الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليهالسلام )
(المرتضى من سيرة المرتضى)
الجزء السابع
السيد جعفر مرتضى العاملي
هذا الكتاب
نشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف
شبكة الإمامين الحسنين (عليهماالسلام ) للتراث والفكر الإسلامي
بانتظار أن يوفقنا الله تعالى لتصحيح نصه وتقديمه بصورة أفضل في فرصة أخرى قريبة إنشاء الله تعالى.
الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليهالسلام )
(المرتضى من سيرة المرتضى)
الجزء السابع
السيد جعفر مرتضى العاملي
الفصل الرابع: تبليغ سورة براءة
إرسال أبي بكر إلى مكة:
قلنا في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي (صلىاللهعليهوآله ): إن أبا بكر حج بالناس في سنة تسع بأمر رسول الله (صلىاللهعليهوآله ).
ثم بعث رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) علياً (عليهالسلام ) على أثر أبي بكر ليأخذ سورة براءة منه، ويقرأها هو على الناس، فأدركه بالعرج في قول ابن سعد، أو في ضجنان(١) كما قاله ابن عائذ. وكان علي (عليهالسلام ) على العضباء ناقة رسول الله (صلىاللهعليهوآله ).
فزعموا: أن أبا بكر لما رآه قال: أميراً أو مأموراً؟!
قال: لا بل مأمور. ثم مضيا(٢) .
وحسب نص آخر: بعث أبا بكر على إقامة الحج سنة تسع، وبعث في أثره علياً يقرأ على الناس سورة براءة.
____________
١- العرج: قرية تبعد عن المدينة نحو ثمانية وسبعين ميلاً. وضجنان: جبل يبعد عن مكة اثني عشر ميلاً.
٢- راجع: سبل الهدى والرشاد ج١٢ ص٧٣ و ٧٤ والدرر لابن عبد البر ص٢٥٠ وإمتاع الأسماع ج١٤ ص٣٢٢.
فقيل: لأن أولها نزل بعد أن خرج أبو بكر إلى الحج(١) .
وقيل: بل لأن عادة العرب كانت أنه لا تحل العقود والعهود ويعقدها إلا المطاع، أو رجل من أهل بيته، فلهذا بعث علياً (عليهالسلام ) في أثره(٢) .
وقيل: أردفه به عوناً له ومساعداً، ولهذا قال له الصدِّيق: أأميراً أو مأموراً؟!
قال: بل مأموراً.
وقالوا: وأما أعداء الله الرافضة، فيقولون: عزله بعلي، وليس هذا ببدع من بهتهم وافترائهم(٣) .
وقيل: كان في سورة براءة الثناء على الصدِّيق، فأحب أن يكون على لسان غيره، قال في الهدى: لأن السورة نزلت بعد ذهاب أبي بكر إلى
____________
١- راجع: الدرر لابن عبد البر ص٢٥٠ وإمتاع الأسماع ج١٤ ص٣٢١ و ٣٢٢.
٢- راجع: سبل الهدى والرشاد ج١١ ص٣٣٨ وج١٢ ص٧٥ ودلائل الصدق ج٢ ص٢٤٥ و ٢٤٦ عن الفضل بن روزبهان، والجامع لأحكام القرآن ج٨ ص٦١ وبحار الأنوار ج٣٠ ص٣١٩ عن الجبائي، والمغني للقاضي عبد الجبار ج٢٠ ص٣٥١ وتفسير الرازي ج١٥ ص٢١٨ والكشاف للزمخشري ج٢ ص١٧٢ وتفسير البيضاوي ج١ ص٤٠٥ وشرح التجريد للقوشجي ص٣٧٢ وتفسير القرآن العظيم ج٢ ص٣٤٥.
٣- راجع: سبل الهدى والرشاد ج١١ ص٣٣٨.
الحج(١) .
ونقول:
لا بد من ملاحظة ما يلي:
وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ:
إن هذا العرض لما جرى لأبي بكر في تبليغ مضامين سورة براءة في موسم الحج يمثل أنموذجاً لمكر الماكرين، وجحود الجاحدين، وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ(٢) ..
مع أن أحداث هذه القضية كالنار على المنار، وكالشمس في رابعة النهار، ولم يزل العلماء يتداولونها، ويستدلون بها في قضايا الإمامة، ولا يجد الآخرون مناصاً عن البخوع لمقتضيات مضامينها، والتسليم بدلالاتها، ولو وجدوا أي مجال للتأويل أو التحوير لما ترددوا في اللجوء إليه، والتعويل عليه.
ونحن نوضح هنا الحقيقة في هذه القضية، فنقول:
حقيقة ما جرى:
عن الحارث بن مالك: أنه سأل سعد بن أبي وقاص (أو: سعد بن مالك): هل سمعت لعلي منقبة؟!
____________
١- راجع: سبل الهدى والرشاد ج١٢ ص٧٥.
٢- الآية ٤٦ من سورة إبراهيم.
قال: قد شهدت له أربعاً، لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من الدنيا، أُعمّر فيها مثل عمر نوح: إن رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بعث أبا بكر ببراءة إلى مشركي قريش، فسار بها يوماً وليلة. ثم قال لعلي: اتبع أبا بكر فخذها وبلغها.
فَرَدَّ عليٌّ أبا بكر، فرجع يبكي، فقال: يا رسول الله، أنزل فيَّ شيء؟!
قال: لا، إلا خيراً، إنه ليس يبلغ عني إلا أنا أو رجل مني.
أو قال: من أهل بيتي الخ..)(١) .
وكان مع أبي بكر، قبل أن يرجع ثلاث مائة رجل(٢) .
خلاصات ضرورية:
ولتوضيح هذه القضية نحتاج إلى إيراد خلاصة جامعة لما جرى فيها، وهي كما يلي:
يظهر من النصوص المتوافرة لدينا: أنه (صلىاللهعليهوآله ) أمر أبا بكر أن يسير إلى مكة ليقيم للناس حجهم في سنة تسع، وليبلغ الناس عنه صدر
____________
١- كفاية الطالب ص٢٨٧ وبحار الأنوار ج٣٥ ص٢٨٥ عن علل الشرايع ص٧٤ ومقام الإمام علي "عليهالسلام " لنجم الدين العسكري ص٣٦ والغدير للشيخ الأميني ج١ ص٤٠ وج٦ ص٣٤٦ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٤ ص٤٤٥ وج١٥ ص٦٦١ وج٢٢ ص٤٢٩ عن مختصر تاريخ دمشق (ط إسلامبول) ج١٧ ص١٣٠.
٢- بحار الأنوار ج٣٥ ص٣٠٩ عن الكامل لابن الأثير.
سورة براءة، بالإضافة إلى قرارات أخرى يريد (صلىاللهعليهوآله ) أن يلزم الناس بمراعاتها.
ويستفاد من مجموع الروايات: أنه (صلىاللهعليهوآله ) كتب عشر آيات، أو ثلاثين أو أربعين آية من سورة براءة، وكتب أيضاً:
١ ـ أن لا يطوفنَّ بالبيت عريان.
٢ ـ لا يجتمع المسلمون والمشركون.
٣ ـ ومن كان بينه وبين رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) عهد، فأجله إلى مدته، ومن لم يكن بينه وبينه عهد فأجله إلى أربعة أشهر.
٤ ـ إن الله بريء من المشركين وَرَسُولُهُ.
٥ ـ لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة (أو إلا من كان مسلماً).
٦ ـ لا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد عامه هذا.
٧ ـ أن هذه أيام أكل وشرب.
٨ ـ أن يرفع الخمس من قريش، وكنانة وخزاعة إلى عرفات(١) .
والخمس: هي أحكام كانوا قد قرروها لأنفسهم: هي ترك الوقوف بعرفات والإفاضة منها(٢) .
____________
١- تفسير فرات ص١٦١ وبحار الأنوار ج٣٥ ص٣٠٠ عنه، وراجع: تفسير الميزان للسيد الطباطبائي ج٨ ص٨٧.
٢- راجع: السيرة النبوية لابن هشام ج١ ص١٩٩.
فلما كان أبو بكر ببعض الطريق إذ سمع رغاء ناقة رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، وإذا هو علي (عليهالسلام )، فأخذ الكتاب من أبي بكر ومضى.
ويبدو أن الكتب كانت ثلاثة:
أحدها: ما أشير إليه آنفاً.
والثاني: كتاب يشتمل على سنن الحج، كما روي عن عروة.
والكتاب الثالث: كتبه النبي (صلىاللهعليهوآله ) الى أبي بكر وفيه: أنه استبدله بعلي (عليهالسلام ) لينادي بهذه الكلمات في الموسم، ويقيم للناس حجهم.
وعند المفيد: أنه (صلىاللهعليهوآله ) قال لعلي: (وخيِّر أبا بكر أن يسير مع ركابك، أو يرجع إليَّ).
فاختار أبو بكر أن يرجع إلى رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فلما دخل عليه قال: (يا رسول الله، إنك أهلتني لأمر طالت الأعناق فيه إليَّ، فلما توجهت له رددتني عنه؟! ما لي؟! أنزل فيَّ قرآن؟!
فقال (صلىاللهعليهوآله ): لا، الخ..)(١) .
وفي نص آخر: فأخبره النبي (صلىاللهعليهوآله ) بأن جبرئيل جاءه وقال له: إنه لا يبلغ عنه إلا هو أو رجل منه، وهو علي (عليهالسلام ).
____________
١- الإرشاد ج١ ص٦٥ و ٦٦ وبحار الأنوار ج٢١ ص٢٧٥ وج٣٥ ص٣٠٣ عنه، وعن المناقب ج١ ص٣٢٦ و ٣٢٧ والمستجاد من كتاب الإرشاد (المجموعة) ص٥٥ ونهج الإيمان لابن جبر ص٢٤٧ وكشف اليقين ص١٧٣.
فقرأ علي (عليهالسلام ) في موقف الحج سورة براءة حتى ختمها كما عن جابر.
وعن عروة: أنه (صلىاللهعليهوآله ) أمر علياً (عليهالسلام ) أن يؤذّن بمكة وبمنى، وعرفة، وبالمشاعر كلها: بأن برئت ذمة رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) من كل مشرك حج بعد العام، أو طاف بالبيت عريان الخ..
ولهذا الحديث مصادر كثيرة جداً، فراجعه في مظانه(١) .
____________
١- راجع هذا الحديث في المصادر التالية: الدر المنثور ج٣ ص٢٠٩ و ٢١٠ عن أحمد، وابن أبي شيبة، والترمذي، وأبي الشيخ، وابن مردويه، وابن حبان، والطبراني، والتراتيب الإدارية ج١ ص٧٢ ورسالات نبوية ص٧٢ وبحار الأنوار ج٢١ ص٢٦٦ و ٢٦٧ و ٢٧٤ و ٢٧٥ وج٣٥ ص٢٨٥ ـ ٣٠٩ والجامع لأبي زيد القيرواني ص٣٩٦ وتاريخ اليعقوبي ج٢ ص٦٦ والرياض النضرة ج٣ ص١١٨ و ١١٩ وذخائر العقبى ص٦٩ وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج٣ ص٩١ وعن تاريخ الأمم والملوك ج٣ ص١٢٢ و ١٢٣ و (ط أخرى) ص١٥٢ والكفاية للخطيب ص٣١٣ والسنة لابن أبي عاصم ص٥٨٩ وكنز العمال ج٢ ص٤٢٢ و ٤١٧ و ٤٣١ وج١٣ ص١٠٩ ومجمع الزوائد ج٧ ص٢٩ وتفسير المنار ج١٠ ص١٥٧ و ١٥٦ والعمدة لابن البطريق ص١٦٠ وكشف اليقين ص١٧٢ والبداية والنهاية ج٥ ص٣٨ وج٧ ص٣٥٧ وعمدة القاري ج١٨ ص٢٦٠ وج٤ ص٧٨ ووسيلة المآل ص١٢٢ والجمل للمفيد ص٢١٩ والكامل لابن عدي (ط دار الفكر) ج٣ ص٢٥٦ و ٤١٣ وابن زنجويه ج١ ص٦٦٣ والمعجم الكبـير ج١١ = = ص٤٠٠ وفتح القدير ج٢ ص٣٣٤ والمناقب للخوارزمي ص٩٩ و ١٦٥ و ١٦٤ وزوائد المسند ص٣٥٣ وفرائد السمطين ج١ ص٦١ وأنساب الأشراف ج١ ص٣٨٣ وجامع البيان ج١٠ ص٤٤ ـ ٤٧ وتفسير القرآن العظيم ج٢ ص٣٣٣ والصواعق المحرقة ص٣٢ وتفسير أبي حيان ج٥ ص٦ وإمتاع الأسماع ص٤٩٩ والإصابة ج٢ ص٥٠٩ وخصائص الإمام علي بن أبي طالب للنسائي ص٩٢ و ٩٣ والأموال لأبي عبيد ص٢١٣ و ٢١٥ وتيسير الوصول ج١ ص١٥٨ وعن الكشاف ج٢ ص٢٤٣ والسيرة النبوية لابن هشام ج٤ ص٢٠٣ والسنن الكبرى ج٥ ص١٢٨ ح٨٤٦١ وج٩ ص٢٢٤ وكفاية الطالب ص٢٥٥ و ٢٥٤ و ٢٨٥ عن أحمد، وابن عساكر، وأبي نعيم، وتشييد المطاعن ج١ ص١٦٤ و ١٦٥ ونور الثقلين ج٢ ص١٧٧ و ١٨٢ وتهذيب تاريخ دمشق ج٣ ص٨٩ ومسند أحمد ج١ ص٣ و ١٥١ و ١٥٠ وج٣ ص٢١٢ و ٢٨٣ وإرشاد الساري ج١٠ ص٢٨٣ وغرائب القرآن (مطبوع بهامش جامع البيان) ج١٠ ص٣٦ وتذكرة الخواص ص٣٧ وترجمة الإمام علي "عليهالسلام " من تاريخ مدينة دمشق (بتحقيق المحمودي) ج٢ ص٣٧٦ و ٣٩٠ والمستدرك على الصحيحين ج٢ ص٣٦١ وج٣ ص٥٢ وينابيع المودة ص٨٩ والطرائف ص٣٨ و ٣٩ وعن فتح الباري ج٨ ص٣١٨ ومختصر تاريخ دمشق ج١٨ ص٦ وج٢٠ ص٦٨ والجامع الصحيح للترمذي ج٥ ص٢٥٧ و ٢٥٦ وتفسير النسفي ج٢ ص١١٥ والطبقات الكبرى لابن سعد ج٢ ص١٦٨ وتفسير البيضاوي ج١ ص٣٩٤ ومطالب السؤل ص١٧ وشرح نهج البلاغة للـمـعتـزلـي ج١٢ ص٤٦ وج٧ ص٢٨٨ وسنن الـدارمي ج٢ ص٦٧ و ٢٣٧ = وصحيح ابن خزيمة ج٤ ص٣١٩ والروض الأنف ج٧ ص٣٧٤ والكامل في التاريخ ج١ ص٦٤٤ والتفسير الكبير للرازي ج١٥ ص٢١٨ والإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ج٥ ص١٩ وج١٥ ص١٦ والجامع لأحكام القرآن ج٨ ص٤٤ والمواهب اللدنية ج١ ص٦٤٠ والسيرة النبوية لدحلان ج٢ ص١٤٠ وروح المعاني ج١٠ ص٤٤ و ٤٥ وتاريخ الخميس ج٢ ص١٤١ والسنن الكبرى للنسائي ج٥ ص١٢٨ وج٢ ص٤٠٧ وعن ابن خزيمة، وأبي عوانة، والدارقطني في الإفراد، وابن أبي حاتم، وتفسير البغوي (مطبوع مع تفسير الخازن) ج٣ ص٤٩ وتفسير الخازن ج٢ ص٢٠٣ والإرشاد للمفيد ج١ ص٦٥ و ٦٦ والبرهان (تفسير) ج٢ ص١٠٠ و ١٠١ وإعلام الورى ص١٣٢ وعن علل الشرايع ص٧٤ وعن الخصال ج٢ ص١٦ و ١٧ ومسند علي ص٧٤١.
وقد نظم الشعراء هذه المنقبة شعراً، فقال شمس الدين المالكي المتوفى سنة ٧٨٠هـ:
وأرسله عنه الرسول مبلغاً وخُص بهذا الأمر تخصيص مفردِ
وقال: هل التبليغ عني ينبغي لمن ليس من بيتي من القوم فاقتدِ(١)
استمرار أبي بكر في مسيره إلى مكة:
اختلفت روايات غير الرافضة! في مسير أبي بكر إلى مكة، أو رجوعه إلى المدينة، فهي على ثلاثة أقسام:
الأول: لم يتعرض للنفي، ولا للإثبات..
____________
١- الغدير ج٦ ص٥٨ و ٣٣٨ عن نفح الطيب ج١٠ ص٢٤٤.
الثاني: صرح بمواصلة مسيره إلى مكة، وحج مع علي (عليهالسلام )، رووا ذلك عن أبي هريرة، وابن عباس، ونسب إلى أبي جعفر أيضاً.
الثالث: تحدث عن رجوع أبي بكر إلى المدينة، وهو المروي عن علي (عليهالسلام )، وابن عباس، وأبي هريرة والسدي(١) ، وزيد بن بثيع، وأبي بكر نفسه.
وتعبير بعض روايات هؤلاء: بأنه (صلىاللهعليهوآله ) بعث (براءة) أولاً مع أبي بكر، ثم دعاه فبعث بها علياً (عليهالسلام )(٢) .
فيلاحظ: أن أصحاب الرأي الثاني هم ثلاثة فقط، وهم أنفسهم رووا رجوعه إلى المدينة، ووافقهم عليه آخرون، حتى أبو بكر نفسه.
فلا يصح ما ادعاه ابن روزبهان، من أن علياً لم يكن أمير الحج، لأنه كان مكلفاً فقط بتبليغ الآيات، مع تواتر الأخبار بأن أبا بكر قد حج في تلك
____________
١- مكاتيب الرسول ج١ ص٢٦٨.
٢- راجع: مسند أحمد ج٣ ص٢٨٣ ونحوه في سنن الترمذي في تفسير سورة التوبة. وقال: هذا حديث حسن. وكنز العمال ج٢ ص٤٢٢ وراجع: الغدير ج٦ ص٣٤٥ وشواهد التنزيل للحسكاني ج١ ص٣٠٩ وتاريخ مدينة دمشق ج٤٢ ص٣٤٤ وكشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد (بتحقيق الآملي) للعلامة الحلي ص٥٠٩ و (بتحقيق السبحاني) ص٢٠٤ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٢٢ ص٤٢٢.
السنة(١) . انتهى.
ولا يصح أيضاً ما ادعاه القاضي عبد الجبار: من أن ولاية أبي بكر على الموسم والحج في تلك السنة قد ثبت بلا خلاف بين أهل الأخبار، ولم يصح أنه عزله..
قال: ولا يدل رجوع أبي بكر إلى النبي (صلىاللهعليهوآله ) مستفهماً عن القصة على العزل(٢) .
نعم، لا يصح ذلك.
أولاً: لأنه قد ظهر مما ذكرناه آنفاً، أن الأخبار متواترة في رجوع أبي بكر إلى المدينة.. ولم يرو عندهم مضي أبي بكر مع علي (عليهالسلام ) إلى مكة سوى ما نسبوه إلى أبي جعفر..
أما رواية أبي هريرة، وابن عباس ذهابه إلى مكة فهي مشكوكة، لمعارضتها بروايتهما رجوعه إلى المدينة..
ثانياً: إن مهمة أبي بكر أولاً كانت إقامة الحج وتبليغ الآيات، فما الذي يمنع من أن يتولى علي (عليهالسلام ) ـ بعد رجوع أبي بكر ـ تبليغ الآيات،
____________
١- دلائل الصدق ج٣ ق١ ص١٨ و ١٩ عن فضل بن روزبهان، وشرح إحقاق الحق (الأصل) ص٢٢٢.
٢- بحار الأنوار ج٣ ص٣١٤ وج٣٠ ص٤١٦ والمغني لعبد الجبار ج٢٠ ص٣٥٠ وراجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج١٧ ص١٩٥ والشافي في الإمامة ج٤ ص١٥٣.
وإقامة الحج أيضاً؟! فلماذا يريد ابن روزبهان أن يشكك في هذا الأمر..
ثالثاً: لا إجماع على تولية أبي بكر الحج في تلك السنة كما ظهر من رواية علي (عليهالسلام )، وابن عباس، وابن بثيع، وأبي هريرة وأبي بكر نفسه، وغيرهم.
وتقدم: أن راوي مواصلة أبي بكر مسيره إلى مكة واحد.
يضاف إلى ذلك: قول الطبرسي عن علي (عليهالسلام ): (روى أصحابنا أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) ولاه أيضاً الموسم، وأنه حين أخذ البراءة من أبي بكر رجع أبو بكر(١) .
رابعاً: إن إجماع بعض أهل الأخبار على مسير أبي بكر إلى مكة مع روايتهم رجوعه إلى المدينة عمن ذكرناهم عن قريب، يؤكد التهمة لهؤلاء الناس، في أنهم يسعون لتحسين صورة أبي بكر، وإبعاد الظنون والشبهات عنه.
والقول بأن الرجوع إلى المدينة رجوع بهدف الاستفهام، ولا يدل على عدم استئناف سفر جديد إلى مكة، لإنجاز مهمة الحج بالناس.. مجازفة ظاهرة.. فإن القائلين بذلك لم يدعوا استئناف السفر إلى مكة وتولي الحج من جديد، بل هم يقولون: إنه رجع إلى المدينة بصورة نهائية.
____________
١- مجمع البيان ج٥ ص٩ وبحار الأنوار ج٢١ ص٢٦٦ وج٣٠ ص٤١٧ والصافي (تفسير) ج٢ ص٣٢١ والتبيان للطوسي ج٥ ص١٦٩ ونور الثقلين ج٢ ص١٨٢.
تبدل آراء الأنبياء:
وقد يتساءل البعض فيقول:
كيف يتبنى النبي (صلىاللهعليهوآله ) رأياً، ويباشر بتنفيذه ثم يعدل عنه؟!
هل لأنه ظهر له خطؤه؟!
ألا يضعف ذلك ثقة الناس بالنبي (صلىاللهعليهوآله )، ويخل بمكانته في نفوسهم؟!
ونجيب:
ليست القضية قضية خطأ في الرأي قد بان صوابه، بل كان هناك أمران لا بد من ملاحظتهما، وهما:
١ ـ أن المطلوب كان إرسال أبي بكر إلى المكان الذي أرسل إليه، وأن يرى الناس ذلك.
٢ ـ ثم إرسال علي (عليهالسلام ) في أثره ليأخذ الكتاب، وأن يرى الناس ذلك أيضاً.
وقد كان الأمران كلاهما بوحي من الله، لا برأي بان خطؤه، لأننا نعلم: أنه (صلىاللهعليهوآله ) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(١) .
وأما المصلحة في ذلك فسيأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى.
____________
١- الآيتان ٣ و٤ من سورة النجم.
لماذا يتبرع أبو بكر؟!:
إذا كان أبو بكر يرغب في جمع الدلائل على أهليته للخلافة، فمن المتوقع: أن يتبرع هو بالذهاب إلى مكة، لا أن ينزعج من اختياره لها، إلا إن كانت خشيته على حياته هي التي أوجبت له هذا الانزعاج..
وحينئذ نقول:
لقد كان علي (عليهالسلام ) أولى بهذه الخشية منه، فإنه هو الذي وتر قريشاً، وأسقط هيبتها.
ومن جهة أخرى: إذا كان أبو بكر يخاف على نفسه من أهل مكة، فلماذا ينزعج من إرجاعه؟! لا سيما بعد التوضيح له: بأن سبب إرجاعه هو أن الذي يبلغ عن النبي (صلىاللهعليهوآله ) شخص له أوصاف لا تنطبق عليه..
سبب إرجاع أبي بكر:
لعل من أسباب إرجاع أبي بكر عن تبليغ رسالة النبي (صلىاللهعليهوآله )، وآيات سورة براءة لأهل مكة الأمور التالية:
١ ـ قد يقال: إن من أهداف ذلك بيان أن أبا بكر لا يصلح للنيابة عن النبي (صلىاللهعليهوآله ) في أمر الإبلاغ.. ربما لأنه لا يؤدي الأمر بحرفيته التامة، بل يراعي أموراً تجعله يقدم على التغيير والتبديل، وربما تكون هذه الأمور مصالح شخصية، تعود إليه.. ككونه لا يريد جرح مشاعر قومه، ولا إزعاجهم، ولا تصعيب علاقته بهم، أو غير ذلك..
والخلاصة: النبي (صلىاللهعليهوآله ) يريد تعريف الناس بأن أبا بكر
ومن هذه الظلمات : حبّ المصلحة الشخصيّة ، وحبّ الذات وهو النفس ، و... التي تعتبر ظلمات فرديّة وخُلُقيّة.
وتوجد ظلمات اجتماعيّة ، مثل : الظلم والتفرقة وغيرهما.
إنّ لفظة ( الظلم ) مأخوذة من مادة ( الظلمة ) وتبيّن نوعاً من الظلمة المعنوية والاجتماعيّة ، وإنّ القرآن وسائر الكتب السماوية تتعهّد بالنضال من أجل رفع الظلمات ، يقول القرآن مخاطباً موسى بن عمرانعليهالسلام :( ... أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ... ) ( سورة إبراهيم : آية : ٥ )
هذه الظلمة هي ظلمة ظلم فرعون والفراعنة ، والنور هو نور الحرِّيّة والعدالة ، وإنّ النقطة التي لاحظها المفسّرون هي أنّ القرآن يذكر الظلمات دائماً بصيغة الجمع ، ومع الألف واللام ؛ لكي تفيد الاستغراق وتشمل جميع أنواع الظلمات ، في الوقت الذي يذكر النور بصيغة الإفراد ويعني : إنّ الصراط المستقيم طريق واحد لا غير.
إلاّ أنّ طرق الضلال والانحراف متعدّدة ، نقرأ في آية الكرسي مثلاً :
( ... اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )
وبهذا الترتيب يُبيّن القرآن هدفه وهو : تحطيم قيود الجهل والضلال والظلم ، والفساد الخلقي والاجتماعي ، وفي كلمة واحدة : القضاء على الظلمات ، والهداية نحو العدل والخير والنور.
التعرّف على لغة القرآن
الموضوع الآخر هو التعرّف على لغة القرآن وتلاوته.
يتصوّر البعض أنّ الغرض من تلاوة القرآن ينحصر في قراءة القرآن لأجل الثواب ، دون أنْ يدرك شيئاً من معانيه.وهؤلاء يقرؤون القرآن باستمرار ، ولكن إذا سُئلوا مرّة واحدة : إنّكم هل تعرفون معنى ما تقرؤون ؟ يعجزون عن الإجابة.
إنّ قراءة القرآن من هذه الناحية - وهي أنّها مقدّمة لإدراك معاني القرآن - ضروريّة وحسنة ، ولكن ليس فقط لأجل اكتساب الثواب.
وهناك أيضا خصائص لإدراك معاني القرآن لا بدّ من ملاحظتها.إنّ ما يلزم حصوله للقارئ - وهو يريد الاستفادة من كثير من الكتب - هو مجموعة الأفكار الجديدة التي ليس لها وجود قبل ذلك في الذهن.وإنّ الذي يعمل ويتحرّك هنا هو العقل وقوّة التفكير لدى القارئ ليس غير.
وبالنسبة للقرآن ، فلا ريب بضرورة مطالعته بهدف دراسته وتعلّمه ، يُصرّح القرآن في هذا المجال بقوله :
( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ ) ( سورة ص : آية : ٢٩).
إحدى مسؤوليّات القرآن هي التعليم والتذكير ، ومن هذه الجهة يخاطِب القرآن عَقْلَ الإنسان ويتحدّث معه بالاستدلال والمنطق ، غير أنّ للقرآن لغة أخرى ، والمخاطب فيها ليس العقل ، بل المخاطب هو القلب ، وهذه اللغة الثانية تُسمّى :( الإحساس ) .
وإنّ الذي يريد أنْ يتعرّف على القرآن ويأنس به ،
عليه أنْ يتعرّف على هاتَين اللغتَين ويستفيد منهما معاً ، وأنّ تفكيك هاتَين اللغتَين يؤدِّي إلى بروز الخطأ والاشتباه ، ويسبّب الضرر والخسران.
إنّ ما نُسمّيه بالقلب : هو عبارة عن شعور عظيم وعميق جدّاً في باطن الإنسان ، ويسمّونه أحياناً( إحساس الوجود ) ، أي إحساس رابطة الإنسان مع الوجود المطلق.
فالذي يعرف لغة القلب ويخاطب الإنسان بها ، يُحرّك الإنسان من أعماق وجوده ، وعندئذٍ لا يبقى الفكر الإنساني تحت التأثير فحسب ، بل ويتأثّر كلّ وجوده.
وربّما استطعنا أنْ نضرب الموسيقى مثلاً كنموذج عن لغة الإحساس ، فإنّ الأقسام المختلفة للموسيقى تشترك في جهة واحدة ، وهي علامتها مع الإحساسات الإنسانيّة.تُهيِّج الموسيقى روح الإنسان وتغرقها في عالم خاص من الإحساس ، وبالطبع ، فإنّ ضروب الهيجانات والأحاسيس تختلف مع اختلاف أنواع الموسيقى ، فربّما ارتبط أحد أنواع الموسيقى مع الشعور بالفتوّة والشجاعة ، فيتحدّث بهذه اللغة مع الإنسان.
لقد رأيتم الأناشيد والمعزوفات العسكريّة ، تُنْشَد وتُعْزَف في ميادين القتال ، ونرى أحياناً مدى تأثير هذه الأناشيد وقوّتها ، بحيث تجعل الجندي الذي لا يخرج من خندقه خوفَ الأعداء تجعله يتقدّم إلى الأمام بكلّ اندفاع ، ويحارب الأعداء رغم الهجوم الثقيل للعدو.
وهناك نوع آخر من الموسيقى يرتبط مع الشهوة و ( الشعور الجنسي ) ، فيعرّض الإنسان إلى الخمول والانقياد نحو الشهوات ، ويدعوه ليستسلم للفساد.
وقد لوحظ أنّ تأثير الموسيقى كبير في هذا المجال ، وربّما لم يستطع أيّ شيء آخر أنْ يؤثر إلى هذا الحد في القضاء على جدران العفّة والأخلاق ، وبالنسبة إلى سائر الغرائز و الأحاسيس أيضاً، عندما يُقال شيء بلسان هذه الأحاسيس - بواسطة لغة الموسيقى أو بأيّ وسيلة أخرى - فإنّه يمكن أنْ يُوضع تحت المراقبة والنَظَارة.
إنّ الشعور الديني والفطرة الإلهيّة من أسمى الغرائز والأحاسيس لدى كلّ إنسان ، وإنّ علاقة القرآن مع هذا
الإحساس الشريف علاقة أسمى وأعلى ( ١ ) ( لقد بُحث كثيراً حول هذا الشعور الديني في شرق العالم وغربه.وننقل هنا باختصار أقوال بعض العلماء المعروفين في العالم ، والحديث الأوّل لاينشتاين أنّه يتحدّث عن الدين في إحدى مقالاته ويقول : بأنّه يعتقد بأنّ العقيدة والمذهب بصورة عامّة ثلاثة أنواع :
-مذهب الأخلاق : وهو الدين الذي يبتني على المصالح الخُلُقيّة.
-ثمّ يذكر مذهباً آخر ويسمّيه مذهب الوجود : وهذا التعبير هو ما نطلق عليه ( القلب ).
ويعتقد اينشتاين :
أنّ هذا المذهب - في الحقيقة - يريد أنْ يقول بأنّه تحصل - في فترةٍ ما - حالةٌ معنويّة وروحيّة للإنسان حيث يخرج فجأة - في تلك الحالة - من هذه النفس المحدودة والمحاطة بالآمال والأُمنيات الحقيرة ، والمفصولة عن الآخرين ، وهكذا عن عالم الوجود الطبيعي الذي أصبح حصاراً له ، ويتحرّر من هذا السجن ، وعند ذلك يجلس ليراقب كلّ الوجود فيجد الوجود كحقيقة واحدة ، ويرى بوضوح تلك العظمة والشموخ والجلالة لما وراء هذا الموجودات ، ويتذكّر حقارة نفسه ، وعندئذٍ يريد أنْ يرتبط بكلّ الوجود.
إنّ تعبير اينشتاين هذا يذكّرنا بقصّة همّام عندما سأل أمير المؤمنين عليه السلام عن صفات المؤمن ، فأجابه الإمام جواباً موجزاً جامعاً ،
حيث قال :( يا همّام اتّقِ الله وأحسن ، إنّ الله مع الذين اتّقوا والذين هم محسنون ) ، ولكنّ همّام لم يقتنع بهذا الجواب ، ويطلب توضيحاً أكثر عن كيفية المعاشرة وطريقة العبادة في الصباح والمساء ، و... ، عندئذٍ يبدأ الإمام عليعليهالسلام بذكر صفات المؤمن ويرسم حوالي ١٣٠ خطّاً من خطوط المتّقين ، ويقول ضمن ذلك :
( لولا الآجال التي كتب الله تعالى لهم ، لم تستقرّ أرواحهم في أبدانهم طرفة عين ).
هذه هي نفس الحالة التي يشير إليها اينشتاين ، ويقول : إنّ الإنسان المتديّن يرى نفسه مسجوناً فيما يشبه السجن ، وكأنّه يريد أنْ يطير من قفص البدن ويحصل على كلّ الوجود مرّة واحدة.وقد جاءت هذه الحقيقة في كلمات أمير المؤمنينعليهالسلام بصورة أوضح وأكمل ، فمِن وجهة نظر الإمامعليهالسلام نرى المؤمن كأنّه جمع كلّ الوجود في بدنه المادّي ، وعلى هذا الأساس يخرّ من قالبه مرّة واحدة ليحرّر روحه.وقد ذكروا في قصّة همّام هذه النقطة وهي أنّه عندما أتمّ الإمام كلامه ، شهق همّام شهقة وخرج من قالبه (المادّي).
وبمناسبة الشعور المعنوي للبشر ، هناك حديث لطيف إلى ( إقبال ) يقول فيه :
لا يوجد في هذا القول لغز ولا سر ، وهو إنّ الدعاء بمثابة وسيلة إشراقيّة نفسيّة ، عمل حيوي عادي ، بواسطته تُكتشف الجزيرة الصغيرة لشخصيّة مكانها في قطعة أكبر من العالم.
القرآن بنفسه يوصينا أنْ نقرأه بصوت حسن لطيف.
وبهذا النداء السماوي يتحدّث القرآن مع الفطرة الإلهيّة للإنسان ويسخّرها ، ( كان الأئمّة - ع - يقرؤون القرآن بتلك اللهفة التي ما أنْ يسمعهم المارّة حتّى يضطرّون إلى الوقوف ، والاستماع والتأثير والبكاء ).
القرآن عندما يصف نفسه يتحدّث
بلسانين :
فتارةً : يعرّف نفسه بأنّه كتاب التفكّر والمنطق والاستدلال.
وتارةً : أخرى بأنّه كتاب الإحساس والعشق.وبعبارة أخرى فالقرآن ليس - إذاً - للعقل والفكر فحسب ، بل هو غذاء للروح أيضاً.
يؤكّد القرآن كثيراً على الموسيقى الخاصّة به ، الموسيقى التي لها تأثير أكثر من كلّ موسيقى أخرى ، في إثارة الأحاسيس العميقة والمتعالية للإنسان.
يأمر القرآن المؤمنين بأنْ يقضوا بعض أوقات الليل بتلاوة القرآن ، وأنْ يُرَتّلوا القرآن في صلواتهم عندما يتوجّهون إلى الله ، وفي خطابٍ للرسول يقول :
( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ) ( سورة المزمل : آية : ١ - ٣ ).
* الترتيل :
الترتيل : قراءة القرآن بحيث تخرج الكلمات من الفم بسهولة واستقامة ( مفردات الراغب ) يعني : قراءة القرآن ، بحيث لا تكون سرعة خروج الكلمات كبيرة ، فلا تُفهم الكلمات ، ولا
تكون متقطّعة فتنفصم علاقاتها ، يقول : قراءة القرآن بتأنٍّ في الوقت الذي تلاحظ محتوى الآيات بدقّة.
وفي الآية الأخيرة لتلك السورة يدعونا أنْ لا ننسى العبادة في حال من الأحوال اليوميّة ، وحتّى في الأوقات التي نحتاج لنوم أكثر ، مثل أوقات الجهاد أو الأعمال التجاريّة اليوميّة : قال تعالى :
( ... عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً... ) (سورة المزمل : آية : ٢٠ ).
الشيء الوحيد الذي كان سبباً للنشاط واكتساب القوّة الروحيّة والحصول على الخلوص وصفاء الباطن بين المسلمين ، هو موسيقى القرآن.
فالنداء السماوي للقرآن أوجد في مدّة قصيرة من المتوحّشين ( الجاهلين ) ، في شبه الجزيرة العربيّة شعباً مؤمناً مستقيماً ، استطاعوا أنْ يحاربوا أكبر القوى الموجودة في ذلك العصر ويقضوا عليها.
فالمسلمون لم يتّخذوا القرآن كتاب درس وتعليم فحسب ، بل كانوا ينظرون إليه بمثابة غذاء للروح ومنبع لاكتساب القوّة وازدياد الإيمان.فكانوا يقرؤون القرآن بكل إخلاص في الليل ( يشير الإمام السجادعليهالسلام إلى هذه النقطة بقوله في دعاء ختم القرآن : ( واجعل القرآن لنا في ظلم الليالي مؤنساً ) ، ويناجون ربّهم تضرّعاً وخفية ، وفي الصباح يهاجمون الأعداء كالأسود البواسل ، والقرآن ينتظر مثل ذلك منهم ، يقول مخاطباً النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم :
( فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً ) ( سورة الفرقان : آية : ٥٢ ).
قف في وجوههم وجاهدهم بسلاح القرآن واطمئن بالنصر.وقصّة حياة رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم توضّح صدْق هذه الحقيقة ، إنّه يقوم وحيداً ودون أي ناصر ، في حين يحمل القرآن في يده ، ولكنّ هذا القرآن يصبح كلّ شيء له ، يجهّز له الجيوش ، ويَعدّ له الأسلحة والتجهيزات الحربيّة ، وأخيرا فإنّه يدعو العدوّ إلى الاستسلام والخضوع أمامه.
يدعو الأعداء ليستسلموا أمام رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم ، وبهذا يصادق على الوعد الإلهي ( وفي زماننا أيضاً ، تحقّق هذا الوعد الإلهي الحقّ مرّة أخرى ، وجاء رجل من سلالة رسول الله - الإمام الخميني - مستنداً إلى القرآن والأيمان كجدِّه العظيم ، وهزم جيش الكفر والباطل أكبر هزيمة )
عندما يعتبر القرآنُ لغتَه لغة القلب ، فإنّ غرضاً من هذا القلب هو الذي ينسجم مع آيات الله ويتصفا ويثور.تختلف أيضاً عن لغة الأنغام والأناشيد العسكريّة ، التي تُعزف في الجيش لتحيِّي فيهم الحماسة البطوليّة.إنّها تلك اللغة التي تصنع من البدويّين العرب مجاهدين قيل في حقِّهم :
( حملوا بصائرهم على أسيافهم ) أولئك الذين وضعوا أفكارهم النَيِّرة ومعارفهم ومعنويّاتهم على سيوفهم ، ويستخدمون سيوفهم في طريق هذه الأفكار والعقائد.
إنّهم لم يهتمّوا بمصالحهم الشخصيّة وأمورهم الفرديّة.وبالرغم من أنّهم لم يكونوا معصومين ، بل
ويخطئون أيضاً ، إلاّ أنّهم المصاديق الحقيقيّة للقائمين في الليل ، والصائمين في النهار ( قائم الليل وصائم النهار ) ، كانوا في علاقة مستمرّة مع أعماق الوجود ، تقضي لياليهم في العبادة وأيّامهم في الجهاد ( يصف أمير المؤمنين - ع - المتّقين في خطبة تُعرف باسم المتّقين ( خطبة ١٩٣ من نهج البلاغة ) ، وبعد أنْ يذكر أقوالهم ومعاملاتهم ، يشرح أحوالهم في الليل ويقول :
( أَمّا الليل فصافّون أقدامهم تَالِين لأجزاء القرآن ، يرتّلونها ترتيلاً ، يُحزِنون به أنفسهم ، ويستشرون به دواء دائهم ، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طعماً ، وتطلّعتْ نفوسهم إليها شوقاً ، وظنّوا أنّها نُصْب أعينهم ، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم ، وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها في أصول آذانهم... ).
يؤكّد القرآن كثيراً على هذه النقطة التي تعتبر من خصائصه ، وهي أنّه كتاب القلب والروح ، كتاب يُثير النفوس ويسيل الدموع ويهزّ القلوب ، ويعتبر القرآنُ هذه الميزة صادقة حتّى بالنسبة لأهل الكتاب.
يصف مجموعة منهم بأنّهم إذا تُلي عليهم القرآن تحصل لهم حالة خضوع وخشوع ، ويقولون أنّهم آمنوا بما في الكتاب ، وأنّه حقٌّ كلّه ، يقولون ذلك وتزداد حالتهم خشوعاً باستمرار.
ويؤكّد في آية أخرى أنّ المسيحيّين من أهل الكتاب ، أقرب إلى المسلمين من اليهود والمشركين، كما في تعالى :
( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى... ) ( سورة المائدة : آية : ٨٢ ).
ثمّ يصِف القرآن جماعة من المسيحيّين الذين آمنوا بعد أنْ سمعوا القرآن بقوله :
( وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) ( سورة المائدة : آية : ٨٣ ).
وفي مكان آخر ، وعندما يتحدّث عن المؤمنين ، يقول في وصْفهم :
( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ... ) ( س--ورة الزمر : آية : ٢٣).
في هذه الآيات وفي آيات أخرى كثيرة :
( ... إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً ) ( سورة مريم : آية : ٥٨ ) ، والآيات الأولى من سورة الصف ، يوضّح
القرآن أنّه ليس كتاباً علميّاً وتحليليّاً محضاً ، بل إنّه في الوقت الذي يستخدم الاستدلال المنطقي ، يتحدّث مع إحساس الإنسان وذوقه ولطائف روحه ويؤثّر عليه.
المخاطبون في القرآن
من النقاط الأخرى التي لا بدّ أنْ تُسْتَنْبَط من القرآن ، في البحث حول المعرفة التحليليّة للقرآن ، هي تعيين المخاطَبين في القرآن.
وردتْ كثيراً في القرآن تعابير مثل :( ... هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ) ،( هُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) و( لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً... ) ، هنا يمكن طرح هذا الإشكال ، وهو أنّ الهداية لا تلزم للمتّقين ؛ لأنّهم أنفسهم متّقون.
ومن جانب آخر نرى القرآن هكذا يُعرّف نفسه :
( إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ) ( سورة ص : آية : ٨٧ ) ، ( وهذه الآية من الآيات العجيبة في القرآن ، عندما نزلت الآية كان النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم في مكّة ، وكان يتحدّث مع أهالي إحدى القرى ، كان عجيباً للناس أنْ يروا رجلاً وحيداً يقول بكلّ طمأنته إنّكم سوف تسمعون نبأ هذه الآية فيها بعد ، سوف تسمعون قريباً ماذا يصنع هذا الكتاب مع العالَم خلال فترة قصيرة ).
وفي آية أخرى يخاطب الله رسولَه قائلاً :
( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) ( سورة الأنبياء : آية : ١٠٧).
وسوف نذكر شرحاً مفصّلاً عن هذا الموضوع في مبحث : التأريخ في القرآن.إلاّ أنّه لا بدّ من القول هنا بإيجاز :
في الآيات التي يخاطب القرآن جميع أبناء العالم ، يريد - في الواقع - أنْ يقول : بأنّ القرآن لا يختصّ بقوم وجماعة خاصّة ، كل مَن يتوجّه نحو القرآن يحصل على النجاة.
وأمّا في الآيات التي يتحدّث فيها عن أنّه كتاب هداية للمؤمنين والمتّقين ، يريد أنْ يوضّح هذه النقطة ، وهي أنّه مَن الذي يسير نحو القرآن في النهاية ؟ ومَن هم الذين يبتعدون عنه ؟
لا يذكر القرآن عن شعب خاص وقبيلة معيّنة ، على أساس أنّهم هم المعتقدون به والتابعون له، ولا يقول إنّ القرآن يُعتبر كتاب شعب خاص.
القرآن - خلافاً لسائر المبادئ - لم يهتم بمصالح طبقة خاصّة ، ولم يقل - مثلاً - : إنّه جاء لتأمين مصالح طبقة ما ، ولم يقل - أيضاً - : إنّ هدفه الوحيد هو مساندة العمّال أو الدفاع عن حقوق الفلاّحين.
يؤكّد القرآن عندما يتحدّث عن نفسه : أنّه كتاب لبسْط العدالة ، يقول عن الأنبياء :
( ... وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ... ) ( سورة الحديد : آية : ٢٥).
يريد القرآن القسط والعدل لكلّ المجتمع البشري ، وليس لقوم أو طبقة أو قبيلة خاصّة.ولكي يجذب الناس إلى نفسه لم يشر إلى العصبيّات القومية مثل النازيّة.
وخلافاً لمبادئ أخرى كالماركسية مثلاً ، لا يستند على مصالحهم ومنافعهم الشخصيّة ، ليثيرهم عن هذا الطريق ؛ لأنّه في هذه الحالة لا يستهدف العدل والحق لاتّباعه ، بل يستهدف وصوله إلى منافعهم وطلباتهم الشخصيّة.
وكما أنّ القرآن يعتقد بأصالة الوجدان العقلي للإنسان ، فإنّه يعتقد له أيضاً أصالة وجدانيّة وفطريّة ، وعلى أساس فطرة طلب الحقّ والعدل يدعوهم إلى الحركة والثورة ؛ ولهذا فإنّ رسالته لا تنحصر بطبقة العمّال أو الفلاحين أو المحرومين أو المستضعفين.
يخاطِب القرآن الظالمين والمظلومين بأنْ يتّبعوا الحق ، يبلّغ موسىعليهالسلام رسالتَه إلى بني إسرائيل ، وإلى فرعون أيضاً ، ويدعوهم جميعاً إلى الإيمان بالله والسير في رسالته.
ودعوته لرؤساء قريش ، في الوقت تكون إثارة الأفراد ضدّ أنفسهم ، ورجوعهم عن مسيرة الضلال ، وهي أنّ رجوع وإنابة المترَفين والمتنعِّمين أصعب بكثير من رجوع المحرومين والمظلومين.
الفريق الثاني يتحرّكون في مسير العدالة باقتضاء طباعهم.وأمّا الفريق الأوّل فعليه أنْ يمتنع عن مصالحه
الشخصيّة والاجتماعيّة ، ويدوس برجليه على ميوله وأهوائه.
يقول القرآن : بأنّ أتباعه هم الذين طَهُرَتْ نفوسُهم وزَكَتْ أرواحُهم ، وهؤلاء اتبعوا القرآن على أساس مطالبة الحق والعدل ، التي هي في فطرة كلّ إنسان ، ولم يتّبعوا ما تقتضيه مصالحهم وميولهم المادِّيَّة والزخارف الدنيويّة.
الفصل الثالث
* فطرة القرآن عن العقل.
* دلائل حجِّيَّة العقل.
* الدعوة إلى التعقّل من قِبل القرآن.
* الاستفادة من نظام العلّة والمعلول.
* فلسفة الأحكام.
* النضال مع انحرافات العقل.
* مواطن الخطأ من وِجهة نظر القرآن.
* نظرة القرآن عن القلب.
* تعريف القلب.
* خصائص القلب.