة في الشهادة على وجه الشهادة.
وكذا تصحّ النيابة في القضاء والحكم.
مسألة ٦٧٤ : في صحّة التوكيل في المباحات - كالاصطياد والاحتطاب والاحتشاش وإحياء الموات وإجارة الماء وشبهه - إشكال ينشأ : من أنّه أحد أسباب الملك ، فكان كالشراء. ولأنّه عمل مقصود يصحّ أخذ الأُجرة عليه ، فجاز فيه النيابة كغيره من الأعمال ، فحينئذٍ يحصل الملك للموكّل إذا قصده
____________________
(١) بحر المذهب ٨ : ١٥٠ و ١٥١ ، البيان ٦ : ٣٥٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٣.
الوكيل - وهو أصحّ و جهي الشافعيّة ، وبه قال أحمد(١) - لأنّه تملّك مالٍ بسببٍ لا يتعيّن عليه ، فجاز التوكيل فيه ، كالشراء والاتّهاب.
والثاني للشافعيّة : لا يصحّ كالاغتنام ؛ لأنّ الملك يحصل فيها بالحيازة وقد وُجدت من الوكيل ، فيكون الملك له(٢) .
فعلى هذا إن جوّزنا التوكيل فيه ، جوّزنا الإجارة عليه ، فإذا استأجره ليحتطب أو يستقي المال أو يحيي الأرض ، جاز ، وكان ذلك للمستأجر. وإن قلنا بالمنع هناك ، منعناه هنا ، فيقع الفعل للأجير.
والجويني رأى جواز الاستئجار عليه مجزوماً به ، فقاس عليه وجه تجويز التوكيل(٣) .
مسألة ٦٧٥ : يجوز التوكيل في قبض الجزية وإقباضها والمطالبة بها ، وفي عقد الذمّة.
وفي تجويز توكيل الذمّي المسلمَ [ فيه ](٤) خلافٌ بين الشافعيّة(٥) .
وأمّا العقوبات - كالقتل والجنايات والزنا والقذف والسرقة والغصب وأشباه ذلك - فلا مدخل للتوكيل فيها ، بل أحكامها تثبت في حقّ متعاطيها ومرتكبها ؛ لأنّ كلّ شخصٍ بعينه مقصود بالامتناع منها ، فإذا لم يفعل(٦)
____________________
(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٥ ، بحر المذهب ٨ : ١٥٠ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢١٠ ، البيان ٦ : ٣٥٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٤ ، المغني ٥ : ٢٠٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٠٥.
(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٥ ، بحر المذهب ٨ : ١٥٠ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢١٠ ، البيان ٦ : ٣٥٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٤.
(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٥.
(٤) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « منه ». والظاهر ما أثبتناه ، أي : توكيله في القبض.
(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٧ ، و ١١ : ٥٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٤ ، و ٧ : ٥٠٤.
(٦) أي : لم يمتنع.
أُجري حكمها عليه.
و أمّا حدود الله تعالى - كحدّ الزنا والسرقة - فيجوز التوكيل فيها لاستيفائها ؛ لأنّ النبيّصلىاللهعليهوآله أمر برجم ماعِز ، فرُجم(١) .
وقالصلىاللهعليهوآله : « اغْدُ يا أُنَيْس إلى امرأة هذا فإذا اعترفَتْ فارْجُمْها » فغدا أُنَيْس عليها فاعترفت فأمر بها فرُجمت(٢) .
ووكّل أمير المؤمنينعليهالسلام عبد الله بن جعفر في إقامة حدّ الشرب على الوليد بن عقبة ، فأقامه(٣) .
ولأنّ الحاجة تدعو إلى ذلك ، فإنّ الإمام لا يمكنه تولّي ذلك بنفسه ، فيجوز التوكيل في استيفائها للإمام.
وللسيّد أن يوكّل في استيفاء الحدّ من مملوكه.
ويجوز التوكيل في إثبات حدود الله تعالى - وبه قال بعض العامّة(٤) - لأنّ النبيّصلىاللهعليهوآله وكّل أُنَيْساً في إثبات الحدّ واستيفائه جميعاً ، فإنّه قال : « فإذا اعترفَتْ فارْجُمْها »(٥) وهذا يدلّ على أنّه لم يكن قد ثبت وقد وكّله في إثباته.
ولأنّ الحاكم إذا استناب نائباً في عملٍ ، فإنّه يدخل في تلك النيابة
____________________
(١) صحيح مسلم ٣ : ١٣٢٣ / ٢٣ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٨٥٤ / ٢٥٥٤ ، سنن الترمذي ٤ : ٣٦ / ١٤٢٨ ، سنن الدارقطني ٣ : ٩١ - ٩٢ / ٣٩ ، و ١٢١ - ١٢٢ / ١٣٢ و ١٣٣ ، سنن البيهقي ٨ : ٢١٤ ، سنن الدارمي ٢ : ١٧٨.
(٢) صحيح البخاري ٣ : ١٣٤ ، صحيح مسلم ٣ : ١٣٢٤ - ١٣٢٥ / ١٦٩٧ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٨٥٢ / ٢٥٤٩ ، سنن أبي داوُد ٤ : ١٥٣ / ٤٤٤٥ ، سنن الترمذي ٤ : ٣٩ - ٤٠ / ١٤٣٣ ، سنن النسائي ٨ : ٢٤١ - ٢٤٢ ، سنن البيهقي ٨ : ٢١٣ ، سنن الدارمي ٢ : ١٧٧ ، مسند أحمد ٥ : ٩١ / ١٦٥٩٠ ، و ٩٢ / ١٦٥٩٤.
(٣) صحيح مسلم ٣ : ١٣٢٠ / ١٦٩٣ ، الكامل في التأريخ ٣ : ١٠٦ - ١٠٧ ، المغني ٥ : ٢٠٦.
(٤) المغني ٥ : ٢٠٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٠٧ - ٢٠٨.
(٥) تقدّم تخريجه في الهامش (٢)
الحدودُ وإثباتُها ، فإذا دخلت في التوكيل بالعموم فبالتخصيص أولى.
وقال الشافعي : لا يجوز التوكيل في إثباتها ؛ لأنّها تُدرأ بالشبهات ، وقد أُمر بإدرائها بالشبهة ، والتوكيل توصّلٌ إلى إثباتها(١) .
وهو غير منافٍ لقولنا ؛ فإنّ للوكيل أن يدرأها بالشبهات.
وأمّا عقوبات الآدميّين فيجوز التوكيل في استيفائها في حضور المستحقّ إجماعاً.
وأمّا في غيبته فإنّه يجوز ذلك أيضاً عندنا ؛ للأصل.
وللشافعي فيه ثلاثة طُرق أشهرها : أنّه على قولين :
أحدهما : المنع ؛ لأنّه لا نتيقّن بقاء الاستحقاق عند الغيبة ؛ لاحتمال العفو ، ولأنّه ربما يرقّ قلبه حالة حضوره فيعفو ، فليشترط الحضور.
وأصحّهما : الجواز - كما قلناه - لأنّه حقّ يستوفى بالنيابة في الحضور ، فكذا في الغيبة ، كسائر الحقوق. واحتمال العفو كاحتمال رجوع الشهود فيما إذا ثبت بالبيّنة ، فإنّه لا يمنع الاستيفاء في [ غيبته ](٢) .
الثاني : القطع بالجواز ، وحمل المنع على الاحتياط.
الثالث : القطع بالمنع ؛ لعظم خطر الدم(٣) . وبهذا الأخير قال أبو حنيفة(٤) .
____________________
(١) التنبيه : ١٠٨ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٦ ، الوسيط ٣ : ٢٧٨ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢١٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٦ ، المغني ٥ : ٢٠٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٠٧ - ٢٠٨.
(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « غيبتهم ». والظاهر أنّ الصحيح ما أثبتناه كما في « العزيز شرح الوجيز ».
(٣) بحر المذهب ٨ : ١٦٥ ، حلية العلماء ٥ : ١١٣ - ١١٤ ، البيان ٦ : ٣٥٧ - ٣٥٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٩ - ٢١٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٦.
(٤) تحفة الفقهاء ٣ : ٢٢٨ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢١ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٣٦ ، =
مسألة ٦٧٦ : ويجوز التوكيل في إثبات حدّ القذف والقصاص عند الحاكم وإقامة البيّنة عليه ، عند عامّة الفقهاء ؛ لأنّه حقٌّ لآدميّ ، فجاز التوكيل في إثباته ، كسائر الحقوق.
وقال أبو يوسف : لا يصحّ التوكيل فيه ؛ لأنّه يثبت الحدّ بما قام مقام العفو ، والحدّ لا يثبت بذلك ، كما لا يثبت بالشهادة على الشهادة ، ولا بكتاب القاضي إلى القاضي ولا برجل وامرأتين ، كذا هنا(١) .
ونمنعه في الشهادة على الشهادة وكتاب القاضي إلى القاضي ، على أنّ الحدّ لا يثبت بالتوكيل ، وإنّما يثبت بالبيّنة ، فلم يصح ما قاله.
مسألة ٦٧٧ : يجوز لكلّ واحدٍ من المدّعي والمدّعى عليه التوكيل بالخصومة ، رضي صاحبه أو لم يرض ، وليس لصاحبه الامتناع من خصومة الوكيل.
وقال أبو حنيفة : له الامتناع ، إلّا أن يريد الموكّل سفراً أو يكون مريضاً أو تكون مخدّرةً(٢) .
وقال مالك : له ذلك ، إلّا أن يكون سفيهاً خبيثَ اللسان ، فيعذر
____________________
= الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٥٢ ، حلية العلماء ٥ : ١١٤ ، المغني ٥ : ٢٠٧ - ٢٠٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٠٨ ، بحر المذهب ٨ : ١٦٥ ، البيان ٦ : ٣٥٧.
(١) تحفة الفقهاء ٣ : ٢٢٨ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢١ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٣٦ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٥٣ ، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : ١١ ، الحاوي الكبير ٦ : ٥١٦ ، بحر المذهب ٨ : ١٦٥ ، حلية العلماء ٥ : ١١٣ ، البيان ٦ : ٣٥٦.
(٢) تحفة الفقهاء ٣ : ٢٢٨ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢٢ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٣٦ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٥٣ و ٢٥٤ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٦٧ / ١٧٤١ ، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : ٧ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٠٧ / ١٠٣٠ ، عيون المجالس ٤ : ١٦٨٤ / ١١٨٦ ، بحر المذهب ٨ : ١٥٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢١٢ ، البيان ٦ : ٣٥٥ - ٣٥٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٩.
الموكّل في التوكيل (١) .
والحقّ ما قلناه ؛ لأنّه توكيلٌ في خالص حقّه ، فيُمكّن منه ، كالتوكيل باستيفاء الدَّيْن من غير رضا مَنْ عليه.
ولا فرق في التوكيل في الخصومة بين أن يكون المطلوب مالاً أو عقوبةً للآدميّين ، كالقصاص وحدّ القذف.
وكذا حدود الله تعالى عندنا ، خلافاً للشافعي(٢) .
مسألة ٦٧٨ : في التوكيل بالإقرار إشكال.
وصورته أن يقول : وكّلتُك لتقرَّ عنّي لفلان.
قال الشيخرحمهالله : إنّه جائز(٣) . وهو أحد قولَي الشافعيّة ؛ لأنّه قول يلزم به الحقّ ، فأشبه الشراء وسائر التصرّفات(٤) ، وبه قال أبو حنيفة(٥) أيضاً.
ومعظم الشافعيّة على المنع ؛ لأنّ الإقرار إخبار عن حقٍّ عليه ، ولا يلزم الغير إلّا على وجه الشهادة ، وهذا كما لو قال : رضيت بما يشهد به عَلَيَّ فلان ، فإنّه لا يلزمه ، كذلك هنا. ولأنّه إخبار ، فلا يقبل التوكيل كالشهادة ، وإنّما يليق التوكيل بالإنشاءات(٦) .
____________________
(١) بحر المذهب ٨ : ١٥٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٩ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٦٧ / ١٧٤١.
(٢) بحر المذهب ٨ : ١٦٥ ، البيان ٦ : ٣٥٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٦.
(٣) الخلاف ٣ : ٣٤٤ ، المسألة ٥ من كتاب الوكالة.
(٤) بحر المذهب ٨ : ١٥٠ و ١٦٢ ، الوجيز ١ : ١٨٨ ، الوسيط ٣ : ٢٧٧ ، حلية العلماء ٥ : ١١٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٠٩ ، البيان ٦ : ٣٥٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٥ ، المغني ٥ : ٢٠٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٠٧.
(٥) تحفة الفقهاء ٣ : ٢٢٩ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢٢ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٥٠ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٦٩ / ١٧٤٢ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٦٧ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٠٨ / ١٠٣٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٨.
(٦) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٦ ، بحر المذهب ٨ : ١٥٠ و ١٦٢ ، الوسيط ٣ : ٢٧٧ ، =
فعلى هذا هل يُجعل مُقرّاً بنفس التوكيل؟ فيه للشافعيّة وجهان :
أحدهما : نعم ، تخريجاً ، واختاره الجويني ؛ لأنّ توكيله دليل ثبوت الحقّ عليه ؛ لأنّ قوله : « أقرّ عنّي بكذا » يتضمّن وجوبه عليه.
وأظهرهما : أنّه لا يُجعل مُقرّاً ، كما أنّ التوكيل بالإبراء لا يجعل إبراءً ، وكالتوكيل في البيع ، فإنّه لا يكون بيعاً ، ورضاه بالشهادة عليه لا يكون إقراراً بالحقّ(١) .
وعندي في ذلك تردّد ، فإن قلنا بصحّة التوكيل في الإقرار ، ينبغي أن يبيّن للوكيل جنس المُقرّ به وقدره ، فلو قال : أقرّ عنّي بشيء لفلان ، طُولب الموكّل بالتفسير.
ولو اقتصر على قوله : أقرّ عنّي لفلان ، فللشافعيّة وجهان :
أحدهما : أنّه كما لو قال : أقرّ عنّي له بشيء.
وأصحّهما : أنّه لا يلزمه شيء بحال ؛ لجواز أن يريد الإقرار بعلمٍ أو شجاعة ، لا بالمال(٢) .
مسألة ٦٧٩ : لا يصحّ التوكيل بالالتقاط ، فإذا أمره بالالتقاط فالتقط ، كان الملتقط أحقَّ به من الآمر.
والميراث لا تصحّ النيابة فيه ، إلّا في قبض الموروث وقسمته.
____________________
= حلية العلماء ٥ : ١١٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٠٩ ، البيان ٦ : ٣٥٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٥ ، المغني ٥ : ٢٠٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٠٧.
(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٦ ، الوسيط ٣ : ٢٧٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٠٩ ، البيان ٦ : ٣٥٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٥.
(٢) بحر المذهب ٨ : ١٦٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٠٩ - ٢١٠ ، البيان ٦ : ٣٥٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٦.
وتصحّ النيابة في دفع الديات إلى مستحقّها.
والجنايات لا تصحّ النيابة فيها ؛ لأنّها ظلم ، فتتعلّق بفاعلها.
وأمّا قتال أهل البغي فيجوز أن يستنيب فيه.
والأشربة لا تصحّ النيابة فيها ، ويجب الحدّ على الشارب ؛ لأنّه فَعَل المحرَّم.
وأمّا الجهاد فقد مَنَع الشافعي من دخول النيابة فيه بحال ، بل كلّ مَنْ حضر الصفّ توجّه الفرض عليه(١) .
وهو بهذا المعنى صحيح ، وكذا ما قلناه أوّلاً من صحّة النيابة في الجهاد على معنى أنّ للرجل أن يُخرج غيره بأُجرة أو غيرها في الجهاد.
وأمّا الذبح فيصحّ التوكيل فيه.
وكذا يصحّ في السبق والرمي ؛ لأنّه إمّا إجارة أو جعالة ، وكلاهما تدخله النيابة.
ويصحّ التوكيل في الدعوى ؛ لأنّ ذلك مطالبة بحقّ غيره ، فهو كاستيفاء المال.
ويجوز التوكيل في مطالبة الحقوق وإثباتها والمحاكمة فيها ، حاضراً كان الموكّل أو غائباً ، صحيحاً أو مريضاً.
مسألة ٦٨٠ : لا يشترط في متعلّق الوكالة - وهو ما وُكّل فيه - أن يكون معلوماً من كلّ وجهٍ ، فإنّ الوكالة إنّما جُوّزت لعموم الحاجة ، وذلك
____________________
(١) بحر المذهب ٨ : ١٥١ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢١٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٣.
يقتضي المسامحة فيها ، ولذلك جوّز بعضهم تعليقها بالإغرار(١) . ولم يشترط القبول اللفظي فيها ، ولا الفوريّة في القبول ، لكن يجب أن يكون معلوماً مبيَّناً من بعض الوجوه حتى لا يعظم الغرر.
ولا فرق في ذلك بين الوكالة العامّة والخاصّة.
فأمّا الوكالة العامّة : فبأن يقول : وكّلتُك في كلّ قليل وكثير.
فإن لم يُضف إلى نفسه ، فالأقوى : البطلان ؛ لأنّه لفظ مبهم في الغاية.
ولو ذكر الإضافة إلى نفسه فقال : وكّلتُك في كلّ أمر هو إلَيَّ ، أو : في كلّ أُموري ، أو : في كلّ ما يتعلّق بي ، أو : في جميع حقوقي ، أو : بكلّ قليل وكثير من أُموري ، أو : فوّضت إليك جميع الأشياء التي تتعلّق بي ، أو : أنت وكيلي مطلقاً فتصرَّف في مالي كيف شئت ، أو فصَّل الأُمور المتعلّقة به التي تجري فيها النيابة ، فقال : وكّلتُك ببيع أملاكي وتطليق زوجاتي وإعتاق عبيدي ، أو لم يفصّل على ما تقدّم ، أو قال : وكّلتُك بكلّ أمر هو إلَيَّ ممّا يناب فيه ، ولم يفصّل أجناس التصرّفات ، أو قال : أقمتك مقام نفسي في كلّ شيء ، أو : وكّلتُك في كلّ تصرّفٍ يجوز لي ، أو : في كلّ ما لي التصرّف فيه ، فالوجه عندي : الصحّة في الجميع - وبه قال ابن أبي ليلى(٢) - ويملك كلّ ما تناوله لفظه ؛ لأنّه لفظ عامّ فيصحّ فيما تناوله ، كما لو قال : بِعْ مالي كلّه.
ولأنّه لو فصّل وذكر جميع الجزئيّات المندرجة تحت اللفظ العامّ ،
____________________
(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١١.
(٢) بحر المذهب ٨ : ١٩٢ ، البيان ٦ : ٣٦٣ ، المغني ٥ : ٢١١ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٤١ ، حلية العلماء ٥ : ١١٦ ، المبسوط - للسرخسي - ١٩ : ٧٠.
صحّ التوكيل ، سواء ضمّها بعضها إلى بعضٍ ، أو لا ، فيكون الإجمال صحيحاً.
وقال الشيخرحمهالله : لا تصحّ الوكالة العامّة(١) . وهو قول جميع العامّة - إلّا ابن أبي ليلى - لما فيه من الغرر العظيم والخطر الكبير ؛ لأنّه تدخل فيه هبة ماله وتطليق نسائه وإعتاق رقيقه ، وأن يزوّجه نساء كثيرة ، ويلزمه المهور الكثيرة والأثمان العظيمة ، فيعظم الضرر(٢) .
والجواب : إنّا نضبط جواز تصرّف الوكيل بالمصلحة ، فكلّ ما لا مصلحة للموكّل فيه لم ينفذ تصرّف الوكيل [ فيه ](٣) كما لو وكّله في بيع شيء وأطلق ، فإنّه لا يبيع إلّا نقداً بثمن المثل من نقد البلد ، كذا في الوكالة العامّة.
وكذا يصحّ لو قال له : اشتر لي ما شئت - خلافاً لبعض العامّة(٤) ، وعن أحمد رواية أنّه يجوز(٥) - عملاً بالأصل ، ولأنّ الشريك والمضارب وكيلان في شراء ما شاء. وحينئذٍ ليس له أن يشتري إلّا بثمن المثل وأدون ، ولا يشتري ما يعجز الموكّل عن ثمنه ، ولا ما لا مصلحة للموكّل فيه.
ولو قال : بِعْ مالي كلّه واقبض ديوني كلّها ، صحّ التوكيل ؛ لأنّه قد يعرف ماله وديونه.
ولو قال : بِعْ ما شئت من مالي واقبض ما شئت من ديوني ، صحّ التوكيل ؛ لأنّه إذا جاز التوكيل في الجميع ، ففي البعض أولى.
____________________
(١) الخلاف ٣ : ٣٥٠ ، المسألة ١٤ من كتاب الوكالة.
(٢) راجع المصادر في الهامش (٢) من ص ٥٢.
(٣) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.
(٤و٥) المغني ٥ : ٢١٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٤٢.
ووافقتنا العامّة في جواز : وكّلتُك في بيع أموالي واستيفاء ديوني ، أو : استرداد ودائعي ، أو : إعتاق عبيدي(١) .
والتفاوت ليس بطائلٍ.
وأمّا الوكالة الخاصّة : فهي المقصورة على نوعٍ من الأنواع ، كبيع عبدٍ أو شراء جاريةٍ أو محاكمة خصمٍ أو استيفاء دَيْنٍ منه ، وما أشبه ذلك ، ولا خلاف في جوازها.
مسألة ٦٨١ : إذا وكّله في بيع أمواله ، صح ، ولا يشترط كون أمواله معلومةً حينئذٍ ، بل يبيعها الوكيل ويبيع ما يعلم انتسابها إليه.
وللشافعيّة فيه وجهان ، هذا أصحّهما(٢) .
ولو قال : وكّلتُك في قبض جميع ديوني على الناس ، جاز مجملاً وإن لم يعرف مَنْ عليه الدَّيْن ، وأنّه واحد أو أشخاص كثيرة ، وأيّ جنسٍ ذلك الدَّيْن.
أمّا لو قال : وكّلتُك في بيع شيء من مالي ، أو : في بيع طائفةٍ منه أو قطعة منه ، أو في قبض شيء من ديوني ، ولم يعيّن ، فالأقوى : البطلان ؛ لجهالته من الجملة ، ولا بدّ من أن يكون الموكّل فيه ممّا يسهل استعلامه.
أمّا لو قال : بِعْ ما شئت من أموالي ، أو : اقبض ما شئت من ديوني ، فإنّه يجوز.
وكذا لو قال : بِعْ مَنْ رأيت من عبيدي.
وقال بعض الشافعيّة : لا يجوز حتى يعيّن(٣) . وليس شيئاً.
____________________
(١) بحر المذهب ٨ : ١٩٣ ، البيان ٦ : ٣٦٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٧.
(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٧.
(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٨.
مسألة ٦٨٢ : لو قال له : بِعْ ما شئت من مالي ، جاز ، خلافاً لبعض الشافعيّة(١) . ولو قال : بِعْ ما شئت من عبيدي ، جاز عندنا وعندهم(٢) .
وفرّقوا : بأنّ الثاني محصور الجنس ، بخلاف الأوّل(٣) .
وليس بجيّد ؛ لأنّ ما جاز التوكيل في جميعه جاز في بعضه ، كعبيده.
ولو قال : اقبض دَيْني كلّه وما يتجدّد من ديوني في المستقبل ، صحّ على إشكالٍ في المتجدّد.
ولو قال له : اشتر لي شيئاً أو حيواناً أو رقيقاً أو عبداً أو ثوباً ، ولم يعيّن الجنس ، فالأقوى عندي : الجواز ، ويكون الخيار في الشراء إلى الوكيل ، ويكون ذلك كالقراض حيث أمره صاحب المال بشراء شيء.
وقال أصحاب الشافعي : لا يصحّ مع الإطلاق حتى يبيّن أنّ الرقيق عبد أو أمة ، ويبيّن النوع أيضاً من أنّه تركيّ أو هنديّ أو غيره ؛ لأنّ الحاجة قد تقلّ إلى شراء عبدٍ مطلق على أيّ نوعٍ ووصفٍ كان ، وفي الإبهام ضرر عظيم ، فلا يحتمل ، وإنّما تمسّ الحاجة في الأكثر وتدعو إلى غلامٍ من جنسٍ معيّن ، هذا مذهب أكثرهم(٤) .
وذكر بعضهم وجهاً : أنّه يصحّ التوكيل بشراء عبدٍ مطلق(٥) .
____________________
(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٢ - ٢١٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٨ ، المغني ٥ : ٢١٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٤٢.
(٢ و ٣) المغني ٥ : ٢١٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٤٢.
(٤) الحاوي الكبير ٦ : ٤٩٩ ، بحر المذهب ٨ : ١٩١ ، البيان ٦ : ٣٦٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٨ ، المغني ٥ : ٢١٣ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٤٣.
(٥) الحاوي الكبير ٦ : ٤٩٩ ، بحر المذهب ٨ : ١٩١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٩.
مسألة ٦٨٣ : إذا و كلّه في شراء عبدٍ وأطلق ، فقد بيّنّا جوازه. وعند الشافعيّة لا بدّ من تعيين جنسه(١) .
وهل يفتقر مع تعيين النوع إلى تعيين الثمن؟ الأقرب عندي : عدمه - وهو أصحّ وجهي الشافعيّة ، وبه قال أبو حنيفة وابن سريج(٢) - لأنّه إذا ذكر نوعاً فقد أذن له في أعلاه ثمناً ، فيقلّ الغرر. ولأنّ ضبط الثمن ممّا يعسر معه التحصيل ؛ لأنّه قد لا يوجد به ، ولأنّ تعلّق الغرض بعبدٍ من ذلك النوع نفيساً كان أو خسيساً ليس ببعيدٍ.
والثاني للشافعيّة : لا بدّ من تقدير الثمن ، أو بيان غايته بأن يقول : مائة ، أو من مائة إلى ألف ؛ لكثرة التفاوت فيه ، ويجوز أن يذكر له أكثر الثمن أو أقلّه ، وإذا كان التفاوت في الجنس الواحد كثيراً ، لم يتمّ التوكيل إلّا بالتعيين(٣) .
وهو ممنوع.
ولا يشترط استقصاء الأوصاف التي تُضبط في السَّلَم ولا ما يقرب منها إجماعاً.
نعم ، إذا اختلفت الأصناف الداخلة تحت النوع الواحد اختلافاً ظاهراً ، قال بعض الشافعيّة : لا بدّ من التعرّض له(٤) .
____________________
(١) راجع الهامش (٤) من ص ٥٥.
(٢) بحر المذهب ٨ : ١٩١ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢١٢ ، البيان ٦ : ٣٦٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٩ ، تحفة الفقهاء ٣ : ٢٣٣ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢٤ ، المغني ٥ : ٢١٣.
(٣) بحر المذهب ٨ : ١٩١ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢١٢ ، البيان ٦ : ٣٦٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٩ ، المغني ٥ : ٢١٣.
(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٩.
وليس شيئاً.
وهل يكفي ذكر الثمن عن ذكر النوع فيقول له مثلاً : اشتر لي عبداً بمائة ، وإن لم يقل : تركيّاً أو هنديّاً؟ الوجه عندنا : جوازه ، وبه قال بعض الشافعيّة(١) .
وقال بعضهم بعدم الاكتفاء(٢) .
ولو قال : اشتر لي عبداً كما تشاء ، جاز أيضاً عندنا - وبه قال بعض الشافعيّة(٣) - لأنّه صرّح بالتفويض التامّ ، بخلاف ما لو اقتصر على قوله : اشتر لي عبداً ، فإنّه لم يأت فيه ببيانٍ معتاد ولا تفويضٍ تامّ.
والأكثرون منهم لم يكتفوا بذلك ، وفرّقوا بينه وبين أن يقول في القراض : اشتر مَنْ شئت من العبيد ؛ لأنّ المقصود هناك الربح بنظر العامل وتصرّفه ، فليس(٤) التفويض إليه(٥) .
وفي التوكيل بشراء الدار يجب عندهم التعرّض للمحلّة والسكّة ، وفي الحانوت للسوق(٦) .
وكلّ هذا عندنا غير لازمٍ.
مسألة ٦٨٤ : إذا وكّله في الإبراء من الحقّ الذي له على زيدٍ ، صحّ.
فإن عرف الموكّل مبلغ الدَّيْن كفى ، ولم يجب إعلام الوكيل قدر الدَّيْن وجنسه ، وبه قال بعض الشافعيّة(٧) .
____________________
(١) الوجيز ١ : ١٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٣.
(٢) الوجيز ١ : ١٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢١٢.
(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٩.
(٤) في « العزيز شرح الوجيز » : « فيليق » بدل « فليس ».
(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٩.
(٦) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢١٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٩.
(٧) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٩.
وقال بعضهم : لا بدّ من أن يبيّن للوكيل قدر الدَّيْن وجنسه(١) .
والمعتمد : الأوّل ؛ لأصالة صحّة الوكالة.
أمّا لو قال : بِعْ عبدي بما باع به فلان فرسه ، اشتُرط في صحّة البيع عِلْمُ الوكيل ؛ لأنّ العهدة تتعلّق به ، فلا بدّ أن يكون على بصيرةٍ من الأمر ، ولا عهدة في الإبراء.
ولو كان الموكّل جاهلاً بما باع به فلان فرسه ، لم يضر.
واشترط بعضهم العلم بما يقع الإبراء منه(٢) .
وأصل الخلاف : إنّ الإبراء هل هو محض إسقاط ، أو تمليك؟ إن قلنا : إسقاط ، صحّ مع جَهْل مَنْ عليه الحقّ بمبلغ الحقّ. وإن قلنا : تمليك ، فلا بدّ من علمه ، كما أنّه لا بدّ من علم المتّهب بما يوهب منه(٣) .
ولو قال : وكّلتُك في أن تُبرئه من الدَّيْن الذي لي عليه ، ولم يعلم الموكّل قدره ولا الوكيل ، صحّ أيضاً عندنا.
ولو وكّله في الإبراء من شيء ، وأطلق ، لم يكن للوكيل التعيين ، بل يُبرئه من شيء مبهم ، ويُحمل على أقلّ ما يتموّل ؛ لأنّه المتيقّن بالإسقاط ، والزائد عليه ثابت في الذمّة ، فلا يزول عنها إلّا بمزيل.
ولو قال : وكّلتُك في أن تُبرئه ممّا شئت ، أو ممّا شاء ، فالوجه : الصحّة ، ويرجع في القدر إلى مشيئته أو مشيئة الغريم.
ولو وكّله بأن قال : ابرئ فلاناً عن دَيْني ، اقتضى ذلك أن يُبرئه من الجميع. ولو قال : عن شيء منه ، أبرأه عن أقلّ ما يتموّل.
____________________
(١) الحاوي الكبير ٦ : ٥١٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢١١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٩.
(٢و٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٩.
ولو قال : أبرأه عمّا شئت ، لم يجز الاستيعاب ، مع احتماله.
مسألة ٦٨٥ : إذا وكّله في الإبراء من الحقّ الذي له عليه(١) ، فأبرأه الوكيل ، صح ، وبرئت ذمّته.
ولو كان له على رجل حقٌّ ، فوكّل صاحب الحقّ مَنْ عليه الحقّ في إبراء نفسه ، صحّ ؛ لأنّه وكّله في إسقاط حقٍّ عن نفسه ، فوجب أن يصحّ ، كما لو وكّل العبدَ في إعتاق نفسه والمرأةَ في طلاقها ، وهو المشهور عند الشافعيّة(٢) .
وقال بعضهم : لا يصحّ ؛ لأنّه لا يملك إسقاط الحقّ عن نفسه بنفسه ، كما لو كان في يده عين مضمونة عليه ، فإنّه لا يصحّ أن يوكّله في إسقاط الضمان عن نفسه(٣) .
وهو ضعيف ؛ لأنّه يخالف إسقاط الحقّ عن الذمّة ؛ لأنّ ذلك لا يسقط إلّا بالقبض ، ولا يكون قابضاً من نفسه ، وهنا يكفي مجرّد الإسقاط ، على أنّا نمنع الحكم في الأصل.
إذا ثبت هذا ، فإذا وكّل المضمونُ له المضمونَ عنه في إبراء الضامن ، جاز ، فإذا أبرأه ، برئ الضامن والمضمون عنه عندنا.
وعند العامّة لا يبرأ المضمون عنه(٤) .
وإن وكّل الضامنَ في إبراء المضمون عنه فأبرأه ، لم يبرأ الضامن عندنا ؛ لأنّ الدَّيْن انتقل من ذمّة المضمون عنه ، ولا تصحّ هذه الوكالة ، كما لو وكّله في إبراء مَنْ لا حقّ له عليه.
____________________
(١) كذا ، والظاهر : « على زيد » بدل « عليه ».
(٢) الحاوي الكبير ٦ : ٥١٦ ، بحر المذهب ٨ : ١٦٣ ، الوسيط ٣ : ٢٨٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٨ - ٥٣٩.
(٣) الحاوي الكبير ٦ : ٥١٥ بحر المذهب ٨ : ١٦٣.
(٤) المغني ٥ : ٢٤١ ، الشرح الكبير ٥ : ٢١٢.