حديث المنزلة ليس عاماً:
وقالوا: إن المراد بقوله (صلىاللهعليهوآله ) لعلي (عليهالسلام ) أنت مني بمنزلة هارون من موسى: أنه بمنزلته في أهل بيته، لا في الأمة كلها..
ونجيب:
أولاً: إن أكثر نصوص حديث المنزلة لم تخص المنزلة بكونها في الأهل، بل أطلقتها، فمن أين جاءت هذه الإضافة..
ثانياً: لو كانت هذه الإضافة موجودة، وكان (صلىاللهعليهوآله ) يريد بها أن يرد على ما روجه المنافقون في سبب إبقائه علياً (عليهالسلام ) في المدينة، فهي لا تكفي لذلك، ولا توجب تطييب خاطر علي (عليهالسلام )..
ثالثاً: إن حديث المنزلة قد صدر عن رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) في مناسبات كثيرة، فما المبرر لتكراره، إذا كان المقصود هو خلافته في أهله؟! فإن ذلك لا يستحق هذا التأكيد، وهذا الحديث إنما يشير إلى أن المطلوب هو إفهام الناس أن علياً (عليهالسلام ) شبيه بهارون في جميع مزاياه. وأظهرها وأشهرها أخوته، وكونه من أهله، وشراكته في الأمر، وشد أزره، ووزارته، وإمامته للناس في غياب أخيه موسى.
وقال تعالى:( وَاجْعَلْ لِّي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (١) . ولو كان المراد خصوص الخلافة في الأهل لم يكن هناك داع لجعله بمنزلة هارون من موسى، بل يكون كأي إنسان آخر يوصيه مسافر برعاية شؤون أهله أيام سفره.
رابعاً: لو كانت خلافة علي (عليهالسلام ) لرسول الله (صلىاللهعليهوآله ) منحصرة في أهله لوقعت المنافاة بين صدر الكلام وذيله، لأن صدرها يقول: إنه يستخلفه في أهله، وذيلها يجعله كهارون من موسى، الذي كان خليفة لموسى في قومه لا في أهله.
وقد صرحت الآيات المباركة بأن موسى (عليهالسلام ) طلب من الله تعالى أن يشرك هارون في أمره، وأن يجعله وزيراً له.
أين ومتى قيل حديث المنزلة؟!:
وحديث المنزلة قاله رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) في مواقف كثيرة، وتبوك واحدة منها، فقد قاله في:
١ ـ يوم المؤاخاة الأولى(٢) .
____________
١- الآيات ٢٩ ـ ٣٢ من سورة طه.
٢- راجع: بحار الأنوار ج٣٨ ص٣٣٤ وج٨ ص٣٣٠ وإثبات الهداة ج٣ باب ١٠ ح ٦١٩ و ٧٦١ وعن كنز العمال ج١٥ ص٩٢ وج٦ ص٣٩٠ وتذكرة الخواص ص٢٣ وفرائد السمطين ج١ ص١١٥ و ١٢١ وترجمة الإمام علي ( عليهالسلام ) من تاريخ = = ابن عساكر (بتحقيق المحمودي) ج١ ص١٠٧ وينابيع المودة ص٦٥ و ٥٧ والأمالي للصدوق (ط مؤسسة البعثة) ص٤٠٢ ومناقب الإمام أمير المؤمنين للكوفي ج١ ص٣٠١ و ٣١٦ وشرح الأخبار ج٢ ص٤٧٦ وكنز الفوائد ص٢٨٢ ومناقب آل أبي طالب ج٢ ص٣٣ والعمدة لابن البطريق ص١٦٧ و ١٦٩و ٢٣٠ و ٢٣٢ والطرائف لابن طاووس ص٥٣ و ٧١ و ١٤٨ وكتاب الأربعين للشيرازي ص٩٨.
٢ ـ يوم المؤاخاة الثانية(١) .
٣ ـ يوم تسمية الحسن والحسين (عليهماالسلام )(٢) .
٤ ـ في حجة الوداع(٣) .
____________
١- راجع: المناقب للخوارزمي ص٧ وتذكرة الخواص ص٢٠ والفصول المهمة لابن الصباغ ص٢١ ومنتخب كنز العمال (مطبوع مع مسند أحمد) ج٥ ص٣١.
٢- علل الشرائع ص١٣٧ و ١٣٨ وينابيع المودة ص٢٢٠ وفرائد السمطين ج٢ ص١٠٣ ـ ١٠٥ والأمالي للصدوق (ط مؤسسة البعثة) ص١٥٦ والأمالي للطوسي ص٣٦٧ وعيون أخبار الرضا ج١ ص٢٨ ومعاني الأخبار ص٥٧ وروضة الواعظين ص١٥٤ ومستدرك الوسائل ج١٥ ص١٤٤ ومناقب آل أبي طالب ج٣ ص١٨٩ وكتاب الأربعين للشيرازي ص١٠٣ والجواهر السنية للحر العاملي ص٢٣٨ و٢٤٣ و ٢٤٤ و ٢٦٦.
٣- بحار الأنوار ج٣٧ ص٢٥٦ ودعائم الإسلام ج١ ص١٦ والأمالي للطوسي ص٥٢١ والغدير ج١ ص٢٦٨ ووفيات الأعيان لابن خلكان ج٥ ص٢٣١ وكنز الفوائد ص٢٨٢.
٥ ـ في منى(١) .
٦ ـ يوم غدير خم(٢) .
٧ ـ يوم المباهلة(٣) .
٨ ـ في غزوة تبوك.
٩ ـ عند الرجوع بغنائم خيبر(٤) .
____________
١- بحار الأنوار ج٣٧ ص٢٦٠ ومستدرك سفينة البحار ج١٠ ص٢٩ والدر النظيم ص٢٨٤.
٢- بحار الأنوار ج٣٧ ص٢٠٦ وتفسير العياشي ج١ ص٣٣٢ والإحتجاج للطبرسي ج١ ص٧٣ واليقين لابن طاووس ص٣٤٨ والصافي (تفسير) ج٢ ص٤٥ ودعائم الإسلام ج١ ص١٦.
٣- بحار الأنوار ج٢١ ص٣٤٣ ومناقب آل أبي طالب ج٣ ص١٤٢ والمناقب للخوارزمي ص١٠٨ وعن الطرائف ج١ ص١٤٨ ـ ١٤٩ ح٢٢٤ عن المناقب لابن المغازلي، وعن العمدة لابن البطريق ص٤٦.
٤- الأمالي للصدوق ص٨٥ و (ط مؤسسة البعثة) ص١٥٦ وإثبات الهداة ج٣ باب١٠ ح٢٤٣ والمناقب للخوارزمي ص٧٦ و ٩٦ ومقتل الحسين للخوارزمي ج١ ص٤٥ وكفاية الطالب ص٢٦٤ ومجمع الزوائد ج٩ ص١٣١ وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج٢ ص٤٤٩ وينابيع المودة ص١٣٠ وكنز الفوائد ص٢٨١ والمسترشد للطبري ص٦٣٤ وروضة الواعظين ص١١٢ ومناقب الإمام أمير المؤمنين للكوفي ج١ ص٢٤٩ وشرح الأخبار ج٢ ص٣٨١ و ٤١٢ والعقد النضيد ص٨٢ والمحتضر للحلي ص١٧٢ وحلية الأبرار ج٢ ص٦٩.
١٠ ـ يوم كان يمشي مع النبي (صلىاللهعليهوآله )(١) .
١١ ـ في حديث: لحمه لحمي، حين خاطب (صلىاللهعليهوآله ) أم سلمة بهذا القول(٢) .
١٢ ـ يوم سد الأبواب(٣) .
____________
١- إثبات الهداة ج٣ باب١٠ ح١٠٨ وعيون أخبار الرضا ( عليهالسلام ) ج١ ص١٢.
٢- بحار الأنوار ج٣٢ ص٣٤٨ وج٣٧ ص٢٥٤ و٢٥٧ و٣٣٧ وج٣٨ ص١٢٢ و١٣٢ و ٣٤١ وج٤٠ ص١٤ والأمالي للطوسي ج١ ص٥٠ وعن كنز العمال ج٦ ص١٥٤ الحديث رقم (٢٥٥٤) ومنتخب كنز العمال (مطبوع مع مسند أحمد) ج٥ ص٣١ وترجمة الإمام علي ( عليهالسلام ) من تاريخ مدينة دمشق (بتحقيق المحمودي) ج١ ص٧٨ والمناقب للخوارزمي ص٨٦ وينابيع المودة ص٥٠ و ٥٥ و ١٢٩ ومجمع الزوائد ج٩ ص١١١ وكفاية الطالب ص١٦٨ (ط الحيدرية) وميزان الإعتدال ج٢ ص٣ وفرائد السمطين ج١ ص١٥٠ وشرح الأخبار ج٢ ص٢٠١ و ٥٤٤ وعلل الشرائع ج١ ص٦٦ والتحصين لابن طاووس ص٥٦٦ واليقين لابن طاووس ص١٦١ و ١٧٣ و ١٨٥ و ٣٣٤ و ٣٧١ و ٤١٥ ومناقب الإمام أمير المؤمنين للكوفي ج١ ص٣٥٤ ـ ٣٥٥.
٣- ينابيع المودة ص٨٨ ومناقب الإمام علي بن أبي طالب لابن المغازلي ص٢٥٥ وترجمة الإمام علي بن أبي طالب لابن عساكر (بتحقيق المحمودي) ج١ ص٢٦٦ والإحتجاج للطبرسي ج٢ ص١٤٥ وعلل الشرائع ج١ ص٢٠١ ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج٢ ص٢٠٨ و (ط دار الإسلامية) ج١ ص٤٨٧ وشرح = = الأخبار ج٢ ص٢٠٤ ومناقب آل أبي طالب ج٢ ص٤٠ والعمدة لابن البطريق ص١٧٧ والصراط المستقيم ج١ ص٢٣١.
١٣ ـ يوم بدر(١) .
١٤ ـ يوم نام الصحابة في المسجد(٢) .
١٥ ـ في قضية الإختصام في ابنة حمزة (عليهالسلام )(٣) .
١٦ ـ يوم كان أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة في حضرة النبي (صلىاللهعليهوآله )، والنبي (صلىاللهعليهوآله ) متكئ على علي (عليهالسلام )(٤) .
____________
١- المناقب للخوارزمي ص٨٤.
٢- كفاية الطالب ص٢٨٤ وبحار الأنوار ج٣٧ ص٢٦٠ وتاريخ مدينة دمشق ج٤٢ ص١٣٩ والمناقب للخوارزمي ص١٠٩ وكشف اليقين ص٢٨٢ و ينابيع المودة ج١ ص١٦٠.
٣- الخصائص للنسائي (ط الحيدرية) ص١٨ وترجمة الإمام علي بن أبي طالب ( عليهالسلام ) لابن عساكر (بتحقيق المحمودي) ج١ ص٣٣٨.
٤- راجع: كنز العمال (ط٢) ج١٥ ص١٠٩ و ١٠٨ والمناقب للخوارزمي ص١٩ وينابيع المودة ص٢٠٢ وترجمة الإمام علي ( عليهالسلام ) من تاريخ ابن عساكر (بتحقيق المحمودي) ج١ ص٣٢١ والفصول المهمة لابن الصباغ ص١١٠ والرياض النضرة (ط٢) ج٢ ص٢٠٧ و ٢١٥ والأربعون حديثاً لابن بابويه ص٢٠ وذخائر العقبى ص٥٨.
١٧ ـ في قضية بني جذيمة(١) .
١٨ ـ يوم عرج به(٢) .
١٩ ـ في مرض موته (صلىاللهعليهوآله )(٣) .
٢٠ ـ يوم الإنذار(٤) .
٢١ ـ يوم حنين(٥) .
الإستثناء دليل عموم المنزلة:
قال علماؤنا الأبرار رضوان الله تعالى عليهم: إن استثناء النبوة يدل على أن جميع منازل هارون من موسى (عليهماالسلام ) ثابتة لعلي (عليهالسلام )، باستثناء منزلة النبوة، فإن الإستثناء دليل العموم.
ونقول:
إننا بغض النظر عن إفادة الإستثناء، لذلك نلاحظ:
أن نفس قول القائل لأحدهم: أنت مني بمنزلة فلان، يراد به أن أظهر
____________
١- الأمالي للصدوق (ط مؤسسة البعثة) ص٢٣٧ وعلل الشرائع ج٢ ص٤٧٣ ومستدرك الوسائل ج١٨ ص٣٦٦.
٢- كمال الدين ص٢٥٠ ـ ٢٥١ والمحتضر للحلي ص٢٤٦ ـ ٢٤٧.
٣- كمال الدين ص٢٦٢ـ ٢٦٤.
٤- كنز الفوائد للكراجكي ص٢٨٠.
٥- الروضة في فضائل أمير المؤمنين ص٧٤.
منازل ذلك الرجل وأقربها إلى فهم الناس ثابتة للمخاطب..
فلا بد من ملاحظة حال ذينك الشخصين مع بعضهما البعض، فإن كان ذلك القائل أباً أو أخاً أو ابناً كانت منزلة الطرف الآخر منصرفة إلى هذه المعاني، أعني الأبوة، والبنوة والأخوة وما إلى ذلك، وإن كان معلماً أو وزيراً، فإن الكلام ينصرف إلى هذه المعاني أيضاً.
وأظهر خصوصية كانت بين هارون وموسى، هي: أخوته، وشد أزره، وشراكته في الأمر، وقيامه مقامه في غيبته، وكونه أولى الناس به حياً وميتاً.
أما خصوصية النبوة فغير مرادة هنا، لأنها قد استثنيت مباشرة من قِبَلِ النبي (صلىاللهعليهوآله )، فبقيت سائر المنازل مشمولة لكلامه كما كانت.
هل حديث المنزلة خاص بتبوك؟!:
وقال بعضهم: (هارون لم يكن خليفة موسى، إلا في حياته لا بعد موته، لأنه مات قبل موسى، بل المراد استخلافه بالمدينة حين ذهابه إلى تبوك، كما استخلف موسى هارون عند ذهابه إلى الطور، لقوله تعالى:( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي ) (١)(٢) .
ونقول:
أولاً: إن هذا يؤدي إلى أن يكون قول النبي (صلىاللهعليهوآله )
____________
١- الآية ١٤٢ من سورة الأعراف.
٢- فتح الباري ج٧ ص٦٠.
متناقضاً، إذ لو كان المقصود هو خلافته له في حياته في خصوص غزوة تبوك لم يكن معنى لقوله: (إلا أنه لا نبي بعدي)، بل كان الأحرى أن يقول: إلا أنه لا نبي معي..
ثانياً: إن كان المراد استخلافه (عليهالسلام ) في خصوص غزوة تبوك، فلا حاجة إلى حديث المنزلة من الأساس، لأنه (صلىاللهعليهوآله ) قد استخلف ابن أم مكتوم وغيره على المدينة مرات كثيرة: في بدر، والفتح، وقريظة، وخيبر و.. و.. إلخ..
ثالثاً: العبرة إنما هي بعموم اللفظ، لا بخصوصية المورد، فكيف إذا تضمن الكلام ما يشبه التصريح باستمرار المنزلة إلى ما بعد وفاة رسول الله (صلىاللهعليهوآله )؟!
ويوضح ذلك: أن هارون، وإن كان قد خلف موسى عند ذهابه إلى الطور، لمنزلته منه.. فإنه أيضاً له منزلة الشراكة في الأمر، والشريك يتابع أمور شريكه في حياته وبعد وفاته، وله (عليهالسلام ) أيضاً منزلة الأخوة، فلو أن موسى (عليهالسلام ) مات قبل هارون، فإن هارون لا بد أن يتابع أمور شريكه ويرعاها بعد وفاته، كما أنه سيكون بسبب أخوته أولى بأخيه من جميع بني إسرائيل، وسيقوم مقامه في كل ما هو من شؤون الأخوة والشراكة.
حديث المنزلة في سطور:
لا بد من ملاحظة ما يلي:
ألف: إن هارون كان له من موسى المنازل التالية:
١ ـ منزلة الأخوة.
٢ ـ الوزارة المجعولة من الله.
٣ ـ كونه من أهله.
٤ ـ أنه مصدق له..
٥ ـ أنه ردء له.
٦ ـ أنه شريكه في أمر الدين.
٧ ـ يشد أزره وعضده.
٨ ـ أنه خليفته في قومه حال غيبته.
٩ ـ أن وظيفته الإصلاح.
وقد دلت الآيات القرآنية على هذه الأمور كلها، فقد قال تعالى:( فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ) (١) .
وقال:( ..وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً ) (٢) .
وقال:( وَاجْعَلْ لِّي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (٣) .
____________
١- الآية ٣٤ من سورة القصص.
٢- الآية ٣٥ من سورة الفرقان.
٣- الآيات ٢٩ ـ ٣٢ من سورة طه.
وقال:( قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ.. ) (١) .
وقال:( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ ) (٢) .
ب: قال العلامة الطباطائي (رحمهالله ) عن نبي الله هارون (عليهالسلام ) في سورة الصافات: (أشركه الله تعالى مع موسى (عليهماالسلام ): في المنّ، وإيتاء الكتاب، والهداية إلى الصراط المستقيم، وفي التسليم، وأنه من المحسنين، ومن عباده المؤمنين [الصافات: ١١٤ ـ ١٢٢] وعده مرسلاً [طه: ٤٧]، ونبياً [مريم: ٥٣]، وأنه ممن أنعم عليهم [مريم: ٥٨]، وأشركه مع من عدهم من الأنبياء في سورة الأنعام في صفاتهم الجميلة، من الإحسان، والصلاح، والفضل، والإجتباء، والهداية [الأنعام: ٨٤ ـ ٨٨]) انتهى(٣) .
ج: ليس المراد بإشراكه في حفظ الدين، ونشره، وتبليغه، ما هو على حد شراكة المؤمنين معه في ذلك، من حيث يجب على كل مؤمن، التبليغ والإرشاد والدعوة إلى الله، والدفاع عن الحق والدين، وتعليم الأحكام.. بل هي شراكة خاصة في كل أمره (صلىاللهعليهوآله )، باستثناء نزول الوحي الخاص بالنبوة وإنزال القرآن عليه.
وتظهر آثار هذه الشراكة في وجوب طاعته (عليهالسلام )، وفي حجية
____________
١- الآية ٣٥ من سورة القصص.
٢- الآية ١٤٢ من سورة الأعراف.
٣- الميزان (تفسير) ج١٦ ص٤٤.
قوله، وفي كل ما أعطاه الله إياه من علم خاص، ومن عرض أعمال العباد عليه، ومن طاعة الجمادات له، ومن التصرفات والقدرات الخاصة، مثل طي الأرض، ورؤيته من خلفه، وكونه تنام عيناه ولا ينام قلبه، والإسراء والمعراج إلى السماوات لرؤية آيات الله تبارك وتعالى، وما إلى ذلك.
د: إنه (عليهالسلام ) من أهل النبي (صلىاللهعليهوآله ) والأهل يعيشون مع بعضهم بعفوية وشفافية ووضوح، فأهل النبي يشاهدون أحواله، ويطَّلعون على ما لا يطلع عليه سائر الناس، فإذا كان وزيره، وشريكه منهم، فإن معرفته بكل هذه الأمور المعنوية تنطلق من معرفته الواقعية بكل حالاته وخفاياه، وباطنه وظاهره..
ولا بد أن يدخل إلى ضمير هذا الوزير الشريك، وإلى خلجات نفسه، وحنايا روحه، ويلامس شغاف قلبه، بصفته نبياً مقدساً وطاهراً بكل ما لهذه الكلمة من معنى، ولا يريد لنفسه ردءاً وشريكاً ووزيراً بعيداً عنه، قد يفرض غموضه احترامه عليه، أو يخشى ويحذر ما يجهله منه..
إن هذا الإشراف المباشر على حالات هذا النبي، والعيش معه بعفوية الأهل والأحبة، ومن دون أن يكون هناك أي داع لتحفظه معهم، أو للتحفظ معه.. يعطي للإنسان السكينة والطمأنينة إلى صحة الرؤية، وسلامة المعرفة، وواقعيتها، فيترسخ الإيمان بصحة نبوته في العقل، ويتبلور صفاؤه في الوجدان، ويتجذر طهره في أعماق النفس، وينساب هداه في الروح والضمير إنسياب الدم في العروق..
وهذه خصوصية لا يمكن أن توجد إلا لدى الأنبياء (عليهمالسلام )،
ومن هم في خطهم من الأولياء، والخلّص من المؤمنين..
أما من عداهم من أهل الدنيا.. فلا يمكن أن تستقيم لهم الأمور إلا بوضع الحجب، وإنشاء الحواجز أمام الناس، حتى أقرب الناس إليهم، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم فضلاً عن غيرهم.. لمنعهم من المعرفة بحقيقة سلوكهم، وبواقع نواياهم، وبما تكنّه ضمائرهم.. لأن معرفة الناس بذلك سوف تجر لهم الداء الدوي، والبلاء الظاهر والخفي..
هـ: أما الأخوّة التي ينشدها النبي في الوزير: فقد تعني فيما تعنيه الأمور التالية:
أولاً: المساواة.. والإشتراك.. والمماثلة في الميزات.. والشبه في الصفات..
ولذلك نلاحظ: أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) كما ذكر المؤرخون كان يؤاخي بين كل ونظيره، ممن هو أقرب الناس إليه في الخُلُق، وفي السيرة، وفي الطموح، وفي المستوى الفكري والعقلي، وسائر الصفات.
مع العلم: بأننا لا نجد ملكاً يعترف لأي مخلوق، سواء أكان وزيراً، أو قريباً، أو حتى ولداً بالمساواة معه في الصفات والأخلاق، وسائر الميزات. بل هو يعطي لنفسه مقاماً متميزاً عن الناس كلهم، ويسعى لتعمية الأمر عليهم، ويتوسل إلى ذلك بأساليب شتى من الإبهام والإيهام، والإدّعاءات الزائفة، والمظاهر الخادعة.
ثانياً: إن هذا التشابه أو التقارب في الميزات من شأنه: أن يفرض تساوياً في الحقوق.. وهذا مرفوض أيضاً في منطق أهل الدنيا، فإن الرؤساء والملوك فيها، إن لم يجدوا لأنفسهم خصوصية، فلابد من انتحالها، والتظاهر
بما يوهم الخصوصية.
فكيف يمكن أن يرضوا بالمساواة مع غيرهم في الحقوق والمزايا؟!
و: إن استثناء النبوة في كلام رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) من منازل علي (عليهالسلام ) يفيد: أن المراد بمنزلة هارون من موسى: هو سائر مراتبها، ومختلف متعلقاتها. أي أن هذا الإستثناء يفيد عموم المنزلة وشمولها لكل الأمور والجهات والمراتب.
فهو بمنزلته في لزوم الطاعة، وفي حجية قوله، وفي حاكميته، وفي القضاء، والعطاء، والسلم، والحرب والسفر، والحضر، وفي الحياة، وبعد الممات.. وفي كل شيء..
من أحداث تبوك..
قسمة غنائم تبوك:
روي: أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) لما غزا تبوك استخلف علياً (عليهالسلام ) على المدينة، فلما نصر الله رسوله (صلىاللهعليهوآله )، وأغنم المسلمين أموال المشركين ورقابهم، جلس (صلىاللهعليهوآله ) في المسجد، وجعل يقسم السهام على المسلمين، فدفع إلى كل رجل سهماً سهماً، ودفع إلى علي سهمين.
فقام زائدة بن الأكوع فقال: يا رسول الله، أوحي نزل من السماء، أو أمر من نفسك؟! تدفع إلى المسلمين سهماً سهماً، وتدفع إلى علي سهمين.
فقال النبي (صلىاللهعليهوآله ): أنشدكم الله، هل رأيتم في ميمنة عسكركم صاحب الفرس الأغر المحجل، والعمامة الخضراء، لها ذؤابتان مرخاتان على كتفه، بيده حربة، وحمل على الميمنة فأزالها، وحمل على القلب فأزاله؟!
قالوا: نعم يا رسول الله لقد رأينا ذلك.
قال: ذلك جبريل، وإنه أمرني أن أدفع سهمه إلى علي بن أبي طالب.
قال: فجلس زائدة مع أصحابه، وقال قائلهم شعراً:
علي حوى سهمين من غير أن غزا غزاة تبوك حبذا سهم مسهمِ(١)
ونقول:
أولاً: دلت هذه الرواية على: أنه قد جرى في تبوك قتال، وحصل المسلمون على غنائم، قسمها رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بين المسلمين.
ويؤيد ذلك حديث مناشدة علي (عليهالسلام ) لأهل الشورى، حيث قال لهم: (أفيكم أحد كان له سهم في الحاضر، وسهم في الغائب)؟!
قالوا: لا(٢) .
____________
١- راجع المصادر التالية: السيرة الحلبية ج٣ ص١٤٢ عن الزمخشري في فضائل العشرة، وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٢٣ ص٢٨١ و٢٨٢ عن غاية المرام (نسخة جستربيتي) ص٧٣ وج٣١ ص٥٦٥ وتفسير آية المودة للحنفي المصري ص٧٤ عنه، وعمدة القاري ج١٦ ص٢١٥ وجواهر المطالب لابن الدمشقي ج١ ص٧٨ وقال محقق الكتاب: والحديث رواه الحلواني في الباب الثالث من كتاب مقصد الراغب، كما رواه أيضا الخفاجي في الثالثة عشرة من خصائص علي ( عليهالسلام ) من خاتمة تفسير آية المودة الورق ٧٤ /ب/. ورواه قبلهم جميعاً الحافظ السروي في عنوان: (محبة الملائكة إياه) من كتابه مناقب آل أبي طالب (ط بيروت) ج٢ ص٢٣٨.
٢- ترجمة الإمام علي بن أبي طالب ( عليهالسلام ) من تاريخ مدينة دمشق ج٣ ص٩٣ واللآلي المصنوعة ج١ ص٣٦٢ والضعفاء الكبير للعقيلي ج١ ص٢١١ و ٢١٢ وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج٤٢ ص٤٣٥ ومناقب علي بن أبي طالب ( عليهالسلام ) لابـن مـردويـه ص١٣١ وفيـه بـدل (الحاضر) و (الغائب): = = (الخاص) و (العام) وكنز العمال ج٥ ص٧٢٥ والموضوعات لابن الجوزي ج١ ص٣٧٩ ومسند فاطمة ( عليهاالسلام ) للسيوطي ص٢١ عنه، وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٣١ ص٣٢٣ والمناقب للخوارزمي ص٣١٥.
ولم يغب علي (عليهالسلام ) عن أي من الغزوات إلا غزوة تبوك.
وقال ابن العرندس المتوفى في حدود سنة ٨٤٠هـ:
وتبوك نازل شوسها فأبادهم ضرباً بصارم عزمة لن يفللا(١)
ثانياً: لعل غنائم دومة الجندل التي أخذت في تبوك قد بقيت على حالها، ولم تقسم إلا بعد العودة إلى المدينة، فقسمها (صلىاللهعليهوآله ) في المسجد وأعطى علياً (عليهالسلام ) منها.
ثالثاً: ولا مانع من أن يكون المقصود بالمسجد هو المسجد الذي استحدث في ذلك المكان الذي قسمت فيه الغنائم. ولعله كان هو الموضع الذي اختاره (صلىاللهعليهوآله ) طيلة إقامته في تبوك.
رابعاً: ربما تكون قد حصلت احتكاكات بين المسلمين، وبين بعض جماعات المشركين في مناطق تبوك، فنصر الله المسلمين عليهم، وغنمهم أموالهم.
خامساً: إن ذلك، وإن كان لم يكن له شاهد صريح، ولكن نفس ما روي من أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) أعطى علياً سهمين يدل على حصول شيء من ذلك.. ولكن المؤرخين أهملوا ذكر هذا الأمر لما فيه من
____________
١- الغدير ج٧ ص٨ وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب ( عليهالسلام ) في الكتاب والسنة والتاريخ لمحمد الريشهري ج٩ ص٧٦.
التنويه بعلي (عليهالسلام )، وإظهار لفضائله، وإشاعتها ـ فأراحوا أنفسهم، ومن هم على شاكلتهم من تجشم المخارج والتأويلات، حين يواجههم المؤمنون بالحقيقة.
ثمة ما هو أعجب:
وتذكر الروايات: أنه (صلىاللهعليهوآله ) وهو عائد من تبوك إلى المدينة مروا بمساكن ثمود، وحدث أصحابه ببعض ما جرى لهم.. وقال:
(ألا أنبؤكم بأعجب من ذلك؟! رجل من أنفسكم، فينبؤكم بما كان قبلكم، وما هو كائن بعدكم، فاستقيموا وسددوا، فإن الله تعالى لا يعبأ بعذابكم شيئاً الخ..)(١) .
ونقول:
لقد اقتصر (صلىاللهعليهوآله ) على ذكر علامة واحدة لرجل هو من أنفسهم، ينبؤهم بما كان وما هو كائن، ثم أمرهم (صلىاللهعليهوآله ) بالإستقامة والسداد..
____________
١- سبل الهدى والرشاد ج٥ ص٤٤٦ و ٤٤٧ عن مالك، وأحمد، والبخاري، ومسلم، وابن إسحاق، وقال في هامشه: أخرجه البخاري ج٨ ص١٢٥ (٤٤١٩) ومسلم ج٤ ص٢٢٨٦ (٣٨ و ٣٩/٢٩٨٠) وأحمد ج٢ ص٩ و ٥٨ و ٧٢ و ٧٤ و ١١٣ و ١٣٧ والبيهقي في الدلائل ج٥ ص٢٣٣ وفي السنن ج٢ ص٤٥١ والحميدي (٦٥٣) وعبد الرزاق (١٦٢٥) والطبراني في الكبير ج١٢ ص٤٥٧ وانظر الدر المنثور ج٤ ص١٠٤.