الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)14%

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 409

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 206933 / تحميل: 8911
الحجم الحجم الحجم
الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وقد كتب له سديف، الذي كان من المتحمسين للدولة العباسية:

أسرفت في قتل الرعية ظالماً

فاكفف يديك أظلها (مهديها)(١)

ويريد ب‍ـ (مهديها) محمد بن عبد الله بن الحسن على ما يظهر. وقضية الرجل الهمداني، الذي أراد عامل المنصور أن يسلبه ضيعته، فأبي عليه ذلك، فكبله بالحديد، وسيره إلى المنصور، فأودعه السجن أربعة أعوام، لا يسأل عنه أحد، هذه القضية معروفة، ومشهورة(٢) .

وعندما بنى مدينة: (المصيصية) قد أخذ أموال الناس، حتى ما ترك عند أحد فضلاً(٣) وعندما أراد أن يبني مدينة أخرى ثار الناس عليه ووقع القتال، لأنهم علموا أنه سوف لا يبقى عندهم فضلاً أيضاً.

وأما ما فعله عبد الوهاب ابن أخي المنصور في أهل فلسطين، فذلك يفوق كل وصف ويتجاوز كل بيان(٤) .

بعض ما يقال عن المنصور:

وأخيراً.. فقد قال عنه البيهقي إنه: (كان يعلق الناس من أرجلهم، حتى يؤدوا ما عليهم)(٥) .

____________

(١) العقد الفريد، طبع دار الكتاب العربي ج ٥ / ٨٨. ويقال: إن هذا هو سبب قتل سديف.

(٢) شرح قصيدة ابن عبدون لابن بدرون ص ٢٨١، ٢٨٢، ومروج الذهب ج ٣ ص ٢٨٨.

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٣ / ١٢١.

(٤) الوزراء والكتاب ص ١٣٧.

(٥) المحاسن والمساوي ص ٣٣٩.

١٠١

هذا.. وقد وصف اليافعي والذهبي المنصور بأنه كان: (فيه جبروت وظلم)(١) .

ووصفه السيد أمير علي بأنه: (كان غادراً خداعاً، لا يتردد البتة في سفك الدماء.. إلى أن قال: وعلى الجملة: كان أبو جعفر سادراً في بطشه، مستهتراً في فتكه. وتعتبر معاملته لأولاد علي من أسوأ صفحات التاريخ العباسي)(٢) .

ولا بأس بمراجعة ما قاله الريان، مولى المنصور لجعفر بن أبي جعفر، حيث ينص على أنه قتل أهل الدنيا، ممن لا يعد ولا يحصى، وإن فرعون لا يقاس به(٣) .

وأما المهدي:

الذي اتخذ الزندقة ذريعة للفتك بالأبرياء.. فقد كفانا الجهشياري مؤونة الحديث عنه، حيث قال: إنه في زمن المهدي هذا:

(كان أهل الخراج يعذبون بصنوف من العذاب، من السباع، والزنابير والسنانير)(٤) . وقد خرج عليه يوسف البرم بخراسان، منكرا عليه أحواله، وسيرته، وما يتعاطاه(٥) .

____________

(١) العبر للذهبي ج ١ / ٢٣٠، ومرآة الجنان لليافعي ج ١ / ٣٣٤.

(٢) مختصر تاريخ العرب والتمدن الإسلامي ص ١٨٤، وليراجع تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ / ٣٩٩. والتاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ / ٦١.

(٣) الوزراء والكتاب ص ١٣٠.

(٤) الوزراء والكتاب ص ١٤٢.

(٥) البداية والنهاية ج ١٠ / ١٣١.

١٠٢

وأما الهادي:

فقد كان: (يتناول المسكر، ويحب اللهو والطرب، وكان ذا ظلم وجبروت)(١) .

وكان: (سيّء الأخلاق، قاسي القلب، جباراً، يتناول المسكر، ويلعب)(٢) .

وقد قال عنه الجاحظ: (كان الهادي شكس الأخلاق، صعب المرام، سيء الظن. قل من توقاه، وعرف أخلاقه إلا أغناه، وما كان شيء أبغض إليه من ابتدائه بسؤال. وكان يأمر للمغني بالمال الخطير الجزيل)(٣) .

وقال الجهشياري: (كان فظاً قاسياً، غير مأمون على وفاء بوعد)(٤) .

نعم.. لقد كان يأمر للمغني بالمال الجزيل الخطير ـ من بيت مال المسلمين ـ كما يقول الجاحظ.. وقد بلغ من إسرافه في إجازة الخلعاء والمغنين، أن دفع إسحاق الموصلي لأن يقول: (لو عاش لنا الهادي لبنينا حيطان دورنا بالذهب والفضة)(٥) وأخيراً.. فقد قال عنه الذهبي: (قد كان جباراً ظالم النفس) (٦) إلى آخر ما هنالك مما لا مجال لنا هنا لتتبعه.

____________

(١) تاريخ الخميس ج ٢ / ٣٣١.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٧٩، وغيره.

(٣) التاج للجاحظ ص ٨١.

(٤) الوزراء والكتاب ص ١٧٤.

(٥) الأغاني، طبع دار الكتب بالقاهرة ج ٥ / ١٦٣.

(٦) العبر للذهبي ج ١ / ٢٥٨. ولا بأس بمراجعة: مشاكلة الناس لزمانهم ص ٢٤.

١٠٣

وأما الرشيد:

فسيرته تكفي عن كل بيان.. ويكفيه أنه ـ كما ينص المؤرخون ـ يشبه المنصور في كل شيء إلا في بذل المال(١) ، حيث يقولون إن المنصور كان بخيلاً.

وقد تسلط ـ كالمنصور ـ بعد مدة من خلافته على الأمور، فأفسد الصنايع، وأحب جمع الأموال(٢) .

(وكان جباراً سفاكاً للدماء، على نمط من ملوك الشرق المستبدين)(٣) . وقد عسف عامله أهل خراسان، وقتل ملوكها، ووجوه أهلها وأشرافها وصناديدها، وأخذ أموالهم. فأرسلها إلى الرشيد، الأمر الذي كان سبباً في انتقاضها عليه(٤) .

وكان يعذب الناس في الخراج، حيث: (أخذ العمال، والتناء، والدهاقين، وأصحاب الصنايع، والمبتاعين للغلات، والمقبلين. وكان عليهم أموال مجتمعة، فولى مطالبتهم عبد الله بن الهيثم بن سام. فطالبهم بصنوف من العذاب. إلى أن دخل عليه ابن عياض، فرأى الناس يعذبون في الخراج، فقال: ارفعوا عنهم، إني سمعت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول:((من عذب الناس في الدنيا عذبه الله يوم القيامة)) ، فأمر بأن يرفع العذاب عن الناس، فرفع..) (٥) .

____________

(١) ولكن لا في سبيل الله، وإنما على ملذاته وشهواته، وعلى المغنين والمضرطين كما في رسالة الخوارزمي المتقدمة، وكما ينص عليه أي كتاب تاريخي يتحدث عن سيرته وأفعاله.

(٢) التنبيه والإشراف ص ٢٩٩.

(٣) هذا قول الأمير شكيب أرسلان، في تعليقته على: حاضر العالم الإسلامي، نقلها عنه: محمد بن عقيل هامش ص ٢٠ من كتابه: العتب الجميل.. وهو من منشورات هيئة البحوث الإسلامية في إندونيسيا.

(٤) الوزراء والكتاب ص ٢٢٨.

(٥) تاريخ اليعقوبي ج ٣ / ١٤٦.

١٠٤

وكان قد ولى رجلاً يضرب الناس، ويحبسهم، ليؤدوا ما عليهم من الخراج(١) .

وقال أبو يوسف، في عرض وصيته للرشيد بشأن عمال الخراج: (بلغني أنه: قد يكون في حاشية العامل، أو الوالي جماعة، منهم من له حرمة، ومنهم من له إليه وسيلة، ليسوا بأبرار ولا صالحين، يستعين بهم. ويوجههم في أعماله، يقتضي بذلك الذمامات. فليس يحفظون ما يوكلون بحفظه، ولا ينصفون من يعاملونه، إنما مذهبهم أخذ شيء، من الخراج كان، أو من أموال الرعية. ثم إنهم يأخذون ذلك كله ـ فيما بلغني ـ بالعسف، والظلم، والتعدي(٢) ..

وقال: وبلغني أنهم يقيمون أهل الخراج في الشمس، ويضربونهم الضرب الشديد، ويعلقون عليهم الجرار، ويقيدونهم بما يمنعهم من الصلاة، وهذا عظيم عند الله، شنيع في الإسلام)(٣) .

وبعد.. فقد كان في قصره أربعة آلاف امرأة: من الجواري والحظايا(٤) وكان على حد تعبير بعضهم: (حريصاً على اللذات المحرمة، وسفك الدماء، وغصب حقوق الناس، وكان ظالماً لأهل البيتعليهم‌السلام وكانت جوائزه خاصة لأهل اللهو، واللعب، والمغنين، والراقصات).

____________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ / ١٨٤.

(٢) الخراج لأبي يوسف ص ١١٦ ط سنة ١٣٩٢ ه‍.

(٣) المصدر نفسه ص ١١٨.

(٤) البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٢٠، نقلاً عن الطبري. وفي نفس الجزء من البداية والنهاية ص ٢٢٢ قال: (قال بعضهم: إنه كان في داره أربعة آلاف جارية سراري حسان).

وجاء في ضحى الإسلام ج ١ / ٩. أنه: (كان للرشيد زهاء ألفي جارية: من المغنيات، والخدمة في الشراب في أحسن زي، من كل نوع من أنواع الثياب والجوهر)، وإذن فكيف بالسراري الذين هم أربعة آلاف، وبقية الجواري، اللواتي يحتاج إليهن في كثير من الشؤون. فالرقم الحقيقي أكثر من أربعة آلاف بكثير، بل لعله يزيد عما كان عند المتوكل، الذي كان يتسرى باثني عشر ألف سرية، كما نص عليه الخوارزمي فيما تقدم، وجبور عبد النور في كتاب الجواري ٣٦ من سلسلة اقرأ.

١٠٥

وستأتي عبارة فان فلوتن عنه في فصل: آمال المأمون الخ.. فانتظر..

وحسب الرشيد. رسالة سفيان، التي أرسلها إليه من غير طي، ولا ختم، والتي تلقي لنا ضوءاً على جانب من سيرته وسلوكه. ولسوف نثبتها ـ نظرا لأهميتها ـ مع الوثائق الهامة في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

وأما الأمين.

(.. الذي رفض النساء، واشتغل بالخصيان، ووجه إلى البلدان في طلب الملهين، واستخف حتى بوزرائه، وأهل بيته)(١) .

فقد كان: (قبيح السيرة، ضعيف الرأي، سفاكا للدماء، يركب هواه، ويهمل أمره، ويتكل في جليلات الأمور على غيره الخ..)(٢) .

ويضيف هنا القلقشندي قوله: (منهمكا في اللذات واللهو..)(٣) .

ويكفيه أن كلاً من العبري، وابن الأثير الجزري يقول عنه: إنه: (لم يجد للأمين شيئاً من سيرته يستحسنه، فيذكره..)(٤) .

ولقد كانت أيامه على الناس، أيام حروب، وويلات، وسلب ونهب، وما إلى ذلك، مما لا تقره شريعة، ولا يرضى به خلق كريم.

____________

(١) مآثر الإنافة ج ١ / ٢٠٥، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٠١، ومختصر تاريخ الدول ص ١٣٤، والكامل لابن الأثير، طبع دار الكتاب العربي ج ٥ / ١٧٠، والطبري، وغير ذلك.

(٢) التنبيه والإشراف ص ٣٠٢.

(٣) مآثر الإنافة في معالم الخلافة للقلقشندي ج ١ / ٢٠٤.

(٤) مختصر أخبار الدول ص ١٣٤، والفخري في الآداب السلطانية ص ٢١٢.

١٠٦

وأما المأمون:

فإنه لم يكن في كل ما ذكرناه أفضل من أسلافه، ولا كانت أيامه بدعاً من تلك الأيام. كما سنوضح ذلك في أواخر فصل: آمال المأمون، وظروفه في الحكم، حيث سيتضح أن حال الرعية في أيامه كان قد تناهى في السوء، وبلغ الغاية في التدهور.

وصية إبراهيم الإمام:

وبعد كل الذي قدمناه، لم يعد يخفي على أحد، كم سفك العباسيون من الدماء البريئة ـ عدا عما سفكوه من دماء بني عمهم العلويين ـ ونزيد هنا: أن إبراهيم الإمام أرسل إلى أبي مسلم يأمره: (بقتل كل من شك فيه، أو وقع في نفسه شيء منه، وإن استطاع أن لا يدع بخراسان من يتكلم بالعربية إلا قتله فليفعل، وأي غلام بلغ خمسة أشبار يتهمه فليقتله، وأن لا يخلي من مضر دياراً)(١) .

ولعل سر أمره له بقتل كل عربي يرجع إلى أنه كان يعلم أن ذلك يرضي الخراسانيين، الذين كانوا مضطهدين على أيدي العرب. كما أنه كان يعلم أن العرب ين يستجيبوا له استجابة واسعة ضد الأمويين، لأن الدولة الأموية كانت ترضي غرور العربي، وتؤكد اعتزازه بجنسه ومحتده.

يضاف إلى ذلك ما كان يعانيه العرب من الانقسامات الداخلية، التي كانت تمزق صفوفهم وتوهن قوتهم.

____________

(١) الطبري، طبع ليدن ج ٩ / ص ١٩٧٤، و ج ١٠ / ٢٥، والكامل لابن الأثير، ج ٤ / ٢٩٥، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٨، و ص ٦٤، والإمامة والسياسة ج ٢ ص ١١٤، والنزاع والتخاصم للمقريزي ص ٤٥، والعقد الفريد، طبع دار الكتاب ج ٤ / ٤٧٩، وشرح النهج للمعتزلي ج ٣ / ٢٦٧، وضحى الإسلام ج ١ ص ٣٢.

١٠٧

وأما المضرية فقد كانوا جماعة نصر بن سيار الموالي للأمويين، واليمانية كانوا جماعة ابن الكرماني المناهض لنصر(١) .

أبو مسلم ينفذ الوصية:

وقد حرص أبو مسلم على تنفيذ وصية إبراهيم الإمام كل الحرص.. حتى لقد قتل ـ كما يقول الذهبي واليافعي ـ: (خلقاً لا يحصون محاربة وصبراً، وكان حجاج زمانه..)(٢) .

ويقول المؤرخون: إن من قتلهم أبو مسلم صبراً قد بلغ (ست مئة ألف نفس) من المسلمين، من المعروفين، سوى من لم يعرف، ومن قتل في الحروب، وتحت سنابك الخيل(٣) .

وقد اعترف المنصور نفسه بذلك، عندما عاتب أبا مسلم، ثم قتله، فكان من جملة ما عاتبه به قوله: (فأخبرني عن ست مئة ألف من المسلمين، قتلتهم صبراً؟!). ولم ينكر أبو مسلم ذلك، وإنما أجابه بقوله:

____________

(١) راجع: تاريخ الجنس العربي ج ٨ / ٤١٧.

(٢) العبر للذهبي ج ١ / ١٨٦، ومرآة الجنان ج ١ / ٢٨٥.

(٣) البداية والنهاية ج ١٠ / ٧٢، ووفيات الأعيان ج ١ / ٢٨١، طبع سنة ١٣١٠ ه‍. ومختصر تاريخ الدول ص ١٢١، والكامل لابن الأثير ج ٤ ص ٣٥٤، وشرح شافية أبي فراس ص ٢١١، وغاية المرام في محاسن بغداد دار السلام للعمري الموصلي ص ١١٦ وتاريخ ابن الوردي ج ١ / ٢٦١، ومآثر الإنافة في معالم الخلافة ج ١ / ١٧٨، والنزاع والتخاصم للمقريزي ص ٤٦.

١٠٨

(لتستقيم دولتكم)(١) !!.

واعترف جعفر البرمكي بذلك أيضاً(٢) .

وأبو مسلم نفسه نراه قد اعترف بمئة ألف منها أيضاً في مناسبة أخرى(٣) .

وأما من قتلهم في حروبه مع بني أمية وقوادهم، فقد أحصوا فوجدوا: ألف ألف وستمائة ألف(٤) .

وكل ذلك غير بعيد. إذا ما عرفنا أن ثورة أبي السرايا قد كلفت جيش المأمون فقط (٢٠٠) ألف جندي، كما سيأتي. وكذلك إذا ما لاحظنا ما يذكره المؤرخون عن عدد القتلى في الوقائع المختلفة، التي خاضها أبو مسلم..

وبعد هذا. فإننا نرى أبا مسلم نفسه يقول في رسالة منه للمنصور: (فوترت أهل الدنيا في طاعتكم، وتوطئة سلطانكم)(٥) وفي رسالة أخرى منه له أيضاً يقول: (.. إن أخاك أمرني أن أجرد السيف، وآخذ بالظنة، وأقتل على التهمة، ولا أقبل المعذرة، فهتكت بأمره حرمات حتم الله صونها، وسفكت دماء فرض الله حقنها، وزويت الأمر عن أهله، ووضعته في غير محله)(٦) .

يقصد بـ‍ (أهله): أهل البيتعليهم‌السلام ، وقد أوضح ذلك في رسالته الأخرى للمنصور التي يقول فيها: أن أخاه قد استخف بالقرآن وحرفه، وأنه أوطأه في غيرهم من أهل بيتهم العشوة، بالإفك والعدوان، وأنه ظهر له بصورة مهدي.

____________

(١) طبيعة الدعوة العباسية ص ٢٤٥، نقلاً عن العيني في: دولة بني العباس والطولونيين والإخشيديين ص ٣٠، فما بعدها.

(٢) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٢ / ٤٣٥، نقلاً عن: زينة المجالس (فارسي).

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٣ / ١٠٢، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ / ١٠٣.

(٤) شرح قصيدة ابن عبدون لابن بدرون ص ٢١٤، وليراجع صبح الأعشى ج ١ / ٤٤٥ أيضاً.

(٥) البداية والنهاية ج ١٠ / ٦٩.

(٦) تاريخ بغداد ج ١ / ٢٠٨، والبداية والنهاية ج ١٠ / ١٤، ولا بأس بمراجعة ص ٦٩. والنزاع والتخاصم ص ٥٣، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة جلد ١ ج ٢ / ٥٣٣.

١٠٩

أي أن أخا المنصور قد حرف الآيات الواردة في أهل البيتعليهم‌السلام لتنطبق على العباسيين، وأنه بذلك تمكن من إغراء أبي مسلم بالعلويين، ففعل بهم ما فعل بالإفك والعدوان.. ويصرح بذلك في رسالة أخرى للمنصور، فيقول: (وأوطأت غيركم من كان فوقكم من آل رسول الله بالذل والهوان، والإثم والعدوان) ويشير بذلك إلى العلويين(١) .

وعلى كل فإننا سوف لا نستغرب إذا رأينا أنه قد بلغ من ظلم أبي مسلم أنه عندما حج: (هربت الأعراب عن المناهل، التي يمر بها ذهاباً وإياباً، فلم يبق منهم أحد، لما كانوا يسمعونه من سفكه للدماء)(٢) .

وقال المقريزي: (وقتل - يعني أبو مسلم - زياد بن صالح، من أجل أنه بلغه عنه أنه يقول: إنما بايعنا على إقامة العدل، وإحياء السنن، وهذا جائر ظالم، يسير بسيرة الجبابرة، وإنه مخالف وكان لزياد بلاء في إقامة الدولة، فلم يرع له، فغضب عيسى ابن ماهان، مولى خزاعة لقتل زياد، ودعا لحرب أبي مسلم سراً، فاحتال عليه بأن دس إلى بعض ثقاته إلخ) ثم ذكر كيفية احتيال أبي مسلم وقتله إياه(٣) .

____________

(١) طبيعة الدعوة العباسية ص ٣٣، نقلاً عن كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي.. ولا بأس بمراجعة الرسائل المختلفة المعبرة عن ذلك فيما تقدم من المراجع، وفي النزاع والتخاصم ص ٥٢، ٥٣، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة جلد ١ ج ٢ / ٥٣٣، ٥٣٤، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٦٩، والإمامة والسياسة ج ٢ / ١٣٢، ١٣٣، وغير ذلك.

(٢) النزاع والتخاصم ص ٤٦.

(٣) نفس المصدر والصفحة.

١١٠

وقد قال أبو مسلم ليونس بن عاصم عندما قال له: هذا جزائي؟! (ومن جازيناه بجزائه، وضعت سيفي فلم يبق بر ولا فاجر إلا قتلته)(١) .

وقال أبو مسلم أيضاً: (إن أطفيت من بني أمية جمرة، وألهبت من بني العباس نيرانا، فإن أفرح بالإطفاء، فواحزنا من الإلهاب)(٢) .

وقال أبو مسلم أيضاً: (إني نسجت ثوباً من الظلم لا يبلى ما دامت الدولة لبني العباس، فكم من خارج الخ)(٣) .

ولا مجال ثمة للشك:

كل ذلك يدل دلالة قاطعة على مدى الظلم الذي كان يمارسه العباسيون مع الناس بصورة عامة، ومع العلويين، بشكل خاص.. والمتتبع للأحداث التاريخية يرى أن الأمة كانت تعيش في رعب دائم ومستمر، خصوصاً وأن كل أحد كان يرى ويعلم: كيف أن الآلاف من الناس، كانوا يذبحون لأتفه الأسباب وأحقرها..

وأعود فأذكر القارئ ببعض ما أوردناه من رسالة الخوارزمي، التي تعتبر بحق الوثاق الهامة. كما اعترف به غير واحد من الباحثين.

وبعد فلا بد لنا من كلمة أخرى:

كانت تلك ـ كما قلنا ـ لمحة خاطفة عن حالة العباسيين من الناس عامة، ومع العلويين خاصة.. ولعل من الظلم للحقيقة وللتاريخ هنا، أن نمضي ولا نعطي للقارئ لمحة عن حياتهم الخاصة، وسلوكهم الخلقي.

ولذا نرى لزاماً علينا: أن نلم إلمامة سريعة ببعض ما يحدثنا به التاريخ في هذا الموضوع، فنقول

____________

(١) النزاع والتخاصم ص ٤٧.

(٢) المحاسن والمساوي للبيهقي ص ٢٩٨، طبع صادر وشرح ميمية أبي فراس ص ٢١٤.

(٣) المحاسن والمساوي طبع مصر ج ١ / ٤٨٢، والكنى والألقاب ج ١ / ١٥٧ / ١٥٨ نقلاً عن ربيع الأبرار للزمخشري.

١١١

العباسيون في حياتهم الخاصة:

أما حياتهم الخاصة، وما كان يمر بها من رذائل وقبائح، يندى لها جبين الإنسان الحر ألماً وخجلاً، ويقطر قلبه لها دماً وألماً، فتلك حدث عنها ولا حرج. وقد تقدم في رسالة الخوارزمي بعض ما يشير إلى ذلك. وحيث أن الاستقصاء في هذا الموضوع مما تنوء به العصبة أولو القوة، فإننا لن نحاول التصدي لذلك، سيما وأن هذا الكتاب غير معد لبحث هذا الموضوع فعلاً.

ولعل الكلمة التي تجمع صفات بني العباس الخلقية هي الكلمة التي كتبها المأمون، وهو في مرو في رسالة منه للعباسيين، بني أبيه في بغداد، والتي قلنا إننا سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب مع الوثائق الهامة، إن شاء الله تعالى..

والمأمون: هو من أهل ذلك البيت، الذين هم أدرى من كل أحد بما فيه، لأنهم عاشوا في خضم الأحداث، وشاهدوا كل شيء، وكل القضايا عن كثب. يقول المأمون في تلك الرسالة: (.. وليس منكم إلا لاعب بنفسه، مأفون في عقله، وتدبيره، إما مغن، أو ضارب دف، أو زامر. والله، لو أن بني أمية الذين قتلتموهم بالأمس نشروا، فقيل لهم: لا تأنفوا من معائب تنالوهم بها، لما زادوا على ما صيرتموه لكم شعاراً ودثاراً، وصناعة وأخلاقاً، ليس منكم إلا من إذا مسه الشر جزع، وإذا مسه الخير منع، ولا تأنفون، ولا ترجعون إلا خشية، وكيف يأنف من يبيت مركوباً، ويصبح بإثمه معجباً، كأنه قد اكتسب حمداً، غايته بطنه وفرجه، لا يبالي أن ينال شهوته بقتل ألف نبي مرسل، أو ملك مقرب. أحب الناس إليه من زين له معصية أو أعانه في فاحشة، تنظفه المخمورة الخ). فهذه القطعة تبين لنا بجلاء ـ كما يتبين من كثير أمثالها ـ كيف كان خلفاء العباسيين منغمرين في الملذات والشهوات.. وتبين لنا نظرتهم للحياة وأهدافهم منها. ولولا أن المقام يطول لأوردنا سيلاً من الشواهد والدلائل على مدى استهتارهم، وانتهاكهم، للحرمات، وارتكابهم للموبقات، ليعلم أن أقوال المأمون هذه، وكذلك أقوال الخوارزمي، وغيرهما مما تقدم غير مبالغ فيها، وأن الحقيقة هي أعظم من ذلك بكثير وأن ذلك ليس إلا غيضاً من فيض. وكتب التاريخ والأدب خير شاهد على ذلك، وإن حاولت بعض الأيدي الأثيمة تشويه الحقيقة، والتستر على واقعهم ذاك المزري والمهين.

١١٢

وفي نهاية المطاف:

وإذا كانت تلك هي سيرة العباسيين في حياتهم الخاصة، وتلك هي سياساتهم مع الناس ومع خصومهم، فماذا يمكن أن تكون حالة وزرائهم وقوادهم، وسائر رجال دولتهم؟!

التاريخ وحده هو الذي يتولى الإجابة على هذا السؤال..

أما نحن.. فنكتفي بهذا القدر، وننتقل إلى الحديث عن بعض نتائج سياسات العباسيين تلك.. وخصوصاً ما كان منها يتعلق بالعلويين.

فشل سياسة العباسيين ضد العلويين

سؤال لا بد منه:

والآن.. وبعد أن عرفنا موقف العلويين من العباسيين، وقدمنا لمحة من معاملتهم للرعية، التي لم تكن أحسن حالاً، ولا أهدأ بالاً من العلويين، سيما وأنهم من أول يوم من حكمهم سلطوا على الناس فئة لا تفقه للرحمة معنى، ولا تجد الشفقة إلى قلوبها أي سبيل، همها الدنيا، وغايتها الاستئثار بكل شيء، وتتمتع بحماية مطلقة من قبل الخلفاء، حتى عندما كانت تعبث بأموال الناس، وحتى في دمائهم وأعراضهم..

وكيف لا!! والخلفاء أنفسهم ما كانوا أحسن حالاً من تلك الفئة، ولا أقل انحرافا، وبعداً عن تعاليم السماء، والخلق الإنساني منها..

بعد أن عرفنا ذلك. وغيره مما تقدم، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو:

ما هي نتائج وآثار سياسات العباسيين تلك؟. وهل استطاعوا أن يجعلوا الناس راضين عن تلك السياسات؟ وعما كانوا يرونه منهم من تميعهم، واستهتارهم بكل القيم، والفضائل الأخلاقية؟.

وهل استطاعوا أن يكتسبوا عطف الأمة، بعد أن فعلوا بها، وبأهل بيت نبيها ما فعلوا؟!.

١١٣

أما الجواب:

الواقع.. أن نتيجة ذلك كانت وبالاً على العباسيين:( وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السّيّئُ إِلّا بِأَهْلِهِ.. ) . فقد كان الناس مستائين جداً من سيرتهم السيئة وسيرة ولاتهم مع الرعية، وكان من الطبيعي جداً أيضاً: أن يثير الناس ويسؤهم ما كانوا يرونه من تميعهم الشديد في حياتهم الخاصة، وإيثارهم اللذات المحرمة على كل شيء، حتى قد يبلغ الأمر بالخليفة منهم أن يحتجب عن الناس منهمكا بلذاته وشهواته. وقد كان الرشيد يحمد الله على أن أراحه البرامكة من أعباء الحكم(١) ، وتركوه ينصرف إلى ما يندى له جبين الإنسان الحر ألماً وخجلاً، وكذلك كانت حال والده المهدي من قبل، وعلى ذلك جرى ولده الأمين من بعد.. وغيرهم وغيرهم ممن لا نرى ضرورة لتعداد أسمائهم. وحسبنا تلك الشواهد الكثيرة في التاريخ، الذي قد لا تمر بصفحة منه، فيها حديث عن الخلفاء، إلا وتجد فيها ما لا يسر، وما لا يغبط عليه أحد..

وكان مما ساعد على إدراك الناس لحقيقة نوايا العباسيين، وواقعهم، الذي طالما جهدوا في التستر عليه، وإخفائه، بحيث لم يعد ثمة شك في أنهم ليسوا بأفضل من الأمويين، إن لم يكونوا أكثر منهم سوءا. هو ما كانوا يرونه من معاملتهم لبني عمهم آل أبي طالب، الذين ضحوا بكل شيء في سبيل هذا الدين، وأعطوا وبذلوا حتى أرواحهم في سبيل هذه الأمة. والذين كانوا هم الأمل الحي لهذه الأمة المضطهدة، والمغلوبة على أمرها، التي كانت ترى فيهم كل الفضائل، والكمالات الإنسانية..

والذين كان من الواضح لدى كل أحد أن وجود العباسيين في الحكم مدين لهم، أكثر من غيرهم على الإطلاق.

لقد رأوهم جميعاً متفقين ـ حتى المأمون كما سيتضح ـ على العداء لهم، ووجوب التخلص منهم، لكن الفرق هو أن الخلفاء الذين سبقوا المأمون كانت أساليبهم تجاههم، تتميز ـ عموماً ـ بالعنف والقسوة، بخلافه هو، فإنه اتبع أسلوباً جديداً، وفريدا في القضاء عليهم، والتخلص منهم..

ولقد كان هذا الموقف مفاجأة للأمة، وصدمة لها، ولذا فمن الطبيعي أن يتسبب في ردود فعل عنيفة في ضمير الأمة ووجدانها، وبخيبة أمل قاسية لها في العباسيين.

____________

(١) الوزراء والكتاب ص ٢٢٥.

١١٤

بل لقد كان ذلك سبباً في زيادة تعاطفها معهم، ومضاعفة احترامهم لهم ـ ولو بدافع إنساني بحت ـ ومن هنا نلاحظ أنهم كثيراً ما يذكرون في سبب نكبات الوزراء، والعمال، بل والعلماء أيضاً ـ صدقاً كان ذلك أو كذباً ـ أنه أجار علوياً، أو أطلقه من السجن، ودله على طريق النجاة، وقد ذكرت هذه المنقبة للإمام أحمد بن حنبل أيضاً(١) ، وأما موقف أبي حنيفة، والشافعي، وغيرهم من العلماء، فهو أشهر من أن يذكر.

ولعل الأهم من ذلك كله:

ولعل الأهم من ذلك كله أن الناس الذين كانوا يرون سلوك العباسيين مع العلويين، ومع الناس عامة، وأيضاً سلوكهم اللاأخلاقي في حياتهم الخاصة.. كانوا يرون في مقابل ذلك: زهد العلويين، وورعهم، وترفعهم عن كل الموبقات والمشينات، وخصوصاً الأئمة منهمعليهم‌السلام . وقد جعلهم ذلك ينساقون معهم لا إرادياً، حيث رأوا أنهم هم الذين يمتلكون كل المؤهلات، ويتمتعون بكافة الفضائل والمزايا، التي تجعلهم جديرين بخلافة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأهلا لقيادة الأمة، قيادة صالحة وسليمة، كما كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقودها من قبل..

وواضح أن تلك الخصائص، وهاتيك المؤهلات والمميزات لأئمة أهل البيتعليهم‌السلام وذلك السلوك المثالي لهم ـ كل ذلك ـ كان يغري العباسيين بمضايقتهم، وملاحقتهم أشد الإغراء، وكان أيضاً يدفع الحساد للوشاية بهم. وتحريض الخلفاء على الإيقاع والتنكيل فيهم.

ولهذا نرى أن الخلفاء! لم يكونوا يألون جهداً، أو يدخرون وسعاً في ملاحقتهم، واضطهادهم، وسجنهم. حتى إذا تمكنوا منهم قضوا عليهم، بالوسائل التي تضمن ـ بنظرهم ـ عدم إثارة شكوك الناس وظنونهم.

____________

(١) راجع كتاب: شيخ الأمة، الإمام أحمد بن حنبل، لعبد العزيز سيد الأهل.

١١٥

التشيع للعلويين:

وبعد كل الذي قدمناه، فإن من الطبيعي أن نرى العلويين يتمتعون بالاحترام والتقدير من مختلف الفئات والطبقات، وأن نرى ازدياد احترام الناس، وتقديرهم لهم باستمرار.. حتى لقد كان لهم في نفوسهم من عميق الحب، وصادق المودة، ما أرهب العباسيين، وأرعبهم. وحتى لقد رأينا الرشيد نفسه ـ وهو طاغية بني العباس بلا منازع ـ يشكو لعظيم البرامكة، يحيى بن خالد غمه وحيرته في أمر الإمام موسىعليه‌السلام ، رغم أنهعليه‌السلام كان في السجن. ونرى يحيى بن خالد يعترف بدوره بأن: الإمام (المسجون) قد أفسد عليهم قلوب شيعتهم!!(١) ولا يجب أن نستغرب شكوى الرشيد تلك. ولا اعتراف يحيى هذا بعد أن التشيع يجد سبيله إلى كل قلب، وكل فؤاد، حتى وزراء العباسيين، وقوادهم، بل وحتى نساء الخلفاء أنفسهم.

____________

(١) الغيبة للشيخ الطوسي ص ٢٠، والبحار.

١١٦

فهذه أم الخليفة المهدي تقيم خادما لقبر الحسينعليه‌السلام ، وتجري عليه كل شهر ثلاثين درهما، دون أن يعلم بها أحد(١) .

وهذه بنت عم المأمون، التي كان لها نفوذ قوي عنده، يذكر المؤرخون أنها كانت تميل إلى الإمام الرضاعليه‌السلام .

بل وحتى (زبيدة)، زوجة الرشيد، وحفيدة المنصور، وأعظم عباسية على الإطلاق، يقال: إنها كانت تتشيع، وعندما علم الرشيد بذلك حلف أن يطلقها(٢) .. ولعل لهذا السبب أحرق أهل السنة قبرها مع ما أحرقوا من قبور بني بويه وقبر الكاظمعليه‌السلام وذلك عندما وقعت الفتنة العظيمة بين السنة والشيعة سنة ٤٤٣ ه‍(٣) .

وأما وزراء العباسيين، فأمرهم أظهر من أن يحتاج إلى بيان، فإن التاريخ يحدثنا: أن العباسيين، ابتداء من السفاح، كانوا غالباً يبطشون بوزرائهم، بسبب اطلاعهم على تشيعهم، وممالاتهم للعلويين، ابتداء بأبي سلمة، فأبي مسلم، فيعقوب بن داوود. وهكذا إلى أن ينتهي الأمر بالفضل بن سهل، وغيره من بعده، بل وحتى نكبة البرامكة يقال: إن سببها هو تشيعهم للعلويين!. وإن كان يقال: أن الرضاعليه‌السلام دعا عليهم، لأنهم كانوا سبب قتل أبيه..

إلا إذا كان تظاهرهم بمحبة العلويين مجاراة للرأي العام، وسياسة منهم؛ فاستغل ذلك الرشيد ضدهم.(٤)

نعم لقد بلغ الأمر حداً أصبح معه التسمي بـ‍ (الوزير). يعتبر شؤماً: وينفر الناس منه كل النفور، كما سنشير إليه فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

____________

(١) كلمة (التشيع) التي ترد في هذا الكتاب، لا أقصد بها غالباً ـ التشيع بمفهومه الأخص، والمذهب المعروف، وإنما أقصد بها مجرد الولاء والحب للعلويين، وتأييدهم ضد خصومهم، سواء أكان ذلك من الشيعة بالمعنى المعروف، أو من غيرهم من أهل الفرق الإسلامية الأخرى.

(٢) الطبري ج ١١ / ٧٥٢، طبع ليدن.

(٣) ذكر ذلك الصدوق في المجالس، فراجع: رجال المامقاني، مادة: (زبيدة).

(٤) الكنى والألقاب ج ٢ / ٢٨٩ نقلاً عن ابن شحنة في روضة المناظر.

١١٧

وأما عن أمرائهم وقوادهم، فالأمر فيهم أوضح وأجلى، حيث إنهم ما كانوا يرون إلا والياً أو قائداً يخرج عليهم داعياً للعلويين، أو آخر قد خلع طاعتهم، واستجاب لدعوة خصومهم آل علي، أو ثالث يخشى أن يميل إليهم، ويتعاطف معهم.. وقد بدأ قوادهم بالخروج عليهم من زمن السفاح، الذي خرج عليه ابن شيخ المهري، داعياً لآل علي، وبعد ذلك كانت ثورة القواد على المنصور داعين إلى موالاة أهل البيت، وقامت ثورة ضد المنصور، وداعية للعلويين في نفس خراسان، وذلك في سنة ١٤٠ ه‍. وبعد ذلك وفي زمن المهدي العباسي قامت ثورة أخرى في خراسان تدعو إلى آل أبي طالب بقيادة صالح بن أبي حبال. وعظم شأنه جداً، ولم يمكنهم القضاء عليه إلا بإعمال الحيلة(١) وأما في زمن الرشيد، فقد ثارت الفتن بين أهل السنة والرافضة، على حد تعبير النجوم الزاهرة.

الخطر الحقيقي:

وأما الذي كان يكمن فيه الخطر الحقيقي، وكان يهز الدولة، ويزعزع من أركانها. فهو ثورات العلويين أنفسهم، حتى ليقال:

إنه قد بويع لمحمد بن عبد الله بن الحسن، وأخيه إبراهيم في أكثر الأمصار، وذلك في سنة ١٤٥ ه‍. وبعد ذلك كانت واقعة فخ المشهورة، ثم استمر الحال على ذلك، فلم يكن العباسيون يرون، إلا علوياً ثائراً، أو أنه يدبر للثورة، حتى أوائل زمن المأمون، حيث بلغت الحالة فيه في السوء والتدهور الغاية، وأوفت على النهاية. حتى ليقال: إن الثورات العلوية، التي قامت فيما بين عهد السفاح، وأوائل عهد المأمون، وبالتحديد إلى حوالي سنة ٢٠٠ ه‍ أي فيما يقل عن سبعين عاما، قد قاربت الثلاثين ثورة، هذا بغض النظر عن الثورات الأخرى التي كانت تدعو لهم. وإلى موالاتهم..

____________

(١) راجع: لطف التدبير ص ١٠٥.

١١٨

وستأتي الإشارة إلى بعض الثورات العلوية التي قامت ضد المأمون بالخصوص، وإلى أنه حتى قائده العظيم، طاهر بن الحسين، ـ بل وجميع آل طاهر(١) ـ وكذلك وزيره الفضل بن سهل، وهرثمة بن أعين، وغيرهم، وغيرهم، كانوا يتهمون بالتشيع للعلويين..

ولسوف يتضح أن الوضع في عهده قد أصبح إلى حد كبير شبيهاً بالوضع الذي كان سائداً في أواخر عهد الأمويين، بفارق واحد بسيط، لو استمر الحال لتسارع لذلك الفارق الضعف والوهن، وذلك الفارق هو: أنه لا يزال كثير من الناس المخدوعين بدعايات العباسيين يعتبرون تلك المنازعات طبيعية بين من يستحقون الخلافة!!!.

ويبقى هنا سؤال:

لماذا لم تكن ثورات العلويين، أو الثورات الداعية لهم. تصادف النجاح، مع أنها كانت تحظى بالتأييد الواسع، في مختلف فئات الشعب، وطبقاته؟!..

وجوابنا عن هذا السؤال هو: أن الذي يراجع التاريخ يرى ـ بما لا مجال معه للشك ـ: أن تلك الثورات لم يكن يسبقها التخطيط، والإعداد الكافيان، وما كان العباسيون ليعطوها الفرصة لتخطيط وإعداد يمكن أن يصل إلى درجة تمكنه من أن يذهب بدولة الجبارين.

هذا بالإضافة إلى فساد القيادة القبلية آنذاك، والتي كانت السبب الأول والأخير لنجاح أية ثورة أو فشلها.. وسيأتي تفصيل ذلك على النحو الكافي والشافي، في فصل: مدى جدية العرض، إن شاء الله.

ونتيجة كل ذلك:

وهكذا.. يتضح: أن سياسات العباسيين، لم تستطع أن تحقق لهم الأهداف التي كانوا يتوخون تحقيقها، وإنما كانت نتائجها عكسية بالنسبة إليهم، ودماراً ووبالاً عليهم، قبل أن تكون وبالاً على أي من خصومهم. وبالأخص أبناء عمهم العلويين..

____________

(١) راجع: الكامل لابن الأثير، حوادث سنة ٢٥٠ ه‍.

١١٩

القسم الثاني

ظروف البيعة وأسبابها

١ ـ شخصية الإمام الرضاعليه‌السلام .

٢ ـ من هو المأمون؟.

٣ ـ آمال المأمون، وآلامه..

٤ ـ ظروف البيعة وأسبابها.

٥ ـ أسباب البيعة لدى الآخرين.

شخصية الإمام الرضاعليه‌السلام

لمحات:

الإمام الرضاعليه‌السلام ، هو ثامن الأئمة الاثني عشر، الذين نص عليهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : علي بن موسى، بن جعفر، بن محمد، بن علي، ابن الحسين، ابن علي، بن أبي طالب، صلوات الله عليهم أجمعين..

سـتـة آبــاؤه مــن هـم

أفضل من يشرب صوب الغمام

كنيته: أبو الحسن.

ومن ألقابه: الرضا، والصابر، والزكي، والولي.

نقش خاتمه: حسبي الله.

وقيل: بل نقشه: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله(١) .

ولد في المدينة سنة ١٤٨ ه‍. أي: في نفس السنة التي توفي فيها

____________

(١) لنا رأي بالنسبة للقب، ونقش الخاتم: وهو أنه كثيراً ما يعبر عن ظاهرة من نوع معين، وظروف اجتماعية، وسياسية، ونفسية، وغير ذلك. وكذلك عن مميزات، وملكات شخصية خاصة. ونأمل أن نوفق لبحث هذا الموضوع مستوفى في فرصة أخرى إن شاء الله.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِن يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزيدُونَ * فآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) (١) .

٥ -( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِن رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحينَ ) (٢) .

هذه هي الآيات الواردة حول قصّة يونس، وبالإحاطة بها يتمكّن المفسّر من الإجابة على الأسئلة المطروحة حولها، وإن لم تكن لبعضها صلة بالعصمة.

أمّا ما جاء من الروايات حول القصّة، فكلّها روايات آحاد لا يمكن الركون إلى الخصوصيات الواردة فيها، بل بعض ما فيها لا يناسب ساحة الإنسان العادي فضلاً عن النبي؛ ولأجله تركنا ذكرها.

والذي تضافرت عليه الروايات هو أنّه لمّا دعا قومه إلى الإسلام، وعرف منهم الامتناع، دعا عليهم ووقف على استجابة دعائه، فأخبرهم بنزول العذاب، فلمّا ظهرت أماراته كان من بينهم عالم أشار إليهم أن افزعوا إلى الله لعلّه يرحمكم، ويردّ العذاب عنكم، فقالوا: كيف نصنع ؟ قال: اجتمعوا واخرجوا إلى المفازة، وفرّقوا بين النساء والأولاد، وبين الإبل وأولادها ثمّ ابكوا وادعوا، فذهبوا وفعلوا ذلك، وضجّوا وبكوا، فرحمهم الله، وصرف عنهم العذاب(٣) .

فنقول : توضيح مفاد الآيات يتوقّف على البحث عن عدّة أُمور:

____________________

١ - الصافات: ١٣٩ - ١٤٨.

٢ - القلم: ٤٨ - ٥٠.

٣ - بحار الأنوار: ١٤/٣٨٠ من الطبعة الجديدة، رواه جميل بن درّاج الثقة عن الصادقعليه‌السلام .

٢٠١

١ - لماذا كُشف العذاب عن قوم يونس دون غيرهم ؟

صريح قوله سبحانه: (فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْي فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِين )(١) .

إنّ أُمّة يونس هي الأُمّة الوحيدة التي نفعها إيمانها قبل نزول العذاب وكشف عنهم؛ وذلك لأنّ ( لولا ) التحضيضية إذا دخلت على الفعل الماضي تفيد معنى النفي، كما في قولك: هلاّ قرأت القرآن، وعلى ذلك يكون معنى قوله سبحانه:( فلولا كانت قرية آمنت ) أنّه لم يكن ذلك أبداً، فاستقام الاستثناء بقوله:( إلاّ قوم يونس ) ، والمعنى هلاّ كانت قرية من هذه القرى التي جاءتهم رسلنا فكذّبوهم آمنت قبل نزول العذاب فنفعها إيمانها، لكن لم يكن شيء من ذلك إلاّ قوم يونس لمّا آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي.

ولا شك أنّه قد نفع إيمان قوم يونس، ولكن لم ينفع إيمان فرعون، وعندئذٍ يُطرح هنا السؤال التالي: ما الفرق بين الإيمانين ؟ حيث نفع إيمانهم دون إيمان الثاني وأتباعه، يقول سبحانه:( وَجَاوَزْنَا بِبَني إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إلاّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * ءَآلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَاليَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ) (٢) .

____________________

١ - يونس: ٩٨.

٢ - يونس: ٩٠ - ٩٢.

٢٠٢

الجواب : الفرق بين الإيمانين، أحدث هذا الفرق، حيث كان إيمان قوم يونس إيماناً عن اختيار؛ ولأجل ذلك بقوا على إيمانهم بعد رفع العذاب، وكان إيمان فرعون إيماناً اضطرارياً غير ناجم عن ثورة روحية على الكفر والوثنية، بل كان وليد رؤية العذاب وهجوم الأمواج، لا أقول: إنّ إيمان قوم يونس كان حقيقياً جديّاً، وإيمان الآخرين كان صورياً غير حقيقي، بل: الكل كان حقيقياً، وإنّما الاختلاف في كون أحدهما ناشئاً من اختيار، والآخر ناشئاً من الاضطرار والخوف، وبعبارة أُخرى: ناشئاً من عامل داخلي وناشئاً من عامل خارجي.

والدليل على ذلك استقرار وثبوت قوم يونس على الإيمان بعد كشف العذاب عنهم لقوله سبحانه:( وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلى حِينٍ ) ، ويقول سبحانه:( وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) (١) ، والظاهر من الآية أنّ يونس بعدما نجا ممّا ابتلي به، أُرسل إلى نفس قومه، فاستقبلوه بوجوه مشرقة وتمتّعوا في ظل الإيمان إلى الوقت المؤجّل في علم الله.

وأمّا الفراعنة فكانت سيرتهم الإيمان عند نزول العذاب والرجوع إلى الفساد، وإلى ما كانوا عليه من الفساد في مجال العقيدة والعمل، بعد كشفه، والذكر الحكيم يصرّح بذلك في الآيات التالية:( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ * وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ) (٢) .

____________________

١ - الصافات: ١٤٧ - ١٤٨.

٢ - الأعراف: ١٣٣- ١٣٥.

٢٠٣

وثبات قوم يونس على إيمانهم وعدم انحرافهم عنه بعد كشف العذاب، ونكث الفراعنة بعد كشف الرجز عنهم، خير دليل على أنّ إيمان القوم كان إيماناً اختيارياً ثابتاً ونابعاً عن اليقين، وإيمان الفراعنة كان اضطرارياً ناشئاً عن الخوف.

والأوّل من الإيمانين يخرق حجب الجهل، ويشاهد الإنسان عبوديّته بعين القلب وعظمة الرب ونور الإيمان، فيصير خاضعاً أمام الله، يعبده ولا يعبد غيره.

والثاني منهما يدور مدار وجود عامل الاضطرار والإلجاء، فيؤمن عند وجوده ويكفر بارتفاعه، ولا يعد ذلك الإيمان كمالاً للروح ولا قيمة له في سوق المعارف، قال سبحانه:( وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤمِنينَ ) (١)

ولا شك أنّه تعلّقت إرادته التشريعية بإيمان الناس كلّهم بشهادة بعث الأنبياء وإرسال الرسل، ولكن لم تتعلّق إرادته التكوينية بإيمانهم، وإلاّ لم تتخلّف عن مراده وأصبح الناس كلّهم مؤمنين إيماناً لا عن اختيار، ولكن بما أنّه لا قيمة للإيمان الخارج عن إطار الاختيار، والناشئ عن الإلجاء والاضطرار؛ لم تتعلّق إرادته سبحانه بإيمانهم، وإليه يشير قوله:( ولو شاء ربك لآمن من في الاَرض كلهم جميعاً ) .

٢ - هل كان كشف العذاب تكذيباً لإيعاد يونس ؟

قد وعد سبحانه في كتابه العزيز بأنه يؤيّد رسله وينصرهم ولا يكذبهم وهو عزّ من قائل:( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد ) (٢) .

____________________

١ - يونس: ٩٩.

٢ - غافر: ٥١.

٢٠٤

فلو أخبر واحد منهم عن وقوع حادثة أو نزول رحمة وعذاب على قوم، فلابد أن يكون وضع المخبر به في المستقبل على وجه لا يلزم منه تكذيبهم، وذلك إمّا بوقوع نفس المخبر به كما هو الحال في إخبار صالح لقومه، حيث تنبّأ وقال:( تَمتّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثةَ أيّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) ، فلمّا بلغ الأجل المحدّد( وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ ) (١) ، وإمّا بظهور علامات وأمارات دالّة على صدق مقال النبي وإخباره، وأنّ عدم تحقّقه لأجل تغيير التقدير بالدعاء والعمل الصالح، قال سبحانه:( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرض ) (٢) .

وقال عز من قائل:( ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٣) .

هذه سنّة الله سبحانه في إنزال النعمة والنقمة ورفعهما.

وما أخبر به يونس كان من هذا القبيل، فقد تنبّأ بنزول العذاب، وشاهد القوم طلائع العذاب وعلائمه(٤) فبادروا بالتوبة والإنابة إلى الله حسب إرشاد عالمهم، فكشف عنهم العذاب، وليس في هذا تكذيب ليونس، لو لم يكن فيه تصديق، حيث وقفوا على صدق مقالته، غير أنّ لله سبحانه سنناً في الحياة، فأخذ المعتدي باعتدائه سنّة، والعفو عنه لإنابته أيضاً سنّة، ولكلٍّ موضع خاص، وهذا

____________________

١ - هود: ٦٥، ٦٧ - ٦٨.

٢ - الأعراف: ٩٦.

٣ - الأنفال: ٥٣.

٤ - لاحظ تفسير الطبري: ١١/١١٧ - ١١٨؛ الدر المنثور: ٣/٣١٧ - ٣١٨؛ البحار: ١٤/٣٩٦ من الطبعة الحديثة.

٢٠٥

معنى البداء الذي تقول به الإمامية، الذي لو وقف إخواننا أهل السنّة على حقيقته لاعترفوا به من صميم القلب، ولكن الدعايات الباطلة حالت بينهم وبين الوقوف على ما تتبنّاه الإمامية في هذا المضمار، وقد أوضحنا حقيقة الحال في رسالة ( البداء من الكتاب والسنّة )(١) ومَن أراد الوقوف على واقع الحال فليرجع إليها.

٣ - أسئلة ثلاثة حول عصمته

ألف - ما معنى كونه مغاضباً ؟ ومن المغضوب عليه ؟

ب - ماذا يراد من قوله:( فظنّ أن لن نقدر عليه ) ؟

ج - كيف تجتمع العصمة مع اعترافه بكونه من الظالمين ؟

هذه هي الأسئلة الحسّاسة في قصّة يونسعليه‌السلام ، وقد تمسّك بها المخطِّئة، وإليك توضيحها واحداً بعد واحد:

أمّا الأوّل: فقد زعم المخطِّئة أنّ معناه أنّه خرج مغاضباً لربّه من حيث إنّه لم ينزل بقومه العذاب.

ولكنّه تفسير بالرأي، بل افتراء على الأنبياء، وسوء ظن بهم، ولا يغاضب ربَّه إلاّ مَن كان معادياً له وجاهلاً بحكمه في أفعاله، ومثل هذا لا يليق بالمؤمن فضلاً عن الأنبياء.

وإنّما كان غضبه على قومه لمقامهم على تكذيبه وإصرارهم على الكفر ويأسه من توبتهم، فخرج من بينهم(٢) .

____________________

١ - مطبوعة منتشرة.

٢ - تنزيه الأنبياء: ١٠٢.

٢٠٦

هكذا فسّره الإمام الرضاعليه‌السلام عندما سأله المأمون عن مفاد الآية وقال: ( ذلك يونس بن متى ذهب مغاضباً لقومه )(١) .

وأمّا الثاني : أعني:( فظنّ أن لن نقدر عليه ) فالفعل، أعني: ( نقدر )، من القدر بمعنى الضيق لا من القدرة، قال سبحانه:( وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ ) (٢) ، وقال سبحانه:( إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقْدِرُ ) (٣) ، فمعنى الآية أنّه ظن أن لا يضيق عليه الأمر لترك الصبر والمصابرة مع قومه، لا بمعنى أنّه خطر هذا الظن بباله، بل كان ذهابه وترك قومه يمثّل حالة من ظن أن لن نقدر عليه في خروجه من قومه من غير انتظار لأمر الله، فكانت مفارقته قومه ممثّلة لحال مَن يظن بمولاه ذلك.

وأمّا تفسيره بأنّه ظن أنّه سبحانه لا يقدر عليه، فهو تفسير بما لا تصح نسبته إلى الجهلة من الناس فضلاً عن الأولياء والأنبياء.

وبما أنّ مفارقته قومه بلا إذن منه سبحانه - كان يمثّل حال مَن يظن أن لا يضيّق مولاه عليه - ابتلاه الله بالحوت فالتقمه.

فوقف على أنّه ترك ما هو الأولى فعلاً، فندم على عمله( فنادى في الظلمات أن لا إله إلاّ أنت ) .

ونقل الزمخشري في كشّافه: عن ابن عباس أنّه دخل على معاوية فقال: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة، فغرقت فيها، فلم أجد لنفسي خلاصاً إلاّ بك، قال: وما هي يا معاوية ؟ فقرأ هذه الآية وقال: أو يظن نبي الله أن لا يقدر عليه ؟

____________________

١ - بحار الأنوار: ١٤/٣٨٧.

٢ - الطلاق: ٧.

٣ - الإسراء: ٣٠.

٢٠٧

قال: هذا من القدر لا من القدرة ثمّ أضاف صاحب الكشّاف: يصح أن يفسّر بالقدرة على معنى ( أن لن نعمل فيه قدرتنا )، وأن يكون من باب التمثيل، بمعنى فكانت حاله ممثّلة بحال مَن ظنّ أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه من غير انتظار لأمر الله، ويجوز أن يسبق ذلك إلى وهمه بوسوسة الشيطان ثم يردعه ويردّه بالبرهان، كما يفعل المؤمن المحقق بنزعات الشيطان وما يوسوس إليه في كل وقت(١) .

ولا يخفى أنّ ما نقله عن ابن عباس هو المعتمد، بشهادة استعماله في القرآن بمعنى الضيق، وهو المناسب لمفاد الآية، وأمّا الوجهان الآخران فلا يصح الركون إليهما، خصوصاً الوجه الأخير؛ لأنّ الأنبياء أجلّ شأناً من أن تحوم حول قلوبهم الهواجس الشيطانية حتى يعودوا إلى معالجتها بالبرهان، فليس له سلطان على المخلصين من عباده، وقد اعترف بذلك الشيطان وقال كما يحكيه سبحانه:( إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (٢) .

وأمّا السؤال الثالث : فقد مرّ أنّ الظلم في اللغة بمعنى وضع الشيء في غير موضعه، ولا شك أنّ مفارقته قومه وتركهم في الظرف القلق العصيب كان أمراً لا يترقب صدوره منه، وإن لم يكن عصياناً لأمر مولاه، فالعطف والحنان المترقّب من الأنبياء غير ما يترقّب من غيرهم؛ فلأجل ذلك كان فعله واقعاً غير موقعه.

ومن المحتمل أن يكون الفعل الصادر منه في غير موقعه هو طلبه العذاب لقومه وترك المصابرة، ويؤيّده قوله سبحانه:

( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ) (٣) .

فالظاهر أنّ متعلّق النداء في الآية

____________________

١ - الكشاف: ٢/٣٣٥ - ٣٣٦.

٢ - ص: ٨٣.

٣ - القلم: ٤٨.

٢٠٨

طلب نزول العذاب على قومه بقرينة قوله:( وهو مكظوم ) ، أي كان مملوءاً غيضاً أو غمّاً، والمعنى: يا أيّها النبي لا تكن مثل صاحب الحوت، ولا يوجد منك مثل ما وجد منه من الضجر والمغاضبة، فتُبتلى ببلائه، فاصبر لقضاء ربّك، فإنّه يستدرجهم ويملي لهم ولا تستعجل لهم العذاب لكفرهم.

ويستفاد من بعض الروايات أنّ سبب لومه وردعه كان أمراً ثالثاً، وهو أنّه لمّا وقف على نجاة أُمّته غضب وترك المنطقة(١) .

والوجهان: الأوّل والثاني هما الصحيحان.

وممّا ذكرنا يعلم مفاد قوله سبحانه:( إذ أبق إلى الفلك المشحون ) ، فشبّه حاله بالعبد الآبق؛ وذلك لما مرّ من أنّ خروجه في هذه الحال كان ممثلاً لإباق العبد من خدمة مولاه، فأخذه الله بذلك.

وعلى كل تقدير فالآيات تدل على صدور عمل منه كان الأليق بحال الأنبياء تركه، وهو يدور بين أُمور ثلاثة: أمّا ترك قومه من دون إذن، أو طلب العذاب وكان الأولى له الصبر، أو غضبه على نجاة قومه.

إلى هنا تمّ توضيح الآيات المهمّة التي وقعت ظواهرها ذريعة لأُناس يستهترون بالقيم والفضائل، ويستهينون بأكبر الواجبات تجاه الشخصيات الإلهية، وبقي الكلام في عصمة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونفيض القول فيها في البحث الآتي.

____________________

١ - بحار الأنوار: ١٤/٣٨.

٢٠٩

الطائفة الثالثة

عصمة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وما تمسّكت به المخطِّئة

عصمة النبي الخاتم من العصيان والخطأ، من فروع عصمة الأنبياء كلّهم، فما دلّت على عصمتهم من الآيات، تدلّ على عصمته أيضاً بلا إشكال، ولا نحتاج بعد ذلك إلى إفراد البحث عنه في هذا المجال، فقد أفاض الله عليه ذلك الكمال كما أفاض على سائر الأنبياء من غير استثناء، فهو معصوم في المراحل الثلاث التالية:

١ - مرحلة تلقّي الوحي وحفظه وأدائه إلى الأُمّة.

٢ - مرحلة القول والفعل، وعلى ذلك، فهو من عباده المكرّمين الذين لا يعصون الله ما أمرهم وهم بأمره يعملون.

٣ - مرحلة تطبيق الشريعة وغيرها من الأمور المربوطة بحياته، فهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يسهو ولا يخطأ في حياته الفردية والاجتماعية.

وما دلّ على عصمة تلك الطائفة في هذه المراحل الثلاث دلّ على عصمته فيها أيضاً.

٢١٠

نعم، هناك آيات بالخصوص دالّة على عصمته من العصيان ومصونيته من الخطأ، كما أنّ هناك آيات وردت في حقّه وقعت ذريعة لمنكري العصمة؛ ولأجل ذلك أفردنا بحثاً خاصاً في هذا المقام لنوفيه حقّه.

أمّا ما يدل على عصمته من العصيان والخلاف، فيكفي في ذلك قوله سبحانه:( وإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً ) (١) .

وقد ذكر المفسّرون أسباباً لنزولها بما لا يناسب ساحة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أوضحها ما ذكره الطبرسي في مجمعه: أنّ المشركين قالوا له: كفّ عن شتم آلهتنا، وتسفيه أحلامنا، واطرد هؤلاء العبيد والسقاط الذين رائحتهم رائحة الصنان(٢) حتى نجالسك ونسمع منك، فطمع في إسلامهم، فنزلت الآية(٣) .

ولتوضيح مفاد الآيات نبحث عن أُمور:

١ - إنّ الآيات كما سنرى تشير إلى عصمته، ومع ذلك استدلّت المخطّئة بها على خلافها، وهذا من عجائب الأمور، إذ لا غرو في أنّ تتمسّك كل فرقة بقسم من الآيات على ما تتبنّاه، وإنّما العجب أن تقع آية واحدة مطرحاً لكلتا الفرقتين، فيفسّرها كلٌّ حسب ما يتوخّاه، مع أنّ الآية لا تتحمّل إلاّ معنى واحداً لا معنيين متخالفين.

٢ - إنّ الضمير في كلا الفعلين( كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ) يرجع إلى المشركين ،

____________________

١ - الإسراء: ٧٣ - ٧٥.

٢ - الصنان: نتن الإبط.

٣ - مجمع البيان: ٣/٤٣١.

٢١١

ويدل عليه سياق الآيات، والمراد من( الذي أوحينا إليك ) هو القرآن بما يشتمل عليه من التوحيد ونفي الشريك، والسيرة الصالحة، والمراد من الفتنة في( ليفتنونك ) هو الإزلال والصرف، كما أنّ الخليل من الخُلَّة بمعنى الصداقة لا من الخَلّة بمعنى الحاجة.

٣ - إنّ قوله:( وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك ) يخبر عن دنو المشركين من إزلاله وصرفه عمّا أُوحي إليه، لا عن دنو النبي وقربه من الزلل والانصراف عمّا أُوحي إليه، وبين المعنيين فرق واضح.

٤ - إنّ قوله سبحانه:( ولولا أن ثبّتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً ) مركّب من جملتين، إحداهما شرطية، والأخرى جزائية، أمّا الأُولى فقوله:( ولولا أن ثبّتناك ) ، وأمّا الأخرى فقوله:( لقد كدت تركن إليهم ) ، وبما أنّ لولا في الآية امتناعية(١) تدل على امتناع الجزاء لوجود التثبيت، مثل قولنا: لولا علي لهلك عمر، فامتنع هلاكه لوجوده.

٥ - وليس الجزاء هو الركون بمعنى الميل، بل الجزاء هو القرب من الميل والانصراف كما يدل عليه قوله:( لقد كدت تركن ) ، فامتنع القرب من الميل فضلاً عن نفس الميل لأجل وجود تثبيته.

٦ - إنّ تثبيته سبحانه لنبيّه لم يكن أمراً مختصاً بالواقعة الخاصّة، بل كان أمراً عامّاً لجميع الوقائع المشابهة لتلك الواقعة؛ لأنّ السبب الذي أوجب إفاضة التثبيت عليه فيها، يوجب إفاضته عليه في جميع الوقائع المشابهة، ولا معنى

____________________

١ - يقول ابن مالك:

لولا ولوما يلزمان الابتدا

إذا امتناعاً بوجودٍ عقدا

والشرط في الآية مؤوّل إلى الاسم أي لولا تثبيتنا، لقد كدت تركن إليهم.

٢١٢

لخصوصية المعلول والمسبّب مع عمومية العلّة، وعلى ذلك تكون الآية من دلائل عصمته في حياته، وسداده فيها على وجه العموم.

وتوهّم اختصاصها بالواقعة التي تآمر المشركون فيها لإزلاله من كلمات رماة القول على عواهنه.

٧ - إنّ التثبيت في مجال التطبيق فرع التثبيت في مجال التفكير، إذ لا يستقيم عمل إنسان ما لم يتم تفكيره، وعلى ذلك يفاض على النبي السداد مبتدئاً من ناحية التفكّر منتهياً إلى ناحية العمل، فهو في ظل هذا السداد المفاض، لا يفكّر بالعصيان والخلاف فضلاً عن الوقوع فيه.

٨ - إنّ تسديده سبحانه، لا يخرجه عن كونه فاعلاً مختاراً في عامة المجالات: الطاعة والمعصية، فهو بعد قادر على النقض والإبرام والانقياد والخلاف؛ ولأجل ذلك يخاطبه في الآيات السابقة بقوله:( إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً )

وعلى ضوء ما ذكرنا فالآية شاهدة على عصمته، ودالة على عنايته سبحانه برسوله الأكرم فيراقبه ويراعيه ولا يتركه بحاله، ولا يكله إلى نفسه، كل ذلك مع التحفّظ على حريته واختياره في كل موقف.

فقوله سبحانه:( ولولا أن ثبّتناك لقد كدت تركن إليهم ) نظير قوله:( وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ ) (١) لكنّ الأوّل راجع إلى صيانته عن العصيان، والثاني ناظر إلى سداده عن السهو والخطاء في الحياة، وسيوافيك توضيح الآية الثانية في البحث الآتي.

____________________

١ - النساء: ١١٣.

٢١٣

وفي الختام نذكر ما أفاده الرازي في المقام: قال: احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بهذه الآية بوجوه:

الأوّل : إنّها دلّت على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرب من أن يفتري على الله، والفرية على الله من أعظم الذنوب.

الثاني: إنّها تدل على أنّه لولا أنّ الله تعالى ثبّته وعصمه لقرب أن يركن إلى دينهم.

الثالث : أنّه لولا سبق جرم وجناية لم يحتج إلى ذكر هذا الوعيد الشديد.

والجواب عن الأوّل: إنّ ( كاد ) معناها المقاربة، فكان معنى الآية قرب وقوعه في الفتنة، وهذا لا يدل على الوقوع.

وعن الثاني : أنّ كلمة لولا تفيد انتفاء الشيء، لثبوت غيره، نقول: ( لولا على لهلك عمر ) ومعناه أنّ وجود عليعليه‌السلام منع من حصول الهلاك لعمر، فكذلك هاهنا فقوله:( ولولا أن ثبّتناك ) معناه لولا حصل تثبيت الله لك يا محمد، فكان تثبيت الله مانعاً من حصول ذلك الركون.

وعن الثالث : إنّ التهديد على المعصية لا يدل على الإقدام عليها، والدليل عليه آيات منها قوله تعالى:( ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين ) الآيات، وقوله تعالى:( لئن أشركت ) وقوله:( ولا تطع الكافرين ) (١) .

أدلّة المخطِّئة

لقد اطّلعت في صدر البحث على عصمة النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أنّ هناك

____________________

١ - مفاتيح الغيب: ٥/٤٢٠.

٢١٤

آيات وردت في حق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد صارت ذريعة لبعض المخطّئة الذين يحاولون إنكار العصمة، وهي عدة آيات:

الأُولى: العصمة والخطابات الحادّة

هناك آيات تخاطب النبي بلحن حاد وتنهاه عن اتّباع أهواء المشركين، والشرك بالله، والجدال عن الخائنين، وغير ذلك، ممّا يوهم وجود أرضية في نفس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لصدور هذه المعاصي الكبيرة عنه، وإليك هذه الآيات مع تحليلها:

١ -( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَالَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَل-ىٍّ وَلا نَصِيرٍ ) (١) .

وقد جاءت الآية في نفس هذه السورة بتفاوت في الذيل، فقال بدل قوله:( مَالَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِىٍّ ولا نَصِير ) ،( إِنَّكَ إِذاً لمِنَ الظَّالِمِينَ ) (٢) ، كما جاءت أيضاً في سورة الرعد، غير أنّه جاء بدل قوله:( ولا نصير ) ( ولا واق ) .

وعلى أيّ حال فقد تمسّكت المخطِّئة بالقضية الشرطية على أرضية متوقّعة في نفس النبي لاتّباع أهوائهم وإلاّ فلا وجه للوعيد.

ولكنّ الاستدلال على درجة من الوهن؛ إذ لا تدل القضية الشرطية إلاّ على الملازمة بين الشرط والجزاء، لا على تحقّق الطرفين، ولا على إمكان تحقّقهما، وهذا من الوضوح بمكان، قال سبحانه:( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا ) (٣) وليس فيها أيّ دلالة على تحقّق المقدّم أو التالي، وبما ذكرنا يتضح حال الآيتين

____________________

١ - البقرة: ١٢٠.

٢ - البقرة: ١٤٥.

٣ - الأنبياء: ٢٢.

٢١٥

التاليتين:

٢ - إنّه سبحانه يخاطب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقضايا شرطية كثيرة قال سبحانه:( وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً * إِلاَّ رَحْمَةً مِن رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً ) (١) .

ومن المعلوم المقطوع به أنّه سبحانه لا يستلب منه ما أوحى إليه.

٣ - قال سبحانه:( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرينَ ) (٢) ، وقال أيضاً:( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل * لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِن أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزينَ ) (٣) فهذه الآيات ونظائرها التي تحكي عن القضية الشرطية لا تدلّ على ما يرتئيه الخصم بوجه من الوجوه، أي وجود أرضية متوقّعة لصدور هذه القضايا، وذلك لوجهين:

ألف: إنّ هذه الآيات تخاطب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما أنّه بشر ذو غرائز جامحة بصاحبها، ففي هذا المجال يصح أن يخاطب النبي بأنّه لو فعل كذا لقوبل بكذا، وهذا لا يكون دليلاً على إمكان وقوع العصيان منه بعدما تشرّف بالنبوّة وجُهّز بالعصمة وعُزّز بالرعاية الربانية، فالآيات التي تخاطب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما هو بشر لا تعم ذلك المجال.

ب - إنّ هذه الآيات تركّز على الجانب التربوي، والهدف تعريف الناس بوظائفهم وتكاليفهم أمام الله سبحانه، فإذا كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبي العظمة - محكوماً

____________________

١ - الإسراء: ٨٦ - ٨٧.

٢ - الزمر: ٦٥.

٣ - الحاقة: ٤٤ - ٤٧.

٢١٦

بهذه الأحكام ومخاطباً بها، فغيره أَولى أن يكون محكوماً بها.

وعلى ذلك فتكون الآيات واردة مجرى : ( إيّاك أعني واسمعي يا جارة )، فهؤلاء الذين يتخذون تلك الآيات وسيلة لإنكار العصمة، غير مطّلعين على ( ألف باء ) القرآن؛ وبذلك يظهر مفاد كثير من الآيات النازلة في هذا المجال، يقول سبحانه عندما يأمره بالصلاة إلى المسجد الحرام:

٤ -( الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) (١) ، ويريد بذلك تعليم الناس أن لا يقيموا وزناً لإرجاف المرجفين في العدول بالصلاة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، كما يحكي سبحانه وتعالى عنهم بقوله:( سَيَقُولُ الْسُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا ولاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ) (٢) .

٥ - إنّه سبحانه يبطل إلوهيّة المسيحعليه‌السلام بحجّة أنّه وليد مريمعليها‌السلام بأنّ تولّده بلا أب يشبه تكوّن آدم من غير أب ولا أُم، قال سبحانه:( إنَّ مَثَلَ عِيْسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَم خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُون ) ، فعند ذلك يخاطب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله:( الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) (٣) .

ولا شك أنّ الخطاب جرى مجرى ما ذكرنا: ( إيّاك أعني واسمعي يا جارة )، فإنّ النبي الأعظم بعدما اتصل بعالم الغيب وشاهد ورأى الملائكة وسمع كلامهم، هل يمكن أن يتسرّب إليه الشك حتى يصح أن يخاطب بقوله:( فلا تكن من الممترين ) على الجد والحقيقة ؟

٦ - إنّه سبحانه يخاطب النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندما جلس على كرسي القضاء

____________________

١ - البقرة: ١٤٧.

٢ - البقرة: ١٤٢.

٣ - آل عمران: ٥٩ - ٦٠.

٢١٧

بقوله:( وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً ) (١) .

فالآية تكلّف النبي أن لا يدافع عن الخائن، ومن الواضح أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن في زمن حياته مدافعاً عن الخائن، وإنّما هو خطاب عام أُريد منه تربية المجتمع وتوجيهه إلى هذه الوظيفة الخطيرة، وبما أنّ أكثر الناس لا يتحمّلون الخطاب الحاد، بل يكون مرّاً في أذواق أكثرهم، اقتضت الحكمة أن يكون المخاطب، غير من قصد له الخطاب.

٧ - وعلى ذلك يحمل قوله سبحانه:( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلا تَكُن لِلْخائِنِينَ خَصِيماً ) (٢) .

وأخيراً نقول: إنّ سورة الإسراء تحتوي على دساتير رفيعة المستوى، ترجع إلى وظائف الأمّة: الفردية والاجتماعية، وهو سبحانه يبتدئ الدساتير بقوله:( لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولا ) (٣) ، وفي الوقت نفسه يختمها بنفس تلك الآية باختلاف يسير فيقول:( ولا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً ) (٤) .

فهذه الخطابات وأشباهها وإن كانت موجّهة إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكن قصد بها عامة الناس لنكتة سبق ذكرها، وإلاّ فالنبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعظم مَن أن يشرك بالله تعالى بعد تشرّفه بالنبوّة، كيف، وهو الذي كافح الوثنية منذ نعومة أظفاره إلى أن بعث نبيّاً لهدم الشرك وعبادة غير الله تبارك وتعالى.

____________________

١ - النساء: ١٠٧.

٢ - النساء: ١٠٥.

٣ - الإسراء: ٢٢.

٤ - الإسراء: ٣٩.

٢١٨

وقس على ذلك كلّما يمرُّ عليك من الآيات التي تخاطب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلحن شديد، فتفسير الجميع بالوجهين اللّذين قدّمنا ذكرهما.

الآية الثانية: العصمة والعفو والاعتراض

كان النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصدد خلق مجتمع مجاهد يقف في وجه الروم الشرقية، فأذن بالجهاد إلى ثغرها ( تبوك )، فلبّت دعوته زرافات من الناس بلغت ثلاثين ألف مقاتل، إلاّ أنّ المنافقين أبوا الاشتراك في صفوف المجاهدين، فتعلّقوا بأعذار واستأذنوا في الإقامة في المدينة، وأذن لهم النبي الأكرم، وفي هذا الشأن نزلت الآية التالية:

( عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ) (١) .

والآية تصرّح بعفوه سبحانه عنه كما يقول:( عَفَا اللهُ عَنْكَ ) ، كما تتضمّن نوع اعتراض على النبي حيث أذن لهم في عدم الاشتراك، كما يقول سبحانه:( لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ) ، وعندئذ يفرض هذا السؤال نفسه:

ألف: كيف يجتمع العفو مع العصمة ؟

ب: ما معنى الاعتراض على إذن النبي ؟

أقول: أمّا الجملة الأُولى: فتوضيحها بوجهين:

الأوّل: أنّها إنّما تدل على صدور الذنب - على فرض التسليم - إذا كانت جملة خبرية حاكية عن شمول عفوه سبحانه للنبي في الزمان الماضي، وأمّا إذا

____________________

١ - التوبة: ٤٣.

٢١٩

كانت خبرية ولكن أُريد منها الإنشاء وطلب العفو، كما في قوله:( أيّدك الله ) ( غفر الله لك ) ، فالدلالة ساقطة؛ إذ طلب العفو والمغفرة للمخاطب نوع دعاء وتقدير وتكريم له.

الثاني : ليس على أديم الأرض إنسان يستغني عن عفوه ومغفرته سبحانه حتى الأولياء والأنبياء؛ لأنّ الناس بين كونهم خاطئين في الحياة الدنيا، وكونهم معصومين، ووظيفة الكل هي الاستغفار.

أمّا الطائفة الأُولى فواضحة، وأمّا الثانية فلوقوفهم على عظمة الرب وكبر المسؤولية، وأنّ هنا أُموراً كان الأليق تركها، أو الإتيان بها، وإن لم يأمر بها الرب أمر فرض، أو لم ينه عنها نهي تحذير، والمترقّب منهم غير المترقّب من غيرهم.

ولأجل ذلك كان الأنبياء يستغفرون كل يوم وليلة قائلين: ( ما عرفناك حق معرفتك وما عبدناك حق عبادتك ).

وحاصل الوجهين: أنّ طلب العفو نوع تكريم واحترام للمخاطب بصورة الدعاء، وليس إخباراً عن واقعية محقّقة حتى يستلزم صدور ذنب من المخاطب، هذا من جانب، ومن جانب آخر: أنّ كل إنسان مهما كان في الدرجة العالية من التقوى، يرى في أعماله حسب عرفانه واستشعاره عظمة الرب وكبر المسؤولية، أنّ ما هو الأليق خلاف ما وقع منه، فتوحي إليه نفسه الزكيّة، طلب العفو والمغفرة لإزالة آثار هذا التقصير في الآجل والعاجل.

وأمّا الجملة الثانية:

فلا شك أنّها تتضمّن نوع اعتراض على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكن لا على صدور ذنب أو خلاف منه، بل لأنّ إذنه كان مفوّتاً لمصلحة له، وهو معرفة الصادق في إيمانه

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409