• البداية
  • السابق
  • 347 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 70029 / تحميل: 8151
الحجم الحجم الحجم
الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه السلام) (المرتضى من سيرة المرتضى)

الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه السلام) (المرتضى من سيرة المرتضى) الجزء ٧

مؤلف:
العربية

الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه‌السلام )

(المرتضى من سيرة المرتضى)

الجزء السابع

السيد جعفر مرتضى العاملي

١

٢

هذا الكتاب

نشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنين (عليهما‌السلام ) للتراث والفكر الإسلامي

بانتظار أن يوفقنا الله تعالى لتصحيح نصه وتقديمه بصورة أفضل في فرصة أخرى قريبة إنشاء الله تعالى.

٣

الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه‌السلام )

(المرتضى من سيرة المرتضى)

الجزء السابع

السيد جعفر مرتضى العاملي

٤

الفصل الرابع: تبليغ سورة براءة

٥

٦

إرسال أبي بكر إلى مكة:

قلنا في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): إن أبا بكر حج بالناس في سنة تسع بأمر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

ثم بعث رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) علياً (عليه‌السلام ) على أثر أبي بكر ليأخذ سورة براءة منه، ويقرأها هو على الناس، فأدركه بالعرج في قول ابن سعد، أو في ضجنان(١) كما قاله ابن عائذ. وكان علي (عليه‌السلام ) على العضباء ناقة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

فزعموا: أن أبا بكر لما رآه قال: أميراً أو مأموراً؟!

قال: لا بل مأمور. ثم مضيا(٢) .

وحسب نص آخر: بعث أبا بكر على إقامة الحج سنة تسع، وبعث في أثره علياً يقرأ على الناس سورة براءة.

____________

١- العرج: قرية تبعد عن المدينة نحو ثمانية وسبعين ميلاً. وضجنان: جبل يبعد عن مكة اثني عشر ميلاً.

٢- راجع: سبل الهدى والرشاد ج١٢ ص٧٣ و ٧٤ والدرر لابن عبد البر ص٢٥٠ وإمتاع الأسماع ج١٤ ص٣٢٢.

٧

فقيل: لأن أولها نزل بعد أن خرج أبو بكر إلى الحج(١) .

وقيل: بل لأن عادة العرب كانت أنه لا تحل العقود والعهود ويعقدها إلا المطاع، أو رجل من أهل بيته، فلهذا بعث علياً (عليه‌السلام ) في أثره(٢) .

وقيل: أردفه به عوناً له ومساعداً، ولهذا قال له الصدِّيق: أأميراً أو مأموراً؟!

قال: بل مأموراً.

وقالوا: وأما أعداء الله الرافضة، فيقولون: عزله بعلي، وليس هذا ببدع من بهتهم وافترائهم(٣) .

وقيل: كان في سورة براءة الثناء على الصدِّيق، فأحب أن يكون على لسان غيره، قال في الهدى: لأن السورة نزلت بعد ذهاب أبي بكر إلى

____________

١- راجع: الدرر لابن عبد البر ص٢٥٠ وإمتاع الأسماع ج١٤ ص٣٢١ و ٣٢٢.

٢- راجع: سبل الهدى والرشاد ج١١ ص٣٣٨ وج١٢ ص٧٥ ودلائل الصدق ج٢ ص٢٤٥ و ٢٤٦ عن الفضل بن روزبهان، والجامع لأحكام القرآن ج٨ ص٦١ وبحار الأنوار ج٣٠ ص٣١٩ عن الجبائي، والمغني للقاضي عبد الجبار ج٢٠ ص٣٥١ وتفسير الرازي ج١٥ ص٢١٨ والكشاف للزمخشري ج٢ ص١٧٢ وتفسير البيضاوي ج١ ص٤٠٥ وشرح التجريد للقوشجي ص٣٧٢ وتفسير القرآن العظيم ج٢ ص٣٤٥.

٣- راجع: سبل الهدى والرشاد ج١١ ص٣٣٨.

٨

الحج(١) .

ونقول:

لا بد من ملاحظة ما يلي:

وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ:

إن هذا العرض لما جرى لأبي بكر في تبليغ مضامين سورة براءة في موسم الحج يمثل أنموذجاً لمكر الماكرين، وجحود الجاحدين، وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ(٢) ..

مع أن أحداث هذه القضية كالنار على المنار، وكالشمس في رابعة النهار، ولم يزل العلماء يتداولونها، ويستدلون بها في قضايا الإمامة، ولا يجد الآخرون مناصاً عن البخوع لمقتضيات مضامينها، والتسليم بدلالاتها، ولو وجدوا أي مجال للتأويل أو التحوير لما ترددوا في اللجوء إليه، والتعويل عليه.

ونحن نوضح هنا الحقيقة في هذه القضية، فنقول:

حقيقة ما جرى:

عن الحارث بن مالك: أنه سأل سعد بن أبي وقاص (أو: سعد بن مالك): هل سمعت لعلي منقبة؟!

____________

١- راجع: سبل الهدى والرشاد ج١٢ ص٧٥.

٢- الآية ٤٦ من سورة إبراهيم.

٩

قال: قد شهدت له أربعاً، لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من الدنيا، أُعمّر فيها مثل عمر نوح: إن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بعث أبا بكر ببراءة إلى مشركي قريش، فسار بها يوماً وليلة. ثم قال لعلي: اتبع أبا بكر فخذها وبلغها.

فَرَدَّ عليٌّ أبا بكر، فرجع يبكي، فقال: يا رسول الله، أنزل فيَّ شيء؟!

قال: لا، إلا خيراً، إنه ليس يبلغ عني إلا أنا أو رجل مني.

أو قال: من أهل بيتي الخ..)(١) .

وكان مع أبي بكر، قبل أن يرجع ثلاث مائة رجل(٢) .

خلاصات ضرورية:

ولتوضيح هذه القضية نحتاج إلى إيراد خلاصة جامعة لما جرى فيها، وهي كما يلي:

يظهر من النصوص المتوافرة لدينا: أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أمر أبا بكر أن يسير إلى مكة ليقيم للناس حجهم في سنة تسع، وليبلغ الناس عنه صدر

____________

١- كفاية الطالب ص٢٨٧ وبحار الأنوار ج٣٥ ص٢٨٥ عن علل الشرايع ص٧٤ ومقام الإمام علي "عليه‌السلام " لنجم الدين العسكري ص٣٦ والغدير للشيخ الأميني ج١ ص٤٠ وج٦ ص٣٤٦ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٤ ص٤٤٥ وج١٥ ص٦٦١ وج٢٢ ص٤٢٩ عن مختصر تاريخ دمشق (ط إسلامبول) ج١٧ ص١٣٠.

٢- بحار الأنوار ج٣٥ ص٣٠٩ عن الكامل لابن الأثير.

١٠

سورة براءة، بالإضافة إلى قرارات أخرى يريد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أن يلزم الناس بمراعاتها.

ويستفاد من مجموع الروايات: أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) كتب عشر آيات، أو ثلاثين أو أربعين آية من سورة براءة، وكتب أيضاً:

١ ـ أن لا يطوفنَّ بالبيت عريان.

٢ ـ لا يجتمع المسلمون والمشركون.

٣ ـ ومن كان بينه وبين رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) عهد، فأجله إلى مدته، ومن لم يكن بينه وبينه عهد فأجله إلى أربعة أشهر.

٤ ـ إن الله بريء من المشركين وَرَسُولُهُ.

٥ ـ لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة (أو إلا من كان مسلماً).

٦ ـ لا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد عامه هذا.

٧ ـ أن هذه أيام أكل وشرب.

٨ ـ أن يرفع الخمس من قريش، وكنانة وخزاعة إلى عرفات(١) .

والخمس: هي أحكام كانوا قد قرروها لأنفسهم: هي ترك الوقوف بعرفات والإفاضة منها(٢) .

____________

١- تفسير فرات ص١٦١ وبحار الأنوار ج٣٥ ص٣٠٠ عنه، وراجع: تفسير الميزان للسيد الطباطبائي ج٨ ص٨٧.

٢- راجع: السيرة النبوية لابن هشام ج١ ص١٩٩.

١١

فلما كان أبو بكر ببعض الطريق إذ سمع رغاء ناقة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وإذا هو علي (عليه‌السلام )، فأخذ الكتاب من أبي بكر ومضى.

ويبدو أن الكتب كانت ثلاثة:

أحدها: ما أشير إليه آنفاً.

والثاني: كتاب يشتمل على سنن الحج، كما روي عن عروة.

والكتاب الثالث: كتبه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) الى أبي بكر وفيه: أنه استبدله بعلي (عليه‌السلام ) لينادي بهذه الكلمات في الموسم، ويقيم للناس حجهم.

وعند المفيد: أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قال لعلي: (وخيِّر أبا بكر أن يسير مع ركابك، أو يرجع إليَّ).

فاختار أبو بكر أن يرجع إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فلما دخل عليه قال: (يا رسول الله، إنك أهلتني لأمر طالت الأعناق فيه إليَّ، فلما توجهت له رددتني عنه؟! ما لي؟! أنزل فيَّ قرآن؟!

فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): لا، الخ..)(١) .

وفي نص آخر: فأخبره النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بأن جبرئيل جاءه وقال له: إنه لا يبلغ عنه إلا هو أو رجل منه، وهو علي (عليه‌السلام ).

____________

١- الإرشاد ج١ ص٦٥ و ٦٦ وبحار الأنوار ج٢١ ص٢٧٥ وج٣٥ ص٣٠٣ عنه، وعن المناقب ج١ ص٣٢٦ و ٣٢٧ والمستجاد من كتاب الإرشاد (المجموعة) ص٥٥ ونهج الإيمان لابن جبر ص٢٤٧ وكشف اليقين ص١٧٣.

١٢

فقرأ علي (عليه‌السلام ) في موقف الحج سورة براءة حتى ختمها كما عن جابر.

وعن عروة: أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أمر علياً (عليه‌السلام ) أن يؤذّن بمكة وبمنى، وعرفة، وبالمشاعر كلها: بأن برئت ذمة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) من كل مشرك حج بعد العام، أو طاف بالبيت عريان الخ..

ولهذا الحديث مصادر كثيرة جداً، فراجعه في مظانه(١) .

____________

١- راجع هذا الحديث في المصادر التالية: الدر المنثور ج٣ ص٢٠٩ و ٢١٠ عن أحمد، وابن أبي شيبة، والترمذي، وأبي الشيخ، وابن مردويه، وابن حبان، والطبراني، والتراتيب الإدارية ج١ ص٧٢ ورسالات نبوية ص٧٢ وبحار الأنوار ج٢١ ص٢٦٦ و ٢٦٧ و ٢٧٤ و ٢٧٥ وج٣٥ ص٢٨٥ ـ ٣٠٩ والجامع لأبي زيد القيرواني ص٣٩٦ وتاريخ اليعقوبي ج٢ ص٦٦ والرياض النضرة ج٣ ص١١٨ و ١١٩ وذخائر العقبى ص٦٩ وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج٣ ص٩١ وعن تاريخ الأمم والملوك ج٣ ص١٢٢ و ١٢٣ و (ط أخرى) ص١٥٢ والكفاية للخطيب ص٣١٣ والسنة لابن أبي عاصم ص٥٨٩ وكنز العمال ج٢ ص٤٢٢ و ٤١٧ و ٤٣١ وج١٣ ص١٠٩ ومجمع الزوائد ج٧ ص٢٩ وتفسير المنار ج١٠ ص١٥٧ و ١٥٦ والعمدة لابن البطريق ص١٦٠ وكشف اليقين ص١٧٢ والبداية والنهاية ج٥ ص٣٨ وج٧ ص٣٥٧ وعمدة القاري ج١٨ ص٢٦٠ وج٤ ص٧٨ ووسيلة المآل ص١٢٢ والجمل للمفيد ص٢١٩ والكامل لابن عدي (ط دار الفكر) ج٣ ص٢٥٦ و ٤١٣ وابن زنجويه ج١ ص٦٦٣ والمعجم الكبـير ج١١ = = ص٤٠٠ وفتح القدير ج٢ ص٣٣٤ والمناقب للخوارزمي ص٩٩ و ١٦٥ و ١٦٤ وزوائد المسند ص٣٥٣ وفرائد السمطين ج١ ص٦١ وأنساب الأشراف ج١ ص٣٨٣ وجامع البيان ج١٠ ص٤٤ ـ ٤٧ وتفسير القرآن العظيم ج٢ ص٣٣٣ والصواعق المحرقة ص٣٢ وتفسير أبي حيان ج٥ ص٦ وإمتاع الأسماع ص٤٩٩ والإصابة ج٢ ص٥٠٩ وخصائص الإمام علي بن أبي طالب للنسائي ص٩٢ و ٩٣ والأموال لأبي عبيد ص٢١٣ و ٢١٥ وتيسير الوصول ج١ ص١٥٨ وعن الكشاف ج٢ ص٢٤٣ والسيرة النبوية لابن هشام ج٤ ص٢٠٣ والسنن الكبرى ج٥ ص١٢٨ ح٨٤٦١ وج٩ ص٢٢٤ وكفاية الطالب ص٢٥٥ و ٢٥٤ و ٢٨٥ عن أحمد، وابن عساكر، وأبي نعيم، وتشييد المطاعن ج١ ص١٦٤ و ١٦٥ ونور الثقلين ج٢ ص١٧٧ و ١٨٢ وتهذيب تاريخ دمشق ج٣ ص٨٩ ومسند أحمد ج١ ص٣ و ١٥١ و ١٥٠ وج٣ ص٢١٢ و ٢٨٣ وإرشاد الساري ج١٠ ص٢٨٣ وغرائب القرآن (مطبوع بهامش جامع البيان) ج١٠ ص٣٦ وتذكرة الخواص ص٣٧ وترجمة الإمام علي "عليه‌السلام " من تاريخ مدينة دمشق (بتحقيق المحمودي) ج٢ ص٣٧٦ و ٣٩٠ والمستدرك على الصحيحين ج٢ ص٣٦١ وج٣ ص٥٢ وينابيع المودة ص٨٩ والطرائف ص٣٨ و ٣٩ وعن فتح الباري ج٨ ص٣١٨ ومختصر تاريخ دمشق ج١٨ ص٦ وج٢٠ ص٦٨ والجامع الصحيح للترمذي ج٥ ص٢٥٧ و ٢٥٦ وتفسير النسفي ج٢ ص١١٥ والطبقات الكبرى لابن سعد ج٢ ص١٦٨ وتفسير البيضاوي ج١ ص٣٩٤ ومطالب السؤل ص١٧ وشرح نهج البلاغة للـمـعتـزلـي ج١٢ ص٤٦ وج٧ ص٢٨٨ وسنن الـدارمي ج٢ ص٦٧ و ٢٣٧ = وصحيح ابن خزيمة ج٤ ص٣١٩ والروض الأنف ج٧ ص٣٧٤ والكامل في التاريخ ج١ ص٦٤٤ والتفسير الكبير للرازي ج١٥ ص٢١٨ والإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ج٥ ص١٩ وج١٥ ص١٦ والجامع لأحكام القرآن ج٨ ص٤٤ والمواهب اللدنية ج١ ص٦٤٠ والسيرة النبوية لدحلان ج٢ ص١٤٠ وروح المعاني ج١٠ ص٤٤ و ٤٥ وتاريخ الخميس ج٢ ص١٤١ والسنن الكبرى للنسائي ج٥ ص١٢٨ وج٢ ص٤٠٧ وعن ابن خزيمة، وأبي عوانة، والدارقطني في الإفراد، وابن أبي حاتم، وتفسير البغوي (مطبوع مع تفسير الخازن) ج٣ ص٤٩ وتفسير الخازن ج٢ ص٢٠٣ والإرشاد للمفيد ج١ ص٦٥ و ٦٦ والبرهان (تفسير) ج٢ ص١٠٠ و ١٠١ وإعلام الورى ص١٣٢ وعن علل الشرايع ص٧٤ وعن الخصال ج٢ ص١٦ و ١٧ ومسند علي ص٧٤١.

١٣

١٤

وقد نظم الشعراء هذه المنقبة شعراً، فقال شمس الدين المالكي المتوفى سنة ٧٨٠هـ:

وأرسله عنه الرسول مبلغاً وخُص بهذا الأمر تخصيص مفردِ

وقال: هل التبليغ عني ينبغي لمن ليس من بيتي من القوم فاقتدِ(١)

استمرار أبي بكر في مسيره إلى مكة:

اختلفت روايات غير الرافضة! في مسير أبي بكر إلى مكة، أو رجوعه إلى المدينة، فهي على ثلاثة أقسام:

الأول: لم يتعرض للنفي، ولا للإثبات..

____________

١- الغدير ج٦ ص٥٨ و ٣٣٨ عن نفح الطيب ج١٠ ص٢٤٤.

١٥

الثاني: صرح بمواصلة مسيره إلى مكة، وحج مع علي (عليه‌السلام )، رووا ذلك عن أبي هريرة، وابن عباس، ونسب إلى أبي جعفر أيضاً.

الثالث: تحدث عن رجوع أبي بكر إلى المدينة، وهو المروي عن علي (عليه‌السلام )، وابن عباس، وأبي هريرة والسدي(١) ، وزيد بن بثيع، وأبي بكر نفسه.

وتعبير بعض روايات هؤلاء: بأنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بعث (براءة) أولاً مع أبي بكر، ثم دعاه فبعث بها علياً (عليه‌السلام )(٢) .

فيلاحظ: أن أصحاب الرأي الثاني هم ثلاثة فقط، وهم أنفسهم رووا رجوعه إلى المدينة، ووافقهم عليه آخرون، حتى أبو بكر نفسه.

فلا يصح ما ادعاه ابن روزبهان، من أن علياً لم يكن أمير الحج، لأنه كان مكلفاً فقط بتبليغ الآيات، مع تواتر الأخبار بأن أبا بكر قد حج في تلك

____________

١- مكاتيب الرسول ج١ ص٢٦٨.

٢- راجع: مسند أحمد ج٣ ص٢٨٣ ونحوه في سنن الترمذي في تفسير سورة التوبة. وقال: هذا حديث حسن. وكنز العمال ج٢ ص٤٢٢ وراجع: الغدير ج٦ ص٣٤٥ وشواهد التنزيل للحسكاني ج١ ص٣٠٩ وتاريخ مدينة دمشق ج٤٢ ص٣٤٤ وكشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد (بتحقيق الآملي) للعلامة الحلي ص٥٠٩ و (بتحقيق السبحاني) ص٢٠٤ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٢٢ ص٤٢٢.

١٦

السنة(١) . انتهى.

ولا يصح أيضاً ما ادعاه القاضي عبد الجبار: من أن ولاية أبي بكر على الموسم والحج في تلك السنة قد ثبت بلا خلاف بين أهل الأخبار، ولم يصح أنه عزله..

قال: ولا يدل رجوع أبي بكر إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) مستفهماً عن القصة على العزل(٢) .

نعم، لا يصح ذلك.

أولاً: لأنه قد ظهر مما ذكرناه آنفاً، أن الأخبار متواترة في رجوع أبي بكر إلى المدينة.. ولم يرو عندهم مضي أبي بكر مع علي (عليه‌السلام ) إلى مكة سوى ما نسبوه إلى أبي جعفر..

أما رواية أبي هريرة، وابن عباس ذهابه إلى مكة فهي مشكوكة، لمعارضتها بروايتهما رجوعه إلى المدينة..

ثانياً: إن مهمة أبي بكر أولاً كانت إقامة الحج وتبليغ الآيات، فما الذي يمنع من أن يتولى علي (عليه‌السلام ) ـ بعد رجوع أبي بكر ـ تبليغ الآيات،

____________

١- دلائل الصدق ج٣ ق١ ص١٨ و ١٩ عن فضل بن روزبهان، وشرح إحقاق الحق (الأصل) ص٢٢٢.

٢- بحار الأنوار ج٣ ص٣١٤ وج٣٠ ص٤١٦ والمغني لعبد الجبار ج٢٠ ص٣٥٠ وراجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج١٧ ص١٩٥ والشافي في الإمامة ج٤ ص١٥٣.

١٧

وإقامة الحج أيضاً؟! فلماذا يريد ابن روزبهان أن يشكك في هذا الأمر..

ثالثاً: لا إجماع على تولية أبي بكر الحج في تلك السنة كما ظهر من رواية علي (عليه‌السلام )، وابن عباس، وابن بثيع، وأبي هريرة وأبي بكر نفسه، وغيرهم.

وتقدم: أن راوي مواصلة أبي بكر مسيره إلى مكة واحد.

يضاف إلى ذلك: قول الطبرسي عن علي (عليه‌السلام ): (روى أصحابنا أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ولاه أيضاً الموسم، وأنه حين أخذ البراءة من أبي بكر رجع أبو بكر(١) .

رابعاً: إن إجماع بعض أهل الأخبار على مسير أبي بكر إلى مكة مع روايتهم رجوعه إلى المدينة عمن ذكرناهم عن قريب، يؤكد التهمة لهؤلاء الناس، في أنهم يسعون لتحسين صورة أبي بكر، وإبعاد الظنون والشبهات عنه.

والقول بأن الرجوع إلى المدينة رجوع بهدف الاستفهام، ولا يدل على عدم استئناف سفر جديد إلى مكة، لإنجاز مهمة الحج بالناس.. مجازفة ظاهرة.. فإن القائلين بذلك لم يدعوا استئناف السفر إلى مكة وتولي الحج من جديد، بل هم يقولون: إنه رجع إلى المدينة بصورة نهائية.

____________

١- مجمع البيان ج٥ ص٩ وبحار الأنوار ج٢١ ص٢٦٦ وج٣٠ ص٤١٧ والصافي (تفسير) ج٢ ص٣٢١ والتبيان للطوسي ج٥ ص١٦٩ ونور الثقلين ج٢ ص١٨٢.

١٨

تبدل آراء الأنبياء:

وقد يتساءل البعض فيقول:

كيف يتبنى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) رأياً، ويباشر بتنفيذه ثم يعدل عنه؟!

هل لأنه ظهر له خطؤه؟!

ألا يضعف ذلك ثقة الناس بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، ويخل بمكانته في نفوسهم؟!

ونجيب:

ليست القضية قضية خطأ في الرأي قد بان صوابه، بل كان هناك أمران لا بد من ملاحظتهما، وهما:

١ ـ أن المطلوب كان إرسال أبي بكر إلى المكان الذي أرسل إليه، وأن يرى الناس ذلك.

٢ ـ ثم إرسال علي (عليه‌السلام ) في أثره ليأخذ الكتاب، وأن يرى الناس ذلك أيضاً.

وقد كان الأمران كلاهما بوحي من الله، لا برأي بان خطؤه، لأننا نعلم: أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(١) .

وأما المصلحة في ذلك فسيأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى.

____________

١- الآيتان ٣ و٤ من سورة النجم.

١٩

لماذا يتبرع أبو بكر؟!:

إذا كان أبو بكر يرغب في جمع الدلائل على أهليته للخلافة، فمن المتوقع: أن يتبرع هو بالذهاب إلى مكة، لا أن ينزعج من اختياره لها، إلا إن كانت خشيته على حياته هي التي أوجبت له هذا الانزعاج..

وحينئذ نقول:

لقد كان علي (عليه‌السلام ) أولى بهذه الخشية منه، فإنه هو الذي وتر قريشاً، وأسقط هيبتها.

ومن جهة أخرى: إذا كان أبو بكر يخاف على نفسه من أهل مكة، فلماذا ينزعج من إرجاعه؟! لا سيما بعد التوضيح له: بأن سبب إرجاعه هو أن الذي يبلغ عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) شخص له أوصاف لا تنطبق عليه..

سبب إرجاع أبي بكر:

لعل من أسباب إرجاع أبي بكر عن تبليغ رسالة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وآيات سورة براءة لأهل مكة الأمور التالية:

١ ـ قد يقال: إن من أهداف ذلك بيان أن أبا بكر لا يصلح للنيابة عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في أمر الإبلاغ.. ربما لأنه لا يؤدي الأمر بحرفيته التامة، بل يراعي أموراً تجعله يقدم على التغيير والتبديل، وربما تكون هذه الأمور مصالح شخصية، تعود إليه.. ككونه لا يريد جرح مشاعر قومه، ولا إزعاجهم، ولا تصعيب علاقته بهم، أو غير ذلك..

والخلاصة: النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يريد تعريف الناس بأن أبا بكر

٢٠

الفقهية المعبرة عن يسر هذا الدين العظيم وروحه السمحة ، ومن بين تلك القواعد الفقهية المتفق عليها ، قاعدة الضرر يُزال ، وقاعدةالضرورات تبيح المحظورات ، وغيرهما من القواعد الفقهية المتفرعة عن قاعدة (لا ضرر ولا ضرار )(1) وقد استمدوا هاتين القاعدتين من أُصول التشريع الإسلامي : قرآناً وسُنّة.

والسؤال المهم هنا ، هو : هل أنّ الشريعة الإسلامية أباحت للمُكْرَهِ أو المضطر كل محرم مهما كان بسبب ذلك الإكراه أو الاضطرار.

وبعبارة أُخرى : هل أن حديث الرفع المشهور عند جميع المذاهب الإسلامية(2) يجري على كل اكراه ، أو أنّ له حدوداً ثابتة لا يمكن تجاوزها بحال؟

والواقع ، إن الإجابة المفصلة على هذا التساؤل المهم جداً في بيان حكم ما يُكرَه عليه ، لا يمكن أن تتم ما لم يُعرَف قبل ذلك نوع الضرر المهدد به المكرَه ، مع معرفة الآثار السلبية الناجمة عن تنفيذ المكرَه للنطق أو الفعل الذي أُكْرِه عليه.

بمعنى ، ان تكون هناك معرفة بحجم الضرر المهدد به المُكْرَه ، مع معرفة المحرّم الذي يراد تنفيذه كرهاً؛ لكي تجري عملية موازنة بين الضررين ، حتى يرتكب أخفهما حرمة في الشريعة.

وفي المسألة صور كثيرة جداً ، إذ قد يكون الإكراه ، على قتل مسلم ، أو

__________________

(1) اُنظر : الأشباه والنظائر / السيوطي : 173 القاعدة الرابعة ، طبعة دار الكتاب العربي.

واُنظر قاعدة لا ضرر / السيد السيستاني 1 : 158.

(2) سيأتي ذكر الحديث في أدّلة التقيّة من السُنّة النبوية.

٢١

زنا ، أو قطع بعض الأطراف ، أو شرب خمر ، أو قذف مؤمن ، أو شهادة زور ، أو سرقة مال ، ونحوها.

وقد يكون التهديد والوعيد ، بالقتل ، أو التعذيب ، أو السجن ، أو النفي ، أو الإهانة ، أو التشهير ، أو الغرامة المالية ، أو هتك العرض ، أو تهديم الدار ، أو الفصل من الوظيفة ، وغيرها.

وهذه الصور الكثيرة يمكن جمعها في ثلاث صور لا رابع لها وهي :الصورة الاُولى : ان يكون الضرر المهدد به المُكْرَه تافهاً وحقيراً ، بينما يكون المحرّم المراد ارتكابه عظيماً وجسيماً.

الصورة الثانية : عكس الاُولى.

الصورة الثالثة : يتساوى فيها الضرران.

وهذا مع قربه من الإجابة على التساؤل السابق إلاّ إنّه لا يكفي في ذلك؛ لوجود جوانب أُخر ذات صلة وثقى بتحديد الجواب ، ويأتي في مقدمتها ، اختلاف الناس وتفاوت رتبهم ودرجاتهم ، فالإمام ليس كالمأموم ، والرئيس يختلف عن المرؤوس ، والعالم ليس كالجاهل ، والفقيه ليس كالمقلد ، والنابه الذكي ليس كالخامل الغبي.

ولاشك ان هذا الاختلاف في رتب الناس ودرجاتهم يؤثر سلباً أو إيجاباً في تقدير موقف المكرَه نفسه أولاً ، مع تأثيره المباشر أيضاً في تقدير الأفعال أو الأقوال المطلوبة منه ثانياً ، وفي تقدير الاُمور المخوف بها ثالثاً.

إذ قد (يكون الشيء اكراهاً في شيء دون غيره ، وفي حق شخص دون

٢٢

آخر)(1) .

فقد يرى بعضهم في نوع الضرر المهدد به ما يبرر له ارتكاب المحرم؛ لأجل التخلص من ذلك الضرر بأية وسيلة.

ويرى الآخر في ارتكاب المحرم البسيط عند الالجاء القهري إليه خطراً جسيماً على العقيدة الإسلامية برمتها ، بناء على موقعه الديني الرفيع مثلاً ، فتراه يقدم على التضحية بكل غالٍ ونفيس ولا يتقي من أحد.

هذا زيادة على أن الاختلاف المذكور له تأثيره المباشر في مسألة التخلص من التقيّة باستخدام التورية ، فيخدع بها المُكرِه ويخلّص نفسه بها من شرّه.

دور القواعد الفقهية في بيان حكم ما يُكرَه عليه :

حاول الفقهاء ان يجدوا الإجابة العامّة الشافية للتساؤل السابق من خلال قواعدهم الفقهية المسلّمة الصحة الخاصة بالضرر وكيفية التعامل معه وازالته ، وسوف نشير إلى أهم تلك القواعد على النحو الآتي :

أوّلاً ـ قاعدة يرتكب أخف الضررين لدفع أعظمهما :

صلة القاعدة بالإكراه والتقيّة :

تصب هذه القاعدة في رافد الإجابة على التساؤل السابق حول حديث الرفع؛ لأنّها تفيدنا في معرفة حكم ما يكره عليه الإنسان ، وقد مرّ ورود لفظ (الإكراه) في الحديث صراحة.

__________________

(1) الأشباه والنظائر / السيوطي : 370.

٢٣

ويتوقف هذا على بيان صلة القاعدة بالإكراه والتقيّة ، إذ قد يقع الإنسان بين ضررين وهو مضطر إلى أحدهما ، فيرتكب أخفهما لدفع أعظمهما بموجب القاعدة وحينئذ لا إكراه في المقام ولا تقية من أحد!!

ولكن القاعدة لم توضع لأجل هذا فحسب ، بل هي عامة تنطبق على موارد الضرر كافة ومن بينها الضرر الناتج بفعل الإكراه الذي لا خلاص منه إلاّ بالتقيّة شأنها بذلك شأن القواعد الفقهية الاُخرى الآتية الخاصة بالضرر.

وتوضيح ذلك يتم من خلال معرفة أقسام الضرر ، كالآتي :

أقسام الضرر تبعا لأسبابه :

يقسم الضرر تبعا للأسباب المؤدّية إلى حصوله إلى ثلاثة أقسام ، وهي :

1 ـ الضرر الناتج من نفس المتضرر ، وهو ما يعبر عنه بالضرر الحاصل من سوء الاختيار كموارد تعجيز الإنسان نفسه مثلاً.

2 ـ الضرر الناتج بفعل العامل الطبيعي كالزلازل ونحوها.

3 ـ الضرر الناتج من شخص آخر ، ويعبر عن الضررين الأخيرين بالضرر الحاصل من غير سوء الاختيار.

ومن الواضح ان الإكراه لا يكون إلاّ من الغير كما تقدم في أركانه ، وهذا يعني صلة الضرر الأخير بالإكراه إذا كان من ظالم؛ لأنّ الضرر الحاصل من الغير قد يكون بإكراه وقد لا يكون. على أن بعض فقهائنا الأعلام أدخل موارد التقيّة حتى في الضرر الناتج عن سوء الاختيار ، كما نجده صريحاً في تقريرات بحث السيد الخوئي الأصولية(1) ، إذ ورد فيها القول بصحة تعجيز الإنسان نفسه في موارد التقيّة. وبما ان القاعدة لم تختص بمورد ضرري معين كما هو حال القواعد الفقهية الاُخرى ، بل ناظرة إلى مطلق الضرر

__________________

(1) محاضرات في اصول الفقه / محمد اسحاق الفياض 4 : 243 ، مبحث الأجزاء ، في مسألة حكم الأضرار بسوء الاختيار.

٢٤

فتكون صلتها بالإكراه والتقيّة واضحة جداً.

وهذه القاعدة الفقهية لا خلاف في صحتها عند جميع الفقهاء ، وهي منسجمة تماماً مع روح التشريع الإسلامي ومرونته ، وجارية على وفق مقتضيات العقل السليم ، فهي على ما يقول السيد الخوئيقدس‌سره : (من القضايا التي قياساتها معها ، فلا تحتاج إلى برهان أو مؤنة الاستدلال)(1) .

وفيها يقول الندوي : (إذا اجتمع للمضطر محرّمان كل منهما لا يباح بدون الضرورة ، وجب تقديم أخفهما مفسدة وأقلهما ضرراً ، لأن الزيادة لا ضرورة إليها فلا يباح)(2) .

وقال الزيلعي : (الأصل في جنس هذه المسائل : إنّ من ابتُلِيَ ببليّتين ، وهما متساويتان يأخذ بأيهما شاء ، وإن اختلفتا يختار أهونهما؛ لأنَّ مباشرة الحرام لا تجوز إلاّ للضرورة ، ولا ضرورة في حق الزيادة)(3) .

وفي هذا الصدد ، يقول الغزالي : (وارتكاب أهون الضررين يصير واجباً بالإضافة إلى أعظمهما ، كما يصير شرب الخمر واجباً في حق من غص بلقمة أي : ولم يجد ماءً ، وتناول طعام الغير واجباً على المضطر في المخمصة ، وإفساد مال الغير ليس حراماً لعينه ، ولذلك لو اُكْرِه عليه بالقتل وجب أو جاز)(4) .

وقد صيغت هذه القاعدة بألفاظ أُخرى في كتب القواعد الفقهية وغيرها ، ومن تلك الصياغات ما تجده في شرح القواعد الفقهية إذ وردت

__________________

(1) اُنظر : مصباح الاُصول2 : 562 في التنبيه السابع من تنبيهات قاعدة لا ضرر ، المسألة الاُولى.

(2) القواعد الفقهية / علي أحمد الندوي : 225 ، دار القلم ، دمشق / 1412 هـ ، وأشار في هامشه إلى قواعد ابن رجب الحنبلي : 246 القاعدة رقم 112.

(3) الأشباه والنظائر / ابن نجيم الحنفي : 89.

(4) المستصفى / الغزالي 1 : 89 دار الكتب العلمية / 1403 هـ.

٢٥

بهذه الصيغة : (إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما)(1) وهي نفسها عند ابن نجيم الحنفي(2) ونظيرها عند آخرين(3) .

هذا ، وقد فرّع فقهاء العامّة على هذه القاعدة جملة من الفروع ، نذكر منها ما ذكره الشيخ الزرقا من فروع هذه القاعدة وهي :

أ ـ تجويز السكوت على المنكر إذا كان يترتب على انكاره ضرر أعظم.

ب ـ تجوز طاعة الأمير الجائر إذا كان يترتب على الخروج عليه شرّ أعظم(4) .

ثانيا ـ قاعدة الضرورات تقدّر بقدرها :

صلة القاعدة بالاكراه والتقيّة :

إنّ من أوجه الاتفاق بين الضرورة والاكراه ـ كما سيأتي ـ هو ان مفهوم الضرورة العام يعني تحققها بمجرد حلول خطر لا يندفع إلاّ بمحظور ، وعليه سيكون الاكراه داخلاً بهذا المفهوم العام.

واذا اتضحت صلة الضرورة بالاكراه اتضحت صلتها بالتقيّة أيضاً على أن في أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام ما يؤكد هذه الصلة أيضاً.

ففي حديث الإمام الباقرعليه‌السلام : «التقيّة في كل ضرورة وصاحبها أعلم بها حين تنزل به »(5) .

__________________

(1) شرح القواعد الفقهية / أحمد بن محمد الزرقا : 201 القاعدة رقم 28 ، ط2 ، دار القلم ، دمشق / 1409 هـ.

(2) الأشباه والنظائر / ابن نجيم الحنفي : 89.

(3) كالغزالي في إحياء علوم الدين 3 : 138 ، والقرافي المالكي في الفروق 4 : 236 (الفرق الرابع والستون والمائتان). والفرغاني الحنفي في فتاوى قاضيخان 3 : 485 ، مطبوع بهامش الفتاوى الهندية.

(4) شرح القواعد الفقهية : 201 في شرح القاعدة رقم 28.

(5) اُصول الكافي 2 : 219 / 13 باب التقيّة ، من كتاب الإيمان والكفر.

٢٦

وما تعنيه هذه القاعدة ، هو أن ما تدعو إليه الضرورة من المحظورات إنّما يرخّص منه القدر الذي تندفع به الضرورة فحسب ، فإذا اضطر الإنسان لمحظور لأي سبب مسوّغ كالاكراه ، أو المخمصة ونحوهما ، فليس له أن يتوسع في المحظور ، بل يقتصر منه على قدر ما تندفع به الضرورة فقط.

ومن ثمرات هذه القاعدة كما صرّح به الشيخ الزرقا : «إنّه من أُكْرِهَ على اليمين الكاذبة فإنّه يُباح له الإقدام على التلفظ مع وجوب التورية والتعريض فيها إنْ خطرت على باله التورية والتعريض»(1) .

وهناك قواعد أُخرى تصب في هذا الاتجاه أيضاً ، سنكتفي بذكرها دون شرحها لأجل الاختصار ، وهي :

ثالثا ـ قاعدة الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف :

وقد ذهب الشيخ الأنصاري إلى أبعد من هذه القاعدة في حال التقيّة ، إذ جوّز التقيّة للمكره في صورة إزالة الضرر عن نفسه حتى مع كون الضرر على الغير أشد ما لم يصل إلى حد القتل ، فقال في حديثه عن قاعدة لاضرر الآتية : (اتفقوا على أنه يجوز للمكره الاضرار على الغير بما دون القتل ، لأجل دفع الضرر عن نفسه ، ولو كان أقل من ضرر الغير)(2) .

وهذا مالم يوافقه عليه جملة من كبار الفقهاء المعاصرين آخذين بهذه القاعدة(3) .

رابعا ـ قاعدة لا ضرر ولا ضرار :

وفي هذه القاعدة قسّم السيد الخوئيقدس‌سره ، والسيد السيستاني الضرر إلى

__________________

(1) شرح القواعد الفقهية / أحمد بن محمد الزرقا : 188 في شرح القاعدة رقم 21.

(2) رسائل الشيخ الأنصاري : 298 ، في آخر البحث عن أصل الاشتغال.

(3) القواعد الفقهية / ناصر مكارم الشيرازي 1 : 89 في قاعدة التقيّة. واُنظر : مصباح الاُصول (تقريراً لبحث السيد الخوئي) 2 : 562 ، والتنبيه السابع من تنبيهات قاعدة لا ضرر.

٢٧

أنواعه المتقدمة مع بيانهما وأسبابه التي ذكرناها سابقاً ، ومن مراجعتها تعلم صلة هذه القاعدة بالتقيّة فضلاً عن اتفاقهم على ادخال الضرر الناتج عن اكراه في موجب هذه القاعدة.

خامسا ـ قاعدة الضرورات تبيح المحظورات :

وهذه القاعدة متفرعة عن قاعدة لا ضرر المتقدمة كما نجده في قاعدة لا ضرر للسيد السيستاني وغيره ، ومن أوضح تطبيقاتها عندهم جواز التلفظ بكلمة الكفر في حال الاكراه عليها(1) .

ولا يخفى بان ما جوّزوه لا يكون إلاّ في حال التقيّة ، وهذا هو معنى صلة القاعدة بموضوع البحث ، وهو التقيّة ، على أن الشيخ الانصاري صرّح في بحث التقيّة بما يفيد المقام جداً وسوف نذكر نص كلامه في الحديث عن صلة حديث الرفع بالتقيّة ، فلاحظ.

وبما أنّ صلة هذه القواعد بالتقيّة صلة وثيقة جداً ، بل هي صلة الضرورة بالاكراه ، ومن هنا لا بدّ من التعرض للعلاقة القائمة بين الضرورة والاكراه ، تحت عنوان :

الفرق والاتفاق بين الضرورة والاكراه :

أولاً ـ الفرق بين الضرورة والاكراه :

ونكتفي هنا بفارقين مهمّين وهما :

الفرق الأوّل ـ اختلافهما في المسبب :

وذلك أن في الاكراه يُدفع المُكرَه إلى إتيان المحظور من قبل شخص آخر بقوة الاكراه.

وأما في الضرورة فلا يدفع المرء إلى ارتكاب المحظور أحد ، وإنما

__________________

(1) قاعدة لا ضرر / السيد السيستاني 1 : 158. والأشباه والنظائر / السيوطي : 92 93.

٢٨

يكون المرء المضطر في ظرف خاص صعب يقتضي الخروج منه ارتكاب المحظور؛ لكي ينقذ نفسه أو عائلته من الهلاك المحتم ، كالاضطرار إلى أكل لحم الميتة في حالة الجوع الشديد مع عدم وجود ما يؤكل غيره.

الفرق الثاني ـ اختلافهما في الحكم :

ويتّضح هذا الفرق من خلال معرفتنا بأنّ امتناع المكرَه عن تنفيذ ما أُكرِه عليه قد يكون في بعض صور الإكراه واجباً عليه كما في الإكراه على القتل مثلاً.

وأما في حالة الاضطرار إلى ارتكاب المحرم لسد الرمق بعد الوقوع في مخمصة فالامتناع عنه حرام يعاقب عليه.

ثانياً : الاتفاق بين الضرورة والإكراه :

يمكن القول بأنّ الفرق الأخير يُعدُّ من حيثية أُخرى اتفاقاً بين الضرورة والإكراه ، لأنَّ كلاً منهما يهدف إلى صيانة النفوس من التلف.

وهذا لا يعني انعدام الصلة بينهما إلاّ في هذه الحيثية ، بل هناك جوانب اتفاق بين الضرورة والإكراه ، وهي :

1 ـ اتّفاقهما في جهة الفاعل :

لأنّ الفاعل فيهما لا يجد سبيلاً للخلاص من الشر المحدق به غير ارتكاب المحظور.

2 ـ اتّفاقهما في من تترتّب عليه الآثار :

وهو هاهنا واحد ، وهو الفاعل سواءً كانت الآثار سلبا عليه كما في حال امتناعه عن ارتكاب المحظور عن ضرورة أو إكراه ، أو إيجابا له كما لو ارتكبه بسبب أيٍّ منهما كما هو واضح.

٢٩

3 ـ اتّفاقهما في إباحة بعض المحظورات الشرعية :

ومن نقاط الاتفاق الواضحة بينهما هو أن الضرورة تجعل المحظور مباحاً كما مرَّ في قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) ، وكذلك الحال مع الاكراه ، إذ يبيح ارتكاب بعض المحرمات ، ومنها المساس بحقوق الآخرين.

وعلى هذا الوجه يدخل الاكراه في مفهوم الضرورة العام الذي يعني تحققها بمجرد حلول خطر لا يندفع إلاّ بمحظور(1) .

ومن هنا يتبين عدم الفرق بينهما من جهة الملاك ، لأنّ ملاكهما واحد ، وهو رفع الضرر الأهم بارتكاب ترك المهم(2) .

ولهذا علّل بعض فقهاء القانون الوضعي انتفاء المسؤولية في حالة الضرورة بفكرة الاكراه؛ لأنَّ من يكون في حالة ضرورة هو مكره على الفعل الذي يخلصه منها ، وكثير منهم قرن أحدهما بالآخر(3) .

وبهذا العرض الموجز عن الاكراه وصلته بالضرورة والتقيّة ، نعود إلى الحديث عن التقيّة لنتعرف أولاً على أصولها ومصادرها التشريعية عبر بيان أدلتها من القرآن الكريم والسُنّة المطهّرة ، ودليل العقل والإجماع.

__________________

(1) راجع : الضرورة في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي / الدكتور محمد محمود عبدالعزيز الزيني : 59 ، مؤسسة الثقافة الجامعية ، الاسكندرية / 1993 م.

(2) راجع القواعد الفقهية / ناصر مكارم الشيرازي 2 : 19.

(3) راجع الإحكام العامة في قانون العقوبات / الدكتور السعيد مصطفى السعيد : 417 ، وشرح قانون العقوبات القسم العام / الدكتورمحمود المصطفى : 326 نقلاً عن الضرورة للدكتور محمد محمود الزيني : 223.

٣٠

الفصل الثاني

أدلة التقيّة وأصولها التشريعية

المبحث الأول

أدلة التقيّة من القرآن الكريم

لا شكّ أنَّ من قال بالقرآن الكريم صدَق ، ومن حكم به عَدَل ، ومن عمل به أُجِر ، ومن دعا إليه هُدِي إلى صراط مستقيم.

وكيف لا ، وهو يهدي للتي هي أقوم ، مع كونه بياناً للناس وهدىً وموعظة للمتقين؟

ومع هذه الحقيقة الناصعة التي طفحت بها آيات الكتاب ، وأكدتها السُنّة النبوية بأعظم التأكيد ، إلاّ إنّك قد تجد من يسيء إلى المفاهيم القرآنية الواضحة فيه أبلغ الإساءة كمفهوم التقيّة ، فيدّعي أنها من النفاق! وهذا يكشف عن كون اتخاذ القرار في التخطيط لأية مسألة فكرية تتصل بعقيدة المسلمين ، أو الأحكام الشرعية وفهمها فهماً دقيقاً لا يناط أبداً بغير المخلص الكفوء ، خشيةً من الوقوع في الانحراف الفكري عن قصد أو بدون قصد.

٣١

والعجب إنّك ترى تلك الإساءة ممن يدّعي العلم والفهم وتلاوة القرآن الكريم ، وكأنه لم يمر في تلاوته أبداً على ما سنتلوه عليك من آيات بينات وما قاله المفسرون بشأنها.

إنَّ الآيات القرآنية الدالة على اليسر ونفي الحرج وعدم إلقاء النفس إلى التهلكة ، أو المشيرة إلى أنّ المُكرَه أو المضطر إلى المحرم لا جرم عليه ، غير خافية على أحد ، ولا ينكرها إلاّ الجاهل المتعسف أو المعاند الصلف ، وكلامنا ليس مع هذا الصنف ، بل مع من يعي أن نبينا الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث بالحنيفية السمحة ثم يشتبه عليه أمر التقيّة.

ونحن إذ نتعرض هنا للأدلة القرآنية الدالة على مشروعية التقيّة ، نود التذكير بأن الدليل الواحد المعتبر الدال على صحة قضية يكفي لإثباتها ، فكيف لو توفّرت مع إثباتها أدلة قرآنية كثيرة ، لم يُختَلَف في تفسيرها؛ لأنّها محكمة يُنبئ ظاهرها عن حقيقتها ولا مجال لمتأوّلٍ فيها؟

ومع هذا سوف لا نكتفي بدليل قرآني واحد ، بل سنذكر أربع آيات مباركة ، من بين الآيات القرآنية الكثيرة الدالة على مشروعية التقيّة.

والسبب في هذا الحصر والانتقاء ، إنّا وجدنا القرآن الكريم قد تعرض إلى بيان تقية المؤمنين في الاُمم السالفة بآيتين صريحتين ، كما وجدناه قد أمضى تلك التقيّة بتشريعاته الخالدة في أكثر من آية ، انتقينا منها آيتين فقط ، لما فيهما من وضوح تام حول امتداد ظل ذلك التشريع العظيم إلى وقت مبكر من عمر الرسالة الخاتمة.

ومن هنا قسّمنا الأدلة المذكورة على قسمين : أحدهما ، ما اتصل بالتقيّة قبل الإسلام ، والآخر : ما اتصل بها عند انطلاق دعوة الحق من البيت

٣٢

العتيق ، واليك التفصيل :

أولاً : الأدلة القرآنية الدالة على التقيّة قبل الإسلام.

الآية الاُولى : حول تقية أصحاب الكهف.

قال تعالى : «وَكَذلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبثْنَا يَوماً أو بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابعَثُوا أحَدَكُمْ بِوَرَقِكُمْ هذِهِ إلى المَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أيُّها أزكى طَعَاماً فلْيأتِكُمْ بِرِزقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أحَداً * إنَّهُمْ إنْ يَظْهَرُوا عَلَيكُمْ يِرْجُمُوكُمْ أوْ يُعِيدُوكُمْ في مَلَّتِهم وَلَن تُفلِحُوا إذاً أبداً »(1) .

في هاتين الآيتين المباركتين أصدق تعبير على أنّ التقيّة كانت معروفة وجائزة في شرع ما قبلنا (نحن المسلمين) وهي صريحة في تقية أصحاب الكهف رضي اللّه تعالى عنهم ، وقد أفاض المفسرون في بيان قصتهم وكيف أنّهم كانوا في ملّة كافرة وأنهم كانوا يكتمون إيمانهم قبل أن يدعوهم ملكهم إلى عبادة الأصنام ، فلجأوا إلى الكهف بدينهم(2) .

ما يشكل به من القرآن الكريم على عدم تقيّتهم :

قد يقال بأنَّ اللّه عزَّ وجلَّ أورد من نبأهم ما يدل على عدم تقيتهم ، كقوله تعالى : «وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِم إذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمواتِ والأرضِ

__________________

(1) سورة الكهف : 18 / 19 ـ 20.

(2) راجع : تفصيل قصتهم في مجمع البيان / الطبرسي5 : 697 ـ 698. وزاد المسير / ابن الجوزي 5 : 109 ـ 110. والجامع لأحكام القرآن / القرطبي10 : 357 ـ 359. وتفسير الطبري 15 : 50. والدر المنثور / السيوطي5 : 373. والتفسير الكبير / الفخر الرازي21 : 97. وتفسير أبي السعود6 : 209. وقد وردت قصتهم عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة وغيرهم.

٣٣

لَنْ نَدْعُوا مِن دُونِهِ إلهاً لَقَدْ قُلْنَا إذاً شَطَطاً »(1) وهذا القول دالٌ على عدم تقيتهم.

وقولهم : «رَبُّنَا رَبُّ السَّمواتِ وَالأرضِ لَنْ نَدْعُوا مِنْ دُونِهِ إلهاً » ، هو قول من لا يرى التقيّة أصلاً ، فأين تقية أصحاب الكهف إذن؟!

جواب الإشكال :

أوّلاً ـ من القرآن الكريم :

وبيان ذلك أنَّ ما صدر عنهم من أقوال معبِّرة عن عدم تقيتهم إنّما صدر بعد انكشاف أمرهم ، إذ كانوا قبل ذلك يكتمون إيمانهم عن ملكهم كما في لسان قصتهم ، على أن في القصة ذاتها ما يعبر بوضوح عن إيصائهم لمن بعثوه بعد انتهاء رقدتهم بالتقيّة ، كما يفهم من عبارة «وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أحَداً ».

ثانيا ـ من حديث الإمام الصادقعليه‌السلام الصريح بشدّة تقيّتهم :

ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله : «ما بلغت تقية أحد تقية أصحاب الكهف ، إنْ كانوا ليشهدون الأعياد ، ويشدّون الزنانير ، فأعطاهم اللّه أجرهم مرتين »(2) .

إذن ، تقية أصحاب الكهف لا مجال لانكارها في جميع الأحوال سواء قبل تصميمهم على ترك المداراة مع القوم واللجوء إلى الكهف ، أو بعد انتهاء رقدتهم ، ولكن الحق ، أن تقيتهم الاُولى كانت قاسية على نفوسهم

__________________

(1) سورة الكهف : 18 / 14.

(2) اُصول الكافي 2 : 174 ـ 175 / 14 و 19 كتاب الإيمان والكفر باب التقيّة ، المكتبة الإسلامية ، طهران / 1388 هـ.

٣٤

لما فيها من مجاهدة نفسية عظيمة؛ لا سيّما إذا علمنا أنهم من أعيان القوم ومن المقربين إلى الملك الكافر دقيانوس قبل أن ينكشف أمرهم.

ولا ريب بان تقية المسلم من المسلم لا تكون مثل تقية المسلم من الكافر ، بل وما يُكرَه عليه المسلم من كافر مرة واحدة أو مرات لا يُقاس بمعاناة الفتية الذين آمنوا بربهم ، لأنهم قضوا شطراً من حياتهم بين قوم عكفوا على عبادة الأصنام والأوثان.

وبهذا يتّضح الوجه في شدّة تقيّتهم كما مرّ عن الإمام الصادقعليه‌السلام ؛ إذ كيف لا يشدّون الزنّار على وسطهم وهم عاشوا في أوساطهم؟ وكيف لا يشهدون أعيادهم وهم من أعيانهم؟

ثالثا ـ من تصريح علماء العامّة بتقيّتهم :

وهو ما ذهب إليه عمدة المفسّرين من العامّة كما يظهر من :

1 ـ تصريح الرازي بتقيّتهم :

قال الفخر الرازي : (وقوله : «وَلْيَتَلَطَّفْ » أي : يكون ذلك في سر وكتمان ، يعني دخوله المدينة وشراء الطعام)(1) .

2 ـ تصريح القرطبي بتقيّتهم :

وأوضح من هذا ما صرّح به القرطبي المالكي بشأن توكيل أصحاب الكهف لأحدهم بشراء الطعام مع إيصائه بالتقيّة من القوم الكافرين باخفاء الحقيقة عنهم بالتكتم عليها ، فقال ما هذا نصه :

(في هذه الآية نكتة بديعة ، وهي أن الوكالة إنّما كانت مع التقيّة خوف ان يشعر بهم أحد لما كانوا عليه من خوف على أنفسهم ، وجواز توكيل

__________________

(1) التفسير الكبير / الفخر الرازي 21 : 103.

٣٥

ذوي العذر متفق عليه)(1) .

الآية الثانية : حول تقية مؤمن آل فرعون.

قال تعالى : «وقالَ رَجُلٌ مُؤمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَونَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ أتَقْتُلُونَ رَجُلاً أنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُم بالبَيِّناتِ مِن رَبِّكُم وإنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وإنْ يَكُ صَادِقاً يُصبكُمْ بَعْضُ الّذي يَعِدُكُمْ إنَّ اللهَ لا يَهدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ »(2) .

هذه الآية المباركة هي الاُخرى تحكي مشروعية التقيّة قبل بزوغ شمس الإسلام بقرون.

وعلى الرغم من وضوح دلالة الآية على التقيّة سوف نذكر طائفة من أقوال المفسرين بشأنها؛ ليُعلم اتفاقهم على مشروعية التقيّة قبل الإسلام ، وسيأتي تصريحهم ببقائها إلى يوم القيامة ، كالآتي :

1 ـ ما قاله الماوردي بشأن تقيّة مؤمن آل فرعون :

نقل الماوردي في تفسيره عن الحسن البصري ، أنّ هذا الرجل كان مؤمناً قبل مجيء موسىعليه‌السلام ، وكذلك امرأة فرعون ، فكتم إيمانه.

وأورد عن الضحاك ، بأنّه كان يكتم إيمانه للرفق بقومه ، ثم أظهره فقال ذلك في حال كتمه(3) .

ولا شكّ أنَّ ما يعنيه كتمان الإيمان هو التقيّة لا غير؛ لأنه إخفاء أمر ما خشية من ضرر إفشائه ، والتقيّة كذلك.

__________________

(1) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي 10 : 376 ـ 377.

(2) سورة غافر : 40 / 28.

(3) النكت والعيون / الماوردي 5 : 153 ، دار الكتب العلمية ، بيروت.

٣٦

2 ـ ما قاله ابن الجوزي :

أورد ابن الجوزي عن مقاتل بشأن مؤمن آل فرعون : (إنّه كتم إيمانه من فرعون مائة سنة)(1) .

لقد بيّن لنا القرآن الكريم قبل الآية المذكورة السبب الذي دفع مؤمن آل فرعون إلى قوله المذكور ، وهو رغبة فرعون بقتل موسىعليه‌السلام ، قال تعالى : «وقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُوني أقتُل موسى وَليَدَعُ رَبَّهُ إنِّي أخَافُ أنْ يُبدِّلَ دِينَكُمْ أوْ أن يُظهِرَ في الأرضِ الفَسَادَ »(2) .

3 ـ ما قاله الرازي :

وهنا قد يقال كما في تفسير الرازي : (إنّه تعالى حكى عن ذلك المؤمن أنّه كان يكتم إيمانه ، والذي يكتم إيمانه كيف يمكنه أن يذكر هذه الكلمات مع فرعون؟).

وقد بيّن الرازي أن في المسألة قولين :

الأول : إنّ هذا المؤمن لما سمع قول فرعون : «ذَرُوني أقْتُلْ مُوسى »لم يصرح بأنه على دين موسىعليه‌السلام بل أوهم أنه مع فرعون وعلى دينه ، مبيّناً ان المصلحة تقتضي ترك قتله ، لأنه لم يرتكب ذنباً وإنما كان يدعو إلى اللّه عزَّ وجلَّ ، وهذا لا يوجب القتل.

الثاني : إنّه كان يكتم إيمانه ، ولما علم بقول فرعون المذكور أزال الكتمان وأظهر كونه على دين موسى وشافه فرعون بالحق(3) .

__________________

(1) زاد المسير / ابن الجوزي 7 : 312.

(2) سورة غافر : 40 / 26.

(3) التفسير الكبير / الرازي 27 : 60.

٣٧

على أن تقيته واضحة جداً حتى على القول الثاني؛ لأنّهرضي‌الله‌عنه كان قد أظهر إيمانه وشافه فرعون بالحق بعد أن كتمه بتصريح القرآن الكريم ، وكتمان الحق وإظهار خلافه هو التقيّة بعينها.

ثناء القرآن على مؤمن آل فرعون :

وهذا الرجل العظيم لم يصفه القرآن الكريم بالنفاق ، ولا بالمحتال المخادع ، بل وصفه بأشرف الصفات وأعظمها عند اللّه عزَّ وجل ، صفة الإيمان.

وكيف كان ، فقد أخرج المتقي الهندي في كنز العمال ، عن ابن النجار ، عن ابن عباس ؛ وعن أبي نعيم في الحلية ، وابن عساكر ، عن ابن أبي ليلى مرفوعاً قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «الصديقون ثلاثة : حبيب النجار مؤمن آل ياسين ، ومؤمن آل فرعون الذي قال : «أتَقْتُلُونَ رَجُلاً أنْ يَقُولَ رَبِّي اللهُ »والثالث : علي ابن أبي طالب ، وهو أفضلهم »(1) .

وفي تفسير المحرر الوجيز : قال الجوهري : (وقد أثنى اللّه على رجل مؤمن من آل فرعون كتم إيمانه وأسرّه ، فجعله اللّه تعالى في كتابه ، وأثبت ذكره في المصاحف لكلام قاله في مجلس من مجالس الكفر)(2) .

وفي تفسير القرطبي في تفسيره الآية المذكورة قال : (إن المكلف إذا نوى الكفر بقلبه كان كافراً وإن لم يتلفظ بلسانه ، وأما إذا نوى الإيمان بقلبه

__________________

(1) كنز العمال / المتقي الهندي 11 : 601 / 32897 و 32898 ، ط5 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت. وفي حاشية كشف الأستار / محمد حسين الجلال : 98 ، مؤسسة الأعلمي ، بيروت / 1405 هـ ، قال : (وحسّنه السيوطي).

(2) المحرر الوجيز / ابن عطية 14 : 132 ، تحقيق المجلس العلمي بفاس / 1407 هـ.

٣٨

فلا يكون مؤمناً بحال حتى يتلفظ بلسانه ، ولا تمنعه التقيّة والخوف من أن يتلفظ بلسانه فيما بينه وبين اللّه تعالى ، إنما تمنعه التقيّة من أن يسمعه غيره ، وليس من شرط الإيمان أن يسمعه الغير في صحته من التكليف ، وإنّما يشترط سماع الغير له ؛ ليكف عن نفسه وماله)(1) .

وبالجملة ، فإنّ جميع المفسرين الذين وقفت على تفسيرهم اعترفوا بتقية مؤمن آل فرعون ، ولولا خشية الاطالة لأوردنا المزيد من أقوالهم ، ويكفي أن الخوارج الذين زعم بعضهم بأنهم ينكرون التقيّة قد صرّح أباضيتهم بالتقيّة في تفسيرهم لهذه الآية :

قال المفسر الاباضي محمد بن يوسف اطفيش عن الرجل المؤمن : (فمعنى كونه من آل فرعون أنه فيهم بالتقيّة مظهراً أنّه على دينهم ، وظاهر قوله «ياقَوم » أنّه منهم إلى أن قال واستعمل الرجل تقية على نفسه ، ما ذكر اللّه عزَّ وجلَّ عنه بقوله : «وإنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيهِ كَذِبُهُ »)(2) .

ثانياً : الأدلة القرآنية الدالة على امضاء التقيّة في الإسلام :

الآية الاُولى : حول جواز الكفر باللّه تقيةً :

ويدل عليه قوله تعالى : «مَنْ كَفَرَ باللهِ مِنْ بَعْدِ إيمانِهِ إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلبُهُ مُطْمَئنٌ بالإيمانِ وَلكِن مَنْ شَرَحَ بالكُفرِ صَدْرَاً فَعَلَيهِمْ غَضَبٌ مَنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ »(3) .

__________________

(1) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي 15 : 307.

(2) تيسير التفسير / محمد بن يوسف بن اطفيش الأباضي 1 : 343 ـ 345.

(3) سورة النحل : 16 / 106.

٣٩

نزول الآية بمكة بشأن عمار بن ياسر وأصحابه :

نزلت هذه الآية المباركة باتفاق جميع المفسرين في مكة المكرمة وفي البدايات الاُولى من عصر صدر الإسلام ، يوم كان المسلمون يعدون بعدد الأصابع ، ومن مراجعة ما ذكروه بشأن هذه الآية يُعلم أن التقيّة قد أُبيحت للمسلمين أيضاً في بدايات الإسلام الأولى ، وانها أُبقيت على ما كانت عليه في الأديان السابقة ولم تنسخ في الإسلام ، بل جاء الإسلام ليزيدها توكيداً ورسوخاً لكي يتترس بها أصحاب الدين الفتي أمام طغيان أبي سفيان وجبروت أبي جهل كما تترس بها من قبل أهل التوحيد أمام ظلم المشركين فيما اقتص خبره القرآن الكريم ، وصرّح به سائر المفسرين.

فقد أخرج ابن ماجة بسنده عن ابن مسعود ما يؤكد نزول الآية بشأن عمار بن ياسر وأصحابه الذين أخذهم المشركون في مكة وأذاقوهم ألوان العذاب حتى اضطروا إلى موافقة المشركين على ما أرادوا منهم.

وقد علّق الشيخ محمد فؤاد عبدالباقي على هامش حديث ابن ماجة المذكور ، بقوله (أي : وافقوا المشركين على ما أرادوا منهم تقية ، والتقيّة في مثل هذه الحال جائزة ، لقوله تعالى : «إلاَّ مَنْ أُكرِهَ وَقَلبُه مُطمئنٌ بالإيمان »(1) .

الآية أصل في جواز إظهار كلمة الكفر في حال الإكراه :

وقال الجصاص الحنفي في تفسير الآية المذكورة : (هذا أصل في جواز إظهار كلمة الكفر في حال الإكراه ، والإكراه المبيح لذلك هو أن يخاف على

__________________

(1) سنن ابن ماجة 1 : 53 ، 150 باب 11 في فضل سلمان وأبي ذر والمقداد ، دار إحياء الكتب العربية ، وانظر التعليق عليه في الهامش رقم (1) من الصفحة المذكورة.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347