الصحيح من سيرة الإمام علي(عليه السلام)(المرتضى من سيرة المرتضى) الجزء ٤

الصحيح من سيرة الإمام علي(عليه السلام)(المرتضى من سيرة المرتضى)16%

الصحيح من سيرة الإمام علي(عليه السلام)(المرتضى من سيرة المرتضى) مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 342

  • البداية
  • السابق
  • 342 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 19348 / تحميل: 7254
الحجم الحجم الحجم
الصحيح من سيرة الإمام علي(عليه السلام)(المرتضى من سيرة المرتضى)

الصحيح من سيرة الإمام علي(عليه السلام)(المرتضى من سيرة المرتضى) الجزء ٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

بن حارثة غير صحيح.

الغطرسة القرشية، والحكمة المحمدية:

وعن علي (عليه‌السلام ) قال: "فقدمت قريش، فأقامت على الخندق محاصرة لنا، ترى في أنفسها القوة وفينا الضعف، ترعد وتبرق، ورسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يدعوها إلى الله عز وجل، ويناشدها بالقرابة والرحم، فتأبى، ولا يزيدها ذلك إلا عتواً"(١) .

ونقول:

ليس غريباً على قريش هذا العتو، وهذه الغطرسة، ما دامت تقيس الأمور بمقاييس مادية، وترى القوة في أنفسها، والضعف في المسلمين، الذين جاءت لاستئصالهم، وإبادة خضرائهم، ولكن هذا العتو وتلك الغطرسة سرعان ما تلاشت، ليحل محلها الضعف والخنوع، والخيبة القاتلة، كما سنرى.

وليس غريباً أيضاً: أن نجد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ومن موقع الشعور بالمسؤولية يعتمد الأسلوب الإنساني، ويستثير العاطفة الناشئة عن صلات القربى ولحمة النسب، والتي تكون لها هيمنة حقيقية على الإنسان، ولا بد أن تجتاح لمعاتها وهزاتها الجامحة كل كيانه، وكل وجوده. ثم هو

____________

١- الخصال ج٢ ص٦٨ باب السبعة، و (ط مركز النشر الإسلامي) ص٣٦٨ وبحار الأنوار ج٢٠ ص٢٤٤ وج٣٨ ص١٧٠ ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج٣ ص١٢٥ وحلية الأبرار ج٢ ص٣٦٣ وغاية المرام ج٤ ص٣١٩.

٢١

(صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يقرن ذلك بالدعوة إلى الله عز وجل، الذي هو مصدر الخير والقوة والبركات.

وحين لا تستجيب لداعي الرحم، ولا لداعي الله، وتصرّ على الإستجابة للهوى وللشيطان، فلا يبقى خيار سوى التصدي لها، وإسقاط هذا العنفوان الرديء والرذل، وتمريغ أنفها برغام الذلة والخزي والهوان.. وهكذا كان.

حراسة العسكر:

قال القمي: "كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أمر أصحابه أن يحرسوا المدينة بالليل، وكان أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) على العسكر كله بالليل يحرسهم، فإن تحرك أحد من قريش نابذهم.

وكان أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) يجوز الخندق، ويصير إلى قرب قريش حيث يراهم، فلا يزال الليل كله قائماً وحده يصلي، فإذا أصبح رجع إلى مركزه..

ومسجد أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) هناك معروف، يأتيه من يعرفه، فيصلي فيه، وهو من مسجد الفتح إلى العقيق أكثر من غلوة نشابة(١) "(٢) .

____________

١- غلوة نشاب: أي مقدار رمية سهم.

٢- راجع: تفسير القمي ج٢ ص١٨٦ وبحار الأنوار ج٢٠ ص٢٣٠ ومستدرك الوسائل ج١٠ ص٢٠٠ وجامع أحاديث الشيعة ج١٢ ص٢٧٤ والصافي ج٤ ص١٧٨ وج٦ ص٢٨ ونور الثقلين ج٤ ص٢٥٤.

٢٢

ونقول:

إن لنا مع هذا النص وقفات هي التالية:

ضرورة الحراسة:

إن من البديهيات ضرورة الحذر من العدو المحارب، وحرمانه من فرصة تسديد ضربات هنا وهناك، من شأنها إرباك الجيش الإسلامي، أو إحداث ثغرات خطيرة فيه، وإلحاق الأذى بمعنوياته، وبثقته بقدارته، وطمأنينته إلى حسن تدبير القائمين على الأمور فيه.

ولم يكن يتولى الحراسة في حرب الخندق أشخاص عاديون، بل كان يتولاها قائد الجيش كله، وحامل لوائه وأميره الذي لم يكن فقط قادراً على اتخاذ القرار المناسب، ثم يأمر وينهى، بل كان يقرر ثم يباشر التنفيذ بنفسه، ثم هو في نفس الوقت لا يترك الفرصة تمر، ولا يمنح العدو أية قدرة على إتخاذ أي قرار آخر سوى الفرار، أو مواجهة الموت المحتم..

وكان لا بد لهذه الحراسة من أن تتواصل لتستغرق الزمان كله، لأن ذلك يعطي العدو الفرصة السانحة، ويجعل من الغفلة العارضة أو المنظمة منفذاً وسبباً لتضييع الجهد، وحمل النصر للعدو.

ولذلك كان لا بد من مواصلة الحراسة في الليل كله، لأن الليل هو وقت الهجعة اللذيذة، والغفلة القاهرة، لا سيما بعد أن يأخذ الملل والتعب مأخذهما.

والليل أيضاً هو الذي يمنح العدو الغطاء والوقاء، ويمكنه من تسديد ضرباته وفق ما يحلو له، وفي المكان الذي يختاره.

٢٣

من أجل ذلك نقول:

إنها لا بد أن تكون حراسة غير خاضعة لحدود الزمان والمكان، فلا تستقر في نقاط بعينها، لأنها في هذه الحال تمنح العدو فرصة التخطيط لإختراقها، أو لتحاشيها..

كما أن إطلاقها هذا يضيع على العدو الإحساس بالأمن، في أي من حالاته، ويجعله يتوقع المفاجآت، فيشغله ذلك بالعمل على تحاشيها، والإهتمام بحفظ نفسه قبل أن يفكر بأي تحرك خارج هذا النطاق، حيث لا بد أن يتوقع أن يفاجأ بدوريات الحراسة في كل إتجاه..

رصد العدو قتالياً:

كما أن المهمة التي اضطلع بها علي (عليه‌السلام ) لم تقف عند حدود الحراسة، بل تعدت ذلك إلى الرصد الدقيق لتحركات العدو..

ولم يكن ذلك مجرد رصد يهتم بنقل مشاهداته إلى القيادة لكي تتخذ هي القرار، بل هو الذي يرصد، ثم يقرر، ثم يباشر التنفيذ..

والذي يتولى الرصد ليس إنساناً عادياً، بل هو قائد الجيش كله، الذي لن يجد معلومات أصح مما يحصل هو بنفسه عليه، ويراه بعينيه، ويسمعه بأذنيه.. ولن يحسن أحد تنفيذ ما يريده، ويرسم خطته أكثر منه، ولا يحتاج في المستجدات إلى انتظار القرار من أحد.. وهو أيضاً رصد دائم ومتواصل.

وكان الموضع الذي يستقر فيه لممارسة مهمته، موقعاً متقدماً جداً، قد لا يجرؤ على الوصول إليه أحد سواه.. وإن بلغه أحد، فلن يجرؤ على الإستقرار فيه طوال الليل.

٢٤

مسجد في موضع صلاة علي (عليه‌السلام ):

وقد بقي المسجد في ذلك المكان الذي كان علي (عليه‌السلام ) يرصد ويصلي فيه طوال الليل ـ بقي ذلك الشاهد الصادق على هذه التضحيات الجسام من أمير المؤمنين (عليه‌السلام )، وقد صمد هذا المسجد عشرات أو مئات الأعوام.

ولكن هل تركته الفئة الوهابية، أم هدمته متذرعة بأعذار واهية، لممارساتها المتواصلة لمحو آثار الإسلام، حيث هدمت قبور أهل البيت، وأزالت المساجد، ومحت الآثار الدالة على جهاد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وجهاد وصيه، والشاهدة على تضحيات الأخيار من أصحابه، والصفوة من أهل بيته؟!

وإذا كان لا يزال باقياً، فهل سيستمر بمرأى ومسمع منهم، ولا سيما إذا علموا أن لعلي (عليه‌السلام ) أي أثر فيه؟!

الراصد المصلي:

ويواجهنا هنا سؤال يقول:

ذكروا: أن علياً (عليه‌السلام ) أصاب رجله في غزوة أحد سهم صعب، فأمر (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بإخراجه منها حين اشتغال علي (عليه‌السلام ) بالصلاة، فأخرجوه من رجله، فقال بعد فراغه من الصلاة: إنه لم يلتفت لما جرى(١) .

____________

١- إحقاق الحق (الملحقات) ج٨ ص٦٠٢ عن المناقب المرتضوية الكشفي الحنفي ص٣٦٤.

٢٥

وفي نص آخر: كانوا إذا أرادوا إخراج الحديد والنشاب من جسده الشريف تركوه حتى يصلي، فإذا اشتغل بالصلاة، وأقبل على الله تعالى أخرجوا الحديد من جسده ولم يحسّ، فإذا فرغ من صلاته يرى ذلك، فيقول لولده الحسن (عليه‌السلام ): إن هي إلا فعلتك يا حسن(١) .

وفي نص ثالث: أن الزهراء "عليها‌السلام " هي التي أشارت عليهم بذلك(٢) .

وفي نص آخر: أن ذلك كان في حرب صفين، وأنهم أخرجوه حال سجوده(٣) .

ولا مانع من أن تتكرر الواقعة، فإنه (عليه‌السلام ) قد خاض حروباً كثيرة، لعلها تعد بالعشرات، ولم يكن يجرؤ أحد على الإقتراب منه، فكان رشقه بالسهام هي الطريقة الممكنة لإلحاق الأذى به (عليه‌السلام )..

فلنا بعد هذا أن نسأل: كيف يمكن رصد حركة العدو من قبل من هو مشغول بالصلاة، إذا كان هذا هو حال الراصد في صلاته؟!

ونجيب:

أولاً: بأن الله تعالى قد أجاب عن ذلك في آية قرآنية مباركة، هي قوله

____________

١- إرشاد القلوب ص٢١٧ وحلية الأبرار ج٢ ص١٧٩.

٢- المحجة البيضاء ج١ ص٣٩٧ و ٣٩٨ وجامع السعادات ج٣ ص٢٦٣.

٣- الحدائق الناضرة ج٧ هامش ص٢٤٢ وأسرار الشهادة (ط سنة ١٣١٩هـ) ص٢٥٥.

٢٦

تعالى:( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (١) .

وقد جعل الله تبارك وتعالى حديث التصدق بالخاتم في حال الركوع مبرراً للإعلان عن أخطر منصب، وأجلّ مقام، يرتبط بمستقبل ومصير البشرية بأسرها، لا في جيل بعينه، وإنما في الأجيال المتعاقبة كلها إلى يوم القيامة..

مع أن هذا التصدق إنما حصل من نفس هذا الذي استخرجت السهام من جسده وهو يصلي، ولم يشعر بذلك..

ثانياً: إن هذا التصدق لا يتنافى مع تلك الصلاة، فإنهما معاً من سنخ واحد، فهما عيش مع الله، وتفكير بما يرضيه، فهو لم يفكر في الدنيا، ولا اهتم لزبارجها وبهارجها.. بل انصرف إلى عبادة الله..

ثالثاً: بل هو (عليه‌السلام ) قد مارسهما معاً في آن واحد، ومن الممكن توضيح ذلك بالإشارة إلى أن من يشرف على الجنة، فإنه يرى أشجارها، وأنهارها، وحورها، وقصورها بنظرة واحدة.

كما أن من يعيش في واحات الرضى والقرب الإلهي، فإنه يشعر ويحس ويرى، ويتفاعل مع كل ما تحويه تلك الواحات، فهو يسبح الله، ويبكي خوفاً منه، ويفرح بكونه في مقام الزلفى، ويرجو أن يحصل على المزيد من منازل الكرامة في آن واحد أيضاً.

____________

١- الآية ٥٥ من سورة المائدة.

٢٧

وهذا بالذات هو ما جرى حين التصدق بالخاتم في الصلاة، وكذلك حين كان (عليه‌السلام ) يصلي ويرصد حركة أعداء الله..

رابعاً: حتى لو أردنا أن نضع هذا الأمر في سياق الحسابات المفرطة في ماديتها، فنسلخها عن أبعادها الإيمانية، العميقة، فإن الناس العاديين قد يتمكنون من فعل ذلك، فإذا كان الراصد يصلي ركعتين مثلاً، ثم يجري معاينة للمحيط الذي يرصده، فإن رأى أنه لم يتغير شيء عاد إلى صلاته.. فإن التحرك المؤثر للعدو، يستغرق أكثر مما تستغرقه صلاة ركعة أو ركعتين، لأن الهدوء في الليل يفضح الأصوات، لمن يكون قريباً من مصدرها، مهما حاول من تصدر عنه أن يتستر عليها، وتحتاج لكي تختفي في ذلك الزمان الذي كان يعتمد في تحركاته الوسائل المغرقة في بدائيتها إلى المزيد من الوقت، حال الإنتقال من مكان إلى مكان.

فكيف إذا كانت تلك التحركات في مكان لا يتحاشى العدو وفيها من أحداث الأصوات، لأنه يظن نفسه بعيداً عن مواقع الرصد من الطرف الآخر..

٢٨

الفصل الثاني :

عمرو في المواجهة.. نصوص.. وآثار

٢٩

٣٠

علي (عليه‌السلام ) يسد طريق الهرب:

وذُكر أنه لما عبر عمرو بن عبد ود ومن معه الخندق أمر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) علياً (عليه‌السلام )، بأن يمضي بمن خف معه ليأخذ الثغرة عليهم، وقال: "فمن قاتلكم عليها فاقتلوه"(١) .

فخرج (عليه‌السلام ) في نفر من المسلمين حتى أخذ الثغرة، وسلمها إليهم، فوقف عمرو، وطلب البراز(٢) .

____________

١- شرح الأخبار ج١ ص٢٩٤.

٢- راجع المصادر التالية: مناقب آل أبي طالب ج١ ص١٩٨ والإرشاد للمفيد ص٥٢ و (ط دار المفيد) ج١ ص٩٨ وكشف الغمة للأربلي ج١ ص٢٠٧ و ٢٠٣ والكامل في التاريخ ج٢ ص١٨١ وتاريخ الأمم والملوك ج٢ ص٢٣٩ ومجمع البيان ج٨ ص٣٤٢ وبحار الأنوار ج٢٠ ص٢٥٣ وتاريخ الخميس ج١ ص٤٨٧ وعيون الأثر ج٢ ص٦١ والسيرة النبوية لابن هشام ج٣ ص٢٣٥ و (ط مكتبة محمد علي صبيح وأولاده) ج٣ ص٧٠٨ وتهذيب سيرة ابن هشام ص١٩٣ ودلائل النبوة للبيهقي ج٣ ص٤٣٧ والبدء والتاريخ ج٤ ص٢١٨ وبهجة المحافل ج١ ص٢٦٦ والإكتفاء للكلاعي ج٢ ص١٦٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج٣ ص٢٠٢ وتاريخ= = الإسلام للذهبي (المغازي) ص٢٣٩ و (ط دار الكتاب العربي) ص٢٩٠ وإعلام الورى (ط دار المعرفة) ص١٠٠ و (ط مؤسسة آل البيت) ج١ ص١٩٢ وشرح الأخبار ج١ ص٢٩٤ والدرر لابن عبد البر ص١٧٤ والجامع لأحكام القرآن ج١٤ ص١٣٤ وقصص الأنبياء للراوندي ص٣٤٢ وسبل الهدى والرشاد ج٤ ص٣٧٨ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج١٨ ص١٠٨ عن مختصر سيرة الرسول لابن عبد الوهاب الحنبلي الوهابي (ط المطبعة السلفية في القاهرة) ص ٢٨٥.

٣١

وقد وصف علي (عليه‌السلام ) قريشاً: "..وفارسها وفارس العرب عمرو بن ود يهدر كالبعير المغتلم..

إلى أن قال: والعرب لا تعد لها فارساً غيره"(١) .

مبارزة علي (عليه‌السلام ) لعمرو:

ونذكر هنا طائفة من النصوص التي تصف ما جرى بين علي وعمرو بن عبد ود ومن معه. وقد آثرنا أن نستعيرها من كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله )(٢) ، فنقول:

____________

١- الخصال ج٢ ص٣٦٨ و (ط مركز النشر الإسلامي) ص٣٦٨ وبحار الأنوار ج٢٠ ص٢٤٤ وج٣٨ ص١٧٠ والإختصاص ص١٦٧ وشرح الأخبار ج١ ص٢٨٧ ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج٣ ص١٢٦ وحلية الأبرار ج٢ ص٣٦٣ وغاية المرام ج٤ ص٣١٩.

٢- راجع: الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) (الطبعة الخامسة) ج١١ ص١٢٠ ـ ١٣٦.

٣٢

ذكروا: أن عمرو بن عبد ود جعل يدعو للبراز وكان قد أعلم(١) ، لكي يرى مكانه.. وهو يعِّرض بالمسلمين.

فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) على ما في الروايات: من لهذا الكلب؟!

فلم يقم إليه أحد.

فلما أكثر، قام علي (عليه‌السلام )، فقال: أنا أبارزه يا رسول الله، فأمره بالجلوس، انتظاراً منه ليتحرك غيره.

وأعاد عمرو النداء والناس سكوت كأن على رؤوسهم الطير، لمكان عمرو، والخوف منه وممن معه، ومن وراءه.

فقال عمرو: أيها الناس، إنكم تزعمون: أن قتلاكم في الجنة، وقتلانا في النار؟ أفما يحب أحدكم أن يقدم على الجنة، أو يقدم عدواً له إلى النار؟.

فلم يقم إليه أحد.

فقام علي (عليه‌السلام ) مرة أخرى، فقال: أنا له يا رسول الله، فأمره بالجلوس.

فجال عمرو بفرسه مقبلاً مدبراً. وجاءت عظماء الأحزاب، ووقفت من وراء الخندق، ومدت أعناقها تنظر، فلما رأى عمرو: أن أحداً لا يجيبه قال:

ولقد بححت من النداء

بجمعهم هل من مبارز

____________

١- أعلم: أي ميز نفسه بعلامة، لكي يراه الأقران، وهو يدلل على شجاعته، وأنه غير هائب من أحد.

٣٣

طووقـفــت مـذ جبـن المـشجـع

مـوقــف القــرن المـنـاجـز

إنـي كذلــــك لــــم أزل

متســرعاً قـبــل الهـزاهـــز

إن الـشــجاعــة فــي الفـتى

والجـود مـــن خــيـــر الغرائز

فقام علي (عليه‌السلام )، فقال: يا رسول الله، ائذن لي في مبارزته.

فلما طال نداء عمرو بالبراز، وتتابع قيام أمير المؤمنين (عليه‌السلام )، قال له رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): ادن مني يا علي.

فدنا منه، فقلده سيفه (ذا الفقار)، ونزع عمامته من رأسه، وعممه بها، وقال: امض لشأنك.

فلما انصرف، قال: اللهم أعنه عليه(١) .

____________

١- راجع المصادر التالية: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج١٩ ص٦٣ و ٦٤ والإرشاد للمفيد ص٥٩ و ٦٠ وعيون الأثر ج٢ ص٦١ و (ط مؤسسة عز الدين ـ بيروت) ج٢ ص٣٩ وإعلام الورى ص١٩٤ و ١٩٥ والمغازي للواقدي ج٢ ص٤٧٠ و ٤٧١ وحبيب السير ج١ ص٣٦١ وراجع: مناقب آل أبي طالب ج٣ ص١٣٥ وبحار الأنوار ج٣٩ ص٤ و ٥ وج٤١ ص٨٨ و ٨٩ وج٢٠ ص٢٢٥ ـ ٢٢٨ و ٢٠٣ و ٢٠٥ و ٢٥٤ ـ ٢٥٦ وتفسير القمي ج٢ ص١٨١ ـ ١٨٥ وكشف الغمة ج١ ص٢٠٤ والسيرة النبوية لدحلان ج٢ ص٦ و ٧ والسيرة الحلبية ج٢ ص٣١٩ و (ط دار المعرفة) ج٢ ص٦٤١ وشجرة طوبى ج٢ ص٢٨٧ ـ ٢٨٨ والطبقات الكبرى لابن سعد ج٢ ص٦٨ و إمتاع الأسماع ج١ ص٢٣٦ وأعيان الشيعة ج١ ص٢٦٤ وسبل الهدى والرشاد ج٤ ص٣٧٧.

٣٤

ولكن ابن شهرآشوب قال: إن عمرواً جعل يقول: هل من مبارز؟! والمسلمون يتجاوزون عنه.

فركز رمحه على خيمة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وقال: ابرز يا محمد.

فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): من يقوم إلى مبارزته فله الإمامة بعدي؟!

فنكل الناس عنه.

إلى أن قال: روي: أنه لما قتل عمرو أنشد علي (عليه‌السلام ):

ضربتـه بـالسيف فوق الهـامـة

بـضربة صارمـــة هــدامــة

أنـا علي صاحب الصمصــامة

وصـاحب الحوض لدى القيامة

أخـو رسول الله ذي العـلامــة

وقال إذ عـمـمـنـي عـمامــة

أنـت الـذي بـعـدي لـه الإمامة(١)

والمفارقة هنا أن علياً هو الذي يقتل عمرواً الذي نكل عنه أبو بكر الذي طلب الإمامة واستأثر بها لنفسه بالقوة والقهر..

وعن حذيفة قال: فألبسه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) درعه ذات الفضول، وأعطاه سيفه ذا الفقار، وعممه بعمامته السحاب على رأسه تسعة أكوار، ثم قال: تقدم.

فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لما ولى: اللهم احفظه من بين يديه،

____________

١- مناقب آل أبي طالب ج٣ ص١٣٥ و (ط المكتبة الحيدرية) ج٢ ص٣٢٤ وبحار الأنوار ج٤١ ص٨٨.

٣٥

ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، ومن فوق رأسه، ومن تحت قدميه(١) .

ويضيف البعض: "أنه رفع عمامته، ورفع يديه إلى السماء بمحضر من أصحابه، وقال: اللهم إنك أخذت مني عبيدة بن الحرث يوم بدر، وحمزة بن عبد المطلب يوم أحد، وهذا أخي علي بن أبي طالب.( رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ) (٢) "(٣) .

____________

١- مجمع البيان ج٨ ص٣٤٣ و (ط مؤسسة الأعلمي) ج٣ ص١٣٢ وبحار الأنوار ج٢٠ ص٢٠٣ و ٢٢٦ وشواهد التنزيل (ط سنة ١٤١١ هـ.ق) ج٢ ص١١ وينابيع المودة ص٩٥ و (ط دار الأسوة) ج١ ص٢٨٤ وشرح الأخبار ج١ ص٣٢٣ وشجرة طوبى ج٢ ص٢٨٨ وتفسير القمي ج٢ ص١٨٣ وجوامع الجامع ج٣ ص٥٢ والصافي ج٤ ص١٧٦ وج٦ ص٢٦ ونور الثقلين ج٤ ص٢٥١ وتأويل الآيات ج٢ ص٤٥١ وغاية المرام ج٤ ص٢٧٤ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٢٠ ص٦٢٥ وج٣١ ص٢٣٤.

٢- الآية ٨٩ من سورة الأنبياء.

٣- راجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج١٩ ص٦١ وج ١٣ ص٢٨٣ و ٢٨٤ وكنز الفوائد (ط دار الأضواء) ج١ ص٢٩٧ و (ط مكتبة المصطفوي ـ قم) ص١٣٧ والسيرة النبوية لدحلان ج٢ ص٦ وتاريخ الخميس ج١ ص٤٨٧ والسيرة الحلبية ج٢ ص٣١٩ وبحار الأنوار ج٢٠ ص٢١٥ وج٣٨ ص٣٠٠ و ٣٠٩ وج٣٩ ص٣ وكنز العمال ج١٢ ص٢١٩ وج١٠ ص٢٩٠ و (ط مؤسسة الرسالة) ج١١ ص٦٢٣ ومناقب آل أبي طالب ج٢ ص٢٢١ و (ط المكتبة الحيدرية) ج٢ ص٦٢ = = ومستدركات علم رجال الحديث ج٥ ص٢٠٠ ومناقب علي بن أبي طالب لابن مردويه ص١٥٢ وفضائل أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) لابن عقدة ص٧٩ والمناقب للخوارزمي ص١٤٤ وكشف الغمة ج١ ص٣٠٠ وتأويل الآيات ج١ ص٣٢٩ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٧ ص٤٤ وج١٧ ص١١٢ وج٢٠ ص٦٢٤ و ٦٢٦ وج٢٣ ص٦٤٨ وج٣١ ص٣٩٤.

٣٦

وتصور لنا رواية عن علي (عليه‌السلام ) الحالة حين عبور الفرسان الخندق، فهو يقول: "وفارسها وفارس العرب يومئذٍ عمرو بن عبد ود، يهدر كالبعير المغتلم، يدعو إلى البراز، ويرتجز، ويخطر برمحه مرة، وبسيفه مرة، لا يقدم عليه مقدم، ولا يطمع فيه طامع، فأنهضني إليه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وعممني بيده، وأعطاني سيفه هذا ـ وضرب بيده إلى ذي الفقار ـ فخرجت إليه ونساء أهل المدينة بواك إشفاقاً عليَّ من ابن عبد ود، فقتله الله عز وجل بيدي، والعرب لا تعد لها فارساً غيره"(١) .

ونحن نشك في الفقرة التي تذكر أن نساء المدينة بواك على علي (عليه‌السلام ) حين خرج إلى عمرو.. فإن نساء المدينة لم يحضرن إلى ذلك المكان، إلا إن كان المقصود كل النساء اللواتي حضرن مع أزواجهن كما هو عادة كثير منهم.

____________

١- راجع: الخصال ج٢ ص٣٦٨ و (ط مركز النشر الإسلامي) ص٣٦٨ وبحار الأنوار ج٢٠ ص٢٤٤ وج٣٨ ص١٧٠ والإختصاص ص١٦٦ و ١٦٧ وشرح الأخبار ج١ ص٢٨٧ ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج٣ ص١٢٦ وحلية الأبرار ج٢ ص٣٦٣ وغاية المرام ج٤ ص٣١٩.

٣٧

ويذكر البعض: أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): "أدناه، وقبله، وعممه بعمامته، وخرج معه خطوات كالمودع له، القلق لحاله، المنتظر لما يكون منه. ثم لم يزل (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) رافعاً يديه إلى السماء، مستقبلاً لها بوجهه، والمسلمون صموت حوله، كأن على رؤوسهم الطير الخ.."(١) .

برز الإسلام كله إلى الشرك كله:

وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) حينئذٍ: برز الإسلام أو الإيمان كله، إلى الشرك كله(٢) .

فخرج له علي (عليه‌السلام ) وهو راجل، وعمرو فارساً، فسخر به

____________

١- شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج١٣ ص٢٨٥ والعثمانية للجاحظ ص٣٣٢ وغاية المرام ج٤ ص٢٧٢ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٢٠ ص٦٢٦.

٢- راجع: كشف الغمة ج١ ص٢٠٥ وإعلام الورى ص١٩٤ ومناقب آل أبي طالب ج٣ ص١٣٦ وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج١٣ ص٢٦١ و ٢٨٥ وج١٩ ص٦١ والطرائف لابن طاووس ص٣٥ و ٦٠ وكنز الفوائد (ط دار الأضواء) ج١ ص٢٩٧ و (ط مكتبة المصطفوي ـ قم) ص١٣٧ ومجمع البيان ج٨ ص٣٤٣ وبحار الأنوار ج٢٠ ص٢١٥ و ٢٧٣ وج٣٩ ص٣ ونهج الحق ص٢١٧ وشجرة طوبى ج٢ ص٢٨٨ والعثمانية للجاحظ ص٣٢٤ و ٣٣٣ وتأويل الآيات ج٢ ص٤٥١ وينابيع المودة ج١ ص٢٨١ و ٢٨٤ وغاية المرام ج٤ ص٢٧٤ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٦ ص٩ وج١٦ ص٤٠٤ وج٢٠ ص١٤٠ و ٦٢٥ وج٣١ ص٢٣٤.

٣٨

عمرو، ودنا منه علي(١) ، ومعه جابر بن عبد الله الأنصاري "رحمه‌الله "، لينظر ما يكون منه ومن عمرو(٢) .

وفي بعض الروايات: أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قال لأصحابه: أيكم يبرز إلى عمرو وأضمن له على الله الجنة؟! والجنة اعظم خطرا من السلطة، ومن المناصب الدنيوية والأموال وكل ما في الدنيا ولكنهم زهدوا بها.

فلم يجبه منهم أحد هيبة لعمرو، واستعظاماً لأمره. فقام علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) ثلاث مرات، والنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يأمره بالجلوس(٣) .

وحسب نص ابن إسحاق، وغيره من المؤرخين: خرج عمرو بن عبد ود، وهو مقنع بالحديد، فنادى: من يبارز؟!

فقام علي بن أبي طالب، فقال أنا (له) يا نبي الله.

____________

١- إمتاع الأسماع ج١ ص٢٣٢ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٨ ص٣٧١.

٢- راجع: الإرشاد للمفيد ص٥٩ و ٦٠ و (ط دار المفيد) ج١ ص١٠٠ و ١٠١ وحبيب السير ج١ ص٣٦١ وكشف الغمة ج١ ص٢٠٣ وإعلام الورى ص١٩٤ و (ط مؤسسة آل البيت) ج١ ص٣٨١ والدر النظيم ص١٦٤ والمستجاد من الإرشاد (المجموعة) ص٧٠ وبحار الأنوار ج٢٠ ص٢٥٥ وأعيان الشيعة ج١ ص٢٦٤ و ٣٩٥.

٣- كنز الفوائد (ط دار الأضواء) ج١ ص٢٩٧ و (ط مكتبة المصطفوي ـ قم) ص١٣٧ وبحار الأنوار ج٢٠ ص٢١٥.

٣٩

فقال: إنه عمرو، إجلس.

ثم نادى عمرو: ألا رجل يبرز؟! فجعل يؤنبهم، ويقول: أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها؟! أفلا تُبرزون إليَّ رجلاً؟!

فقام علي، فقال: أنا يا رسول الله.

فقال: إجلس.

ثم نادى الثالثة، فقال:

ولـقـد بـحـحــت مـن الـنــداء (... إلى آخر الأبيات)

قال: فقام علي (عليه‌السلام )، فقال: يا رسول الله، أنا له.

فقال: إنه عمرو.

فقال: وإن كان عمرواً.

فأذن له رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فمشى إليه حتى أتاه وهو يقول:

لا تـعـجـلن فـقـد أتــاك

مجـيــب صـوتـك غير عـاجز

ذو نـيـــة وبـصــيـــرة

والـصـدق مـنـجــا كـل فـائز

عـلـيــك نـائـحـة الجـنـائز

عـلـيــك نـائـحـة الجـنـائز

مـن ضـربـة نـجـلاء يـبقى

ذكــرهــا عـنــد الهــزاهـز

وفي الديوان المنسوب لعلي (عليه‌السلام ) بيتان آخران هما:

ولـقــد دعــوت إلى الـبـراز

فـتـى يجـيـب إلــى المـبـارز

يـعـلـيـك أبـيـض صـارماً

كـالمـلـح حـتـفـاً لـلـمبارز

فقال له عمرو: من أنت؟!

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

المقالة هم جمهور النصارى من الملكانية واليعقوبية، والنسطورية والمقصود أنّه أحد الثلاثة: الأب والإبن وروح القدس أي أنّه ينطبق على كل واحد من الثلاثة وهذا لازم قولهم: إنّ الأب إله، والإبن إله، والروح إله، وهو ثلاثة وهو واحد، ويمثّلون لذلك بقولهم: إنّ زيد بن عمرو إنسان فهناك اُمور ثلاثة هي زيد، وابن عمرو والإنسان، وهناك أمر واحد وهو المنعوت بهذه النعوت.

ويلاحط عليه: أنّ هذه الكثرة إن كانت حقيقية غير اعتبارية أوجبت الكثرة في المنعوت حقيقة، وإنّ المنعوت إن كان واحداً حقيقة أوجب ذلك أن تكون الكثرة إعتباريّة غير حقيقيّة، فالجمع بين هذه الكثرة العددية والوحدة العددية كما في المثال بحسب الحقيقة ممّا يستنكف العقل عن تعقله.

ولأجل ذلك التجأ دعاة النصارى في الآونة الأخيرة إلى القول بأنّ مسألة التثليث من المسائل المأثورة من مذاهب الأسلاف وهي لا تخضع للموازين العلميّة(١) .

وقد ردّ الذكر الحكيم على ذلك بقوله:( وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إلّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ) ببيان أنّ الله سبحانه لا يقبل بذاته المتعالية، الكثرة بوجه من الوجوه، فهو تعالى ذاته واحد وإذا اتّصف بصفاته الكريمة وأسمائه الحسنى لم يزد ذلك على ذاته الواحدة شيئاً، ولا الصفة إذا اُضيفت إليها أورثت كثرة وتعدّداً، فهو تعالى أحديّ الذات لا ينقسم لا في خارج ولا في وهم ولا في عقل.

ويستفاد من قوله:( وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) بحكم الإتيان بلفظ ( منهم ) المشعرة بالتبعيض ـ، أنّ هناك طائفة لا يعتقدون بالتثليث ولا يقولون في المسيح إلّا إنّه عبد الله ورسوله كما عليه مسيحيّة الحبشة بعضهم أو جلّهم.

__________________

(١) الميزان: ج ٤ ص ٧٠.

٢٤١

مشكلة الجمع بين التوحيد والتثليث:

إنّ المسيحيّين يعتبرون أنفسهم موّحدين وإنّهم من المقتفين أثر التوحيد الذي جاءت به جميع الشرائع السماوية، ومن جانب آخر يعتقدون بالتثليث اعتقاداً جازماً، وهذان لا يجتمعان إلّا أن يكون أحد الوصفين حقيقيّاً والآخر مجازيّاً ولكنّهم ياللأسف يقولون بكونهما معاً حقيقيين، ولأجل ذلك أصبحت عندهم: ١ = ٣ وهو محال ببداهة العقل.

والقرآن الكريم ينسب التثليث إلى أقوام آخرين كانوا قبل المسيح والمسيحيّة وهؤلاء إنّما اتّبعوا اُولئك، ولعلّ الثالوث الهندي هو الأصل حيث يعتقدون بأنّ الإله الواحد له مظاهر ثلاثة: « برهما »: « الموجد »، و « فيشفو »: « الحافظ »، و « سيفا »: « المميت » فقد دان بتلك العقيدة المسيحيّون بعد رفع المسيح آماداً متطاولة، ولـمـّا جاء المتأخّرون منهم ورأوا أنّ الوحدة الحقيقية لا تخضع للكثرة كذلك حاولوا أن يصحّحوه بوجهين:

الأوّل: تفكيك المسائل الدينية عن المسائل العلميّة وأنّ الدين فوق العلم وأن مسألة ١ = ٣ وإن كانت باطلة حسب القوانين الرياضية المسلّمة ولكن الدين قبلها ونحن نعتقد بها. ولكنّه عذر أقبح من ذنب فكيف نعتنق ديناً يتصادم مع أوضح الواضحات وأبده البديهيّات.

الثاني: إنّ المعادلة الرياضية السابقة ليست باطلة وذلك لوجود نظائرها في الخارج، فإنّ الشمس بها جرم ولها نور ولها حرارة ومع ذلك فهي شيء واحد.

وهذا الإستدلال يكشف عن جهل مطبق بحقيقة الوحدة المعتبرة في حقه سبحانه فإنّ المقصود منها في حقّه هو الوحدة الحقيقية التي لا كثرة فيها لا خارجاً ولا ذهناً ولا وهماً وأين هو من وحدة الشمس التي هي وحدة إعتبارية لا حقيقية حيث تتركّب من جرم ونور وحرارة وكل منها ينقسم إلى انقسامات.

وعلى كلّ تقدير فماذا يريدون من قولهم ( إنّه إِله واحد ) وفي الوقت نفسه

٢٤٢

ثلاثة، فهل يريدون أنّ هناك أفراداً متميّزة ومتشخّصة من الإله الصادق هو عليهم صدق الكلي على الأفراد ؟

أو يريدون أنّ هناك فرداً واحداً ذا أجزاء وليس لكل واحد منها إستقلال ولا تشخّص وإنّما يتشكّل الإله من تلك الأجزاء ؟

فالفرض الأوّل يستلزم تعدّد الإله تعدّداً حقيقيّاً وهو لا يجتمع مع التوحيد بحال من الحالات.

والفرض الثاني لا يخلو إمّا أن يكون كل واحد من هذه الأجزاء واجبة الوجود أو ممكنة، فعلى الأوّل يلزم منه كثرة الإله ( واجب الوجود ) وهم يدّعون الفرار منه.

وعلى الثاني يلزم أن يكون واجب الوجود محتاجاً في تحقّقه وتشخّصه إلى أجزاء ممكنة وهو كما ترى.

ولأجل ذلك نرى أنّ الذكر الحكيم ينادي ببطلان التثليث بأيّ نحو يمكن أنّ يتصوّر بقوله:( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إلّا الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَىٰ بِاللهِ وَكِيلاً ) ( النساء / ١٧١ ).

إنّ الآية تركّز على أنّ نسبة الإلوهيّة إلى المسيح من آثار الغلوّ في حقّه فلو تنزّه القوم عن هذا التمادي الفكريّ المفرط لوقفوا على سمة المثالية فيه ونفوا عنه مقام الإلوهية.

والآية تصف المسيح بالصّفات الخمس:

١ ـ عيسى بن مريم ٢ ـ رسول الله ٣ ـ كلمته ٤ ـ ألقاها إلى مريم ٥ ـ روح منه. إنّ بعض هذه الصفات المسلّمة في حق المسيح تشهد بعبوديّته وتنفي الوهيّته وإليك مزيد من التوضيح حولها:

٢٤٣

١ ـ عيسى بن مريم: وقد ورد في الذكر الحكيم ذكره عشر مرّات وبنوّته لمريم التي لا تنفك عن كونه جنيناً رضيعاً في المهد صبيّاً يافعاً و لدليل واضح على بشريّته.

٢ ـ رسول الله: ومعناه مبعوثه ومرسله وليس نفسه.

٣ ـ كلمة الله: وقد أطلق القرآن لفظ الكلمة على المسيح كما أطلقه على جميع الموجودات الإمكانية وقال:( قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ) ( الكهف / ١٠٩ ).

وأمّا إطلاق الكلمة على الموجودات الإمكانية لأجل وجود التشابه بين الكلمة والموجود الإمكاني فإنّ الكلمة تكشف عمّا يقوم في ذهن المتكلّم من المعاني فهكذا الموجودات الإمكانية عامّة، وخلقة المسيح على وجه الإعجاز خاصّة تكشف هي الاُخرى عن علم وقدرة وسيعين وكمال لا متناه يكمن في ذاته سبحانه ولأجل ذلك يعد القرآن المسيح وجميع العوالم الإمكانية كلمات الله سبحانه.

٤ ـ ألقاها إلى مريم: إنّ الإلقاء إلى رحم الاُم آية كونه مخلوقاً وقد ذكر تفصيله في سورة مريم، الآية ١٦ إلى ٣٦ واختتمها بقوله:( ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ) ( مريم / ٣٤ ).

٥ ـ وروح منه: إنّ هذا التعبير ربّما وقع دليلاً على تطرّف فكرة الاُلوهيّة في حق المسيح وهم يتخيّلون أنّ ( منه ) تبعيضية ولكنّها إبتدائية مثل قوله سبحانه:( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ) ( الجاثية / ١٣ ) والمعنى أنّ السموات وما في الأرض جميعاً ناشئ منه وحاصل من عنده، ومبتدأ منه، فذوات الأشياء تبتدئ منه بإيجاده لها من غير مثال سابق وكذلك خواصّها وآثارها. قال تعالى:( اللهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) ( الروم / ١١ ).

أضف إلى ذلك أنّ ذلك التعبير لا يفوق في حقّ آدم حيث قال:( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) ( الحجر / ٢٩ ).

٢٤٤

فقد وصف آدمعليه‌السلام بلفظة « من روحي » ولم يقل أحد بأنّه جزء من الإله.

ثمّ إنّه سبحانه ختم تلك الصفات بقوله:( فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ) .

سمات العبودية في المسيح:

إنّ الذكر الحكيم يستدل على عبوديته بوجوه ثلاثة:

١ ـ كيفيّة خلق المسيح واُمّه.

٢ ـ طبيعة عيشهما في المجتمع.

٣ ـ تصريح المسيح بعبوديّته.

هذه هي الوجوه التي يستدلّ بها القرآن الكريم على عبوديّته، أمّا الأوّل فقد بسط الذكر الحكيم في تناولها في سورة مريم كما مرّ وهذه الآيات تلقي الضوء على كيفيّة خلقه إلى أن توّج بالرسالة، فيقول سبحانه:

( فَأَجَاءَهَا المَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا ) إلى أن يقول:( ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ) .

ولو تمّسك الخصم على عدم بشريته بأنّه ولد من غير أب فهو محجوج بخلقة آدم فقد خلق من غير اُمٍّ ووالد، قال سبحانه:( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( آل عمران / ٥٩ ).

وأمّا الثاني فيلمح إليه ما ورد بأنّ المسيح واُمّه كانا يعيشان شأنهما كشأن سائر بني آدم ولا يحيدان عنها قيد شعرة، قال سبحانه:( مَّا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ

٢٤٥

الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ) ( المائدة / ٧٥ ) فمن الممتنع أن يكون آكل الطعام إله العالمين.

وأمّا الثالث فيشير إليه قوله سبحانه:( لَّن يَسْتَنكِفَ المَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا للهِ وَلا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ) ( النساء / ١٧٢ ).

وليس بوسع إنسان أن ينكر عبادة المسيح وهي آية وجود المعبود له وهناك كلمة قيّمة للإمام الطاهر عليّ بن موسى الرضا في مناظرته مع الجاثليق، قال الإمام: يا نصراني والله إنّا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمّد وما ننقم على عيسى شيئاً إلّا ضعفه وقلّة صيامه وصلاته.

قال الجاثليق: أفسدت والله علمك وضعفت أمرك وما كنت أظن إلّا أنّك أعلم أهل الإسلام.

قال الرضا: وكيف ذلك ؟

قال الجاثليق: من قولك إنّ عيسى كان ضعيفاً قليل الصيام والصلاة وما أفطر عيسى يوم قطّ وما نام بليل قطّ وما زال صائم الدهر قائم الليل.

قال الرضا: فلمن كان يصوم ويصلّي ؟

فخرس الجاثليق وانقطع(١) الحديث.

إنّ الذكر الحكيم يصرّح بأنّ المسيح سوف يعترف يوم البعث بعبوديته على رؤوس الأشهاد وانّه لم يأمر قطّ الناس بعبادة نفسه:

( وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( المائدة / ١١٦ ).

__________________

(١) الاحتجاج: ج ٢ ص ٢٠٣ و ٢٠٤.

٢٤٦

وقال عزّ اسمه حاكياً عنه:( مَا قُلْتُ لَهُمْ إلّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( المائدة / ١١٧ ).

ج ـ المسيح ابن الله:

قد طرأت أزمة حادّة على خط التوحيد من قبل المشركين واليهود والنّصارى بزعم وجود الابن أو البنت لله سبحانه، فتارة جعلوا بينه وبين الجِنَّة نسباً، واُخرى اتّهموه بأنّه اتّخذ من الملائكة إناثاً، وثالثة نسبوا إليه الولد بصورة مطلقة، وقد جاء الجميع في الذكر الحكيم مشفوعاً بالردّ والنقض:

١ ـ الجن:( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَبًا ) ( الصافّات / ١٥٨ ).

وأمّا ما هذا النسب، فيحتمل أن يكون المراد نسب البنوّة والاُبوّة ولأجل ذلك كان جماعة من العرب يعبدون الجن، كما ورد في قوله سبحانه:( قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ ) ( سبأ / ٤١ ).

٢ ـ الملائكة:( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ المَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا ) ( الإسراء / ٤٠ ) ولأجل ذلك كان جماعة أيضاً من العرب تعبد الملائكة، وبما أنّهم كانوا يتخيّلون الملائكة على أنّهم خلقوا بصور جذّابة جميلة خالوا إنّهم اُناثاً قال سبحانه:( وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا ) ( الزخرف / ١٩ ).

٣ ـ المسيح: وقد اشتهر النصارى بأنّهم جعلوا « المسيح » إبناً لله تعالى، وهذه الفكرة الخاطئة وإن لم تكن منحصرة فيهم، بل كان لليهود أيضاً مثل تلك الفكرة في حقّ « عزير » لكن النصارى أكثر، اشتهاراً بهذه النسبة، غير نافين عن أنفسهم هذا العار، واليهود يؤوّلون الفكرة بأنّه ولد فخري لا حقيقي.

والقرآن الكريم يندّد بتلك الفكرة في غير واحد من الآيات مشيراً إلى براهين

٢٤٧

عقلية محتاجة إلى التوضيح، وإليك نقل الآيات مع توضيح مضامينها:

١ ـ البقرة / ١١٦ ـ ١١٧:

( وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ *بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) .

تريك هذه الآية كيف أنّهم نسبوا إلى الله ولداً من غير فرق بين أن يكون الناسب يهوديّاً أو مسيحيّاً، ولكنّ الآيتين تتضمّنان ردّاً لهذه النسبة، يستفاد من الإمعان في الجمل التالية:

١ ـ سبحانه. ٢ ـ بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون.

٣ ـ بديع السموات والأرض. ٤ ـ وإذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون.

وإليك شرح هذه الجمل التي يعد كل واحد منها بمثابة ردّ ونقض للفكرة الخاطئة المصرّحة بالبنوّة لله عزّ وجلّ.

أ ـ « سبحانه »: وهذه الكلمة تفيد تنزيه الله سبحانه من كل نقص وعيب وشائنة، ولأجل ذلك يأتي هذا اللفظ في آية اُخرى بعد بيان تلك النسبة الخاطئة، قال تعالى:( قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) ( يونس / ٦٨ ).

واللفظة تفيد أنّ اتّخاذ الولد نقص وعيب على الله تعالى، يجب تنزيهه عنه، وذلك لأنّ اتّخاذ الولد إمّا لغاية إشباع الغريزة الجنسية أو لأجل الإستعانة من الولد أيّام الهرم والكهولة، أو لأجل إبقاء النسل وإدامته التي تعد نوع بسط وجود للشخصية، والكل غير لائق بساحته سبحانه.

ويمكن أن يكون اللفظ مشيراً إلى أمر آخر وهو أنّ اتّخاذ الابن فرع التوالد والتناسل وهو من شؤون الموجودات المادية حيث ينتقل جزءً من الأب إلى رحم الاُم فتتّحد نطفة الأب مع البويضة في رحم الاُمّ فتخصّبها فينتج عن ذلك نشأة الجنين والله سبحانه أعلى وأجل وأنبل عن أن يكون جسماً أو جسمانيّاً.

٢٤٨

ب ـ( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) :

إنّ هذه الجملة مشعرة ببرهان دامغ وهو أنّ كل ما في الكون قانت لله وخاضع لسلطته ومسخّر ومقهور له ومن هذا شأنه لا يتصوّر أن يكون له ولد وذلك لأنّ الولد يكون مماثلاً للوالد، فكما هو واجب الوجود يكون الولد مشاطراً له في ذلك، وما هو كذلك لا يمكن أن يكون مقهوراً ومسخّراً لموجود من الموجودات.

ج ـ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) :

أي انّه سبحانه خالق مبدع لهما وما فيهما والمراد من الإبداع هو خلقهما بلا مثال سابق ولا مادّة متقدّمة، فيكون المجموع مسبوقاً بالعدم، وما هو كذلك كيف يمكن أن يكون ولداً لله سبحانه ؟ لما عرفت من أنّ الولد يماثل الوالد في الالوهيّة ووجوب الوجود، وهو لا يجتمع مع كون السموات والأرض وما فيهما مخلوقاً حادثاً مسبوقاً بالعدم.

د ـ( وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) :

وهذه الآية تفيد أنّ سنّة الله تبارك وتعالى في الإيجاد والإنشاء والخلق، وأنّه لو أراد إيجاد شيء فإنّه يوجد بلا تريّث أو تلبّث، ولكنّ الولد إنّما يتكوّن من إلتقاء النطفتين في رحم الاُم ثمّ يتكامل تدريجيّاً على إمتداد أمد بعيد وهذا لا يجتمع مع ما مرّ ذكره في السنّة الحكيمة.

ثمّ إنّ العلّامة الطباطبائي جعل الجمل الثلاث مشيرة إلى برهانين ( لا إلى ثلاثة براهين كما أوضحناه ) فقال:

إنّ قوله:( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ) يشتمل على برهانين ينفي كلّ منهما الولادة وتحقّق الولد منه سبحانه، فإنّ اتّخاذ الولد هو أن يجزي موجود طبيعي، بعض أجزاء وجوده ويفصله عن نفسه فيصيّره بتربية تدريجية فرداً من نوعه مماثلاً لنفسه، وهو سبحانه منزّه عن المثل بل كل شيء ممّا في السموات والأرض مملوك له قائم الذات به قانت ذليل عنده ذلّة وجودية فكيف يكون شيء من الأشياء ولداً له

٢٤٩

مماثلاً نوعيّاً بالنسبة إليه ؟ وهو سبحانه بديع السموات والأرض، إنّما يخلق ما يخلق على غير مثال سابق فلا يشبه شيء من خلقه خلقاً سابقاً ولا يشبه فعله فعل غيره في التقليد والتشبيه ولا في التدريج والتوّصل بالأسباب إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون من غير مثال سابق ولا تدريج، فكيف يمكن أن ينسب إليه اتّخاذ الولد ؟ وتحقّقه يحتاج إلى تربية وتدريج فقوله:( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) برهان تام، وقوله:( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) برهان آخر تام(١) .

٢ ـ الأنعام / ١٠٠ ـ ١٠٢:

( وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الأنعام / ١٠٠ ).

( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( الأنعام / ١٠١ ).

( ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ خَالِقُ كُلَّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) ( الأنعام / ١٠٢ ).

وفي هذه الآيات إشارات إلى بطلان النظرية القائلة بكون الجن شركاء لله سبحانه وخرق بنين وبنات له بغير علم، وإليك بيانها:

أ ـ( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ ) : وقد مرّ توضيح تلك الجملة في القسم الأوّل من الآيات.

ب ـ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) : وقد تقدّم معناه أيضاً.

ج ـ( أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ ) : وهذه الجملة تشير إلى أنّ إتّخاذ الإبن يستلزم اتّخاذ الزوجة حتى يقع جزء من الزوج في رحم الزوجة والله

__________________

(١) الميزان: ج ١ ص ٢٦١.

٢٥٠

سبحانه منزّه، عن أن تكون له زوجة.

د ـ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) : فإذا كان هو خالق كل شيء، والكل مخلوق له فلا يتصوّر كون المخلوق ولداً، لأنّ الولد يشاطر الوالد في الطبيعة والنوعيّة فإذا كان سبحانه واجب الوجود لاستغنى عن العلّة والخالق ولترفّع عن حيز الإمكان، والمفروض خلافه.

٣ ـ يونس / ٦٨:

( قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَٰذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) .

وهذه الآية تشتمل على مثل ما اشتملت عليه الآيات السابقة وإليك تفصيل جملها.

أ ـ( سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) : وقد عرفت أنّ إتّخاذ الولد إمّا لغاية إشباع الغريزة الجنسية أو لاستعانة به في أيّام الكهولة أو لبسط نفوذ الشخصية، والله غني عن الجميع.

ب ـ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ) : وفيه إشارة إلى أنّ كل ما في الكون مقهور ومسخّر فكيف يكون شيء منه ولداً له مع لزوم المماثلة بين الولد والوالد.

ج ـ( إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَٰذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) : وهو إشارة اُخرى إلى أنّه إنّما تبنّوا هذه الفكرة تقليداً بلا علم وبرهان، وقد تقدّم في الآيات السابقة ( بغير علم سبحانه ).

٤ ـ الكهف / ٤ و ٥:

( وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا *مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إلّا كَذِبًا ) .

٢٥١

وفي هذه الآية إكتفاء ببرهان واحد وهو أنّ القوم يتفوّهون بذلك بلا علم لهم ولا لآبائهم.

٥ ـ مريم / ٣٥:

( مَا كَانَ للهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) وفي الآية إشارة إلى برهانين أحدهما قوله( سُبْحَانَهُ ) والثاني( إِذَا قَضَىٰ ) ، وقد مرّ تفسيرهما فلا نعيد.

٦ ـ مريم / ٨٨ ـ ٩٥:

( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا ) .

( لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ) .

( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدًّا ) .

( أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا ) .

( وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا ) .

( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إلّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا ) .

( لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ) .

( وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ) .

وقد ركّزت الآيات على برهانين:

أحدهما قولهُ:( وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا ) وهذه الجملة واقعة مكان لفظة( سُبْحَانَهُ ) في الآيات السابقة.

وثانيهما: قوله:( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إلّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا ) وهو يفيد نفس ما يفيده قوله:( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) في الآيات السابقة والمعنى بعد التطبيق واضح ومحصّله أنّ من في الكون عبد

٢٥٢

مسخّر لله سبحانه، وهو لا يجتمع مع كون واحد منهم ولداً له، لأنّه يقتضي المماثلة والمشاركة في الوجوب والإستغناء عن العلّة مع أنّ المفروض كونه ممكناً.

٧ ـ الأنبياء / ٢٦ و ٢٧:

( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ) .

( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) .

فلفظة( سُبْحَانَهُ ) مشيرة إلى أنّ اتّخاذ الولد ملازم للنقص والعيب وهو سبحانه منزّه عنه.

وقوله:( بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ) إشارة إلى ما مرّ من أنّ العبودية لا تجتمع مع البنوّة لأنّ مقتضى البنوّة، المشاركة والمسانخة مع الوالد في الطبيعة، والمفروض وجوب وجود الوالد فيكون الولد واجباً وهو محال.

٨ ـ المؤمنون / ٩١:

( مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ ) .

والآية تشير إلى أنّ اتّخاذ الولد ينافي التوحيد والوحدانية لأنّ الولد يجب أن يكون مماثلاً للوالد على نحو ما مرّ ذكره وعندئذ يكون إلهاً مثله، والمفروض أنّه ليس معه إله.

٩ ـ الزمر / ٤:

( لَّوْ أَرَادَ اللهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَّصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) .

وفي الآية إشارة إلى دحض تلك العقيدة المنحرفة باُمور ثلاثة:

أ ـ( سُبْحَانَهُ ) .

٢٥٣

ب ـ( الْوَاحِدُ ) .

ج ـ( الْقَهَّارُ ) .

أمّا الأوّل: فدلالته على نفي البنوّة مثل الآيات السابقة.

وأمّا الثاني: أعني كونه واحداً، فهو يدلّ على نفي البنوّة لأنّ اتّخاذ الإبن يستلزم المماثلة بين الأب والولد، فيلزم تعدّد الإله وواجب الوجود.

وأمّا الثالث: أعني كونه قهّاراً وغيره مقهوراً عليه فدلالته مثل دلالة قوله:( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إلّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا ) وقوله:( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) وقوله:( بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ) وذلك لأنّ اتّخاذ الإبن يستلزم أن يكون له مماثل من ذاته لأنّ الولد يماثل الوالد في النوعية والطبيعة فيلزم أن يكون الولد واجب الوجود، والمفروض أنّه مقهور ومسخّر لله سبحانه.

وأنت إذا قارنت هذه الآيات بعضها ببعض لوقفت على أنّ الجميع في المادة والمعنى وكيفيّة الإستدلال مصبوب في قالب واحد بينها كمال الإئتلاف والتناسب، والعبارات الواردة في المقام وإن كانت مختلفة المواضع ولكنّ المؤدّى والمعنى واحد، وتلك الآيات نزلت على النبيّ في ظروف مختلفة وأجواء متباينة والنبيّ لم يزل بين كونه منهمكاً في الحرب وهادئ البال في الصلح والسلم ومع ذلك يتكلّم على نسق واحد مع كونه أمّيّاً لم يقرأ قطّ ولم يكتب. صدق الله العليّ العظيم حيث قال:( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) ( النساء / ٨٢ ).

قسمة ضيزي:

ومن عجائب اُمورهم أنّهم اتّخذوا لأنفسهم البنين ونسبوا إلى الله عزّ وجلّ الإناث من الملائكة، قال سبحانه:( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ المَلائِكَةِ إِنَاثًا ) ( الإسراء / ٤٠ ).

٢٥٤

وقال تعالى:( أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ ) ( الزخرف / ١٦ ).

وقال تعالى:( أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَىٰ *تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ ) ( النجم / ٢١ ـ ٢٢ ).

ثمّ إنّه سبحانه أبطل ادّعاءهم بكون الملائكة إناثاً وقال:( وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ) ( الزخرف / ١٩ ) فكيف يدّعون ما لم يشهدوه ؟!

إلى هنا تمّ حوار القرآن مع اليهود والنّصارى في اتّخاذه سبحانه ولداً من الإنس والجنّ والملائكة، وقوّة البرهان القرآني وإتقانه وتعاضد بعضه بعضاً يدلّ على أنّه وحي إلهي نزل به الروح الأمين على قلبه، وأنّى للإنسان الغارق في الحياة البدائيّة أن يأتي بمثل ذلك لولا كونه مسدّداً بالوحي، مؤيّداً بالمدد الغيبي منه سبحانه.

وإليك بقية المناظرات الواردة في القرآن الكريم.

اليهود ونقض المواثيق والعهود

حطّ النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله رحاله بالمدينة، والتفّ حوله الأوس والخزرج، ففشى أمر الإسلام وشاع خبره وذكره بين الناس والقبائل القاطنة بأطراف المدينة، وكان ذلك بمثابة جرس إنذار لليهود ينبئ عن إقتراب اُفول شوكتهم في المدينة وما والاها بل في شبه الجزيرة العربية برمّتها.

وكانت اليهود في سابق عهدها تفتخر على سائر الاُمم بأنّها تقتفي أثر التوحيد وأنّ لهم كتاباً سماويّاً يجمع بين دفّتيه الأحكام الإلهية، ولكنّ تلك المفخرة أوشكت أن تذهب أدراج الرياح بدعوة النبيّ الأكرم الناس كافّة إلى التوحيد الأصيل ونزول القرآن عليه، فما كانت لهم بعد إذ ذاك ميزة يمتازون بها على العرب.

وكانت اليهود لفرط حبّهم للدنيّا وزبرجها تمكّنوا من السيطرة على مقاليد أزّمة

٢٥٥

إدارة التجارة، وكان وجود الشّقة السحيقة بين الأوس والخزرج، والنزاعات القبلية بينهما، خير معين للإنفراد بإدارة دفّة القوافل التجارية، غير أنّ تلك الأرضية التي فسحت لهم المجال لتسلّم زمام التجارة فيما مضىٰ كادت تنعدم بالاُخوّة الإسلامية التي جاء بها الإسلام، فصار المتصارعان متصافيين متآخيين متآلفين في مقابل اليهود وأطماعهم.

كلّ ذلك صار سبباً لتحفيز اليهود لإثارة الشبهات حول رسالة الرسول الأكرم وبثّ السموم وتشوية معالم الرسالة الجديدة ليضعضعوا أركان الإيمان الفتي في قلوب المؤمنين بالإسلام، وقد غاب عن خلدهم أنّ سنّة الله الحكيمة تتكفّل بنصر رسله. قال سبحانه:

( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ) ( غافر / ٥١ ).

وإليك نماذج من أسئلتهم وشبهاتهم التي أثاروها حول الرسالة النبويّة:

١ ـ إفشاء علائم النبوّة:

إنّ أوّل خطوة خطوها لأجل إيقاف مدّ الصحوة الدينية والإيمان برسالة النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله هو إصدار مرسوم يقضي بكتمان علائم نبوّته التي وردت في التوراة حتى لا تقع للمسلمين ذريعة يتمسّكون بها ضدّهم في عزوفهم عن قبول الدعوة، وهذا ما يحكي عنه الذكر الحكيم بقوله:

١ ـ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( البقرة / ٧٦ ).

وروي عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال: كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتواطئين إذا لقوا المسلمين حدّثوهم بما في التوراة من صفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فنهاهم كبراؤهم عن ذلك وقالوا: لاتخبروهم بما

٢٥٦

في التوراة من صفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فيحاجّوكم به عند ربّكم(١) .

وردّ سبحانه عليهم بقوله:( أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ) ( البقرة / ٧٧ ) فالله سبحانه يحتجّ بكتابهم عليهم سواء تفوّهوا بسمات النبيّ الأكرم المذكورة في التوراة أم لم يتفوّهوا بها على الرّغم من أنّهم كانوا يستفتحون ويستنصرون على الأوس والخزرج برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل مبعثه فلمّا بعثه الله من بين العرب ولم يكن من بني إسرائيل، كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء ابن معرور: يا معشر اليهود اتّقوا الله واسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمّد ونحن أهل الشرك، وتصفونه وتذكرون أنّه مبعوث، فقال سلام بن مثكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنّا نذكر لكم، فأنزل الله تعالى قوله:

( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) ( البقرة / ٨٩ ).

٢ ـ السؤال عن الروح الأمين:

إنّ نفراً من أحبار اليهود جاءوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا: يا محمداً أخبرنا عن أربع نسألك عنهنّ، فإن فعلت ذلك اتّبعناك وصدّقناك وآمنّا بك، فقال لهم رسول الله: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه لئن أنا أخبرتكم بذلك لتصدّقنّني ؟ قالوا: نعم، قال: فسألوا عمّا بدا لكم وممّا سألوا عنه نوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا: كيف نومك ؟ فقال: تنام عيني وقلبي يقظان. قالوا: فأخبرنا عمّا حرّم إسرائيل على نفسه ؟ قال: حرّم على نفسه لحوم الإبل وألبانها، فصدّقوه في الإجابة عن هذاين السؤالين، ثمّ قالوا له: فأخبرنا عن الروح ،

__________________

(١) مجمع البيان: ج ١ ص ٢٨٦ ( طبع بيروت ).

٢٥٧

قال: أنشدكم بالله وبأيّامه عند بني إسرائيل هل تعلمونه جبرئيل وهو الذي يأتيني ؟ قالوا: أللّهم نعم، ولكنّه يا محمد لنا عدوّ وهو ملك إنّما يأتي بالشدّة وسفك الدماء ولولا ذلك لاتّبعناك، فأنزل الله عزّ وجلّ فيهم:( قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ *مَن كَانَ عَدُوًّا للهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ) ( البقرة / ٩٧ و ٩٨ )(١) .

وما ذكرنا من شأن النزول يؤيّد ما ذكرناه سابقاً من أنّ المقصود من الروح في قوله سبحانه:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ) ( الإسراء / ٨٥ ) هو الروح الأمين لا الروح الإنسانية، وأنّ ما اُثير حولها في التفاسير المختلفة مبني على تفسير الروح بالروح الإنسانية وهو غير صحيح.

وعلى أيّ تقدير فنصب العداء لجبرئيل نصب للعداء له سبحانه، لأنّ جبرئيل مأمور من جانبه ومبلّغ عنه هو وجميع الملائكة:( لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) ( التحريم / ٦ ).

٣ ـ إنكار نبوّة سليمانعليه‌السلام :

إنّ رسول الله لـمّا ذكر سليمان بن داود في المرسلين، قال بعض أحبارهم: ألا تعجبون من محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله يزعم أنّ سليمان بن داود كان نبيّاً، والله ما كان إلّا ساحراً، فأنزل الله تعالى في ذلك:( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) ( البقرة / ١٠٢ )(٢) .

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٥٤٣. مجمع البيان: ج ٢ ص ٣٢٤ ( طبع بيروت ).

(٢) السيرة النبوية: ج ١ ص ٥٤٠. مجمع البيان: ج ٢ ص ٣٣٦ ( طبع بيروت ).

٢٥٨

٤ ـ كتابه إلى يهود خيبر:

كتب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى يهود خيبر بكتاب جاء فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله صاحب موسى وأخيه والمصدّق لما جاء به موسى على أنّ الله قد قال لكم يا معشر أهل التوراة، وأنّكم لتجدون ذلك في كتابكم:( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) .

وإنّي انشدكم بالله، وانشدكم بما أنزل عليكم وانشدكم بالذي أطعم من كان قبلكم من أسباطكم المنّ والسلوى، وانشدكم بالذي أيبس البحر لآبائكم حتى أنجاهم من فرعون وعمله إلّا أخبرتموني: هل تجدون فيما أنزل الله عليكم أن تؤمنوا بمحمّد ؟ فإن كنتم لا تجدوني ذلك في كتابكم فلا كره عليكم( قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) فادعوكم إلى الله وإلى نبيّه(١) .

٥ ـ إنكار أخذ الميثاق منهم:

إنّ أحد أحبار اليهود قال لرسول الله: يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل الله عليك من آية بيّنة فنتّبعك لها، وقد كانوا ينكرون العهد الذي أخذه الأنبياء عليهم أن يؤمنوا بالنبيّ الاُمّي، فأنزل الله سبحانه في ردّهم:( وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إلّا الْفَاسِقُونَ *أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ( البقرة / ٩٩ و ١٠٠ ).

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٥٤٤ ـ ٥٤٥.

٢٥٩

ولفظة « كلّما » تفيد التكرّر فيقتضي تكرّر النقض منهم(١) .

٦ ـ الإقتراحات التعجيزيّة:

وقد كان اليهود قد تقدّموا بإقتراحات تعجيزيّة على غرار ما بدر من المشركين فقد سألت العرب محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأتيهم بالله فيروه جهرة، فنزل قوله سبحانه:( أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ) ( البقرة / ١٠٨ ).

وقال رافع بن حريملة لرسول الله: يا محمد إن كنت رسولاً من الله كما تقول فقل لله فيكلّمنا حتى نسمع كلامه، فنزل قوله سبحانه:( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (٢) .

٧ ـ تنازع اليهود والنصارى عند الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

لـمـّا قدم أهل نجران من النصارى على رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أتتهم أحبار اليهود فتنازعوا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال رافع بن حريملة: ما أنتم على شيء، وكفر بعيسىٰ وبالإنجيل، فقال رجل من أهل نجران من النصارىٰ لليهود: ما أنتم على شيء، وجحد نبوّة موسى وكفر بالتوراة، فأنزل الله في ذلك قولهم:

( وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ( البقرة / ١١٣ ).

__________________

(١) مجمع البيان: ج ١ ص ٣٢٧.

(٢) السيرة النبوية: ج ١ ص ٥٤٩.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342