• البداية
  • السابق
  • 350 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 19098 / تحميل: 6446
الحجم الحجم الحجم
الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه السلام) (المرتضى من سيرة المرتضى)

الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه السلام) (المرتضى من سيرة المرتضى) الجزء 9

مؤلف:
العربية

وذلك لمجرد مطالبة فاطمة (عليها‌السلام ) لهم بحقها في الإرث والنِحلة. ومحاولتها إظهار مظلوميتها، حين اغتصبوا منها إرثها ونِحْلتَها..

كما أنه حين قال له علي (عليه‌السلام ): أفسدتّ علينا أمرنا، ولم تستشر، ولم ترع لنا حقنا.

قال أبو بكر: بلى، ولكني خشيت الفتنة(1) .

علي (عليه‌السلام ) لا يقيل أبا بكر:

قالوا: ولما تمت البيعة لأبي بكر أقام ثلاثة أيام يقيل الناس، ويستقيلهم، ويقول: قد أقلتكم في بيعتي! هل من كاره؟! هل من مبغض؟!.

فيقوم علي في أول الناس، فيقول: والله لا نقيلك، ولا نستقيلك أبداً. قد قدمك النبي لتوحيد ديننا، من ذا الذي يؤخرك لتوجيه دنيانا(2) .

____________

1- مروج الذهب (تحقيق شارل پلا) ج3 ص42 والسقيفة للمظفر ص148 وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) في الكتاب والسنة والتاريخ ج3 ص58 عن المصادر التالية: الإمامة والسياسة ج1 ص30 ـ 31 ومشاهير علماء الأمصار ص22.

2- الإمامة والسياسة ج1 ص15 و 16 و (تحقيق الزيني) ج1 ص22 و (تحقيق الشيري) ج1 ص33 والجامع لأحكام القرآن ج1 ص272 وج7 ص172. وراجع: الغدير ج8 ص40 وكنز العمال ج5 ص654 و 657 وطبقات المحدثين بأصبهان ج3 ص576 والعثمانيـة للجاحظ ص235 وسبل الهـدى = = والرشاد ج12 ص317 وشرح المقاصد للتفتازاني ج2 ص287 وتاريخ مدينة دمشق ج64 ص345.

٢٠١

يشير إلى صلاته بالناس في مرض النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

ونقول:

إننا لا نرى حاجة إلى تفنيد هذه المزعمة.. وقد ذكرنا بعض ما يفيد في ذلك في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).. غير أننا نكتفي هنا بما يلي:

أولاً: قد روى أهل السنة في صحاحهم: أن علياً (عليه‌السلام ) لم يبايع أبا بكر إلا بعد ستة أشهر(1) ، أي بعد استشهاد فاطمة الزهراء (عليها‌السلام ).

ثانياً: لا ندري كيف نوفق بين هذا وبين ما فعلوه في الزهراء، حيث ضربوها وأسقطوا جنينها، وسعوا في إحراق بيتها على من فيه، وفيه علي

____________

1- صحيح البخـاري (ط دار الفـكر) ج5 ص82 وصحيح مسلم ج5 ص154 وشرح أصول الكافي ج7 ص218 والصوارم المهرقة ص71 ومناقب أهل البيت (عليهم‌السلام ) للشيرواني ص413 وشرح مسلم للنووي ج12 ص77 وفتح الباري ج7 ص378 وعمدة القاري ج17 ص258 وصحيح ابن حبان ج14 ص573 ونصب الراية للزيلعي ج2 ص360 والبداية والنهاية ج5 ص307 والسيرة النبوية لابن كثير ج4 ص568 والإكمال في أسماء الرجال ص168.

٢٠٢

نفسه، والزهراء، والحسن والحسين (عليهم‌السلام )!!

ثالثاً: لا شك في أن قياس مسألة الإمامة والخلافة على مسألة إمامة الصلاة غير صحيح، إذ لا يشترط في إمامة الصلاة علم، ولا فقه، ولا شجاعة، ولا كثير من شرائط الخلافة.

رابعاً: إن هؤلاء لا يشترطون عموماً عدالة الإمام في الصلاة، ولكنهم يشترطون ذلك في الخليفة، وغيرهم يشترط فيه العصمة، والنص.

كما أن هؤلاء لا يشترطون لانعقاد الجماعة وصية ولا شورى، ولا بيعة أهل الحل والعقد، ولا نصاً ولا غير ذلك.. أما الخلافة فتحتاج في انعقادها إلى شيء من ذلك عند الكل..

خامساً: إن حديث صلاة أبي بكر بالناس في مرض رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، بأمر منه لا يصح.

وكان علي (عليه‌السلام ) يقول: إن عائشة هي التي أمرت أباها بالصلاة، وليس رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ). فراجع الصحيح من سيرة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

سادساً: إن الخلافة ليست منصباً دنيوياً محضاً، بل هي رئاسة دينية بالدرجة الأولى أيضاً.

لماذا أبعد علي (عليه‌السلام )؟!:

وقد ذكر ابن أبي الحديد خلاصة لحقيقة الدوافع التي كانت وراء إقصاء علي (عليه‌السلام ) عن مقام الخلافة بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ،

٢٠٣

فقال: (.. والقوم الذين غلب على ظنونهم أن العرب لا تطيع علياً (عليه‌السلام ):

فبعضها للحسد.

وبعضها للوتر والثأر.

وبعضها لاستحداثهم سنه.

وبعضها لاستطالته عليهم، ورفعه عنهم.

وبعضها كراهة اجتماع النبوة والخلافة في بيت واحد.

وبعضها للخوف من شدة وطأته، وشدته في دين الله.

وبعضها خوفاً لرجاء تداول قبائل العرب للخلافة، إذا لم يقتصر بها على بيت مخصوص عليه، فيكون رجاء كل حي لوصولهم إليها ثابتاً مستمراً.

وبعضها ببغضه، لبغضهم من قرابته لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وهم المنافقون من الناس، ومن في قلبه زيغ من أمر النبوة.

فأصفق الكل إصفاقاً واحداً على صرف الأمر عنه لغيره..

وقال رؤساؤهم: إنَّا خفنا الفتنة، وعلمنا: أن العرب لا تطيعه، ولا تتركه. وتأولوا عند أنفسهم النص ـ ولا ينكر النص ـ وقالوا: إنه النص، ولكن الحاضر يرى ما لا يرى الغائب(1) .

____________

1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج12 ص84 و 85.

٢٠٤

ولكن فات المعتزلي أن يذكر: أن هناك من صمم والتزم، وكتب عهداً وعقداً عند الكعبة: أن يمنع علياً (عليه‌السلام ) من الوصول إلى هذا الأمر، وأنه كان يدبر الأمر لنفسه ولحزبه حسداً، وطمعاً، واستطالة، وخوفاً، ورجاء تداول قبائل العرب الخلافة.. إلى آخر ما ذكره، فكان له ما أراد من خلال الوسائل المختلفة التي استفاد منها، وكلها غير مشروعة.

لماذا لم يحاربهم علي (عليه‌السلام )؟!:

وبعد.. فإن النصوص التي أشارت على سبب عدم تصدي علي (عليه‌السلام ) لاسترداد حقه بالقوة كثيرة، نذكر منها ما يلي:

1 ـ قال الأشعث بن قيس لعلي (عليه‌السلام ): (وأنت لم تخطبنا خطبة منذ كنت قدمت العراق إلا قلت فيها قبل أن تنزل على المنبر:

(والله، إني لأولى الناس بالناس، ولا زلت مظلوماً مذ قبض رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ))، فما يمنعك أن تضرب بسيفك دون مظلمتك)؟!

قال (عليه‌السلام ): يا ابن قيس، اسمع الجواب: لم يمنعني من ذلك الجبن، ولا كراهة للقاء ربي، وأن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لي من الدنيا والبقاء فيها. ولكن منعني من ذلك أمر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وعهده إلي).

ثم ذكر (عليه‌السلام ): أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قال له: (إن وجدت أعواناً فانبذ إليهم وجاهدهم. وإن لم تجد أعواناً، فكف يدك،

٢٠٥

واحقن دمك، حتى تجد على إقامة الدين، وكتاب الله وسنتي أعواناً)(1) .

وهناك أحاديث أخرى تشير إلى هذا السبب في قعوده (عليه‌السلام )(2) ..

2 ـ في نص آخر عن زرارة: قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام ): ما منع أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) أن يدعو الناس إلى نفسه؟!

قال: خوفاً أن يرتدوا.

قال علي (أي ابن حاتم): وأحسب في الحديث: ولا يشهدوا أن محمداً

____________

1- بحار الأنوار ج29 ص467 و 419 وكتاب سليم بن قيس ج2 ص663 و 664 و (ط أخرى) ص304 والإحتجاج ج1 ص449 و 450 و (ط دار النعمان) ج1 ص281 ومستدرك الوسائل ج11 ص75 وحلية الأبرار ج2 ص64 وجامع أحاديث الشيعة ج13 ص41 والإمام علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) للهمداني ص698 وغاية المرام ج2 ص105 و 197.

2- بحار الأنوار ج29 ص437 و 438 و 450 و 451 و 452 وعلل الشرايع باب122 ح6 ج1 ص148 وتفسير العياشـي ج1 ص303 و ج2 ص51 ومستدرك الوسائل ج11 ص74 وكتاب سليم بن قيس ص427 والغيبة للطوسي ص193 و203 و335 والإحتجاج (ط دار النعمان) ج1 ص281 وكتاب الأربعين للشيرازي ص238 وحلية الأبرار ج2 ص65 وجامع أحاديث الشيعة ج13 ص42 و 43 ومستدرك سفينة البحار ج3 ص115 ونهج الإيمان ص579.

٢٠٦

(صلى‌الله‌عليه‌وآله ) رسول الله(1) .

3 ـ ويوضح نص آخر عن أبي جعفر (عليه‌السلام ) هذا الأمر؛ فيقول: لم يمنعه من أن يدعو إلى نفسه إلا أنهم إن يكونوا ضلالاً، لا يرجعون عن الإسلام أحب إليه من أن يدعوهم، فيأبوا عليه، فيصيرون كفاراً كلهم(2) .

4 ـ يقول (عليه‌السلام ) في خطبته المعروفة بالشقشقية:

(فطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه.. فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجى، أرى تراثي نهباً)(3) .

____________

1- علل الشرايع ج1 ص149 و 150 باب122 ومناقب آل أبي طالب ج1 ص271 ـ 275 و (ط المكتبة الحيدرية) ج1 ص234 وبحار الأنوار ج29 ص440 و 445 وحلية الأبرار ج2 ص344 والأمالي للطوسي ص230 وغاية المرام ج6 ص27.

2- علل الشرايع ج1 ص150 وبحار الأنوار ج29 ص440 وحلية الأبرار ج2 ص345.

3- نهج البلاغة (بشرح عبده) الخطبة رقم3 ج1 ص30 والإرشاد للمفيد ج1 ص287 وعلل الشرائع ج1 ص150 والأمالي للطوسي ص372 والإحتجاج (ط دار النعمان) ج1 ص281 والطرائـف لابـن طـاووس ص418 و 420 = = وكتاب الأربعين للشيرازي ص167 وحلية الأبرار ج2 ص289 و 291 وبحار الأنوار ج29 ص497 ومناقب أهل البيت (عليه‌السلام ) للشيرواني ص457 والغدير ج7 ص81 وج9 ص380 والدرجات الرفيعة ص34 ونهج الحق للعلامة الحلي ص326 وبيت الأحزان ص89 ومناقب آل أبي طالب ج2 ص48 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص151 ومعاني الأخبار ص360.

٢٠٧

5 ـ قيل للإمام الرضا (عليه‌السلام ): لِمَ لَمْ يجاهد علي أعداءه خمساً وعشرين سنة بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )؟!

فقال: لأنه اقتدى برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في تركه جهاد المشركين بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة تسعة عشر شهراً، وذلك لقلة أعوانه عليهم. وكذلك ترك علي مجاهدة أعدائه لقلة أعوانه عليهم(1) .

6 ـ لو قام بالسيف لتذرعوا بأنه شق عصا الطاعة، وأفسد في الأرض. ولادَّعوا أنه بايع، ثم نكث بيعته. وأثار الفتنة.

7 ـ عن علي (عليه‌السلام ) قال: (فنظرت فإذا ليس لي معين إلا أهل

____________

1- راجع: علل الشرائع ج1 ص148 وعيون أخبار الرضا (عليه‌السلام ) ج1 ص88 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج15 ص88 و (ط دار الإسلامية) ج11 ص66 وحلية الأبرار ج2 ص341 وبحـار الأنـوار ج29 ص435 وجامع أحاديث الشيعة ج13 ص39 ومسند الإمام الرضا (عليه‌السلام ) ج1 ص115.

٢٠٨

بيتي؛ فضننت بهم عن الموت، وأغضيت على القذى)(1) .

وفي نص آخر: (فنظرت فإذا ليس لي رافد، ولا ذاب، ولا مساعد إلا أهل بيتي، فضننت بهم عن المنية، فأغضيت على القذى، وجرعت ريقي. وصبرت من كظم الغيظ على أمر من العلقم. وآلم للقلب من وخز الشفار)(2) ..

ولا مانع من أن يكون (عليه‌السلام ) قد لاحظ ذلك كله، من ادراكه لمرامي وصية رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بعدم مناجزة الغاصبين إلا إذا

____________

1- نهج البلاغة (بشرح عبده) الخطبة 26 ج1 ص67 وكشف المحجة ص174 عن رسائل الكليني، وبحار الأنوار ج29 ص610 والمراجعات ص391 ومستدرك سفينة البحار ج6 ص158 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص20 وغاية المرام ج5 ص322 وسفينة النجاة للتنكابني ص346.

2- راجع: نهج البلاغة (بشرح عبده) ج2 ص202 والإمامة والسياسة ج1 ص154 وبحار الأنوار ج29 ص608 وج33 ص569 والغارات للثقفي ج1 ص309 والمسترشد ص417 ومناقب آل أبي طالب ج2 ص48 والصوارم المهرقة ص29 والجمل لضامن بن شدقم المدني ص119 وكتاب الأربعين للشيرازي ص186 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج1 ص276 وج4 ص175والإمام علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) للهمداني ص730 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص66 وج11 ص109 والدرجات الرفيعة ص195 وأعيان الشيعة ج4 ص188 وسفينة النجاة للتنكابني ص306 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج2 ص379.

٢٠٩

وجد أعواناً.. وقد رأى بأم عينيه مبررات هذه الوصية، على أرض الواقع.

هل هذا تناقض؟!:

قد يدور بخلد البعض: أن ثمة تناقضاً في روايات: أن علياً (عليه‌السلام ) كان موصى من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فإن بعضها يقول: إن عليه أن لا يحارب الغاصبين، إلا إذا وجد أربعين مناصراً.

وبعضها: تستثني عشرين مناصراً فقط..

ونجيب:

لو صح وجود الرواية التي تذكر العشرين مناصراً، وترجح لنا صدورها عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فإننا نقول:

إنه لا تعارض بينها وبين روايات الأربعين، إذ لا مانع، بل قد يكون ذلك هو الأقرب بأن يكون (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قد قال مرة هذا القول، وقال مرة أخرى ذلك القول، وأمره مرة ثالثة بالكف من دون الإشارة إلى عددٍ بعينه أيضاً..

ولا شك في أن تكرار هذه الوصية، والإشارة إلى قلة الناصر، أمر هام جداً في مجال إفهام الناس حقيقة موقف علي (عليه‌السلام )، والتزامه بأوامر الرسول، وأنه لا يقف هذا الموقف عن خوف وجبن.

كما أن ذلك يعرفنا بحقيقة المعتدين على حقه، وبدرجة إيمان من يدعون لأنفسهم المقامات العالية في الإسلام والإيمان.

٢١٠

لو كان الأنصار شيعة:

وقد يقال: ما زلنا نسمع أن الأنصار كانوا يميلون إلى علي (عليه‌السلام )، ويرون أن الحق له دون سواه، فلو كان كل هذا الجمع العظيم من الأنصار، يعتقدون منذ البداية، بأن علياً هو خليفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بلا فصل، لكان علي (عليه‌السلام )، قادراً منذئذ على الإستعانة بهذه الأكثرية من الصحابة، ولصح له أن يصرَّ على منع مناوئيه من اغتصاب حقه.. فهل عدم تصديه لذلك دليل على ضعفه؟! أم أنه يدل على أنه لا حق له؟!

ونجيب:

أولاً: لا شك في أن أكثر الناس يحبون حياة الدعة والسلامة، فإذا رأوا الأعين محمرة على أمر، ولم تكن لديهم حوافز للدفاع عنه، تفوق في أهميتها عندهم ما سوف يقدمونه من أجله من خسائر، وتضحيات، فإنهم سوف ينصرفون عن التصدي للدفاع عنه..

والأمر هنا من هذا القبيل، فقد رأينا أن هؤلاء الأنصار أنفسهم لا يعترضون ولا يحركون ساكناً حينما قال قائلهم للرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): إن النبي ليهجر (أو نحو ذلك)، وحينما هوجم بيت السيدة الزهراء (عليها‌السلام )، وجاؤوا بقبس من نار لإحراق ذلك البيت، رغم معرفتهم بخطورة ما صدر من ذلك القائل، وبخطورة ما يجري على السيدة الزهراء (عليها‌السلام )..

كما أنهم سكتوا عن المتخلفين عن جيش أسامة، وسكتوا عن الذين

٢١١

نفَّروا برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ناقته في ليلة العقبة، وسكتوا على الذين رفعوا أصواتهم فوق صوت النبي في يوم عرفة، ومنعوه من بلوغ ما يريد، حتى ليقول جابر بن سمرة ـ كما في صحيح مسلم وغيره ـ: (فقال كلمة أصمَّنيها الناس).

وفي نص آخر: فضج الناس..

وفي نص آخر: فصاروا يقومون، ويقعدون، ونحو ذلك..

وقد أشفق هؤلاء الأصحاب أيضا أن يقدموا بين يدي نجواهم صدقة.

وقد لامهم الله تعالى على تثاقلهم عن الجهاد في سبيل الله، وكانوا إذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها، وتركوا النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قائماً..( قُلْ مَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ) (1) . مع يقينهم بأن المطلوب منهم كان غير ذلك في جميع هذه الموارد، وسواها.

ثانياً: إن الأنصار قد رأوا بأم أعينهم: كيف أن بني أسلم قد يظهرون فجأة في بلدهم الصغير جداً، الذي قد لا يصل عدد سكانه إلى بضعة آلاف. ليساعدوا أبا بكر على إقامة حكومته، وإخماد أصوات مناوئيه.

رواه أبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي عن محمد إسحاق الكلبي وأبي صالح، ورواه أيضاً عن رجاله زايدة بن قدامة قال:

كان جماعة من الأعراب قد دخلوا المدينة ليتماروا منها، فشغل الناس

____________

1- الآية 11 من سورة الجمعة.

٢١٢

نهم بموت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فشهدوا البيعة وحضروا الأمر فأنفذ إليهم عمر واستدعاهم وقال لهم:

خذوا بالحظ من المعونة على بيعة خليفة رسول الله واخرجوا إلى الناس واحشروهم ليبايعوا فمن امتنع فاضربوا رأسه وجبينه.

قال: والله لقد رأيت الأعراب تحزموا، واتشحوا بالأزر الصنعانية وأخذوا بأيديهم الخشب وخرجوا حتى خبطوا الناس خبطا وجاؤا بهم مكرهين إلى البيعة وأمثال ما ذكرناه من الأخبار في قهر الناس على بيعة أبي بكر وحملهم عليها بالاضطراب كثيرة ولو رمنا إيرادها لم يتسع لهذا الكتاب فإن كان الذي ادعاه المخالف من إكراه من أكره على بيعة أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) دليلاً على فسادها مع ضعف الحديث بذلك فيكون ثبوت الأخبار بما شرحناه من الأدلة على بيعة أبي بكر موضحة عن بطلانها(1)

وكانوا من الكثرة بحيث تضايقت بهم سكك المدينة(2) ، وقوي بهم أبو بكر، كما يقول المؤرخون، ويقول عمر: إنه لما رأى قبيلة أسلم أيقن بالنصر(3) ، بل في بعض النصوص: إن أكثر من أربعة آلاف مقاتل، قد ظهروا فجأة في المدينة، وكان خالد على ألف منهم، ومعاذ على ألف، وغيره

____________

1- الجمل للشيخ المفيد ص 59.

2- تاريخ الطبري ج2 ص458 وعنه بحار الأنوار ج 28 ص335 والشافي في الامامة للشريف المرتضى ج3 ص190 وسفينة النجاة للسرابي التنكابني ص 68.

3- المصادر السابقة.

٢١٣

على ألف، وهكذا..

وتذكر نصوص تاريخية وروائية: أنهم صاروا يسحبون الناس للبيعة ويهينونهم، ويجبرونهم على مبايعة أبي بكر، شاؤوا أم أبوا، ثم صاروا يذهبون إلى من جلسوا في بيوتهم، وتغيبوا، فيستخرجونهم منها قهراً، ويأتون بهم إلى المسجد ليبايعوا..

وماذا ينفع الجمع العظيم من الأنصار في مثل هذه الحالة ما دام أنه لا يقدر أحد منهم على الوصول إلى الإمام علي (عليه‌السلام )، لنجدته وهو محاصر في بيته؟! وقد كان بيته في داخل مسجد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، مقابل المنبر الذي يبايع الناس عليه أبا بكر. ولا يفصل المنبر عن بيت الإمام علي (عليه‌السلام ) سوى بضعة أمتار، قد لا تزيد على عدد أصابع اليد الواحدة إلا قليلاً..

وعن بني أسلم نقول:

لقد كانت هذه القبيلة تعيش في أطراف المدينة هي وقبيلة أشجع، وجهينة، ومزينة، وغفار، كانت هي وأخواتها هذه، أعرابية بكل ما لهذه الكلمة من معنى، ولعل قوله تعالى:( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُم ) (1) . جاء ليشير إلى هذه القبيلة وأخواتها بالذات ويقول: إن النفاق كان مستشرياً إلى هذا الحد في نفس المدينة، وفيما حولها..

____________

1- الآية 101 من سورة التوبة.

٢١٤

وقد أعلم الله رسوله بحقيقة هؤلاء المنافقين في هذه الآية، ربما من أجل الإشارة إلى هذه الأحداث المؤلمة التي كان الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يحمل همها قبل وفاته (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وسيعاني منها أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) بعد ذلك..

والخلاصة:

ظهر: أن تقسيم البعض للناس في زمن الرسول إلى شيعة وسنة، تقسيم غير دقيق، بل هم إما مطيع لأوامر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وإما عاص لها. وإما مؤمن صحيح الإيمان، وإما منافق..

وقد ظهر: أن الذين سعوا إلى مخالفة أمر الرسول، كانوا يملكون قوة، ولهم مؤيدون.. وأما سائر الناس العاديين، فكانوا يخضعون للترغيب وللترهيب، وكان حبهم للسلامة، والابتعاد عن المصادمات هو الأقوى، والأكثر ملاءمة لهوى نفوسهم..

ثالثاً: هل وجد الإمام علي (عليه‌السلام ) فرصة ليدعو الناس إلى نصرته؟!

أليس قد هوجم، وحوصر، وضربت زوجته واسقط جنينها وحوصر محبوه، واخذوا من بيوتهم، فور فراغه من دفن الرسول؟!

٢١٥

٢١٦

الفصل الثاني:

هكـذا حـدث الإنقـلاب

٢١٧

٢١٨

علي (عليه‌السلام ) محور الإهتمامات:

وقد لوحظ: أن الناس حتى أبو قحافة كانوا يتعجبون من وصول الخلافة إلى أبي بكر، مع وجود علي (عليه‌السلام )، وسائر بني هاشم، ولذلك سأل الرسول الذي أتاه بالخبر: ما منعهم من علي؟!

قال الرسول: هو حدث السن، وقد أكثر في قريش وغيرها، وأبو بكر أسن منه.

فقال أبو قحافة: إن كان الأمر في ذلك بالسن، فأنا أحق من أبي بكر، لقد ظلموا علياً حقه، ولقد بايع له النبي، وأمرنا ببيعته(1) .

كما أن الكثيرين من الأصحاب كانوا يصرون على أن الحق لعلي. وقد كثرت استدلالاتهم لهذا الأمر، كما أن أسامة بن زيد كان لا يتوقع استبعاد

____________

1- الإحتجاج ج1 ص226 و 227 و (ط دار النعمان) ج1 ص115 وبحار الأنوار ج29 ص95 وج28 ص329 وراجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص222 وعن مناهج المهج للكيدري (مخطوط)، وكتاب الأربعين للشيرازي ص282 ومناقب أهل البيت (عليهم‌السلام ) للشيرواني ص309 ومستدرك سفينة البحار ج8 ص422 وقاموس الرجال للتستري ج11 ص477.

٢١٩

علي (عليه‌السلام )، وقد استدل على أبي بكر بحديث الغدير..

بل هو بمجرد وصوله من سفره الى المدينة انطلق الى علي (عليه‌السلام ) ليستفهم منه عن حقيقة ما جرى.

وقد لاحظنا: أنه لم يستسغ أن يكون علي (عليه‌السلام ) قد بايعهم طائعاً، فسأله عن طبيعة بيعته، فأجابه (عليه‌السلام ) بأنه قد بايع مكرهاً.

وهذه الوقائع تشير إلى أن أسامة قد غادر المدينة ـ بعد أن تخلف عنه أناس من الصحابة قبل وفاة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).. ولا يصح قولهم: إنه بعد البيعة لأبي بكر سيره أبو بكر إلى الوجه الذي كان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قد أمره بالمسير إليه..

الذين كانوا في بيت فاطمة (عليها‌السلام ):

وقد يتخيل المراجع للنصوص أنها تختلف وتتناقض في ذكرها من كان في بيت الزهراء، حين هاجمه عمر ومن معه.

فقد ورد في النصوص: أن الذين كانوا في بيت فاطمة الزهراء (عليها‌السلام ) حين جاء عمر بالحطب ليحرق، الباب عليهم، وقد أحرقه بالفعل، هم:

ألف: علي وفاطمة، والحسنان (عليهم‌السلام ) فقط.

قال الشهرستاني، نقلاً عن النظَّام: (إن عمر ضرب فاطمة يوم البيعة، حتى ألقت الجنين من بطنها. وكان يصيح أحرقوا دارها بمن فيها. وما كان

٢٢٠