الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)14%

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 409

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 207540 / تحميل: 8960
الحجم الحجم الحجم
الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

هذا.. ولسوف نرى أن أحمد أمين المصري يأخذ برأي ابن القفطي هذا. لكنه ينظر فيه إلى خصوص أئمة أهل البيتعليه‌السلام ، كما سيأتي بيانه، وبيان مدى خلطه وفساده في الفصل التالي.

وفيه دلالة على أن الفضل كان مخدوعاً، وعلى أن المأمون لم يكن مخلصاً فيما أقدم عليه..

د ـ : إنه لا بد لنا من الإشارة هنا إلى أن أكثر ثورات العلويين، التي قامت ضد المأمون ـ قبل البيعة للرضاعليه‌السلام طبعاً ـ كانت من بني الحسن، وبالتحديد من أولئك الذين يتخذون نحلة الزيدية، فأراد المأمون أن يقف في وجههم، ويقضي عليهم، وعلى نحلتهم تلك نهائياً، وإلى الأبد، فأقدم على ما أقدم عليه من البيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد.

هذا.. وقد كانت نحلة الزيدية هذه ـ شائعة في تلك الفترة، وكانت تزداد قوة يوماً عن يوم، وكان للقائمين بها نفوذ واسع، وكلمة مسموعة، حتى إن المهدي قد استوزر يعقوب بن داوود، وهو زيدي، وآخاه، وفوضه جمع أمور الخلافة(١) .

وعلى حد تعبير الشبراوي: (.. فولاه الوزارة، وصارت الأوامر كلها بيديه، واستقل يعقوب حتى حسده جميع أقرانه..)(٢) .

____________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ / ١٤٧، وغيره من كتب التاريخ، فراجع فصل: مصدر الخطر على العباسيين.

(٢) الإتحاف بحب الأشراف ص ١١٢.

٢٠١

بل كان: (لا ينفذ للمهدي كتاب إلى عامل، فيجوز، حتى يكتب يعقوب إلى أمينه وثقته بإنفاذه.)(١) .

وقد بلغ من نفوذ يعقوب هذا.. أن قال فيه بشار بن برد أبياته المشهورة، التي قدمناها، والتي يقول فيها: (إن الخليفة يعقوب ابن داوود).

وقد سعي بيعقوب هذا إلى المهدي: وقيل له: (.. إن الشرق والغرب في يد يعقوب، وأصحابه، وإنما يكفيه أن يكتب إليهم ؛ فيثوروا، في يوم واحد، فيأخذوا الدنيا)(٢) .

وذلك لأنه قد: (أرسل يعقوب هذا إلى الزيدية، وأتى بهم من كل أوب، وولاهم من أمور الخلافة في المشرق والمغرب كل جليل، وعمل نفيس، والدنيا كلها في يديه..)(٣) .

وإذا ما عرفنا أن معاوني يعقوب إنما كانوا هم: متفقهة الكوفة، والبصرة، وأهل الشام(٤) .. فإننا نعرف أن الاتجاه الزيدي سوف يؤثر كثيراً، وكثيراً جداً على الثقافة العامة، والاتجاهات الفكرية في ذلك العصر ـ كما حدث ذلك فعلاً.. حتى لقد صرح ابن النديم بأن:

(أكثر علماء المحدثين إلا قليلاً منهم، وكذلك قوم من الفقهاء، مثل: سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة كانوا من الشيعة الزيدية.)(٥) وقد صرح المؤرخون أيضاً: بأن أصحاب الحديث جميعهم، قد

____________

(١) الطبري ج ١٠ / ٤٨٦، والكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٠، ومرآة الجنان ج ١ / ٤١٨.

(٢) الكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٦، ٦٧.

(٣) الطبري ج ١٠ / ٥٠٨، طبع ليدن، والوزراء والكتاب للجهشياري ص ١٥٨، والكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٦.

(٤) الطبري، طبع ليدن ج ١٠ / ٤٨٦.

(٥) الفهرست لابن النديم ص ٢٥٣.

٢٠٢

خرجوا مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، أو أفتوا بالخروج معه(١) .

وعلى كل حال.. فإن ما يهمنا بيانه هنا: هو أن المأمون كان يريد

____________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٣٧٧، وغيرها من الصفحات، وغيرها من الكتب. ويرى بعض أهل التحقيق: أن المقصود هو جميع أصحاب الحديث في الكوفة. ولكن الظاهر أن المراد: الجميع مطلقاً، كما يظهر من مراجعة مقاتل الطالبيين وغيره.

والأمر الذي تجدر الإشارة إليه هنا: هو أن فرقة من الزيدية، وفرقة من أصحاب الحديث، قد قالوا بالإمامة على النحو الذي يقول به الشيعة الإمامية، عندما جعل المأمون (الرضا)عليه‌السلام ولياً لعهده. لكنهم بعد وفاة الرضاعليه‌السلام رجعوا عن ذلك: قال النوبختي في فرق الشيعة ص ٨٦:

(.. وفرقة منهم تسمى (المحدثة) كانوا من أهل الإرجاء، وأصحاب الحديث، فدخلوا في القول بإمامة موسى بن جعفر، وبعده بإمامة علي بن موسى، وصاروا شيعة، رغبة في الدنيا وتصنعاً. فلما توفي علي بن موسىعليه‌السلام رجعوا إلى ما كانوا عليه.

وفرقة كانت من الزيدية الأقوياء، والبصراء، فدخلوا في إمامة علي بن موسىعليه‌السلام ، عندما أظهر المأمون فضله، وعقد بيعته، تصنعاً للدنيا، واستكانوا الناس بذلك دهراً. فلما توفي علي بن موسىعليه‌السلام رجعوا إلى قومهم من الزيدية.) وقد تقدم قول الشيبي: إنه قد التف حول الرضاعليه‌السلام (المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته..) وغير ذلك. والذي نريد أن نقوله هنا هو: أن (الإرجاء دين الملوك) على حد تعبير المأمون (على ما نقله عنه في ضحى الإسلام ج ٣ / ٣٢٦)، نقلاً عن طيفور في تاريخ بغداد.

وفي البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٧٦: أن المأمون قال للنضر بن شميل: ما الإرجاء؟. قال: (دين يوافق الملوك، يصيبون به من دنياهم، وينقصون به من دينهم) قال: صدقت الخ. وليراجع كتاب بغداد ص ٥١، وعمدة القول بالإرجاء (القديم) هو: المغالاة في الشيخين، والتوقف في الصهرين، فالإرجاء والتشيع، وخصوصاً القول بإمامة موسى بن جعفر، وولده علي الرضا على طرفي نقيض ومن هنا كانت المساجلة الشعرية بين المأمون المظهر لحب علي وولده، وابن شكلة المرجي، يقول المأمون معرضا بابن شكلة:

إذا المرجي سرك أن تراه

يموت لحينه من قبل موته

فـجدد عـنده ذكرى علي

وصل على النبي وآل بيته

أما ابن شكلة فيقول معرضاً بالمأمون:

إذا الشيعي جمجم في مقال

فسرك أن يبوح بذات نفسه

فصل على النبي وصاحبيه

وزيـريه وجاريه برمسه

٢٠٣

= راجع: مروج الذهب ج ٣ / ٤١٧، والكنى والألقاب ج ١ / ٣٣١، وبعد هذا. فإنه لمن غرائب الأمور حقاً، الانتقال دفعة واحدة من القول بالإرجاء إلى التشيع، بل إلى الرفض (وهو الغلو في التشيع حسب مصطلحهم، والذي يتمثل بالقول بإمامة الأئمة الاثني عشرعليهم‌السلام ) وأغرب من ذلك العودة إلى الإرجاء بعد موت علي الرضاعليه‌السلام .

وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى تأثير السياسة والمال في هؤلاء الذين أخذوا على عاتقهم ـ بادعائهم ـ مسؤولية الحفاظ على الدين والذود عن العقيدة، فإنهم كانوا في غاية الانحطاط الديني، يتلونون ـ طمعاً بالمال والشهرة ـ ألواناً، حتى إن ذلك يحملهم على القول بعقيدة، ثم القول بضدها، ثم الرجوع إلى المقالة الأولى، إذا رأوا أن الحاكم يرغب في ذلك، ويميل إليه، ولهذا أسموا بـ‍ (الحشوية) يعني: أتباع وحشو الملوك، وأذناب كل من غلب، ويقال لهم أيضاً (وهم في الحقيقة أهل الحديث): (الحشوية، والنابتة، والغثاء، والغثر) على ما في كتاب: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص ٨٠.

وراجع أيضاً فرق الشيعة، ورسالة الجاحظ في بني أمية، وغير ذلك.

بل لقد أطلق عليهم المأمون نفسه لفظ (الحشوية) في مناقشته المشهورة للفقهاء والعلماء المذكور في العقد الفريد والبحار، وعيون أخبار الرضا وغير ذلك. وقال عنهم الزمخشري في مقام استعراضه للمذاهب والنحل، ومعتنقيها:

وإن قلت من أهل الحديث وحزبه

يـقولون تيس ليس يدري ويفهم

ويقابل كلمة (الحشوية) كلمة (الرافضة) التي شاع إطلاقها على الشيعة الإمامية.

ومعناها في الأصل: جند تركوا قائدهم. فحيث إن الشيعة لم يكونوا قائلين بإمامة أولئك المتغلبين، سموهم ب‍ـ (الرافضة) ولذا جاء في تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٦١: أن معاوية كتب إلى عمرو بن العاص:

 (أما بعد. فإنه قد كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، فقد سقط إلينا مروان في رافضة أهل البصرة الخ..). ومثل ذلك ما في وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص ٣٤، فالمراد بكلمة رافضة هنا هو ذلك المعنى اللغوي الذي أشرنا إليه، فسمي الشيعة بالرافضة، لأنهم ـ كما قلنا ـ رفضوا الانقياد لأولئك الحكام المتغلبين.

٢٠٤

= يقول السيد الحميري على ما جاء في ديوانه وغيره ـ يهجو البعض:

أبـوك ابن سارق عنز النبي

وأمـك بـنت أبـي جحدر

ونحن على رغمك الرافضون

لأهـل الـضلالة والـمنكر

ولكن قد جاء في الطبري، مطبعة الاستقامة ج ٦ ص ٤٩٨، والبداية والنهاية ج ٩ ص ٣٣٠، ومقدمة ابن خلدون ص ١٩٨، ومقالات الإسلاميين ج ١ ص ١٣٠، وغاية الاختصار ص ١٣٤: أن سبب تسمية الشيعة بـ‍ (الرافضة) هو أنهم عندما تركوا نصرة زيد بن علي في سنة ١٢٢ ه‍. قال لهم زيد: رفضتموني، رفضكم الله، وهذا كذب راج على بعض الشيعة أيضاً حيث ذكروا وذكر الطبري في نفس الصفحة المشار إليها آنفاً: أن التسمية كانت من المغيرة بن سعيد، لما رفضته الشيعة.. وكانت قضيته سنة ١١٩ ه‍.

ولكن الحقيقة هي أن التسمية بالرافضة كانت قبل سنتي ١٢٢ ه‍ و ١١٩ ه‍. فقد جاء في المحاسن للبرقي ص ١١٩ طبع النجف، باب الرافضة: أن الشيعة كانوا يشكون إلى الباقر المتوفى سنة ١١٤ أن الولاة قد استحلوا دماءهم وأموالهم باسم: (الرافضة) الخ.

وجاء في ميزان الاعتدال طبع سنة ١٩٦٣ م. ج ٢ ص ٥٨٤ بعد ذكره لإسناد طويل أن الشعبي المتوفى سنة ١٠٤ ه‍. قال لأحدهم: (ائتني بشيعي صغير، أخرج لك منه رافضياً كبيراً).

وفي كتاب: روض الأخبار المنتخب من ربيع الأبرار ص ٤٠، أن الشعبي قال: (أحبب آل محمد ولا تكن رافضياً، وأثبت وعيد الله، ولا تكن مرجئياً.). بل لدينا ما يدل على أن تسمية الشيعة بـ‍ (الرافضة) كان قبل سنة المئة، فقد جاء في المحاسن والمساوي للبيهقي ص ٢١٢، طبع دار صادر وأمالي السيد المرتضى ج ١ ص ٦٨ هامش: أن لما أنشد الفرزدق أبياته المشهورة في الإمام زين العابدين، المتوفى سنة ٩٥ ه‍ قال عبد الملك بن مروان المتوفى سنة ٨٦ ه‍ للفرزدق: (أرافضي أنت يا فرزدق؟!). وعلى كل حال: فإن ذلك كله قد كان قبل قضيتي زيد والمغيرة ابن سعيد بزمان بعيد.

٢٠٥

أن يقضي على الزيدية، ويكسر شوكتهم بالبيعة للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، ولهذا نرى أنه قد طبق اللقب، الذي طالما دعا إليه الزيدية، واعترف به العباسيون، بل ودعوا إليه في بدء دعوتهم ودولتهم، ألا وهو لقب: (الرضا من آل محمد)، طبقه على علي ابن موسىعليه‌السلام ، فسماه: (الرضا من آل محمد)(١) . فأصبحت بذلك حجته قوية على الزيدية، بل لم يعد لهم حجة أصلاً. وأصبح يستطيع أن ينام قرير العين، إذ قد أصبح (الرضا من آل محمد) موجوداً، فالدعوة إلى غيره ستكون لا معنى لها البتة. ولسوف تكون مرفوضة من الناس جملة وتفصيلا. وكان ذلك بطبيعة الحال السبب الرئيسي في إضعاف الزيدية، وكسر شوكتهم، وشل حركتهم.

والذي ساهم إلى حد كبير في إضعافهم، وشل حركتهم، هو اختياره الإمامعليه‌السلام بالذات، حيث إنه الرجل الذي لا يمكن لأحد كائناً من كان أن ينكر فضله، وعلمه، وتقواه، وسائر صفاته ومزاياه، التي لم تكن لأحد في زمانه على الإطلاق، فليس لهم بعد طريق للاعتراض عليه: بأن الذي اختاره لولاية عهده، والخلافة من بعده، ليس أهلاً لما أهله له. ولو أنهم ادعوا ذلك لما صدقهم أحد، ولكانت الدائرة حينئذ في ذلك عليهم، والخسران لهم دون غيرهم.

____________

(١) راجع: الفخري في الآداب السلطانية، ص ٢١٧، وضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٤، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٧، والطبري، وابن الأثير، والقلقشندي وأبو الفرج. والمفيد وكل من تعرض من المؤرخين لولاية العهد. بل لقد صرح نفس المأمون بذلك في وثيقة ولاية العهد، وهذا يكفي في المقام.. ولقد قال دعبل:

أيا عجباً منهم يسمونك الرضا

ويـلقاك منهم كلحة وغضون

وهناك نصوص أخرى مفادها: أنه سمي الرضا، لرضا أعدائه، وأوليائه به، وعزى الشيبي في كتابه: الصلة بين التصوف والتشيع ص ١٣٨: عزا رضا أعدائه به إلى قوة شخصيتهعليه‌السلام .. أما نحن فنقول: إنه ليس من اليسير أبداً، أن تنال شخصية رضا كل أحد، حتى أعدائها. اللهم إلا إذا كان هناك سر إلهي، اختصت به تلك الشخصية، دون غيرها من سائر بني الإنسان..

٢٠٦

فذلكة لا بد منها:

هذا.. ولا يسعنا هنا إلا أن نشير إلى أن المأمون، لم يخترع أسلوباً جديداً للتصدي للزيدية، والحد من نفوذهم، وكسر شوكتهم، ببيعته للرضاعليه‌السلام ، إذ أنه كان قد استوحى هذه الفكرة من سلفة المهدي، الذي كان قد استوزر يعقوب بن داوود الزيدي، ليحد من نشاط الزيدية، ويكسر شوكتهم. وكان قد نجح في ذلك إلى حد ما: إذ لا يحدثنا التاريخ عن تحركات زيدية خطيرة ضد المهدي، بعد استيزاره ليعقوب، وتقريبه للزيدية، كتلك الأحداث التي حدثت ضد المنصور، وخصوصاً ثورة محمد وإبراهيم ابني عبد الله. كما يلاحظ أن تقريب العباسيين للزيدية في عصر المهدي، وتسليطهم على شؤون الدولة وإداراتها، لم يؤثر في الوضع العام أثراً يخشاه العباسيون، وذلك بلا شك مما يشجع المأمون على الإقدام على ما كان قد عقد العزم عليه، بجنان ثابت وإرادة راسخة.

يضاف إلى ذلك: أن سهولة إبعاد العباسيين لهم عن مراكز القوة، ومناصب الحكم على يد المهدي نفسه، الذي نكب يعقوب بن داوود، الوزير الزيدي، حيث لم تصاحبه ردة فعل، ولا نتج عنه أية حادثة تذكر ضد العباسيين، لا حقيرة، ولا خطيرة.. هو الذي شجع المأمون على أن يستوحي نفس الفكرة، ويلعب نفس اللعبة، ويتبع نفس طريقة المهدي. في مواجهتهم، وكسر شوكتهم، بالبيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده. وعلى كل حال، فإن هذا أسلوب قديم اتبعه العباسيون في دعوتهم الأولى أيضاً، حيث بايعوا للعلويين، وأظهروا أن الدعوة لهم وباسمهم..

ثم كانت النتيجة هي ما يعلمه كل أحد، حيث انقلبوا عليهم يوسعونهم قتلاً وعسفاً، وتشريداً عندما خافوهم. فلم يعودوا بحاجة إليهم.

ه‍ ـ : أضف إلى ذلك ما تقدم أن المأمون كان يعلم قبل أي شخص آخر بطبيعة العلاقات التي كانت قائمة بين الأئمةعليهم‌السلام ، وبين الزيدية، حيث إنها كانت على درجة من السوء والتدهور. وكان عدم التفاهم، والانسجام فيما بينهم واضحاً للعيان..

٢٠٧

حتى لقد شكى الأئمةعليهم‌السلام منهم، وصرحوا: بأن الناس قد نصبوا العداوة لشيعتهم، أما الزيدية فقد نصبوا العداوة لهم أنفسهم(١) ، وفي الكافي رواية مفادها: إنه عليه‌السلام قال إنهم قبل أن يصلوا إلى الحكم كانوا لا يطيعونهم فكيف تكون حالهم معهم لو أنهم وصلوا إلى الحكم وتبوءوا كرسي الرئاسة.

وقد رأينا: أن عبد الله بن الحسن، عندما جاء يعرض على الإمام الصادقعليه‌السلام كتاب أبي سلمة، الذي يدعوه فيه للقدوم إلى الكوفة، لتكون الدعوة له، وباسمه، فنهاه الإمامعليه‌السلام عن ذلك ـ رأيناه ـ ينازع الإمام الصادق الكلام، حتى قال له:

____________

(١) راجع: الوافي للفيض ج ١ ص ١٤٣، باب: الناصب ومجالسته.

هذا. ولا يمنع ذلك ما ورد عنهم عليهم‌السلام من أن خروج الزيدية وغيرهم على الحكام يدرؤا به عنهم، وعن شيعتهم: فقد جاء في السرائر قسم المستطرفات ص ٤٧٦ أنه: (ذكر بين يدي أبي عبد الله من خرج من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال عليه‌السلام : ((لا أزال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد ..)) إلخ وذلك لأن اصطدامهم مع الحكام كان يصرف أنظار الحكام إليهم، ويفسح المجال أمام أهل البيت وشيعتهم إلى حد ما. ولم يكن هناك مجال لاتهام الأئمة وشيعتهم بالتواطؤ معهم، مع ما كان يراه الحكام من عدم الانسجام الظاهر بين الأئمة وبين الزيدية، وغيرهم من الثائرين وسلبية كل فريق منهما تجاه الآخر..

وأخيراً.. فلا بد لنا هنا من الإشارة إلى أن ثورات العلويين، سواء على الحكم الأموي، أو الحكم العباسي، قد ساهمت في أن يبقى حق العلويين في الحكم متحفظاً بقوته وحيويته في ضمير الأمة، ووجدانها. ولم تؤثر عليه حملات القمع والتضليل، التي كان الحكم القائم آنذاك يمارسها ضدهم، وضد هذا الحق الثابت لأهل البيتعليهم‌السلام بالنص.

٢٠٨

(والله، ما يمنعك من ذلك إلا الحسد) إلخ وقد انصرف عبد الله آخر الأمر مغضباً(١) .

ورأينا أيضاً أنه في موقف آخر له مع الإمام الصادقعليه‌السلام يتهمه بنفس هذه التهمة، ويصمه بعين هذه الوصمة، وذلك عندما أرادوا البيعة لولده محمد، وأبدى الإمامعليه‌السلام رأيه في ذلك. ذلك الرأي الذي كشفت الأيام عن صحته وسداده(٢) .

بل لقد كان عيسى بن زيد يقول لمحمد بن عبد الله: (.. من خالفك من آل أبي طالب، فأمكني أضرب عنقه.)(٣) وقد تجرأ عيسى هذا أيضاً على الإمام الصادق بكلام لا نحب ذكره.

وأما موقف محمد بن عبد الله نفسه مع الإمام الصادقعليه‌السلام ، فأشهر من أن يذكر، حيث إنه سجن الإمامعليه‌السلام ، واستصفى أمواله، وأسمعه كلاماً قاسياً، لا يليق بمقام الإمام وسنه(٤) .

إلى آخر ما هنالك مما يدل على كرههم، وحقدهم على الأئمةعليهم‌السلام . أو بالأحرى حسدهم لهم..

____________

(١) راجع: مروج الذهب ج ٣ ص ٣٥٤، ٣٥٥، وغيره من المصادر.

(٢) الصواعق المحرقة ص ١٢١، وينابيع المودة للحنفي ص ٣٣٢، ٣٦١، ومقاتل الطالبيين ص ٢٥٥، ٢٥٦، ٢٧٠، وغير ذلك.. وفي هذا الأخير: أن عبد الله ابن الحسن لم يرض باستدعاء الإمام، ولا وافق عليه، عندما أرادوا البيعة لولده محمد، وبعد أن أقنعوه، وحضر الإمام، جرى بينهما ما جرى.

(٣) قاموس الرجال ج ٧ ص ٢٧٠.

(٤) قاموس الرجال ج ٧ ص ٢٧٠، و ج ٨ ص ٢٤٢، ٢٤٣ والبحار ج ٤٧ ص ٢٨٤، ٢٥٨.

٢٠٩

والمأمون.. كان يعلم بذلك كله، ويدركه كل الإدراك، ولهذا فإننا لا نستبعد أنه ـ وهو الداهية الدهياء ـ قد أراد أيضاً في جملة ما أراد: أن يوقع الفتنة بين آل علي أنفسهم. أي: بين الأئمة، والمتشيعين لهم، وبين الزيدية، ويقف هو في موقف المتفرج المتربص حتى إذا أضعف كل واحد من الفريقين الفريق الآخر، ولم يعد فيهما بقية.. انقض هو عليهما، وقضى عليهما بأهون سبيل.

بل إن بعض الباحثين يرى: أنه أراد من لعبته هذه: (.. ضرباً للثائرين العلويين من إخوة علي بن موسى بأخيهم.)(١) .

ولو أننا استبعدنا كل ذلك، فلا أقل ـ كما قلنا ـ من أن حجته أصبحت قوية على الزيدية، وعلى كل من يدعو إلى (الرضا من آل محمد)، ولم يعد يخشى أحداً منهم، بعد أن أصبح (الرضا من آل محمد) موجوداً.

الهدف التاسع:

كما أنه ببيعته للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، وقبول الإمامعليه‌السلام بذلك.. يكون قد حصل على اعتراف من العلويين، على أعلى مستوى بشرعية الخلافة العباسية، ولقد صرح المأمون بأن ذلك، كان من جملة أهدافه، حيث قال: (.. فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا..) وسنتكلم حول تصريحات المأمون هذه بنوع من التفصيل في فصل: مع بعض خطط المأمون، وغيره إن شاء الله تعالى.

نعود إلى القول: إن تصريح المأمون هذا يعطينا: أن قبول الإمام بأن يكون ولي عهد المأمون، إنما يعني بالنسبة للمأمون: أن الإمام يكون قد أقر بأن الخلافة ليست له دون غيره، ولا في العلويين دون غيرهم، وأنه كما يمكن أن يكون هو جديراً بها، وأهلا لها، وكذلك غيره يمكن أن يكون كذلك. وليتمكن المأمون بذلك من محاربة العلويين بنفس السلاح الذي بأيديهم، وليصير ـ من ثم ـ من الصعب استجابة الناس لهم، إذا دعوا لأية ثورة ضد حكم اعترفوا هم بشرعيته، وأيدوه، وتعاونوا معه من قبل، وعلى أعلى مستوى ومن أعظم شخصية فيهم.

____________

(١) هو الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتابه: الصلاة بين التصوف والتشيع ص ٢١٩.

٢١٠

بل لقد كان يريد أن يحصل من العلويين على اعتراف بأن الحكم حق للعباسيين فقط. أما هم، فليس لهم فيه أدنى نصيب، وما فعله المأمون من إسناد ولاية العهد لواحد منهم، ما كان إلا تفضلاً وكرماً، ومن أجل أن يجمع شمل البيتين العلوي والعباسي، وتصفو القلوب ويمحو ما كان من أمر الرشيد وغيره من أسلافه مع العلويين.

ولقد حاول المأمون أن ينتزع من الإمام اعترافا بأن الخلافة حق للعباسيين، شفاهاً أيضاً فكانت النتيجة عكس ما أراد المأمون، وذلك عندما عرض بالمن على الإمام بأن جعله ولي عهده، فأجابه الإمامعليه‌السلام : بأن هذا الأمر لم يزده في النعمة شيئاً، وأنه وهو في المدينة كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب.

كما أن المأمون قد قال لحميد بن مهران، وجمع من العباسيين: (.. وليعتقد فيه المفتونون به، بأنه ليس مما ادعى في قليل، ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا دونه.) ولسوف يأتي الكلام عن هذه التصريحات إن شاء الله كما قلنا.

وبعد.. فإنه لا يكون من المبالغة في شيء لو قلنا: إن حصول المأمون على اعتراف من العلويين، ومن الإمام الرضاعليه‌السلام خاصة، بشرعية خلافته، وخلافة، بني أبيه أخطر على العلويين من الأسلوب الذي انتهجه أسلافه من أمويين وعباسيين ضدهم،: من قتلهم، وتشريدهم، وسلب أموالهم، إلى غير ذلك مما هو معروف ومشهور.

الهدف العاشر:

يضاف إلى ذلك، أنه يكون قد حصل على اعتراف ضمني من الإمام بشرعية تصرفاته، طيلة فترة ولاية العهد، وليعطي الناس ـ من ثم ـ الصورة التي يريدها عن الحكم والحاكم، وليؤكد للملأ أجمع: أن الحاكم هذا هو سلوكه، وهذه هي تصرفاته: من كان، ومهما كان، وإذن فليس لهم بعد حق في أن يتطلعوا إلى حكومة أحد على أن بها شيئاً جديداً، ولا أن ينظروا إلى جهة على أنها يمكن أن يكون بها المنقذ لهم، والمخرج من الظلمات إلى النور، حتى ولو كانت تلك الجهة هي آل بيت نبيهم، فإنه من الطبيعي أن يتبع السياسيون أساليب، ويتكلموا بأشياء كثيرة، ينسبونها بمجرد وصولهم إلى الحكم، وتسلمهم لازمة السلطة، فإن تلك لا تعدو كونها تكتيكات، ووعودا انتخابية، يحتاجون إليها في ظروف معينة، ثم يستغنون عنها.. كما كانت الحال في وعود المأمون، التي أشرنا إليها فيما تقدم.

٢١١

وهكذا.. فيكون سكوت الإمام في فترة ولاية العهد، عن تصرفات الهيئة الحاكمة، دالا على رضاه بها، ويعتبر إمضاء لها.. وبعد هذا.

فلا يجب أن يكون من العسير على الناس أن يتصوروا طبيعة وماهية حكم الإمام، وكل من يقدر له أن يصل الحكم والسلطان، سواء من العلويين، أو من غيرهم.

وإذا كانت الصورة واحدة، والجوهر واحد، والاختلاف إنما هو فقط في الاسم والعنوان، فليس لهم بعد حق، أو على الأقل ما الداعي لهم، لأن يطلبوا حكماً أفضل، أو حكاماً أعدل، فإنه طلب لغير موجود، وسعي وراء مفقود.

الهدف الحادي عشر:

هذا.. وبعد أن يكون المأمون قد حصل على كل ما قدمناه، وحقن دماء العباسيين، واستوثقت له الممالك، ولم يعد هناك ما يعكر صفو حياته(١) ، وقوي مركزه، وارتفع بالخلافة من الحضيض المهين، الذي أوصلها إليه أسلافه إلى أوج العظمة، والتمكن والمجد. وأعطاها من القوة والمنعة، ووهبها من الحياة في ضمير الأمة ووجدانها ما هي بأمس الحاجة إليه.. ولتتمكن من ثم من الصمود في وجه أية عاصفة، وإخماد أية ثورة، ومقاومة كل الأنواء، وذلك هو حلمه الكبير، الذي طالما جهد في تحقيقه إنه بعد أن يكون قد حصل على كل ذلك وسواه مما قدمناه:

____________

(١) لقد صرح الذهبي في الجزء الأول من كتابه (العبر) بأنه في سنة ٢٠٠ ه‍. استوثقت الممالك للمأمون. وهذه هي نفس السنة التي أتي فيها بالإمامعليه‌السلام من المدينة إلى مرو.. ولكن اليافعي في مرآة الجنان ج ٢ ص ٨: قد جعل ذلك في سنة ٢٠٣: أي في السنة التي تخلص فيها المأمون من الإمام الرضاعليه‌السلام بواسطة السم الذي دسه إليه.. وفي اليعقوبي ج ٢ ص ٤٥٢ طبع صادر: أنه في السنة التي غادر فيها المأمون خراسان: (لم تبق ناحية من نواحي خراسان يخاف خلافها).

٢١٢

يكون قد أفسح لنظام حكمه المجال ـ تلقائيا ـ لتصفية حساباته مع خصومه، أياً كانوا. وبأي وسيلة كانت، وبهدوء، وراحة فكر واطمئنان إن اقتضى الأمر ذلك.

كما أنه يكون قد مهد الطريق لتنفيذ الجزء الثاني ـ ولعله الأهم ـ من خطته الجهنمية، بعيداً عن الشبهات، ودون أن يتعرض لتهمة أحد، أو شك من أحد..

ألا وهو: القضاء على العلويين بالقضاء على أعظم شخصية فيهم. وليكون بذلك قد قضى نهائياً، وإلى الأبد، على أكبر مصدر للخطر، يمكن أن يتهدده، ويتهدد خلافته ومركزه.

إنه يريد زعزعة ثقة الناس بهم، واستئصال تعاطفهم معهم، وليحوله ـ إن استطاع ـ إلى كره ومقت، بالطرق التي لا تمس العواطف والمشاعر، ولا تثير الكثير من الشكوك والشبهات.

يظهر ذلك في محاولاته إسقاط الإمام إجتماعياً، والوضع منه قليلاً قليلاً، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر، وليدبر فيه في نهاية الأمر بما يحسم عنه مواد بلائه.. كما صرح لحميد بن مهران، وجمع من العباسيين، وسنتكلم بنوع من التفصيل عن محاولات المأمون هذه، التي باءت كلها بالفشل الذريع، وعادت عليه بالخسران، لأن الإمامعليه‌السلام كان قد أحبطها عليه، بل لقد كان لها من النتائج العكسية بالنسبة إليه ما جعله يتعجل بتصفية الإمام جسديا، بعد أن أشرف هو منهعليه‌السلام على الهلاك.. بالطريقة التي حسب أنها سوف لا تثير الكثير من الشكوك والشبهات.

ملاحظة لا بد منها:

ومن الأمور الجديرة بالملاحظة هنا: أن المأمون كان يقدر أن مجرد جعل ولاية العهد للإمام، سوف يكون كافيا لتحطيمه إجتماعياً، وإسقاطه نهائياً من أعين الناس، حيث يظهر لهم بالعمل ـ لا بالقول: أن الإمام رجل دنيا فقط، وأن تظاهره بالزهد والتقوى ما هو إلا طلاء زائف، لا واقع له، ولا حقيقة وراءه. ولسوف تكون النتيجة هي تشويه سمعة الإمامعليه‌السلام ، وزعزعة ثقة الناس به، وذلك بسبب الفارق الكبير بالسن، بين الخليفة الفعلي، وبين ولي عهده، إذ إن ولي العهد لا يكبر الخليفة الفعلي بسنتين، أو ثلاثة، أو خمسة، لا.. بل أكثر من ذلك بكثير، إنه يكبره بـ‍(٢٢) سنة،

٢١٣

وإنه لمن الأمور غير الطبيعية أبداً: أن يقبل ولاية العهد، وهو يكبر الخليفة الفعلي بهذا المقدار الكبير من السنين، ولسوف يكون قبوله لها ـ مع هذا الفارق بينهما ـ موجبا لجعله عرضة لشكوك الناس، وظنونهم، ولسوف يتسبب بوضع علامات استفهام كبيرة حوله.. كما كان الحال، بالنسبة لسؤال محمد بن عرفة، وكلام الريان المتقدم.. ولسوف يفسر(١) ذلك من أولئك الذين لا يدركون حقيقة ما يجري، وما يحدث، ـ وما أكثرهم ـ بتفسيرات تنسجم مع رغائب المأمون، وأهدافه. لأنهم سوف يرون أن زهدهعليه‌السلام بالدنيا، ليس إلا ستاراً تختفي وراءه مطامعه فيها، وحبه المستميت لها، حتى إنه ليطمع أن يعيش إلى ما بعد الخليفة الفعلي، الذي هو أصغر من ولده، ويصل إلى الحكم.. وباختصار نقول:

إنه يريد أن: (.. يعتقد فيه المفتونون به بأنه: ليس ما ادعى في قليل ولا كثير.) حسبما صرح به هو نفسه.. وعلى حد قول الإمام نفسه، الذي كان يدرك خطة المأمون هذه: (.. أن يقول الناس: إن علي بن موسى، لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعا بالخلافة؟!.). كما سيأتي.

____________

(١) ولكنا، مع ذلك نجد: أن قسما من أصحاب الرضاعليه‌السلام ، ممن كانوا يراقبون الأحداث بوعي ودراية، كانوا يدركون نوايا المأمون وأهدافه هذه ففي البحار ج ٤٩ ص ٢٩٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٩: أنه قد سئل أبو الصلت: (كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا مع إكرامه ومحبته له، وما جعل له من ولاية العهد بعده؟! فقال: إن المأمون كان يكرمه ويحبه لمعرفته بفضله، وجعل له ولاية العهد من بعده، ليري الناس أنه راغب في الدنيا، فلما لم يظهر منه إلا ما ازداد به فضلاً عندهم، ومحلاً في نفوسهم، جلب عليه إلخ.).

٢١٤

وعن الريان قال: دخلت على الرضا، فقلت: يا ابن رسول الله، إن الناس يقولون: إنك قبلت ولاية العهد، مع إظهارك الزهد في الدنيا؟!، فقالعليه‌السلام :((قد علم الله كراهتي..)) (١) وقد أشرنا إلى سؤال محمد بن عرفة، وكلام الريان فيما تقدم.

وعلى أي شيء يبكي المأمون، ومن أجل أي شيء يشقى ويتعب، ويسهر الليالي، ويتحمل المشاق.. إلا على هذا.. إن هذا هو أجل أمنياته وأغلاها.

سؤال وجوابه:

قد يدور بخلد القارئ أن ما ذكرناه هنا: فيما يتعلق بالفارق الكبير بالسن، ينافي ما تقدم من أن المأمون كان يريد الحصول على قاعدة شعبية، والارتفاع بالخلافة من الحضيض الخ.

ولكن الحقيقة هي:

أنه لا منافاة هناك.. ويمكن للمأمون أن يقصد كل ذلك من البيعة، لأن مقدار التفاوت بالسن بين الإمامعليه‌السلام والمأمون، لم يكن مما يعرفه الكثيرون، ولا مما يلتفت إليه عوام الناس في بادئ الأمر، لأنهم يأخذون الأمور على ظواهرها، ولا يتنبهون إلى مثل ذلك، إلا بعد تنبيه وتذكير، فللوهلة الأولى تجوز عليهم الخدعة، ويقدرون خطوة المأمون هذه، وتنتعش الآمال في نفوسهم بالحياة الهنيئة السعيدة، تحت ظلم حكم بدا أنه يتخذ العدل ديدنا، والإنصاف طريقة..

____________

(١) علل الشرايع ص ٢٣٨، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٠، وأمالي الصدوق ص ٤٤، ٤٥.

٢١٥

ثم.. وبعد أن يجند المأمون أجهزة إعلامه، من أجل تسميم الأفكار، يجد أن نفوس الناس مهيأة ومستعدة لتقبل ما يلقى إليها. ويكون لديه ـ باعتقاده ـ من الحجج ما يكفي لإسقاط الإمام، وزعزعة ثقة الناس به. ولا يؤثر ذلك بعد ذلك على الحكم، فإن الحكم يكون قد استنفذ أغراضه من البيعة. وحصل على ما يريد الحصول عليه منها.. هذا ولا بد لنا هنا من ملاحظة أن المأمون وأجهزة إعلامه كانوا في مقابل وصم الإمام بالرغبة بالدنيا والتفاني في سبيلها.. يشيعون بين الناس عن المأمون عكس ذلك تمام، فيطلب المأمون من وزيره أن يشيع عنه الزهد، والورع والتقوى(١) .. وأنه لا يريد مما أقدم عليه الأخير الأمة ومصلحتها، حيث قد اختار لولاية عهده أفضل رجل قدر عليه، رغم أن ذلك الرجل هو من ذلك البيت الذي لا يجهل أحد موقفه من حكم العباسيين، وموقف العباسيين منه كما يتضح ذلك من وثيقة ولاية العهد، وغيرها.

رأي الناس فيمن يتصدى للحكم:

لعل من الواضح أن كثيراً من الناس كانوا يرون ـ في تلك الفترة من الزمن ـ لقصر نظرهم، وقلة معرفتهم: أن هناك منافاة بين الزهد والورع، والتقوى، وبين المنصب، وأنهما لا يتفقان، ولا يجتمعان.

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ ص ٢٦١.

٢١٦

وقد رأينا الكثيرين يمتنعون على تولي المناصب للحكام، لما يرونه من المنافاة المشار إليها.

ولعل سر فهمهم هذا: هو أنهم كانوا قد اعتادوا من الحكام التجاوز على الحقوق، والدماء، والأموال، وعلى أحكام الدين، والنواميس الإنسانية، بشكل عام. والزهد والورع لا يتلائم مع ذلك كله، ولا ينسجم معه.

ولكن الحقيقة هي: أن لا منافاة بينهما أبداً، فإن الحكم إذا كان وسيلة لإيصال الخير إلى الآخرين، ورفع الظلم عنهم، وإشاعة العدل، إقامة شريعة الله تعالى، فيجب السعي إليه، والعمل من أجله، وفي سبيله.. بل إذا لزم من ترك السعي إليه، تضييع الحقوق، وانهيار صرح العدل، والخروج على أحكام الدين، فإن ترك السعي هذا، يكون هو المنافي للزهد والورع والتقوى..

ولقد قاد النبيعليه‌السلام الأمة، وقبله قادها سليمان بن داوود، وغيره، وبعده الإمام علي بن أبي طالب، وولده الحسن، ثم الحسين، وهكذا..

وحال هؤلاء في الزهد والورع، لا يحتاج إلى مزيد بيان، وإقامة برهان، بل لم يكن على ظهرها أزهد، ولا أتقى، ولا أفضل، ولا أورع منهم، عدوهم يعرف منهم ذلك تماماً كما يعرفه منهم صديقهم. فعدا عن الأنبياء الذين كانوا القمة في الورع والزهد والتقوى، نرى الإمام عليعليه‌السلام قمة في ذلك أيضاً، وقد رقع مدرعته حتى استحيا من راقعها، وكان راقعها هو ولده (الإمام الحسنعليه‌السلام )(١) . وكان يصلي في بيت المال ركعتين شكراً لله، بعد فراغ المال منه. وكان يقول:((إليك عني يا دنيا غري غيري، أبي تعرضت؟!..)) الخ وهو الذي قال فيه عدوه معاوية: (لو كان له بيتان: بيت من تبر، وآخر من تبن، لأنفق تبره قبل تبنه.). إلى غير ذلك مما لا مجال لنا لتتبعه واستقصائه..

____________

(١) راجع: الدرة النجفية ص ٣٠٣، طبعة حجرية.

٢١٧

العلويون يدركون نوايا المأمون:

إن نوايا المأمون تجاه العلويين، ومحاولاته لإسقاطهم إجتماعياً، وابتزازهم سياسياً.. حتى إذا أخفق في ذلك راح يختلهم واحداً فواحداً، كلما واتاه الظرف، وسنحت له الفرصة.. لم يكن العلويون يجهلونها، بل كانوا يدركونها كل الإدراك، ولم تكن تخدعهم تلك الشعارات والأساليب المبهرجة. وحسبنا هنا أن نذكر في مقام التدليل على هذا: أن المأمون كتب لعبد الله بن موسى، بعد وفاة الرضا، يعده بأنه يجعله ولي عهده، ويقول له: (ما ظننت أن أحداً من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا).

فأجابه عبد الله يقول: (وصل إلي كتابك، وفهمته، تختلني فيه عن نفسي مثل القانص، وتحتال علي حيلة المغتال، القاصد لسفك دمي. وعجبت من بذلك العهد، ولايته لي بعدك، كأنك تظن: أنه لم يبلغني ما فعلته بالرضا؟! ففي أي شيء ظننت أني أرغب من ذلك؟ أفي الملك الذي غرتك حلاوته؟!.

إلى أن يقول: أم في العنب المسموم الذي قتلت به الرضا؟!).

ويقول له أيضاً ـ والظاهر أنه نص آخر للرسالة ـ: (هبني لا ثأر لي عندك، وعند آبائك المستحلين لدمائنا الآخذين حقنا، الذين جاهروا في أمرنا، فحذرناهم. وكنت ألطف حيلة منهم، بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحداً،

____________

(١) ترجمة الإمام عليعليه‌السلام من تاريخ ابن عساكر بتحقيق المحمودي ج ٣ ص ٥٨ ـ ٦٠.

٢١٨

فواحداً منا الخ..)(١) .

ولا بد من ملاحظة: منافاة وعده هذا لعبد الله بن موسى بأن يجعل له ولاية العهد.. للرسالة التي أرسلها إلى العباسيين في بغداد، فور وفاة الرضاعليه‌السلام ، ويعدهم فيها بأن يجعل ولاية العهد فيهم، وسنشير إلى رسالته لهم في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله وعلى كل حال.. فإننا نستطيع أن نفهم من هذه الرسالة التي لعبد الله بن موسى أموراً، نشير إلى بعضها:

أولاً: إن المأمون كان قد جعل ولاية العهد وسيلة لختل الشخصيات التي كان يخشاها، والغدر بها، إذ إن من المقبول والطبيعي ـ كما يرى البعض ـ أن يكون ولي العهد هو الذي يتآمر، ويدبر للتخلص من الخليفة الفعلي، ليختصر المسافة، ويصل إلى الحكم، الذي ينتظر الوصول إليه، والحصول عليه بفارغ الصبر. وليس من الطبيعي، ولا من المقبول أن يتآمر الخليفة على ولي عهده، إلا إذا كان يريد أن يجعل الخلافة لمن هو أعز عليه منه، وهذا ما نفاه المأمون عن نفسه في أكثر من مناسبة.

وهكذا.. فإن النتيجة تكون: أن الخليفة الفعلي يكون آخر من يتهم في ولي العهد، إذا ما راح ضحية التآمر والاغتيال، وعرف الناس ذلك. وهذا بلا شك من جملة ما كان يريده المأمون، ويسعى إليه.

ثانياً: إن المأمون رغم الصعوبات التي واجهها في فترة تولية الرضاعليه‌السلام العهد.. يبدو أنه كان يعتبر نفسه منتصراً وناجحاً في لعبته تلك، ولذلك نرى أنه قد حاول تكرار نفس اللعبة مع عبد الله بن موسى. ولكن يقظة هذا الأخير، الذي كانت ظروفه تختلف عن ظروف الإمامعليه‌السلام قد فوتت عليه الفرصة، وأعادته. بخفي حنين.

____________

(١) مقاتل الطالبيين للأصفهاني ص ٦٢٨، إلى ص ٦٣١، وسنورد الرسالة في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله.

٢١٩

كما أننا لا نستبعد أن المأمون قد أراد بالإضافة إلى ذلك التستر على غدره بالرضاعليه‌السلام ، بعد أن كان قد افتضح واشتهر، رغم محاولاته الجادة للتستر والكتمان.

ثالثاً: ما تقدمت الإشارة إليه من أن إكرامه للعلويين، والرضا بهم، والتستر لمحنهم، ما كان منه إلا ضمن خطة مرسومة، وإلا سياسة منه ودهاء، من أجل أن يأمن العلويون جانبه، ويطمئنوا إليه، كما يدل عليه قوله لعبد الله بن موسى: (ما ظننت أحداً من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا) وقد قدمنا أنه أشار إلى ذلك أيضاً في كتابه للعباسيين، فلا نعيد..

رابعاً: أنه لم يستطع أن يخفي عن العلويين ـ كما لم يستطع أن يخفي عن غيرهم ـ غدره بالإمام الرضاعليه‌السلام ، وسمه له بالعنب، وكذلك غدره بغيره من العلويين. وسر ذلك واضح، فإن جميع الدلائل والشواهد كانت متوفرة على ذلك، كما سيأتي بيان جانب من ذلك في فصول هذا الكتاب بنوع من التفصيل.

موقف الإمام في مواجهة مؤامرات المأمون:

لقد رأينا كيف أن المأمون أراد من لعبته تلك، التغلب على المشاكل التي كان يواجهها، والاستفادة في تقوية دعائم خلافته، وخلافة العباسيين بشكل عام.. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هو موقف الإمامعليه‌السلام نفسه من لعبة المأمون تلك، وخططه، وأهدافه؟، وهل أفسح المجال للمأمون ليحقق كل ما يريد تحقيقه، ويصل إلى ما

كان يريد الوصول إليه؟.. وهل كانت لديه خطط من نوع معين، وأهداف معينة كان يسعى من أجل الوصول إليها، والحصول عليها؟!.

الحقيقة هي: أن الإمامعليه‌السلام قد استطاع، بما اتبعه من خطة حكيمة، وسلوك مثالي: أن يضيع على المأمون كافة الفرص، ويجعله يبوء بالخيبة والخسران، ويمنى بالفشل الذريع، حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك، وبدا الارتباك واضحاً في كل تصرفاته، وأقواله، وأفعاله..

وسيأتي في الفصول الآتية في القسمين: الثالث، والرابع بيان بعض ما يتعلق بذلك إن شاء الله.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

أمرهم ، فأمات بسيفك من عاندك ، فشفي وهوى ، وأحيا بحجتك منسعد فهدى ، صلوات الله عليك غادية ورائحة ، وعاكفة وذاهبة ، فمايحيط المادح وصفك ، ولا يحبط الطاعن فضلك.

أنت أحسن الخلق عبادة ، وأخلصهم زهادة ، وأذبهم عن الدين ،أقمت حدود الله بجهدك ، وفللت عساكر المارقين بسيفك ، تخمد(1) لهبالحروب ببنانك(2) ، وتهتك ستور الشبه ببيانك ، وتكشف لبس الباطل عنصريح الحق ، لا تأخذك في الله لومة لائم.

وفي مدح الله تعالى لك غنى عن مدح المادحين وتقريظالواصفين ، قال الله تعالى :( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا اللهعليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ) (3) .

ولما رأيت قد قتلت الناكثين والقاسطين والمارقين ، وصدقكرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعده ، فأوفيت بعهده ، قلت : اما آن أنتخضب هذه من هذه ، أم متى يبعث أشقاها ، واثقا بأنك على بينة منربك وبصيرة من امرك ، قادما على الله ، مستبشرا ببيعك الذي بايعته به ،وذلك هو الفوز العظيم.

اللهم العن قتلة أنبيائك وأوصياء أنبيائك بجميع لعناتك ،

__________________

(1) خمدت النار : سكن لهبها.

(2) البنان : الإصبع.

(3) الأحزاب : 23.

٢٨١

واصلهم حر نارك ، والعن من غصب وليك حقه ، وأنكر عهده ، وجحدهبعد اليقين ، والاقرار بالولاية له يوم أكملت له الدين.

اللهم العن قتلة أمير المؤمنين ومن قتلته ، وأشياعهم وأنصارهم ،اللهم العن ظالمي الحسين وقاتليه والمتابعين عدوه وناصريه ،والراضين بقتله وخاذليه ، لعنا وبيلا.

اللهم العن أول ظالم ظلم ال محمد ومانعيهم حقوقهم ، اللهمخص أول ظالم وغاصب لآل محمد باللعن وكل مستن بما سن إلى يومالدين.

اللهم صل على محمد خاتم النبيين ، وسيد المرسلين(1) وآله الطاهرين، واجعلنا بهم متمسكين ، وبموالاتهم من الفائزين الآمنين ،الذين لاخوف عليهم ولا يحزنون ، انك حميد مجيد.

13 ـ الزيارة المختصة بيوم الغدير(2) :

روى جابر الجعفي قال أبو جعفرعليه‌السلام : مضى أبي علي بن الحسينعليهما‌السلام إلى مشهد أمير المؤمنينعليه‌السلام فوقف ثم بكى وقال :

السلام عليك يا امين الله في ارضه وحجته على عباده ، السلام

__________________

(1) في بعض الصادر : وعلى علي سيد الوصيين.

(2) لا دليل على اختصاص هذه الزيارة بيوم الغدير ، ويؤيده عدها في كتب المزار بعنوانالزيارات المطلقة.

٢٨٢

عليك يا أمير المؤمنين

اشهد انك جاهدت في الله حق جهاده ، وعملت بكتابه ، واتبعتسنن نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتى دعاك الله إلى جواره ، وقبضك إليهباختياره ، والزم أعداءك الحجة ، مع ما لك من الحجج البالغة على جميعخلقه.

اللهم فاجعل نفسي مطمئنة بقدرك ، راضية بقضائك ، مولعة(1) بذكرك ودعائك ، محبة لصفوة(2) أوليائك ، محبوبة في ارضك وسمائك ،صابرة على نزول بلائك ، [ شاكرة لفواضل نعمائك ، ذاكرة لسوابغآلائك ](3) ، مشتاقة إلى فرحة لقائك ، متزودة التقوى ليوم جزائك ، مستنةبسنن أوليائك ، مفارقة لأخلاق أعدائك ، مشغولة عن الدنيا بحمدكوثنائك.

ثم وضع خده على قبره ، وقال :

اللهم ان قلوب المخبتين إليك والهة(4) ، وسبل الراغبين إليكشارعة ، واعلام القاصدين إليك واضحة ، وأفئدة العارفين منك فازعة ،وأصوات الداعين إليك صاعدة ، وأبواب الإجابة لهم مفتحة.

__________________

(1) المولعة : المتعلقة.

(2) الصفوة : الخالصة.

(3) زيادة من سائر المصادر.

(4) المخبتين : الخاشعين ، والهة : متحيرة من شدة الوجد.

٢٨٣

ودعوة من ناجاك مستجابة ، وتوبة من أناب إليك مقبولة ، وعبرةمن بكى من خوفك مرحومة ، والإغاثة لمن استغاث بك موجودة ،والإعانة لمن استعان بك مبذولة ، وعداتك(1) لعبادك منجزة.

وزلل من استقالك(2) مقالة ، واعمال العاملين لديك محفوظة ،وأرزاقك إلى الخلائق(3) من لدنك نازلة ، وعوائد المزيد إليهم واصلة ،وذنوب المستغفرين مغفورة ، وحوائج خلقك عندك مقضية ، وجوائزالسائلين عندك موفرة ، وعوائد المزيد متواترة(4) ، وموائد المستطعمينمعدة ، ومناهل الظماء(5) مترعة(6) .

اللهم فاستجب دعائي ، واقبل ثنائي ،(7) واجمع بيني وبين أوليائيبحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين ، انك ولي نعمائي ،ومنتهى مناي ، وغاية رجائي في منقلبي ومثواي.

قال الباقرعليه‌السلام : ما قاله أحد من شيعتنا عند قبر أمير المؤمنينعليه‌السلام

__________________

(1) عداتك : وعودك.

(2) استقالك : طلب صفحك.

(3) ارزاق الخلائق ( خ ل ).

(4) متواترة : متتابعة.

(5) زيادة : لديك ( خ ل ).

(6) اترعه : ملاه.

(7) زيادة : وأعطني جزائي ( خ ل ).

٢٨٤

الا وقع في درج(1) من نور ، وطبع عليه بطابع محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى يسلم إلىالقائمعليه‌السلام ، فيلقى صاحبه بالبشرى والتحية والكرامة إن شاء الله(2) .

__________________

(1) الدرج ـ بالفتح ـ الذي يكتب فيه.

(2) رواه ابن قولويه في الكامل : 92 ، باسناده عن أحمد بن علي ، عن أبيه ، عن علي بنموسى ، عن أبيه ، عن جده ، عن السجادعليه‌السلام ، عنه البحار 100 : 264.

أورد بهذا اللفظ وبغيره : الشيخ في مصباحه : 682 برواية جابر الجعفي عن الباقر عليه‌السلام ، والسيد في مصباحه : 583 ، والشهيد في مزاره : 95 ، والكفعمي في مصباحه : 480 وفيالبلد الأمين : 495 جميعا عن الباقر ، عن أبيه عليهما‌السلام .

ذكره السيد عبد الكريم بن أحمد بن طاووس في فرحة الغري : 40 ، باسناده عن محمد بنمحمد الطوسي ، عن والده ، عن السيد فضل الله العلوي ، عن ذي الفقار بن معبد ، عن الشيخ ، عنالمفيد ، عن محمد بن أحمد القمي ، عن محمد بن علي بن الفضل الكوفي ، عن محمد بن روحالقزويني ، عن أبي القاسم النقاش بقزوين ، عن الحسين بن سيف بن عميرة ، عن أبيه سيف ، عنجابر الجعفي ، عن الباقر ، عن أبيه عليهما‌السلام .

ورواه أيضا مع اختلاف في فرحة الغري : 43 عن علي بن بلال المهلبي ، عن أحمد بن عليابن مهدي الرقي ، عن أبيه ، عن علي بن موسى عليهما‌السلام ، مثله ثم قال : وذكر ابن أبي قرة في مزارهعن محمد بن عبد الله ، عن إسحاق بن محمد بن مروان ، عن أبيه ، عن علي بن سيف بن عميرة ،عن أبيه ، عن جابر بن يزيد الجعفي ، عن الباقر عليه‌السلام .

ذكره السيد ابن طاووس في الاقبال 2 : 273 كما في فرحة الغري ، باسناده عن كتاب المسرةمن كتاب مزار ابن أبي قرة ، عن جماعة إليه ، رواه عن محمد بن عبد الله ، عن أبيه ، عن الحسن بنيوسف بن عميرة ، عن أبيه ، عن جابر بن يزيد الجعفي ، عن أبي جعفر محمد بن علي عليهما‌السلام ، عنأبيه علي بن الحسين عليهما‌السلام .

أقول : قال السيد في الاقبال بعد ذكر الدعاء : ( وقد زاره مولانا الصادق عليه‌السلام بنحو هذهالألفاظ من الزيارة تركنا ذكرها خوف الإطالة ) ، وقريب منه ما ذكره السيد عبد الكريم بن أحمدابن طاووس في فرحة الغري.

٢٨٥

فاما صلاة يوم الغدير والدعاء :

فإنه ينبغي ان يغتسل أولا يوم الغدير ، فإذا قرب من الزوال وبقيبينه وبين الزوال نصف ساعة صلى ركعتين ، يقرأ في كل واحدة منهماعشر مرات :( قل هو الله أحد ) بعد الحمد ، وعشر مرات :( انا أنزلناهفي ليلة القدر ) ، وعشر مرات آية الكرسي.

فإذا سلم عقب بما أراد من تسبيح الزهراءعليها‌السلام وغير ذلك منالدعاء ، ثم تقول :

ربنا اننا سمعنا مناديا ينادي للايمان ان امنوا بربكم فآمنا ، ربنافاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ، ربنا وأتنا ما وعدتناعلى رسلك ولا تخزنا يوم القيامة انك لا تخلف الميعاد.

اللهم إني أشهدك وكفى بك شهيدا ، واشهد ملائكتك وأنبياءكوحملة عرشك وسكان سماواتك وارضيك ، بأنك أنت الله لا إله إلا أنتالمعبود فلا يعبد سواك ، فتعاليت عما يقول الظالمون علوا كبيرا ،وأشهد أن محمدا عبدك ورسولكصلى‌الله‌عليه‌وآله ، واشهد انأمير المؤمنين عبدك ومولانا.

ربنا سمعنا واجبنا وصدقنا المنادي رسولكصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ نادى بنداء عنك ، بالذي امرته ان يبلغ ما أنزلت إليه ، من ولاية وليامرك ، وحذرته وأنذرته ان لم يبلغ ما امرته ان تسخط عليه ، ولما بلغ

٢٨٦

رسالاتك(1) عصمته من الناس ، فنادى مبلغا عنك : الا من كنت مولاهفعلي مولاه ومن كنت وليه فعلي وليه ، ومن كنت نبيه فعلي اميره.

ربنا قد أجبنا داعيك النذير محمدا عبدك ورسولك إلى الهاديالمهدي ، عبدك الذي أنعمت عليه ، وجعلته مثلا لبني إسرائيل ، عليأمير المؤمنين ومولاهم ووليهم ، ربنا واتبعنا مولانا وولينا وهاديناوداعينا ، وداعي الأنام وصراطك المستقيم وحجتك البيضاء ،وسبيلك الداعي إليك على بصيرة هو ومن اتبعه ، وسبحان الله عمايشركون.

واشهد انه الإمام الهادي الرشيد أمير المؤمنين ، الذي ذكرته فيكتابك فإنك قلت وقولك الحق :( وانه في أم الكتاب لدينا لعليحكيم ) (2) .

اللهم فانا نشهد بأنه عبدك والهادي من بعد نبيك ، النذير المنذر ،وصراطك المستقيم ، وأمير المؤمنين ، وقائد الغر المحجلين ،وحجتك البالغة ، ولسانك المعبر عنك في خلقك ، وانه القائم بالقسطفي بريتك ، وديان دينك ، وخازن علمك ، وأمينك المأمون ، المأخوذميثاقه وميثاق رسولكعليهما‌السلام من جميع خلقك وبريتك ، شاهدابالاخلاص لك والوحدانية.

__________________

(1) رسالتك ( خ ل ).

(2) الزخرف : 43.

٢٨٧

بأنك أنت الله لا إله إلا أنت ، وأن محمدا عبدك ورسولك ، وانعليا أمير المؤمنين جعلته وليك ، والاقرار بولايته تمام وحدانيتكوكمال دينك وتمام نعمتك على جميع خلقك من بريتك ، فقلتوقولك الحق :( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتيورضيت لكم الاسلام دينا ) (1) .

فلك الحمد بموالاته واتمام نعمتك علينا ، بالذي جددت منعهدك وميثاقك ، وذكرتنا ذلك ، وجعلتنا من أهل الاخلاص والتصديقبميثاقك ومن أهل الوفاء بذلك ، ولم تجعلنا من اتباع المغيرينوالمبدلين ، والمنحرفين(2) والمبتكين اذان الانعام ، والمغيرين خلقالله ، ومن الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله ، وصدهمعن السبيل والصراط المستقيم.

اللهم العن الجاحدين والناكثين ، والمغيرين والمكذبين بيومالدين من الأولين والآخرين ، اللهم فلك الحمد على انعامك علينابالهدى الذي هديتنا به إلى ولاة امرك من بعد نبيك ، الأئمة الهداةالراشدين ، واعلام الهدى ، ومنار القلوب والتقوى والعروة الوثقى ،وكمال دينك وتمام نعمتك ، ومن بهم وبموالاتهم رضيت لنا الاسلامديناً.

__________________

(1) المائدة : 3.

(2) المحرفين ( خ ل ).

٢٨٨

ربنا فلك الحمد ، امنا وصدقنا بمنك علينا بالرسول النذير المنذروالينا وليهم ، وعادينا عدوهم ، وبرئنا من الجاحدين والمكذبين بيومالدين ، اللهم فكما كان ذلك من شأنك يا صادق الوعد ، يا من لا يخلفالميعاد ، يا هو كل يوم في شأن إذ أتممت علينا نعمتك بموالاة أوليائك ،المسؤول عنهم عبادك ، فإنك قلت :( ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم ) (1) ،وقلت وقولك الحق :( وقفوهم انهم مسؤولون ) (2) .

ومننت علينا بشهادة الاخلاص وبولاية أوليائك الهداة بعد النذيرالمنذر السراج المنير ، وأكملت لنا بهم الدين ، وأتممت علينا النعمة ،وجددت لنا عهدك ، وذكرتنا ميثاقك المأخوذ منا في ابتداء خلقك إيانا ،وجعلتنا من أهل الإجابة ولم تنسنا ذكرك ، فإنك قلت :( وإذ اخذ ربكمن بنى ادم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم الست بربكمقالوا بلى ) (3) .

شهدنا بمنك ولطفك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت ربنا ، ومحمدعبدك ورسولك نبينا ، وعلي أمير المؤمنين عبدك الذي أنعمت به علينا ،وجعلته اية لنبيكعليه‌السلام ، وآيتك الكبرى ، والنبأ العظيم ، الذيهم فيه مختلفون ، وعنه مسؤولون.

__________________

(1) التكاثر : 6.

(2) الصافات : 24.

(3) الأعراف : 172.

٢٨٩

اللهم فكما كان من شأنك ان أنعمت علينا بالهداية إلى معرفتهمفليكن من شأنك ان تصلي على محمد وال محمد وان تبارك لنا فييومنا هذا الذي أكرمتنا به ، وذكرتنا فيه عهدك وميثاقك ، وأكملت ديننا ،وأتممت علينا نعمتك ، وجعلتنا بمنك من أهل الإجابة والبراءة منأعدائك وأعداء أوليائك ، المكذبين بيوم الدين.

فاسالك يا رب تمام ما أنعمت به ، وان تجعلنا من الموفين(1) ،ولا تلحقنا بالمكذبين ، واجعل لنا قدم صدق مع المتقين ، واجعل لنا منالمتقين إماما ، يوم تدعو كل أناس بإمامهم ، واحشرنا في زمرة أهل بيتنبيك الأئمة الصادقين ، واجعلنا من البرآء من الذين هم دعاة إلى النار ،ويوم القيامة هم من المقبوحين ، وأحينا على ذلك ما أحييتنا ، واجعللنا مع الرسول سبيلا ، واجعل لنا قدم صدق في الهجرة إليهم.

واجعل محيانا خير المحيا ، ومماتنا خير الممات ، ومنقلبنا خيرالمنقلب ، على موالاة أوليائك ومعاداة أعدائك ، حتى تتوفانا وأنت عناراض ، قد أوجبت لنا جنتك برحمتك ، والمثوى في جوارك في دارالمقامة من فضلك ، لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب ، ربنا اغفرلنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ، ربنا وأتنا ما وعدتنا علىرسلك ولا تخزنا يوم القيامة انك لا تخلف الميعاد.

اللهم واحشرنا مع الأئمة الهداة من ال رسولك ، نؤمن بسرهم

__________________

(1) المصدقين ( خ ل ).

٢٩٠

وعلانيتهم ، وشاهدهم وغائبهم ، اللهم إني أسألك بالحق الذي جعلتهعندهم ، وبالذي فضلتهم به على العالمين جميعا ان تبارك لنا في يومناهذا الذي أكرمتنا فيه بالموافاة بعهدك الذي عهدته إلينا ، والميثاق الذيواثقتنا به من موالاة أوليائك والبراءة من أعدائك ان تتم علينا نعمتك ،ولا تجعله مستودعا واجعله مستقرا ولا تسلبناه ابدا ، ولا تجعلهمستعارا ، وارزقنا مرافقة وليك الهادي المهدي إلى الهدى ، وتحتلوائه وفي زمرته ، شهداء صادقين على بصيرة من دينك ، انك على كلشئ قدير(1) .

14 ـ زيارة جامعة لسائر الأئمة صلوات الله عليهم ، والقول فيمبتدأ الامر في الزيارة إلى آخرها وردت عن الصادقينعليهم‌السلام .

إذا أردت زيارة قبور الأئمةعليهم‌السلام فليكن من قولك عند العقد علىالعزم والنية :

اللهم صل عزمي بالتحقيق ، ونيتي بالتوفيق ، ورجائي بالتصديق ،وتول أمري ولا تكلني إلى نفسي ، وأحل عقدة الحيرة والتخلف(2) عنحضور المشاهد المقدسة.

__________________

(1) رواه في الاقبال 2 : 282 ، عنه البحار 98 : 302 ، رواه مع اختلاف في التهذيب 3 : 143 ،مصباح المتهجد 2 : 691.

(2) عقدة الخيرة ( خ ل ) ، أتخلف ( خ ل ).

٢٩١

وصل ركعتين قبل خروجك وقل بعقبهما :

اللهم إني استودعك ديني ونفسي وجميع حزانتي ، اللهم أنتالصاحب في السفر ، والخليفة في الأهل والمال والولد ، اللهم إني أعوذبك من سوء الصحبة واخفاق الأوبة(1) ، اللهم سهل لنا حزن ما نتغول(2) عليه ، ويسر علينا مستغزر(3) ما نروح ونغدو له ، انك على كل شئقدير.

فإذا سلكت طريقك فليكن همك ما سلكت له ، ولتقلل من حالتغص منك ولتحسن الصحبة لمن صحبك ، وأكثر من الثناء على اللهتعالى ذكره والصلاة على رسوله.

فإذا أردت الغسل للزيارة فقل وأنت تغتسل :

بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله ، اللهماغسل عني درن الذنوب ووسخ العيوب ، وطهرني بماء التوبة ،وألبسني رداء العصمة ، وأيدني بلطف منك توفقني لصالح الأعمال ،انك ذو الفضل العظيم.

فإذا دنوت من باب المشهد فقل :

الحمد لله الذي وفقني لقصد وليه ، وزيارة حجته ، وأوردني

__________________

(1) اخفاق الأوبة : طلب حاجة فاخفق ، اي لم يدركها.

(2) المغاولة : المبادرة في السير.

(3) المستغزر : الذي يطلب أكثر مما يعطي.

٢٩٢

حرمه ولم يبخسني(1) حظي من زيارة قبره والنزول بعقوة(2) مغيبهوساحة تربته ، الحمد لله الذي لم يسمني بحرمان ما أملته ، ولا صرفعزمي عما رجوته ، ولا قطع رجائي مما توقعته ، بل البسني عافيتهوأفادني نعمته واتاني كرامته.

فإذا دخلت المشهد فقف على الضريح الطاهر وقل :

السلام عليكم أئمة المؤمنين وسادة المتقين وكبراء الصديقينوامراء الصالحين وقادة المحسنين واعلام المهتدين وأنوار العارفين ،وورثة الأنبياء وصفوة الأوصياء ، وشموس الأتقياء وبدور الخلفاء ،وعباد الرحمان وشركاء القران ، ومنهج الايمان ومعادن الحقائقوشفعاء الخلائق ، ورحمة الله وبركاته.

اشهد انكم أبواب الله ومفاتيح رحمته ، ومقاليد مغفرته ،وسحائب رضوانه ، ومصابيح جنانه ، وحملة قرآنه ، وخزنة علمه ،وحفظة سره ، ومهبط وحيه ، وأمانات النبوة ، وودائع الرسالة.

أنتم أمناء الله وأحباؤه ، وعباده وأسخياؤه ، وأنصار توحيده ، وأركان تمجيده ، ودعاته إلى دينه ، وحرسة خلائقه ، وحفظة شرائعه.

لا يسبقكم ثناء الملائكة في الاخلاص والخشوع ، ولا يضادكمذو ابتهال وخضوع ، انى ولكم القلوب التي تولى الله رياضتها بالخوف

__________________

(1) بخسه حقه ـ كمنعه ـ نقصه.

(2) العقوة : ما حول الدار والمحلة.

٢٩٣

والرجاء ، وجعلها أوعية الشكر والثناء ، وامنها من عوارض الغفلة ،وصفاها من شواغل الفترة ، بل يتقرب أهل السماء بحبكم وبالبراءة منأعدائكم ، وتواتر البكاء على مصابكم ، والاستغفار لشيعتكمومحبيكم.

فانا اشهد الله خالقي واشهد ملائكته وأنبيائه وأشهدكم يا مواليباني مؤمن بولايتكم ، معتقد لإمامتكم ، مقر بخلافتكم ، عارف بمنزلتكم ،مؤمن بعصمتكم ، خاضع لولايتكم ، متقرب إلى الله بحبكم وبالبراءةمن أعدائكم ، عالم بان الله قد طهركم من الفواحش ، ما ظهر منها ومابطن ، ومن كل ريبة ونجاسة ودنية ورجاسة ، ومنحكم راية الحق الذيمن تقدمها ذل ، ومن تأخر عنها زل ، وفرض طاعتكم على كل اسودوابيض.

واشهد انكم قد وفيتم بعهد الله وذمته ، وبكل ما اشترطه عليكمفي كتابه ، ودعوتم إلى سبيله ، وأنفدتم طاقتكم في مرضاته ، وحملتمالخلائق على منهاج النبوة ومسالك الرسالة ، وسرتم فيه بسيرة الأنبياء ،ومذاهب الأوصياء ، فلم يطع لكم أمر ولم تصغ إليكم اذن ، فصلواتالله على أرواحكم وأجسادكم.

ثم تنكب على القبر وتقول :

بابي أنت وأمي يا حجة الله لقد أرضعت بثدي الايمان ، وفطمتبنور الاسلام ، وغذيت ببرد اليقين ، وألبست حلل العصمة ، واصطفيت

٢٩٤

وورثت علم الكتاب ، ولقنت فصل الخطاب ، وأوضح بمكانك معارفالتنزيل ، وغوامض التأويل ، وسلمت إليك راية الحق ، وكلفت هدايةالخلق ، ونبذ إليك عهد الإمامة ، وألزمت حفظ الشريعة.

واشهد يا مولاي انك وفيت بشرائط الوصية ، وقضيت ما الزمكمن فرض الطاعة ، ونهضت بأعباء الإمامة ، واحتذيت مثال النبوة فيالصبر والاجتهاد ، والنصيحة للعباد وكظم الغيظ ، والعفو عن الناس ،وعزمت على العدل في البرية ، والنصفة في القضية ، ووكدت الحججعلى الأمة بالدلائل الصادقة والشواهد الناطقة ، ودعوت إلى اللهبالحكمة البالغة والموعظة.

فمنعت من تقويم الزيغ وسد الثلم(1) ، واصلاح الفاسد وكسرالمعاند ، واحياء السنن وإماتة البدع ، حتى فارقت الدنيا وأنت شهيد ،ولقيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنت حميد صلوات الله عليكصلاة تترادف وتزيد.

ثم صر إلى عند الرجلين وقل :

يا سادتي يا آل رسول الله ، إني بكم أتقرب إلى الله جل وعلا ،بالخلاف على الذين غدروا بكم ، ونكثوا بيعتكم ، وجحدوا ولايتكم ،وأنكروا منزلتكم ، وخلعوا ربقة طاعتكم ، وهجروا أسباب مودتكم ،وتقربوا إلى فراعنتهم بالبراءة منكم ، والاعراض عنكم ، ومنعوكم من

__________________

(1) الثلمة ـ بالضم ـ فرجة المكسور والمهدوم ، والثلم ـ محركة ـ ان ينثلم حرف الوادي.

٢٩٥

إقامة الحدود ، واستئصال الجحود ، وشعب الصدع ، ولم الشعث ، وسدالخلل ، وتثقيف الأود(1) ، وإمضاء الأحكام ، وتهذيب الاسلام ، وقمعالآثام ، وأرهجوا عليكم نقع(2) الحروب والفتن ، وأنحوا عليكم سيوفالأحقاد(3) ، هتكوا منكم الستور ، وابتاعوا بخمسكم الخمور ، وصرفواصدقات المساكين إلى المضحكين والساخرين.

وذلك بما طرقت لهم الفسقة الغواة ، والحسدة البغاة ، أهل النكثوالغدر ، والخلاف والمكر ، والقلوب المنتنة من قذر الشرك ، والأجسادالمشحنة(4) من درن الكفر ، أضبوا على النفاق ، وأكبوا على علائقالشقاق(5) .

فلما مضى المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ، اختطفوا الغرة(6) ،وانتهزوا الفرصة ، وانتهكوا الحرمة ، وغادروه على فراش الوفاة ،وأسرعوا لنقض البيعة ، ومخالفة المواثيق المؤكدة ، وخيانة الأمانةالمعروضة على الجبال الراسية ، وأبت أن تحملها وحملها الانسان

__________________

(1) الثقاف : ما يقوم به الرماح ، يريد انه سوى عوج المسلمين.

(2) أرهج : اثار الغبار ، النقع : الغبار.

(3) أنحى عليه ضربا إذا أقبل ، وأنحى له السلاح ضربه بها.

(4) شحنه وأشحنه : ملاه.

(5) اضب فلانا : لزمه فلم يفارقه وعليه أمسك ، أكب عليه : إذا اقبل ولزم.

(6) العترة ( خ ل ) ، الاختطاف : استلاب الشئ واخذه بسرعة ، اي اغتنموا غفلة الناس واخذوها لتحصيل مرامهم.

٢٩٦

الظلوم الجهول ، ذو الشقاق والغرة ، بالآثام المؤلمة ، والانفة عن الانقيادلحميد العاقبة.

فحشر سفلة الأعراب ، وبقايا الأحزاب ، إلى دار النبوة والرسالة ،ومهبط الوحي والملائكة ، ومستقر سلطان الولاية ، ومعدن الوصيةوالخلافة والإمامة ، حتى نقضوا عهد المصطفى ، في أخيه علم الهدى ،والمبين طريق النجاة من طرق الردى.

وجرحوا كبد خير الورى ، في ظلم ابنته ، واضطهاد حبيبته ،واهتضام عزيزته ، وبضعة لحمه ، وفلذة كبده ، وخذلوا بعلها ، وصغرواقدره ، واستحلوا محارمه ، وقطعوا رحمه ، وأنكروا اخوته ، وهجروامودته ، ونقضوا طاعته ، وجحدوا ولايته ، وأطمعوا العبيد في خلافته.

وقادوه إلى بيعتهم ، مصلتة سيوفها(1) ، مشرعة(2) أسنتها ، وهو ساخطالقلب ، هائج الغضب ، شديد الصبر ، كاظم الغيظ ، يدعونه إلى بيعتهمالتي عم شومها الاسلام ، وزرعت في قلوب أهلها الآثام ، وعقت(3) سلمانها ، وطردت مقدادها ، ونفت جندبها ، وفتقت بطن عمارها ،وحرفت القرآن ، وبدلت الأحكام ، وغيرت المقام ، وأباحت الخمسللطلقاء ، وسلطت أولاد اللعناء على الفروج ، وخلطت الحلال بالحرام.

__________________

(1) أصلت السيف : جرده من غمده.

(2) مقذعة ( خ ل ) ، قذعه ـ كمنعه ـ رماه بالفحش وسوء القول وبالعصا ضربه ، وما فيالمتن هو الظاهر.

(3) عقت من العقوق خلاف البر ، ولعله في الأصل : عنفت من التعنيف.

٢٩٧

واستخف بالايمان والاسلام ، وهدمت الكعبة ، وأغارت على دارالهجرة يوم الحرة ، وأبرزت بنات المهاجرين والأنصار للنكالوالسوءة(1) ، وألبستهن ثوب العار والفضيحة ، ورخصت لأهل الشبهةفي قتل أهل بيت الصفوة وإبادة نسله ، واستيطال شافته ، وسبي حرمه ،وقتل أنصاره ، وكسر منبره ، وقلب مفخره ، وإخفاء دينه ، وقطع ذكره.

يا موالي فلو عاينكم المصطفى ، وسهام الأمة معرقة(2) في أكبادكم ،ورماحهم مشرعة(3) في نحوركم ، وسيوفها مولغة في دمائكم ، يشفيأبناء العواهر غليل الفسق من ورعكم ، وغيظ الكفر من إيمانكم.

وأنتم بين صريع في المحراب ، قد فلق السيف هامته ، وشهيد فوقالجنازة قد شكت أكفانه(4) بالسهام ، وقتيل بالعراء قد رفع فوق القناة(5) رأسه ، ومكبل في السجن قد رضت بالحديد أعضاؤه(6) ، ومسموم قدقطعت بجرع السم أمعاؤه ، وشملكم عباديد(7) تفنيهم العبيد وأبناءالعبيد.

__________________

(1) السورة ( خ ل ) ، السورة : السطوة والاعتداء.

(2) مغرقة ( خ ل ) ، معرقة من أعرق الشجرة إذا اشتدت عروقه في الأرض.

(3) أشرعت الرمح نحوه سددت.

(4) شكها بالرمح : خرقها.

(5) العراء : الفضاء لا يستر فيه بشئ ، والقناة الرمح.

(6) الكبل : القيد ، كبله حبسه في سجن أو غيره ، والرض : الدق.

(7) العباديد : الفرق من الناس والخيل الذاهبون في كل وجه.

٢٩٨

فهل المحن يا ساداتي الا التي لزمتكم ، والمصائب الا التيعمتكم ، والفجايع إلا التي خصتكم ، والقوارع(1) إلا التي طرقتكم ،صلوات الله عليكم وعلى أرواحكم وأجسادكم ، ورحمة الله وبركاته.

ثم قبله وقل :

بأبي وأمي يا آل المصطفى ، إنا لا نملك إلا أن نطوف حولمشاهدكم ، ونعزي فيها أرواحكم ، على هذه المصائب العظيمة الحالةبفنائكم ، والرزايا الجليلة النازلة بساحتكم ، التي أثبتت في قلوبشيعتكم القروح ، وأورثت أكبادهم الجروح ، وزرعت في صدورهمالغصص.

فنحن نشهد الله أنا قد شاركنا أولياءكم وأنصاركم المتقدمين ، فيإراقة دماء الناكثين والقاسطين والمارقين ، وقتلة أبي عبد الله سيدشباب أهل الجنة يوم كربلاء ، بالنيات والقلوب ، والتأسف على فوتتلك المواقف ، التي حضروا لنصرتكم ، والله وليي يبلغكم منيالسلام(2) .

ثم اجعل القبر بينك وبين القبلة وقل :

اللهم يا ذا القدرة التي صدر عنها العالم مكونا مبروئا عليها ،مفطورا تحت ظل العظمة ، فنطقت شواهد صنعك فيه بأنك أنت الله

__________________

(1) القوارع : الدواهي.

(2) عليكم منا السلام ، ورحمة الله وبركاته. ( خ ل )

٢٩٩

لا إله إلا أنت ، مكونه وبارؤه وفاطره

ابتدعته لا من شئ ، ولا على شئ ، ولا في شئ ، ولا لوحشةدخلت عليك إذ لا غيرك ، ولا حاجة بدت لك في تكوينه ، ولا لاستعانةمنك على ما تخلق بعده ، بل أنشأته ليكون دليلا عليك ، بأنك بائن منالصنع ، فلا يطيق المنصف بعقله إنكارك ، والموسوم بصحة المعرفةجحودك.

أسألك بشرف الاخلاص في توحيدك ، وحرمة التعلق بكتابك ،وأهل بيت نبيك ، أن تصلي على آدم بديع فطرتك ، وبكر حجتك ،ولسان قدرتك ، والخليفة في بسيطتك ، وعلى محمد الخالص منصفوتك ، والفاحص عن معرفتك ، والغائص المأمون على مكنونسريرتك ، بما أوليته من نعمتك بمعونتك ، وعلى من بينهما من النبيينوالمكرمين من الأوصياء والصديقين ، وأن تهبني لإمامي هذا.

وضع خدك على سطح القبر وقل :

اللهم بمحل هذا السيد من طاعتك ، وبمنزلته عندك ، لا تمتنيفجأة ، ولا تحرمني توبة ، وارزقني الورع عن محارمك دينا ودنيا ،واشغلني بالآخرة عن طلب الأولي ، ووفقني لما تحب وترضى ،وجنبني اتباع الهوى ، والاغترار بالأباطيل والمنى.

اللهم اجعل السداد في قولي ، والصواب في فعلي ، والصدقوالوفاء في ضماني ووعدي ، والحفظ والايناس مقرونين بعهدي

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409