الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)14%

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 409

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 207373 / تحميل: 8939
الحجم الحجم الحجم
الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

المأمون في قفص الاتهام:

وهكذا.. وبعد أن اتضحت الأسباب الحقيقية للبيعة، وبعد أن عرفنا بعض الظروف والملابسات، التي أحاطت بهذا الحدث الهام، فإننا نستطيع أن نضع المأمون، ونواياه، وأهدافه، في قفص الاتهام، ولا يمكن أن نصدق ـ بعد هذا ـ أبداً، أي ادعاء سطحي، يحاول أن يصور لنا حسن نية المأمون من البيعة، وسلامة طويته، سيما ونحن نرى كتابه للعباسيين في بغداد فور وفاة الرضا، وكذلك سلوكه المشبوه مع الرضاعليه‌السلام من أول يوم طلب منه فيه الدخول في هذا الأمر، وحتى إلى ما بعد وفاته، كما سيأتي بيانه في الفصول الآتية. وكذلك كتابه لعبد الله بن موسى المتقدم.

والأدهى من ذلك كله رسالته للسري، عامله على مصر، التي (يخبره فيها بوفاة الرضا، ويأمره بأن تغسل المنابر، التي دعي عليها لعلي بن موسى، فغسلت.)(١) .

____________

(١) الولاة والقضاة للكندي ص ١٧٠.

٢٢١

وكذلك لا يمكن أن نصدق بحسن نيته بالنسبة لأي واحد من العلويين، الآخرين.. كما أشرنا إليه في رسالته لعبد الله بن موسى، التي يذكر فيها: أنه راح يختلهم واحداً فواحداً.. وأيضاً عندما نرى أنه يمنعهم من الدخول عليه، بعد وفاة الرضا، ويأخذهم بلبس السواد(١) .. بل ويأمر ولاته وأمراءه بملاحقتهم، والقضاء عليهم، كما سيأتي.

مع المأمون في وثيقة العهد:

ويحسن بنا هنا: أن نقف قليلاً مع وثيقة العهد، التي كتبها المأمون للإمامعليه‌السلام بخط يده، فلقد ضمنها المأمون إشارات هامة، رأى أنها تخدم أهدافه السياسية من البيعة وحيث إننا قد تحدثنا، ولسوف نتحدث في مطاوي هذا الكتاب عن بعض فقراتها.. فلسوف نقتصر هنا على:

أولاً: إننا نلاحظ: أنه يؤكد كثيراً على نقطتين:

الأولى: أنه منطلق في هذه البيعة من طاعة الله، وإيثاره لمرضاته.

الثانية: أنه لا يريد بذلك إلا مصلحة الأمة، والخير لها.

وسر ذلك واضح: فهو يريد أن يذهب باستغراب واستهجان الناس، الذين يرون الرجل الذي قتل حتى أخاه من أجل الحكم ـ يرونه الآن ـ يتخلى عن هذا الحكم لرجل غريب، ولمن يعتبر زعيماً لأخطر المنافسين للعباسيين.. كما أنه يريد بذلك أن يكتسب ثقة الناس به، وبنظام حكمه.

وعدا من ذلك فهو يريد أن يطمئن العلويين والناس إلى أن ذلك لا ينطوي على لعبة من أي نوع، بل هو أمر طبيعي فرضته طاعة الله ومرضاته، ومصلحة الأمة، والصالح العام.

____________

(١) الكامل لابن الأثير، طبع دار الكتاب العربي ج ٥ ص ٢٠٤.

٢٢٢

وثانياً: نراه يجعل العباسيين والعلويين في مرتبة واحدة، وذلك لكي يضمن لأهل بيته حقاً في الخلافة كآل علي.

وثالثا ً: يلاحظ: أنه يعطي خلافته صفة الشرعية، حيث يربطها بالمصدر الأعلى (الله) وعلى حسب منطق الناس هذا تام وصحيح، لأنهم بمجرد أن يعمل أحد عملا يؤدي إلى المناداة بواحد على أنه خليفة، ويصير مقبولا لدى الناس.. إنهم بمجرد ذلك يصيرون يعتبرونه خليفة الله في أرضه، وحجته على عباده..

وهو أيضاً تام وصحيح حسب منطق العباسيين، الذين يدعون الخلافة بالإرث عن طريق العباس بن عبد المطلب، حسبما تقدم بيانه..

ولهذا نلاحظ أنه يقدم عبد الله بن العباس على علي بن أبي طالب! مع أن عبد الله تلميذ علي. وليس ذلك إلا من أجل إثبات هذه النقطة، وجعل حق له بالخلافة، بل وجعل نفسه الأحق بها. هذه الخلافة التي هي منصب إلهي، وصل إليه بالطريق الشرعي، سواء على حسب منطق الناس في تلك الفترة، أو على حسب منطق العباسيين.

وفي هذا إرضاء للعباسيين، وتطمين لهم، كما أنه في نفس الوقت تطمين لسائر الناس، الذين كانوا غالباً ـ يرون الخلافة بالكيفية التي أشرنا إليها وقد أكد لهم هذا التطمين باستشهاده بقول عمر، حيث أثبت لهم: أنه لا يزال على مذهبه، وعلى نفس الخط الذي هم عليه.

ورابعاً: إننا نراه في نفس الوقت الذي يؤكد فيه مذهبه، ووجهة نظره بتلك الأساليب المتعددة والمختلفة المشار إليها آنفاً ـ نراه في نفس الوقت ـ يدعي: أنه إنما يجعل الخلافة للرضاعليه‌السلام لا من جهة أنها حق له، ولا من جهة النص عليه، حسبما يدعيه الرضا، بل من جهة أنه أفضل من قدر عليه. وهذا أمر طبيعي جداً، وليس إقراراً بمقالة الرضا.. وكما ينطبق الآن على الرضا، يمكن أن ينطبق غداً على غيره، عندما يوجد من له فضل، وأهلية.. وهذا دون شك ضربة لما يدعيه الرضا ويدعيه آباؤه من الحق في الخلافة، ومن النص، وغير ذلك..

هذا.. ولسوف يأتي في فصل: خطة الإمام، شرح ما كتبه الإمامعليه‌السلام على ظهر الوثيقة، ولنرى من ثم كيف نسف الإمام كل ما بناه المأمون، وصيره هباء اشتدت به الريح في يوم عاصف.

٢٢٣

كلمة أخيرة:

وأخيراً: فإننا مهما شككنا في شيء، فلسنا نشك في أن المأمون كان قد درس الوضع دراسة دقيقة، وقبل أن يقدم على ما أقدم عليه. وأخذ في اعتباره كافة الاحتمالات، ومختلف النتائج، سواء مما قدمناه، أو من غيره، مما أخفته عنا الأيدي الأثيمة، والأهواء الرخيصة.. وإن كانت لعبته تلك لم تؤت كل ثمارها، التي كان يرجوها منها، وذلك بسبب الخطة الحكيمة التي كان الإمامعليه‌السلام قد اتبعها.

ولعمري: (.. إن بيعته للإمام لم تكن بيعة محاباة، إذ لو كانت كذلك لكان العباس ابنه، وسائر ولده، أحب إلى قلبه، وأجلى في عينه.) على حد تعبير المأمون في رسالته للعباسيين، التي سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

أسباب البيعة لدى الآخرين

أحمد أمين المصري، وأسباب البيعة:

وعلى ضوء ما تقدم، نستطيع أن نلقي نظرة على ما ذكره بعض المؤرخين، والباحثين، مما جعلوه أسباباً لأخذ البيعة للإمامعليه‌السلام بولاية العهد، ولنرى ـ من ثم ـ أنها لا تقوى على الصمود أمام النقد التاريخي الواعي والدقيق، إذ أنها على الغالب: إما أنها لا تعتمد على سند تاريخي أصلاً، أو أنها تعتمد على ما لا يصلح للاعتماد عليه. ولعل الدكتور أحمد أمين المصري، قد جمع كلا الناحيتين فيما جعله ـ بنظره ـ أسباباً للبيعة، حيث نلاحظ: أن بعض ما ذكره ليس له أي سند تاريخي، بل التاريخ على اختلاف أهوائه، واتجاهاته يدحضه، ويكذبه. والبعض الآخر قد اعتمد فيه على ما لا يصح الاعتماد عليه، ولذا فلا يكون من التجني عليه القول: إن ما ذكره كان سطحيا، أو بوحي من تعصب مذهبي رخيص..

وما ذكره يرجع إلى أسباب أربعة، رأى أنها صالحة، كلاً أو بعضاً، لأن تكون سبباً لأخذ البيعة للرضا بولاية العهد.. ونلخصها بما يلي:

١ ـ إن المأمون قد أراد بذلك: أن يصلح بين البيتين، العلوي، والعباسي، ويجمع شملهما، ليتعاونا على ما فيه خير الأمة، وصلاحها. وتنقطع الفتن، وتصفو القلوب.

٢٢٤

٢ ـ إنه كان معتزلياً، على مذهب معتزلة بغداد، يرى أحقية عليعليه‌السلام وذريته بالخلافة، فأراد أن يحقق مذهبه.

٣ ـ إنه كان تحت تأثير الفضل والحسن بني سهل الفارسيين. والفرس يجري في عروقهم التشيع، فما زالا يلقنانه آراءهما، حتى أقرها، ونفذها.

٤ ـ (إنه رأى أن عدم تولي العلويين للخلافة، يكسب أئمتهم شيئاً من التقديس، فإذا ولوا الحكم ظهروا للناس، وبان خطؤهم، وصوابهم، فزال عنهم هذا التقديس.)(١) .

هذا.. وقد ادعى في كتابه: (المهدي والمهدوية): أن هؤلاء الأئمة كانوا يرتكبون الآثام في الخفاء، فأراد المأمون: أن يظهرهم، ليعرفهم الناس على حقيقتهم..

كان ذلك ما يراه أحمد أمين يصلح ـ كلاً أو بعضاً ـ سبباً للبيعة..

آراء أحمد أمين في الميزان:

ونحن بدورنا، وإن كنا نعتقد أن فيما قدمناه، وما سيأتي كفاية في تفنيد هذه المزاعم وإسقاطها، إلا أننا نرى لزاماً علينا أن نشير بإيجاز إلى بعض ما يشير إلى ضعفها ووهنها، معتمدين في بقية ما يرد عليها على ذكاء القارئ، وتنبهه، ووعيه. فنقول:

أما ما ذكر أولاً: فقد كفانا هو نفسه مؤونة الكلام فيه، حيث قد اعترف بأن المأمون لو كان يرمي إليه لكان في منتهى السطحية والسذاجة.

____________

(١) ضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٥.

٢٢٥

وأما ما جعله سبباً ثانياً: فلعله لا يقل عن سابقه في الضعف والوهن، سيما بملاحظة ما قدمناه في الفصلين السابقين، من الظروف التي كان المأمون يعاني منها، وأيضاً ملاحظة ما سيأتي من سلوك المأمون المشبوه، مع الإمامعليه‌السلام ، ومعاملته السيئة للعلويين، وكل من يتشيع معهم، ويتعاطف معهم. وعلى الأخص إذا لاحظنا: أن المأمون لم تكن عقيدته هي المنطلق له في مواقفه السياسية، بل كان ينطلق مما يراه يخدم مصالحه الخاصة، ويؤكد وجوده في الحكم. وقد قدمنا أنه كان تارة يتحرج من تنقص الحجاج بن يوسف، وتارة يصف الصحابة، ما عدا الإمام عليعليه‌السلام بـ‍ (الملحدين)، ويصف الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بـ‍ (جعل) إلى آخر ما هنالك من الشواهد والأدلة، مما لا نرى ضرورة لإعادته، ولعل الأهم من ذلك كله: أن تفضيل المعتزلة ـ معتزلة بغداد ـ علياًعليه‌السلام على جميع الصحابة، لم يكن واضحاً بعد في تلك الفترة، وإنما بدأه بشر بن المعتمر حسبما سيأتي بيانه في فصل خطة الإمام. وعليه فهذا الوجه لا يستقيم، على جميع الوجوه والتقادير.

وأما ما جعله سبباً ثالثاً: فسيأتي الكلام عليه بنوع من التفصيل.. ولكننا نستغرب منه جداً، بل ونأسف كل الأسف، لما طلع به علينا.

بما جعله سبباً رابعاً: من أن عدم تولي الأئمة للحكم يكسبهم شيئاً من التقديس، فأراد أن يولي الإمام الرضا العهد، ليزول عنهم ذلك التقديس ـ وقد أشرنا سابقا إلى أنه استوحى هذه الفكرة من ابن القفطي في تاريخ الحكماء.

وليس واضحاً تماماً من هم (الأئمة) الذين يقصدهم أحمد أمين في عبارته تلك. وإذا ما كان يقصد الأئمة الاثني عشر، حيث إنه في معرض الحديث عن أحدهم، وهو الإمام الرضا.. بل أعلن ذلك صراحة في عبارته الأخرى، التي أوردها في كتابه: (المهدي والمهدوية) ـ إذا كان كذلك ـ، فإننا نرى: أن لنا كل الحق في أن نتساءل:

هل عثر أحمد أمين لهؤلاء الأئمة، أو لواحد منهم على ما يتنافى مع التقديس، على مدى تاريخهم الطويل؟!

وهل يستطيع أن يثبت عليهم أدنى شيء يمس كرامتهم، ويتنافى مع مروءتهم، ويخالف دينهم ورسالتهم؟!.

٢٢٦

ولماذا تظهر تفاهات غيرهم، وأخطاؤهم، رغم اجتهادهم وتفانيهم في سترها، وإخفائها.. ولا تظهر أخطاء هؤلاء الأئمة، رغم اجتهاد الناس في الافتراء عليهم، والتعرف على أية نقيصة أو خطأ منهم إن كان؟!.

ومتى كان هؤلاء الأئمة مستورين عن الناس، منفصلين عنهم، حتى استطاعوا أن يحصلوا على هذا التقديس؟!.

وهل كل شخصية لا تصل إلى الحكم يقدسها الناس؟!.

وهل كل شخصية تصل إلى الحكم لا يقدسها الناس؟!.

وهل التقديس مقصور على الشخصية المستورة، ولاحظ للشخصية الظاهرة منه؟!.

وهل أثر وصول الإمام عليعليه‌السلام للحكم طيلة أكثر من أربعة أعوام على تقديس الناس له؟!.

وهل يستطيع أحمد أمين أن يذكر لنا خطأ واحداً، ارتكبه الإمام عليعليه‌السلام ، طيلة فترة حكمه؟! رغم أن معاوية وسواه، ممن كانوا معادين للإمامعليه‌السلام ، ما كانوا يألون جهداً في إلصاق التهم به، والافتراء عليه؟!.

وأما عن الإمام الرضاعليه‌السلام :

فمتى كان مستوراً عن الناس، بعيداً عنهم؟!.

وهل تتفق دعواه باستتار الأئمة ـ والرضا منهم ـ عن الناس، مع ما اعترف به المأمون نفسه للإمام الرضاعليه‌السلام ، فيما كتبه بخط يده في وثيقة العهد، حيث يقول: (.. وقد استبان له ـ أي للمأمون ـ ما لم تزل الأخبار عليه متواطية، والألسن عليه متفقة، والكلمة فيه جامعة، ولما لم يزل يعرفه به من الفضل: يافعاً، وناشئاً، وحدثاً، ومكتهلاً الخ.).

فهل يعقل: أن إنساناً من هذا النوع يكون مستتراً عن الناس، بعيداً عنهم، ولا يعيش فيما بينهم، منذ حداثة سنه إلى أوان اكتهاله؟!.

ومع ذلك.. فأي خطأ يستطيع أحمد أمين، أن يسجله على الإمام الرضاعليه‌السلام طيلة الفترة التي عاشها مع المأمون، رغم محاولاته الجادة ـ وهو الحاكم المطلق ـ من أجل أن يضع من الإمامعليه‌السلام قليلاً قليلاً، ويصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر، على حد تعبير نفس المأمون؟!.

٢٢٧

وهل لم يقرأ أحمد أمين أقوال كبار علماء أهل السنة. وأئمتهم، وتصريحاتهم الكثيرة جداً حول أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ، والإمام الرضا منهم بالذات، ليعرف مقدار عظمتهم، وطهارتهم، ونزاهتهم التي لا يشك، ولا يرتاب، ولا يناقش فيها أحد؟!.

وأخيراً.. هل زال ذلك التقديس عن الإمام الرضا، عندما ظهر للناس؟! أم أن الأمر كان على عكس ذلك تماماً؟!.

هذه بعض الأسئلة التي نوجهها للأستاذ: (أحمد أمين)، ولكل من يرى رأيه، ويذهب مذهبه،. وإننا لعلى يقين من أنها سوف لن تجد لدى هؤلاء الجواب المقنع والمفيد.. وإنما ستواجه عنتاً وعناداً صاعقين، يبتزان منهم كل غريبة، ويظهران الكثير الكثير من الترهات العجيبة.. ولكن ليطمئن بالهم، وتهدأ ثائرتهم، فإننا سوف لن نستغرب عليهم مثل هذه الترهات، ولن نعجب لمثل تلك الافتراءات، فما تلك إلا: (شنشنة أعرفها من أخزم).

رأي غريب آخر في البيعة:

هذا.. ويرى بعض المؤلفين: أن المأمون كان في بيعته للرضاعليه‌السلام واقعاً تحت تأثير القوات المسلحة، وأنها هي التي أجبرته على ذلك، حيث كان القسم الكبير من قوادها، وزعماء فرقها يميلون إلى العلويين، وقد شرطوا عليه: أنهم لا يفتحون نار الحرب ضد الأمين إلا إذا جعل الرضا ولي عهده، فأجابهم إلى ذلك(١) .

وأقول: ليت هذا المؤلف ذكر لنا اسم ذلك المؤرخ، الذي نقل له هذا الاشتراط من أولئك القواد على المأمون، والذي تنافيه تصريحات المأمون نفسه، وسلوكه مع الإمامعليه‌السلام ، حتى قبل أن يصل إلى مرو، وكذلك سائر مواقفه معه، والتي تكشف عن حقيقة دوافعه ونواياه إلى آخر ما هنالك مما قدمنا وسيأتي شطر منه.

____________

(١) هذا ما ذكره الشيخ القرشي في كتابه: حياة الإمام موسى بن جعفر ج ٢ ص ٣٨٧.

٢٢٨

وأحسب أن هذا المؤلف يشير بما ذكره هنا إلى ما ذكره جرجي زيدان في روايته: (الأمين والمأمون) ص ٢٠٣، طبع دار الأندلس، فقد ذكر أن الفضل بن سهل قد اشترط على المأمون ذلك. واحتمل ذلك أيضاً في كتابه: تاريخ التمدن الإسلامي، المجلد الثاني جزء ٤ ص ٤٣٩. وكأن مؤلفنا يريد أن يقول: إن المأمون كان مضطراً إلى إجابتهم: إما خوفاً من انتفاضتهم عليه، أو رغبة في القضاء على أخيه الأمين، أو للسببين معاً.. ولكن هذا الاشتراط كما قلنا، ليس له أي سند تاريخي يدعمه، بل الشواهد التاريخية كلها على خلافه، سيما ونحن نرى الفضل بن سهل وأخوه يمانعان في عقد البيعة للرضا. وما ذكره (زيدان) لا يصلح شاهداً تاريخياً، بعد أن كان روائياً، لا يلتزم بالحقائق التاريخية. وبعد أن لاحظنا: أنه يعتمد التضليل في كتابه: تاريخ التمدن الإسلامي.

وأحسب أن هذا هو عين الاتهام الموجه للفضل بن سهل في أمر البيعة، بأنه هو المدبر لها، والقائم بها. لكنه صيغ بنحو آخر فيه الكثير من الإيهام والإبهام.

وفريق آخر يرى:

وهناك بعض الباحثين يرى: أن من جملة الأسباب الهامة للبيعة: هو أن المأمون أراد أن يحذر العباسيين من مغبة المخالفة له، والاستمرار في ذلك. وأن يرغمهم، ويدفعهم إلى الوقوف إلى جانبه، بدافع من خوفهم من انتقال الخلافة عنهم إلى خصومهم العلويين. وأن ينتقم منهم بسبب خلعهم له من ولاية العهد، وتأييدهم أخاه الأمين عليه، وتشجيعهم له ضده. كما أنه يكون بذلك قد جمع المزيد من المؤيدين له، ليستطيع مقابلتهم، والوقوف في وجههم، وينتقم منهم(١) .

ولكنه رأي لا تمكن المساعدة عليه:

لأن منطق الأحداث، وواقع ظروف المأمون يأبيان كل الإباء أن يكون هذا سبباً منطقياً للبيعة.. وقد قدمنا في الفصلين السابقين البيان الكافي والوافي لما يتعلق بهذا الموضوع. هذا بالإضافة إلى أن ذلك لا يتلائم مع ما هو معروف عن المأمون، من الدهاء والسياسة، وهل يمكن أن يقدم المأمون على خلق وإثارة مشاكل هو في غنى عنها؟ وعلى الأخص في تلك الفترة من الزمن، التي كانت طافحة بالمشاكل، وكان العصيان فيها معلناً في أكثر مناطق الدولة، ومهددا به من كل جانب ومكان؟!.

____________

(١) الصلة بين التصوف والتشيع ص ٢١٩، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج ٢ جزء ٤ ص ٤٩٢، والتربية الدينية للفضلي ص ١٠٠، الطبعة الخامسة، وغير ذلك.

٢٢٩

إن الحقيقة هي: أن المأمون في تلك الفترة بالذات، وكان بحاجة إلى أن يكتسب ثقة وحب أي إنسان كان. فضلاً عن ثقة وحب أهل بيته، وعشيرته: العباسيين.

ثم.. وهل يمكن أن يلجأ المأمون للانتقام منهم، إلى هذا الأسلوب بالعاجز، بعد أن خضعوا له وانقادوا لأمره، وسلموا بالأمر الواقع، بعد مقتل الأمين؟!

ولماذا لا يقدر: أنهم سوف يقابلونه بالمثل، ويقومون في وجهه، ثأراً لكرامتهم، ودفاعاً عن وجودهم؟!. ولماذا يعطيهم الفرصة لإبراز عضلاتهم ضده، ويجعلهم يفكرون في تحدي سلطته، وهتك حرمته؟!. حيث رأيناهم قد خلعوا المأمون، بسبب بيعته للإمامعليه‌السلام ، وبايعوا لإبراهيم بن المهدي، في أواخر ذي الحجة، من نفس السنة التي بويع فيها للإمامعليه‌السلام بولاية العهد.

وأخيراً.. ألم يكن باستطاعة المأمون أن يصفي حساباته مع خصومه الضعفاء جداً، الذين كاد يلتهمهم المد العلوي ويقضي عليهم، بأساليب أخرى، أقل إثارة، وأشد نكاية؟!.

ولقد أشرنا، ولسوف نشير إلى ما قاله المأمون لحميد بن مهران، وجمع من العباسيين. بل ويكفينا هنا: أن نلقي نظرة على ما قاله المأمون للعباسيين في كتابه المعروف لهم، يقول المأمون: (.. فإن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم ـ يعني للعلويين ـ عاقبة ومنفعة، فإني في تدبيركم، والنظر لكم، ولعقبكم، وأبنائكم من بعدكم..) وكذلك ما كتبه بخط يده في وثيقة العهد..

إلى آخر ما هنالك مما لا مجال لنا هنا لتتبعه..

فتلخص أن ما ذكر هنا، لا يمكن أن ينسجم مع ما يقال عن حنكة المأمون، ودهائه السياسي.

الفضل في قفص الاتهام:

وأخيراً.. فإن بعض المؤلفين، كأحمد أمين في كلامه المتقدم، وجرجي زيدان(١) وأحمد شلبي(٢) ، وغيرهم. وبعض المؤرخين كابن الأثير في الكامل، طبعة ثالثة ج ٥ ص ١٢٣، وابن الطقطقي في:

الفخري في الآداب السلطانية ص ٢١٧، وغيرهما.. يرون أن الفضل بن سهل كان العامل الرئيسي في لعبة (ولاية العهد) هذه، وأن المأمون كان في ذلك واقعا تحت تأثير الفضل، الذي كان يتشيع.

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي، المجلد الثاني جزء ٤ ص ٤٣٩.

(٢) التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ ص ٣٢٠.

٢٣٠

ويرى آخر: أن سبب إشارة الفضل على المأمون بذلك، هو أنه أراد أن يمحو ما كان من أمر الرشيد في العلويين(١) .

الفضل بريء من كل ما نسب إليه:

أما نحن فإننا بدورنا نستطيع أن نؤكد على ما يلي: إن ما بأيدينا من النصوص التاريخية يأبى عن نسبة التشيع للفضل، بل وحتى عن نسبة إشارته على المأمون بهذا الأمر، فضلاً عن كونه المدبر له، والقائم به.. اللهم إلا أن تكون مؤامرة اشترك الرجلان معاً في وضع خطوطها العريضة، آخذان في اعتبارهما ظروفهما، ومصالحهما الشخصية، ليس إلا..

بل إن بعض النصوص تفيد أن الفضل كان عدواً للإمامعليه‌السلام ، حيث إنه كان من صنائع البرامكة(٢) ، أعداء أهل البيتعليهم‌السلام . وأنه لم يكن حتى راغباً في البيعة للرضاعليه‌السلام ، وأنه وأخاه قد مانعا في عقد العهد للرضا(٣) ، فكيف يكون هو المشير على المأمون بالبيعة له.. بل لم يكن يعلم أن المأمون يريد عقد البيعة له إلا بعد وصوله إلى خراسان وإحضار المأمون له، وإعلامه بأنه يريد عقد البيعة له على ما في مقاتل الطالبيين ص ٥٦٢ والطبري وغيرهما. وإن كان ربما يناقش في ذلك بمنافاته لرسالة الفضل التي أرسلها إلى الإمام وهو في المدينة والتي أوردها الرافعي في التدوين.

وذلك ما يقوي أنه كان متآمرا على الإمام مع المأمون كما نصت عليه تلك الرسالة بأن ذلك عن اتفاق بينه وبين المأمون فراجعها.

____________

(١) البحار ٤٩ ص ١٣٢، وعيون أخبار الرضا ص ١٤٧، نقلاً عن: البيهقي عن الصولي.

(٢) البحار ج ٤٩ ص ١٤٣، ١١٣، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٦، و ص ٢٢٦.

(٣) مقاتل الطالبيين ص ٥٦٢، والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ٢٧٠، ونور الأبصار للشبلنجي ص ١٤٢، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٦، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٦٩، والبحار ج ٤٩، ص ١٤٥، وإرشاد المفيد ص ٣١٠، ٣١١، وغير ذلك.

٢٣١

ولو أنه كان ممن يتشيع للإمامعليه‌السلام ، فكيف يمكن أن يتآمر عليه، ويحاول أن يجعل للمأمون ذريعة للإقدام على التخلص منهعليه‌السلام ، وذلك عندما ذهب إلى الرضا، وحلف له بأغلظ الأيمان، ثم عرض عليه قتل المأمون، وجعل الأمر إليه(١) . لكن الإمام بسبب وعيه وتيقظه قد ضيع عليه وعلى سيده هذه الفرصة، حيث أدرك للتو أنها دسيسة ومؤامرة، فزجر الفضل وطرده، ثم دخل من فوره على المأمون، وأخبره بما كان من الفضل، وأوصاه أن لا يأمن له.

وبذلك يكون الإمامعليه‌السلام قد ضيع على المأمون والفضل فرصة تنظيم اتهام له بما لم يكن. وعاد الفضل من مهمته تلك بخفي حنين، يجر هو وسيده أذيال الخيبة، والخزي، والخسران.

أما إذا كان الفضل قد أقدم على ذلك من دون علم المأمون ـ كما هو غير بعيد ـ فليس ذلك إلا بدافع من حقده الدفين على الإمامعليه‌السلام ، وحسده له، يريد بذلك تمهيد الطريق لمقتله، ليخلو له الجو، وليفعل من ثم ما يشاء، وحسبما يريد.

وأياً ما كانت الحقيقة، فإن النتيجة ليست سوى الخزي والعار، والخيبة القاتلة بالنسبة للفضل في هذه القضية.

ويا ليته كان قد قنع بذلك.. ولكنه استمر في تحريض المأمون على التخلص من الإمامعليه‌السلام حتى إن بعض المؤرخين يرى: أن المأمون لم يقتل الإمام إلا بتحريض من الفضل بن سهل!!.

وبعد.. فهل يمكن أن تنسجم دعوى تشيعه مع إشارته على المأمون بإرجاع الإمام عن صلاة العيد، وذلك حتى لا تخرج الخلافة منه؟!. كما سنشير إليه إن شاء الله.

____________

(١) وإن كنا لا نستبعد أن يكون قد أقدم على ذلك من دون علم المأمون، وبدافع من حقده الدفين على الإمامعليه‌السلام ، وحسده له، يريد بذلك تمهيد السبيل لقتله ليخلو له الجو، وليفعل من ثم ما يشاء وحسبما يريد.

٢٣٢

وأيضاً.. مع إظهاره العداوة الشديدة للإمامعليه‌السلام وحسده له على ما كان المأمون يفضله به، على حد تعبير الريان بن الصلت؟!(١) .

وكذلك مع اصطناعه هشام بن إبراهيم الراشدي. وجعله عيناً للمأمون على الإمام، ينقل إليه حركاته وسكناته، ويمنع الناس من الوصول إليه حسبما تقدم؟!.

ولو أن الفضل كان ممن يتشيع للإمام، لكان يجب أن يعد من أعظم البلهاء، إذ كيف لا يلتفت لأمر المأمون المؤكد لرسله: أن لا يمروا بالإمام عن طريق الكوفة وقم، لئلا يفتتن به الناس. ثم إلى تهديداته له بالقتل، إن لم يقبل ما يعرضه عليه، ثم إلى جلبه العلماء والمتكلمين من أقاصي البلاد، من أجل إفحام الإمام. وإظهار جهله وعجزه، إلى آخر ما هنالك، من صفحات تاريخ المأمون السوداء.

ثم نرى أنه هو بنفسه يشارك في ذلك كله، وسواه، ويعمل من أجله حتى لقد شارك في التهديد للإمام، إن لم يقبل ما يعرضه عليه المأمون..

وإذا كان نفوذه قد بلغ حدا يجعل المأمون ينازل عن عرشه ـ الذي قتل من أجله أخاه ـ لرجل غريب، فلماذا لا يعمل هذا النفوذ من أجل أن يمنع المأمون عن ذلك السلوك اللاإنساني، الذي انتهجه مع الإمام، ابتداء من حين وجود الإمام في المدينة، وإلى آخر لحظة عاشها معه، وبعد ذلك إلى ما شاء الله.

هذا كله من جهة.

____________

(١) مسند الإمام الرضا ج ١ ص ٧٨، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٩. وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٥٣.

٢٣٣

موقف الإمام من الفضل ينفي نسبة التشيع له:

ومن جهة ثانية.. لو كان للفضل فضل في مسألة البيعة للإمامعليه‌السلام ، أو كان ممن يتشيع له، لم يكن من اللائق من الرضاعليه‌السلام أن يخبر المأمون بما عرضه عليه الفضل من قتل المأمون، وجعل الأمر إليه. ولا من المناسب أن يوصيه بأن لا يأمن له، ويخبره بغشه وكذبه، وأنه يخفي عنه حقيقة ما يجري في بغداد، وغيرها(١) .

ولا من اللائق منه أيضاً: أن يعامله تلك المعاملة، التي لا يعامل بها المحبون المخلصون. والتي كان فيها الكثير من الخشونة، والاحتقار والامتهان، فقد قدمنا أنه عندما ذهب إليه الفضل يطلب منه كتاب الأمان، لم يسأله عن حاجته إلا بعد ساعة من وقوفه، ثم أمره بقراءة الكتاب، فقرأه ـ وكان كتاباً في أكبر جلد ـ وهو واقف، لم يأذن له بالجلوس.

وكذلك لم يكن من اللائق منه: أن يزري عليه عند المأمون، فقد ذكر المؤرخون: أنه (.. كان يذكر ابني سهل عند المأمون، ويزري عليهما، مما دفعهما إلى السعاية به، وكان يوصيه أن لا يأمن لهما)(٢) .

إلى آخر ما هنالك مما لا يصدر في حق أي إنسان عادي آخر في حق من يتشيع له، فضلاً عمن يتسبب في جعله ولياً لعهد الخلافة الإسلامية للأمة بأسرها.

والمأمون نفسه يستنكر ذلك:

ومن جهة ثالثة.. فقد كفانا المأمون نفسه مؤونة الحديث عن دور الفضل بن سهل في هذه القضية.. ولا شك أن (عند جهينة الخبر اليقين).

فقد قدمنا في الفصل السابق: أن الريان بن الصلت ـ وكان من رجال الحسن بن سهل(٣) ! ـ عندما رأى أن القواد والعامة قد أكثروا في بيعة الرضا، وأنهم يقولون: (إن هذا من تدبير الفضل). قال للمأمون ذلك، فأجابه المأمون: (.. ويحك يا ريان! أيجسر أحد أن يجيء إلى خليفة قد استقامت له الرعية، والقواد، واستوت الخلافة، فيقول

____________

(١) تاريخ الطبري، طبع ليدن ج ١١ ص ١٠٢٥.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٥٦٥، ٥٦٦، وإعلام الورى ص ٣٢٥، وكشف الغمة ج ٣ ص ٧١، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٧٦، والبحار ج ٤٩، وإرشاد المفيد، وأعيان الشيعة، وغير ذلك.

(٣) صرح بأنه من رجاله في كتاب: البحار ج ٤٩ ص ١٣٣، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩.

٢٣٤

له: إدفع الخلافة من يدك إلى غيرك؟! أيجوز هذا في العقل؟!.. الخ) لا.. أبداً.. لا يمكن أن نتصور، ولا يجوز في العقل: أن يأتي وزير ملك إليه، ويطلب منه التنازل عن عرشه، ويسلمه إلى رجل غريب، وهو يعلم أن ذلك الملك، قد قتل أخاه، وغيره، وهدم البلاد، وأهلك العباد، من أجل ذلك العرش.. هذا مع علمه أنه سوف لا يكون له هو في دولة ذلك الرجل الجديد الغريب، أي شأن، أو دور يذكر. أو على الأقل لن يكون له من النفوذ، والسلطة والطول، ما كان له مع ذلك الملك الأول. بل سوف يكون كأي فرد عادي آخر، محكوماً لا حاكماً، بكل ما لهذه الكلمة من معنى.. اللهم إلا أن يكون قد تآمر مع ذلك الملك الأول، لتنفيذ خطة معينة. قد رسماها معاً من قبل، وعملاً على أن تكون الأمور في نهاية الأمر في صالحهما، ومن أجل تعزيز نفوذهما وسلطتهما.

أما حصيلة هذه الجولة:

وهكذا.. تأبى الأحداث، ويأبى المنطق أن يكون للفضل في هذه القضية شيء، إلا على طريق التآمر والتواطؤ مع سيده المأمون، أفعى الدهاء والسياسة، بعد دراسة دقيقة مشتركة للوضع، وتقييم عام له.

اتفقا على أثره على خطة للتخلص من المشاكل التي كانت تعترض سبيلهما، وتشكل ـ إلى حد ما ـ خطراً على وجودهما في الحكم، وتفردهما بالسلطة.. وبذلك فقط نستطيع أن نفسر قول إبراهيم بن العباس في مدح الفضل في جملة أبيات له:

وإذا الحروب غلت بعثت لها

رأيــاً تـفل بـه كـتائبها

رأيا إذا نبت السيوف مضى

عـزم بـه فشفى مضاربها

٢٣٥

أجرى إلى فئة بدولتهـــا

وأقام في أخرى نواد بها(١)

ولعل الفضل كان مخدوعاً!.

ولكن ألا يحتمل قريباً: أن يكون الفضل مخدوعاً في هذه المرة على الأقل؟ وأنه هو أيضاً راح ضحية تآمر وتضليل من نفس سيده: المأمون؟!.

الحقيقة أن ذلك أمر محتمل جداً، لأننا نرى في النصوص التاريخية، ما يشير لنا بوضوح إلى أن الفضل لم يكن سوى لعبة بيد المأمون، وأنه قد جازت عليه حيلة في بادئ الأمر، بادعائه: أنه إنما يوليه العهد، لأنه يريد خير الأمة ومصلحتها. أو لأنه يريد أن يفي بنذره (أي أنه نذر إن ظفر بأخيه الأمين، فلسوف يسلم الخلافة لرجل غريب!)..

وقد تقدم أن ابن القفطي يرى أن الفضل لم يكن عارفا بسر القضية، ولا عالماً بواقع الأمر.. ولعلنا نستطيع: أن نستدل على ذلك بقوة بممانعة الفضل وأخيه الحسن في هذا الأمر.

كما أننا رأينا المأمون: يرفض أن يطلب من الإمامعليه‌السلام كتاب الأمان للفضل، بحجة أن الإمام كان قد اشترط: أن لا يتدخل في شيء من أمور الدولة وشؤونها(٢) .

ثم نرى المأمون نفسه يطلب من الإمام: أن يولي فلاناً، أو أن يكتب إلى فلان بكذا، أو أن يساعده في إدارة شؤون الخلافة، أو أن يصلي بالناس، إلى غير ذلك من الأمور.. مع أن ما كان يريده الفضل من الإمام، لم يكن له من الأهمية مثل ما كان يطلبه منه المأمون.

وعلى كل فقد يجوز للمأمون ـ حتى مع الشرط ـ ما لا يجوز لغيره بدونه.

____________

(١) الأغاني ط ساسي ج ٩ ص ٣١ ـ ٣٢.

(٢) أعيان الشيعة ج ٤ قسم ٢ ص ١٣٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٢. والبحار ج ٤٩ ص ١٦٨. ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٨٨.

٢٣٦

الفضل يقع في الشرك:

وأخيراً.. فلا يسعنا في ختام هذا الفصل إلا أن نقول: مسكين الفضل بن سهل، لقد استطاع المأمون أن يبرئ ساحة نفسه، من كل الذنوب العظيمة والخطيرة التي ارتكبها، وأن يجعل هذا الوزير المسكين، الذي كان عدوا للإمام، والذي لم يشعر إلا وهو في الفخ، هو المسؤول عن أكثر جرائمه وموبقاته، بل وعنها جميعاً، حتى البيعة للرضاعليه‌السلام بل وحتى عن قتل أخيه الأمين! ولقد أدرك الفضل أنه قد وقع في الشرك، ولكن.. بعد فوات الأوان، ولذا نراه يمتنع عن الذهاب إلى بغداد، لأنه يعرف ما سوف يواجهه من مشاكل وأخطار، وما سوف يتعرض له من مؤامرات، وحاول بكل وسيلة أن يقنع المأمون بالعدول عن رأيه، وبين له صراحة أنه هو المتهم بالبيعة للرضا، وبقتل الأمين، فلقد قال له:

(.. يا أمير المؤمنين، إن ذنبي عظيم عند أهل بيتك، وعند العامة، والناس يلومونني بقتل أخيك المخلوع، وبيعة الرضا، ولا آمن السعاة والحساد، وأهل البغي أن يسعوا بي، فدعني أخلفك بخراسان الخ.)(١) .

ولكن أنى له أن يتركه المأمون، الذي كان يريد التخلص منه، من أجل أن ترضى عنه بغداد، مضافاً إلى أنه هو أيضاً كان يخشاه ويخافه. فلقد كان قد أعد العدة، وأحكم الخطة في أمره، ولم يبق إلا التنفيذ (كما سيأتي بيانه).

____________

(١) أعيان الشيعة ج ٤ قسم ٢ ص ١٣٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٢، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٨٧، والبحار ج ٤٩ ص ١٦٧.

٢٣٧

وبعد أن يئس الفضل من إقناع المأمون، حاول أن يحتاط لنفسه ما أمكنه ذلك. فطلب منه أن يكتب له كتاب ضمان وأمان. فاستجاب المأمون لهذا الطلب، وكتب له كتاباً(١) ، يسمى كتاب الحباء والشرط يظهر بوضوح الدور الذي لعبه الفضل في تشييد صرح خلافة المأمون، وتوطيد سلطانه.

ونلاحظ: أن المأمون قد كتب للفضل كل ما يريد، بل وزاد على ما كان يتوقعه الفضل الشيء الكثير، إذ لم يكن يرى في ذلك أي ضرر عليه، ما دام أنه قد أحكم الخطة، ودبر له النهاية.

وكما رسم ودبر. كانت النهاية!.

لماذا الإصرار على اتهام الفضل:

وهكذا.. فإننا بعد كل ما تقدم، لا نرى مجالاً للإصرار على نسبة التشيع للفضل، أو القول: بأن المأمون كان واقعا في أمر البيعة تحت تأثيره، وخاضعا لإرادته، فقد يكون الفضل قد أعطي أكثر مما يستحقه من النفوذ والقدرة.. ولعل إصرار أولئك أو هؤلاء على اتهام الفضل بذلك، حتى وإن أنكره المأمون نفسه، وكذبته جميع الوقائع والأحداث ـ لعله ـ يرجع إلى حرصهم على أن لا يتهم المأمون ـ السلطة ـ بما لا يحبون اتهامه به، كالتشيع، والحب لآل عليعليهم‌السلام ، أو ليبرءوا ساحته من هذه التهمة، لو فرض وجودها فعلاً.. أو لعل لأنهم لم يكونوا على درجة من الوعي تؤهلهم لإدراك حقيقة ظروف المأمون، وأهدافه من البيعة..

____________

(١) الكتاب موجود في: البحار ج ٤٩ ص ١٦٠، ١٦٢، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٥٧، ١٥٩، وأوعز إليه اليعقوبي في تاريخه ج ٢ ص ٤٥١ طبع صادر

٢٣٨

هذا.. وقد رأينا: أن العباسيين في بغداد، بمجرد وصول نبأ البيعة لهم، يتهمون الفضل بن سهل بتدبيرها(١) .. مع أنهم لم يكونوا قد اطلعوا بعد على حقيقة الأمر وواقع القضية، وما ذلك إلا لما قلناه، وليبقوا على علاقاتهم مع المأمون، وليبقى باب الصلح معه في المستقبل مفتوحاً. وكذلك ليحافظوا على شخصية المأمون، حتى لا تلصق بها تهمة، يعلمون هم أكثر من غيرهم ـ وأهل البيت أدرى بما فيه ـ ببراءته منها، ألا وهي تهمة: الحب لعلي، وآل بيته.

ولعله أيضاً لهذه الأسباب نفسها جعلوا المأمون لعبة في يد الفضل، وأنه لا يملك معه من الأمر شيئاً، حتى لقد قالوا عنه: إنه مسجون ومسحور(٢) . وإن كان لا شاهد لهذه الدعوى أصلاً إلا البيعة للرضا عليه‌السلام ولولاها لكان العكس عندهم هو الصحيح فعلاً..

جميل.. وجميل جداً.. فلقد أصبح المأمون لعبة بيد الفضل، وإن كانت جميع الدلائل والشواهد متضافرة على العكس من ذلك.. ولو لم يكن ذلك يكفي لتبرئة المأمون، فهم على استعداد لاتهامه بعقله، كما قد حدث ذلك بالفعل، فذلك عندهم خير من اتهامه بالحب لآل علي والتشيع لهم..

____________

(١) فقد اتهموا الفضل بذلك بمجرد وصول رسالة الحسن بن سهل إليهم، يخبرهم فيها بأمر البيعة. راجع: الطبري ج ١١ ص ١٠١٣، طبع ليدن وتجارب الأمم ج ٦ ص ٤٣٦ وغير ذلك من كتب التاريخ.

(٢) راجع: البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٨، والطبري ج ١١، وغير ذلك..

٢٣٩

احتمال وجيه جداً:

على أننا لا نستبعد كثيراً.. أن يكون المأمون نفسه قد شجع وغذي هذه التبريرات والتمويهات، وخصوصاً بعد مقتل الفضل، ليبرئ نفسه أمام العباسيين، وليشوه الفضل.. كما أننا لا نشك أبداً في أن كثيراً مما يذكر عن الأمين هو في عداد الخرافات والأساطير التي شجعها المأمون وحزبه، لأن الأمين كان هو المغلوب، والمأمون كان هو الغالب.. وللغالب القدرة، بل والحق أيضاً ـ في نظر قاصري النظر ـ في أن يشوه المغلوب، ويصوره بالصورة التي يريد.

ويدلنا على أن المأمون هو المسؤول عن ذلك، ما رواه الحصري في زهر الآداب من: (أنه لما خلع المأمون أخاه أمين، ووجه بطاهر ابن الحسين لمحاربته. كان يعمل كتبا بعيوب أخيه، تقرأ على المنابر بخراسان الخ..)(١) .

وطبيعي بعد ذلك: أن على الكتاب والمؤرخين الذين ما كانوا أحراراً، ولا يعتمدون النزاهة في كتاباتهم: أن يؤرخوا كما يريد المأمون، وأن يكتبوا ما يمليه عليهم، لا ما هو حق وواقع. يرونه بأم أعينهم. أو تحكم به ـ إن كانت ـ ضمائرهم.

وأخيراً.. وإذا تحقق أن الفضل بريء من تهمة التشيع، وتهمة تدبير أمر البيعة إلا على نحو التآمر، فلا يعني ذلك أنه بريء مما هو أشنع من ذلك وأقبح (فكل إناء بالذي فيه ينضح).

____________

(١) راجع: أمراء الشعر العربي في العصر العباسي ص ٨٦، نقلاً عن: زهر الآداب ج ٢ ص ١١١، تحقيق زكي مبارك، وطبع دار الجيل ج ٢ ص ٤٦٤.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

من وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) وبين من يحتسب تطوّعاً ( أي يقوم بالقسم الفرديّ من تلك الوظيفة »(١) .

وقد أشار ابن الاخوة في مقدّمة كتابه إلى أنّ الحسبة منصب سياسيّ حكوميّ، فالمحتسب يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من موقع الحكم فقال: « لقد رأيت أن أجمع ـ في هذا الكتاب ـ أقاويل العلماء مستنداً به إلى الأحاديث النبويّة ما ينتفع به من استند لمنصب الحسبة وقلّد النظر في مصالح الرّعية وكشف أحوال السوقة، واُمور المتعيّشين على الوجه المشروع ليكون ذلك عماداً لسياسته وقواماً لرئاسته »(٢) .

وممّا يدلّ على أنّ القسم الاجتماعيّ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ المصطلح عليه في لسان الفقهاء بالحسبة لا يختصّ بمجرّد بيان المحرّمات والواجبات بل يقع على عاتق المحتسبين ما يتعدّى الوعظ والإرشاد إلى إستعمال القوّة والسلطة، ما ذكره الفقهاء للمحتسبين من وظائف كثيرة تشمل كافّة مناحي الحياة الاجتماعيّة وتقترن ـ في الأغلب ـ باستخدام الردع العمليّ والإشراف القاطع والمؤاخذة والعقاب. وإليك نماذج من وظائف المحتسب(٣) التي توزّعت اليوم في وزارات ومديريّات مختلفة :

١. الحسبة على الآلات المحرّمة والخمر، فإذا جاهر رجل بإظهار الخمر أراقه المحتسب، وأدّبه إن كان ذلك الرجل مسلماً، أو أدّبه على إظهاره إن كان ذميّاً وهكذا بالنسبة إلى الالات المحرّمة، فإنّ المحتسب يفصلها حتى تعود خشباً، ويؤدّب صاحبها.

ويمكن أن يدخل هذا في شؤون وزارة الداخليّة.

٢. الحسبة على أهل الذمة ومراقبة أحوالهم وتصرّفاتهم، ومدى التزامهم بعهودهم، ومراعاتهم لشروطها، ويدخل هذا في شؤون وصلاحيّات وزارة الداخليّة.

__________________

(١) معالم القربة في أحكام الحسبة: ١١.

(٢) معالم القربة: ٣.

(٣) لقد وردت كلمة الحسبة في مجمع البحرين هكذا: الحسبة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واختلف في وجوبها عيناً أو كفاية. راجع باب حسب ص ١٠٦.

٣٠١

٣. الحسبة على أهل الجنائز، ومراقبة شؤونها من جهة الاُمور الصحيّة والحقوقيّة ويدخل في شؤون وزارة الداخليّة، ووزارة الصحّة.

٤. الإشراف على المعاملات التجاريّة لمنع المعاملات الفاسدة كالبيوع الفاسدة وتعاطي الربا، والمسلم الفاسد، والإجارة الفاسدة وهي تدخل في شؤون وزارة العدل.

٥. الإشراف على العلاقات الاجتماعيّة والأخلاقيّة ومنع الناس من مواقف الريب ومظانّ التهم ممّا يدخل في شؤون وزارة الداخليّة.

٦. مراقبة شؤون النقد ومنع التعامل بالنقود الزائفة، بعد تحديدها وتعيينها وهو يدخل في شؤون وزارة المال والدوائر التابعة لها.

٧. الحسبة على منكرات الأسواق كمنع بعض السوقة من سدّ طرقات المارّة بمتاعهم وما شابه مما يدخل في صلاحيات الدوائر التابعة للاُمور البلديّة. وكمنع الحمّالين من أشياء بنحو يلحق الضرر بالمارّة، إمّا بتمزيق ثيابهم أو تلويثها.

٨. ضبط المكاييل والمقاييس والأوزان المستعملة في الأسواق، وتعيينها والمنع من التلاعب فيها ممّا يدخل في شؤون البلديّة.

٩. مراقبة تجّار الغلاّت للحيلولة دون احتكارها، أو التلاعب فيها وتعيين أسعارها عند الضرورة ممّا يدخل في صلاحيّات وزارة التجارة والاقتصاد.

١٠. مراقبة الخبّازين وأصحاب الأفران من الناحية الصحيّة منعاً من إصابة الناس بالأمراض والأوبئة، وهو يدخل في شؤون وزارة الصحة وكذا مراقبة كلّ باعة الأغذية، والحلويّات والشرابت لنفس الغرض وأيضاً من ناحية الأسعار.

١١. ملاحظة القصّابين واللحّامين لمنعهم من فعل ما يوجب التلوث كذبح الحيوانات في الأسواق أو بيع اللحوم الفاسدة، وتحديد أسعارها وإعطائهم التعليمات الصحيّة وهو يدخل في صلاحيّات وزارتي الصحة والتجارة. والدوائر التابعة لها.

١٢. مراقبة البزّازين وبيّاع الألبسة وما يتعلّق بهذه المهن من شؤون لمنع أي تلاعب

٣٠٢

في هذا المجال، أو تلاعب في الأسعار والقيم، وكذا مراقبة الخيّاطين وصنّاع الثياب.

١٣. مراقبة كلّ المشاغل والمهن وأصحاب الحرف كالصاغة والحدّادين، والنحاسين، والصبّاغين، والبياطرة، والحمّامات وأصحابها والفصّادين والحجّامين والأطبّاء والمجبّرين والجرّاحين مراقبة شاملة من ناحية الأسعار والمبالغ التي يتقاضونها، أو شروط العمل، أو مواصفاته الصحيّة ممّا يدخل بعضها في شؤون وزارة التجارة والاقتصاد، وبعضها الآخر في شؤون وزارتي الصحّة والداخليّة.

١٤. مراقبة المساجد والمؤذنيين والوعّاظ والقرّاء، وعدم السماح لتصدّي هذه المشاغل إلّا لمن اشتهر بين الناس بالدين والخير والفضيلة ويكون عالماً بالاُمور والعلوم الشرعيّة ممّا يدخل الآن في نطاق صلاحيّات وزارة الأوقاف.

١٥. الحسبة على مؤدّبي الصبيان ومعلّمي الأولاد، ومراقبة شروط الدراسة ومكانها وكيفيتها وما يرتبط بذلك ممّا يدخل في مسؤوليّات وزارة التربية والتعليم.

١٦. الحسبة على كتّاب الرسائل لمنع تصدّي من لا أهليّة له لذلك لما في هذا الأمر من خطر على أسرار الناس وأعراضهم.

١٧. القيام ببعض التعزيرات والتأديبات لمن يتخلّف عن القوانين الإسلاميّة المقرّرة.

١٨. الحسبة على أصحاب السفن والمراكب ومراقبة الطرق ووسائط النقل ممّا يكون من شؤون وزارة الطرق والمواصلات.

١٩. الحسبة على شؤون العمل والعمّال ومراقبة شؤونهم وحقوقهم وظروف عملهم ممّا يدخل في شؤون ومسؤوليّات وزارة العمل، والشؤون الاجتماعيّة و ( الضمان الاجتماعي ).

وغير ذلك(١) .

__________________

(١) راجع هذه التفاصيل في كتاب معالم القربة تصفّح كلّ الأبواب.

٣٠٣

وللوقوف على وظائف المحتسب باختصار ؛ نذكر لك ما كتبه ابن خلدون في مقدمته: « أمّا الحسبة فهي وظيفة دينيّة من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو فرض على القائم باُمور المسلمين يعيّن لذلك من يراه أهلاً له فيتعيّن فرضه عليه ويتّخذ الأعوان على ذلك ويبحث عن المنكرات ويعزّر ويؤدّب على قدرها، ويحمل الناس على المصالح العامّة في المدينة، مثل المنع من المضايقة في الطرقات ومنع الحمّالين وأهل السفن من الإكثار في الحمل والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها وإزالة ما يتوقّع من ضررها على السابلة والضرب على أيدي المعلّمين في المكاتب وغيرها في الإبلاغ في ضربهم للصبيان المتعلّمين، ولا يتوقّف حكمه على تنازع واستعداء بل له النظر فيما يصل إلى علمه من ذلك بل فيما يتعلّق بالغش والتدليس في المعايش وغيرها في المكاييل والموازين، وله أيضاً حمل المماطلين على الإنصاف وأمثال ذلك »(١) .

إنّ من يلاحظ هذه المهام الموكلة إلى المحتسب والمحتسبين يرى أنّها نفس الصلاحيّات والمهام التي تقوم بها أجهزة السلطة التنفيذيّة المتمثّلة في الوزارات وما يتبعها من دوائر ومديريّات بتنظيم دقيق وعلى نطاق أوسع، غاية ما هنالك أنّ الحياة الإسلاميّة في العصور الغابرة والعهود الإسلاميّة الاُولى لم تستلزم التوسّع في الأجهزة والتشكيلات على غرار ما نلاحظ اليوم، بل اكتفي بالمحتسب أو المحتسبين ولكن التطوّر الحضاريّ، واتّساع البلاد، وتزايد الحاجات تطلّبت إحالة تلك المهام والمسؤوليّات والصلاحيّات إلى وزارات وأجهزة ومديريات هذا مضافاً إلى أنّ الإسلام اهتمّ ببيان الخطوط العريضة للحكم والولاية، واعتنى ببيان جوهر الوظائف، تاركاً اختيار الظواهر والشكليّات للزمن والحاجة، ما دامت تتّفق مع ما رسمه من خطوط ووظائف وغايات.

إنّ الإسلام وإن أوكل الكثير من القضايا الاجتماعيّة إلى الحاكم كما مرّ عليك باختصار ؛ ولكن هل يمكن للحاكم، وهو يواجه كلّ يوم آلاف المشاكل والقضايا أن

__________________

(١) مقدمة ابن خلدون المتوفّي ( ٨٠٨ ه‍ ): ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

٣٠٤

يقوم بكلّ أعباء الولاية والحكومة لوحده دون معاونين ووزراء، ودون أجهزة وتشكيلات ؟ الجواب لا قطعاً.

هذا ولقد ورد ذكر الوزير والوزراء في عهد الإمام عليّعليه‌السلام لمالك الأشتر النخعيّ لـمّا ولاّه على مصر حيث قال: « إنّ شرَّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً ومن شركهم في الآثام فلا يكونّن لك بطانة فإنّهم أعوان الأثمة وإخوان الظلمة »(١) .

وهذا يعني أنّ على الحاكم الإسلاميّ الأعلى للبلاد أن يتّخذ لنفسه ( وزراء ) يعينونه على إدارة البلاد، وتنفيذ القوانيين، وأنّ عليه ـ وراء ذلك ـ أن يختار بدقّة وعناية اُولئك الوزراء وأفراد السلطة التنفيذيّة ؛ لما لهم من أثر حسّاس في الأحوال الاجتماعيّة والسياسيّة.

وربمّا عبّر في الإسلام عن الوزير بالكاتب كما جاء في عهد الإمام عليّعليه‌السلام لمالك الأشتر، قال الاُستاذ توفيق الفكيكي في كتابه « الراعي والرعية »: « قال الإمام عليّ: « ثمَّ انظر في حال كتّابك »، ولم يقل ( كاتبك ) علمنا أنّ معنى الكاتب يراد به الوزير في عرف اليوم فقد جوّزعليه‌السلام تعدّد الوزراء على قدر الحاجة التي تدعو إليها المصلحة العامّة ويؤكّد هذا ما جاء في آخر كلامه المتقدّم: ( و اجعل لرأس كلّ أمر من أُمورك رأساً منهم لا يقهره كبيره ولا يتشتَّت عليه كثيرها ) »(٢) .

ثمّ إنّ السلطة التنفيذيّة اجتمعت في القرآن تحت كلمة ( اُولي الأمر ) وقد وردت هذه الكلمة في القرآن في عدّة مواضع:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) ( النساء: ٥٩ ).

( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) ( النساء: ٨٣ ).

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة ٥٣.

(٢) الراعي والرعيّة: ١٦٢ ـ ١٦٣ وهو شرح وتحليل سياسيّ لعهد الإمام عليّعليه‌السلام للأشتر النخعيّ.

٣٠٥

وغير خفيّ على المتتبّع في الآثار النبويّة أنّ المراد من اُولي الأمر حين نزول الآية هو الذي نصّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على أسمائهم من أوّلهم إلى آخرهم، بيد أنّهم كانوا مصاديق كاملة لهذا العنوان وكان الإشارة إليهم من باب أظهر المصاديق فعندما لا تتمكّن الاُمّة الإسلاميّة من هؤلاء المنصوص عليهم تتمثّل هذه القضية الكليّة في ( العدول ) من أئمّة المسلمين الذين يديرون دفّة البلاد.

ثمّ قد سبق القرآن الكريم إلى هذا بصورة ضمنيّة عند حكايته لقول موسىعليه‌السلام وطلبه من الله تعالى إذ قال:( وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي *هَارُونَ أَخِي *اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ) ( طه: ٢٩ ـ ٣١ ).

وهو يكشف عن وجود الوزراء للحاكم الأعلى في النظام السياسيّ الإسلاميّ ليشدّوا أزره، ويعينوه على الإدارة والولاية.

ولقد أقرّ الإسلام وجود السلطة التنفيذيّة وأخذ بها عمليّاً حيث كان النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله يقسّم المسؤوليّات الإداريّة والسياسيّة على الأفراد، وإن لم يكن هذا التقسيم تحت عنوان إلاستيزار، واتّخاذ الوزراء، كما ستعرف.

وخلاصة القول ؛ أنّ القارئ الكريم إذا لاحظ برامج الحكومة الإسلاميّة التي يجب أن يقوم بها النظام الإسلاميّ، يقف على أنّها لا يمكن تطبيقها بدون أجهزة كاملة، وسلطة تنفيذيّة في مجالات الاقتصاد والزراعة والماليّة والدفاع والمواصلات وغير ذلك من البرامج وستقف عليها بإذن الله سبحانه في فصلها الخاصّ، وكلّ من يقوم على هذه البرامج يعدّ جزء من السلطة التنفيذيّة.

السلطة التنفيذيّة على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

لا شكّ أنّ الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان إلى جانب مهامه الرساليّة، يتولّى القسم الأكبر من إدارة شؤون المسلمين السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة ولا شكّ أنّ رقعة البلاد الإسلاميّة ـ آنذاك ـ لم تبلغ من السعة والانتشار بحيث تتطلّب إنشاء تشكيلات

٣٠٦

تنفيذيّة واسعة الأطراف والأبعاد، ولذلك لم يكن في ( العهد النبوي ) سلطة باسم السلطة التنفيذيّة، ولا وزارة ولا وزارات(١) ولا مديريّات مركزيّة ومحليّة على غرار ما يوجد الآن، بل كان هناك فيما وقفنا عليه من خلال مطالعة ذلك العهد ـ تقسيم بعض المسؤوليّات الإداريّة والمهامّ السياسيّة على الأفراد القادرين على تحمّلها، والصالحين للقيام بها، وهذا هو المهمّ معرفته في هذا المقام، فإنّ المهمّ هو معرفة كيفيّة إدارة المجتمع على عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله والاطّلاع على ما إذا اتّخذ النبيّ الأكرم وهو أوّل حاكم إسلاميّ أعلى للاُمّة الإسلاميّة من وازروه وعاونوه في مسألة الإدارة، وتدبير شؤون الاُمّة في مجالات السياسة والعسكريّة والقضاء وما شابه أم لا، لنرى ما إذا كان يتعيّن على الدولة الإسلاميّة أن تتّخذ مثل هذه السلطة أم لا، وكيف ؟

إنّ المراجع لتاريخ الحكومة النبويّة يرى بوضوح ؛ أنّ النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يمارس حكومته على المسلمين من خلال توزيع بعض المسؤوليّات على أفراد صالحين، وكان ذلك يمثّل التشكيلات الإداريّة في ذلك العهد والتي تعادل الوزارات في هذا العصر ونحن لا ننكر أنّها كانت تشكيلات إداريّة بسيطة، ولكنّها توسّعت فيما بعد واتّخذت أشكالاً أكثر تنظيماً وسعة باتّساع رقعة البلاد الإسلاميّة، وتطوّر الحاجات الاجتماعيّة وتشعّبها، واتّساع نطاقها الذي اقتضى ـ بدوره ـ التوسّع في التشكيلات الإداريّة وإحداث الوزارات والدواوين والدوائر والأجهزة التنفيذيّة المتعدّدة.

إنّ من يراجع تاريخ الحكومة النبويّة يجد أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعيّن الاُمراء العامّين على النواحي ويقيم الولاة على البلاد ويعيّن رجالاً للقضاء، وآخرين لجباية الصدقات وجلب الزكوات، وآخرين للكتابة، وربّما أمّر الرجل على قومه لأنّه أيقظ عيناً وأدرى بفنون الحرب من غيره، أو خلّف أحداً مكانه عند غيابه، كما كان يخلّف ابن اُمّ مكتوم في بعض الأحيان عند غيابه عن المدينة(٢) . وكما خلف عليّاًعليه‌السلام عند خروجه لغزوة

__________________

(١) نعم اتّخذ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاًعليه‌السلام وزيراً لنفسه كما يدلّ عليه حديث بدء الدعوة، لاحظ الصفحة ٨٣ من هذا الكتاب.

(٢) الكنى والألقاب ( للقمّي ) ١: ٢٠٨.

٣٠٧

تبوك(١) وأمّر عتّاب بن أسيد على مكّة وأوكل إليه إقامة المواسم والحجّ للمسلمين عام الفتح.

النبيّ يعيّن الولاة ويحدّد مسؤوليّاتهم

وكان يعيّن الولاة ( الذين هم الآن بمثابة المحافظين ) وكان يرسم لهم منهجهم في الحكم وسياستهم الداخليّة

فقد بعث معاذ بن جبل إلى اليمن ووصّاه بما يلي :

« يا معاذ علّمهم كتاب الله، وأحسن أدبهم على الأخلاق الصالحة وأنزل النّاس منازلهم خيرهم وشرّهم وأنفذ فيهم أمر الله، ولا تحاش في أمره. ولا ماله أحداً، فإنّها ليست بولايتك ولا مالك وأدّ إليهم الأمانة في كلّ قليل وكثير، وعليك بالرفق والعفو في غير ترك للحقّ، يقول الجاهل قد تركت من حقّ الله، واعتذر إلى أهل عملك من كلّ أمر خشيت أن يقع إليك منه عيب حتّى يعذروك، وأمت أمر الجاهلية إلّا ما سنّه الإسلام.

وأظهر أمر الإسلام صغيره وكبيره، وليكن أكثر همّك الصّلاة فإنّها رأس الإسلام بعد الإقرار بالدّين وذكّر النّاس بالله واليوم الآخر، واتبع الموعظة فإنّه أقوى لهم على العمل بمّا يحبُّ الله، ثمّ بثّ فيهم المعلّمين وأعبد الله الذّي إليه ترجع ولا تخف في الله لومة لائم.

وأوصيك بتقوى الله وصدق الحديث والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وترك الخيانة ولين الكلام وبذل السلام وحفظ الجار ورحمة اليتيم وحسن العمل وقصر الأمل وحبّ الآخرة والجزع من الحساب ولزوم الإيمان والفقه في القرآن، وكظم الغيظ، وخفض الجناح.

وإيّاك أن تشتم مسلماً، أو تطيع آثماً، أو تعصي إماماً عادلاً أو تكذّب صادقاً، أو

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢: ٥٢٠ وبحار الأنوار ٢١: ٢٠٧.

٣٠٨

تصدّق كاذباً واذكر ربّك عند كُلّ شجر وحجر واحدث لكلّ ذنب توبةً، السرّ بالسرّ والعلانيّة بالعلانيّة.

يا معاذ لولا أنّني أرى إلّا نلتقي إلى يوم القيامة لقصّرتُ في الوصيّة ولكنّني أرى أنّنا لا نلتقي أبداً

ثمّ أعلم يا معاذ إنّ أحبّكُم إليّ من يلقاني على مثل الحال التّي فارقني عليها »(١) .

وبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عمرو بن حزم إلى بني الحارث وجعله والياً عليهم ليفقّههم في الدين، ويعلّمهم السنُّة ومعالم الإسلام ويأخذ منهم الصدقات وكتب له كتاباً عهد إليه فيه عهده وأمره فيه بأمره: « بسم الله الرّحمن الرّحيم، هذا بيان من الله ورسوله، يا أيّها الذين آمنوا أوفوا بالعقُود، عهد من محمّد النّبي رسول الله لعمرو بن حزم حين بعثهُ إلى اليمن أمرهُ بتقوى الله في أمره كُلّه، فإنّ الله مع الّذين اتّقوا، والّذين هم محسنون.

وأمره أن يأخذ بالحقّ كما أمره الله وأن يبشّر النّاس بالخير، ويأمرهم به، ويعلّم النّاس القرآن ويفقّههم فيه، وينهى النّاس فلا يمس القران إنسان إلّا وهو طاهر ويخبر النّاس بالذي لهم والذي عليهم ويلين للنّاس في الحقّ ويشتدّ عليهم في الظّلم فإنّ الله كره الظّلم ونهى عنه، فقال:( أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) ( هود: ١٨ ) ويبشر النّاس بالجنّة وبعملها وينذر النّاس النّار وعملها ويستألف النّاس حتّى يفقهوا في الدّين ويعلّم النّاس معالم الحجّ وسنّته وفريضته، وما أمر الله به، والحجّ الأكبر: الحجّ الأكبر والحجّ الأصغر هُو العُمرة إلى آخر العهد »(٢) .

ومن هذين العهدين، ونظائرهما، يتبيّن لنا أنّ النبيّ كان يعهد بعض السلطات والمسؤوليّات إلى من يراه صالحاً من المسلمين ليقوموا بإدارة بعض أنحاء البلاد، ويزوّدهم ببرامج وأنظمة للحكم والعمل السياسيّ والإداريّ، ممّا يكشف عن وجود صورة مصغّرة عن السلطة التنفيذيّة إلى جانب الحاكم الأعلى للبلاد.

وقد كان لهصلى‌الله‌عليه‌وآله عمّال للبريد، وله تعليمات خاصّة لهم في هذا الشأن ومن ذلك

__________________

(١) تحف العقول: ٢٥ ـ ٢٦.

(٢) سيرة ابن هشام ٤: ٥٩٥.

٣٠٩

قوله: « إذا أبردتم إليّ بريداً فأبردوه حسن الوجه حسن الاسم »(١) .

وقوله لأحد عمّال البريد: « إذا جئت أرضهم فلا تدخل ليلاً حتّى تصبح وتطهّر فأحسن طهورك وصلّ ركعتين وسل الله النّجاح والقبول وأستعد لذلك وخذ كتابي بيمينك وادفعه بيمينك في أيمانهم »(٢) .

وربّما اتّخذ بعض الحراس الليليين ليتتبّعوا أهل الريب، وقد عدّ من ذلك سعد ابن أبي وقّاص(٣) ، وربّما اتّخذ حرساً خاصّاً في بعض الأحيان غير العادية ويذكر أنّ سعد بن معاذ كان حرسه يوم بدر(٤) .

وقد روي أنّ بعض المسلمين كانوا يشترون الطعام من الركبان على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه حتّى ينقلوه حيث يباع الطعام، قال ابن عبد البرّ: استعمل النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله سعيد بن سعيد العاص على سوق مكّة(٥) .

كما كان له كتاب الرسائل الذين كانوا يكتبون للملوك والاُمراء والبوادي وغيرهم وكان له من يقوم بمهمّة الحسبة التي مرّ ذكرها مفصّلاً(٦) .

وهكذا كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يتّخذ المعاونين والمساعدين لإدارة ما يمكن لهم إدارته من الأعمال والمهامّ ويوكل إليهم من الصلاحيّات والمسؤوليّات ما تعارف إيكاله الآن إلى الوزارات والمديريّات والإدارات التي تشكّل حقيقة السلطة التنفيذيّة، وقد كان إيكاله المهامّ للأشخاص مشفوعاً بإعطاء البرامج والتوجيهات الإداريّة المفصّلة التي مرّ عليك ذكر بعضها، وتجد المزيد منها في كتب السير والتاريخ.

* * *

كيفيّة السلطة التنفيذيّة الآن

بعد أن عرفت أيّها القارئ الكريم من البحثين السابقين ؛ أنّ جانباً كثيراً من

__________________

(١) التراتيب الإداريّة ١: ٢٤٧.

(٢ ـ ٥) راجع النظم الإسلاميّة نشأتها وتطوّرها من الصفحة ٢٩٤ إلى ٤٢٨.

(٦) التراتيب الإداريّة ٢: ٢٨٥.

٣١٠

النظم الإداريّة والتوجيهات الضروريّة لتنظيم الحياة الاجتماعيّة في مجالات العلاقات والحقوق والتعامل ( كالتبادل التجاريّ مثلما جاء في الكتاب العزيز ضمن آيات أطولها آية الدين التي حثّت على كتابة الدين وتسجيله ) يتطلّب وجود جهاز تنفيذيّ وقد كان هذا الأمر يتم في العهد النبويّ ببساطة ؛ وان استوجب تزايد حجم الاُمور واتسّاع رقعة البلاد، تطوير الترتيبات اللازمة لذلك، وتوسيع التشكيلات، يصبح الجواب على السؤال المطروح وهو ؛ كيف يجب أن تكون السلطة التنفيذيّة في العصور الحاضرة ؟ واضحاً من وجهة نظر الإسلام.

فإنّ ذكر الترتيبات والتشكيلات ليس من مهمّة الدين الإسلاميّ فذلك متروك للزمن المتحوّل، والحاجات المتطوّرة، لأنّ تحديدها وتعيينها بصورة لا يجوز تخطّيها لا ينسجم مع خاتميّة الرسالة الإسلاميّة التي نزلت لتكون دين الأبديّة، ومنهج البشريّة إلى يوم القيامة، فإنّ مثل هذه الخاصّية في الدين الإسلاميّ تقتضي أن يبيّن الإسلام الجوهر ويترك اختيار الشكل واللباس إلى الزمن والحاجة حتّى يستطيع مسايرة الزمن ويتمشّى مع تقدم الحياة البشريّة وتطوّرها، إذ ذكر الخصوصيّات والأشكال يفرض على الدين الإسلاميّ جموداً هو منه براء، ويحصره في زمن خاصّ دون زمن آخر ؛ لأنّ الحاجات البشريّة متجدّدة ومتحوّلة ومتزايدة ولا يمكن الجمود ـ في رفعها ـ على نمط خاصّ من التشكيلات والأشكال، ولهذا نجده يذكر ـ مثلاً ـ موضوع تسجيل المعاملات الماليّة التي فيها أجل دون أن يحدّد نوع تنفيذ هذا الأمر وما يلزم من أجهزة ودوائر فيقول في أطول آية قرآنية :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَىٰ وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ

٣١١

ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ إلّا تَرْتَابُوا إلّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ إلّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( البقرة: ٢٨٢ ).

إنّ هذه الآية ترسم أهمّ الاُسس التي يجب أن يبنى عليها التعامل التجاريّ، ويكتفي فيها الإسلام بذكر الجوهر تاركاً اختيار الترتيبات الفنيّة، والتشكيلات الإداريّة التي تقوم بهذه الاُمور إلى الأوضاع البشريّة المتجدّدة.

وعلى ذلك فإنّ ما نجده في الكتب التي أُلّفت حول النظم السياسيّة مثل ما كتبه الباحث العلاّمة الشيخ عبد الحيّ الكتاني في تأليفه القيّم « التراتيب الإداريّة » والدكتور صبحي الصالح في « النظم الإسلاميّة » لا يمثّل إلّا تصوير ما توصّلت إليه الحكومات السابقة من تشكيلات وأساليب للعمل الإداريّ والحكوميّ ولا تمثّل بعينها وشكلها أمراً إسلاميّاً يجب الأخذ به حتماً دون زيادة أو نقصان ودون تغيير أو تحوير، تستدعيه الحاجة ويستلزمه الظرف.

ويدلّ على ذلك ؛ أنّ هذه الاُمور في العهد النبويّ كانت تمارس بأساليب بسيطة وبدائيّة ومختصرة كما عرفت، وتطوّرت فيما بعد في العهود اللاحقة، ولكنّها كانت على كلّ حال تدلّ على وجود السلطة التنفيذيّة حتّى في العهد النبويّ وإن لم تكن بالتفاصيل والخصوصيّات المتعارفة الآن.

* * *

مواصفات أعضاء السلطة التنفيذيّة

يعتبر دور السلطة التنفيذيّة في الدولة دوراً بالغ الخطورة والأهميّة، لأنّه على عاتقها تقع مهمّة القيام بشؤون الناس، وإدارة اُمورهم وسدّ حاجاتهم، وحلّ مشكلاتهم، فإذا قامت هذه السلطة بواجباتها أفضل قيام استطاعت أن تكتسب رضا الاُمّة، وتجلب مودّتهم التي يقوم عليها بقاء الدولة، واستقرار الأمن.

٣١٢

إنّ ضمان استقامة السلطة التنفيذيّة وسلامة سلوكها يتوقّف ـ بالدرجة الاُولى ـ على نوع الشروط والمواصفات المعتبرة في أعضاء تلك السلطة فإنّ أكثر المشاكل التي تعانيها أنظمة الحكم في العالم ترجع إلى سوء اختيار أعضاء هذه السلطة ويعود ذلك إلى الخطأ الحاصل في المواصفات والشروط التي تقيم الأنظمة البشريّة اختيار الوزراء والمدراء والمسؤولين، على أساسها.

ولقد أدرك الإسلام كلّ هذا من قبل فاعتبر لأعضاء السلطة التنفيذيّة شروطاً ومواصفات يضمن توفّرها فيهم، سلامة هذه السلطة، واستقامة تصرّفاتها وأبرز هذه المواصفات هي :

١. التخصّص

لقد كان الإسلام أوّل من اشترط وجود هذا الشرط في أفراد السلطة التنفيذيّة وهو أمر اشترطه في جميع المناصب الدينيّة والزمنيّة حيث يقول:( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) ( النحل: ٤٣ )، وهو حثّ على إرجاع كل أمر إلى أهله والعارفين به.

ولذلك قال الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ الرّئاسة لا تصلحُ إلّا لأهلها »(١) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « من عمل على غير علم كان ما يُفسدُ أكثر ممّا يُصلحُ »(٢) .

وقال الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليهما‌السلام : « العاملُ على غير بصيرة كالسّائر على غير الطّريق لا يُزيدُهُ سُرعة السّير إلّا بُعداً »(٣) .

إنّ إيكال الأمر إلى من لا يعرفه ولا يعرف مدخله ومخرجه إضاعة لذلك الأمر وإيذان بسوء العواقب فالعقل لا يسمح بإيكال أمر إلى من لا يعرف القيام به فكيف بالمسؤوليّة الاجتماعيّة وإدارة البلاد ولذلك قالوا: الحكمة هي وضع الرجل المناسب في المكان المناسب ومن الحمق وضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب.

__________________

(١ ـ ٣) الكافي ١: ٤٧ و ٤٥ و ٤٤.

٣١٣

على أنّ من التخصّص أيضاً معرفة الزمان وأهله وما يقتضيانه من التدبير والحيلة. ولذلك قال الإمام عليّعليه‌السلام : « العالمُ بزمانه لا تهجُمُ عليه اللّوابسُ »(١) .

وقال الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليهما‌السلام وهو يصف المسؤول الصالح، والراعي الناجح: « يعملُ ويخشى رجلاً، داعياً، مشفقاً مُقبلاً على شأنه، عارفاً بأهل زمانه مُستوحشاً من أوثق إخوانه، فشدّ الله من هذا أركانه وأعطاه يوم القيامة أمانه »(٢) .

إن قوله « مُقبلاً على شأنه، عارفاً بأهل زمانه » إشارة إلى شرط التخصّص بجانبيه: معرفة الأمر، ومعرفة الزمان وأهله.

٢. الوثاقة

إنّ أهمّ شرط بعد شرط التخصّص هو: الوثاقة وكون المسؤول الحكوميّ أميناً ومأموناً على إدارته ومسؤوليّته فإنّ أكثر المآسي الاجتماعيّة الناشئة من رجال الحكومات في الأنظمة البشريّة ترجع ـ في الحقيقة ـ إلى خيانة هؤلاء الرجال لما أوكل إليهم من مسؤوليّات ومهامّ، فقاموا بها دون ورع، وتصرّفوا فيما فوّض إليهم دون تقوى ولأجل ذلك يؤكد القرآن الكريم على تفويض الاُمور إلى الأمناء من الرجال، المأمونين على أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم إذ يقول عن لسان ابنة شعيب:( يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ ) ( القصص: ٢٦ ).

فإنّ كانت القوّة والأمانة شرطان ضروريّان في راعي شويهات وأغنام، كان اشتراطهما في من يراد تسليطه على أرواح الناس وأموالهم وأعراضهم ضروريّاً بطريق أولى.

٣. الزهد والتعفّف

والمراد من الزهد هو أن لا يكون المرء متعلّقاً بالدنيا وحطامها، وآخذاً بها على وجه

__________________

(١ و ٢) اُصول الكافي ١: ٢٧ و ٣٩.

٣١٤

الغاية والهدف فإنّ من جعل الدنيا وزبارجها غايته وهدفه، جعلها همّته، ومن جعلها همّته تجاوز الحدود وضيّع الحقوق، ونسي رعيّته وضيّع من ولي أمرهم فخسرهم، وضيّع مودّتهم.

إنّ على المسؤول الحكوميّ أن يجعل الزهد نصب عينيه فيأخذ من الدنيا ما يكفيه. ومن كان كذلك لم يمدّ عينيه إلى أموال الناس حبّاً في العاجلة، وغفلة عن الآجلة وكان جديراً بأن يراعي أضعف الناس. فلا يضيع منهم حقّاً ولا يغفل فاقة وفقراً ولذلك قال الإمام عليّعليه‌السلام في كلام له: « إنّ الله فرض على أئمّة العدل أن يقدروا معيشتهم على قدر ضعفة الناس كيلا يتبيّغ بالفقير فقرهُ »(١) .

ونجده يوبّخ أحد ولاته ـ وهو عثمان بن حنيف ـ لأنّه دعي إلى وليمة فأجاب لأنّ ذلك ـ في نظر الإمام عليّ يعرّض الوالي والمسؤول الحكوميّ لخطر الإنبهار بحطام الدنيا وبريقها وهو أمر فيه ما فيه من العواقب مضافاً إلى تضييع محتمل لحقّ الحاضر: « أمّا بعدُ يا بن حنيف فقد بلغني أنّ رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان، وما ظننت أنّك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوّ، وغنيُّهم مدعوّ فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم فما اشتبه عليك علمه فالفظه وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه.

ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنورعلمه ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك فأعينوني بورع، واجتهاد وعفّة وسداد، فوالله ما كنزت من دنياكم تبراً ولا ادّخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طِمراً ولا حزت من أرضها شبراً، ولا أخذت منه إلّا كقوتِ أتانٍ دَبِرة ولهي في عيني أوهى وأوهن من عفصة مقرة »(٢) .

إنّ الزهد الذي يتحلّى به الحاكم والمسؤول الإداريّ هو الذي يمنعه من أن يمدّ عينيه إلى أموال الناس وأشيائهم وهو الذي يجعله يحس بآلام الرعيّة وحاجاتها ،

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة (٢٠٧).

(٢) نهج البلاغة: الخطبة (٤٥).

٣١٥

ونواقصها وإنّ أسوأ ما يعاني منه عالمنا اليوم هو جشع الحكّام وحرصهم على الدنيا، وتعلّقهم الشديد بحطامها، الذي يسوّغون في سبيله كلّ حرام ويرتكبون كلّ معصية، ويقترفون كلّ جريمة.

إنّ الزهد هو العامل الفعال الذي يردع عن اقتحام الشبهات فضلاً عن نيل الحرام.

هذه هي أهمّ الشروط والمواصفات المعتبرة في أعضاء السلطة التنفيذيّة، وهي مواصفات إن توفّرت فيهم سلمت هذه السلطة من الآفات الجسيمة التي تعاني منها أنظمة الحكم، والحكومات الراهنة. وتتخلّص الشعوب من العناء والعذاب الذي تلقاه على أيدي الحكام والمسؤولين، بدل أن تنال على أيديهم السعادة والخير والرفاه.

ولا شكّ أنّ هذه المواصفات تتوفّر ـ في الأغلب ـ في المسلم المؤمن العارف بدينه، ولذلك يتعيّن تقديمه على غيره في تفويض المسؤوليّات الحكوميّة إليه.

غير أنّه لا بدّ من التنبيه ـ بعد ذكر هذه المواصفات ـ إلى نقطة هامة وهي: أنّ صلاحيّة المسؤول الحكوميّ وحدها لاتكفي في استقامة الاُمور وصلاح الرعيّة وعمارة البلاد وتقدمها، بل لا بدّ إلى جانب ذلك من أن يتحلى المسؤول بالصفات الأخلاقيّة العليا كالحلم والصبر والأناة، والعطف والشفقة وغير ذلك من نبيل الأخلاق.

بيد أنّ الأهمّ من ذلك كلّه هو ( طاعة الرعيّة للحاكم الصالح ) والانقياد لأوامره، لأنّ الحاكم غير المطاع لا يمكن أن يقيم أمناً، أو ينشر عدلاً، فلا رأي لمن لا يطاع كما قال النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وإليك مفصّل الكلام في هذا الأمر :

إطاعة الحاكم الصالح

إنّ نفوذ السلطة التنفيذيّة، يتقوّم بطاعة الناس لها وإلاّ صار وجود السلطة هذه لغواً، لا فائدة فيه ولا أثر له ولذلك وردت عن النبيّ العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة الطاهرين أحاديث كثيرة تحثّ على طاعة الحاكم الصالح، وصاحب السلطة العادل :

٣١٦

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « طاعة السُّلطان [ أي صاحب السلطة العادل ] واجبة، ومن ترك طاعة السُّلطان فقد ترك طاعة الله عزّ وجلّ »(١) .

وقد خطب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم في مسجد الخيف وقال: « نضّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلّغها من لم يسمعها فربّ حامل فقه غير فقيه، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه.

ثلاثة لا يغلُّ عليهنّ قلب امرئ مسلم :

إخلاص العمل لله

والنّصيحة لأئمّة المسلمين.

واللّزوم لجماعتهم فإنّ دعوتهم محيطة من ورائهم: المسلمون اخوة تتكاتفأ دماؤهم ويسعى بذمّتهم أدناهم »(٢) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « لا تختانوا ولاتكم، ولا تغشّوا هداتكم ولا تجهلوا أئمّتكم، ولا تصدّعوا عن حبلكم فتفشلوا وتذهب ريحكم وعلى هذا فليكن تأسيس اُموركم والزموا هذه الطريقة »(٣) .

وقال الإمام عليّ بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام في رسالة الحقوق: « فأمّا حقٌّ سائسك بالسلطان فأن تعلم أنّك جعلت له فتنةً وأنّه مبتلى بك بما جعله الله له عليك من السُّلطان، وأن تخلص له في النّصيحة وأن لا تماحكه وقد بسطت يده عليك فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه »(٤) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « أيّها النّاس إنّ لي عليكم حقّاً ولكم عليّ حقٌّ :

فأمّا حقّكم عليّ فالنّصيحة لكم وتوفير فيئكم وتعليمكم كيلا تجهلوا وتأديبكم كيما تعلموا.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١١: ٤٧٢.

(٢ و ٣) الكافي ١: ٢٣٢ ـ ٢٣٣، ٢٣٥.

(٤) مكارم الأخلاق للطبرسيّ: ١٨٧.

٣١٧

وأمّا حقّي عليكم فالوفاء بالبيعة والنّصيحة في المشهد والمغيب والإجابة حين أدعوكم والطاعة حين آمركم »(١) .

ولمّا سئل الإمام الباقر محمّد بن عليّعليه‌السلام : ما حقّ الإمام على الناس ؟ قال: « حقُّه عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا ».

فقيل: فما حقُّهم عليه ؟ قال: « يقسّم بينهم بالسّويّة ويعدل في الرّعيّة »(٢) .

وقال الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام : « إنّ السُّلطان العادل بمنزلة الوالد الرّحيم فأحبُّوا له ما تحبُّون لأنفسكم واكرهوا له ما تكرهون لأنفسكم »(٣) .

وعن أبي سعيد الخدري، قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سُلطان جائر »(٤) .

إنّ طاعة الشعب للحكّام الصالحين والإخلاص لهم وإنفاذ أوامرهم يشكّل عاملاً أساسيّاً في نجاح الحكومة الإسلاميّة وموفقيّتها في إدارة البلاد على أحسن وجه.

إنّ السلطة التنفيذيّة في الحكومة الإسلاميّة ليست جهازاً غريباً عن الشعب فليس أعضاؤها جماعة تسلّطت على الناس بالقهر والغلبة بل هم خزّان الرعيّة وخدّامها واُمناء الشعب على الحكم والسلطة وهذا يجعل طاعة الولاة واجباً مقدّساً مفروضاً على الناس يسألون عنه ويعاقبون على تركه وهذا هو سبب نجاح الحكومة الإسلاميّة وعلّة بقائها، واستمرارها.

هذا وإنّ الأحاديث التي ذكرناها في باب طاعة الرعيّة للولاة، تدلّ بصورة ضمنيّة على ضرورة وجود هذه السلطة في الحياة الإسلاميّة ولزوم إيجادها أيضاً.

إنّ ما ذكرناه لك من الأحاديث في باب طاعة الحاكم العادل والراعي الصالح

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة (٣٣).

(٢) الكافي ١: ٣٣٤.

(٣) وسائل الشيعة ١١: ٤٧٢.

(٤) رواه الترمذيّ ١: ٢٣٥ كما في جامع الاُصول ( الطبعة الاُولى ).

٣١٨

والسلطة التنفيذيّة الصالحة ؛ ما هو إلّا قليل من كثير تجده في المجاميع الحديثيّة كما في أبواب الحجّة من اُصول الكافي، وأبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من وسائل الشيعة ورسائل الإمام عليّ وعهوده في نهج البلاغة.

لا طاعة للحاكم الجائر

ثمّ إنّ ها هنا أمراً لابدّ من التنبيه عليه وهو أنّه قد تُنقل أحاديث وروايات تدلّ على وجوب إطاعة مطلق الحاكم والخضوع لمطلق السلطات عادلة كانت أو ظالمة، صالحة كانت أو جائرة وإليك فيما يأتي بعض هذه الروايات :

١. ما رووه عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « لا تسبُّوا الولاة فإنّهُم إن أحسنُوا كان لهُم الأجر وعليكُمُ الشُّكر وإن أساؤوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر، وإنّما هم نقمة ينتقم الله بهم ممّن يشاء فلا تستقبلوا نقمة الله بالحميّة واستقبلوها بالاستكانة والتضرُّع »(١) .

٢. ما رووه عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً أنّه قال: « سيأتيكم ركب مبغوضون يطلبون منكم ما لا يجب عليكم فإذا سألوا ذلك فاعطوهم ولا تسبُّوهم وليدعوا لكم »(٢) .

٣. ما رواه سلمة عن النبيّ لـمّا سأل النبيّ قائلاً: يا نبيّ الله أرأيت إن قامت علينا اُمراء يسألونا حقّهم ويمنعونا حقّنا فما تأمرنا ؟ فأعرض عنه، ثمّ سأله فأعرض عنه، ثمّ سأله في الثالثة فجذبه الأشعث بن قيس، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « اسمعوا وأطيعوا فإنّما عليهم ما حمّلوا وعليكم ما حمّلتم »(٣) .

٤. ما رواه ابن مسعود عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « إنّها ستكون بعدي إثرة واُمور تنكرونها »، قالوا يا رسول الله: كيف تأمر من أدرك ذلك منّا ؟

__________________

(١) النظام السياسيّ في الإسلام: ١١٤، نقلاً عن الخراج لأبي يوسف.

(٢) النظام السياسيّ في الإسلام: ١١٤، نقلاً عن سنن أبي داود.

(٣) رواه مسلم ونقله جامع الاُصول ٤: ٦٤.

٣١٩

قال: « تؤدوُّن الحقّ الذّي عليكم، وتسألون الله الذّي لكم »(١) .

إنّها إذن دعوة إلى السكوت على الظالم والرضا بما يفعل ؟!!

٥. وما رواه عوف عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ قال: « شرار اُمّتكم الذّين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم »، قلنا يا رسول الله أفلا ننابذهم [ عند ذلك ؟ ].

قال: « لا ما أقاموا فيكم الصّلاة، لا ما أقاموا فيكم الصّلاة، ألا من ولّي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعنّ يداً من طاعة »(٢) .

٦. ما روته اُمّ سلمة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « إنّه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون ما تنكرون فمن كره فقد بريء ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضى وتابع ».

قالوا: أفلا نقاتلهم ؟

قال: « لا ما صلُّوا »(٣) .

وهكذا تبدو من هذه الروايات الدعوة إلى السكوت على فعل الظالم والحاكم الجائر والرضا بأفعاله المخالفة للدين والعدل، والاكتفاء بالصلاة فهو ما دام يصلّي جاز له أن يفعل ما يفعل، وأن يخالف كتاب الله وسنّة نبيّه !!!

٧. ما رواه ابن عباس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « من كره من أميره شيئاً فليصبر فإنّه من خرج من طاعة السلطان شبراً مات ميتةً جاهليّةً »(٤) .

ولكن هذه الروايات وهذه الدعوة مردودة ومدفوعة بما ورد في الكتاب الكريم من النهي عن المنكر، والردّ على الظالم، والضرب على يده وعدم الركون إليه كقوله تعالى:( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) ( هود: ١١٣ ).

__________________

(١) جامع الاُصول ٤: ٦٤، نقلاً عن مسلم والترمذيّ.

(٢) جامع الاُصول ٤: ٦٧، نقلاً عن مسلم.

(٣) جامع الاُصول ٤: ٦٨، نقلاً عن مسلم وأبي داود والترمذيّ.

(٤) جامع الاُصول ٤: ٦٩، نقلاً عن البخاريّ ومسلم.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409