الصحيح من سيرة الإمام علي (عليه السلام) (المرتضى من سيرة المرتضى) الجزء ٢

مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 356
مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 356
الفصل الثالث: حتى شعب أبي طالب..
علي(عليهالسلام) يقرأ ويكتب:
قد ذكروا: أن علياً(عليهالسلام) كان من السبعة عشر رجلاً من قريش، الذين كانوا حين دخل الإسلام يعرفون القراءة والكتابة بالعربية(١) .
ولكن اللافت هنا أمور:
أحدها: أن البلاذري قد وصف هؤلاء العارفين بالقراءة والكتابة بأنهم رجال، مع أن عمر علي(عليهالسلام) كان حين البعثة كما دلت عليه الروايات المعتبرة لا يزيد على عشر سنوات، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، إلا إن كان قد عده في جملة الرجال على سبيل التغليب..
الثاني: إنه عد فيهم من دلت الشواهد على انه لم يكن يحسن القراءة، فضلاً عن الكتابة.. فإن عمر بن الخطاب مثلاً لم يكن ـ كما ورد في حديث اسلامه ـ يحسن القراءة(٢) .
____________
١- فتوح البلدان (ط مكتبة النهضة المصرية ـ القاهرة) ج٣ ص٥٨٠ ومكاتيب الرسول ج١ ص١٠٢ وراجع: العقد الفريد ج٤ ص١٥٧.
٢- راجع كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم " صلىاللهعليهوآله" (الطبعة الخامسة) ج٣ ص٣٠٧ و (الطبعة الرابعة) ج٣ ص١٧٧.
الثالث: إن أحداً لم يذكر لنا شيئاً عن الشخص الذي تعلم علي(عليهالسلام) القراءة والكتابة عنده. ولو كان ثمة من يعرف شيئاً من ذلك لسارع إلى إظهاره، ليطالب علياً(عليهالسلام) : بأن يعترف بهذا الجميل، وأن ينوه به، وأن يذكره بين الفينة والفينة.
والذي نراه هو أن الله سبحانه قد حبا هؤلاء الأصفياء من الأنبياء والأوصياء بالمنح والألطاف، والكرامات بحيث أغناهم عن الجلوس بين يدي المعلمين والمؤدبين سواء في القراءة والكتابة أو في غيرها..
وإذا كانت السيدة زينب عالمة (غير معلمة) فما بالك بأخي رسول الله، وباب مدينة علمه، وخير الخلق بعده؟!!
الخمس في مكة لعلي(عليهالسلام) :
ذكرت نصوص المناشدة: أن علياً(عليهالسلام) كان دون كل أحد يأخذ هو وفاطمة (عليهماالسلام ) الخمس في مكة.
فقد قال(عليهالسلام) لأهل الشورى التي جعلها عمر وسيلة لإيصال عثمان إلى الخلافة : "نشدتكم بالله، أفيكم أحد كان يأخذ الخمس مع النبي(صلىاللهعليهوآله) قبل أن يؤمن أحد من قرابته غيري، وغير فاطمة؟!
قالوا: اللهم لا"(١) .
____________
١- ترجمة الإمام علي )عليهالسلام ( من تاريخ ابن عساكر (بتحقيق المحمودي) ج٣ ص٩٠ وراجع ص٩٥ وفي هامش ص٨٨ و ٨٩ مصادر كثيرة لحديث المناشدة، = = وراجع: مناقب الخوارزمي ص٢٢٥ و (ط مركز النشر الإسلامي) ص٣١٥ وفرائد السمطين ج١ ص٣٢٢. وتاريخ مدينة دمشق ج٤٢ ص٤٣٢ و ٤٣٥ ونهج السعادة ج١ ص١٣١ و ١٣٩ وكنز العمال ج٥ ص٧٢٥ وينابيع المودة ج٢ ص٣٤٤ وكتاب الولاية لابن عقدة ص١٧٧ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٥ ص٣٠ وج١٥ ص٦٨٥ وج٣١ ص٣٢٤ وراجع: الأمالي للطوسي ص٣٣٣ و ٦٦٧ وبشارة المصطفى ص٢٤٣ والطرائف لابن طاووس ص٤١٣ والموضوعات لابن الجوزي ج١ ص٣٧٩ ومناقب علي بن أبي طالب لابن مردويه الأصفهاني ص١٢٨ و ١٣١ والدر النظيم ص٣٣١ وبناء المقالة الفاطمية ص٤١٢ وغاية المرام ج٥ ص٧٨ وج٦ ص٦ وسفينة النجاة للتنكابني ص٣٦٢. وراجع أيضاً: الضعفاء الكبير ج١ ص٢١١ وليس فيه كلمة: "قبل أن يؤمن أحد من قرابته" واللآلي المصنوعة ج١ ص٣٦٢.
ولعلك تقول:
لماذا لم يعط حمزة أو جعفر من الخمس؟! فإنهما كانا مسلمين آنئذ؟!
ونجيب: بما تقدم: من أن إسلام جعفر وحمزة قد تأخر عن مطلع البعثة إلى مدة طويلة، ربما إلى ما بعد انذار العشيرة الأقربين. وسيأتي بعض الحديث عن ذلك حين الكلام عن مناشدات أمير المؤمنين(عليهالسلام) لأهل الشورى ، فلعل الخمس كان يعطى لعلي(عليهالسلام) قبل اسلام حمزة، وجعفر..
ولا يصح أن يجاب بأنه: لعل حمزة لم يكن بحاجة إلى الخمس، وكذلك
جعفر، على أنه قد ورد أن أبا طالب لم يكن بحاجة إلى المال آنئذٍ أيضاً، وقد كان هو ينفق على بني هاشم في الشعب.
إلى جانب أموال خديجة، التي كان يستفاد منها في هذا المجال.. ويكون حمزة وجعفرغنيين بما كان يقدمه لهما ابو طالب، أو خديجة أو كانا غنيين بالاستقلال..
نعم، لا يصح هذا الجواب، فإن علياً(عليهالسلام) يصرح بأنه قد أخذ هو وفاطمة الخمس قبل أن يسلم أحد من قرابة الرسول حتى جعفر "رضوان الله عليه".
وهذا دليل على تأخر إسلام جعفر وحمزة إلى ما بعد ولادة الزهراء(عليهاالسلام) ، أي بعد البعثة بخمس سنين. إلا أن يقال: المراد أنه هو أخذ الخمس من النبي(صلىاللهعليهوآله) ، ثم لما ولدت فاطمة صارت هي الأخرى تأخذ من الخمس.
أما بالنسبة لمصدر هذا الخمس أن فيمكن أن يكون هو النبي(صلىاللهعليهوآله) نفسه، أو من الركاز، أو غيرها.
كما أن خديجة التي كانت تملك أموالاً طائلة، وقد أسلمت في أول البعثة، يمكن أن تكون قد خمست أموالها، واستفاد علي(عليهالسلام) من هذا الخمس آنئذٍ.
القُضَم.. علي(عليهالسلام) :
قال ابن الأثير في مادة قضم: "ومنه حديث علي(عليهالسلام) : كانت
قريش إذا رأته قالت: احذروا الحطم، احذروا القضم، أي الذي يقضم الناس، فيهلكهم"(١) .
وعن ابن عباس، قال: لما نكل المسلمون عن مقارعة طلحة العبدري، (أي الذي كان من بني عبد الدار)، تقدم إليه أمير المؤمنين(عليهالسلام) ، فقال طلحة: من أنت؟!
فحسر عن لثامه، فقال: أنا القضم، أنا علي بن أبي طالب.
زاد في نص آخر قوله حكاية عن طلحة: قد علمت يا قضم أنه لا يجسر علي أحد غيرك(٢) .
وحين قال النبي(صلىاللهعليهوآله) لعلي(عليهالسلام) في أحد: قدم الراية، تقدم(عليهالسلام) وقال: أنا أبو القصم (ولعل الصحيح: أبو القضم)(٣) .
____________
١- النهاية لابن الأثير (ط المطبعة الحيدرية) ج٣ ص٢٩٣ و (ط مؤسسة إسماعيليان) ج٤ ص٧٨ وبحار الأنوار ج٢٠ ص٦٧ عنه، ومستدرك سفينة البحار ج٨ ص٥٣٨ ولسان العرب ج١٢ ص٤٨٨.
٢- بحار الأنوار ج٣٥ ص٦٠ وج٢٠ ص٥٠ عن تفسير القمي ج١ ص١٠٨ ـ ١١٢ ومناقب آل أبي طالب ج١ ص٥٦ ـ ٥٨ و (ط المكتبة الحيدرية) ج٢ ص٣٠٥.
٣- تاريخ الخميس ج١ ص٤٢٧. وراجع: الغدير ج٧ ص٢٠٥ والبدايـة والنهاية ج٤ ص٢٢ والسيرة النبوية لابن هشام ج٣ ص٥٩٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج٣ ص٣٩ وجواهـر المطالـب لابن الـدمشقي ج٢ ص١١٩ وسبل الهـدى = = والرشاد ج٤ ص١٩٤ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٦ ص١٩ وج١٨ ص٨٢ وج٢٣ ص٥٥٢ وج٣٠ ص١٤٩ و ١٥٠ وج٣٢ ص٣٥٦.
وروي عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: كنت أماشي عمر بن الخطاب، إذ سمعت همهمة، فقلت له: مه يا عمر!!
فقال: ويحك، أما ترى الهزبر، القضم ابن القضم، والضارب بالبهم، الشديد على من طغا وبغا، بالسيفين والراية؟!
فالتفت، فإذا هو علي بن أبي طالب(١) .
لماذا سمي بالقُضَم؟!:
وأما السبب في تسميته (عليهالسلام) بـ "القُضَم"، فقد رواه القمي " رحمهالله "، عن أبيه عن ابن أبي عمير، عن هشام، عن الصادق (عليهالسلام) : أنه سئل عن قول طلحة بن أبي طلحة لما بارزه علي (عليهالسلام) : يا قضم، قال:
إن رسول الله(صلىاللهعليهوآله) كان بمكة لم يجسر عليه أحد لموضع أبي طالب، وأغروا به الصبيان، وكانوا إذا خرج رسول الله يرمونه بالحجارة
____________
١- تفسير القمي ج١ ص١١٤ وبحار الأنوار ج٢٠ ص٥٢ و ٥٣ وج٤١ ص٧٣ وراجع: مناقب آل أبي طالب (ط المكتبة الحيدرية) ج١ ص٣٨٣ وحلية الأبرار ج٢ ص٤٢٧ ومستدرك سفينة البحار ج٥ ص٣٧٠ ومدينة المعاجز ج٢ ص٨١.
والتراب.
وشكى ذلك إلى علي (عليهالسلام) ، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ، إذا خرجت فأخرجني معك.
فخرج رسول الله(صلىاللهعليهوآله) ومعه أمير المؤمنين(عليهالسلام) ، فتعرض الصبيان لرسول اله(صلىاللهعليهوآله) كعادتهم، فحمل عليهم أمير المؤمنين(عليهالسلام) ، وكان يقضمهم في وجوههم، وآنافهم، وآذانهم.
فكان الصبيان يرجعون باكين، ويقولون: قضمنا علي، قضمنا علي، فسمي لذلك القضم(١) .
النبي(صلىاللهعليهوآله) يشكو لعلي(عليهالسلام) لا إلى أبي طالب:
عرفنا: أن النبي(صلىاللهعليهوآله) شكى ما يلقاه من صبيان المشركين إلى علي(عليهالسلام) ، لا إلى أبي طالب، ولا إلى حمزة، ربما لأنه(صلىاللهعليهوآله) لا يريد أن يدخل عليهما أي قدر من الأذى النفسي في أمر ليس باستطاعتهما مواجهته بصورة مباشرة..
يضاف إلى ذلك: أن من المتوقع في هذه الحال ـ لجوء أبي طالب إلى الآباء لمنع الأبناء من أذى النبي(صلىاللهعليهوآله) وهو قد يفسر على أنه
____________
١- تفسير القمي ج١ ص١١٣ وبحار الأنوار ج٢٠ ص٥٢ عنه، وراجع: البرهان ج١ ص٣١١.
تعبير عن الضعف والعجز، وربما يدعوهم ذلك إلى إذكاء هذه الحالة ضد رسول الله(صلىاللهعليهوآله) من جهات مختلفة تخولهم الإعتذار عن التدخل للمساعدة فيها..
بالاضافة إلى أن ذلك قد يعطيهم ذريعة للتمنن على أبي طالب، والظهور بمظهر المحسن والمتفضل، والحال أنهم هم في الحقيقة أساس البلاء، وذلك قد يفسح لهم المجال للتلاعب بأبي طالب، والتذاكي عليه وعلى الهاشميين، والشماتة بهم.
ولو أنه(صلىاللهعليهوآله) شكى لأبي طالب(عليهالسلام) ، وصدر من أبي طالب أمر لعلي(عليهالسلام) ولغيره من أبناء بني هاشم بالمقابلة بالمثل، فإن ذلك سيضع أبا طالب موضع الملوم، بدعوى أنه يتصرف بصورة لا تليق بمقامه، ويأمر بما لا يتوقع من مثله الأمر به.. في حين أن المشركين لا يعترفون بأنهم هم الذين أغروا الصبيان بأذى أحد..
خذني معك:
وكل ما ذكرناه يعطي: أنه لا بد أن يترك القرار الحاسم لأهله، وليس هو إلا علي، ذلك الإنسان الإلهي الذي يراه الناس صغيراً.. وهو الكبير الكبير، الذي لا تستطيع أوهامهم أن تلامس أدنى شوامخه.. وليكن القرار من صبي ـ بنظرهم ـ عرفوا عنه أنه يقرر وينفذ، كل ما يراه حقاً وصواباً، ولا يتراجع ولا يتوقف عن العمل بالحق، حتى لو عارضه فيه الشيوخ والكبار من قومه أو من غيرهم.. فلا يمكنهم اتهام أي كان من الناس بأنه أغرى علياً في أمر لم يدرك علي صوابه من خطأهِ، فبادر إلى ما أغري به..
وهكذا كان.. فقد قال علي(عليهالسلام) لرسول الله(صلىاللهعليهوآله) : خذني معك، ولم يخبر رسول الله(صلىاللهعليهوآله) بتفصيل ما صمم عليه..
ويأخذه(صلىاللهعليهوآله) معه.. ويواجه طغيان الصبيان، فلا يقابلهم بالمثل أي برميهم بالتراب والحجارة، إذ يمكنهم حشد الكثيرين الذين يمكن أن يتوزعوا فرقاً، ثم ليتصدى فريق منهم لعلي(عليهالسلام) ، ويتولى الفريق الآخر إيذاء رسول الله(صلىاللهعليهوآله) بالحجارة والتراب، بل قرر أن يحسم الأمر، وأن يفهم أولئك الصبيان وآباءهم أن ثمرة عملهم هو لحوق الأذى بكل واحد منهم بشخصه، وأن الأمر لن يكون مجرد مراماةٍ بالتراب والحجارة، تصيب أو لا تصيب، أو تؤلم أو لا تؤلم، بل ثمة ألم حقيقي لكل فرد منهم لا نجاة لهم منه، من دون أن يكون لهم قدرة على المقابلة بالمثل.
أبو ذر في ضيافة علي(عليهالسلام) :
ويقولون: إن أبا ذر "رحمهالله " كان رابع أو خامس من أسلم(١) ،
____________
١- دلائل النبوة للبيهقي ج١ ص٤٥٨ والطبقات الكبرى لابن سعد ج٤ قسم١ ص١٦٤ وحلية الأولياء ج١ ص١٥٧ ومستدرك الحاكم ج٣ والإستيعاب (بهامش الإصابة) ج١ ص٣١٣ والإصابة ج٤ ص٦٣ وأسد الغابة ج٥ ص١٨٦ و (ط دار الكتاب العربي) ج١ ص٣٠١ والبداية والنهاية ج٧ ص١٨٥ والغدير ج٨ ص٣٠٨ ـ ٣٠٩ عن بعض من تقدم، وعن شرح الجامع الصغير للمناوي ج٥ ص٤٢٣. والمجموع للنووي ج٢ ص٧٦ وج٤ ص٣٥ وشرح مسلم للنووي ج٢ ص٥١ وعمـدة القـاري ج١ ص٢٠٥ ومستدرك = = سفينة البحار ج٣ ص٤٣٥ وراجع: الإحتجاج ج١ ص٢٣١ وبحار الأنوار ج٢٧ ص٣١٩ وج٣١ ص٢٧٦ والفوائد الرجالية ج٢ ص١٥٢ وتقريب المعارف ص٢٦٨ والدرجات الرفيعة ص٢٢٥ وتذكرة الحفاظ ج١ ص١٧ وسير أعلام النبلاء ج٢ ص٤٦ وشيخ المضيرة أبو هريرة ص٢٢٣ والسيرة الحلبية ج٣ ص١٠٩.
حيث إنه سمع بمبعث النبي(صلىاللهعليهوآله) ، فأرسل أخاه ليستقصي له الخبر، فرجع إليه، ولم يشف له غليلاً.
فذهب إلى مكة بنفسه، فكره أن يسأل عن النبي(صلىاللهعليهوآله) علانية، فاضطجع في ناحية المسجد الحرام، فرآه علي(عليهالسلام) ، فعرف أنه غريب، فدعاه إلى بيته، فاستضافه ثلاثة أيام لا يسأله عن شيء.
ثم سأله أبو ذر عن رسول الله(صلىاللهعليهوآله) فاقترح عليه أمير المؤمنين(عليهالسلام) أن يتبعه أبو ذر، فإن رأى ما يخاف منه عطف كأنه يريد أن يقضي حاجة، أو يصلح نعله..
فأوصله (عليهالسلام) إلى النبي (صلىاللهعليهوآله) وأسلم أبو ذر، فخرج إلى المسجد الحرام، فأعلن إسلامه، فضربوه حتى اضجعوه.
فأتى العباس فأكب عليه، وقال: ويحكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وإنها طريق تجارتكم إلى الشام؟! فتركوه..
وعاد في اليوم التالي فصنع مثلما صنع في اليوم الأول، فخلصه العباس أيضاً(١) .
ونقول:
قد تحدثنا عن بعض ما يرتبط بهذه الحادثة في كتابنا الصحيح من سيرة النبي (صلىاللهعليهوآله) ولذلك فنحن نكتفي هنا بتسجيل ما يلي:
١ـ دلت هذه الرواية على أن الناس قد تأخروا كثيراً في قبول الإسلام، حيث علمنا: أن خديجة وعلياً وجعفراً (عليهمالسلام) كانوا أسبق الناس إلى الإسلام، فإذا كان أبو ذر رابع من أسلم، فذلك يعني أن أحداً لم يدخل
____________
١- هذا ملخص ما في البخاري (ط سنة ١٣٠٩هـ) ج٢ ص٢٠٦ ـ ٢٠٧ و (ط دار الفكر) ج٤ ص٢٤١ والبداية والنهاية ج٣ ص٣٤ و (ط دار إحياء التراث العربي) ج٣ ص٤٦ وحلية الأولياء ج١ ص١٥٩ ومستدرك الحاكم ج٣ ص٣٣٩ والغدير ج٨ ص٣٠٩ ـ ٣١٠ عن بعض من تقدم، وصحيح مسلم ج٧ ص١٥٥ و ١٥٦ والإستيعاب (بهامش الإصابة) ج٤ ص٦٣ و (ط دار الجيل) ج٤ ص١٦٥٢ ـ ١٦٥٣ ودلائل النبوة لأبي نعيم ج٢ ص٨٦ والطبقات الكبرى لابن سعد ج٤ قسم١ ص١٦١ ـ ١٦٢ و ١٦٤ ـ ١٦٥ والإصابة ج٤ ص٦٣ و (ط دار الكتب العلمية) ج٧ ص١٠٦ وعمدة القاري ج١٧ ص٢ والدرجات الرفيعة ص٢٢٨ وأسد الغابة ج٥ ص١٨٧ وإمتاع الأسماع ج٤ ص٣٧٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج١ ص٤٤٧ وسبل الهدى والرشاد ج٢ ص٣١٤ و ٣١٥ والسيرة الحلبية ج١ ص٤٥١ ـ ٤٥٢.
بعد هؤلاء في الإسلام إلى ما بعد سنوات، أي إلى أن طار خبر بعثة النبي(صلىاللهعليهوآله) في البلاد، وبلغ بني غفار الذين كانوا يسكنون قرب المدينة، ثم أرسل أبو ذر أخاه إلى مكة ليستطلع الأمر، ثم عاد إليه، فلم يجد أبو ذر عنده ما يشفي غليله، ثم سافر أبو ذر إلى مكة وبقي أياماً حتى وصل إلى رسول الله(صلىاللهعليهوآله) وأسلم على يديه.
فإن هذا لو فرض أنه قد تواصل واستمر، فهو يحتاج إلى المسير الجاد ذهاباً وإياباً حوالي شهر ونصف.
فإذا أضيف إلى ذلك أن الرواية تذكر ما يدل على أن مجيئ أبي ذر إلى مكة قد حصل حيث كان النبي(صلىاللهعليهوآله) في وضع صعب، وكان الإتصال به يحتاج إلى تخف وتستر، مما يعني أن العداوات كانت قد ظهرت بين المشركين والمسلمين، وهو يدل على أن إسلام أبي ذر قد حصل ربما حين كان النبي في دار الأرقم أو بعد ذلك. وأن أحداً لم يسلم طيلة هذه المدة، لكي يصح أن يكون أبو ذر رابع من أسلم.
ولعل هذا يفسر لنا عدم استجابة أحد لرسول الله(صلىاللهعليهوآله) في حديث:( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) ، حتى حمزة وجعفر (عليهماالسلام ).
وهذا كله يؤذن بوجود فاصل زمني طويل، يمتد إلى ثلاث أو أربع سنوات فيما بين إسلام أبي ذر، وبين تاريخ بعثة الرسول( صلىاللهعليهوآله) .
ويكون إسلامه الذي أعلنه وفق هذه الطريقة، التي تحدثت عنها رواية اسلامه بداية عهد جديد، جرأ الناس على الدخول في هذا الدين، والمباهاة
به، وتحدي المشركين فيه.
فما يدعى من سبق أبي بكر وغيره إلى الإسلام وأنه سبق علياً أو قاربه ليست له أدنى درجة من المقبولية أو المعقولية.
٢ ـ إن سن علي (عليهالسلام) في أول البعثة كان لا يتجاوز العشر سنوات، والمفروض أنه لا يملك لنفسه بيتاً مستقلاً يستضيف به الغرباء، الأمر الذي يعني أنه قد دعا أبا ذر إلى منزل أبيه أبي طالب صلوات الله عليه.. أو فقل إلى المكان المخصص له من قبل رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ، أو من قبل والده العظيم..
وقد اتضح من هذه الحادثة أن تصرفات أمير المؤمنين(عليهالسلام) في صغره كانت ملزمة لوالده، ولم يكن يعترض عليه حتى حين يدعو الغرباء إلى بيته لينزلهم فيه، لا يوماً واحداً وحسب، وإنما ثلاثة أيام.
وهذا التصرف لا يقبل عادة ممن كان في سن علي (عليهالسلام) ، الأمر الذي يشير إلى امتياز ظاهر له على من سواه وعلى مكانته (عليهالسلام) المتميزة لدى أبيه، ومدى ثقته به وبحصافة رأيه، وعلى أنه " رحمهالله " كان يحترم له هذا التصرف النبيل، ويقدر فيه هذا الخلق الجميل.
٣ـ إن عنصر السرية الذي اعتمده (عليهالسلام) في أسلوب إيصال أبي ذر إلى رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ، يدل على دراية وروية، وتبصر وتدبر للأمور.
وقد وثق أبو ذر بهذا الفتى اليافع، ومنحه كل حبه واحترامه.. وأدرك أنه فتى المهمات الصعبة، منذ أن دعاه ليكون في ضيافته ثلاثة أيام، ثم زاد
إكباره له، وهو يقترح عليه هذا الأسلوب الحكيم.. الذي لا يصدر إلا من أعقل العقلاء، ومن أهل التبصر والحكمة، والروية والتدبير.
٤ ـ إن هذا الأسلوب الذي اقترحه(عليهالسلام) من شأنه أن يحفظ أبا ذر، ويحفظ من خلاله الدعوة نفسها من أن تتعرض للأذى وللحصار، من خلال تهديد أمن وسلامة من يسعى للوصول إلى صاحبها للتعرف عليه، والإستفادة منه إيماناً، ومعرفة، ووعياً، وإلتزاماً.
٥ ـ إن عدم سؤال علي(عليهالسلام) أبا ذر عن شأنه مدة ثلاثة أيام.. ربما لكي لا يشعر أبو ذر أن مضيفه قد مل وجوده. كما أنه يريد له أن يأنس في هذا البلد، وتذهب وحشة الغربة عنه، ويرتاح نفسياً كما ارتاح جسدياً.. وليكون من ثم اكثر طمأنينة، وأنفذ بصيرة في بيان حاجته، وأعرف بالمسالك التي توصله إليها. وبالأسباب التي تمكنه من الحصول عليها..
علي(عليهالسلام) يتوسط لزيد بن حارثة:
قال الحلبي الشافعي: "ذكر مقاتل: أن زيد بن حارثة لما أراد أن يتزوج زينب جاء إلى النبي ( صلىاللهعليهوآله) ، وقال: يا رسول الله اخطب عليَّ.
قال له: من؟!
قال: زينب بنت جحش.
قال: لا أراها تفعل. إنها أكرم من ذلك نفساً.
فقال: يا رسول الله، إذا كلمتها أنت، وقلت: زيد أكرم الناس عليَّ، فعلت.
فقال( صلىاللهعليهوآله) : إنها امرأة لسناء.
فذهب زيد "رضي الله تعالى عنه" إلى علي (عليهالسلام) ، فحمله على أن يكلم له النبي ( صلىاللهعليهوآله) .
فانطلق معه إلى النبي(صلىاللهعليهوآله) فكلمه، فقال: إني فاعل ذلك، ومرسلك يا علي إلى أهلها فتكلمهم، ففعل. ثم عاد بكراهتها، وكراهة أخيها ذلك.
فأرسل إليهم النبي(صلىاللهعليهوآله) يقول: قد رضيته لكم، وأقضي أن تُنكحوه. فأنكحوه، وساق لهم عشرة دنانير الخ.."(١) .
ونقول:
أولاً: إن من غير المعقول أن يتحدث النبي الأعظم (صلىاللهعليهوآله) بمنطق الطبقية والاستعلاء على هذا النحو، فإن المعايير التي جاء بها الإسلام، والقرآن، ومنها قوله تعالى: ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) (٢) لا تسمح بهذا، فإن زيداً لم يكن يعاني من أي نقص، أو عيب، لا في نفسه، ولا في دينه، ولا في خلقه، بل هو قد حاز شرف الإنتساب للإسلام، ولرسول الله ( صلىاللهعليهوآله) ، وترك أهله وأباه، ورضي بأن يتبرأ أبوه منه حباً برسول الله ( صلىاللهعليهوآله) ..
ورسول الله(صلىاللهعليهوآله) هو القائل: "إذا جاءكم من ترضون
____________
١- السيرة الحلبية ج٣ ص٣٢٠.
٢- الآية ١٣ من سورة الحجرات.
دينه وخلقه فزوجوه، وإلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير"(١) .
وقرر: أن معيار الكفاءة في النكاح هو الإسلام والإيمان.
ثانياً: إن هذا يعارض ما رووه، من أنها أرسلت إلى النبي (صلىاللهعليهوآله) تستشيره في أمر زواجها. بعد أن خطبها عدة أشخاص من صحابته ( صلىاللهعليهوآله) .
فقال ( صلىاللهعليهوآله) : أين هي ممن يعلمها كتاب ربها، وسنة نبيها؟! (٢) .
ثالثاً: إذا كان النبي(صلىاللهعليهوآله) يريد لها أن تتزوج بمن تختاره، ويعلم أنها لا تختار زيداً، وكان ذلك هو سبب امتناعه عن تلبية طلب زيد بأن يخطبها له، فلماذا أقدم على إرسال علي(عليهالسلام) إليها، ليطلبها لزيد بالذات؟! فإنه لم يتغير شيء من ذلك قبل توسط علي(عليهالسلام) وبعده.
____________
١- الدر المنثور ج١ ص٢٥٧ والثقات ج٥ ص٤٩٩ وتهذيب الكمال ج٩ ص٣٥٥ وكنز العمال ج١٦ ص٣١٨ وإعانة الطالبين ج٣ ص٣٠٨ وسبل الهدى والرشاد ج٩ ص٤٧ وأحكام القرآن للجصاص ج١ ص٤٨٧ وج٣ ص٤١٣ وإيضاح الفوائد ج٣ ص٢٣ والمعجم الأوسط ج١ ص١٤٢ وغوالي اللآلي ج٣ ص٣٤٠ ونيل الأوطار ج٦ ص٣٦١ والمجموع ج١٦ ص١٨٣ ـ ١٨٨.
٢- مجمع الزوائد ج٩ ص٢٤٦ والمعجم الكبير ج٢٤ ص٣٩ وسنن الدارقطني ج٣ ص٢٠٨ والدر المنثور ج٥ ص٢٠٨ وتاريخ مدينة دمشق ج٥٠ ص٢٣١.
وإن كان يريد فرض الزواج عليها بزيد، فلماذا أرجعه خائباً في المرة الأولى، ثم استجاب له بعد توسط علي(عليهالسلام) ؟!
تحطيم الأصنام قبل الهجرة:
عن علي(عليهالسلام) ، قال: دعاني رسول الله( صلىاللهعليهوآله) ، وهو بمنزل خديجة(عليهاالسلام) ذات ليلة، فلما صرت إليه قال: اتبعني يا علي..
فما زال يمشي وأنا وراءه، ونحن نخترق بيوت مكة حتى أتينا الكعبة، وقد أنام الله كل عين، فقال لي رسول الله( صلىاللهعليهوآله) : يا علي.
قلت: لبيك يا رسول الله.
قال: إصعد يا علي فوق كتفي، وكسّر الأصنام.
قلت: بل أنت يا رسول الله، إصعد فوق كتفي.
قال: بل أنت إصعد يا علي.
ثم انحنى( صلىاللهعليهوآله) ، فصعدت على كتفه، فأقبلت (ولعل الصحيح: فقلبت) الأصنام على رؤوسها، ونزلت، وخرجنا من الكعبة شرفها الله تعالى، حتى أتينا منزل خديجة(عليهالسلام) ، فقال لي: يا علي، إنه أول من كسّر الأصنام جدك إبراهيم(عليهالسلام) ، ثم أنت يا علي آخر من كسّر الأصنام.
قال: فلما أصبحوا أهل مكة، وجدوا الأصنام منكسة، مقلوبة على رؤوسها، فقالوا: ما فعل هذا بآلهتنا إلا محمد، وابن عمه.
ثم لم يقم بعدها في الكعبة صنم(١) .
____________
١- إحقاق الحق (الملحقات) ج٨ ص٦٨٩ عن ابن حسنويه في درر بحر المناقب، وليراجع ص٦٨٠ ـ ٦٨٧ عن مصادر كثيرة، وتاريخ بغداد (ط القاهرة) ج١٣ ص٣٠٢ وفرائد السمطين ج١ ص٢٤٩ و ٢٥٠ ونظم درر السمطين ص١٢٥ ومسند أحمد ج١ ص٨٤ وموضح أوهام الجمع والتفريق ج٢ ص٤٣٢ وكنز العمال ج١٥ ص١٥١ والمناقب لابن المغازلي ص٢٠٢ و ٤٢٩ وترجمة الإمام علي "عليهالسلام " من تاريخ دمشق (بتحقيق المحمودي) ج١ ص٣٢٧ وبحار الأنوار ج٣٨ ص٧٦ وجمع الفوائد ج٢ ص٢٦ وتذكرة الخواص ج١ ص٢٤٧ وراجع هامشه، فقد أشار إلى مصادر كثيرة.
وراجع: سبل الهدى والرشاد ج٥ ص٢٣٦ عن ابن أبي شيبة، والحاكم، وتاريخ الخميس ج٢ ص٨٦ عن الطبراني، وأحمد، والترمذي، والصالحاني، والتبصرة لابن الجوزي ص٤٤٢ ومناقب الأخيار ص٣ ومستدرك الحاكم ج٣ ص٥ وج٢ ص٣٦٦ و ٣٦٧ وتلخيص المستدرك بهامشه، والمصنف لابن أبي شيبة ج١٤ ص٤٨٨ والسيرة الحلبية ج٣ ص٨٦ عن خصائص العشرة للزمخشري وبدايع الأمثال ص١٤٨ وينابيع المودة ص١٣٩ و ٤٢٠ والمناقب للخوارزمي ص٧١ و ٧٣ وخصائص الإمام علي "عليهالسلام " للنسائي (ط التقدم بمصر) ص٢٢٥ و ٣١ وصفة الصفوة ج١ ص١١٩ ومجمع الزوائد ج٦ ص٢٣ و ٢٤ عن أبي يعلى والبزار، ومفتاح النجا ص٢٧ وذخائر العقبى (ط مكتبة القدس) ص٨٥ ومنتخب كنز العمال ج٥ ص٥٤ وتفريح الأحباب ص٣١٦ وبذل القوة للسندي الحنفي ص٢٢٤ وغالية المواعظ ج٢ ص٨٨.