الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)14%

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 409

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 207367 / تحميل: 8939
الحجم الحجم الحجم
الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

قال الأمينيّ ما أعرف السّباع المفترسة في القرون الخالية بصالح الخلفاء من طالحهم، حتّى كفّت عن الفرس والعدوان جرياً على الصّالح العامّ؟ وما أجهل به الإنسان الظلوم الجهول حتّى حاد عنه وخاصمه وعانده وحاربه وقاتله؟ ولو كانت هذه السّيرة مطّردة في السّباع في كلِّ أدوار الحياة، ولم يكن هذا الشعور الحيُّ من خاصّة سباع عصر عمر بن عبد العزيز ورعاءه؟ لكانت لها أن تفني شياه الدّنيا ولم تبق منها شيئاً يوم معاوية ويزيد وهلمّ جرّا، أو ارجع إلى الوراء القهقرى.

_ ٢٤ _

كتاب براءة لعمر بن عبد العزيز

كان عمر بن عبد العزيز يأتي المساجد المهجورة في الليل فيصلّي فيها ما يسرّ الله عزّ وجلّ، فإذا كان وقت السّحر وضع جبهته على الأرض، ومرّغ خدّه على التّراب، ولم يزل ييكي إلى طلوع الفجر، فلمّا كان في بعض اللّيالي فعل ذلك على العادة، فلمّا فرغ ورفع رأسه من صلاته وتضرُّعه وجد رقعة خضراء قد اتّصل نورها بالسّماء مكتوبٌ فيها: هذه برائةٌ من النّار من الملك العزيز لعبده عمر بن عبد العزيز.

وأخرج ابن أبي شيبة باسناده عن عبد العزيز بن أبي سلمة: انَّ عمر بن عبد العزيز لَمّا وضع عند قبره هبَّت ريحٌ شديدةٌ فسقطت صحيفةٌ بأحسن كتاب فقرأوها فإذا فيها: بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، براءةٌ من الله لعمر بن عبد العزيز من النّار. فأدخلوها بين أكفانه ودفنوها معه.

تاريخ ابن كثير ٩: ٢١٠، الرَّوض الفائق للحريفيش ص ٢٥٦.

وروى ابن عساكر في ترجمة يوسف بن ماهك قال: بينما نحن نسوّي التّراب على قبر عمر بن عبد العزيز إذ سقط علينا من السّماء كتابٌ فيه: بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، أمانُ من الله لعمر بن عبد العزيز من النّار.

قال الأميني: سوف يتبيّن الرّشد من الغيِّ يوم العرض الأكبر.

_ ٢٥ _

امرأة تلد بدعاء مالك ابن اربع سنين

أخرج البيهقي في السنن الكبرى ٧: ٤٤٣ بإسناده عن هاشم المجاشعي قال: بينما

١٢١

مالك بن دينار - المتوفّى ١٢٣ وقيل غير ذلك - يوماً جالسٌ إذ جاءه رجلٌ فقال: يا أبا يحيى! ادعُ لامرأة حبلى منذ أربع سنين قد أصبحت في كرب شديد، فغضب مالك و أطبق المصحف ثمَّ قال: ما يرى هؤلاء القوم إلّا أنّا أنبياء، ثمَّ دعا فقال: أللّهم هذه المرأة إن كان في بطنها ريحٌ فأخرجها عنها السّاعة، وإن كان في بطنها جاريةٌ فأبدلها بها غلاماً، فإنّك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك امّ الكتاب، ثمَّ رفع مالك يده ورفع النّاس أيديهم، وجاء الرَّسول إلى الرَّجل فقال: أدرك امرأتك، فذهب الرَّجل، فما حطّ مالكٌ يده حتى طلع الرَّجل من باب المسجد على رقبته غلامٌ جعد قطط ابن أربع سنين قد استوت أسنانه ما قطعت أسراره.

قال الأميني: ليس من المستحيل التلفّظ بالمحال، لكن التّقوى أو الحياء يزع كلّ منهما الإنسان عن أن يلهج بما هو خارجٌ عن مستوى المعقول. ألا من مُسائل هذا الرّاوي عن انّ رحم المرأة هل فيها تمطّط فتبلغ من السّعة ما يُقلّ ابن أربع سنين وقد استوت أسنانه ونبت شعره ويركب الرِّقاب؟ وهب انَّ فيها تمطّطاً فهل ما يحويها من بنيَّة البدن له مثل ذلك التمطّط؟ فيجب عليه أن يكون في هيئة الحامل إذن تضخّماً أكثر من النساء العاديات، فهل كانت اُمّ الغلام هكذا؟ أو أنّها بقيت على حالتها وهي كرامة اُخرى لأحد من عباد الله؟ سبحان الذي تولّى كلائة هذه المرأة المسكينة عن أن تنكسر عظامها، وتنقطع عروقها، وينفتق جلدها ولحمها، وقد فعل سبحانه ما أراد في الزَّمن من الماضي.

ورحم الله مالك بن دينار لولا دعائه للمرأة المسكينة لكان يبقى جنينها في بطن اُمِّه أربعين عاماً أو إلى ما شاء الله.

ثمَّ هل كان المولود في بطن امّه أنثى فأبد له دعاء ابن دينار ذكراً؟ أو أنّه كان ذكراً ولا صلة للدّعاء المذكور به، وانَّ الله هو الّذي يهب لمن يشاء اُناثاً ويهب لمن يشاء الذّكور؟ وإنَّ من المقطوع به انَّ في تلك السّاعة كان قد افرزت خلقة المولود وصوّر مثاله فلم يبق فيه بعدُ مجالٌ للتغيّر والتأثّر وإنّه إمّا ذكرٌ أو انثى، فلا محلّ من الإعراب لدعاء ابن دينار: [ وان كان في بطنها جارية فأبدلها بها غلاماً ] غير أنّه دعا، وهل كانت له هذه

١٢٢

الدّعوة المستجابة بعد الولادة أخذاً بقوله: إنّك تمحو ما تشاء وتثبت؟ لعلّها له وليس على الله بعزيز، ولا يُسئل عمّا يفعل، وهو على كلّ شيء قدير.

_ ٢٦ _

ناصبىّ مستجاب الدعوة

قال الجريري سعيد بن اياس المتوفّى ١٤٤: كان عبد الله بن شقيق العقيلي أبو عبد الرّحمن البصري مجاب الدّعوة كانت تمرُّ به السّحابة فيقول: أللّهم لا تجوز كذا و كذا حتّى تمطر. فلا تجوز ذلك الموضع حتّى تمطر. حكاه ابن أبي خيثمة في تاريخه [ تهذيب التهذيب ٥: ٢٥٤ ].

قال الأميني: لعلّك لا تستبعد إجابة دعوة وليّ من أولياء الله وتراها غير عزيز على المولى سبحانه كرامةً لصالحي عباده، بيد انَّ هذه النسبة تبعد من العقيلي بُعد المشرقين بَعد ما عرفه الملأ ممّن نصب العداء لسيّد العترة قال ابن خراش: كان عثمانيّاً يبغض عليّاً، وقال أحمد بن حنبل: كان يحمل على عليّ(١) فأيّ كرامة لابن أنثى لا يُوالي سيّد العرب امير المؤمنين فضلاً عن أن يعاديه بعد ما ثبت عن النبيّ الأقدس من الدّعوة المستجابة بقوله في عليعليه‌السلام : اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه،(٢) وبعد عهد النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه سلام الله عليه انّه لا يحبّه إلّا مؤمنٌ ولا يبغضه إلّا منافقٌ(٣) وبعد قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عليُّ لا يبغضك مؤمنٌ ولا يحبّك منافق(٤) وبعد قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يحبُّ عليّاً المنافق، ولا يبغضه مؤمن(٥) وبعد قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لولاك يا عليُّ! ما عرف المؤمنون بعدي(٦) وبعد قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والله لا يبغضه أحدٌ من أهل بيتي ولا من غيرهم من الناس إلّا وهو خارجٌ من الايمان(٧) وبعد قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

____________________

١ - تهذيب التهذيب ٥: ٢٥٤.

٢ - راجع حديث الغدير فى الجزء الاول من كتابنا هذا.

٣ - راجع ما اسلفناه فى الجزء الثالث ص ١٦١.

٤ - راجع ما مرّ فى الجزء الثالث ١٦٢.

٥ - راجع ص ١٦٣ من الجزء الثالث.

٦ - راجع ص ١٦٤ من الجزء الثالث.

٧ - يأتي في مسند المناقب بمصادره.

١٢٣

يا عليُّ أنت سيّدٌ في الدنيا سيّدٌ في الآخرة، حبيبك حبيبي وحبيبي حبيب الله، وعدّوك عدوّي وعدوّي عدوّ الله، والويل لمن أبغضك بعدي(١) . وبعد قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عليُّ طوبى لمن احبّك وصدق فيك، وويلٌ لمن أبغضك وكذب فيك(٢) وبعد قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّعليه‌السلام : من أحبّك أحبَّني، ومن أبغضك أبغضني(٣) إلى أحاديث جمّة.

فكيف يسع لمسلم يصدِّق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أقواله هذه أن يذعن بكرامة ابن شقيق مبغض عليّعليه‌السلام والمتحامل عليه بالوقيعة فيه، ويراه مستجاب الدّعوة، نافذ المشيئة في السّحاب. نعم يسوِّغه الغلوّ في الفضائل لا عن دراية

وأمّا الجريري راوي هذه المهزأة فقد عرفت في ما مرَّ في هذا الجزء: انّه اختلط قبل موته بثلاث سنين، وهذه الرِّواية من آيات اختلاطه.

_ ٢٧ _

السختيانى ينبع الماء

أخرج أبو نعيم في ( حلية الأولياء ) ٣: ٥ بالإسناد عن عبد الواحد بن زيد قال: كنت مع أيّوب السَّختياني(٤) على حِراء فعطشت عطشاً شديداً حتّى رأى ذلك في وجهي فقال. ما الّذي أرى بك؟ قلت: العطش، وقد خفت على نفسي، قال: تستر عليَّ؟ قلت: نعم. قال: فاستحلفني فحلفت له أن لا اُخبر عنه ما دام حيّاً، قال: فغمز برجله على حِراء فنبع الماء فشربت حتّى رويت وحملت معي من الماء قال: فما حدَّثت به أحداً حتّى مات.

وفي [ الرّوض الفائق ] ص ١٢٦: كان جماعة مع أيّوب السَّختياني في سفر فأعياهم طلب الماء فقال أيّوب: أتسترون عليّ ما عشت؟ فقالوا: نعم. فدوّر دائرة فنبع الماء قال: فشربنا فلمّا قدموا البصرة أخبر به حمّاد بن زيد. قال عبد الواحد بن زيد: شهدت معه ذلك اليوم.

____________________

١ - مستدرك الحاكم ٣ ص ١٢٨ وصححه ووثق الذهبى رواته.

٢ - مستدرك الحاكم ٣ ص ١٣٥ وصححه.

٣ - مستدرك الحاكم ٣ ص ١٤٢ صححه الحاكم والذهبى.

٤ - توفى سنة ١٢١ توجد ترجمته فى حلية الاولياء ٣: ٣ - ١٤.

١٢٤

_ ٢٨ _

شيخ يبيع القصر في الجنة

أتى رجلٌ من أهل خراسان حبيب بن محمّد العجميّ البصريّ يريد مكّة وقال له: يا شيخ! اشتر لي داراً ودفع إليه مالاً وخرج إلى مكّة فأخذ حبيب المال فتصدّق به فلمّا قدم الرَّجل قال له: إذهب بي إلى الدّار الّتي إشتريتها فأرنيها فقال له: إنّك لا تراها اليوم ولكن إذا متّ تراها فقال له الخراسانيُّ: اكتب إليّ عهدتها حتّى اذهب بها إلى خراسان فكتب له حبيب: بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، هذا ما اشترى حبيب قصراً في الجنّة كذا وكذا، وارتفاعه كذا كذا في الجنّة. ثمَّ ختم الكتاب ودفعه إليه فأخذه الرَّجل فذهب به إلى خراسان إلى أهله فقالوا له: أنت مجنونٌ لولا انّك ضيَّعت مالك لذهب بك إلى الدّار، ولكن هذا شأن مجنون، فبقي الرَّجل ما شاء الله، فلمّا حضره النَّزع قال لأهله: إجعلوا هذا الكتاب في كفني، فلمّا مات وضعوه في أكفانه وحملوه إلى القبر فأصبح حبيب بالبصرة وإذا الكتاب عنده في بيته وفي ذيله: يا أبا محمّد! إنَّ الله قد سلّم إليه القصر الّذي اشتريته له فذهب إلى أهل الرّجل وقال لهم: إنَّ الله قد سلّم إلى أبيكم القصر، وهذه العهدة فبصروا بها فإذا هي الكتاب الّذي وضعوه معه في القبر.

أخرجه ابن عساكر في تاريخه ٤: ٣٢ وقال مهذِّبه: قد روى الحافظ هذه القصّة باسناده من طريقين مطوّل ومختصر والمعنى واحد، وهذه القصَّة كانت لحبيب، وأرجو أن؟ لا يحوم حولها المدَّعون فيجعلونها سلّماً لأكل مال النّاس بالباطل، فإنَّ أحوال امثال حبيب لا يقاس عليها ولا تكون قاعدة للعمل.

_ ٢٩ _

حضور غائب بدعاء معروف

ذكر الإمام أبو محمّد ضياء الدّين الشيخ احمد الوتري الشافعيّ المتوفّى بمصر في عشر الثمانين والتسعمائة في كتابه ( روضة الناظرين ) ص ٨ نقلاً عن خليل بن محمّد الصيّاد انّه قال: غاب أبي فتألّمت فجئت إلى معروف - الكرخي المتوفّى ٢٠٠ / ١ / ٤ - فقلت: غاب أبي فقال: ما تريد؟ قلت: رجوعه. قال: أللّهمَّ إنّ السّماء سماؤك، والأرض أرضك وما بينهما لك ائت بمحمّد، فأتيت باب الشّام فإذا هو واقفٌ فقلت: أين كنت؟

١٢٥

قال: كنت السّاعة بالأنبار(١) ولا أعلم ما صار.

عجباً العقول تُسوّغ مثل هذا لكلِّ معروف ومنكر، ولا تسوِّغه في أمير المؤمنين عليّ صلوات الله عليه يوم حضر تغسيل سلمان بالمدائن وكان سلام الله عليه بالمدينة. راجع الجزء الخامس ص ١٥ - ٢١ ط ٢.

_ ٣٠ _

رجل متربّع فى الهواء

أخرج إبن الجوزي في صفة الصَّفوة ٤: ٢٤٥ عن حذيفة بن قتادة المرعشيّ المتوفّى ٢٠٧ قال: قال: كنت في المركب فكسر بنا فوقعت أنا وامرأة على لوح من ألواح المركب فمكثنا سبعة ايّام فقالت المرأة: أنا عطشى. فسألت الله تعالى أن يسقينا فنزلت علينا من السّماء سلسلة فيها كوزٌ معلّقٌ فيه ماءٌ فشربت، فرفعت رأسي أنظر إلى السِّلسلة فرأيت رجلاً في الهواء متربّعاً فقلت: مَن أنت؟ قال: من الإنس. قلت: فما الّذي بلّغك هذه المنزلة؟ قال: أثرت مراد الله عزّ وجلّ على هواي فأجلسني كما تراني.

وإن تعجب فعجبٌ من أقوام يقبلون هذا ويبهظهم حديث البساط لمولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام .

_ ٣١ _

جنّية تكّلم الخزاعى

أخرج ابن الجوزي في صفة الصّفوة ٢: ٢٠٥ عن أحمد بن نصر الخزاعي(٢) أحد ائمَّة السنّة الإمام الشهير المتوفّى ٢٣١، قال: رأيت مصاباً قد وقع فقرأت في اُذنه فكلّمتني الجنِّيَّة من جوفه: يا أبا عبد الله! بالله دعني أخنقه، فإنّه يقول: القرآن مخلوق.

ما ألطفها من دعاية إلى المبدأ الباطل؟ ولِلَّه درُّ الجنِّيَّة العالمة الّتي بلغ من علمها انَّها قالت بعدم خلق القرآن. ونحن نشكر الله سبحانه على ابطال هذه السخافة القديمة على ممرّ الايام فلم تجد اليوم جانحاً إليها ولا محبّذاً إيّاها.

____________________

١ - الانبار، مدينة قرب بلخ. ومدينة على الفرات فى غربى بغداد بينهما عشرة فراسخ.

٢ - قتل فى خلافة الواثق لامتناعه عن القول بخلق القرآن ونفى التشبيه فعلقت على اذنه رقعة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم هذا رأس احمد بن نصر بن مالك دعاه عبد الله الامام هارون وهو الواثق بالله امير المؤمنين إلى القول بخلق القرآن ونفى التشبيه فابى الا المعاندة فعجله الله الى ناره.

١٢٦

_ ٣٢ _

رأس احمد الخزاعى يتكلم

ذكر الخطيب وابن الجوزي بالاسناد عن إبراهيم بن إسماعيل بن خلف قال: كان أحمد بن نصر خِلّي، فلمّا قتل في المحنة وصُلب رأسه اُخبرت: أنَّ الرَّأس يقرأ القرآن، فمضيت فبتُّ بقرب من الرأس مشرفاً عليه، وكان عنده رجّالة وفرسان يحفظونه، فلمّا هدئت العيون سمعت الرأس تقرأ: الـ~ـم أحسب النّاس أن يُتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يُفتنون فاقشعرَّ جلدي.

وعن أحمد بن كامل القاضي عن أبيه انَّه قال: وُكلّ برأس أحمد مَن يحفظه بعد أن نصب برأس الجسر، وإنَّ الموكّل به ذكر: انّه يراه بالليل يستدير إلى القبلة بوجهه فيقرأ سورة يس~ بلسان طَلِق، وإنّه لمـّا أخبر بذلك طُلب فخاف على نفسه فهرب.

وعن خلف بن سالم انَّه قال: عندما قُتل أحمد بن نصر وقيل له: ألا تسمع ما النّاس فيه يا أبا محمّد؟ قال: وما ذلك؟ قال: يقولون إنَّ رأس أحمد بن نصر يقرأ القرآن، قال: كان رأس يحيى بن زكريّا يقرأ(١) .

لا تبهظ الخطيب وابن الجوزي هذه الاُضحوكة، ولا احسب انَّهما يصدّقانها ولكن لمـّا كان يبهظهما وأمثالهما ما يؤثر(٢) من أنَّ رأس مولانا أبي عبد الله السّبط الشّهيد صلوات الله عليه كان يقرأ القرآن الكريم على عامل السّنان، ولقد كانت هذه الاكرومة متسالماً عليها في العصور الخالية، فنحتوا هذه الأفائك تجاهها تخفيفاً لتلك المنزلة الكريمة الخاصّة ببضعة المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

_ ٣٣ _

النبي يفتخر بابى حنيفة

عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انَّه قال: إنَّ سائر الأنبياء تفتخر بي، وأنا افتخر بأبي حنيفة،

____________________

١ - تاريخ بغداد ٥: ١٧٩، صفة الصفوة ٢: ٢٠٥.

٢ - سيوافيك حديثه في مسند المناقب ومرسلها انشاء الله تعالى.

١٢٧

وهو رجلٌ تقيٌّ عند ربّي، وكأنَّه جبلٌ من العلم، وكأنّه نبيٌّ من أنبياء بني إسرائيل، فمن أحبَّه فقد أحبَّني، ومن أبغضه فقد أبغضني.

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنَّ آدم افتخر بي، وأنا أفتخر برجل من امّتي اسمه نعمان، وكنيته أبو حنيفة، هو سراج امّتي.

أسلفنا الرِّوايتين مع جملة ممّا اختلقته يد الغلوِّ في الفضائل لأبي حنيفة في الجزء الخامس ص ٢٣٩ - ٢٤١ وذكرنا هنالك انَّ امَّة من الحنفيَّة بلغت مغالاتها فيه حدّاً ذهبت إلى أعلميّته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القضاء.

وذكر الحريفيش في الرّوض الفائق ص ٢١٥: انَّ من ورع أبي حنيفة رضي الله عنه انَّ شاةً سرقت في عهده فلم يأكل لحم شاة مدَّة تعيش الشّاة فيها.

لا أدري لأيِّ خرافة أضحك؟ ألفخر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برجل استتيب من الكفر مرَّتين(١) والنبيّ مفخرة العالمين جميعاًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي امَّته مَن باهى به الله كمولانا امير المؤمنينعليه‌السلام ليلة مبيته على فراش رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) ؟

أم لكون الرَّجل أعلم من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقضاء؟ أنا لا أدري من أين جاء أبو حنيفة بهذا العلم والفقه؟ أهو فقهٌ إسلاميٌّ والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستقاه ومنبثق أنواره؟ أم هو ممّا اتَّخذه من غير المسلمين من رجال كابل أو بابل أو ترمذ(٣) فأحرِ به أن يضرب عرض الجدار، وأيُّ حاجة للمسلمين إلى فقه غيرهم وقد أنعم الله عليهم بقضاء الإسلام وفقهه؟ وفيهما القول الحاسم وفصل الخطاب.

أم لورع الرَّجل الموصول بفقهه الناجع في قصَّة الشاة المسروقة الّذي لا يصافقه عليه فيه أيُّ فقيه متورّع، وقد أباح الإسلام أكل لحم الشيّاه في جميع الأحيان، وفي كلّها أفرادٌ منها مسروقةٌ في الحواضر الإسلاميّة وأوساطها، لكن هذا الفقيه لا يعرف

____________________

١ - راجع الجزء الخامس ص ٢٨٠ ط ٢.

٢ - اسلفنا حديثه فى الجزء الثانى ٤٨ ط ٢.

٣ - ايعاز إلى محتد ابى حنيفة،، قال الحافظ ابو نعيم الفضل بن دكين وغيره: اصله من كابل. وقال ابو عبد الرحمن المقرى: انه من أهل بابل وقال الحارث بن ادريس: اصله من ترمذ.

١٢٨

عدم تنجّز الحكم في الشّبهات إذا كانت غير محصورة خارجاً أكثر أطرافها من محلِّ الابتلاء، ولعلّه كان يعلم ذلك لكن عمله هذا من حيله التي هو أخبر بها عن نفسه، قال أبو عاصم النبيل: رأيت أبا حنيفة في المسجد الحرام يفتي، وقد اجتمع الناس عليه وآذوه، فقال: ما هاهنا أحدٌ يأتينا بشرطيّ؟ فقلت: يا أبا حنيفة! تريد شرطيّاً؟ قال: نعم. فقلت: اقرأ عليَّ هذه الأحاديث الّتي معي، فقرأها فقمت عنه ووقفت بحذاءه فقال لي: أين الشرطيّ؟ فقلت له: إنَّما قلت: تريد. لم أقل لك: أجيء به فقال: انظروا أنا أحتال للنّاس منذ كذا وكذا وقد احتال عليَّ هذا الصبيُّ(١) .

أراد الإمام الأعظم بالقصَّة التظاهر بالورع ونصبها فخّا لاصطياد الدَّهماء كقصَّته الاُخرى المحرابيّة الّتي حكاها حفص بن عبد الرّحمن قال: صلّيت خلفه فلمّا صلّى وجلس في المحراب فقال له رجلٌ: أيحلُّ أن تصلّي وفيه تصاوير؟ قال: اُصلّي فيه منذ خمس وأربعين سنة فما علمت انّ فيه تصاوير، ثمَّ أمر بالصّور فطمست. وقال له رجلٌ: ما أحسن سقف هذا المسجد؟ قال: ما رأيته وأنا فيه أكثر من أربعين سنة(٢) .

ولعلّ رأيه في الشّاة ممّا يوقف القارئ على سرِّ عدم دخول آرائه مدينة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال محمّد بن مسلمة المديني وقيل له: إنَّ رأي أبي حنيفة دخل هذه الأمصار كلّها ولم يدخل المدينة. قال: لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: على كلِّ ثقب من أثقابها ملكٌ يمنع الدجّال من دخولها. وكلام هذا من كلام الدجّالين، فمن ثمَّ لم يدخلها(٣) .

وفي فقه أبي حنيفة شذوذٌ تقصر عنها قصَّة الشّاة، قد خالف فيها السنّة الثابتة حتّى قال وكيع بن الجراح(٤) : وجدت أبا حنيفة خالف مائتي حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٥) غير أنَّ عبد الله بن داود الحريبي المغالي في حبِّ امامه يقول: ينبغي للنّاس

____________________

١ - اخبار الظراف لابن الجوزى ص ١٠٣.

٢ - مناقب ابى حنيفة تأليف الحافظ الكردرى ١: ٢٥١.

٣ - أخبار الظراف لابن الجوزى ص ٣٥.

٤ - ابو سفيان الكوفى الحافظ كان ثقة حافظاً متقناً مأموناً عالياً رفيع القدر كثير الحديث وكان يفتي، توفي سنة مائة وست وتسعين.

٥ - الانتقاء لابن عبد البر صاحب الاستيعاب ص ١٥٠.

١٢٩

أن يدعو في صلاتهم لأبي حنيفة لحفظه الفقه والسنن عليهم(١) .

وقال صاحب [ مفتاح السّعادة ] ٢: ٧٠: سمعت مَن أثق به يروي عن بعض الكتب إنَّ ثابتا - والد ابي حنيفة - توفّي وتزوَّج امّ الامام أبي حنيفة رحمه الله الإمام جعفر الصّادق، وكان أبو حنيفة رحمه الله صغيراً، وتربّى في حجر جعفر الصّادق، وأخذ علومه منه، وهذه إن ثبتت فمنقبةٌ عظيمةٌ لأبي حنيفة.

عقّبه الحسن النعماني في تعليق « المفتاح » فقال: كيف يتّجه انَّ الإمام كان صغيراً و تربّى في حجر الإمام الصّادق لأنَّ جعفر الصّادق توفِّي سنة ثمان وأربعين ومائة عن ثمان وستّين سنة، والإمام أبو حنيفة توفّي سنة خمسين ومائة وولد على قول الأكثر(٢) سنة ثمانين، فتكون سنة ولادتهما واحدة، وبين وفاتيهما سنتان، فثبت انّهما من الأقران لا انَّ الإمام صغيرٌ، والإمام جعفر الصّادق كبيرٌ.

وفي غضون ما الّفه الموفّق بن احمد، والحافظ الكردري في مناقب أبي حنيفة، وما ذكره بعض الحنفيّة في معاجم التراجم لدى ترجمته حرافات وسفاسف جمَّة تُشوّه سمعة الاسلام المقدَّس، ولا يسوّغه العقل والمنطق إن لم يشفعهما الغلوّ في الفضائل، ومن أعجب ما رأيت ما ذكره الإمام أبو الحسين الهمداني في آخر [خزانة المفتين ] من انّ الإمام ابو حنيفة لمـّا حجَّ حجّة الوداع أعطى بسدنة الكعبة مالاً عظيماً حتّى أخلوا له البيت، فدخل وشرع للصَّلاة، وافتتح القرائة كما هو دأبه على رجله اليمنى حتّى قرأ نصف القرآن، ثمَّ ركع، وقام في الثانية على رجله اليسرى حتّى ختم القرآن ثمَّ قال: إلهى عرفتك حقَّ المعرفة لكن ما قمت بكمال الطّاعة، فهب نقصان الخدمة بكمال المعرفة، فنودي من زاوية البيت: عرفت فأحسنت المعرفة، وخدمت فأخلصت الخدمة، غفرنا لك ولمن اتّبعك، ولمن كان على مذهبك إلى قيام السّاعة.(٣)

قال الأميني: ليت شعر أيّ كميّة من الزَّمن استوعبها الإمام حتّى ختم الكتاب العزيز في ركعتيه، وقد أخلي له البيت في يوم من ايّام الموسم والنّاس عندئذ مزدلفون

____________________

١ - تاريخ ابن كثير ١٠: ١٠٧.

٢ - وقال بعض: انه ولد سنة احدى وستين.

٣ - مفتاح السعادة ٢: ٨٢.

١٣٠

حول البيت، يتحرّون التبرّك بالدخول فيه؟! وكيف وسع السّدنة منع اولئك الجماهير عن قصدهم، وكبح رغباتهم الأكيدة طيلة تلك البرهة الطويلة؟!

ثمَّ ما هذا الدؤب من الإمام على قرائة نصف القرآن الاوّل على رجله اليمنى، ونصفه الآخر على رجله اليسرى؟ أهو حكمٌ متَّخذٌ من الكتاب؟ أم سنّةٌ متَّبعةٌ صدع بها النبيُّ الأعظم؟ ام بدعةٌ لم نسمعها من غير الإمام؟ وهل في الألعاب الرياضيَّة المجعولة لحفظ الصّحة والإبقاء على قوَّة البدن ونشاطه مثل ذلك؟ أنا لا أدري.

ثمَّ كيف وسعت الإمام تلك الدّعوى الباهظة العظيمة أمام ربِّ العالمين سبحانه، وهو الواقف على السَّرائر والضَّمائر؟ وما أجرأه على دعوى لم يدّعها نبيّ من الأنبياء حتّى خاتمهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليهم على سعة معرفتهم؟ ولا شكَّ انَّ معرفتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوسع، وقد أغرق فيها نزعاً، ومع ذلك لم يؤثر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقحّم الإمام في مناجات أو دعاء، ولا يصدر مثل هذا إلّا عن إنسان معجب بنفسه، مغترّ بعلمه، غير عارف بالله حقّ المعرفة.

والمغفّل صاحب الرّواية يحسب انَّ الامام ادّعاها في عالم الشّهود فصدَّقه عليها هاتف عالم الغيب، وليس هذا الهتاف المنسوج بيد الاختلاق الأثيمة إلّا دعايةً على الإمام وعلى مذهبه الذي هو أتفه المذاهب الإسلاميَّة فقهاً، ولو كانت الامّة تصدِّق هذه البشارة لمعتنقي ذلك المذهب، ويراها من ربِّ البيت لا من الأساطير المزوّرة لوجب عليها أن يكونوا حنفيّين جمعاء، غير انّ الامَّة لا تصافق على صحَّتها، رضي بذلك الإمام أم لم يرض.

وأعجب من هذا ما ذكره العلّامة البرزنجي قال:

ذهب بعض الحنفيَّة إلى انَّ كلّا من عيسى والمهدي يقلّدان مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، وذكره بعض مشايخ الطَّريقة ببلاد الهند في تصنيف له بالفارسيّة شاع في تلك الدِّيار، وكان بعض من يتوسَّم بالعلم من الحنفيّة، ويتصدَّر للتدريس يشهر هذا القول ويفتخر به ويقرِّره في مجلس درسه بالرَّوضة النبويَّة.

وحكى الشّيخ علي القاري عن بعضهم انَّه قال: إعلم أنَّ الله قد خصَّ أبا حنيفة بالشّريعة والكرامة، ومن كراماته: انَّ الخضرعليه‌السلام كان يجيء إليه كلّ يوم وقت الصّبح ويتعلّم منه أحكام الشَّريعة إلى خمس سنين، فلمّا توفّي أبو حنيفة ناجى الخضر ربَّه

١٣١

قال: إلـ~ـهي إن كان لي عندك منزلة فائذن لأبي حنيفة حتى يعلّمني من القبر على حسب عادته حتّى أعلم شرع محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الكمال ليحصل لي الطَّريقة والحقيقة، فنودي: أن اذهب إلى قبره وتعلّم منه ما شئت فجاء الخضر وتعلّم منه ما شاء كذلك إلى خمس وعشرين سنة اُخرى حتّى اتمَّ الدَّلائل والأقاويل، ثمَّ ناجى الخضر ربَّه وقال: يا إلـ~ـهي ماذا أصنع فنودي: أن اذهب إلى صعالك واشتغل بالعبادة إلى أن يأتيك أمري الى أن قال له: اذهب إلى البقعة الفلانيّة وعلّم فلاناً علم الشَّريعة ففعل الخضرعليه‌السلام ما اُمر، ثمَّ بعد مدّة ظهر في مدينة ما وراء النهر شابٌّ وكان اسمه أبا القاسم القشيريّ وكان يخدم امّه ويحترمها إلى أن قال: فأمر الله الخضر أن اذهب إلى القشيريّ وعلّمه ما تعلّمت من أبي حنيفة رضي الله عنه لأنَّه أرضى امّه فجاء الخضر إلى أبي القاسم وقال: أنت أردت السّفر لأجل طلب العلم وقد تركته لرضا امّك وقد أمرني الله تعالى أن أجيء اليك كلَّ يوم على الدَّوام واعلّمك فكلُّ يوم يجيء إليه الخضر حتّى ثلاث سنين و علّمه العلوم الّتي تعلّم من أبي حنيفة في ثلاثين سنة، حتّى علّمه علم الحقايق والدقايق ودلائل العلم وصار مشهور دهره وفريد عصره حتّى صنّف ألف كتاب وصار صاحب كرامة وكثر مريدوه وتلاميذه، فكان له مريدٌ كبير متديِّنٌ لا يفارق الشّيخ فعدَّ له الشّيخ ألف كتاب من مصنّفاته ووضعه في الصّندوق وأعطى لذلك المريد وقال: قد بدا لي أمرٌ فاذهب وارم هذا الصّندوق في جيحون، فحمل المريد الصّندوق وخرج من عند الشيخ وقال في نفسه: كيف أرى مصنّفات الشيخ في الماء؟ لكن أذهب وأحفظ الكتب و أقول للشيخ: رميتها. وحفظ الكتب وجاء وقال للشيخ: رميت الصّندوق في الماء: قال الشّيخ: وما رأيت في تلك الساعة من العلامات؟ قال: ما رأيت شيئاً قال الشيخ: أذهب وارم الصَّندوق. فذهب المريد إلى الصَّندوق وأراد أن يرميه فلم يهن عليه ورجع إلى الشيّخ مثل الأوَّل وقال: رميته؟ قال: نعم قال: وما رأيت؟ قال: لم أر شيئاً. قال الشيخ: ما رميته فاذهب وارمه فإنّ لي فيها سرّاً مع الله ولا تردَّ أمري. فذهب المريد ورمى الصَّندوق فخرج من الماء يدٌ وأخذ الصَّندوق قال المريد له من أنت؟ فنادى في الماء: انّي وكّلت أن احفظ أمانة الشيخ، فرجع المريد وجاء إلى الشيّخ فقال: رميت؟ قال: نعم.

١٣٢

قال: وما رأيت؟ قال: رأيت الماء قد انشقّ وخرج منه يد وأخذ الصّندوق وقد صرت متحيّراً وما السرّ في ذلك؟ قال الشيخ: السرُّ في ذلك انَّه اذا قربت القيامة وخرج الدجّال ونزل عيسى ببيت المقدس فيضع الإنجيل بجنبه ويقول: أين الكتاب المحمديّ؟ أو قد أمرني الله أن أحكم بينكم بكتابه ولا أحكم بالإنجيل فيطلبون الدنيا ويطوفون البلاد فلم يوجد كتابٌ من كتب الشّرع المحمديّ فيتحيّر عيسى ويقول: إلـ~ـهي: بماذا أحكم بين عبادك ولم يوجد غير الإنجيل فينزل جبريل ويقول: قد أمر الله أن تذهب إلى نهر جيحون وتصلّي ركعتين بجنبه وتنادي: يا أمين صندوق أبي القاسم القشيري! سلّم إليَّ الصَّندوق وأنا عيسى بن مريم وقد قتلت الدجّال فيذهب عيسى إلى جيحون ويصلّي ركعتين ويقول مثل ما أمره جبريل، فيشقُّ الماء ويخرج الصّندوق ويأخذه ويفتحه ويجد فيه ختمه والف كتاب فيحيي الشّرع بذلك الكتاب، ثمَّ سأل عيسى جبريل: بِمَ نال أبو القاسم هذه المرتبة؟ فقال: برضاء والدته. نقل من كتاب أنيس الجلساء(١) .

وقد أطنب الشّيخ علي القاري في ردِّ هذه الاسطورة بعدَّة صحائف إلى أن قال في ص ٢٣٠: ثمَّ انَّ مثل هؤلاء لفرط تعصّبهم وعنادهم ليس مطمح نظرهم إلّا تفضيل أبي حنيفة ولو بما لا أصل له، ولو بما يؤدّي إلى الكفر وليس عندهم علمٌ بفضائله الجمَّة الّتي اُلّفت فيها الكتب(٢) فيرضون بالأكاذيب والإفترائات التي لا يرضاها الله ورسوله ولا ابو حنيفة نفسه، ولو سمعها أبو حنيفة رضي الله عنه لأفتى بكفر قائلها وفي فضائل أبي حنيفة المقرَّرة المحرَّرة كفاية لمحبّيه ولا يحتاج في إثبات فضله إلى الأقوال الكاذبة المفتراة المؤدِّية إلى تنقيص الأنبياء، ومن العجائب انّه وقع للقهستاني مع فضله وجلالته شيءٌ من ذلك فقال في شرح خطبة النقابة: انّ عيسى إذا نزل عمل بمذهب أبي حنيفة كما ذكره في الفصول الستّة. وليت شعري ما الفصول الستّة؟ وما الدّليل على هذا القول؟ فإنّا لله وإنّا إليه راجعون. الخ.

____________________

١ - الاشاعة فى اشراط الساعة تأليف السيد محمد البرزنجى المدنى ٢٢١ - ٢٢٥.

٢ - الكتب المؤلفة فى فضائل أبى حنيفة حوت بين دفتيها لدة هذه الترهات والاكاذيب المزخرفة وما أكثرها؟ ولو لم يكن الباطل الذى لا اصل له مأخوذاً به فيها اذا لم تلق منها باقية.

١٣٣

وفي مفتاح السّعادة ١: ٢٧٥، و ج ٢: ٨٢: إنَّ أبا حنيفة رحمه الله تعالى رأى كأنّه ينبش قبر النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويجمع عظامه إلى صدره فهالته الرؤيا فقال إبن سيرين: هذه رؤيا أبي حنيفة فقال: أنا أبو حنيفة فقال إبن سيرين: اكشف عن ظهرك فكشف فرأى خالاً بين كتفيه فقال: أنت الّذي قال عليه الصّلاة والسَّلام: يخرج في امّتي رجلٌ يقال له: أبو حنيفة بين كتفيه خالٌ يحيي الله تعالى ديني على يديه، ثمَّ قال ابن سيرين: لا تخف انّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مدينة العلم وأنت تصل إليها فكان كما قال.

إقرأ وابك على امّة محمّد المرحومة بأيّ أناس بُليت، وبايِّ خلق منيت؟! ما حيلة الجاهل الغرّ وما ينجيه عن هذه السّخائف والأساطير؟!

_ ٣٤ _

أبو زرعة يجعل الحصاة تبراً

روى الذّهبي في تذكرة الحفّاظ ١: ١٧٤ عن خالد بن الفزر قال: كان حياة بن شريح - أبو زرعة المصري شيخ الدِّيار المصريّة المتوفّى ١٥٨ - من البكّائين: وكان ضيّق الحال جدّاً، فجلست وهو متخلّ يدعو فقلت: لو دعوت أن يوسّع الله عليك فالتفت يميناً وشمالاً فلم ير أحداً فأخذ حصاة فرمى إليَّ بها فإذا هي تبرةٌ ما رأيت أحسن منها. وقال: ما خير في الدنيا إلّا للآخرة، ثمَّ قال: هو أعلم بما يصلح عباده فقلت: وما أصنع بهذا؟ قال: استنفقها. فهبته والله أن أردّه.

_ ٣٥ _

وضوء ابراهيم الخراسانى

ذكر اليافعي في ( رياض الرَّياحين ) عن ابراهيم الخراسانيّ المتوفّى ١٦٣ قال: قال: احتجت يوماً إلى الوضوء فاذا أنا بكوز من جوهر، وسواك من فضّة ألين من الخزِّ فاستكت وتوضّأت وتركتها وانصرفت، قال: وبقيت في بعض سياحاتي أيّاماً لم أر فيها أحداً من النّاس ولا طيراً ولا ذا روح، وإذا بشخص لا أدري من أين خرج فقال لي: قل لهذه الشجرة تحمل دنانير. فقلت: احملي دنانير. فلم تحمل، ثمَّ قال لها: احملي وإذا بشماريخ الشَّجرة دنانير معلّقة، فاشتغلت انظر إليها، ثمَّ التفتُّ فلم أر الشّخص وذهبت الدَّنانير من الشّجرة.

١٣٤

قال الأميني: إقرأ وابك على الإسلام وعلى تاريخه، وانظر كيف شوَّهت صفحاته.

_ ٣٦ _

الماجشون يموت ويحيى

أخرج الحافظ يعقوب بن أبي شيبة في ترجمة أبي يوسف يعقوب بن أبي سلمة القرشي الشّهير بالماجشون المتوفّى ١٦٤ بالاسناد عن إبن الماجشون قال: قال عُرج بروح الماجشون فوضعناه على سرير الغسل فدخل غاسلٌ إليه يغسّله فرأى عِرقاً يتحرَّك في أسفل قدمه، فأقبل علينا وقال: أرى عِرقاً يتحرَّك ولا أرى أن اعجل عليه فاعتللنا على النّاس بالأمر الذي رأيناه، وفي الغد جاء النّاس وغدا الغاسل عليه فرأى العِرق على حاله فاعتذرنا إلى النّاس، فمكث ثلاثاً على حاله والناس يتردّدون إليه ليصلّوا عليه ثمَّ استوى جالساً وقال: ايتوني بسويق فاُتي به فشربه فقلنا له: خبِّرنا ما رأيت؟ فقال: نعم عرج بروحي فصعد بي الملك حتّى أتى سماء الدّنيا فاستفتح ففتح له، ثمَّ عرج هكذا في السّموات حتّى انتهى إلى السَّماء السّابعة فقيل له: مَن معك؟ قال: الماجشون.

فقيل له: لم يأن له بعدُ بقي من عمره كذا وكذا سنة، وكذا وكذا شهراً، وكذا وكذا يوماً، وكذا وكذا ساعةً، ثمَّ حبط بي فرأيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبا بكر عن يمينه، وعمر عن يساره، وعمر بن عبد العزيز بين يديه، فقلت للملك الّذي معي: مَن هذا؟ قال: عمر بن عبد العزيز. قلت: إنَّه لقريبٌ من رسول الله فقال: إنّه عمل بالحقِّ في زمن الجور وأنّهما عملا بالحقِّ في زمن الحقِّ.

وأخرجه إبن عساكر في تاريخ الشّام، وذكره ابن خلكان في تاريخه ٢: ٤٦١، واليافعي في مرآة الجنان ١: ٣٥١، وإبن حجر في تهذيب التهذيب ١١: ٣٨٩، وأبو الفلاح الحنبلي في شذرات الذهب ١: ٢٥٩.

قال الأميني: ما كنت أحسب أن يوجد في الاُمَّة الإسلاميَّة من يتّهم الملك الموكَّل بقبض الأرواح بالجهل بآونة الوفيات، وقد وكلّ به من عند العزيز العليم فقال سبحانه:( قُلْ يَتَوَفَّاکُمْ مَلَکُ الْمَوْتِ الَّذِي وُکِّلَ بِکُمْ ) (١) أو مَن يقذفه بالاستبداد في نزع روح أحد قبل إرادة المولى سبحانه وتعالى وفي الكتاب المنزل قوله:( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ

____________________

١ - سورة السجدة: ١١.

١٣٥

مَوْتِهَا ) (١) ( وَ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ ) (٢) ( وَ مَا کَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ کِتَاباً مُؤَجَّلاً ) (٣) ( لاَ إِلٰهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَ يُمِيتُ رَبُّکُمْ وَ رَبُّ آبَائِکُمُ الْأَوَّلِينَ ) (٤) ( هُوَ الَّذِي خَلَقَکُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى ) (٥) ( وَ لِکُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَ لاَ يَسْتَقْدِمُونَ ) (٦) ( مَا تَرَکَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَ لٰکِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) (٧) ( مَا تَرَکَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَ لٰکِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) (٨) ( فَيُمْسِکُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) (٩) ( إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ کُنْتُمْ تَعْلَمُونَ‌ ) (١٠) ( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ کَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً ) (١١) .

كما إنّي ما كنت أشعر إمكان حركة جارحة من جوارح الميِّت بعد نزع روحه، فلم أدر بأيِّ صلة بالرّوح المقبوضة كان يتحرَّك العِرق الماجشونيّ خلال ثلاثة أيّام، والي أيّ مركز حسّاس كانت صلة ذلك العِرق النابض

وما كنت أدري انَّ السّموات العُلى لها أبواب مغلّقة يقف عندها ملك الموت في كلِّ عروجه بروح من الأرواح فيستفتح فتفتح له.

وليتني أدري هل هذا السّير البطيء - ثلاثة أيّام - لملك الموت في استصحابه روح الماجشون يخصُّ بالماجشون فحسب أو هو الشأن المطّرد في عامّة الأرواح؟.

نعم كلُّ هذه تسوّغها الدِّعاية إلى السَّلطات الأمويَّة الغاشمة التي كانت تحكم

____________________

١ - سورة الزمر: ٤٢.

٢ - سورة المؤمنون: ٨٠.

٣ - سورة آل عمران: ١٤٥.

٤ - سورة الدخان: ٨.

٥ - سورة الانعام: ٢.

٦ - سورة الاعراف: ٣٤.

٧ - سورة النحل: ٦١.

٨ - سورة فاطر: ٤٥.

٩ - سورة الزمر: ٤٢.

١٠ - سورة نوح: ٤.

١١ - سورة فاطر: ٤٥.

١٣٦

على الاُمَّة في تلكم الأيّام.

_ ٣٧ _

رقعة من الله الى أحمد امام الحنابلة

مرض بشر بن الحارث وعادته آمنة الرّمليّة فبينما هي عنده إذ دخل الإمام أحمد ابن حنبل يعوده كذلك فنظر إلى آمِنة فقال لبشر: فاسألها تدعو لنا فقال لها بشر: ادعي الله لنا، فقالت: أللّهم إنَّ بشر بن الحارث وأحمد بن حنبل يستجيران بك من النّار فأجرهما يا أرحم الرّاحمين. قال الإمام أحمد رضي الله عنه: فلمّا كان من اللّيل طرحت إلىَّ رقعةٌ من الهواء مكتوبٌ فيها: بسم الله الرَّحمن الرَّحيم قد فعلنا ذلك ولدينا مزيد.

أخرجه ابن عساكر في تاريخه ٢: ٤٨، وابن الجوزي في صفة الصّفوة ٤: ٢٧٨.

_ ٣٨ _

رسول الياس وملك الى أحمد

ذكر ابن الجوزي في مناقب أحمد ص ١٤٣ بالاسناد عن أبي حفص القاضي قال: قدم على أبي عبد الله أحمد بن حنبل رجلٌ من بحر الهند فقال: إنّي رجلٌ من بحر الهند خرجت اُريد الصِّين فاُصيب مركنٌ فأتاني راكبان على موجة من أمواج البحر فقال لي أحدهما: أتحبُّ أن يخلّصك الله على أن تقرئ أحمد بن حنبل منّا السَّلام؟ قلت: ومن أحمد؟ ومَن أنتما يرحمكما الله؟ قال: أنا إلياس وهذا الملك الموكّل بجزاير البحر، وأحمد بن حنبل بالعراق. قلت: نعم. فنفضني البحر نفضة فإذا أنا بساحل الأبلة فقد جئتك اُبلّغك منهما السّلام.

_ ٣٩ _

النخلة تحمل بقلم أحمد

قال أبو طالب عليّ بن أحمد: دخلت يوماً على أبي عبد الله وهو يملي وأنا أكتب فاندقّ قلمي فأخذ قلمّاً فأعطانيه فجئت بالقلم إلى أبي عليّ الجعفريّ فقلت: هذا قلم أبي عبد الله أعطانيه فقال لغلامه: خذ القلم فضعه في النخلة عسى تحمل. فوضعه فيها فحملت. مختصر طبقات الحنابلة ص ١١.

١٣٧

_ ٤٠ _

تكة سراويل أحمد

قال ابن كثير في تاريخه ١٠: ٣٣٥: يروى أنّه لمـّا اُقيم - أحمد بن حنبل - ليضرب – لمـّا ضربه المعتصم - إنقطعت تكّة سراويله فخشي أن يسقط سراويله فتكشف عورته فحرّك شفتيه فدعا الله فعاد سراويله كما كان، ويروى أنّه قال: يا غياث المستغيثين، يا إله~ العالمين، إن كنت تعلم أنِّي قائمٌ لك بحقّ فلا تهتك لي عورة.

_ ٤١ _

الحريق والغريق وكرامة أحمد

روى ابن الجوزي في مناقب أحمد ص ٢٩٧ باسناده عن فاطمة بنت أحمد قالت: وقع الحريق في أخي صالح وكان قد تزوّج إلى قوم مياسير فحملوا إليه جهازاً شبيهاً بأربعة آلاف دينار فأكلته النّار فجعل صالح يقول: ما غمّني ما ذهب منّي إلّا ثوب لأبي كان يصلّي فيه أتبرّك به واُصلّي فيه قالت: فطفى الحريق ودخلوا فوجدوا الثّوب على سرير قد أكلت النّار ما حواليه والثّوب سليم.

قال ابن الجوزي: قلت: وهكذا بلغني عن قاضي القضاة عليّ بن الحسين الزينبي انّه وقع الحريق في دارهم فاحترق ما فيها إلّا كتاباً كان فيه شيىءٌ بخطّ أحمد.

وقال: قلت: ولمـّا وقع الغرق ببغداد في سنة أربع وخمسين وخمسمأة وغرقت كتبي سلم لي مجلّد فيه ورقتان بخطّ الإمام أحمد.

وقال الذهبي في ذيل العبر عند ذكر ما وقع سنة ٧٢٥، واليافعي في المرآة: ومن الآيات أنّ مقبرة الإمام أحمد بن حنبل غرقت سوى البيت الّذي فيه ضريحه فإنَّ الماء دخل في الدّهليز علوَّ ذراع ووقف بإذن الله وبقيت البواري عليها غبار حول القبر، صحَّ هذا عندنا، وجرَّ السيل أخشاباً كباراً وحيّات غريبة الشَّكل.

مرآت الجنان ٤: ٢٧٣، شذرات الذهب ٦: ٦٦، صلح الإخوان للخالدي ص ٩٨.

قال الأميني: وكفى شاهداً على صدق هذه الكرامة عدم وجود أيّ أثر من ذلك

١٣٨

المرقد المعظّم اليوم، وقد جرفته السُّيول، وعفت رسمه، كأن لم يكن، وغدا حديث أمس الدابر.

_ ٤٢ _

ألله يزور احمد كل عام

روى إبن الجوزي في مناقب أحمد ص ٤٥٤ قال: حدَّثني أبو بكر بن مكارم بن أبي يعلى الحربي وكان شيخاً صالحاً قال: كان قد جاء في بعض السنين مطرٌ كثير جدّاً قبل دخول رمضان بأيّام فنمت ليلة في رمضان فأريت في منامي كأنّي قد جئت على عادتي إلى قبر الإمام أحمد بن حنبل أزوره فرأيت قبره قد إلتصق بالأرض حتّى بقي بينه وبين الأرض مقدار ساف(١) أو سافين فقلت: إنّما تمّ هذا على قبر الإمام أحمد بن كثرة الغيث فسمعته من القبر وهو يقول: لا بل هذا من هيبة الحقِّ عزَّ وجلّ لأنَّه عزَّ وجلّ قد زارني، فسألته عن سرِّ زيارته إيّاي في كلِّ عام فقال عزَّ وجلَّ: يا أحمد! لأنّك نصرت كلامي فهو ينشر ويتلى في المحاريب. فأقبلت على لحده اُقبّله ثمَّ قلت: يا سيّدي ما السرُّ في انّه لا يقبّل قبر إلّا قبرك؟ فقال لي: يا بُنيَّ ليس هذا كرامة لي، ولكن هذا كرامة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنَّ معي شعرات من شعرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألا ومن يحبّني يزورني في شهر رمضان قال ذلك مرَّتين.

مرّت في زيارة إمام الحنابلة أحمد في الجزء الخامس ص ١٧٥ - ١٧٨ لدة هذه من آيات الغلوّ. فراجع ويا حّبذا لو صدقت الأحلام.

_ ٤٣ _

أحمد والملكان النكيران

ذكر إبن الجوزي في مناقب أحمد ص ٤٥٤ عن عبد الله بن أحمد يقول: رأيت أبي في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي. قلت: جاءك منكرٌ ونكيرٌ؟ قال: نعم، قالا لي: من ربّك؟ قلت: سبحان الله أما تستحيان منّي؟ فقالا لي: يا أبا عبد الله! أعذرنا بهذا اُمرنا.

قال الأميني: ما أجرأ الإمام على الملكين الكريمين في ذلك المأزق الحرج؟

____________________

١ - الساف والسافة: الصف من الطين أو اللين ج آسف وسافات.

١٣٩

وما أجهله بالنّاموس المطّرد من سؤال القبر وانّه بأمر من الله العليِّ العزيز؟ حتى جابه الملكين بذلك القول الخشن، ما أحمد وما خطره؟ وقد جاء في الرِّواية: انَّ عمر ارتعد منهما لمـّا دخلا عليه(١) وكان عمر بمحلّ من المهابة على حدِّ قول عكرمة: انَّه دعا حجّاماً فتنحنح عمرو كان مهيباً فأحدث الحجّام، فأعطاه عمر أربعين درهماً(٢) .

وعلى الملكين أن يشكرا الله سبحانه على أن كفَّ الإمام عن أن يصفعهما فيفقأ عينهما كما فعل موسى بملك الموت في مزعمة أبي هريرة(٣) فرجع إلى ربّه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فردَّ الله إليه عينه. كما في سنن النسائي ٤: ١١٨.

وفي لفظ الطبري في تاريخه ١: ٢٢٤: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انَّ ملك الموت كان يأتي الناس عياناً حتّى أتى موسى فلطمه ففقأ عينه قال: فرجع فقال: يا ربّ! إنَّ عبدك موسى فقأ عيني، ولولا كرامته عليك لشققت عليه. فقال: ائت عبدي موسى فقل له: فليضع كفّه على متن ثور فله بكلِّ شعرة وارت يده سنة، وخيّره بين ذلك وبين أن يموت الآن. قال: فأتاه فخيّره فقال له موسى: فما بعد ذلك؟ قال: الموت. قال: فالآن إذاً. قال: فشمَّه شمة قبض روحه، قال: فجاء بعد ذلك إلى النّاس خفيّا.

وأخرج الحكيم الترمذي مرفوعاً: انَّ ملك الموت كان يأتي الناس عياناً حتّى جاء موسى فلطمه ففقأ عينه فصار يأتي النّاس بعد ذلك خفية. ذكره الشعراني في مختصر تذكرة القرطبي ص ٢٩.

____________________

١ - قال السيد الجردانى فى مصباح الظلام ج ٢ ص ٥٦: ان الله تعالى أعطى عليّاً علم البرزخ فلمّا مات عمر بن الخطاب رضى الله عنه جلس علي علىّ قبره ليسمع قوله للملكين، فلمّا دخلا عليه ارتعد منهما ثمّ اجاب فقالا له: نم. فقال: كيف أنام وقد أصابني منكما هذه الرعدة؟ وقد صحبت النبيّ صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم ولكن اشهد عليكما الله وملائكته ان لا تدخلا على مؤمن إلّا في أحسن صورة ففعلا. فقال له على بن ابى طالب: نم يا ابن الخطاب! فجزاك الله من المسلمين خيرا لقد نفعت الناس في حياتك ومماتك. اقرأ واضحك.

٢ - طبقات ابن سعد ٣: ٢٠٦، تاريخ بغداد ١٤: ٢١٥، تاريخ عمر لابن الجوزى ص ٩٩، كنز العمال ٦: ٣٣١.

٣ - راجع صحيح البخارى ١: ١٥٨ فى ابواب الجنائز، و ج ٢: ١٦٣ باب وفاة موسى، صحيح مسلم ٢: ٣٠٩ باب فضائل موسى، مسند احمد ١: ٣١٥، العرائس للثعلبي ص ١٣٩.

١٤٠

زبيدة: (كانت ولاية الأمين بعهد من أبيه، قدمه على إخوته لمكان والدته، وكان الأحق بالتقديم المأمون لعلمه وفضله وسنه..)(١) وبعد.. فإننا لا نستبعد أنها كانت بالإضافة إلى ذلك قد استخدمت أموالها، من أجل ضمان ولاية العهد لولدها الأمين، ولعل مما يشير إلى ذلك قول الفضل بن سهل للمأمون: (وهو ابن زبيدة، وأخواله بنو هاشم، وزبيدة وأموالها).

وأخيراً. فإن من المحتمل جداً أن يكون الرشيد ـ بملاحظة الدور الذي كانت تلعبه الأنساب في التفكير العربي ـ قد لاحظ سمو نسب الأمين على المأمون، وكان لذلك أثر في تقديمه له عليه، وقد ألمح بعض المؤرخين إلى ذلك فقال: (وفيها ـ أي في سنة ١٧٦ ه‍ ـ عقد الرشيد لابنه المأمون عبد الله العهد بعد أخيه الأمين. إلى أن قال: وكان المأمون أسن من الأمين بشهر واحد، غير أن الأمين أمه زبيدة بنت جعفر هاشمية، والمأمون أمه أم ولد اسمها (مراجل) ماتت أيام نفاسها به)(٢) .

محاولات الرشيد لصالح المأمون:

ومن كل ما تقدم يتضح لنا حقيقة موقف العباسيين، وأهل بيت المأمون، ورجال الدولة من المأمون.. ويظهر إلى أي حد كان مركز أخيه قويا، ونجمه عاليا، وأنه لم يكن له مثل ذلك الحظ الذي كان لأخيه الأمين.

____________

(١) دائرة المعارف الإسلامية ج ١ ص ٦٠٦.

(٢) النجوم الزاهرة ج ٢ ص ٨٤، وقريب منه ما في تاريخ الخلفاء للسيوطي.

١٤١

إلا أن أباه الرشيد، الذي كان يدرك حقيقة الموقف كل الإدراك، قد حاول أن يضمن له نصيبه من الخلافة، فجعله ولي العهد بعد أخيه الأمين، وكتب بذلك العهود والمواثيق، وأشهد عليها، وعلقها في جوف الكعبة، ولا نعلم خليفة، قبله ولا بعده فعل ذلك مع أولياء عهده، من أولاده أو من غيرهم، رغم أن غيره من الخلفاء قد أخذوا البيعة لأكثر من واحد بعدهم.

كما أنه قد حاول بطرق شتى أن يشد من عضد المأمون، ويقوي مركزه في مقابل أخيه الأمين، لأنه كان يخاف منه على أخيه المأمون، فنراه يجدد أخذ البيعة للمأمون أكثر من مرة، ويوليه الحرب، ويولي أخاه السلم(١) ويهب المأمون كل ما في العسكر من كراع وسلاح. ويأمر الفضل بن الربيع، الذي كان يعرف أنه سوف يتآمر مع الأمين ـ يأمره ـ بالبقاء مع المأمون في خراسان. إلى غير ذلك من مواقفه، التي لا نرى حاجة لتتبعها واستقصائها.

مركز المأمون ظل في خطر:

ولكن رغم كل محاولات الرشيد فقد ظل مركز المأمون في خطر والكل كان يشعر بذلك، وكيف لا يعرف الجميع ذلك. ولا يشعرون به، وهم يرون الأمين يصرح بعد أن أعطى العهود والمواثيق، وحلف الأيمان، بأنه: كان يضمر الخيانة لأخيه المأمون(٢) .

لقد كان الكثيرون يرون بأن هذا الأمر لا يتم، وأن الرشيد قد أسس العداء والفرقة بين أولاده، (وألقى بأسهم بينهم، وعاقبة ما صنع

____________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٣٥٣، والطبري حوادث سنة ١٨٦ ه‍.

(٢) الوزراء والكتاب ص ٢٢٢.

١٤٢

في ذلك مخوفة على الرعية) وقالت الشعراء في ذلك الشيء الكثير. ومن ذلك قول بعضهم:

أقـول لغمة في النفس مني

ودمـع العين يطرد اطرادا

خـذي لـلهول عدته بحزم

سـتلقي ما سيمنعك الرقادا

فـإنك إن بقيت رأيت أمراً

يـطيل لك الكآبة والسهادا

رأى الملك المهذب شر رأي

بـقسمته الـخلافة والبلادا

رأى مـا لـو تـعقبه بعلم

لـبيض من مفارقه السوادا

أراد بـه لـيقطع عن بنيه

خـلافهم ويـبتذلوا الودادا

فـقد غرس العداوة غير آل

وأورث شـمل ألفتهم بدادا

والـقح بـينهم حربا عواناً

وسـلس لاجـتنابهم القيادا

فـويل لـلرعية عـن قليل

لقد أهدى لها الكرب الشدادا

وألـبسها بـلاءا غير فان

وألزمها التضعضع والفسادا

سـتجري من دمائهم بحور

زواخـر لا يرون لها نفادا

فـوزر بـلائهم أبـداً عليه

أغيا كان ذلك أم رشادا(١)

والمأمون وحزبه كانوا يدركون ذلك:

وبعد.. فإنه من الطبيعي جداً أن نرى أن المأمون وحزبه كانوا يدركون أن مركز المأمون كان في خطر، وأن الأمين كان ينوي الخيانة لأخيه. ولقد رأينا الفضل بن سهل عندما عزم الرشيد على الذهاب إلى خراسان، وأمر المأمون بالمقام في بغداد ـ رأيناه ـ يقول للمأمون: (لست تدري ما يحدث بالرشيد، وخراسان ولايتك، والأمين مقدم عليك. وإن أحسن ما يصنع بك أن يخلعك، وهو ابن زبيدة، وأخواله

____________

(١) الطبري حوادث سنة ١٨٦ ه‍.

١٤٣

بنو هاشم، وزبيدة، وأموالها..)(١) . وتقدم أيضاً قوله له: إن أهل بيته وبني أبيه، والعرب معادون له.

والرشيد أيضاً كان في قلق:

بل لقد صرح الرشيد نفسه بأنه كان يخشى من الأمين على المأمون، فإنه قال لزبيدة، عندما عاتبته على إعطائه الكراع والسلاح للمأمون: (إنا نتخوف ابنك على عبد الله، ولا نتخوف عبد الله على ابنك إن بويع)(٢) .

هذا بالإضافة إلى تصريحات الرشيد السابقة، والتي لا نرى حاجة إلى إعادتها.

ولقد قال الرشيد، عندما بلغه ما يتهدد به محمد الأمين:

مـحمد لا تـظلم أخـاك فإنه

عليك يعود البغي إن كنت باغيا

ولا تـعجلن الـدهر فـيه فإنه

إذا مال بالأقوام لم يبق باقيا(٣)

ومهما يكن من أمر، فإن الحقيقة التي لا يمكن الجدال فيها، هي أن الرشيد كان في قضية ولاية العهد مغلوبا على أمره، من مختلف الجهات. وكان يشعر أن ما أبرمه سوف يكون عرضة للانتقاض بين لحظة وأخرى، وكم كان يؤلمه شعوره هذا، ويحز في نفسه.. حتى لقد ترجم مشاعره هذه شعراً فقال:

____________

(١) تاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٢٩، والنجوم الزاهرة ج ٢ ص ١٠٢، والكامل لابن الأثير، طبعة ثالثة ج ٥ ص ١٢٧، والوزراء والكتاب ص ٢٦٦.

(٢) مروج الذهب ج ٣ ص ٣٥٣. ولعله إنما فعل ذلك أيضاً، من أجل أن يطيب خاطر المأمون، ويذهب ما في نفسه ـ وهو الأفضل، والأكبر سنا من أخيه ـ من غل وحقد وضغينة..

(٣) ابن بدرون في شرح قصيدة ابن عبدون ص ٢٤٥، وفوات الوفيات ج ٢ ص ٢٦٩.

١٤٤

لـقد بـان وجه الرأي لي غير أنني

غـلبت على الأمر الذي كان أحزما

وكـيف يرد الدر في الضرع بعدما

تـوزع حـتى صـار نـهباً مقسما

أخـاف الـتواء الأمـر بعد استوائه

وأن ينقض الحبل الذي كان أبرما(١)

على من يعتمد المأمون؟

وهكذا: وإذا كان أبوه قد استطاع أن يضمن له المركز الثاني بعد أخيه الأمين، وإذا كان ذلك لا يكفي لأن يجعل المأمون يطمئن إلى مستقبله في الحكم، وأن يأمن أخاه وبني أمية العباسيين، أن لا يحلوا العقدة، وينكثوا العهد، فهل يستطيع المأمون أن يعتمد على غيرهم، لو تعرض مركزه ووجوده لتهديد في وقت ما؟!. ومن هم أولئك الذين يستطيع أن يعتمد عليهم؟! وكيف؟.. وما هو موقفهم فعلاً منه؟! وكيف يستطيع أن يصل إلى الحكم، والسلطان؟! ومن ثم.. كيف يستطيع أن يحتفظ به، ويقوي من دعائمه؟!

إن نظرة شاملة على الفئات الأخرى في تلك الفترة من الزمن، لكفيلة بأن تظهر لنا أنه لم يبق أمام المأمون غير العلويين، والعرب، والإيرانيين. فما هو موقف هؤلاء منه، وأي الفئات تلك هي التي يستطيع أن يعتمد عليها؟ وكيف يستطيع أن يغير مجريات الأمور لتكون في صالحه، وعلى وفق مراده؟!.

هذا هو السؤال الذي لا بد للمأمون من أن يضع الحل والإجابة عليه، بكل دقة ووعي وإدراك. وأن يتحرك من ثم على وفق تلك الإجابة، وعلى مقتضى ذلك الحل.. ولنلق أولاً نظرة سريعة على مواقف كل من هؤلاء من المأمون، ولنخلص من ثم إلى معرفة الفئة التي يستطيع المأمون أن يعتمد عليها في مواجهة الأخطار والتحديات، التي تنتظره، وتنتظر نظام حكمه، بصورة عامة.. فنقول:

____________

(١) ابن بدرون أيضاً ص ٢٤٥، وزهر الآداب، طبع دار الجيل ج ٢ ص ٥٨١، وفوات الوفيات ج ٢ ص ٢٦٩.

١٤٥

موقف العلويين من المأمون:

أما العلويون.. فإنهم ـ بالطبع ـ لن يرضوا بالمأمون ـ كما لن يرضوا بغيره من العباسيين، خليفة وحاكما لأن من بينهم من هو أجدر من كل العباسيين، وأحق بهذا الأمر، ولأن المأمون، وغيره، كانوا من تلك السلالة، التي لا يمكن أن تصفو لها قلوب آل علي، لأنها قد فعلت بهم أكثر من فعل بني أمية معهم، كما تقدم.. فقد سفكت دماءهم، وسلبتهم أموالهم، وشردتهم عن ديارهم، وأذاقتهم شتى صنوف العذاب والاضطهاد. ويكفي المأمون عندهم: أنه ابن الرشيد، الذي حصد شجرة النبوة، واجتث غرس الإمامة، والذي قد عرفت طرفاً من سيرته السيئة معهم فيما تقدم من الفصول.

موقف العرب من المأمون، ونظام حكمه:

وأما العرب: فإنهم لا يرضون بالمأمون خليفة وحاكما أيضاً، كما أشار إليه الفضل بن سهل فيما تقدم.

أما أولاً: فلأن أمه، ومؤدبه، والقائم بأمره، غير عربيين. ولقد عانى العرب ما لله أعلم به، من تقديم أسلافه للموالي، حتى لم يعد لهم معهم أي شأن يذكر، وأصبح العربي أذل من نعجة، وأحقر من الحيوان.

١٤٦

قال المسعودي: (.. وكان - أي المنصور- أول خليفة استعمل مواليه وغلمانه في أعماله، وصرفهم في مهماته، وقدمهم على العرب، فامتثل ذلك الخلفاء من بعده، من ولده، فسقطت، وبادت العرب، وزالت رياستها، وذهبت مراتبها)(١) .

وقال ابن حزم، وهو يتحدث عن العباسيين: (.. فكانت دولتهم أعجمية، سقطت فيها دواوين العرب، وغلبت عجم خراسان على الأمر، وعاد الأمر كسروياً، إلا أنهم لم يعلنوا بسب أحد من الصحابة رضوان الله عليهم. وافترقت في دولة بني العباس كلمة المسلمين..)(٢) .

ويقول الجاحظ: (.. دولة بني العباس أعجمية، خراسانية، ودولة بني مروان عربية..)(٣) .

إلى آخر ما هنالك، مما يدل على سقوط العرب في تلك الفترة، وامتهانهم، ويبدو أن ذلك من المسلمات. وقد استوفى الباحثون ـ ومنهم أحمد أمين، في الجزء الأول من ضحى الإسلام ـ البحث في هذا الموضوع، فمن أراد فليراجع مظان وجوده.

وإذا ما عرفنا: أن من الطبيعي أن يكون ذهاب رئاسة العرب، وإبادتها، واضطهادها على يد الفرس، الذين كانوا هم أصحاب القدرة والسلطان آنذاك.. فلسوف نجد أن من الطبيعي أن يحقد العرب، الذين كانوا في وقت ما هم أصحاب الجبروت والقوة، على الفرس، وعلى كل من يتصل بهم. ويمت إليهم بسبب، من قريب أو من بعيد.

____________

(١) مروج الذهب، طبع بيروت ج ٤ ص ٢٢٣، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٤، و ص ٢٦٩، ٢٧٠، و ص ٢٥٨، وفي طبيعة الدعوة العباسية ص ٢٧٩، نقلاً عن المقريزي في: السلوك لمعرفة دول الملوك ج ١ ص ١٤ مثل ذلك. وليراجع أيضاً كتاب: مشاكلة الناس لزمانهم لليعقوبي ص ٢٣.

(٢) البيان المغرب، طبع صادر ص ٧١.

(٣) البيان والتبيين ج ٣ ص ٣٦٦.

١٤٧

وأما ثانياً: فلسيرة أسلافه، وأبيه الرشيد بالخصوص، في الناس عامة، ومع أهل بيت نبيهم خاصة، والتي قدمنا شطراً منها في الفصول التي سبقت.

أما الأمين: فقد كان له ـ إلى حد ما ـ شافع عندهم، حيث إنه كان من أب وأم عربيين من جهة. وكان قد منحهم ثقته وحبه، وقربهم إليه، حتى كان وزيره الفضل بن الربيع منهم. من جهة ثانية، فتوسموا فيه أن يجعل لهم. وأن ينظر إليهم بغير العين، التي كان أبوه وأسلافه ينظرون إليهم بها. أو على الأقل: سوف لا تكون نظرته إليهم. على حد نظرة المأمون نحوهم. وذلك ما يجعلهم يرجحونه ـ على الأقل ـ على أخيه المأمون، وإن كان المأمون أفضل، وأسن منه، فلقد كان عليهم أن يختاروا أهون الشرين، وأقل الضررين. حتى إن نصر بن شبث، الذي كان هواه مع العباسيين، لم يقم بثورته ضد المأمون، التي بدأت سنة ١٩٨ ه‍. واستمرت حتى سنة ٢١٠ ه‍. إلا انتصاراً للعرب، ومحاماة عنهم، لأن العباسيين كانوا يفضلون عليهم العجم، حسب تصريحات نصر بن شبث نفسه(١) .

وحتى في مصر أيضاً، قد ثارت الفتن بين القيسية، المناصرة للأمين، واليمانية المناصرة للمأمون..

وقال أحمد أمين: (.. إن أغلب الفرس تعصب للمأمون، وأغلب العرب تعصبوا للأمين..)(٢) كما أننا نكاد لا نشك في أن تعصب العرب للأمين ليس إلا للسببين المتقدمين، الذين أشرنا إليهما، وأشار إلى أحدهما نصر بن شبث..

____________

(١) التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ ص ١٠٤.

(٢) ضحى الإسلام ج ١ ص ٤٣.

١٤٨

ولكن فردينان توتل يرى في منجد الأعلام: أن تعصب العرب للأمين يرجع إلى أن: (المأمون لم يستطع أن يجعل العرب يحبونه، حيث إنه كان يظهر ميلا للإيرانيين، ويقربهم إليه. وقد أعانه الإيرانيون في مبارزاته، وحروبه، وخصوصاً الخراسانيين منهم).

ولكن الذي يبدو لي هو أن تعصب العرب للأمين لم يكن نتيجة تقريب المأمون للإيرانيين، وتحببه للخراسانيين، وإنما عكس ذلك هو الصحيح، فإن المأمون لم يتقرب من الخراسانيين إلا بعد أن فرغت يده من العرب وأهل بيته، والعلويين.

لا بد من اختيار خراسان:

وبعد أن فرغت يد المأمون من بني أبيه، والبرامكة(١) ، والعرب، والعلويين، اضطر أن يلتجئ إلى جهات أخرى لتمد له يد العون والمساعدة، وتكون سلما لأغراضه، وأداة لتحقيق أهدافه ومآربه. ولم يبق أمامه غير خراسان، فاختارها، كما اختارها محمد بن علي العباسي من قبل. فأظهر لهم الميل والحب، وتقرب إليهم، وقربهم إليه، وأراهم: أنه محب لما ولمن يحبون، وكاره لما ولمن يكرهون. حتى إنه عندما علم منهم الميل إلى العلويين، والتشيع لهم، أظهر هو بدوره أنه محب للعلويين، ومتشيع لهم.

كما أنه كان من جهة ثانية قطع لهم على نفسه الوعود والعهود، بأن يرفع الظلم والحيف عنهم، ورد عنهم الكيد، الأمر الذي جعلهم يثقون به، ويطمئنون إليه، ويعلقون كل آمالهم عليه.

____________

(١) ذكرنا للبرامكة هنا ليس عفويا، فإن محط نظرنا يشمل حتى الأيام الأولى، التي فتح بها المأمون عينيه، وعرف واقعه، وأدرك الأخطار، التي تتهدده، وتتهدد مستقبله في الخلافة مع أخيه الأمين، فلا يرد علينا: أن البرامكة قد نكبهم الرشيد قبل خلافة المأمون بزمان. مضافاً إلى الدور الكبير الذي لعبه البرامكة في تقديم أخيه الأمين عليه، حسبما قدمنا..

١٤٩

تشيع الإيرانيين:

هذا.. وليس تشيع(١) الإيرانيين بالأمر الذي يحتاج إلى إثبات، بعد أن تقدم معنا: أن دولة العباسيين ما قامت إلا على أساس الدعوة للعلويين، وأهل البيت. وبعد أن رأينا الخراسانيين يظهرون النياحة على (يحيى بن زيد) سبعة أيام، وكل مولود ولد في خراسان في سنة قتل يحيى سمي ب‍ـ (يحيى)(٢) . بل يذكر البلاذري: أنه لما استشار المنصور عيسى بن موسى في أمر محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن، فأشار عليه بأن يولي المدينة رجلاً خراسانياً، قال له المنصور: (يا أبا موسى إن محبة آل أبي طالب في قلوب أهل خراسان ممتزجة بمحبتنا، وإن وليت أمرها رجلاً من أهل خراسان حالت محبته لهما بينه وبين طلبهما، والفحص عنهما، ولكن أهل الشام قاتلوا علياً على أن لا يتآمرعليهم لبغضهم إياه الخ)(٣) .

وقد تقدم معنا: كيف وصف المؤرخون ما جرى في نيشابور، حين دخلها الإمام الرضا، وسيأتي في فصل: خطة الإمام، وصف ما جرى في مرو حينما خرج الإمام ليصلي بالناس. ولقد عرفنا أيضاً: كيف فرق الإمام الرضا الناس عن المأمون. عندما أرادوا قتله، انتقاماً للفضل بن سهل.

____________

(١) قد تقدم منا ما نقصده بكلمة (التشيع) في هذا الكتاب، فلا نعيد.

(٢) مروج الذهب ج ٣ ص ٢١٣، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٥٧، وليراجع أيضاً نزهة الجليس ج ١ ص ٣١٦، فإن فيه ما يشير إلى ذلك.

(٣) أنساب الأشراف للبلاذري ج ٣ ص ١١٥.

١٥٠

بل لقد بلغ من حب الإيرانيين لأهل البيت أن المأمون كان يخشى على نفسه أن يقتلوه، لو أنه أراد أن يرجع عن البيعة للإمام الرضا بولاية العهد(١) .

ويقول جرجي زيدان: (وكان الخراسانيون، ومن والاهم من أهل طبرستان والديلم، قبل قيام الدولة العباسية، من شيعة علي، وإنما بايعوا للعباسيين مجاراة لأبي مسلم أو خوفاً منه)(٢) .

وقال أحمد أمين: (.. إن الفرس يجري في عروقهم التشيع)(٣) ويقول الدكتور الشيبي: (.. إن الفرس قد عادوا إلى التشيع، بعد أن نزلت بهم ضربة السفاح أولاً، ثم المنصور، ثم الرشيد) (٤) ويقول أحمد شلبي: (.. إنه ربما كان سبب أخذ المأمون للرضا العهد، هو أنه يريد أن يحقق آمال الخراسانيين، الذين كانوا إلى أولاد علي أميل) (٥)

ما هو سر تشيع الإيرانيين؟

يقول السيد أمير علي، وهو يتحدث عن سر ارتباط الفرس بقضية بني فاطمة: (.. وقد أظهر الإمام علي منذ بداية الدعوة الإسلامية

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي المجلد الثاني، جزء ٤ ص ٤٤٠.

(٢) نفس المصدر والمجلد، والجزء ص ٢٣٢، ولا يهمنا هنا مناقشة جرجي زيدان فيما جعله سبباً لبيعتهم للعباسيين، ولعل ما قدمناه في فصل: قيام الدولة العباسية كاف في ذلك.

(٣) ضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٥.

(٤) الصلة بين التصوف والتشيع ص ١٠١.

(٥) التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ ص ١٠٧.

١٥١

كل تقدير، ومودة نحو الفرس، الذين اعتنقوا الإسلام، لقد كان سلمان الفارسي، وهو أحد مشاهير أصحاب الرسول، رفيق علي وصديقه. كان من عادة الإمام أن يخصص نصيبه (النقدي) في الأنفال لافتداء الأسرى. وكثيراً ما أقنع الخليفة عمر بمشورته، فعمد إلى تخفيف عبء الرعية في فارس. وهكذا كان ولاء الفرس لأحفاده واضحاً تمام الوضوح)(١) .

ويرى فان فلوتن: إن من أسباب ميل الخراسانيين، وغيرهم من الإيرانيين للعلويين، هو أنهم لم يعاملوا معاملة حسنة، ولا رأوا عدلاً إلا في زمن حكم الإمام عليعليه‌السلام (٢) .

أما الأستاذ علي غفوري فيرى(٣) : أن الإيرانيين كانوا قبل الإسلام يعاملون بمنطق: أن الناس قد خلقوا لخدمة الطبقة الحاكمة، وأن عليهم أن ينفذوا الأوامر من دون: كيف؟ ولماذا؟. فجاء الإسلام بتعاليمه الفطرية السهلة السمحاء، فاعتنقوه بكل رضى وأمل، وبدأ جهادهم في سبيل إقامة حكومة إسلامية حقيقية. وبما أن أولئك الذين تسلموا زمام الأمور ـ باستثناء الإمام علي طبعاً ـ كانوا منحرفين (المقصود هنا بالطبع هو خلفاء الأمويين) عن الإسلام، وتعاليمه، ويحاولون تلبيس عاداتهم الجاهلية، حتى التمييز القبلي، والعرقي بلباس الإسلام. وإعطائها صفة القانونية والشرعية.

فإن الإيرانيين لم يجدوا أهداف الإسلام، وتعاليمه في تلك الحكومات، ولهذا كان من الطبيعي أن يتوجهوا إلى علي، والأئمة من ولده، الذين تعدى الآخرون على حقوقهم بالخلافة، والذين كان سلوكهم المثالي هو المرآة الصافية، التي تنعكس عليها تعاليم الإسلام وأهدافه، ويمثلون الصورة الحقيقية للإسلام على مدى التاريخ. وكان صدى علمهم، وزهدهم، واستقامتهم يطبق الخافقين، وخصوصاً الصادق والرضا، الذي اهتبل الفرصة إبان الخلاف بين الأمين والمأمون لنشر تعاليم الإسلام. وتعريف الناس على الحقائق، التي شاء الآخرون أن لا يعرفها أحد.

____________

(١) روح الإسلام ص ٣٠٦.

(٢) السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات.

(٣) ياد بود هشتمين إمام (فارسي).

١٥٢

لكن لم يكن يروق للقوى الحاكمة، أن تظهر تلك الوجوه الطاهرة على الصعيد العام، وتتعرف عليها الأمة الإسلامية، وعلى فضائلها، وكمالاتها، لأن الناس حينئذٍ سوف يدركون الواقع المزري لأولئك الحكام، والمتزلفين لهم. والذين كانوا يتحكمون بمقدرات الأمة، وإمكاناتها، وإذا أدركوا ذلك فإن من الطبيعي أن لا يترددوا في تأييد الأئمة، ومساعدة أية نهضة، أو ثورة من قبلهم. ولهذا فقد جهد الحكام في أن يزووهم ويبعدوهم ما أمكنهم عن الناس، ووضعوهم تحت الرقابة الشديدة، وفي أحيان كثيرة في غياهب السجون. حتى إذا ما سنحت لهم فرصة، تخلصوا منهم بالطريقة التي كانوا يرون أنها لا تثير الكثير من الشكوك والظنون.

عودة على بدء:

وعلى كل حال.. فإن ما يهمنا هنا هو مجرد الإشارة إلى تشيع الإيرانيين، الذي حاول المأمون أن يستغله لمصالحه وأهدافه. حيث قد أثمرت وعود المأمون للخراسانيين، وتحببه لهم. وتقربه منهم، وتظاهره بالحب لعليعليه‌السلام وذريته، الثمار المرجوة منها، لأن الخراسانيين كانوا يريدون التخلص من أولئك الحكام الذين انقلبوا عليهم يقتلون. ويضطهدون كل من عرفوه موالياً لأهل البيت محبا لهم، ابتداء من المنصور، بل السفاح. وانتهاء بالرشيد، الذي لم يستطع يحيى بن خالد البرمكي أن يسمع لعلوي ذكراً في خراسان في زمانه. رغم أنه جهد كل الجهد من أجل ذلك. وفي سبيله، حسبما تقدم.

كما أنهم ـ أعني الخراسانيين ـ قد توسموا في المأمون أن يكون المنقذ لهم من أولئك الولاة،٨ الذين ساموهم شتى ضروب العسف، والظلم والعذاب. والذين لم يكن بهمهم غير مصالحهم، وإرضاء شهواتهم وملذاتهم، يعلم ذلك بأدنى مراجعة للتأريخ.

وقد وثقوا إلى حد ما بوعود المأمون تلك، التي كان يغدقها عليهم، وعلى غيرهم بدون حساب، وأمنوا جانبه، فكانوا جنده، وقواده، ووزراءه المخلصين، الذين أخضعوا له البلاد، وأذلو له العباد، وبسطوا نفوذه وسلطانه على كثير من الولايات والأمصار، التي كان يطمح إلى الوصول إليها، والسيطرة عليها.

١٥٣

كيف يثق العرب بالمأمون؟!

وهكذا إذن.. يتضح أن ميل المأمون للإيرانيين ما كان إلا دهاء منه وسياسة، استغلها المأمون أحسن ما يكون الاستغلال، حتى استطاع أن يصل إلى الحكم، ويتربع على عرش الخلافة، بعد أن قتل أخاه العزيز على العباسيين والعرب، وقضى على أشياعه بسيوف غير العرب، وذلك ذنب آخر لن يسهل على العرب الإغضاء عنه أو غفرانه.

ثم ولى على بغداد رجلاً غير عربي، هو الحسن بن سهل، أخو الفضل بن سهل، الذي تكرهه بغداد والعرب كل الكره..

ثم إنه بعد هذا كله جعل مقر حكمه مروا الفارسية، وليس بغداد العاصمة العربية الأولى التي خربها ودمرها.. وكان ذلك من شأنه أن يثير المخاوف لدى العرب في أن تتحول الإمبراطورية العربية إلى إمبراطورية فارسية، وخصوصاً إذا لاحظنا: أن الفرس هم الذين أوصلوا المأمون إلى الحكم.. وقد أثبتوا جدارتهم، وأهليتهم في مختلف المجالات، وخصوصاً السياسة، وشؤون الحكم.

قتل الأمين وخيبة الأمل:

وإن قتل الأمين، وإن كان يمثل ـ في ظاهره ـ انتصاراً عسكرياً للمأمون إلا أنه كان في الحقيقة ذا نتائج سلبية وعكسية بالنسبة للمأمون، وأهدافه، ومخططاته.. سيما بملاحظة الأساليب التي اتبعها المأمون للتشفي من أخيه الأمين، الذي كان قد أصدر الأمر لطاهر بالأمس بأن يقتله(١) . حيث رأيناه قد أعطى الذي جاءه برأس أخيه ـ بعد أن سجد لله شكرا! ـ ألف ألف (أي مليون) درهم(٢) . ثم أمر بنصب رأس أخيه على خشبة في صحن الدار، وأمر كل من قبض رزقه أن يلعنه، فكان الرجل يقبض، ويلعن الرأس، ولم ينزله حتى جاء رجل فلعن الرأس، ولعن والديه، وما ولدا، وأدخلهم في (كذا وكذا) من أمهاتهم، وذلك بحيث يسمعه المأمون، فتبسم، وتغافل، وأمر بحط الرأس(٣) !.

ويا ليته اكتفى بكل ذلك.. بل إنه بعد أن طيف برأس الأمين بخراسان(٤)

____________

(١) لقد نص الأستاذ علي غفوري في كتابه الفارسي (ياد بود هشتمين إمام) ص ٢٩ على أن المأمون: (لم يرض بقتل الأمين فحسب، بل أنه هو الذي أمر بقتله..).

(٢) فوات الوفيات ج ٢ ص ٢٦٩، والطبري، طبع دار القاموس الحديث ج ١٠ ص ٢٠٢، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٣، وحياة الحيوان ج ١ ص ٧٢، وتجارب الأمم المطبوع مع العيون والحدايق ج ٦ ص ٤١٦.

(٣) مروج الذهب ج ٣ ص ٤١٤، وتتمة المنتهى ص ١٨٦ والموفقيات ص ١٤٠.

(٤) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٩٨.

١٥٤

أرسل إلى إبراهيم بن المهدي يعنفه ويلومه على أنه أسف على قتل الأمين، ورثاه(١) !

فماذا ننتظر بعد هذا كله، وبعد ما قدمناه: أن يكون موقف العباسيين. والعرب، بل وسائر الناس منه..

إن أيسر ما نستطيع أن نقوله هنا: أنه كان لقتله أخاه، وفعاله الشائنة تلك.. أثر سيء على سمعته، ومن أسباب زعزعة ثقة الناس، به، وتأكيد نفورهم منه، سواء في ذلك العرب، أو غيرهم.

وقد استمر ذلك الأثر أعواما كثيرة، حتى بعد أن هدأت ثائرة الناس، ورجع إلى بغداد.

فقد جلس مرة يستاك على دجلة، من وراء ستر، فمر ملاح، وهو يقول: (أتظنون أن هذا المأمون ينبل في عيني، وقد قتل أخاه؟!).

قال: فسمعه المأمون، فما زاد على أن تبسم، وقال لجلسائه: (ما الحيلة عندكم. حتى أنبل في عين هذا الرجل الجليل)(٢) .

وقال له الفضل بن سهل، عندما عزم على الذهاب إلى بغداد: (ما هذا بصواب، قتلت بالأمس أخاك، وأزلت الخلافة عنه، وبنو أبيك معادون لك، وأهل بيتك والعرب.. إلى أن قال: والرأي،

____________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٤٤٣.

(٢) تاريخ بغداد ج ١٠ ص ١٨٩، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٧٧، وتاريخ الخلفاء ص ٣٢٠، وروض الأخيار في منتخب ربيع الأبرار ص ١٨٦، وفوات الوفيات ج ١ ص ٢٤٠.

١٥٥

أن تقيم بخراسان، حتى تسكن قلوب الناس على هذا، ويتناسوا ما كان من أمر أخيك..)(١) .

المأمون في الحكم:

وإذا ما أردنا أن نعطف نظرنا على ناحية أخرى في سياسة النظام المأموني، فإننا سوف نرى أنه لم يكن موفقاً في سياسته مع الناس، سواء في ذلك العرب أو الإيرانيون، بالأخص أهل خراسان، حيث لم يحاول أن يتجنب سياسة الظلم والعسف والاضطهاد، التي كان يمارسها أسلافه مع الرعية. بل لعله زاد عليهم، وسبقهم أشواطاً بعيدة في ذلك.

أما سياسته مع العرب:

فالمأمون، وإن استطاع أن يصل إلى الحكم إلا أنه فشل في مهمة الفوز بثقة العرب، خصوصاً إذا لاحظنا بالإضافة إلى ما قدمناه تحت عنوان (كيف يثق العرب بالمأمون). ما نالهم منه، ومن عماله، من صنوف العسف والظلم ـ عدا عما فعلته فيهم تلك الحروب الطاحنة، التي شنها ضد أخيه الأمين ـ فإن ذلك يفوق كل وصف، ويتجاوز كل تقدير،

____________

(١) البحار ج ٤٩ ص ١٦٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٨٥، وأعيان الشيعة ج ٤ قسم ٢ ص ١٣٨، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٠، هذا.. وتجدر الإشارة هنا: إلى أن بعض المحققين يرى: أن قتل الأخ في سبيل الملك، لم يكن من الأمور التي يهتم لها الناس كثيراً في تلك الفترة، سيما إذا كان المقتول هو المعتدي أولاً، والأمين هنا هو المعتدي على المأمون، بخلعه أولاً، ثم بإرساله جيشاً إلى إيران لمحاربته، والذي هزم على يد طاهر بن الحسين، ولكننا مع ذلك.. لا نزال نصر على رأينا في هذا المجال، سيما وأننا نرى في النصوص التاريخية ما يدعم هذا الرأي ويقويه.

١٥٦

حتى لقد وصف: (ديونيسيوس) جباة الخراج في العراق في سنة (٢٠٠ ه). بأنهم: (قوم من العراق، والبصرة. والعاقولاء، وهم عتاة، ليس في قلوبهم رحمة، ولا إيمان، شر من الأفاعي، يضربون الناس، ويحبسونهم. ويعلقون الرجل البدين من ذراع واحد، حتى يكاد يموت)(١) .

والإيرانيون أيضاً لم يكونوا أحسن حالاً:

ولم يكن حال الإيرانيين من هذه الجهة بأفضل من حال أهل العراق. ويذكر الجاحظ: أن المأمون ولى محمود بن عبد الكريم التصنيف (فتحامل على الناس، واستعمل فيهم الأحقاد والدمن، فخفض الأرزاق، وأسقط الخواص، وبعث في الكور، وأنحى على أهل الشرف والبيوتات، حسداً لهم، وإشفاء لغليل صاحبه منهم، فقصد لهم بالمكروه والتعنت فامتنعت طائفة من الناس من التقدم إلى العطاء، وتركوا أسماءهم، وطائفة انتدبوا مع طاهر بن الحسين بخراسان، فسقط بذلك السبب بشر كثير..)(٢) .

يقول الجنرال جلوب وهو يتحدث عن المأمون (.. وراح يلقي خطبته الأولى في الناس، فيعدهم بأن يكون حكمه فيهم طبقاً للشرع، وأن يكرس نفسه لخدمة الله وحده. وقد أثارت هذه الوعود التقية حماسة عند الناس. وكانت من أهم أسباب انتصاره. لكن هذه الوعود ما لبثت أن تحولت إلى فجيعة نزلت بالناس، إذ إن الخليفة ما لبث أن نسيها)(٣) .

ويكفي أن نشير هنا إلى المجاعة التي أصابت أهل خراسان، والري. وأصبهان، وعز الطعام، ووقع الموت، وذلك في سنة ٢٠١ للهجرة..

____________

(١) الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، لآدم متز ج ١ ص ٢٣٢.

(٢) رسائل الجاحظ ج ٢ ص ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

(٣) إمبراطورية العرب، ترجمة، وتعليق خيري حماد ص ٥٧٠.

١٥٧

المأمون مع الرعية عموماً:

وعن حالة المأمون العامة مع الناس يقول فان فلوتن:

(.. ولم يكن جور النظام العباسي وعسفه، منذ قيام الدولة العباسية بأقل من النظام الأموي المختل، وتذكرنا شراهة المنصور، والرشيد، والمأمون، وجشعهم، وجور أولاد علي بن عيسى، وعبثهم بأموال المسلمين بزمن الحجاج، وهشام، ويوسف بن عمر الثقفي. ولدينا البراهين الكثيرة على فجيعة الناس في هذا العرش الجديد، ومقدار انخداعهم به..)، ثم يضرب أمثلة من الخارجين على سياسات العباسيين تلك. ثم يقول: (.. كل ذلك يبين أن ما كان يشكو منه المسلمون من الجور والعسف لم يزل على ما كان عليه في عهد بني أمية الأول..)(١) .

قال ابن الجراح: إن إبراهيم بن المهدي كان: (يرمي المأمون بأمه(٢) ، وإخوته، وأخواته، ومن أيسر ذلك قوله:

صـد عـن تـوبة وعـن إخبات

ولـهـا بـالـمجون والـقـينات

مـا يـبالي إذا خـلا بأبي عيسى

وســرب مـن بـدن أخـوات

أن يغص المظلوم في حومة الجور

بــداء بـين الـحشا واللهاة(٣)

____________

(١) السيادة والعربية والشيعة والإسرائيليات ص ١٣٢.

(٢) ولكن أمه كانت قد ماتت أيام نفاسها به!!. ولعله يريد أن أمه كانت متهمة، فكان يعير بها..

(٣) الورقة، لابن الجراح ص ٢١، ولا بأس بمراجعة كتاب: أشعار أولاد الخلفاء.

١٥٨

وما يهمنا هنا هو البيت الأخير، أما ما قبله، فلا نملك إلا أن نقول: (أهل البيت أدرى بالذي فيه..).

وعلى كل حال. فإننا لا نستغرب على المأمون صفة الظلم والعسف والجور. بعد أن رأينا أنه عندما عرضت عليه سيرة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليعليه‌السلام يأبى أن يأخذ بها جميعاً، لأنه كان يجد في آخر كل منها: أنهم كانوا يأخذون الأموال من وجوهها، ويضعونها في حقوقها. لكنه قبل سيرة معاوية، الذي أراد الإعلان ببراءة الذمة ممن يذكره بخير، لأن في آخرها يقول: إنه كان يأخذ الأموال من وجوهها، ويضعها كيف شاء..، وقال المأمون حينئذٍ: (إن كان فهذا)(١) ! وفي رسالة عبد الله بن موسى للمأمون نفسه ما فيه الكفاية فلتراجع في أواخر هذا الكتاب.

وماذا بعد الوصول إلى الحكم:

وهكذا.. فإن المأمون كان يحسب أنه إذا قتل أخاه، وتخلص من من أشياعه ومساعديه، وبعد أن توتي الحملة الدعائية ضدهم ثمارها ـ كان يحسب ويقدر ـ أن الطريق يكون قد مهد له للاستقرار في الحكم، وأنه سوف يستطيع بعد هذا أن يطمئن، وينام قرير العين.

ولكن فأله قد خاب، وانقلبت مجريات الأمور في غير صالحه، فإن الإيرانيين قد: (انفضوا بعد الحرب الأهلية المفجعة بين الأمين والمأمون، عن

____________

(١) المحاسن والمساوي للبيهقي ص ٤٩٥.

١٥٩

تأييد العباسيين)(١) . انفضوا عنه ليمنحوا العلويين عطفهم ومحبتهم، وتأييدهم، لأنهم يعرفون أنهم هم الذين يقيمون العدل، ويعملون بشريعة الله ـ وما موقف نيسابور، وصلاتي العيد، إلا الدليل الواضح والقاطع على تلك العاطفة، وذلك الحب والتقدير. وأيضاً انفضوا عنه لأنه قد كشف لهم عن وجهه الحقيقي، وعرفهم بواقعه الأناني البشع، وخصوصاً بعد أن عانوا ما عانوا هم وغيرهم من صنوف الظلم والجور والاضطهاد، في ظل نظام الحكم الذي طالما عملوا من أجله، وضحوا في سبيله.

وحتى لو أنهم كانوا لا يزالون على تأييدهم له، فإنه لا يستطيع بعد هذا أن يعتمد على ذلك التأييد، وعلى ثقتهم به طويلاً، فإنه كان من السهل ـ بعد أن فعل بأخيه وأشياعه، وغيرهم. ما فعل ـ أن يكتشفوا أن ذلك منه ما كان إلا سياسة ودهاء. كما أنه أصبح من الصعب عليهم ـ بعد تجربتهم الأولى معه، ومع وعوده، التي ما أسرع ما نسيها ـ أن يقتنعوا منه بالأقوال التي لا تدعمها الأفعال، ولسوف لا يطمئنون إليه، ولن يتفادوا له ـ بعد هذا ـ بالسهولة التي كان يتوقعها.

الموقف الصعب:

كانت تلك لمحة خاطفة عن موقف العباسيين، والعرب تجاه المأمون. ذلك الموقف، الذي كان يزداد حساسية وتعقيدا، يوماً عن يوم. أضف إلى ذلك أيضاً الخطر الذي كان يكمن في موقف الخراسانيين، الذين رفعوا المأمون على العرش، وسلموا إليه أزمة الحكم والسلطان..

وإذا ما أضفنا إلى ذلك كله، موقف العلويين، الذين اغتنموا فرصة الصدام بينه وبين أخيه، لتجميع صفوفهم، ومضاعفة نشاطاتهم، فلسوف تكتمل أمامنا ملامح الصورة لحقيقة الوضع والظروف، التي كان يعاني منها المأمون، ونظام حكمه آنذاك.. سيما ونحن نراه في مواجهة تلك الثورات العارمة، وبالأخص ثورات العلويين أقوى خصوم الدولة العباسية، والتي كانت تظهر من جانب ومكان، وكل ناحية من نواحي مملكته.

____________

(١) إمبراطورية العرب ص ٦٤٩.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409