• البداية
  • السابق
  • 350 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 19088 / تحميل: 6446
الحجم الحجم الحجم
الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه السلام) (المرتضى من سيرة المرتضى)

الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه السلام) (المرتضى من سيرة المرتضى) الجزء 9

مؤلف:
العربية

وجاء أبو بكر، فأعلن موت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، مستدلاً بالآية الشريفة، فاقتنع عمر بها، مع أنهم قرؤوها على عمر قبل ذلك فلم يكترث.. وفيما هم كذلك إذ جاء من أخبر أبا بكر وعمر بأمر السقيفة، فذهبا إليها وبقي علي (عليه‌السلام ) منشغلاً بتغسيل وتكفين الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) والصلاة عليه ودفنه، وقد أنجز ذلك كله قبل أن يفرغ أهل السقيفة من سقيفتهم.

وقد صرحت بعض الروايات: بأنهم لما فرغوا من السقيفة جاؤوا فوراً إلى المسجد، وطرقوا الباب على علي (عليه‌السلام ) وكانت الزهراء (عليها‌السلام ) خلف الباب مباشرة، فلما سألت من الطارق، دفعوا الباب بقوة وعنف، وعصرت خلف الباب، وسقط بعض المدافعين في داخل البيت، فسمع علي (عليه‌السلام ) الصوت فبادر إليهم فهربوا، وانشغل (عليه‌السلام ) بمعالجة الزهراء (عليها‌السلام )..

وطبيعي أن يكون ذلك كله قد حصل خلال ثوان معدودة..

وفي تلك الليلة، أو في صبيحتها امتلأت المدينة بالرجال الذين كان أبو بكر ـ فيما يبدو هو الذي تدبر أمر حضورهم بهذه السرعة، ودلت النصوص أيضاً على أن الهجوم على بيت الزهراء (عليها‌السلام ) قد تكرر في اليوم التالي، وجمع الحطب، وأضرمت النار بالباب، واقتحموا البيت، وأخرجوا علياً (عليه‌السلام ) بالقوة والقهر..

واستخرجوا الناس من بيوتهم، وسحبوهم قهراً إلى البيعة، وواجهوهم

٣٢١

بالإهانات والتعديات(1) . فمتى أمكن لعلي (عليه‌السلام ) أن يحتج وأن يتظلم؟! وأن يتكلم بقليل أو كثير؟! وهم يتعاملون معه ومع زوجته بهذه الطريقة الحادة، التي نتج عنها استشهاد الزهراء (عليها‌السلام )، وإسقاط جنينها، واحمرار عينها، واسوداد متنها من الضرب..

بل لقد اعتدوا على الزهراء (عليها‌السلام ) بالضرب ثلاث مرات..

رابعاً: بعض المصادر ذكرت أنه (عليه‌السلام ) حين أمكنه أن يتكلم ويحتج بادر إلى ذلك، فاحتج بحديث الغدير، وذلك في نفس يوم البيعة لأبي بكر، فراجع(2) ..

واحتج أيضاً بحديث الغدير يوم أتاه أبو بكر في وقت غفلة(3) .

____________

1- وقد فصلنا ذلك كله حين الحديث عن استشهاد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وذلك في الأجزاء الأخيرة من كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

2- راجع كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) (الطبعة الخامسة) ج32 ص70 و 71 والإحتجاج ج1 ص184 و 185 و 213.

3- بحار الأنوار ج29 ص8 والخصال ج2 ص550 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) للميرجهاني ج3 ص202 والإحتجاج للطبرسي ج1 ص160 وحلية الأبرار ج2 ص308 ومدينة المعاجز ج3 ص26 وخلاصة عبقات الأنوار ج9 ص39 وغاية المرام ج2 ص124 وج6 ص13 وكشف المهم في طريق خبر غدير خم للسيد هاشم البحراني ص93.

٣٢٢

وحين لقيه في سكة بني النجار(1) .

لماذا لم تحتج الزهراء (عليها‌السلام ) بالغدير؟!:

وبما تقدم يجاب أيضاً على سؤال: لماذا لم تحتج الزهراء (عليها‌السلام ) بحديث الغدير، في خطبتها المشهورة في المهاجرين والأنصار؟!

وهي (عليها‌السلام ) التي تحدد وقت احتجاجها، ومناسبته..

يضاف إلى ما تقدم:

1 ـ أنه لم ينقل أنها (عليها‌السلام ) أشارت إلى حديث الغدير في احتجاجاتها في الفترة الأولى، فإنه لم يفسح المجال لأي احتجاج، لأن الأجواء كانت أجواء عدوان، وإيذاء، واغتصاب وقهر..

2 ـ كما أن من المحتمل أن يكون قد غلب على ظنها أن الإشارة إلى النص في تلك الأجواء، قد يحمل أبا بكر على معارضة حجتها هذه بما يثير الشبهة حول هذا الحديث، ويبطل أثره.

ولو بأن يدعى: أن النبي (عليه‌السلام ) قد أسر إليه وإلى عمر بأنه قد عدل عن هذا الأمر، كما فعل في موضوع إرثها من أبيها.. وكما فعله حين استدل في السقيفة بمضمون حديث الأئمة من قريش.. وغير ذلك..

3 ـ يضاف إلى ذلك: أنه لم تكن هناك حاجة للاستدلال، لأن من يفعل

____________

1- بحار الأنوار ج29 ص35 وإرشاد القلوب ص264 و 265 والهداية الكبرى للخصيبي ص102 وخلاصة عبقات الأنوار ج9 ص40 ومدينة المعاجز ج3 ص14 والأنوار العلوية ص307.

٣٢٣

ذلك يكون كناقل التمر إلى هجر.. لأن ما جرى في غدير خم لم يغب بعد عن ذهن أحد..

4 ـ على أنه قد نقل:

ألف: أنها احتجت بحديث الغدير أيضاً، وإن لم نستطع تحديد وقت ذلك ومناسبته، فراجع(1) .

ب: كما أن الطبرسي قد روى احتجاج الزهراء (عليها‌السلام ) به على المهاجمين لبيتها بعد أيام من وفاة أبيها(2) .

ج: واحتجت (عليها‌السلام ) به أيضاً على محمود بن لبيد(3) .

____________

1- أسنى المطالب للجزري ص49 ـ 51 والغدير ج1 ص197 وخلاصة عبقات الأنوار ج7 ص188 وج9 ص106 وقاموس الرجال للتستري ج12 ص334 والإمام علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) لأحمد الرحماني الهمداني ص132 وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) في الكتاب والسنة والتاريخ ج2 ص318 عن جامع الأحاديث للقمي ص273 وغاية المرام ج6 ص122 والمناشدة والإحتجاج بحديث الغدير للشيخ الأميني ص73 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج21 ص27 وج22 ص122.

2- الإحتجاج ج1 ص203 وبحار الأنوار ج2 ص205.

3- راجع: العوالم ج11 ص228 وبحار الأنوار ج36 ص352 وكفاية الأثر ص197 والأنوار البهية ص343 وغاية المرام ج1 ص326 وكشف المهم في طريق خبر غدير خم ص189.

٣٢٤

د: قال شمس الدين أبو الخير الجزري الدمشقي المقري الشافعي ما يلي:

فألطف طريق وقع بهذا الحديث وأغربه، ما حدثنا به شيخنا خاتمة الحفاظ، أبو بكر محمد بن عبد الله بن المحب المقدسي مشافهة: أخبرتنا الشيخة أم محمد زينب ابنة أحمد عبد الرحيم المقدسية، عن أبي المظفر محمد بن فتيان بن المثنى، أخبرنا أبو موسى محمد بن أبي بكر الحافظ، أخبرنا ابن عمة والدي القاضي أبو القاسم عبد الواحد بن محمد بن عبد الواحد المدني بقراءتي عليه، أخبرنا ظفر بن داعي العلوي باستراباد، أخبرنا والدي وأبو أحمد ابن مطرف المطرفي قالا:

حدثنا أبو سعيد الإدريسي إجازة فيما أخرجه في تاريخ استراباد، حدثني محمد بن محمد بن الحسن أبو العباس الرشيدي من ولد هارون الرشيد بسمرقند وما كتبناه إلا عنه، حدثنا أبو الحسين محمد بن جعفر الحلواني، حدثنا علي بن محمد بن جعفر الأهوازي مولى الرشيد، حدثنا بكر بن أحمد القسري.

حدثتنا فاطمة وزينب وأم كلثوم بنات موسى بن جعفر (عليه‌السلام )، قلن حدثتنا فاطمة بنت جعفر بن محمد الصادق، حدثتني فاطمة بنت محمد بن علي، حدثتني فاطمة بنت علي بن الحسين، حدثتني فاطمة وسكينة ابنتا الحسين بن علي عن أم كلثوم بنت فاطمة عن فاطمة بنت النبي، رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ورضي عنها، قالت:

أنسيتم قول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يوم غدير خم، من كنت مولاه فعلي مولاه؟!

٣٢٥

وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): أنت مني بمنزلة هارون من موسى (عليهما‌السلام )؟!

وهكذا أخرجه الحافظ أبو موسى المديني في كتابه المسلسل بالأسماء، وقال: هذا الحديث مسلسل من وجه، وهو أن كل واحدة من الفواطم تروي عن عمة لها، فهو رواية خمس بنات أخ كل واحدة منهن عن عمتها(1) .

خطبة الزهراء (عليها‌السلام ) والإحتجاج بالنص:

أما بالنسبة إلى خطبتها العظيمة في المهاجرين والأنصار، فقد كانت الحكمة تقتضي عدم التعرض ليوم الغدير بصراحة ووضوح..

إذ لو فعلت ذلك لأثيرت شبهة مفادها: أن مطالبتها بفدك وبالإرث جاءت على سبيل التحدي، وفي سياق الصراع على الحكومة والسلطة، وهو أمر يطمح الناس إليه، ويسيل لعابهم عليه..

على أن الأمر الهام جـداً هو: أنها (عليها‌السلام ) قـد وضعت أبا بكـر

____________

1- راجع: أسنى المطالب للجزري ص49 ـ 51 وأسمى المناقب للمحمودي ص32 و 33 عن ابن عساكر في ترجمة الإمام علي (عليه‌السلام ) (بتحقيق المحمودي) ج1 ص395 وقال: رواه ابن عقدة في حديث الولاية، والمنصور الرازي في كتاب الغدير حديث 123، وراجع: مودة القربى (المودة الخامسة)، وتوضيح الدلائل.

٣٢٦

ـ في تلك الخطبة ـ بين فكي كماشة..

بيان ذلك:

أنها (عليها‌السلام ) حين ذكرت موضوع الإرث في خطبتها قد بينت بداهة هذا الأمر، وشدة وضوحه، واستدلت عليه بما يزيل كل شبهة. ويقرّ لها به كل منصف، ويفهمه العالم والجاهل..

وبذلك تكون قد وضعت أبا بكر أمام خيارين، لا ثالث لهما:

الخيار الأول: أن يعترف لها بصحة ذلك كله.. ويتراجع عن موقفه، ويسلم لها إرثها من أبيها..

وذلك يعني: أنه كان إما جاهلاً بأبسط الأمور الشرعية، وأبدهها وأوضحها، وبما يعرفه حتى الصبيان.. ومن كان كذلك، فهو لا يصلح لمقام خلافة النبوة، الذي يفرض عليه تعليم الناس أحكام دينهم، وإجراء أحكام الله فيهم وعليهم، وأخذهم بها.. فإن من يجهل هذه الواضحات كيف يمكن أن نثق بمعرفته بالأمور الدقيقة والعميقة والمشتبهة على غيره؟!

ولا تصح دعوى: أنه غفل عن هذا الحكم، فإن الغفلة عن الأمور البديهية غير مقبولة. ولا سيما إذا صاحب هذه الغفلة مبادرة وجهد لإجراء الحكم المناقض لذلك الأمر البديهي والواضح..

الخيار الثاني: أن يصر على مخالفة القرآن، وعلى نقض حكم الله في الإرث حتى مع تنبيهه إليه، على رؤوس الأشهاد، وبخطبة رنانة تنشئها (عليها‌السلام ) في مقام التحدي له، والإحتجاج عليه..

وذلك معناه: أنه لا يملك من التقوى، ومن الإلتزام بأحكام الله

٣٢٧

وشرائعه ما يردعه عن هذه المخالفة الصريحة والواضحة..

ومن كان كذلك لا يستحق أن يجلس مجلس رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، ويحكم باسمه.

كما أن الناس سوف يشعرون أنه غير مأمون على أموالهم، فهل يأمنونه على أعراضهم ودمائهم؟!

على أن من الواضح: أن الكلمة التي أطلقها أبو بكر ونسبها إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).. لا تدل على مطلوبه.. فإن قوله: نحن معاشر الأنبياء لا نورث. إنما اقتطعه من حديث، أريد به بيان زهد الأنبياء بالدنيا، وأنهم لم يأتوا لجمع الأموال، وخزنها، ثم توريثها لأحفادهم..

والعبارة هي التالية: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث درهماً ولا ديناراً، ولاذهباً ولا فضة).

وهذه العبارة لا تنافي أصل مشروعية التوارث بين الأنبياء وعوائلهم، ولذا دعا زكريا ربه، فقال:( ..فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً ) (1) . وهو إنما يدل على إرث المال.

وعبارة: (ما تركناه صدقة)، إنما هي إضافة تفرد بها أبو بكر..

وحتى لو كانت هذه العبارة ثابتة من قول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فإنّها لا تدلّ على مطلوب أبي بكر..

فقد يقال: إنّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ينشئ التصدّق بنفس هذه الكلمة،

____________

1- الآيتان 5 و 6 من سورة مريم.

٣٢٨

ونحن نستبعد ذلك، لأنّه تكلّم بصيغة الجمع، ولم يقل: ما تركته صدقة..

والأظهر: أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يخبر عن جميع الأنبياء، فيقول: إن ما يتركونه يكون صدقة.

فإن كان الأمر كذلك، فالصدقة التي يتركها الميّت يكون أمرها إلى وصيّه، وهو الذي يشرف على إنفاقها في مواردها، أو إيصالها إلى مستحقّيها.. ووصيّ النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) هو: خصوص عليّ (عليه‌السلام ). كما صرّحت به النصوص الكثيرة عند السنّة والشيعة.

ولا تدخل الصدقات في دائرة اختصاص الحاكم، ولا يعود أمرها إليه، فلماذا يصرّ أبو بكر على وضع يده عليها؟!

وإن قرئت كلمة: (صدقة) بالنصب. فإن كان المراد: أنّ الأنبياء لا يورّثون الصدقات التي يتركونها بعدهم..

فذلك لا يفيد أبا بكر في شيء أيضاً. إذ لا بد من إثبات كونه قد تصدق بها في حال حياته..

وإن كان المراد نفي أن يكون ما يتركه الأنبياء صدقة ـ فالأمر يصبح أوضح وأصرح.

٣٢٩

٣٣٠

الفصل الخامس:

الأنصار.. بعد فوات الأوان!!

٣٣١

٣٣٢

حركة الأنصار خنقت قبل ولادتها:

قال الزبير: وحدثنا محمد بن موسى الأنصاري المعروف بابن مخرمة، قال: حدثني إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، قال:

لما بويع أبو بكر، واستقر أمره، ندم قوم كثير من الأنصار على بيعته، ولام بعضهم بعضاً، وذكروا علي بن أبي طالب، وهتفوا باسمه، وإنه في داره لم يخرج إليهم، وجزع لذلك المهاجرون، وكثر في ذلك الكلام.

وكان أشد قريش على الأنصار نفر فيهم، وهم سهيل بن عمرو، أحد بنى عامر بن لؤي، والحارث بن هشام، وعكرمة بن أبي جهل المخزوميان.

وهؤلاء أشراف قريش الذين حاربوا النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، ثم دخلوا في الاسلام، وكلهم موتور قد وتره الأنصار.

أما سهيل بن عمرو فأسره مالك بن الدخشم يوم بدر.

وأما الحارث بن هشام، فضربه عروة بن عمرو، فجرحه يوم بدر، وهو فار عن أخيه.

وأما عكرمة بن أبي جهل، فقتل أباه ابنا عفراء، وسلبه درعه يوم بدر زياد بن لبيد، وفى أنفسهم ذلك.

٣٣٣

فلما اعتزلت الأنصار تجمع هؤلاء، فقام سهيل بن عمرو فقال:

يا معشر قريش، إن هؤلاء القوم قد سماهم الله الأنصار، وأثنى عليهم في القرآن، فلهم بذلك حظ عظيم، وشأن غالب، وقد دعوا إلى أنفسهم، وإلى علي بن أبي طالب، وعلي في بيته لو شاء لردهم، فادعوهم إلى صاحبكم وإلى تجديد بيعته، فإن أجابوكم وإلا قاتلوهم، فوالله إني لأرجو الله أن ينصركم عليهم كما نصرتم بهم.

ثم قام الحارث بن هشام، فقال: إن يكن الأنصار تبوأت الدار والايمان من قبل، ونقلوا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) إلى دورهم من دورنا، فآووا ونصروا، ثم ما رضوا حتى قاسمونا الأموال(1) ، وكفونا العمل، فإنهم قد لهجوا بأمر إن ثبتوا عليه، فإنهم قد خرجوا مما وسموا به، وليس بيننا وبينهم معاتبة إلا السيف، وإن نزعوا عنه فقد فعلوا الأولى بهم والمظنون معهم.

ثم قام عكرمة بن أبي جهل، فقال: والله لولا قول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): (الأئمة من قريش) ما أنكرنا إمرة الأنصار، ولكانوا لها أهلا، ولكنه قول لا شك فيه ولا خيار، وقد عجلت الأنصار علينا، والله ما قبضنا عليهم الأمر ولا أخرجناهم من الشورى، وإن الذي هم فيه من فلتات الأمور، ونزغات الشيطان، ومالا يبلغه المنى، ولا يحمله الامل.

____________

1- مواقف الشيعة للأحمدي الميانجي ج3 ص162 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص24.

٣٣٤

أعذروا إلى القوم، فإن أبوا فقاتلوهم، فوالله لو لم يبق من قريش كلها إلا رجل واحد لصير الله هذا الامر فيه.

قال: وحضر أبو سفيان بن حرب، فقال: يا معشر قريش، إنه ليس للأنصار أن يتفضلوا على الناس حتى يقروا بفضلنا عليهم، فإن تفضلوا فحسبنا حيث انتهى بها، والا فحسبهم حيث انتهى بهم، وأيم الله لئن بطروا المعيشة، وكفروا النعمة، لنضربنهم على الاسلام كما ضربوانا عليه.

فأما علي بن أبي طالب فأهل والله أن يسود على قريش، وتطيعه الأنصار.

فلما بلغ الأنصار قول هؤلاء الرهط قام خطيبهم ثابت بن قيس بن شماس فقال: يا معشر الأنصار، إنما يكبر عليكم هذا القول لو قاله أهل الدين من قريش، فأما إذا كان من أهل الدنيا لا سيما من أقوام كلهم موتور، فلا يكبرن عليكم، إنما الرأي والقول مع الأخيار المهاجرين، فإن تكلمت رجال قريش، الذين هم أهل الآخرة مثل كلام هؤلاء، فعند ذلك قولوا ما أحببتم، وإلا فامسكوا(1) .

ونقول:

لا حاجة بنا إلى التعليق على هذا النص، غير أننا نحب تذكير القارئ بما يلي:

هتاف الأنصار باسم علي (عليه‌السلام ):

إن الأنصار حين ندموا على بيعة أبي بكر، لم يهتفوا باسم سعد بن

____________

1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص25.

٣٣٥

عبادة، حتى الخزرج منهم، ولا باسم أي كان من الأنصار، أو المهاجرين، بل هتفوا باسم علي (عليه‌السلام )، دون سواه، لأنه (عليه‌السلام ) هو الذي سمعوا الآيات والنصوص النبوية بالإمامة والخلافة عليه، وهو الذي نصبه لهم في غدير خم في حجة الوداع إماماً وولياً، وبايعوه، وقال له بعض من انقلب عليه:

بخٍ بخٍ لك يا علي، لقد أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة..

وأراد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أن يكتب له بذلك قبيل موته، فاتهمه بالهُجر، بعض من شمر عن ساعد الجد لتشييد بيعة صاحبه، وثم هاجم بيته فكان أن هتفوا باسمه دون سواه، لأنه هو الذي يملك كل المواصفات المقبولة والمعقولة، والمرضية لمقام الإمامة، وخلافة النبوة..

ولأنه (عليه‌السلام ) هو الذي ظهر أنه لا يهتم إلا برضا الله ورضا رسوله، ولو هوجم بيته، وهتكت حرمته، وأحرق بيته، وقتل ولده، وضربت زوجته، وهي سيدة نساء العالمين، ضرباً يودي بها الموت ولو بعد حين.. رغم أنه قالع باب خيبر، وهازم الأحزاب، ونصر الله نبيه بيده يوم بدر وأحد، والنضير، وقريظة وذات السلاسل، ويوم حنين وغير ذلك..

علي (عليه‌السلام ) لم يخرج إلى مؤيديه:

وقد صرحت الرواية: بأن الأنصار هتفوا بإسم علي (عليه‌السلام )، ولكنه (عليه‌السلام ) التزم داره، ولم يخرج إليهم.

وهذا معناه:

ألف: إنه كان يعلم أن ندم الأنصار كان متأخراً، وأن هتافهم بإسمه لا

٣٣٦

يفيد الآن شيئاً، لأن نقض ما أبرم لن يكون ميسوراً إلا إذا سفكت الدماء، وقتل الناس بعضهم بعضاً، وثارت الفتن، وبثت الأحقاد.

وهذا هو المحذور الذي كان (عليه‌السلام ) يريد للأمة أن لا تقع فيه.

ب: إن هذا الإعتكاف منه (عليه‌السلام ) يدلل على أنه لم يكن هو الذي دبر هذا الذي جرى من الأنصار، بل كان مبادرة عفوية، ومجرد صحوة ضمير منهم، فلا داعي لإصطياد أهل الأهواء، وصناع الفتن بالماء العكر.

ج: إنه يدل أيضاً على أنه لا يريد لهذه الحركة أن تتنامى إلى الحد الذي توجد بسببها مشكلة توجب المزيد من تعقيد الأمور.

كما أنه لا يريد أن يواجه الأنصار بالرد والرفض المؤدي لشعورهم بالفشل والخيبة، لأن شعورهم الذي دفعهم لهذا الموقف شعور نبيل ومرضي لله، لكن المانع من مجاراة هذا الشعور ليس هو خطأ الأنصار، بل هو إصرار المتشبثين بالحكم على الإحتفاظ به، ولو بقيمة إحراق الأخضر واليابس..

جزع المهاجرين:

وتقدم: أن المهاجرين جزعوا لحركة الأنصار هذه..

وسبب هذا الجزع أنهم توقعوا أن تنجرّ الأمور إلى نزاع مسلح يكلفهم أثماناً باهظة جداً، ثم لا يعلم إلا الله ماذا ستكون النتائج..

والمهاجرون وإن كان أكثرهم يؤيد أبا بكر، ويلتزم بالدفاع عن موقعه، ولكن المشكلة بالنسبة إليهم هي:

٣٣٧

أولاً: أنهم ليسوا في بلادهم، ولا بين عشائرهم ولا في محيطهم الذي نشأوا فيه.

ثانياً: إنهم يخشون صولة علي (عليه‌السلام ) والهاشميين.

ثالثاً: إنهم يعلمون أن خيار وكبار الصحابة سيكونون مع علي (عليه‌السلام )..

أقوال متبادلة بين القريشيين، والأنصار:

ألف: يلاحظ: أن القريشيين الثلاثة الذين كانوا يدبرون للحرب مع الأنصار، بالإضافة إلى أنهم ظنوا: أن علياً (عليه‌السلام ) حين اعتزل في بيته، فظنوا أنه انسحب، وخرج عن دائرة التحدي ذاهلين عن أن اعتزاله هذا ليس معناه أنه يريد أن يلقي الحبل على الغارب، وأن يفسح المجال لقريش لكي توقع بالأنصار.

فإنه (عليه‌السلام ) وجميع من معه من الهاشميين، وخيار الصحابة وسواهم يقرون ويعترفون بفضل الأنصار، وعظيم منزلتهم، وبالغ أثرهم، ولا يمكن التفريط بهم في الساعات الحرجة..

ب: واللافت هنا: أن الأنصار يهتفون بإسم علي (عليه‌السلام )، ولكن هؤلاء القرشيين ـ وعلى رأسهم سهيل بن عمر يتهمونهم بأنهم: إنهم دعوا إلى أنفسهم، ويعتبرون دعوتهم هذه نقضاً لبيعتهم أبا بكر، فيحتاجون إلى تجديد هذه البيعة.

ج: ويعتبر الحارث بن هشام أن دعوة الأنصار هذه تحبط عمل

٣٣٨

الأنصار، وتسقط كل فضائلهم، وتضيع أعمالهم في خدمة هذا الدين.. حيث قال: فإنهم لهجوا بأمر إن ثبتوا عليه، فإنهم قد خرجوا مما وسموا به.

د: إن عكرمة يحتج بحديث الأئمة من قريش.. ولكنه نسي قول أمير المؤمنين (عليه‌السلام ): احتجوا بالشجرة، وأضاعوا الثمرة..

هـ: لقد حدد ثابت بن قيس خطيب الأنصار ـ الضابطة، وبيَّن المعيار.. وهو أن هؤلاء الذين تكلموا بما تكلموا به هم أهل الدنيا، وكلهم موتور.. فلا عبرة بأقوالهم..

والعبرة إنما هي بأقوال الأخيار، وأهل الآخرة من المهاجرين.. فإن تكلموا بما تكلم به أهل الدنيا، فمعنى ذلك أن المعايير أصبحت مفقودة، والضوابط غير موجودة.. وإن قالوا ما يمليه عليهم العقل والشرع والدين فاقبلوا منهم، ولا تنساقوا مع أهل الدنيا، ولا تجاروهم الكلام، فإنهم يسوقونكم إلى أجواء العصبية الجاهلية، ومنطق أهل الأهواء.

لا نجيبك إلا أن يأمرنا أبو الحسن:

وحين تهجم عمرو بن العاص على الأنصار في المسجد (التفت فرأى الفضل بن العباس بن عبد المطلب، فندم على قوله، للخؤولة التي بين ولد عبد المطلب وبين الأنصار، ولان الأنصار كانت تعظم علياً، وتهتف باسمه حينئذ.

فقال الفضل: يا عمرو، إنه ليس لنا أن نكتم ما سمعنا منك، وليس لنا أن نجيبك، وأبو الحسن شاهد بالمدينة، إلا أن يأمرنا فنفعل.

٣٣٩

ثم رجع الفضل إلى علي فحدثه، فغضب، وشتم عمرواً، وقال: آذى الله ورسوله، ثم قام فأتى المسجد، فاجتمع إليه كثير من قريش، وتكلم مغضبا، فقال:

يا معشر قريش، إن حب الأنصار إيمان، وبغضهم نفاق، وقد قضوا ما عليهم، وبقى ما عليكم، واذكروا أن الله رغب لنبيكم عن مكة، فنقله إلى المدينة، وكره له قريشا، فنقله إلى الأنصار، ثم قدمنا عليهم دارهم، فقاسمونا الأموال، وكفونا العمل، فصرنا منهم بين بذل الغني وإيثار الفقير.

ثم حاربنا الناس، فوقونا بأنفسهم، وقد أنزل الله تعالى فيهم آية من القرآن، جمع لهم فيها بين خمس نعم، فقال:( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) (1) .

ألا وإن عمرو بن العاص قد قام مقاماً آذى فيه الميت والحي، ساء به الواتر، وسر به الموتور. فاستحق من المستمع الجواب، ومن الغائب المقت، وإنه من أحب الله ورسوله أحب الأنصار، فليكفف عمرو عنا نفسه.

قال الزبير: فمشت قريش عند ذلك إلى عمرو بن العاص، فقالوا: أيها الرجل، أما إذا غضب علي فاكفف.

وقال خزيمة بن ثابت الأنصاري يخاطب قريشاً:

____________

1- الآية 9 من سورة الحشر.

٣٤٠