الفصل التاسع: قرائن ودلالات..
لماذا آية الإكمال أولاً؟!:
هنا سؤال يقول: لماذا أوردت آية:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) (١) ، قبل آية:( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) (٢) . وهما في سورة واحدة؟! فإن السير الطبيعي للأحداث يفرض تقدم هذه على تلك.. لا سيما وأن القرآن كان ينزل نجوماً..
ونجيب:
أولاً: إن سورة المائدة قد نزلت أولاً دفعة واحدة، إما في حجة الوداع في الطريق، أو يوم عرفة، ثم صارت الأحداث تمر، والآيات المناسبة تنزل مرة ثانية(٣) .
____________
١- الآية ٣ من سورة المائدة.
٢- الآية ٦٧ من سورة المائدة.
٣- الجامع لأحكام القرآن ج٦ ص٦١ وراجع ص٣٠ وراجع: تفسير البحر المحيط ج٣ ص٤٢٧ والمحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ج٢ ص١٤٣ والغدير ج١ ص٢٢٧ وشرح أصول الكافي ج٦ ص١٢١ وج١١ ص٢٧٨
ويدل على نزولها دفعة واحدة ما يلي:
١ ـ عبد الله بن عمرو، قال: أنزلت على رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) سورة المائدة، وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله، فنزل عنها(١) .
٢ ـ عن أسماء بنت يزيد، قالت: إني لآخذة بزمام العضباء، ناقة رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، إذ نزلت المائدة كلها، فكادت من ثقلها تدق عضد الناقة(٢) .
____________
١- مسند أحمد ج٢ ص١٧٦ والدر المنثور ج٢ ص٢٥٢ عنه، ومجمع الزوائد ج٧ ص١٣ وتفسير القرآن العظيم ج٢ ص٣ وفتح القدير ج٢ ص٣ والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج٣ ص٣١ والسيرة النبوية لابن كثير ج١ ص٤٢٤ وإمتاع الأسماع ج٣ ص٤٩ والسيرة الحلبية ج١ ص٤١٥ وسبل الهدى والرشاد ج٢ ص٢٥٨.
٢- مسند أحمد ج٦ ص٤٥٥ والدر المنثور ج٢ ص٢٥٢ عنه، وعن عبد بن حميد، وابن جرير، ومحمد بن نصر في الصلاة، والطبراني، وأبي نعيم في الدلائل، والبيهقي في شعب الإيمان، ومجمع الزوائد ج٧ ص١٣ وجامع البيان ج٦ ص١١٢ وتفسير القرآن العظيم ج٢ ص٣ و ١٢٦ والبداية والنهاية ج٣ ص٣١ والسيرة النبوية لابن كثير ج١ ص٤٢٤ والسيرة الحلبية ج١ ص٤٢٤ ومسند ابن راهويه ج٥ ص١٧٤ وإمتاع الأسماع ج٣ ص٤٨ وذم الكلام وأهله للأنصاري الهروي ج١ ص١٦ والمعجم الكبير للطبراني ج٢٤ ص١٧٧ و ١٧٨ وسبل الهدى والرشاد ج٢ ص٢٥٧.
٣ ـ عن أم عمرو بنت عبس، عن عمها: أنه كان في مسير مع رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فنزلت عليه سورة المائدة، فاندق كتف راحلته العضباء، من ثقل السورة(١) .
٤ ـ عن محمد بن كعب القرظي، قال: نزلت سورة المائدة على رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) في حجة الوداع، فيما بين مكة والمدينة، وهو على ناقته، فانصدعت كتفها، فنزل عنها رسول الله (صلىاللهعليهوآله )(٢) .
٥ ـ عن الربيع بن أنس قال: نزلت سورة المائدة على رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) في المسير من حجة الوداع، وهو راكب راحلته، فبركت به راحلته من ثقلها(٣) .
أما القول بأنها نزلت منصرف رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) في الحديبية(٤) ، فيرده: ما دل على أن سورة المائدة كانت آخر ما نزل.
ثانياً: قالوا: (الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفي،
____________
١- الدر المنثور ج٢ ص٢٥٢ عن ابن أبي شيبة في مسنده، والبغوي في معجمه، وابن مردويه، والبيهقي في دلائل النبوة، والسيرة الحلبية ج١ ص٤١٥.
٢- الدر المنثور ج٢ ص٢٥٢ عن أبي عبيد، وتفسير الآلوسي ج٦ ص٤٧.
٣- الدر المنثور ج٢ ص٢٥٢ عن ابن جرير، وجامع البيان ج٦ ص١١٢.
٤- الجامع لأحكام القرآن ج٦ ص٦١ وراجع ص٣٠ وراجع تفسير البحر المحيط ج٣ ص٤٢٧ والمحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ج٢ ص١٤٣ والغدير ج١ ص٢٢٧.
لا شبهة في ذلك)(١) ..
وقد رووا: أن رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، كان يقول: ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا..
وقد روي ذلك عن ابن عباس(٢) ..
وعن عثمان بن عفان أيضاً(٣) ..
____________
١- الإتقان ج١ ص٢٤ و (ط دار الفكر) ج١ ص١٦٧ والغدير ج١ ص٢٢٧ وراجع: تحفة الأحوذي ج٨ ص٣٨٠ وإعجاز القرآن الباقلاني (مقدمة المحقق) ص٦٠ وتاريخ القرآن الكريم لمحمد طاهر الكردي ص٦١.
٢- راجع: الدر المنثور ج١ ص٧ عن الحاكم وصححه، وعن أبي داود، والبزار، والطبراني، والبيهقي في المعرفة وفي شعب الإيمان، والجامع الصحيح للترمذي ج٥ ص٢٧٢ وتاريخ اليعقوبي ج٢ ص٤٣ والإتقان ج١ ص٦٢ والبرهان للزركشي (ط دار إحياء الكتب العربية) ج١ ص٢٣٤ و ٢٤١ عن الترمذي والحاكم، والتمهيد ج١ ص٢١٣ وتاريخ القرآن للصغير ص٨١ عن: مدخل إلى القرآن الكريم لدراز ص٣٤، لكن في غرائب القرآن للنيسابوري، بهامش جامع البيان للطبري ج١ ص٢٤ ومناهل العرفان ج١ ص٢٤٠ هكذا: "ضعوا هذه السورة في الموضع الذي يذكر فيه كذا".
٣- مستدرك الحاكم ج٢ ص٣٣٠ و٢٢١ وتلخيصه للذهبي بهامشه وغريب الحديث ج٤ ص١٠٤، والبرهان للزركشي ج١ ص٢٣٤ و ٢٣٥ وسنن الترمذي ج٤ ص٣٣٦ وراجع ص٦١ وغرائب القرآن بهامش جامع البيان ج١ ص٢٤ وفتح = = الباري ج٩ ص١٩ و ٢٠ و ٣٩ و ٣٨، وكنز العمال ج٢ ص٣٦٧ عن أبي عبيد في فضائله، وابن أبي شيبة، وأحمد، وأبي داود، والترمذي، وابن المنذر، وابن أبي داود، وابن الأنباري معاً في المصاحف، والنحاس في ناسخه، وابن حبان، وأبي نعيم في المعرفة، والحاكم وسعيد بن منصور، والنسائي، والبيهقي، وفواتح الرحموت بهامش المستصفى ج٢ ص١٢ عن بعض من ذكر، والدر المنثور ج٣ ص٢٠٧ و ٢٠٨ عن بعض من ذكر، وعن أبي الشيخ، وابن مردويه ومشكل الآثار ج٢ ص١٥٢ والبيان ص٢٦٨ عن بعض من تقدم، وإمتاع الأسماع ج٤ ص٢٤١ وتاريخ المدينة لابن شبة ج٣ ص١٠١٥ وفتح القدير ج٢ ص٣٣١ وعن الضياء في المختارة، ومنتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج٢ ص٤٨.
وراجع: بحوث في تاريخ القرآن وعلومه ص١٠٣ ومناهل العرفان ج١ ص٣٤٧ ومباحث في علوم القرآن ص١٤٢ عن بعض من تقدم، وتاريخ القرآن للصغير ص٩٢ عن أبي شامة في المرشد الوجيز.. وجواهر الأخبار والآثار بهامش البحر الزخار ج٢ ص٢٤٥ عن أبي داود، والترمذي، وسنن أبي داود ج١ ص٢٠٩ وتفسير القرآن العظيم ج٢ ص٣٤٤ وتفسير السمرقندي ج٢ ص٣٧ والسنن الكبرى للبيهقي ج٢ ص٤٢ والإتقان في علوم القرآن ج١ ص١٦٧ وأحكام القرآن للجصاص ج١ ص١٠ ومسند أحمد ج١ ص٥٧ و ٦٩ والسنن الكبرى للنسائي ج٥ ص١٠ وأضواء البيان للشنقيطي ج٢ ص١١٢ وجامع البيان ج١ ص٦٩ والجامع لأحكام القرآن ج٨ ص٦٢ وتهذيب الكمال ج٣٢ ص٢٨٨ وتاريخ القرآن الكريم لمحمد طاهر الكردي ص٦٣.
وفي نص آخر: أنه (صلىاللهعليهوآله ) شخص ببصره، ثم صوبه، ثم قال: أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية في هذا الموضع من هذه السورة(١) .
وهذا معناه: أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) هو الذي قدم آية الإكمال على الآية الأخرى بأمر من الله.. مما يعني: أن ثمة مصلحة اقتضت هذا التقديم، فلا بد من البحث في ذلك، فلاحظ ما يلي:
لماذا قدم آية الإكمال؟!:
قد يقال: إن المصلحة في هذا التقديم هي حفظ الإمامة، وحفظ إيمان الناس، وتيسير سبل الهداية لهم، ثم حفظ القرآن عن أن تمتد إليه يد التحريف.
وتوضيح ذلك باختصار شديد: أن الدعوة لا بد أن تواجه بالشدة والعنف من قبل الطغاة والجبارين، ولا بد من قتالهم لمنع بغيهم، ودفع شرهم، وهذا يضع الرسول أمام عدة خيارات هي:
الخيار الأول: أن يباشر النبي القتال بنفسه، فيقتل المعتدين، ومن يعاونهم في عدوانهم..
____________
١- مسند أحمد ج٤ ص٢١٨ وتفسير القرآن العظيم ج٢ ص٦٠٥ وكنز العمال ج٢ ص١٦ ومجمع الزوائد ج٧ ص٤٨ وتفسير الآلوسي ج١٤ ص٢٢٠ وفتح القدير ج٣ ص١٨٩ والدر المنثور ج٤ ص١٢٨ والإتقان في علوم القرآن للسيوطي ج١ ص١٦٨ وتاريخ القرآن الكريم لمحمد طاهر الكردي ص٦٢ و ٦٨.
وهذا يعني: أن لا تصفو نفوس ذويهم له، وأن لا يتمكن حبه (صلىاللهعليهوآله ) من قلوبهم، فضلاً عن أن يكون أحب إليهم من كل شيء حتى من أنفسهم!!.. كما يفرضه الإلتزام بالإسلام، والدخول في دائرة الإيمان..
وسوف تتهيأ الفرصة أمام شياطين الإنس والجن لدعوة هؤلاء الموتورين إلى خيانته، والكيد له، والتآمر عليه، ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً..
كما أنهم إذا ما اتخذوا ذلك ذريعة للعزوف عن إعلان إسلامهم واستسلامهم.. فإنهم سوف يمنعون الكثيرين ممن له اتصال بهم، من أبناء وأرحام، وأقوام، وحلفاء وأصدقاء، من التعاطي بحرية وبعفوية مع أهل الإيمان، ثم حرمانهم وحرمان من يلوذ بهم من الدخول الجدي في المجتمع الإسلامي، والتفاعل معه، والذوبان فيه.
وإذا لم تصف نفوس بعض الناس، ولم يتمكن حب النبي (صلىاللهعليهوآله ) من قلوبهم بل اتسع النفاق، وارتد بعضهم واضطهدوا آل رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بسبب ذلك. فإن ذلك لا ينقض ما قلناه لأن ذلك إنما نشأ عن العناد والاستكبار عن قبول الحق، ولأجل مطامع دنيوية وأمراض قلبية. ويدل على ذلك: أن كثيرين غير هؤلاء قد استجابوا للحق، ولم يحملوا غلاً في صدورهم، وأصبحوا من خيرة الناس، قد أحبوا الله ورسوله حسب ما تيسر لكل منهم.
الخيار الثاني: أن يتولى ذلك الآخرون من رجال القبائل المختلفة، مع احتفاظه (صلىاللهعليهوآله ) بأهل بيته وذوي قرابته.
وهذا سوف يثير لدى الناس أكثر من سؤال، ويضعف عامل الثقة، وقد يؤثر سلباً على اعتقاد الناس بالنبوة، وعلى درجة الإنقياد لها.. ولا أقل من عروض الكدورة على صفاء النوايا، وانحسار الرغبة في التضحية حين يقتضي الأمر ذلك..
مع ملاحظة: أن الناس لا يزالون قريبي عهد بجاهليتهم، ولم يتم اقتلاع مفاهيمها بعد بصورة كاملة، ولم يقطع الناس أشواطاً كبيرة في مسيرة السمو الروحي، والإخلاص لله فيما يحجمون عنه، أو يقدمون عليه..
بل قد يؤسس ذلك لأحقاد بين الفئات والقبائل المختلفة، تنتهي إلى عمليات ثأرية متبادلة.. وسينتهي الأمر بالتمزق والتشرذم، والسقوط في مستنقع الجريمة، ثم في أحضان الرذيلة بأبشع الصور، وأخبثها..
ولذلك نجد أمير المؤمنين (عليهالسلام ) يعمل على أن يقابل كل قبيلة بأختها من نفس القبيلة، فيقابل تميم الشام بتميم العراق، وربيعة الشام بربيعة العراق(١) ، وهكذا سائر القبائل، لا لأجل أنه يتعامل بمنطق العشيرة والقبيلة.. فإن سيرته خير شاهد على خلاف ذلك، بل لأنه يريد:
أولاً: أن لا يمعن الناس في قتل بعضهم بعضاً، لأن المهم عنده هو وأد
____________
١- وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص٢٢٩ وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج٥ ص١٨٦ وراجع: أنساب الأشراف ج٢ ص٣٠٥ والفتوح لابن أعثم ج٣ ص١٤١ وراجع ج٢ ص٢٩٩ وتاريخ الأمم والملوك ج٤ ص٩ وفيه: أن علياً >عليهالسلام < سأل أولاً عن قبائل الشام، فلما أخبروه اتخذ قراره ذاك.
الفتنة بأقل قدر من الخسائر..
الثاني: يريد أن لا تكون هناك ثارات يطلبها أهل القبائل من بعضهم البعض، فإن حصر الأمور بين أفراد القبيلة الواحدة يصعِّب الأخذ بالثأر، ويهيء لصرف النظر عن ذلك بالكلية.
الخيار الثالث: أن يدفع (صلىاللهعليهوآله ) بأهل بيته الأطهار ليكونوا هم حماة هذا الدين، من دون حرمان غيرهم من العمل بتكليفهم الشرعي، فكان علي (عليهالسلام ) هو القائد والرائد، والمضحي، والناصر والمحامي عن نبيه، والقاتل لأعداء هذا الدين وأهله، وكان أهل البيت (عليهمالسلام ) هم شهداء هذه الأمة، وقوام وحدتها، وحفظة عزتها وكرامتها.
وإذا ما سعى الموتورون للإنتقام من علي (عليهالسلام ) وذريته، وتآمروا عليهم، ومكروا بهم، فلن يجدوا عندهم سوى الرفق والصبر، وقد جرت الأمور على هذا المنوال بالفعل، ولذلك لم يجد الناس أي رغبة بالجحود، والعناد الظاهر للدين، وإعلان الخروج منه، أو إبطان الحقد على رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، أو السعي لتحريف كتاب الله.
فالأخذ بهذا الخيار يجسد رحمة الله للناس، والرفق بهم، وتيسير الإيمان لهم، ولذرياتهم، ومن يلوذ بهم..
ولعل هذا هو السبب في أن إسم علي (عليهالسلام ) لم يذكر في القرآن، مع كثرة ذكره للأمور التي تؤكد فضله (عليهالسلام )، وتبين عظيم منزلته، كآية النجوى، والتصدق بالخاتم وهو راكع، وآية إكمال الدين، وغير ذلك
من آيات ترتبط بالإمامة..
وقد قيل للإمام الصادق (عليهالسلام ): إن الناس يقولون: فما له لم يسمّ علياً وأهل بيته (عليهمالسلام ) في كتاب الله عز وجل؟!
فقال: قولوا لهم: إن رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) نزلت عليه الصلاة، ولم يسم الله لهم ثلاثاً، ولا أربعاً، حتى كان رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) هو الذي فسر ذلك لهم.
ونزلت عليه الزكاة ولم يسم لهم من كل أربعين درهماً درهم، حتى كان رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) هو الذي فسر ذلك لهم..
ونزلت:( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأولِي الأمْرِ مِنْكُمْ ) (١) .. ونزلت في علي والحسن والحسين (عليهمالسلام ) ـ فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) في علي (عليهالسلام ): من كنت مولاه فعلي مولاه..
وقال (صلىاللهعليهوآله ): أوصيكم بكتاب الله، وأهل بيتي، فإني سألت الله عز وجل أن لا يفرق بينهما، حتى يوردهما علي الحوض، فأعطاني ذلك..
وقال: لا تعلّموهم فهم أعلم منكم.
وقال: إنهم لن يخرجوكم من باب هدى، ولن يدخلوكم في باب ضلالة..
فلو سكت رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) فلم يبين مَنْ أهل بيته (عليهمالسلام )، لادّعاها آل فلان، وآل فلان. لكن الله عز وجل، أنزله في
____________
١- الآية ٥٩ من سورة النساء.
كتابه تصديقاً لنبيه (صلىاللهعليهوآله ):( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (١) .. فكان علي والحسن والحسين، وفاطمة (عليهمالسلام )، فأدخلهم رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) تحت الكساء في بيت أم سلمة الخ(٢) ..
تناقضات تحتاج إلى حلول:
أجمع أهل السنة، وروى البخاري ومسلم، عن عمر وغيره: أن يوم عرفة في حجة الوداع كان يوم الجمعة(٣) .
____________
١- الآية ٣٣ من سورة الأحزاب.
٢- راجع: الكافي ج١ ص٢٨٧ و ٢٨٨ والتفسير الصافي ج١ ص٤٦٢ وج٤ ص١٨٨ وج٦ ص٤٣ عنه، وعن العياشي، وراجع: نور الثقلين ج١ ص٥٠٢ وج٤ ص٢٧٤ وتفسير فرات ص١١١ وكنز الدقائق ج٣ ص٤٤١ و٤٤٢ و (مؤسسة النشر الإسلامي) ج٢ ص٤٩٧ وشرح أصول الكافي ج٦ ص١٠٩ وبحار الأنوار ج٣٥ ص٢١١ وجامع أحاديث الشيعة ج١ ص١٨٧ وتفسير الميزان ج٤ ص٤١١ وغاية المرام ج٢ ص٣٥٢ وج٣ ص١١٠ و ١٩٣.
٣- راجع: صحيح البخاري ج٥ ص١٨٦ وفضائل الأوقات للبيهقي ص٣٥١ وسنن الترمذي ج٤ ص٣١٦ ومسند أحمد ج١ ص٢٨ وتحفة الأحوذي ج٨ ص٣٢٣ وعمدة القاري ج١٨ ص١٩٩ وجامع البيان ج٦ ص١٠٩ و ١١١ والتفسير الكبير ج٥ ص١٩١ وتفسير القرآن العظيم ج٢ ص١٤ والدر المنثور ج٢ ص٢٥٨ وسفينة النجاة للتنكابني ص٨٤ والغدير ج١ ص٢٣٦.
وذكر المؤرخون: أن يوم الغدير كان يوم الخميس(١) في الثامن عشر من ذي الحجة.
فإذا كان يوم عرفة هو يوم الجمعة، فيجب أن يكون الثامن عشر من ذي الحجة هو يوم الأحد لا يوم الخميس.
ويؤكد هذا الإشكال قولهم: إن أول ذي الحجة هو يوم الخميس(٢) .
____________
١- راجع: مناقب آل أبي طالب ج٢ ص٢٢٧ والطرائف لابن طاووس ص١٤٦ وبحار الأنوار ج٣٧ ص١٥٦ و ١٧٨ وج٥٥ ص٣٦٨ وج٥٦ ص٢٧ وتأويل الآيات ج١ ص١٥٦ وكتاب الأربعين للشيرازي ص١١٩ وكتاب الأربعين للماحوزي ص١٤٧والمناقب للخوارزمي ص١٣٥ وكتاب سليم بن قيس (بتحقيق الأنصاري) ج١ ص٣٥٥ وشرح أصول الكافي ج٥ ص١٩٥ وج٦ ص١٢٠ ومناقب الإمام أمير المؤمنين "عليهالسلام " للكوفي ج١ ص١١٨ و ١٣٧ و ٣٦٢ و ٤٣٤ والمسترشد للطبري ص٤٦٨ وخلاصة عبقات الأنوار ج٧ ص١٨١و٣٠٣ وج٨ ص٢٧٨ و ٢٨٠و٣٠٩ و ٣١٠ و ٣١١ و ٣١٤ و ٣١٥ والغدير ج١ ص٤٢ و ٤٣ و ٢٣٢ و ٢٣٣ و ٢٣٤ ونهج الإيمان لابن جبر ص١١٥ وخصائص الوحي المبين لابن البطريق ص٩٣ وبشارة المصطفى للطبري ص٣٢٨ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٦ ص٣٥٥ وج٢٠ ص١٩٨ ومناقب علي بن أبي طالب "عليهالسلام " لابن مردويه ص٢٣١.
٢- راجع: بحار الأنوار ج٢٢ ص٥٣٤ عن كتاب التنوير ذو النسبين بين دحية والحسين، وفتح الباري ج٣ ص٣٢٣ وج٤ ص١٠٧ وج٦ ص٨١ وج٨ ص٨٠ = = و ٩٨ و ٩٩ وعمدة القاري ج٧ ص١٢٤ وج٩ ص١٦٨ وج١٤ ص٢١٨ وج١٦ ص٩٩ وج١٨ ص٦٠ والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج٥ ص١٢٩ و ١٨٤ و ٢٧٧ وكشف الغمة ج١ ص٢٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج٤ ص٢١٧ و ٣٣٣ و ٥٠٩ وإمتاع الأسماع ج١٤ ص٥٤٣ وسبل الهدى والرشاد ج٨ ص٤٨٨ وج١٢ ص٣٠٦ وراجع: الغدير ج١ هامش ص٤٢.
كما أنه إذا كان يوم الغدير هو يوم الخميس فلا بد أن يكون يوم عرفة هو يوم الثلاثاء.
والقول بأن يوم عرفة كان يوم الخميس كما في بعض الروايات، فلا بد أن يكون الغدير يوم السبت.
بل صرحت بعض الروايات: بأن يوم عرفة، الذي هو يوم نزول سورة المائدة بما فيها آية الإكمال، وهو يوم الإثنين(١) . وهذا لا يتلاءم مع أي من الروايات الأخرى كقولهم لهم إن يوم الغدير كان يوم الخميس.
____________
١- جامع البيان ج٦ ص٥٤ و ١١٢ والدر المنثور ج٢ ص٢٥٨ و ٢٥٩ عنه. وراجع: مجمع الزوائد ج١ ص١٩٦ والمعجم الكبير ج١٢ ص١٨٣ وكنز العمال ج١٢ ص٤٤٥ والتبيان للطوسي ج٣ ص٤٣٦ وتفسير القرآن العظيم ج٢ ص١٥ وتاريخ مدينة دمشق ج٣ ص٦٧ و ٦٩ وتاريخ الإسلام للذهبي ج١ ص٢٦ والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج٢ ص٣١٩ وإمتاع الأسماع ج١٤ ص٥٤٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج١ ص١٩٨و٢٠٠ وسبل الهدى والرشاد ج١ ص٣٣٣ و السيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج٣ ص٢٨.
وقولهم: إن أول ذي الحجة كان يوم الخميس أيضاً. ولا يتلاءم أيضاً مع ترديدهم ذلك بين يوم الخميس أو الجمعة.
فلعل الأمر قد اشتبه على الراوي، ويكون الصحح هو يوم الثلاثاء ليكون يوم الغدير هو الخميس.. ويكون التبديل في أسماء الأيام وادعاء أن عرفة يوم الجمعة، أو يوم الإثنين. وكذلك ادعاء أن أول ذي الحجة في تلك السنة هو الخميس قد جاء لأثارة الشبهة حول يوم الغدير.. والله هو العالم بالحقائق.
الإحتجاج بحديث الغدير:
وأما فيما يتعلق بإحتجاجات علي والزهراء، والأئمة الطاهرين من ذريتهما (عليهمالسلام )، بحديث الغدير، فحدث عنه ولا حرج.
ويمكن أن يجد القارئ طائفة من هذه الإحتجاجات، والمناشدات، والإستشهادات بهذا الحديث الشريف في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلىاللهعليهوآله ) ج٣٢ ص ٦٦ـ ٨٨ فراجع..
زيد بن حارثة في حديث الغدير:
وجاء في حديث احتجاج المأمون على الفقهاء، قول المأمون لإسحاق بن إبراهيم: يا إسحاق، هل تروي حديث الولاية؟!
قلت: نعم يا أمير المؤمنين.
قال: إروه.
ففعلت.
قال: يا إسحاق، أرأيت هذا الحديث، هل أوجب على أبي بكر وعمر ما لم يوجب لهما عليه؟!
قلت: إن الناس ذكروا: أن الحديث إنما كان بسبب زيد بن حارثة، لشيء جرى بينه وبين علي، وأنكر ولاء علي، فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه.
قال: في أي موضع قال هذا؟! أليس بعد منصرفه من حجة الوداع؟!
قلت: أجل.
قال: فإن قتل زيد بن حارثة قبل الغدير!
كيف رضيت لنفسك بهذا؟!
أخبرني لو رأيت ابناً لك قد أتت عليه خمس عشرة سنة يقول: مولاي مولى ابن عمي أيها الناس؟! فاعلموا ذلك. أكنت منكراً ذلك عليه تعريفه الناس ما لا ينكرون ولا يجهلون؟!
فقلت: اللهم نعم.
قال: يا إسحاق، أفتنزه ابنك عما لا تنزه عنه رسول الله (صلىاللهعليهوآله )؟!
ويحكم لا تجعلوا فقهاءكم أربابكم، إن الله جل ذكره قال في كتابه:( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ ) (١) . ولم يصلُّوا لهم، ولا
____________
١- الآية ٣١ من سورة التوبة.
صاموا، ولا زعموا أنهم أرباب، ولكن أمروهم فأطاعوا أمرهم(١) .
والظاهر: أن إشكال المأمون هذا قد آتى ثماره، حيث جاء المصلحون بعد ذلك ليقولوا: إن هذه الحادثة قد جرت بين أسامة بن زيد بن حارثة وبين علي.. وقد كان أسامة حياً آنئذٍ، وأن الذي قتل في مؤتة هو أبوه.. فذكروا: أن أسامة قال لعلي (عليهالسلام ): لست مولاي، إنما مولاي رسول الله.
فقال (صلىاللهعليهوآله ): (من كنت مولاه فعلي مولاه)(٢) .
ومن الواضح: أن إشكال المأمون باستشهاد زيد في مؤتة يدل على أن
____________
١- قاموس الرجال ج١٢ ص١٥٥ والغدير ج١ ص٢١١ ـ ٢١٢ والإمام علي "عليهالسلام " في آراء الخلفاء للشيخ مهدي فقيه إيماني ص١٨٢ ـ ١٩٧ وفي هامشه عن: العقد الفريد ج٥ ص٩٢ ـ ١٠١ و (ط أخرى) ج٥ ص٥٦ ـ ٦١ و (ط أخرى) ج٣ ص٤٢ وعيون أخبار الرضا للصدوق ج٢ ص١٨٥ ـ ٢٠٠ باختلاف يسير.
٢- تحفة الأحوذي ج١٠ ص١٤٨ والنهاية في غريب الحديث ج٥ ص٢٢٨ وعن السيرة الحلبية ج٣ ص٢٧٧ وفيض القدير شرح الجامع الصغير ج٦ ص٢٨٢ ومعاني القرآن للنحاس ج٦ ص٤١١ وكتاب الأربعين للماحوزي ص١٦٤ وخلاصة عبقات الأنوار ج٧ ص٤٢ والغدير ج١ ص٣٨٣ ودليل النص بخبر الغدير ص٥٤ ولسان العرب ج١٥ ص٤١٠ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٦ ص٢٤٤ و ٢٩١ وكنز الفوائد ص٢٣٢.
إقحام اسم أسامة قد جاء متأخراً بهدف حل هذا الإشكال.
لكن لو سلمنا باستبدال زيد بأسامة، فإن إشكال المأمون بعدم معقولية أن يقول الرجل: مولاي مولى ابن عمي.. يبقى على حاله..
يضاف إلى ذلك: أنه لو صحت رواياتهم، فلا معنى لأن يوقف النبي (صلىاللهعليهوآله ) عشرات الآلاف من البشر في حر الرمضاء.
ولا معنى لأخذ البيعة له من سائر من في الصحراء على مفترق الطرق.. فإن الأمر لا يعنييهم من جهة.. والولاء بهذا المعنى لا تطلب فيه البيعة، بل لا معنى لها فيه..
ولا معنى لقول عمر: أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة..
ولا معنى لأن يحتاج إلى العصمة من الناس..
ولا معنى لإكمال الدين وإتمام النعمة، ولا معنى.. ولا معنى.. لو كان الأمر ينحصر بهذا الخلاف البسيط بين أسامة وبين علي (عليهالسلام )!!
علي (عليهالسلام ) كان باليمن:
وذكر ياقوت الحموي: أن محمد بن جرير الطبري (له كتاب فضائل علي بن أبي طالب (عليهالسلام )، تكلم في أوله بصحة الأخبار الواردة في غدير خم، ثم تلاه بالفضائل، ولم يتم)(١) .
وقال: (وكان إذا عرف من إنسان بدعة أبعده واطَّرحه. وكان قد قال
____________
١- معجم الأدباء ج١٨ ص٨٠ وقاموس الرجال ج٩ ص١٥٢ والغدير ج١ ص١٥٢.
بعض الشيوخ ببغداد بتكذيب غدير خم، وقال: إن علي بن أبي طالب كان باليمن في الوقت الذي كان رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بغدير خم.
وقال هذا الانسان في قصيدة مزدوجة، يصف فيها بلداً بلداً، ومنزلاً منزلاً، أبياتاً يُلَوِّحُ فيها إلى معنى حديث غدير خم، فقال:
ثم مررنا بغدير خم كم قائل فيه بزور جم
على علي والنبي الأمي
وبلغ أبا جعفر ذلك، فابتدأ بالكلام في فضائل علي بن أبي طالب، وذكر طرق حديث غدير خم، فكثر الناس لاستماع ذلك الخ..)(١) .
وقال الطحاوي: (فدفع دافع هذا الحديث، وزعم أنه مستحيل، وذكر أن علياً لم يكن مع النبي (صلىاللهعليهوآله ) في خروجه إلى الحج من المدينة، الذي مرَّ في طريقه بغدير خم بالجحفة..)(٢) .
ونقول:
أولاً: تقدم: أن علياً (عليهالسلام ) عاد من اليمن، ولقي النبي (صلىاللهعليهوآله ) في مكة، وساق أربعاً وستين بدنة، وأحرم بما أحرم به رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) وحج معه، واشركه النبي (صلىاللهعليهوآله ) معه في الهدي.
____________
١- معجم الأدباء ج١٨ ص٨٤ والغدير ج١ ص١٥٢.
٢- تذكرة الحفاظ ج٢ ص٧١٣ رقم ٧٢٨ والغدير ج١ ص٣١٤ و ٢٩٤ وخلاصة عبقات الأنوار ج٧ ص٩٨.