ولذلك قال تعالى:( فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي ) (١) .
فالآية تريد أن تحدد المسؤوليات، وتسد أبواب التملصات المقيتة، من قبل من يظهرون الطاعة والإنقياد، ويبطنون الصدود والعناد، ويدبرون في الخفاء للإستئثار بالأمر، وإقصاء صاحبه الشرعي عنه، ولا شيء يدفعهم إلى ذلك سوى حب الدنيا وزينتها، وعدم الإعتداد بشيء آخر سواها..
فعلى الناس أن يحفظوا نعمة الله عليهم، وأن لا يفرطوا فيما حباهم الله به، ولا يخضعوا لأهواء أهل الكفر، ولا يخشوا كيدهم ومؤامراتهم، وإلا فإنهم سيذوقون وبال أمرهم، وستكون أعمالهم هي السبب في سلب هذه النعمة منهم وعنهم.
أكملت.. أتممت:
ويلاحظ: أن الآية قد عبرت بالإكمال بالنسبة للدين، وبالإتمام بالنسبة للنعمة، وربما يكون الفرق بينهما: أن الإكمال هو تتميم خاص، فإنه يستعمل حيث يكون للشيء أجزاء لها أغراض وآثار مستقلة، فكلما حصل جزء، تحقق معه أثره وغرضه.
فهو من قبيل العموم الأفرادي، ويمكن أن يمثل له بصيام شهر رمضان، فإن صيام أي يوم منه يوجب تحقيق أثره، ويسقط وجوبه، وتبقى سائر الأيام على حالها..
____________
١- الآية ١٥٠ من سورة البقرة.
أما الإتمام، فيستعمل فيما يكون له أجزاء لا يتحقق لها أثر حتى تكتمل، فيكون الأثر لمجموعها، فلو فقد واحد منها لانتفى الأثر المترتب على المجموع.
فهو نظير ساعات اليوم الذي يصام فيه، فإنها لا يترتب الأثر على صيامها إلا بعد انضمام أجزائها إلى بعضها، بحيث لا يتخلف جزء منها، فإنه يوصف بالتمام في هذه الحال، ولذلك قال تعالى:( أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (١) ، وكذلك الحال في الصلاة بالنسبة لأجزائها الأساسية الواجبة، فإن بطلان أو إسقاط أي جزء منها يوجب سقوط الصلاة نفسها، وبطلانها.
والدين هو مجموعة قضايا، ومفاهيم وأحكام، لها آثارها الخاصة بها، ولكل واحد منها طاعته ومعصيته على حدة.. فيصح التعبير عنه بالإكمال.
أما النعمة التي أتمها الله فهي هنا تشريع ما يكون موجباً لحفظ الدين، وهو ولاية أولياء الله تبارك وتعالى، لتقام بهم أركان الإسلام، وتنشر بهم أعلامه. وبذلك يأمن المؤمنون من أي فتنة أو افتتان.
ويتحقق بذلك شرط قبول أعمال العباد، فإذا نقض المسلمون عهدهم، ولم يلتزموا بطاعة الإمام، حرمـوا من بركـات وجوده، وعاشوا في المصائب والبـلايـا في حياتهم الدنيـا، ويكـونـون عرضـة للفتن والمحن بما كسبت أيديهم.
____________
١- الآية ١٨٧ من سورة البقرة.
الإسلام مرضي لله تعالى دائماً:
وليس معنى قوله تعالى:( وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) (١) . أن الإسلام لم يكن مرضياً قبل ذلك اليوم.. فإن الإسلام مرضي دائماً لله تعالى، والآية لا مفهوم لها..
لأنها تريد أن تقول: إن يأس الكفار، وإتمام النعمة وإكمال الدين، الذي رضيه الله تعالى لكم أيها البشر قد كان في هذا اليوم، فالله سبحانه راض لكم هذا في كل حين، وقد بلغه لكم على لسان أنبيائه، ووضع الضمانات لحفظ حدوده وشرائعه، وهيأ الظروف لبقائه واستمراره، من خلال تشريع الولاية، وتعريف الناس بأئمة دينهم، وبما يحفظهم من الضلال، ويدفع عن دينه تحريف المبطلين، وشبهات المضلين..
أو يكون المراد: أن الله كما لا يرضى الإسلام الناقص، لا يرضى الإسلام بدون حافظ لحدوده وشرائعه..
فإذا لم يبلغ النبي (صلىاللهعليهوآله ) ما أنزل إليه من ربه كان الإسلام ناقصاً، وبلا حافظ معاً. ولا سيما مع ملاحظة: أن قبول الأعمال مرهون بولايته (عليهالسلام ).
آية الإكمال نزلت مرتين:
ذكرنا في كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلىاللهعليهوآله )
____________
١- الآية ٣ من سورة المائدة.
أموراً كثيرة حول آية الأمر بالبلاغ.. وآية إكمال الدين.. فلا غنى عن مراجعته.
وقلنا في ذلك الكتاب ما يلي: إن سورة المائدة قد نزلت يوم عرفة دفعة واحدة، فقرأها النبي (صلىاللهعليهوآله ) على الناس، وسمعوا آية الإكمال، وحاول أن يبلغ أمر الإمامة في عرفة، فمنعته قريش وأعوانها.
ثم بدأت الأحداث تتوالى، وتنزل تلك الآيات المرتبطة بكل حدث على حدة. فنزلت بعد ذلك آية:( بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) (١) . وجاءته بالعصمة من ربه، فبادر إلى إعلان إمامة علي (عليهالسلام ) يوم الغدير، ثم تلا عليهم، أو نزلت عليه آية الإكمال بعد نصبه (صلىاللهعليهوآله ) علياً (عليهالسلام ) في ذلك اليوم الأغر، وقبل أن يشرع الناس بالتفرق.
فيكون الحديثان في نزول هذه الآية يوم عرفة، ويوم الغدير صحيحين معاً، لكن نزولها يوم عرفة كان في ضمن السورة، التي نزلت دفعة واحدة، ونزولها يوم الغدير كان بصورة منفردة عن بقية آيات السورة، بل ومنفردة عن سائر فقرات الآية التي هي في ضمنها كجملة إعتراضية، حسبما بيناه..
وقد نقل الرواية بذلك الطبرسي في الإحتجاج ونقلها غيره أيضاً(٢) ،
____________
١- الآية ٦٧ من سورة المائدة.
٢- راجع: الإحتجاج (ط دار النعمان ـ النجف الأشرف) ج١ ص٦٦ فما بعدها، وبحار الأنوار ج٣٧ ص٢٠١ واليقين لابن طاووس ص٣٤٣ والتفسير الصافي ج٢ ص٥٣ وروضة الواعظين ص٨٩ وغاية المرام ج١ ص٣٢٧ وج٢ ص١٤٢ وج٣ ص٣٣٧ وموسوعة أحاديث أهل البيت "عليهمالسلام " للنجفي ج٨ ص٤٨
وفيها: أنه (صلىاللهعليهوآله ) قرأ عليهم آية إكمال الدين يوم عرفة، حيث أمره الله تعالى بتبليغ ولاية علي (عليهالسلام )، ولم تنزل العصمة.
ويعلم بالمراجعة: أنه (صلىاللهعليهوآله ) حاول تنفيذ هذا الطلب، فمنع، فنزل قوله تعالى:( بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ..) (١) ، ففعل ذلك في يوم الغدير، ولم ينبس أحد منهم ببنت شفة إلا همساً.
ويؤيد هذ المعنى: ما ذكر في بعض الروايات، من أن يوم الغدير كان يوم الخميس كما سيأتي.
وهذا لا يتلاءم مع قولهم: إن يوم عرفة كان يوم الخميس، بل يتلاءم مع كون عرفة يوم الثلاثاء.
وقد روي عن عمر(٢) ، ومعاوية، وسمرة بن جندب، ونسب إلى علي
____________
١- الآية ٦٧ من سورة المائدة.
٢- راجع: الدر المنثور ج٢ ص٢٥٨ عن الحميدي، و عن عبد بن حميد، وأحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن حبان، والبيهقي في سننه، وراجع: صحيح البخاري ج٥ ص١٨٦ وج٨ ص١٣٧ و (ط دار المعرفة) ج١ ص١٦ وصحيح مسلم ج٨ ص٢٣٨ و ٢٣٩ والسنن الكبرى للبيهقي ج٣ ص١٨١ وج٥ ص١١٨ وسنن النسائي ج٨ ص١١٤ ومسند أحمد ج١ ص٢٨ وسنن الترمذي ج٤ ص٣١٦ وعمدة القاري ج١٨ ص١٩٩ وج٢٥ ص٢٣ ومسنـد الحميـدي ج١ ص١٩ والسنن الكـبرى للنسائي ج٢ ص٤٢٠ = = والمعجم الأوسط للطبراني ج١ ص٢٥٣ وج٤ ص١٧٤ ومسند الشاميين ج٢ ص٦٠ وفضائل الأوقات للبيهقي ص٣٥١ وكنز العمال ج٢ ص٣٩٩ وجامع البيان ج٦ ص١٠٩ و ١١١ ومعاني القرآن للنحاس ج٢ ص٢٦١ وتفسير السمعاني ج٢ ص١٠ وشرح أصول الكافي ج٦ ص١٢١ وج١١ ص٢٧٨ والمحلى لابن حزم ج ٧ ص ٢٧٢.
(عليهالسلام ) أيضاً أن آية الإكمال نزلت في يوم عرفة(١) .
وهو ما يعني: أن آية الإكمال قد نزلت يوم عرفة في ضمن تمام السورة. ثم نزلت في موردها وحدها يوم الخميس، وهو يوم غدير خم.
ولو قلنا: إن الآية لم تنزل يوم الغدير، بل نزلت يوم عرفة فقط، لم يمكن أن نجد لمضمون الآية مورداً، ومنطبقاً حسبما أوضحناه.
كلام الأميني (رحمهالله ):
توضيح: أما العلامة الأميني (رحمهالله ) فلم يرتض ما ذكروه من أن
____________
١- راجع: مجمع الزوائد ج٧ ص١٣ والمعجم الكبير ج٧ ص٢٢٠ وج١٢ ص١٩٨ وج١٩ ص٣٩٢ ومسند الشاميين ج٣ ص٣٩٦ والجامع لأحكام القرآن ج٢ ص١٥ والدر المنثور ج٢ ص٢٥٨ وتاريخ مدينة دمشق ج٤٦ ص٣١٨ وسير أعلام النبلاء ج٥ ص٣٢٣ وتاريخ الإسلام للذهبي ج٨ ص٥٠٨ وتفسير القرآن العظيم ج٢ ص١٥ والكامل لابن عدي ج٥ ص١١ وكنز العمال ج٢ ص٤٠٠ وجامع البيان ج٦ ص١٠٦.
آية إكمال الدين قد نزلت في عرفة، وأورد أدلة عديدة على بطلان ذلك..
وكلامه صحيح إن كان يقصد تكذيب قولهم: إن شأن نزولها هو يوم عرفة وحسب، وأنها نزلت فيه لحضور مناسبة نزولها.. فراجع كلامه(١) ..
ولكننا ذكرنا: أن سورة المائدة كانت قد نزلت قبل يوم الغدير كلها، بما فيها آية الإكمال، ثم صارت الأحداث تحصل، فتنزل الآيات المرتبطة بها مرة ثانية، فكلام الأميني (رحمهالله ) لا ينفي قولنا هذا..
أبو طالب لم يكن حاضراً:
وقد رووا عن ابن عباس: أن أبا طالب (عليهالسلام ) كان يرسل كل يوم رجالاً من بني هاشم، يحرسون النبي (صلىاللهعليهوآله )، حتى نزلت هذه الآية( وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (٢) ، فأراد أن يرسل معه من يحرسه، فقال: يا عم: إن الله عصمني من الجن والإنس(٣) .
____________
١- راجع: الصحيح من سيرة النبي الأعظم "صلىاللهعليهوآله " ج٣١ ص٣١٣ و ٣١٥.
٢- الآية ٦٧ من سورة المائدة.
٣- الجامع لأحكام القرآن ج٦ ص١٥٨ وتفسير القرآن العظيم ج٢ ص٨١ والغدير ج١ ص٢٢٨ ولباب النقول للسيوطي (ط دار إحياء العلوم) ص٩٥ و (ط دار الكتب العلمية) ص٨٣ ومجمع الزوائد ج٧ ص١٧ وأسباب نزول الآيات ص١٣٥ والمعجم الكبير ج١١ ص٢٠٥ والدر المنثور ج٢ ص٢٩٨ وعن ابن مردويه، والطبراني.
ونقول:
أولاً: إن ما ذكرناه آنفاً من الإجماع على نزول سورة المائدة في المدينة، وأنها آخر ما نزل، أو من آخر ما نزل.. ومن الصحابة من يقول: إنها نزلت في حجة الوداع ـ إن ذلك ـ يكفي للرد على هذه المزعمة. فإن أبا طالب قد توفي قبل الهجرة إجماعاً..
ثانياً: لقد كانت هناك حراسات للنبي (صلىاللهعليهوآله ) تجري في المدينة، وفي المسجد أسطوانة يقال لها: أسطوانة المحرس.. وكان علي (عليهالسلام ) يبيت عندها يحرس رسول الله (صلىاللهعليهوآله ).. فإذا كانت الآية المشار إليها قد نزلت في مكة، فترك الحرس منذئذٍ، فلا معنى لتجديد الحراسات عليه في المدينة.
ثالثاً: تقدم في هذا الكتاب: أن أبا طالب (عليهالسلام ) كان في الشعب إذا حلَّ الظلام، وهدأت الأصوات يقيم النبي (صلىاللهعليهوآله ) من موضعه، وينيم علياً (عليهالسلام ) مكانه. حتى إذا حدث أمر، فإن علياً يكون هو الفداء للنبي (صلىاللهعليهوآله ).
فلو صح: أن أبا طالب كان يرسل رجالاً لحراسته (صلىاللهعليهوآله ) كل يوم، فلا تبقى حاجة لهذا الإجراء، فإن الحرس موجودون، وأي أمر يحدث، فإنهم هم الذين يتصدون له..
ويلاحظ هنا: أن أبا طالب لم يختر غير علي (عليهالسلام ) لهذه المهمة، الأمر الذي لم يكن بلا موجب وسبب، ولعل السبب أمر إلهي كان لا بد من امتثاله.
رابعاً: إن آية الهجرة التي دلت على مبيت النبي (صلىاللهعليهوآله ) في الغار، وحديث مبيت علي (عليهالسلام ) في فراش النبي (صلىاللهعليهوآله ) يكذب هذه الرواية أيضاً.
ويظهر لنا: أن المطلوب بهذه الرواية المكذوبة إلقاء الشبهة حول مبيت علي (عليهالسلام ) مكان النبي (صلىاللهعليهوآله ) في الشعب، وحول مبيته (عليهالسلام ) مكانه (صلىاللهعليهوآله ) في ليلة الهجرة.
بلغ ما أنزل إليك.. في اليهود:
من الأساليب التي يتبعونها لتضييع الحقيقة تكثير الأقوال في المورد، وقد زعموا: أن الأقوال في شأن نزول آية:( وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (١) . بلغت العشرة(٢) .
وقد رجح الرازي: أنها تريد أن تؤمن النبي (صلىاللهعليهوآله ) من كيد اليهود والنصارى، فأمره الله بإظهار التبليغ، وعدم المبالاة بهم، ودليله على ذلك: أن ما قبل الآية وما بعدها مرتبط بأهل الكتاب(٣) .
ونقول:
أولاً: إن السياق ليس حجة، ولا سيما بعد ورود الروايات الكثيرة المبينة لشأن النزول..
____________
١- الآية ٦٧ من سورة المائدة.
٢- التفسير الكبير للرازي ج١٢ ص٤٩ والغدير ج١ ص٢٢٥ و٢٢٦.
٣- التفسير الكبير ج١٢ ص٥٠ والغدير ج١ ص٢٢٦.
ثانياً: إن أمر اليهود قد حسم قبل نزول الآية بعدة سنوات، أما النصارى فلم يكن لهم حضور يذكر ولا نفوذ ذو بال في جزيرة العرب..
ثالثاً: لم يكن قد بقي شيء من الشريعة يتوهم أنه (صلىاللهعليهوآله )يمتنع عن إبلاغه خشية منهم، فكيف إذا كانت تصرح بأن الذي أمر الله نبيه بإبلاغه يعدل الدين كله، فقد قالت:( وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) (١) . مع أنه (صلىاللهعليهوآله ) قد بلغ الرسالة كلها.. باستثناء بضعة أحكام قد لا تصل إلى عدد أصابع اليد الواحدة. فذلك كله يدل: على أن ما أمر (صلىاللهعليهوآله ) بإبلاغه له مساس بجميع أحكام الدين وشرائعه وحقائقه.. وهو الأمر الذي تخشاه قريش والطامعون والطامحون.. والذين أسلموا في الفتح وبعده.. وهو أخذ البيعة لعلي (عليهالسلام ) بالخلافة من بعده.
مم يخاف النبي (صلىاللهعليهوآله )؟!:
وفي الآية وعد للنبي (صلىاللهعليهوآله ) بأن الله تعالى سوف يعصمه من الناس، ويحفظه منهم، فيرد سؤال: من أي شيء كان (صلىاللهعليهوآله ) يخاف، إن بلَّغ ما أمره الله به؟! مع علمنا: بأنه (صلىاللهعليهوآله ) لا يبخل بنفسه ولا بأي شيء يعود إليه عن البذل في سبيل الله تعالى..
ونجيب:
بأن الذي أظهرته النصوص التي تقدمت في فصل سابق تحدثنا فيه عما
____________
١- الآية ٦٧ من سورة المائدة.
جرى في عرفة: أنه (صلىاللهعليهوآله ) كان يخاف من قومه الذين كانوا حديثي عهد بجاهلية أن يتهموه فيما يبلغهم إياه بما يبطل أثر تبليغه، ويوجب فساد دعوته، فهو (صلىاللهعليهوآله ) كان بصدد تحصين دعوته عن أن ينالها أولئك المتربصون بها بسوء.
ولعلك تقول: إذا كان هذا هو ما يخشاه الرسول (صلىاللهعليهوآله )، فلا شك في أن الله يعلمه، فلماذا أمره بالتبليغ مع علمه بعدم إجتماع شرائطه؟!
ونجيب:
أولاً: إن الله تعالى تارة يأمر نبيه أمراً تنجيزياً فعلياً حاضراً بأمر قد اجتمعت شرائطه، وارتفعت موانعه.. وتارة يأمره بإبلاغ أمر بنحو يجعل للنبي (صلىاللهعليهوآله ) نفسه مهمة توفير بعض الشرائط، وإزالة بعض الموانع، وتوخي الوقت الأنسب، والأسلوب الأصوب في ذلك، والأمر في موضوع الإمامة من هذا القبيل، فإنه كان يحتاج إلى الإعداد الصحيح، وتهيئة النفوس، وتمهيد الوسائل المناسبة له..
ثانياً: إن قوله تعالى لنبيه وإن لم تفعل، لا يعني أنه (صلىاللهعليهوآله ) هو الذي يختار أن لا يفعل، بل معناه: أن هذا الفعل إن لم يصدر منك بسبب منعهم إياك، كما حصل في عرفات، ثم في منى، فإننا سوف نعتبر أننا قد عدنا معهم إلى نقطة الصفر، وربما تقوم الضرورة بحربهم، كما حوربوا في بدر وأحد، والخندق، والفتح، وحنين..
ومما يدل على أن المشكلة هي في الناس الذين يمنعون النبي (صلىاللهعليهوآله )
قوله تعالى: وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. وقوله: إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ. فإن هذه الفقرات قد جاءت لتؤيد وتؤكد صحة فعله (صلىاللهعليهوآله )، وصدق توقعاته، وأن ما فعله كان في محله، وأنه لولا العصمة الإلهية لم يصح التبليغ، لأنه سيكون بمثابة التفريط بالمهمة، وعدم توخي الظرف الملائم.
وربما يشير إلى ذلك أيضاً:( أنه عطف بالواو لا بإلفاء في قوله تعالى: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ) (١) ، إذ لو عطف بإلفاء لأفاد أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) هو الذي يمتنع عن الإبلاغ بقرار منه، ووجود الداعي إلى هذا الإمتناع لديه، ولكنه حين عطف بالواو أفاد أن عدم الفعل سوف يطرأ عليه بسبب مانع وعارض.
فما بلغت رسالته:
إن قوله تعالى:( فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) (٢) . يدل على أن هذا الذي يراد تبليغه يوازي في أهميته وخطورته تبليغ الرسالة كلها، فبدونه تصبح الرسالة كلا شيء، وتذهب كل الجهود والتضحيات التي بذلت سدى أو فقل: لولاه تصبح الرسالة كلها، بمثابة الجسد الذي لا روح فيه، فهو تام التكوين، ولكن جميع أعضائه معطلة، فإذا نفخت فيه الروح، وسرت فيه الحياة، تحركت جميع الأجهزة وعملت بصورة منتظمة، فتصير العين ترى،
____________
١- الآية ٦٧ من سورة المائدة.
٢- الآية ٦٧ من سورة المائدة.
والأذن تسمع، واللسان يتكلم، واليد تتحرك.. والقلب ينبض..وتكون له مشاعر وأحاسيس، فيحب ويبغض، ويفرح ويحزن و.. و.. إلخ..
وولاية علي (عليهالسلام ) كذلك، فإنها إن فقدت، فإن جميع أعمال الإنسان تفقد خصوصية التأثير في السعادة الأخروية، ويفتقد معها كثيراً من المنافع في الدنيا..
ولأجل ذلك ورد: أما لو أن رجلاً صام نهاره وقام ليله، وتصدق بجميع ماله، وحج جميع دهره، ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه، وتكون جميع أعماله بدلالته إليه، ما كان له على الله ثواب، ولا كان من أهل الايمان(١) .
تبرئة الرسول (صلىاللهعليهوآله ):
والتعبير في الآية الكريمة بـ:( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) (٢) ، ليفيد: أن هذا الأمر ليس أمراً تدبيرياً أتى به الرسول من عند
____________
١- الآية ٦٧ من سورة المائدة.
٢- راجع: وسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج١ ص١١٩ وج٢٧ ص٤٢ و ٦٦ و (ط دار الإسلامية) ج١ ص٩١ وج١٨ ص٢٦ و ٤٤ ومستدرك الوسائل ج١٧ ص٢٦٩ وبحار الأنوار ج٢٣ ص٢٩٤ وج٦٥ ص٣٣٣ والكافي ج٢ ص١٩ والمحاسن للبرقي ج١ ص٢٨٧ وكتاب الأربعين للماحوزي ص٩٧ ومستدرك سفينة البحار ج٦ ص٥٨٨ وج١٠ ص٤٥٩ وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج٣ ص٤٤٠ وج١٢ ص٢٢٧ وتفسير كنز الدقائق ج٢ ص٥٤٤ والوافية للفاضل التوني ص١٧٤ وغاية المرام ج٣ ص٧٨.
نفسه، بل هو أمر يبلغه لهم من حيث هو رسول يأتيهم بالقرار الرباني، الذي لا خيار له ولهم فيه..
ثم بين لهم بصورة أصرح وأوضح أن هذا الأمر أُنْزِلَ إِلَيْكَ.
ولكي لا تذهب بهم الأوهام إلى أن الذي جاء به هو الملك أو غيره، صرح لهم: بأنه مِنْ رَبِّكَ.
الفصل الثامن: آيات سورة المعارج.. وسورة العصر..
الغدير وآيات سورة المعارج:
وتذكر هنا قضية ذلك المستكبر الذي لم يرض بنصب علي (عليهالسلام ) إماماً يوم الغدير، فطلب من الله تعالى أن ينزل عليه العذاب، فنزل، ونزل قوله تعالى:( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ) (١) . وقد ناقش ابن تيمية في صحة هذه القضية.. ورد العلماء كلامه..
وقد ذكرنا ذلك كله في كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلىاللهعليهوآله )، وقد رأينا أنفسنا أمام أحد ثلاثة خيارات:
أولها: أن نهمل ذلك كله، فلا نورد منه شيئاً في كتابنا هذا.. ولم يعجبنا هذا الخيار لأسباب كثيرة منها حرمان القارئ الكريم من أمر له ارتباط ظاهر بحياة علي (عليهالسلام )، وبأهم قضية تعنيه.
الثاني: أن نعيد كتابة ذلك كله من جديد. وهو خيار غير سديد، لأنه سيكون مجرد إتلاف للوقت، وضرب للجهد، لأجل اعتبارات شخصية ليست ذات أهمية.
الثالث: أن نستعير ما كتبناه هناك ونضعه هنا بين يدي القارئ الكريم
____________
١- الآيتان ١ و ٢ من سورة المعارج.
وقد آثرنا هذا الخيار الأخير، رغم ما فيه من حزازة شخصية بالنسبة إلينا..
فإليك ما أوردناه في الجزء الحادي والثلاثين من كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلىاللهعليهوآله )، حرفياً، وبدون أدنى تصرف فيه:
سورة المعارج مكية:
زعموا في مناقشاتهم لهذه الواقعة: أن سورة المعارج مكية، وهو ما ذكرته الرواية عن ابن عباس(١) ، وابن الزبير(٢) ، فتكون قد نزلت قبل بيعة الغدير بسنوات.
ونقول:
الصحيح: أنها نزلت في المدينة، بعد حادثة الغدير، حيث طار خبر ما جرى في غدير خم في البلاد، فأتى الحارث بن النعمان الفهري أو (جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري).
____________
١- الدر المنثور ج٦ ص٢٦٣ عن ابن الضريس، والنحاس، وابن مردويه، والبيهقي، وسعد السعود لابن طاووس ص٢٩١ وفتح القدير ج٥ ص٢٨٧ وتفسير الميزان ج٦ ص٥٦ وج٢٠ ص١١ ولباب النقول (ط دار إحياء العلوم) ص٢١٩ و (ط دار الكتب العلمية) ص٢٠٢ وتفسير ابن أبي حاتم ج٥ ص١٦٩٠ وج١٠ ص٣٣٧٣ عن السدي.
٢- الدر المنثور ج٦ ص٢٦٣ عن ابن مردويه، وفتح القدير ج٥ ص٢٨٧ وتفسير الميزان ج٦ ص٥٦.
في هامش الغدير: (لا يبعد صحة ما في هذه الرواية من كونه جابر بن النضر، حيث إن جابراً قتل أمير المؤمنين (عليهالسلام ) والده النضر صبراً، بأمر من رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) لما أسر يوم بدر)(١) .
فقال: يا محمد، أمرتنا من الله أن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وبالصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، فقبلنا منك، ثم لم ترض بذلك حتى رفعت بضبع ابن عمك، ففضلته علينا، وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شيء منك أم من الله؟!
فقال رسول الله(صلىاللهعليهوآله ): والذي لا إله إلا هو، إن هذا من الله.
فولى جابر، يريد راحلته، وهو يقول: اللهم، إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم.
فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته، وخرج من دبره، وقتله. وأنزل الله تعالى: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ الآية)(٢) .
____________
١- الغدير ج١ ص٢٣٩ هامش.
٢- الغدير ج١ ص٢٣٩ عن غريب القرآن لأبي عبيد، ونقله أيضاً عن مصادر كثيرة أخرى. وراجع: شفاء الصدور لأبي بكر النقاش، والكشف والبيان للثعلبي، وتفسير فرات ص١٩٠ و (١٤١٠هـ ـ ١٩٩٠م) ص٥٠٥ وخصائص الوحي المبين لابن البطريق ص٨٨ وكنز الفوائد للكراجكي، وشواهد التنزيل ج٢ ص٣٨٣ و ٣٨١ ودعاة الهداة للحاكم الحسكاني. والجامع لأحكام القرآن ج١٨ ص٢٧٨ وتـذكـرة الخـواص ص٣٠ والإكتفاء للوصـابي الشـافعي، وفرائـد = = السمطين ج١ ص٨٢ وإقبال الأعمال لابن طاووس ج٢ ص٢٥١ ومناقب آل أبي طالب ج٢ ص٢٤٠ وبحار الأنوار ج٣٧ ص١٣٦ و ١٦٢ و ١٧٦ وكتاب الأربعين للماحوزي ص١٥٤ و ١٦١ وكتاب الأربعين للشيرازي ص١١٥ ومعارج الوصول للزرندي الحنفي، ونظم درر السمطين ص٩٣ والفصول المهمة لابن الصباغ ص٤١ وجواهر العقدين للسمهودي الشافعي، وتفسير أبي السعود للعمادي ج٩ ص٢٩ والسراج المنير (تفسير) للشربيني الشافعي ج٤ ص٣٦٤ والأربعين في مناقب أمير المؤمنين لجمال الدين الشيرازي ص٤٠ وينابيع المودة ج٢ ص٣٧٠ وفيض القدير ج٦ ص٢١٨ ومنهاج الكرامة ص١١٧ والعقد النبوي والسر المصطفوي لابن العيدروس، ووسيلة المآل لأحمد بن باكثير الشافعي ص١١٩ و ١٢٠ ونزهة المجالس للصفوري الشافعي ج٢ ص٢٠٩ والسيرة الحلبية ج٣ ص٣٠٢ و (ط دار المعرفة) ج٣ ص٣٣٧ والصراط السوي في مناقب النبي للقادري المدني، وشرح الجامع الصغير للحفني الشافعي ج٢ ص٣٨٧ ومعارج العلى في مناقب المرتضى لمحمد صدر العالم، وتفسير شاهي لمحمد محبوب العالم، وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج٧ ص١٣ وذخيرة المآل في شرح عقد جواهر اللآلي لعبد القادر الحفظي الشافعي، والروضة الندية لمحمد بن إسماعيل اليماني ص١٥٦ ونور الأبصار للشبلنجي الشافعي ص١٥٩ والمنار (تفسير) لرشيد رضا ج٦ ص٤٦٤ والأربعون حديثاً لابن بابويه ص٨٣ وخلاصة عبقات الأنوار ج٨ ص٣٤٢ و ٣٥٧ و ٣٦٢ و ٣٦٨ و ٣٧٠ والمراجعات ص٢٧٤ وجامع أحاديث الشيعة ج١ ص٥٢.