الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)14%

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 409

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 207450 / تحميل: 8950
الحجم الحجم الحجم
الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

العباسية، وكانت شيعية، وإن لم يرها الإمامية من الشيعة. ولمْ يَقُمْ بمناصرتها الأئمة وخاصتهم، ولكنهم لم يكونوا كارهين لها، ولا ساخطين عليها، ولا عاملين على مناهضتها، ولا داعين في السر والعلانية على إحباطها، بل هم راضون بها في ذات سرهم لقضائها إذا ظفرت على المظالم الأموية، وظفرها متيقن، ولتوقعهم منها الأخذ بثاراتهم، ولتوقعهم منها أُفُقاً واسعاً لنشر تعاليمهم الدينية.

ولم يكن لهذا الفريق الصالح من آل علي وفاطمة مطمع في الخلافة، وطموح إليها، وإن كانوا أحق الناس بها ويرون كما عرفت أنها غير صائرة إليهم.

إنك لترى كيف رفض أبو عبد الله جعفر بن محمد دعوة أبي سلمة حفص بن سليمان، حين أراد صرف الدعوة عن بني العباس - بعد مقتل إبراهيم الإمام وهو بالكوفة يملك ناصية الجيش - إلى بني علي، وقد كتب إليه بذلك كما كتب إلى عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، بل أحرق الكتاب قبل أن يعلم ما فيه، بحيث يرى ذلك رسول أبي سلمة. ونصح عبد الله بن الحسن، وقد جاءه بكتاب أبي سلمة، يدعوه كما دعا أبا جعفر برفض قبول الدعوة ويحذّره عقباها.

وكذلك منع محمد الباقر أخاه زيداً من الخروج على هشام بن عبد الملك، ولم يكن خروجه للطلب بالإمامة وهو يعلم أنها لأخيه الباقر، بل كان خروجه كما علّله ابن خلدون، وكما هو واقع الحال، داعياً للكتاب والسنة، وإلى جهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، والعدل في قسمة الفيء، وردّ المظالم، وأفعال الخير، ونصر أهل البيت.

وقد رفض علي بن الحسين (زين العابدين) دعوة المختار له، وقد قام يطالب بثأر أبيه، وأخذ يدعو لأهل الثغور، والعهد عهد عبد الملك بن مروان، ودماء أهل بيته بعد لم تجفّ، يدعو لهم بالنصر والتمكين.

وانظر كيف حمل المأمون عليّ بن موسى الرضا على قبول ولاية عهده التي لم يقبلها مختاراً.

يعلم أئمة أهل البيت أن الأمة وقد انغمست في حمأة الدنيا، وألقت

٦١

إليهم الأرض الغضّاء بأفلاذ أكبادها، وتفتحت لهم عن كنوزها، ودانت لسلطانهم الواسع الأمم والشعوب، وخفق لواؤهم على أقاليم الشرق والغرب، هيهات أن يُساسوا بعد ذلك بسياسة الإمامة الدينية، وفي هذه السياسة وقد اشرأبت أعناق المسلمين إلى الدنيا، وما العهد عن سياسة النبوّة الدينية وعن سياسة الخلفاء الراشدين ببعيد، ساور الانتقاض من هنا وهناك خلافة جدهم علي، وما كان يجهل أفانين السياسة وضروبها، وما كان بالجبان ولا بالعاجز الوكل.

كل ذلك كان من آيات فوز الدعوة العباسية على الدعوة العلوية التي لم يقم بها إلاّ فريق منهم، لا يؤيده ذلك الفريق الصالح وإن بدئت الدعوة في أول الأمر بمحمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.

وكيف بعد توفّر هذه الأسباب لنجاح الدعوة العباسية لا يتفرّس المتفرّسون بمصير الأمر إليهم؟

على أن الدعوة العلوية الضئيلة قد حاربها دعاة بني العباس، وحسبك أن أبا مسلم داعيتهم هو الذي قتل عبد الله بن معاوية بن جعفر الذي دعا إلى نفسه بالكوفة، ثم خرج هارباً منها ومن البلاد التي بايعته بعد غلبته إلى خراسان.

وإنك لترى مثل هذا التفرّس والإرهاص لدولة قامت، فترى مثله لبني أمية، وبني بويه، ولكافور الاخشيدي، ولبني إدريس، وللفاطميين.

وسواء أصح كل ما تفرّس به المتفرّسون أم لم يصحّ، فإن من مجموع ما ذكرناه من حديث وخبر، ومن أسباب قريبة وبعيدة، ومن سياسة رشيدة كان يقوم بها بنو العباس ومن انضمّ إليهم من بني علي وشيعتهم، واتساع خراسان الإقليم الواسع لنشر الدعوة وهو الإقليم الذي لم تغمره العصبيّة للقبيل الأمويّ، جعلت لتلك الإرهاصات وذلك التفرس مكانهما من الإصابة.

والله غالب على أمره وإليه مصير الأمور.

٦٢

تاريخ الفاطميين

دول الشيعة العلويين في المغرب

قال ابن خلدون(١) : (بعد إلمامة قصيرة بما جرى لشيعة علي (عليه السلام) بالكوفة، ومَوجِدتِهم على الحسن، واضطراب الأمر على زياد بالكوفة من أجلهم، ومقتل من كان يتولى كِبَر ذلك كحِجْر بن عَدِيّ وأصحابه، واستدعاء الكوفيين الحسين، بعد وفاة معاوية، ومقتله، وندم الشيعة على قعودهم عن مناصرته، وخروجهم بعد وفاة يزيد، وبيعة مروان، ثم خروج المختار بن أبي عُبَيْد الثقفي للمطالبة بدم الحسين (عليه السلام)، ودعوته لمحمد بن الحنفيّة، واتّباع جموعة من الشيعة له، وقتل المختار لزياد، ثم نقمة محمد بن الحنفية عليه من أحوالٍ بلغته عنه، وكتابته إليه بالبراءة منه)، إلى أن قال:

(ثم استدعى الشيعة من بعد ذلك زيد بن علي بن الحسين إلى الكوفة أيام هشام بن عبد الملك، فقتله صاحب الكوفة يوسف بن عمر وصلبه، وخرج إليه ابنه يحيى بالجوزجان من خراسان، فقتل وصلب كذلك، وطّلّت دماء أهل البيت في كل ناحية)(١) .

إلى أن قال:

(ثم اختلف الشيعة وافترقت مذاهبهم في مصير الإمامة إلى العلوية، وذهبوا طرائق قِدَداً، فمنهم الإمامية القائلون بوصية النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لعلي بالإمامة، ويسمونه الوصي بذلك، ويتبرؤون من الشيخين لما منعوه حقه بزعمهم،

____________________

(١) ملخص عن المجلد الرابع من تاريخ ابن خلدون.

٦٣

وخاصموا زيداً بذلك حين دعا بالكوفة. ومن لم يتبرأ من الشيخين رفضوه فسمّوا بذلك رافضة.

ومنهم الزيدية القائلون بإمامة بني فاطمة لفضل علي وبنيه على سائر الصحابة، وعلى شروط يشترطونها، وإمامة الشيخين عندهم صحيحة، وإن كان علي أفضل، وهذا مذهب زيد وأتباعه وهم جمهور الشيعة وأبعدهم عن الانحراف والغلو.

ومنهم الكيسانية نسبة إلى كيسان، يذهبون إلى إمامة محمد بن الحنفية وبنيه من بعد الحسن والحسين، ومن هؤلاء كانت شيعة بني العباس القائلون بوصية أبي هاشم بن محمد بن الحنفية إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بالإمامة.

وانتشرت هذه المذاهب بين الشيعة، وافترق كل مذهب منها إلى طوائف بحسب اختلافهم. وكان الكيسانية شيعة بني الحنفية أكثرهم بالعراق وخراسان.

ولما صار أمر بني أمية إلى اختلال، أجمع أهل البيت بالمدينة وبايعوا بالخلافة سرّاً لمحمد بن عبد الله بن حسن المثنى بن الحسن بن علي وسلم له جميعهم. وحضر هذا العقد أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وهو المنصور، وبايع فيمن بايع له من أهل البيت، وأجمعوا على ذلك لتقدمه فيهم لما علموا له من الفضل عليهم.

ولهذا كان مالك وأبو حنيفة رحمهما الله يحتجّان إليه حين خرج من الحجاز.

ويريدون أن إمامته أصح من إمامة أبي جعفر لانعقاد هذه البيعة من قبل، وربما صار إليه الأمر من عند الشيعة بانتقال الوصية من زيد بن علي.

وكان أبو حنيفة يقول بفضله ويحتج إلى حقه، فتأدت إليه المحنة بسبب ذلك أيام أبي جعفر المنصور حتى ضرب على الفتيا في طلاق المكره، وحُبس أبو حنيفة على القضاء.

ولما انقرضت دولة بني أمية وجاءت دولة بني العباس، وصار الأمر لأبي جعفر المنصور، سعى عنده ببني حسن، وإن محمد بن عبد الله يروم

٦٤

الخروج، وإن دعاته ظهروا بخراسان، فحبس المنصور لذلك بني حسن وأخوته حسن وإبراهيم وجعفر وعلي القائم وابنه موسى بن عبد الله وسليمان وعبد الله ابن أخيه داود، ومحمد وإسماعيل وإسحق بني عمه إبراهيم بن الحسن، في خمسة وأربعين من أكابرهم، وحُبسوا بقصر ابن هبيرة ظاهر الكوفة حتى هلكوا في حبسهم، وأرهبوا لطلب محمد بن عبد الله، فخرج بالمدينة سنة خمس وأربعين، وبعث أخاه إبراهيم إلى البصرة فغلب عليها وعلى الأهواز وفارس، وبعث الحسن بن معاوية إلى مكة فملكها، وبعث عاملاً إلى اليمن، ودعا لنفسه وخطب على منبر النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وتسمّى بالمهدي، وكان يُدعى (النفس الزكية)، وحبس عثمان بن رباح المرّي عامل المدينة، فبلغ الخبر إلى أبي جعفر المنصور فأشفقوا من أمره وكتب إليه كتابه المشهور)(١) .

ثم ذكر نص الكتاب وجواب محمد بن عبد الله وجواب المنصور إلى أن قال:

ثم عقد أبو جعفر على حربه لعيسى ابن عمه موسى بن علي، فزحف إليه في العساكر وقاتله بالمدينة فهزمه، وقتله في منتصف رمضان سنة خمس وأربعين، ولحق ابنه علي بالسند إلى أن هلك هناك، واختفى ابنه الآخر عبد الله الأشتر إلى أن هلك في أخبار طويلة قد استُوفِّيناها كلها في أخبار أبي جعفر المنصور.

ورجع عيسى إلى المنصور، فجهَّزه لحرب إبراهيم أخي محمد بالعيرة(٢) ، فقاتله آخر ذي القعدة من تلك السنة فهزمه وقتله حسبما مر ذكره هنالك، وقتل معه عيسى بن زيد بن علي فيمن قتل من أصحابه.

وزعم ابن قتيبة أن عيسى بن زيد بن علي ثار على المنصور بعد قتل أبي مسلم، ولقيه في مائة وعشرين ألفاً، وقاتله أياماً إلى أن هم المنصور بالفرار. ثم أتيح له الظفر فانهزم عيسى ولحق بإبراهيم بن عبد الله بالبصرة، فكان معه هنالك إلى أن لقيه عيسى بن موسى بن علي وقتلهما كما مر.

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون م٤ ص٤، ٥، ٦ - دار الكتاب اللبناني.

(٢) العيرة: اسم موقع.

٦٥

ثم خرج بالمدينة أيام المهدي سنة تسع وستين من بني حسن، الحسين بن علي بن حسن المثلّث وهو أخو عبد الله بن حسن المثنّى وعم المهدي، وبويع للرضا من آل محمد، وسار إلى مكة، وكتب الهادي إلى محمد بن سليمان بن علي، وقد كان قدم حاجّاً من البصرة، فولاّه حربه يوم الترْوِيَة فقاتله بفجَّة على ثلاثة أميال من مكة وهزمه وقتله، وافترق أصحابه، وكان فيهم عمه إدريس بن عبد الله، فأفلت من الهزيمة مع من أفلت منهم يومئذ، ولحق بمصر نازعاً إلى المغرب، وعلى بريد مصر يومئذ واضح مولى صالح بن المنصور ويُعرف بالمسكين، وكان يتشيع، فعلم بشأن إدريس وأتاه إلى المكان الذي كان به مستخفياً، وحمله على البريد إلى المغرب، ومعه راشد مولاه، فنزل بوليلى سنة ست وسبعين، وبها يومئذ إسحاق بن محمد بن عبد الحميد أمير (أوريه) من قبائل البربر وكبيرهم لعهده، فأجازه وأكرمه، وجمع البربر على القيام بدعوته، وخلع الطاعة العباسية وكشف القناع، واجتمع عليه البرابرة بالمغرب فبايعوه وقاموا بأمره، وكان فيهم مجوس فقاتلهم إلى أن أسلموا.

وملك المغرب الأقصى، ثم ملك تلمسان سنة ثلاث وسبعين، ودخلت ملوك (زِناتة) أجمع في طاعته، واستفحل ملكه وخاطب إبراهيم بن الأغلب صاحب القيروان، وخاطب الرشيد بذلك، فشد إليه الرشيد مولى من موالي المهدي اسمه سليمان بن حريز، ويعرف بالشّماخ، وأنفذه بكتابه إلى ابن الأغلب، فأجازه ولحق بإدريس مظهراً للنزوع إليه فيمن نزع من وحدان المغرب متبرئاً من الدعوة العباسية ومنتحلاً للطالبيين.

واختصه الإمام إدريس وحلى بعينه، وكان قد تأبط سماً في سنون، فناوله إياه عند شكايته من وجع أسنانه، فكان فيها فيما زعموا حتفه.

ودفن ببوليلى سنة خمس وسبعين، وفرّ الشّماخ ولحقه راشد بوادي ملوية، فاختلفا بينهما ضربتين قطع فيهما راشد يده، وأجاز الشّماخ الوادي فأعجزه.

وبايع البرابرة بعد مهلكه ابنه إدريس سنة ثمان وثمانين، واجتمعوا على القيام بأمره، ولحق به كثير من العرب من أفريقية والأندلس.

وعجز بنو الأغلب أمراء أفريقية عنه، فاستفحلت له ولبنيه بالمغرب

٦٦

الأقصى دولة، إلى أن انقرضت على يد أبي العافية وقومه مكناسة أولياء العبيديين أعوام ثلاثة عشر وثلاثمائة حسبما نذكر ذلك في أخبار البربر)(١) .

إلى أن قال:

(ثم خرج يحيى أخو محمد بن عبد الله بن حسن إدريس في الديلم سنة ست وسبعين أيام الرشيد، واشتدت شوكتهم، وسرَّح الرشيد لحربه الفضل بن يحيى فبلغ الطالقان، وتلطّف في استنزاله من بلاد الديلم على أن يشترط ما أحب، ويكتب له الرشيد بذلك خطه، فتم بينهما. وجاء به الفضل فوفى له الرشيد بكل ما أحب، وأجرى له أرزاقاً سنية، ثم حبسه بعد ذلك لسعاية كانت فيه من آل الزبير. فيقال: أطلقه بعدها ووصله بمال، ويقال: سمَّه لشهر من اعتقاله، ويقال: أطلقه جعفر بن يحيى افتياتاً فكان بسببه نكبة البرامكة، وانقرض شأن بني حسن، وخفيت دعوة الزيدية حيناً من الدهر، حتى كان منهم بعد ذلك باليمن والديلم ما نذكره والله غالب على أمره)(٢) .

الخبر عن خروج الفاطميين بعد فتنة بغداد

(كانت الدولة العباسية قد تمهّدت من لدن أبي جعفر المنصور منهم. وسلك أمر الخوارج والدعاة من الشيعة من كل جهة، حتى إذا هلك الرشيد ووقع بين بنيه من الفتنة ما وقع، وقتل الأمين بيد طاهر بن الحسين ووقع في حصار بغداد من الحرب والعبث ما وقع.

وبقي المأمون مقيماً بخراسان تسكيناً لأهلها عن ثائرة الفتن، وولّى على العراق الحسن بن سهل.

اتّسع الخرق حينئذ بالعراق، وأشيع عن المأمون أن الفضل بن سهل غلب عليه وحجره، فامتعض الشيعة لذلك وتكلموا، وطمع العلوية في التوثب على الأمر، فكان في العراق أعقاب إبراهيم بن محمد بن حسن المثنى المقتول بالبصرة أيام المنصور، وكان منهم محمد بن إسماعيل بن

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون م٤ ص١٢، ١٣، ١٤.

(٢) تاريخ ابن خلدون م٤ ص١٤، ١٥.

٦٧

إبراهيم، (ولقبه أبوه طباطبا لِلَكْنَةٍ كانت في لسانه أيام مرباه بين داياته)، فلُقب بها.

وكان شيعته من الزيدية وغيرهم يدعون إلى إمامته؛ لأنها كانت متوارثة في آبائه من إبراهيم الإمام جده على ما قلناه في خبره، فخرج سنة تسع وتسعين، ودعا لنفسه. ووافاه (أبو السرايا السريّ بن منصور) كبير بني شيبان، فبايعه، وقام بتدبير حربه، وملك الكوفة وكثر تابعوه من الأعراب وغيرهم.

وسرح الحسن بن سهل زهير بن المسيب لقتاله، فهزمه طباطبا، واستباح معسكره، ثم مات محمد في صبيحة ذلك اليوم فجأة، ويقال: إن أبا السرايا سمّه لما منعه من الغنائم. فبايع أبو السرايا يومه لمحمد بن محمد بن زيد بن علي زين العابدين، واستبدّ عليه. وزحفت عليهم جيوش المأمون فهزمهم أبو السرايا، وملك البصرة وواسط والمدائن.

وسرح الحسن بن سهل لحربه (هِرثَمَة بن أَعْيُن) وكان مغضباً، فاسترضاه وجهّز له الجيوش. وزحف إلى أبي السرايا وأصحابه، فغلبهم على المدائن وهزمهم وقتل منهم خلقاً.

ووجه أبو السرايا إلى مكة (الحسين الأفطس) بن الحسن بن علي زين العابدين، وإلى المدينة محمد بن سليمان بن داود بن الحسن المثنَّى بن الحسن، وإلى البصرة زيد بن موسى بن جعفر الصادق، وكان يُقال له: زيد النار لكثرة من أحرق من الناس بالبصرة.

فملكوا مكة والمدينة والبصرة، وكان بمكة مسرور الخادم الأكبر، وسليمان بن داود بن عيسى. فلما أحسوا بقدوم الحسين فرّوا عنها، وبقي الناس في الموقف فوضى. ودخلها الحسين من الغد، فعاث في أهل الموسم ما شاء الله، واستخرج الكنز الذي كان في الكعبة من عهد الجاهلية، وأقرّه النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والخلفاء بعده، وقدرُهُ فيما قيل مائتا قنطار اثنتان من الذهب. فأنفقه وفرقه في أصحابه ما شاء الله.

ثم إن هرثمة واقع أبا السرايا فهزمه، ثم بحث عن منصور بن المهدي فكان أميراً معه، واتبع أبا السرايا فغلبه على الكوفة، وخرج إلى القادسية ثم إلى واسط. ولقيه عاملها وهزمه، ولحق بجلولا مغلولاً جريحاً، فقبض

٦٨

عليه عاملها وقدمه إلى الحسن بن سهل بالنَهروان، فضرب عنقه، وذلك سنة مائتين.

وبلغ الخبر الطالبيين بمكة، فاجتمعوا وبايعوا محمد بن جعفر الصادق.

وسمُّوه أمير المؤمنين، وغلب عليه ابناه علي وحسين، فلم يكن يملك معهما من الأمر شيئاً.

ولحق إبراهيم ابن أخيه موسى الكاظم بن جعفر الصادق باليمن في أهل بيته، فدعا لنفسه هنالك، وتغلّب على الكثير من بلاد اليمن، وسُمّي الجزّار لكثرة ما قتل من الناس.

وخلص عامل اليمن وهو إسحاق بن موسى بن عيسى إلى المأمون، فجهَّزه لحرب هؤلاء الطالبيين، فتوجه إلى مكة وغلبهم عليها.

وخرج محمد بن جعفر الصادق إلى الأعراب بالساحل، فاتبعهم إسحق وهزمهم، ثم طلبهم. وطلب محمد الأمان فأمنه، ودخل مكة وبايع للمأمون، وخطب على المنابر بدعوته.

وسابقته الجيوش إلى اليمن فشرّدوا عنه الطالبيين، وأقاموا فيه الدعوة العباسية.

ثم خرج (الحسين الأفطس) ودعا لنفسه بمكة، وقتله المأمون، وقتل ابنيه عليّاً ومحمداً.

ثم إن المأمون لما رأى كثرة الشيعة واختلاف دعائهم، وكان يرى مثل رأيهم أو قريباً منه في شأن عليٍّ والسبطين، فعهد بالعهد من بعده لعلي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق سنة إحدى ومائتين.

وكتب بذلك إلى الآفاق، وتقدم إلى الناس، فنزع السواد ولبس الخضرة. فحقد بنو العباس ذلك من أمره، وبايعوا بالعراق لعمّه إبراهيم بن المهدي سنة اثنتين ومائتين. وخطب له ببغداد، وعظمت الفتنة.

وشخص المأمون من خراسان متلافياً أمر العراق، وهلك علي بن موسى في طريقه فجأةً، ودفن بطوس سنة ثلاث ومائتين. ووصل المأمون إلى

٦٩

بغداد سنة أربع ومائتين، وقبض على عمه إبراهيم وعفا عنه وسكّن الفتنة.

وفي سنة تسع ومائتين خرج باليمن عبد الرحمان بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، يدعو للرضا من آل محمد، وبايعه أهل اليمن، وسرّح إليه المأمون مولاه ديناراً، واستأمن له فأمنه، وراجع الطاعة.

ثم كثر خروج الزيدية من بعد ذلك بالحجاز والعراق والجبال والديلم، وهرب منهم إلى مصر خلق، وأُخذ منهم خلق.

وتتابع دعاتهم، فأول من خرج منهم بعد ذلك محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن زين العابدين، هرب خوفاً من المعتصم سنة تسع عشرة ومائتين، وكان بمكان من العبادة والزهد، فلحق بخراسان ثم مضى إلى الطلقان، ودعا بها لنفسه، واتبعته أمم الزيدية كلهم.

ثم حاربه عبد الله بن طاهر صاحب خراسان فغلبه وقبض عليه وحمله إلى المعتصم فحبسه حتى مات. ويقال: إنه مات مسموماً.

ثم خرج عبد الله بن طاهر صاحب خراسان فغلبه وقبض عليه وحمله إلى المعتصم فحبسه حتى مات. ويقال: إنه مات مسموماً.

ثم خرج من بعده الكوفة أيضاً الحسين بن محمد بن حمزة بن عبد الله بن الحسين الأعرج بن علي بن زين العابدين، واجتمع إليه الناس من بني أسد وغيرهم من جموعه وأشياعه، وذلك سنة إحدى وخمسين ومائتين.

وزحف إليه (ابن بشكال) من أمراء الدولة فهزمه، ولحق بصاحب الزنج، فكان معه.

وكاتبه أهل الكوفة في العود إليه، وظهر عليه صاحب الزنج فقتله.

وكان خروج صاحب الزنج بالبصرة قبله بقليل، واجتمعت له جموع العبيد من زنج البصرة وأعمالها، وكان يقول في لفظه من أعلمه: إنه من وُلد عيسى بن زيد الشهيد، وأنه علي بن محمد بن زيد بن عيسى، ثم انتسب إلى يحيى بن زيد الشهيد. والحقّ أنه دعي النسب في أهل البيت كما نذكره في أخباره.

وزحف إليه الموفّق أخو المعتمد، ودارت بينه وبينهم حروب إلى أن قتله ومحا أثر تلك الدعوة كما قدمناه في أخبار الموفّق ونذكره في أخبارهم.

٧٠

ثم خرج في الديلم من وُلده الحسن بن زيد بن الحسن السبط الداعي المعروف بالعلوي، وهو الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن، خرج لخمس وخمسين ومائتين، فملك طَبَرْستانَ وجَرْجان وسائر أعمالها. وكانت له ولشيعته الزيدية دولة هناك. ثم انقرضت آخر المائة الثالثة، وورثها من وُلد الحسن السبط،ثم من وُلده عمر بن علي بن زين العابدين الناصر الأطروش، وهو الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن عمر، وهو ابن عم صاحب الطالقان.

أسلم الديلم على يد هذا الأطروش، وملك بهم طبرستان وسائر أعمال الداعي، وكانت له ولبنيه هناك دولة، وكانوا سبباً لملك الديلم البلاد وتغلبهم على الخلفاء، كما نذكر ذلك في أخبار دولتهم.

ثم خرج باليمن من الزيدية من وُلد القاسم الرسيّ بن إبراهيم طباطبا أخي محمد صاحب أبي السرايا عام ثمانية وثمانين ومائتين، يحيى بن الحسين بن القاسم الرسّي، فاستولى على صعدة، وأورث عقبه فيها ملكاً فاقياً لهذا العهد، وهي مركز الزيدية في أخبارهم. وفي خلال ذلك خرج بالمدينة الأخوان محمد وعلي ابنا الحسن بن جعفر بن موسى الكاظم، وعاثا في المدينة عيثاً شديداً، وتعطّلت الصلاة بمسجد النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) نحواً من شهر، وذلك سنة إحدى وسبعين ومائتين.

ثم ظهر في المغرب من دعاة الرافضة (أبو عبد الله الشيعي) في (كتامة) من قبائل البربر عام ستة وثمانين ومائتين، داعياً لعبيد الله المهدي محمد بن جعفر بن محمد بن إسماعيل الإمام بن جعفر الصادق، فظهر على الأغالبة بالقيروان، وبايع لعبيد الله المهدي سنة ست وتسعين ومائتين، فتمّ أمره وملك المغربين، واستفحلت له دولة بالمغرب ورثها بنوه.

ثم استولوا بعد ذلك على مصر سنة ثمانٍ وخمسين وثلاثمائة، فملكها منهم (المعزّ لدين الله) معد بن إسماعيل بن أبي القاسم بن عبيد الله المهدي، وشيّد القاهرة، ثم ملك الشام واستفحل ملكه إلى أن انقرضت دولتهم على (العاضد) منهم على يد صلاح الدين بن أيوب سنة خمس وستين وخمسمائة.

٧١

ثم ظهر في سواد الكوفة(١) سنة ثمانٍ وخمسين ومائتين، من دعاة الرافضة رجل اسمه الفرج بن يحيى ويُدعى (قرمط)، بكتاب زعم أنه من عند أحمد بن محمد بن الحنفيَّة فيه كثير من كلمات الكفر والتحليل والتحريم، وادّعى أن أحمد بن الحنفيَّة هو المهدي المنتظر. وعاث في بلاد السواد، ثم في بلاد الشام، وتلقب (وَكْرَوَيْه بن مَهْرَوَيْه). واستبدّت طائفة منهم بالبحرين ونواحيها، ورئيسهم أبو سعيد الجناجيّ، وكان له هناك ملك ودولة أورثها بنيه من بعده، إلى أن انقرضت أعوامهم كما يذكر في أخبار دولتهم.

وكان أهل البحرين هؤلاء يرجعون إلى دعوة العُبَيْديّين بالمغرب وطاعتهم.

ثم كان بالعراق من دعاة (الاسماعيلية) وهؤلاء الرافضة طوائف أُخرى، واستبدوا بكثير من النواحي، وتنسب إليها فيها القلاع: قلعة الموت وغيرها.

وينسبون تارة إلى (القرامطة) وتارة إلى (العبيديين). وكان من رجالاتهم الحسن بن الصبّاح في قلعة الموت وغيرها، إلى أن انقرض أمرهم آخر الدولة السلجوقية.

وكان باليمامة ومكة والمدينة من بعد ذلك دول للزيدية والرافضة، فكان باليمامة دولة لبني الأخضر وهو محمد بن يوسف بن إبراهيم بن موسى الجون بن عبد الله بن حسن المثنَّى. خرج أخوه إسماعيل بن يوسف في بادية الحجاز سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وملك مكة ثم مات، فمضى أخوه محمد إلى اليمامة فملكها، وأورثها لبنيه إلى أن غلبهم القرامطة.

وكان بمكة دولة لبني سليمان بن داود بن الحسن المثنّى، خرج محمد بن سليمان أيام المأمون وتسمّى بالناهض، وملك مكة، واستقرت إمارتها في بنيه إلى أن غلبهم عليها الهواشم، وكبيرهم محمد بن جعفر بن أبي هاشم محمد بن الحسن بن محمد بن موسى بن عبد الله أبي الكرام بن

____________________

(١) سواد الكوفة: ما حولها من القرى. ومنه سواد العراق لما بين البصرة والكوفة ولما حولهما من القرى.

٧٢

موسى الجون، فملكها من إبراهيم سنة أربع وخمسين وأربعمائة. وغلب بني حسن على المدينة، وداول الخطبة بمكة بين العباسيين والعبيديين. واستفحل ملكه في بنيه إلى أن انقرضوا آخر المائة السادسة.

وغلب على مكة بنو أبي قمي أمراؤها لهذا العهد، ملك أولهم أبو عزيز قتادة بن إدريس مطاعن بن عبد الكريم بن موسى بن عيسى بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن موسى الجون. وورث دولة الهواشم وملكهم وأورثها بنيه إلى هذا العهد كما تذكر في أخبارهم، وهؤلاء كلهم زيدية.

وبالمدينة دولة للرافضة لولد الهناء، قال المسَبِّحي: (اسمه الحسن بن طاهر بن مسلم. وفي كتاب العُتبي مؤرخ دولة (ابن سَبَكْتكين) أن مسلماً اسمه محمد بن طاهر وكان صديقاً لكافور ويدبّر أمره وهو من ولد الحسن بن عليّ زين العابدين.

واستولى طاهر بن مسلم على المدينة أعوام ستين وثلاثمائة، وأورثها بنيه لهذا العهد كما نذكر في أخبارهم)(١) .

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون م٤ ص١٥ إلى ٢٣.

٧٣

الأدارسة في المغرب

مبدأ دولتهم وانقراضها

(لما خرج حسين بن علي بن حسن المثلّث بن حسن المثنّى بن الحسن السبط بمكة في ذي القعدة سنة ست وتسعين ومائة أيام المهدي، واجتمع عليه قرابته وفيهم عماه إدريس ويحيى، وقاتلهم محمد بن سليمان بن عليّ بعجة على ثلاثة أميال من مكة، فقتل الحسين في جماعة من أهل بيته، وانهزموا وأُسر كثير منهم، ونجا يحيى بن إدريس وسليمان. ظهر يحيى بعد ذلك في الديلم. وقد ذكرنا خبره من قبل وكيف استنزله الرشيد وحبسه)(١) .

وأمّا إدريس ففر ولحق بمصر، وتم له ملك المغرب كما سبق بيانه، وقتل مسموماً (وكان قد جمل(٢) من دعوته في ابنه إدريس الأصغر من جاريته كنزة، بايعوه حملاً ثم رضيعاً ثم فصيلاً إلى أن شبّ واستتم فبايعوه بجامع (وليلى) سنة ثمان وثمانين ابن إحدى عشرة سنة. وكان ابن الأغلب دس إليهم الأموال واستمالهم حتى قتلوا راشداً مولاه سنة ست وثمانين.

وقام بكفالة إدريس من بعده أبو خالد بن يزيد بن الياس العبدي، ولم يزل كذلك إلى أن بايعوا لإدريس، فقاموا بأمره، وجردوا لأنفسهم رسوم الملك بتجديد طاعته، وافتتحوا بلاد المغرب كلها، واستوثق لهم الملك

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ ص٢٣.

(٢) جمل: ربما كان المقصود بها (صحف) أو (جنب).

٧٤

بها. واستوزر إدريس مصعب بن عيسى الأزدي المسمّى بالملجوم من ضربة في بعض حروبهم وَسَمَتْه على الخرطوم وكأنها خِطام(١) . ونزع إليه كثير من قبائل العرب والأندلس، حتى اجتمع إليه منهم زهاء خمسمائة، فاختصهم دون البربر، وكانوا له بطانة وحاشية، واستفحل بهم سلطانه.

ثم قتل كبير أوربة إسحاق بن محمود سنة اثنتين وتسعين لما أحسّ منه بموالاة إبراهيم بن الأغلب.

وكثرت غاشية(٢) الدولة وأنصارها وضاقت (وليلى) بهم، فاعتام موضعاً لبناء مدينة لهم، وكانت (فاس) موضعاً لبني بوغش وبني الخير من وزاعة. وكان في بني بوغش مجوس ويهود ونصارى، وكان موضع شيبوبة منها بيت نار لمجوسهم.

وأسلموا كلهم على يده، وكانت بينهم فتن، فبعث للإصلاح بينهم كاتبه أبا الحسن عبد الملك بن مالك الخزرجيّ ثم جاء إلى فاس، وضرب أبنيته بكزواوه، وشرع في بنائها، فاختطّ عدوة الأندلس سنة اثنتين وتسعين. وفي سنة ثلاث وتسعين اختطّ عدوة القرويين، وبنى مساكنه، وانتقل إليها، وأسّس جامع الشرفاء، وكانت عدوة القرويين من لدن باب السلسلة إلى غدير الجوزاء والجرف.

واستقام له أمر الخلافة وأمر القائمين بدعوته وأمر العز والملك. ثم خرج غازياً للمصامدة سنة سبع وتسعين، فافتتح بلادهم، ودانوا بدعوته، ثم غزا تلمسان وجدّد بناء مسجدها وإصلاح منبرها، وأقام بها ثلاث سنين.

وانتظمت كلمة البرابرة وزناتة، ومحوا دعوة الخوارج منهم واقتطع الغربيين عن دعوة العباسيين من لدن الشموس الأقصى إلى شلف(٣) ).

إلى أن قال:

____________________

(١) خِطام: حبل يجعل في عنق البعير ويُثنى في خَطْمِه، كل ما وُضع في أنف البعير ليُقاربه.

(٢) غاشية الدولة: خدم الدولة. وغاشية فلان: زواره وأصدقاؤه ينتابونه.

(٣) تاريخ ابن خلدون: م٤ ص٢٥، ٢٦، ٢٧.

٧٥

(وهلك إدريس سنة ثلاث عشرة، وقام بالأمر من بعده ابنه (محمد) بعهده إليه، فأجمع أمره بوفاة جدته (كنزة) أم إدريس، على أن يشرك أخوته في سلطانه، ويقاسم ممالك أبيه، فقسّم المغرب بينهم أعمالاً)(١) .

(وتُوفِّي بعد أمور جرت بين إخوته وبينهم سنة إحدى وعشرين ومائتين، بعد أن استخلف ولده علياً في مرضه، وهو ابن تسع سنين.

فقام بأمره الأولياء والحاشية من العرب وأوربة وسائر البربر وصنائع الدولة. وبايعوه غلاماً مترعرعاً، وقاموا بأمره، وأحسنوا كفالته وطاعته، فكانت أيامه خير أيام.

وهلك سنة أربع وثلاثين لثلاث عشرة سنة من ولايته، وعهد لأخيه (يحيى) بن محمد، فقام بالأمر وامتد سلطانه، وعظمت دولته واستجدّت فاس في العمران)(٢) . (وهلك يحيى هذا، ووليَ ابنه (يحيى) بن يحيى، فأساء السيرة وكثر عبثه في الحرم، وثارت به العامة لمركب شنيع أتاه. وتولى كِبَرَ الثورة عبد الرحمان بن أبي سهل الحزامي، وأخرجوه من عُدْوَةِ القَرَوِيّين إلى عُدوة الأندلسيين، فتوارى ليلتين ومات أسفاً لليلته.

وانقطع الملك من عقب محمد بن إدريس. وبلغ الخبر بشأن يحيى إلى ابن عمه علي بن عمر صاحب الريف، واستدعاه أهل الدولة من العرب والبربر والموالي، فجاء إلى فاس ودخلها وبايعوه.

واستولى على أعمال المغرب إلى أن ثار عليه (عبد الرزّاق) الخارجي، وكان على رأي الصُفْرِيّة، فزحف إلى فاس وغلب عليها، ففرَّ إلى أوربة.

وملك عبد الرزاق عدوة الأندلس، وامتنعت منه عدوة القرويين. وولّوا على أنفسهم يحيى بن القاسم بن إدريس، وكان يُعرف بالصرام، بعثوا إليه فجاءهم جموعه. وكانت بينه وبين الخارجي حروب. ويقال: إنه أخرجه من عدوة الأندلس، واستعمل عليها ثَعْلَبَةَ بن مُحارب بن عبد الله، كان من أهل الربض بقرطبة، من ولد المُهَلَّب بن أبي صُفْرَة.

____________________

(١) نفسه: م٤ ص٢٧.

(٢) نفسه: م٤ ص٢٩.

٧٦

ثم استعمل ابنه عبد الله المعروف بعبود من بعده، ثم ابنه محارب بن عبود بن ثعلبة، إلى أن اغتاله الربيع بن سليمان سنة اثنتين وتسعين ومائتين. وقام بالأمر مكانه (يحيى) بن إدريس بن عمر صاحب الريف، وهو ابن أخي عليّ بن عمر، فملك جميع أعمال الأدارسة، وخطب له على سائر أعمال المغرب.

وكان أعلى بني إدريس مُلكاً، وأعظمهم سلطاناً، وكان فقيهاً عارفاً بالحديث، ولم يبلغ أحد من الأدارسة مبلغه في السلطان والدولة.

وفي أثناء ذلك كله خَلَط(١) الملك للشيعة بأفريقية، وتغلَّبوا على الاسكندرية، واختطوا المهدِيَّة كما نذكره في (دولة كتامة). ثم طمحوا إلى مُلْك المغرب، وعقدوا لـ (مضالة بن حبوس) كبير مكناسة وصاحب تاهرت على محاربة ملوكه سنة خمس وثلاثمائة.

فزحف إليه في عساكر مكناسة وكتامة. وبرز لمدافعته يحيى بن إدريس صاحب المغرب بجموعه من المغرب وأولياء الدولة من أوربة وسائر البرابرة والموالي.

والتقوا على مكناسة، وكانت الدبرة على يحيى وقومه، ورجع إلى فاس مغلولاً، وأجاز له بها معاملة إلى أن صالحه على مال يؤدّيه إليه وطاعة معروفة لعبيد الله الشيعي سلطانه يؤدّيها فقبل الشرط، وخرج عن الأمر وخلع نفسه، وأنفذ بيعته إلى عبيد الله المَهْدِيّ، وأبقى عليه مصالحه في سكنى فاس، وعقد له على عملها خاصة، وعقد لابن عمه موسى بن أبي العافية أمير مكناسة يومئذ، وصاحب (سنور وتازه)على سائر أعمال البربر كما نذكره في أخبار مكناسة ودولة موسى.

وكان بين موسى بن أبي العافية وبين يحيى بن إدريس شحناء وعداوة، يضغنها كل واحد لصاحبه، حتى إذا عاد (مضالة) إلى المغرب في غزاته الثانية سنة تسع أغراه موسى بن أبي العافية بطلحة بن يحيى بن إدريس صاحب فاس، فقبض عليه مضالة واستصفى أمواله وذخائره وغرّبه إلى أصيلا والريف عمل ذي قرباه ورحمه.

____________________

(١) خلط: كذا ولم نجد لها معنى يناسب السياق ولعلها: خلص، بمعنى تمّ.

٧٧

وولّى على فاس ريحان الكتاميّ، ثم خرج يحيى يريد أفريقية، فاعترضه ابن أبي العافية وسجنه سنين، وأطلقه ولحق بالمهدية سنة إحدى وثلاثين، وهلك في حصار أبي يزيد. واستبد ابن أبي العافية بملك المغرب.

وثار على ريحان الكتاميّ بفاس سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة الحسن بن محمد بن القاسم بن إدريس الملقّب بالحجَّام، ونفى ريحان عنها، وملكها عامين.

وزحف للقاء موسى بن أبي العافية، وكانت بينهما حروب شديدة هلك فيها ابنه منهال بن موسى، وانجلت المعركة على أكثر من ألف قتيل وخلص الحسن إلى فاس منهزماً، وغدر به حامد بن حمدان الأوربي واعتقله. وبعث إلى موسى فوصل إلى فاس وملكها، وطالبه بإحضار الحسن فدافعه عن ذلك، وأطلق الحسن متنكراً، فتدلّى من السور فسقط ومات من ليلته، وفر حامد بن حمدان إلى المهدية.

وقتل موسى بن أبي العافية عبد الله بن محارب وابنيه محمداً ويوسف، وذهب ملك الأدارسة.

واستولى ابن أبي العافية على جميع المغرب، وأجلى بني محمد بن القاسم بن إدريس وأخاه الحسن إلى الريف، فنزلوا البصرة، واجتمعوا إلى كبيرهم إبراهيم بن محمد بن القاسم أخي الحسن، وولّوه عليهم.

واختطّ لهم الحِصْن المعروف بهم هنالك وهو حجر النسر سنة سبع عشرة وثلاثمائة، ونزلوه وبنو عمر بن إدريس يومئذ بغمارة من لدن تيجساس إلى سبتة وطنجة، وبقي إبراهيم كذلك.

وشمّر الناصر المرواني لطلب المغرب، وملك سبتة علي بن إدريس سنة تسع عشرة وثلاثمائة، وكبيرهم يومئذ أبو العيش بن إدريس بن عمر، فانجابوا له عنها، وأنزل بها حاميته. وهلك إبراهيم بن محمد، فتولّى عليهم من بعده أخوه القاسم الملقّب بكانون وهو أخو الحسن الحجَّام واسمه القاسم بن محمد بن القاسم. وقام بدعوة الشيعة انحرافاً عن أبي العافية ومذاهبه، واتصل الأمر في ولده وغمارة أولياؤهم والقائمون بأمرهم كما نذكره في أخبار غمارة.

٧٨

ودخلت دعوة المروانيّين خلفاء قرطبة إلى المغرب، وتغلبت زناتة على الضواحي، ثم ملك بنو يعرب فاس وبعدهم مِغْراوة.

وأقام الأدارسة بالريف مع غمارة وتجدّد لهم به ملك في بني محمد وبني عمر بمدينة البصرة وقلعة حجر النسر ومدينة سبتة وأصيلا. ثم تغلب عليهم المروانيون وأثخنوهم إلى الأندلس، ثم أجازوهم إلى الإسكندرية، وبعث العزيز العُبَيْدي بن كانون منهم لطلب ملكهم بالمغرب فغلبه عليه المنصور بن أبي عامر وقتله، وعليه كان انقراض أمرهم وانقراض سلطان أوربة من المغرب.

وكان من أعقاب الأدارسة الذين أووا إلى غمارة فكانوا الدائلين من ملوك الأموية بالأندلس. وذلك أن الأدارسة لما انقرض سلطانهم، صاروا إلى بلاد غمارة واستجدوا بها رياسة، واستمرت في بني محمد وبني عمر من ولده إدريس بن إدريس، وكانت للبربر إليهم بسبب ذلك طاعة وخلطة.

وأمّا سليمان أخو إدريس الأكبر فإنه فرّ إلى المغرب أيام العباسيّين، فلحق بجهات تاهرت بعد مهلك أخيه إدريس. وطلب الأمر هناك فاستنكره البرابرة، وطلبه ولاة الأغالبة فكان في طلبهم تصحيح نسبه.

ولحق بِتَلْمَسان فملكها، وأذعنت له زناتة وسائر قبائل البربر هنالك. وورث ملكه ابنه محمد بن سليمان على سننه، ثم افترق بنوه على ثغور المغرب الأوسط واقتسموا ممالكه ونواحيه، فكانت َتلْمَسان من بعده لابنه محمد بن أحمد بن القاسم بن محمد بن أحمد، وأظنّ هذا القاسم هو الذي يدعي بنو عبد الواد نسبه؛ فإن هذا أشبه من القاسم بن إدريس بمثل هذه الدعوى.

وكانت (أرشكول) لعيسى بن محمد بن سليمان، وكان منقطعاً إلى الشيعة، وكانت جراوة لإدريس بن محمد بن سليمان ثم لابنه عيسى وكنيته أبو العيش. ولم تزل إمارتها في وُلده، وولِيها بعده ابنه إبراهيم بن عيسى، ثم ابنه يحيى بن إبراهيم، ثم أخوه إدريس بن إبراهيم. وكان إدريس بن إبراهيم صاحب أرشكول منقطعاً إلى عبد الرحمان الناصر، وأخوه يحيى كذلك. وارتاب من قبله ميسور قائد الشيعة فقبض عليه سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة.

٧٩

ثم انحرف عنهم، فلما أخذ ابن أبي العافية بدعوة العلوية نابذ أولياء الشيعة، فحاصر صاحب جراوة الحسن بن أبي العيش وغلبه على جراوة فلحق بابن عمه إدريس بن إبراهيم صاحب أرشكول، ثم حاصرها البوري بن موسى ابن أبي العافية وغلب عليهما. وبعث بهما إلى الناصر فأسكنهما قرطبة.

وكانت تنس لإبراهيم بن محمد بن سليمان، ثم لابنه محمد من بعده، ثم لابنه يحيى بن محمد ثم ابنه علي بن يحيى. وتغلّب عليه زيري بن مناد سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة، ففر إلى الجبر بن محمد بن خزر، وجاز ابناه حمزة ويحيى إلى الناصر فتلقاهما رحباً وتكرمة. ورجع يحيى منهما إلى طلب تنس فلم يظفر بها.

وكان من ولد إبراهيم هذا أحمد بن عيسى بن إبراهيم صاحب سوق إبراهيم، وسليمان بن محمد بن إبراهيم من رؤساء المغرب الأوسط. وكان من بني محمد بن سليمان هؤلاء وبَطْوش بن حناتِش بن الحسن بن محمد بن سليمان.

قال ابن حزم: وهم بالمغرب كثير جداً، وكان لهم بها ممالك، وقد بطل جميعها، ولم يبق منهم بها رئيس بنواحي بجاية، وحمل بني حمزة هؤلاء جوهر إلى القيروان، وبقيت منهم بقايا في الجبال والأطراف معروفون هنالك عند البربر، والله وارث الأرض ومن عليها)(١) .

قال المسعودي في مروجه:

(وفي سنة خمس وأربعين وثلاثمائة كان ظهور محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم بالمدينة، وكان قد بويع له في الأمصار، وكان يدعى بالنفس الزكية لزهده ونسكه، وكان مستخفياً من المنصور ولم يظهر حتى قبض المنصور على أبيه عبد الله بن الحسن وعمومته وكثير من أهله وعدتهم.

ولما ظهر محمد بن عبد الله بالمدينة، دعا المنصور أبا مسلم العقيلي، وكان شيخاً ذا رأي وتجربة، فقال له: أشر علي في خارجيّ خرج علي)(٢) .

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ من ص٣٠ إلى ص٣٦.

(٢) مروج الذهب للمسعودي: م٢ ص٢٣٧.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

القسم الثالث

أضواء على الموقف

١ ـ عرض الخلافة، ورفض الإمام.

٢ ـ قبول ولاية العهد بعد التهديد.

٣ ـ مدى جدية عرض الخلافة.

٤ ـ موقف الإمام.

٥ ـ خطة الإمام..

عرض الخلافة، ورفض الإمامعليه‌السلام

نصوص تاريخية:

تحدثنا كتب التاريخ: أن المأمون كان قد عرض الخلافة على الإمام أولاً..(١) لكنهعليه‌السلام رفض قبولها أشد الرفض، وبقي مدة يحاول إقناعه بالقبول، فلم يفلح. وقد ورد أن محاولاته هذه، استمرت في مرو وحدها أكثر من شهرين والإمامعليه‌السلام يأبى عليه ذلك(٢) .

بل لقد ورد أنهعليه‌السلام كان قد أجاب المأمون بما يكره، فقد: قال المأمون للإمام: (.. يا ابن رسول الله، قد عرفت فضلك، وعلمك، وزهدك، وورعك، وعبادتك، وأراك أحق بالخلافة مني..).

فقال الإمامعليه‌السلام :((.. بالزهد بالدنيا أرجو النجاة من شر الدنيا، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله..)) .

____________

(١) كما نص عليه في البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٥٠، والفخري في الآداب السلطانية ص ٢١٧، وغاية الاختصار ص ٦٧، وينابيع المودة للحنفي ص ٣٨٤، ومقاتل الطالبيين، وغير هؤلاء كثير.. وسنشير في آخر هذا الفصل إلى طائفة منهم أيضاً..

لكن السيوطي قال في تاريخ الخلفاء (.. حتى قيل: أنه هم أن يخلع نفسه، ويفوض الأمر إليه..) أما رفضه لذلك، فهو أشهر من أن يذكر كما سيأتي..

(٢) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٤، وينابيع المودة وغير ذلك.

٢٤١

قال المأمون: فإني قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة، وأجعلها لك، وأبايعك؟!.

فقال الإمامعليه‌السلام :((إن كانت هذه الخلافة لك، فلا يجوز أن تخلع لباساً ألبسكه الله، وتجعله لغيرك،وإن كانت الخلافة ليست لك، فلا يجوز أن تجعل لي ما ليس لك)) (١) .

قال المأمون: لا بد لك من قبول هذا الأمر!!

فقال الإمامعليه‌السلام :((لست أفعل ذلك طائعاً أبداً..)) .

فما زال يجهد به أياما، والفضل والحسن(٢) يأتيانه، حتى يئس من قبوله..

وخرج ذو الرئاستين مرة على الناس قائلاً: وا عجبا! وقد رأيت عجباً! رأيت المأمون أمير المؤمنين يفوض أمر الخلافة إلى الرضا.

____________

(١) عبارة تاريخ الشيعة ص ٥١، ٥٢ هكذا: ((.. إن كانت الخلافة حقاً لك من الله، فليس لك أن تخلعها عنك، وتوليها غيرك. وإن لم تكن لك، فكيف تهب ما ليس لك.)) وهذه أوضح وأدل.

(٢) لا ندري ما الذي أوصل الحسن بن سهل إلى مرو، مع أنه كان آنئذٍ في العراق، ولعل ذكر الحسن اشتباه من الراوي، واحتمل السيد الأمين في أعيان الشيعة ج ٤ قسم ٢ ص ١٢٠: أن يكون المأمون قد استدعى الحسن بهذه المناسبة إلى خراسان، فلما تم أمر البيعة عاد إلى بغداد.

٢٤٢

ورأيت الرضا يقول: لا طاقة لي بذلك، ولا قدرة لي عليه. فما رأيت خلافة قط كانت أضيع منها(١) .

____________

(١) راجع في جميع هذه النصوص بالإضافة إلى ما تقدم: روضة الواعظين ج ١ ص ٢٦٧، ٢٦٨، ٢٦٩، وإعلام الورى ص ٣٢٠، وعلل الشرايع ج ١ ص ٢٣٦، وينابيع المودة ص ٣٨٤، وأمالي الصدوق ص ٤٢، ٤٣، والإرشاد ص ٣١٠، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٥، ٦٦، ٦٦، ٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩، ١٤٠. والمناقب ج ٤ ص ٣٦٣، والكافي ج ١ ص ٤٨٩، والبحار ج ٤٩ ص ١٢٩، ١٣٤، ١٣٦. ومعادن الحكمة، وتاريخ الشيعة، ومثير الأحزان ص ٢٦١، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٤، ١٦٥، وغاية الاختصار ص ٦٨.

٢٤٣

قبول ولاية العهد بعد التهديد

مع محاولات المأمون لإقناع الإمام:

الذي يبدو من ملاحظة كتب التاريخ والرواية، هو: أن محاولات المأمون لإقناع الإمام بما يريد، كانت متعددة، ومتنوعة، وأنها بدأت من حين كان الإمامعليه‌السلام لا يزال في المدينة. حيث كان المأمون يكاتبه، محاولاً إقناعه بذلك، فلم ينجح، وعلم الإمام أنه لا يكف عنه. ثم أرسل رجاء بن أبي الضحاك، وهو قرابة الفضل والحسن ابني سهل(١) ، فأتى بالإمامعليه‌السلام من المدينة إلى مرو رغما عنه.. وبذل المأمون في مرو أيضاً محاولات عديدة، استمرت أكثر من شهرين. وكان يتهدد الإمام بالقتل، تلويحا تارة، وتصريحا أخرى، والإمامعليه‌السلام يأبى قبول ما يعرضه عليه.. إلى أن علم أنه لا يمكن أن يكف عنه، وأنه لا محيص له عن القبول، فقبل ولاية العهد مكرها، وهو باك حزين ـ على حد تعبير الكثيرين ـ، وكانت البيعة له في السابع من شهر رمضان، سنة (٢٠١ ه‍ )، كما يتضح من تاريخ ولاية العهد..

____________

(١) وقيل: أنه عمهما، وقد كان رجاء هذا من قواد المأمون، وقد ولاه المأمون خراسان مدة، لكنه أساء السيرة، فعزله.

٢٤٤

بعض ما يدل على عدم رضا الإمامعليه‌السلام :

والنصوص الدالة على عدم رضا الإمامعليه‌السلام بهذا الأمر كثيرة، ومتواترة، فقد قال أبو الفرج: (.. فأرسلهما ـ يعني الفضل والحسن ابني سهل ـ إلى علي بن موسى، فعرضا ذلك ـ يعني ولاية العهد ـ عليه، فأبى، فلم يزالا به، وهو يأبى ذلك، ويمتنع منه..

إلى أن قال له أحدهما: (إن فعلت ذلك، وإلا فعلنا بك وصنعنا، وتهدده، ثم قال له أحدهما: والله، أمرني بضرب عنقك، إذا خالفت ما يريد)!. ثم دعا به المأمون، وتهدده، فامتنع، فقال له قولاً شبيهاً بالتهديد، ثم قال له: (إن عمر جعل الشورى في ستة، أحدهم: جدك وقال: من خالف فاضربوا عنقه، ولا بد من قبول ذلك..)(١) !

ويروي آخرون: أن المأمون قال له: (.. يا ابن رسول الله، إنما تريد بذلك ـ يعني بما أخبره به عن آبائه من موته قبله مسموماً ـ التخفيف عن نفسك، ودفع هذا الأمر عنك، ليقول الناس: إنك زاهد في الدنيا..

فقال الرضا:((والله، ما كذبت منذ خلقني ربي عز وجل، وما زهدت في الدنيا للدنيا، وإني لأعلم ما تريد؟!

فقال المأمون: وما أريد؟!

قال:الأمان على الصدق؟

قال: لك الأمان.

قال:تريد بذلك أن يقول الناس: إن علي بن موسى لم يزهد في

____________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٥٦٢، ٥٦٣، وقريب منه ما في إرشاد المفيد ص ٣١٠ وغير ذلك.

٢٤٥

الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه: ألا ترون: كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة؟!)) .

فغضب المأمون، وقال له: (إنك تتلقاني أبداً بما أكرهه، وقد آمنت سطوتي، فبالله أقسم: لئن قبلت ولاية العهد. وإلا أجبرتك على ذلك، فإن فعلت، وإلا ضربت عنقك..)(١) .

وقال الإمام الرضاعليه‌السلام في جواب الريان له، عن سر قبوله لولاية العهد:

((.. قد علم الله كراهتي لذلك، فلما خيرت بين قبول ذلك وبين القتل، اخترت القبول على القتل، ويحهم. إلى أن قال:ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك، على إجبار وإكراه، بعد الإشراف على الهلاك ..)) إلخ(٢) .

وقال في دعاء له:((.. وقد أكرهت واضطررت، كما أشرفت من عبد الله المأمون على القتل، متى لم أقبل ولاية العهد..)) .

وقال في جواب أبي الصلت:((وأنا رجل من ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجبرني على هذا الأمر وأكرهني عليه..)) .

بل لقد أعرب عن عدم رضاه في نفس ما كتبه على ظهر وثيقة العهد، وأنه يعلم بعدم تمامية هذا الأمر، وإنما يفعل ذلك امتثالاً لأمر المأمون، وإيثاراً لرضاه..

____________

(١) راجع في ذلك. مناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ٣٦٣، وأمالي الصدوق ص ٤٣، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٠، وعلل الشرايع ج ١ ص ٢٣٨، ومثير الأحزان ص ٢٦١، ٢٦٢، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٦٧، والبحار ج ٤٩ ص ١٢٩، وغير ذلك.

وفي تاريخ الشيعة ص ٥٢: أنه بعد أن عرض عليه الخلافة، وأجابه بالجواب المتقدم في الفصل السابق، قال له: (.. إذن، تقبل ولاية العهد). فأبى عليه الإمام أشد الإباء، فقال له المأمون: (.. ما استقدمناك باختيارك، فلا نعهد إليك باختيارك، والله، إن لم تفعل ضربت عنقك..).

(٢) علل الشرايع ج ١ ص ٢٣٩، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٦٨، وأمالي الصدوق ص ٧٢، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٣٩.

٢٤٦

أما الباحثون وغيرهم فيقولون:

أما الباحثون، فلعلنا لا نكاد نعثر على باحث يتعرض لهذا الأمر ينسى أن يؤكد على رفض الإمامعليه‌السلام لهذا الأمر، واستيائه منه..

يقول أحمد أمين: (.. وألزم الرضا بذلك، فامتنع، ثم أجاب..)(١) .

وقال القندوزي: إنه قبل ولاية العهد، وهو باك حزين(٢) .

وقال المسعودي: (.. فألح عليه، فامتنع، فأقسم، فأبر قسمه الخ.)(٣) .

وعلى كل حال: فإن النصوص التاريخية الدالة على عدم رضاهعليه‌السلام بهذا الأمر، وأنه مكره مجبر عليه كثيرة جداً(٤) . وتضارعها كثرة أقوال الباحثين، الذين تعرضوا لهذا الموضوع. ولذا فليس من اليسير الإحاطة بها واستقصاؤها في مثل هذه العجالة.

ولهذا.. فإننا نكتفي هنا بهذا القدر، حيث إن المجال لا يتسع لأكثر من ذلك..

____________

(١) ضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٤.

(٢) ينابيع المودة ص ٢٨٤.

(٣) إثبات الوصية ص ٢٠٥.

(٤) وإنه وإن كان سيمر معنا نصوص أخرى تدل على ذلك.. إلا أننا نحيل القارئ على بعض مظان وجودها، فراجع: ينابيع المودة ص ٣٨٤، ومثير الأحزان ص ٢٦١، ٢٦٢، ٢٦٣، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٥، وأمالي الصدوق ص ٦٨، ٧٢، والبحار ج ٤٩ ص ١٢٩، ١٣١، ١٤٩، وعلل الشرايع ج ١ ص ٢٣٧، ٢٣٨، إرشاد المفيد ص ١٩١، وعيون أخبار الرضا ج ١ ص ١٩، و ج ٢ ص ١٣٩، ١٤٠، ١٤١، ١٤٩، وإعلام الورى ٣٢٠، والخرائج والجرائح، وغير ذلك..

٢٤٧

مدى جدية عرض الخلافة

عرض الخلافة ليس جدياً..

مر معنا أن المأمون كان قد عرض أولاً الخلافة على الإمام، وأنه ألح عليه بقبولها كثيراً، سواء وهو في المدينة، أو بعد استقدامه إلى مرو، وأنه تهدده فلم يقبلها، فلما يئس من قبوله الخلافة، عرض عليه ولاية العهد، فامتنع أيضاً. ولم يقبل إلا بعد أن تهدده بالقتل، وعرف الجد في ذلك التهديد!!

وهنا سؤال لا بد من الإجابة عليه، وهو:

هل كان المأمون جاداً في عرضه الخلافة على الإمام؟!.

ويتفرع على الإجابة على هذا السؤال سؤال آخر، وهو:

إذا لم يكن المأمون جاداً في عرضه ذاك، فماذا ترى سوف يكون موقف المأمون، لو أن الإمام قبل أن يتقلد الخلافة، ويضطلع بشؤونها؟!.

ومن أجل استيفاء الجواب عن هذين السؤالين، لا بد لنا من الإسهاب في المقال، بالقدر الذي يتسع لنا به المجال فنقول:

الإجابة على السؤال الأول:

أما عن السؤال الأول، فإن الحقيقة هي: أن جميع الشواهد والدلائل تدل على أنه لم يكن جاداً في عرضه للخلافة:

وقد قدمنا أننا لا يمكن أن نتصور المأمون الحريص على الخلافة حرصه على نفسه، والذي قتل من أجلها أخاه. وأتباعه، بل وحتى وزراءه هو وقواده، وغيرهم. وأهلك العباد، وخرب البلاد، حتى لقد خرب بغداد بلد آبائه، وأزال كل محاسنها ـ لا يمكن أن نتصور ـ المأمون، الذي فعل كل ذلك وسواه من أجل الحصول على الخلافة.. أن يتنازل عنها بهذه السهولة، بل ومع هذا الإلحاح والإصرار منه، لرجل غريب، ليس له من القربى منه ما لأخيه، ولا من الثقة به ماله بقواده، ووزرائه!.

أم يعقل أن تكون الخلافة أعز من هؤلاء جميعاً، والرضا فقط هو الأعز منها؟!.

وهل يمكن أن نصدق، أو يصدق أحد: أن كل ذلك، حتى قتله أخاه، كان في سبيل مصلحة الأمة ومن أجلها، ولكي يفسح المجال أمام من هو أجدر بالخلافة، وأحق بها من أخيه، ومنه؟!.

٢٤٨

وكيف يمكن أن نعتبر إصراره الشديد على الإمام، والذي استمر أشهراً عديدة، قبل استقدامه إلى مرو وبعده، والذي انتهى به إلى حد تهديده إياه بالقتل ـ كيف يمكن أن نعتبره رفقاً منه بالأمة، وحبا لها، وغيرة على صالحها.. مع أننا نسمعه من جهة ثانية هو نفسه يصرح: بأن نفسه لم تسنح بالخلافة، عندما عرضها على الإمام؟!(١) .

وإذا لم تسنح نفسه بالخلافة، فلماذا يهدده بالقتل إن لم يقبلها؟!.

وكيف يمكن أن نوفق بين تهديداته تلك، وجدية عرضه للخلافة.. وبين قوله: إنه لم يقصد إلا أن يوليه العهد، ليكون دعاء الإمام له، وليعتقد فيه المفتونون به الخ.. ما سيأتي؟!.

وإذا كان قد نذر أن يوليه (الخلافة)، لو ظفر بأخيه الأمين، حسبما ورد في بعض النصوص التاريخية، فلماذا، وكيف جاز له الاكتفاء بتوليته العهد؟!.

وكيف استطاع إجباره على قبول ولاية العهد، ولم يستطع إجباره على قبول الخلافة؟!

وأيضاً.. ولماذا بعد أن رفض الإمامعليه‌السلام العرض، لا يتركه وشأنه؟

وأين هي أنفة الملوك، وعزة السلطان؟!.

وإذا كان يأتي به المدينة ليجعله خليفة المسلمين، ويرفع من شأنه، فلماذا يأمره ويؤكد عليه في أن لا يمر عن طريق الكوفة وقم، وحتى لا يفتتن به الناس؟!.

وأيضاً.. هل يتفق ذلك مع إرجاعه للإمامعليه‌السلام عن صلاة العيد مرتين، لمجرد أنه جاءه من ينذره بأن الخلافة سوف تكون في خطر، لو أن الإمامعليه‌السلام وصل إلى المصلى؟!.. حتى لقد خرج هو بنفسه مسرعاً، وصلى بالناس، رغم تظاهره بالمرض، ورغم زعمه، أنه: كان يريد من الإمام أن يصلي بالناس، من أجل أن تطمئن قلوبهم على دولته المباركة ـ على حد تعبيره ـ بسبب مشاركة الإمامعليه‌السلام في ذلك..

____________

(١) قاموس الرجال ج ١٠ ص ٣٧١، وغيبة الشيخ الطوسي ص ٤٩.

٢٤٩

وأيضاً.. هل يتفق عرضه الخلافة على الإمام، وتنازله عنها له، ثم توليته العهد، وبكاؤه عليه حين وفاته، وبقاؤه على قبره ثلاثة أيام، حسبما سيأتي بيانه.. هل يتفق كل ذلك، مع كتابته لعامله على مصر: يأمره بغسل المنابر التي دعي عليها للإمامعليه‌السلام ، فغسلت؟!(١) .

وبعد.. وإذا كان الإمامعليه‌السلام حجة الله على خلقه، وأعلم أهل الأرض على حد تعبير المأمون، فلماذا يفرض عليه نظرية لا يراها مناسبة، ويتهدده، ويتوعده على عدم قبولها، والأخذ بها؟!.

وأخيراً.. هل يتفق ذلك كله، مع ما أشرنا، ولسوف نشير إليه، من ذلك السلوك اللاإنساني مع الإمامعليه‌السلام ، قبل البيعة، وبعدها، في حياة الإمام، وحين وفاته، وبعدها.. وكذلك سلوكه مع العلويين.

وإخوة الإمام الرضاعليه‌السلام بالذات، ذلك السلوك الذي يترفع حتى الأعداء عن انتهاجه، والالتزام به، إلى آخر ما هنالك مما عرفت، وستعرف جانباً منه في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى..

المأمون يرتبك في تبريراته:

ولعل من الأمور الجديرة بالملاحظة هنا: هو أن المأمون لم يكن قد حسب حساباً للأسئلة التي سوف تواجهه في هذا الصدد، ولذا نرى أنه كان مرتبكاً جداً في تبريراته لما أقدم عليه، فهو تارة يعلل ذلك بأنه:

____________

(١) ولا منافاة بينهما في نظر المأمون، فإنه لم يكن يخشى من ردة الفعل في مصر، لأنها بالإضافة إلى بعدها، لم تكن من المناطق الحساسة في الدولة، ولم تكن أيضاً شديدة التعاطف مع العلويين، فهي إذن مأمونة الجانب.. وما كان يخشى منه قد أمنه، بتظاهره أمام الملأ بالحزن الشديد على الإمامعليه‌السلام ، حيث يكون بذلك قد طمأنهم، وأبعد التهمة عن نفسه في المنطقة التي يخشى منها في الوقت الحاضر.. وإلى أن تصل أخبار مصر إلى هذه المناطق الحساسة، فإنه يكون قد تجاوز المرحلة الخطيرة، ولم يعد يخشى شيئاً على الإطلاق..

٢٥٠

أراد مكافأة علي بن أبي طالب في ولده!(١) .

وأخرى: بأن ذلك كان منه حرصا على طاعة الله، وطلب مرضاته، ولما يعلمه من فضل الرضا، وعلمه، وتقاه. وأنه أراد بذلك الخير للأمة. ومصلحة المسلمين!(٢) .

وثالثة: بأنه أراد أن يفي بنذره: أنه إن أظفره الله بالمخلوع ـ يعني أخاه الأمين الذي قتله ـ أن يجعل ولاية العهد في أفضل آل أبي طالب!(٣) .

بل ورابعة: بأنه أراد أن يجعله ولي عهده، ليكون دعاؤه له، وليعتقد فيه المفتونون به إلخ(٤) .. ما سيأتي تفصيله.

مع تبريرات المأمون تلك:

ومن الواضح أن تلك العلل والتبريرات وسواها، مما كان يتعلل به المأمون، كانت مفتعلة قبل أوان نضجها، ولعله لما أشرنا إليه من أنه لم يكن قد حسب حساباً لهذه الأسئلة التي واجهته، فكانت أجوبته متناقضة، متضادة، من موقف لآخر، ومن وقت لآخر.. حتى أن التناقض يبدو في التبرير الواحد، إذ تراه مرة يقول: (إنه نذر أن يجعل الخلافة في ولد علي). وأخرى يقول: (إنه نذر أن يجعل ولاية العهد فيهم). وثالثة: يضيف إليهم آل العباس. وهكذا.

____________

(١) الفخري في الآداب السلطانية ص ٢١٩، والبحار ج ٤٩ ص ٣١٢، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٣٠٨، والتذكرة لابن الجوزي ص ٣٥٦، ونقل أيضاً: عن شذرات الذهب، لابن العماد، وغير ذلك..

(٢) صرح بذلك وفي وثيقة العهد، وفي الفخري في الآداب السلطانية ص ٢١٧، قال: (كان المأمون قد فكر في حال الخلافة بعده، وأراد أن يجعلها في رجل يصلح لها، كذا زعم..).

وفي البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٧ قال: (إن المأمون رأى علياً الرضا خير أهل البيت، وليس في بني العباس مثله، في علمه، ودينه، فجعله ولي عهده من بعده). ومثل ذلك كثير..

(٣) الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ٢٤١، ومقاتل الطالبيين ص ٥٦٣، وإعلام الورى ص ٣٢٠، والبحار ج ٤٩، ص ١٤٣، ١٤٥، وأعيان الشيعة ج ٤ قسم ٢ ص ١١٢، وعيون أخبار الرضا، وإرشاد المفيد، وغير ذلك.

(٤) لكن هذا الكلام لم يكن إلا لخصوص العباسيين، كما عرفت وستعرف!!.

٢٥١

ولولا خوف الناس منه، ومن بطشه لوجدنا الكثيرين يسألونه: إنه إذا صح: أنه نذر الخلافة لولد علي، فلماذا قبل منه واكتفى بولاية العهد؟!، إذ قد كان عليه أن يجبره على قبول الخلافة، كما أجبره على قبول ولاية العهد.. وإذا صح أنه نذر له ولاية العهد، فلماذا عرض عليه الخلافة، وأصر عليه بقبولها.

وإننا وإن لم نجد لهذه الأسئلة، وسواها أثراً فيما بأيدينا من كتب التاريخ. إلا أننا رأينا الشواهد الكثيرة الدالة على أن الناس كانوا يشكون كثيراً في نوايا المأمون وأهدافه مما أقدم عليه.

وحسبنا هنا: ما رواه لنا الصولي، والقفطي، وغيرهما من قضية عبد الله بن أبي سهل النوبختي المنجم، حيث أراد اختبار ما في نفس المأمون، فأخبره أن وقت البيعة للإمامعليه‌السلام كان غير صالح، فأصر المأمون على إيقاع البيعة في ذلك الوقت، وتهدده بالقتل إن حدث تغيير في الوقت والموعد، وقد تقدمت القصة بكاملها تقريباً في فصل سابق، وقد ذهب إلى ذكره غير واحد من المؤلفين(١) .

____________

(١) تاريخ الحكماء ٢٢٢، ٢٢٣، وفرج المهموم في تاريخ علماء النجوم ص ١٤٢، وأعيان الشيعة ج ٤ قسم ٢ ص ١١٤. والبحار ج ٤٩، ص ١٣٢، ١٣٣، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٧، ١٤٨، وغير ذلك..

٢٥٢

الإمام يدرك أهداف المأمون من عرض الخلافة:

ولعلنا نستطيع أن نجد فيما قدمناه في هذا الكتاب ما يفسر لنا موقف الإمامعليه‌السلام من المأمون.. ذلك الموقف الذي لم يكن يتسم بالمهادنة، أو الموافقة أصلاً. بل كان قاسياً وعنيفاً في مقابل عرض المأمون للخلافة عليه، كما ألمحنا إليه في باب: (عرض الخلافة، ورفض الإمام).

وما ذلك.. إلا لأنه كان يعلم أنها لعبة خطيرة، تحمل في طياتها الكثير من المشاكل والأخطار، سواء بالنسبة إليهعليه‌السلام ، أو بالنسبة إلى العلويين، أو بالنسبة إلى الأمة بأسرها..

ولقد كانعليه‌السلام يدرك: أن المأمون كان يرمي من وراء هذا العرض إلى أن يعرض حقيقة نوايا الإمامعليه‌السلام ، ويستظهر دخيلة نفسه، حتى إذا ما رآه راغبا فيها رغبة حقيقية، سقاه الكأس، التي سقاها من قبل لمحمد بن محمد بن يحيى بن زيد، صاحب أبي السرايا، ومن بعد لمحمد بن جعفر، وطاهر بن الحسين، وغيرهم، وغيرهم.. وإنه كان يريد أن يجعل ذلك ذريعة لفرض ولاية العهد، وتمهيدا لإجباره على قبولها، لأن ما يحقق له مآربه، ويوصله إلى غاياته، التي تحدثنا عن جانب منها في فصل: ظروف البيعة.. هو قبول الإمام لولاية العهد، لا الخلافة.. كما أن هذا هو الذي يمكن أن يكون ممهدا لتنفيذ الجزء التالي من خطته، ألا وهو القضاء على العلويين بالقضاء على أعظم شخصية فيهم.

ومن ثم.. وبعد كل ما تقدم.. تكون النتيجة هي: أن المأمون لم يكن جاداً في عرضه للخلافة، وإنما فقط كان جاداً في عرضه لولاية العهد.

ويبقى هنا سؤال:

(لو أن الإمام قبل عرض الخلافة، فماذا ترى سوف يكون موقف المأمون؟!.

والجواب:

أولاً: وقد يمكن الاقتناع بالجواب هنا لو قيل: بديهي أن المأمون كان قد أعد العدة لأي احتمال من هذا النوع..

وقد كان يعلم أنه يستحيل على الإمام، خصوصاً في تلك الظروف: أن يقبل عرض الخلافة، من دون إعداد مسبق لها، وتعبئة شاملة لجميع القوى، وفي مختلف المجالات، ولسوف يكون قبوله لها بدون ذلك عملاً انتحارياً، لا مبرر له، ولا منطق يساعده.

٢٥٣

إذ من البديهي أن الإمام الذي كان يعلم كم كان للقائد الحقيقي، والمصلح الواعي، من أثر في حياة الأمة، وفي مستقبلها، وكيف يمكن أن تتحد في ظله قدرات الأمة ـ أفراداً وجماعات ـ وإمكاناتها المادية، والفكرية وغيرها في طريق صلاحها، وإصلاحها..

ويعلم أيضاً: كيف يكون الحال، لو كان القائد فاسداً، حتى بالنسبة لما يبدو من تصرفاته في ظاهره صحيحاً وسليماً..

إن الإمام الذي كان يعلم ذلك وسواه ـ وبصفته القائد الحقيقي للأمة، لو حكم، فلا بد له أن يقيم دولة الحق والعدل، ويحمل الناس على المحجة، ويحكم بما أنزل الله، كما حكم جده محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأبوه عليعليه‌السلام من قبل.. وحكمه هذا سوف يكون مرفوضاً جملة وتفصيلاً، لأن الناس، وإن كانوا عاطفياً مع أهل البيتعليهم‌السلام ، إلا أنهم حيث لم يتربوا تربية إسلامية صحيحة، وصالحة، إذا أراد العلويون، أو غيرهم حملهم على المحجة، فلسوف لا ينقادون لهم بسهولة، ولا يطيعونهم بيسر، ولسوف يكون الحكم بما أنزل الله غريبا على أمة اعتادت

على حياة خلفاء بني العباس، ومن قبلهم بني أمية المليئة بالانحرافات والموبقات.

أولئك الخلفاء الذين كانوا في طليعة المستهترين، والمتحللين من كل قيود الدين والإنسانية، والذين كانوا يتساهلون في كل شيء، ما دام لا يضر بوجودهم في الحكم..

نعم.. في كل شيء على الإطلاق، حتى في الدين وأحكامه، والأخلاق، والمثل العليا، وما ذلك إلا لأنهم لم يكن همهم إلا الحكم، والتسلط، وامتصاص دماء الشعوب، ولا يهمهم ـ بعد ـ أن يفعل الناس ما شاءوا. ليتستروا بالدين، ليكفروا بالله، ليتحللوا من الأخلاق والفضائل الإنسانية، ليأكل بعضهم بعضاً، ليكونوا أنعاماً سائمة، أو ليكونوا وحوشاً ضارية، فإن ذلك كله لا يضر.

والذي يضر فقط هو: أن يتعرضوا للحكم، ويفكروا بالسلطان، كيفما كان التعرض، وأياً كان التفكير. وإذا كان الإمام عليعليه‌السلام عندما أراد أن يحكم بما أنزل الله تعالى، قد لاقى ما لاقى مما لا يجهله أحد.. رغم ما سمعته الأمة من فم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة في حقه، وقرب عهدها به. فكيف بعد أن مرت عشرات السنين، وأصبح الانحراف عادة جارية، وسنة متبعة، واتخذ نحواً من الأصالة في حياة الأمة، وروحها، وأصبح ـ للأسف ـ جزءاً لا يتجزأ من كيانها وواقعها..

وأيضاً.. إذا كان أبو مسلم قد قتل ست مئة ألف نفس صبراً، عدا مئات الألوف الأخرى، التي ذهبت طعمة للسيوف في المعارك.

٢٥٤

وإذا كانت ثورة أبي السرايا قد كلفت المأمون (٢٠٠) ألف جندي، من جنوده هو.. وإذا كان العصيان ما انفك يظهر من كل جانب ومكان، رغم أن

الحكم كان أولاً وآخراً مع أهواء الناس، ومصالحهم الشخصية..

فهل يمكن مع هذا.. أن لا يتعرض الإمامعليه‌السلام لعصيان أصحاب الأهواء ـ وما أكثرهم ـ والكيد من قبل الأعداء، الذين سوف يزيد عددهم، وتتضاعف قوتهم. عندما يحاول الإمامعليه‌السلام أن يفرض عليهم حكماً ما اعتادوه، وسلوكاً ما ألفوه؟!..

إن من الواضح: أن الناس وإن كانت قلوبهم معه، إلا أن سيوفهم سوف تنقلب لتصير عليه، كما انقلبت على آبائه وأجداده من قبل، وذلك عندما لا ينسجم حكمهعليه‌السلام مع رغائبهم. وأهوائهم، وانحرافاتهم. حيث إن الإمامعليه‌السلام إذا أراد أن يحكم، فلسوف يواجه ـ بطبيعة الحال ـ تلك العناصر القوية، ذات النفوذ، وأولئك المستأثرين بكل الأموال والأقطاع، من أصحاب الأطماع، والمصالح الشخصية، وجهاً لوجه.. إذ أننا لا يمكن أن ننتظر من حكومة الإمام، التي هي على الفرض حكومة الحق، والعدل: أن تقرهم على ما هم عليه، فضلاً عن أن توفر لهم الحماية لتصرفاتهم المشبوهة، وغير المنطقية، بل حتى ولا الأخلاقية أيضاً. إن حكومة الإمامعليه‌السلام ، إذا أرادت أن تقوم بعمل أساسي في سبيل استئصال كل جذور الانحراف والفساد.. فإن عليها أولاً، وقبل كل شيء، أن تقوم بقطع أيدي أولئك الغاصبين لأموال الأمة، والمتحكمين بمقدراتها. وإبعاد كل أولئك الذين كانوا يستغلون مناصبهم، التي وصلوا إليها عن طريق الظلم، والغطرسة، والابتزاز ـ يستغلونها ـ لمآربهم الشخصية، وانحرافاتهم اللاأخلاقية. ثم. قطع أعطيات ذلك الفريق من الناس، الذين كانوا يعيشون على حساب الأمة، ويأكلون خيراتها. ثم لا يقومون في مقابل ذلك بأي عمل، أو نشاط يذكر.

وأيضاً.. منع المحسوبيات، والوساطات، من أصحاب الوجاهات، الذين كانت تسيرهم الروح القبلية، ويهيمن عليهم الشعور الطبقي في دولة الأطماع والمزايدات، أو دولة التهديد، والعسف، والإرهاب.

يضاف إلى ذلك كله.. أنه إذا أراد الإمامعليه‌السلام أن ينطلق في كل نصب وعزل من مصلحة الأمة، لا من مصلحة الحاكم والقبيلة، فطبيعي أن يؤدي ذلك إلى إثارة القبائل ضده، ويؤلبهم عليه.. فزعماء القبائل سواء كانوا عرباً أو فرساً كانوا يلعبون دوراً هاماً في إنجاح أية ثورة وقيام أية دعوة واستمرار ونجاح أي حكم.

٢٥٥

وبعد كل ذلك، فإن من الطبيعي إذن: أن يستفحل الصراع بينه، وبين العناصر القوية، ذات النفوذ، من أصحاب الأهواء، والمصالح الشخصية، وأولئك الذين يعتمل في نفوسهم طموح كبير، نحو زبارج الدنيا، وبهارجها. وذلك عندما يعطي القيمة الحقيقية لهؤلاء جميعاً، ويجعلهم في المستوى الذي يجب أن يكونوا فيه، ويحدد ويقيِّم لهم واقعهم الذي لن يرضوا أبداً بتحديده وتقييمه. وعلى الأقل لن تساعده تلك العناصر على تصحيح الوضع، وإقرار النظام.. هذا إن لم تكن هي العقبة الكأداء، التي تحول بينه وبين ما يصبو إليه، وتمنعه من تحقيق ما يريد..

يضاف إلى ذلك كله: أن القيادة القبلية كانت قد فسدت آنذاك، واعتاد رؤساء القبائل على نكث العهود والمواثيق التي يعطونها، فكانوا يؤيدون هذه الدعوة، وهذا القائم بها، إلى أن يجدوا من يستفيدون منه، ويغدق عليهم أكثر من الأموال، ويخصهم بما يفضل ما يخصهم به ذاك من المناصب. وكان للقيادات القبلية دور كبير في إنجاح أية دعوة، وانتصار أية ثورة..

وبعد.. فإنه إذا كان الإمامعليه‌السلام لن يحابي أحداً على حساب دينه ورسالته.. وإذا كان ـ من الجهة الأخرى ـ مركزه ضعيفاً في الحكم. وإذا كان ليس لديه القوة والقدرة الكافية لمواجهة مسؤولياته كاملة.

فلسوف ينهار حكمه وسلطانه أمام أول عاصفة تواجهه، ولن يستطيع أن يبقى محتفظاً بوجوده في الحكم، أو على الأقل بمركز يخوله أن يفرض الحكم الذي يريد على المجتمع، بجميع فئاته، ومختلف طبقاته.

إلا أن يكون حاكماً مطلقاً، لا تحد سلطته حدود، ولا تقيدها قيود، وأنى له بذلك.

وبعد كل ما تقدم، فإن النتيجة تكون، أن الإمامعليه‌السلام ، وإن كان يمتلك القدرة على الإصلاح، لكن الأمة لم تكن لتتحمل مثل هذا الإصلاح، خصوصاً وأن الحكام ـ بوحي من مصالحهم الخاصة ـ كانوا قد أدخلوا في أذهان الناس صوراً خاطئة عن الحكم، وعن الحكام، الذين يفترض فيهم أن يقودوا الأمة في مسيرها إلى مصيرها.

هذا كله.. لو فرض ـ جدلاً ـ سكوت العباسيين والمأمون عنه، مع أن من المؤكد أنهم سوف يعملون بكل ما لديهم من قوة وحول، من أجل تقويض حكمه، وزعزعة سلطانه.

وإذا كان يستحيل على الإمامعليه‌السلام ، في تلك الفترة على الأقل: أن يتسلم زمام السلطة إلا أن يكون حاكماً مطلقاً كما قدمنا. فمن الواضح أن سؤالاً من هذا النوع لا مجال له بعد. ولن يكون في تجشم الإجابة عليه كبير فائدة، أو جليل أثر.

٢٥٦

ولكن.. مع ذلك، وحتى لا نفرض على القارئ وجهة نظر معينة، إذ قد يرى أن من حقه أن يفترض ـ وإن أبى واقع الأحداث مثل هذا الافتراض ـ أنه كان على الإمامعليه‌السلام : أن يجاري، ويداري في بادئ الأمر، من أجل الوصول إلى أهداف فيها خير الأمة ومصلحتها، من أجل ذلك.. نرى لزاماً علينا أن نجاريه في هذا الافتراض، ونتجه إلى الإجابة على ذلك السؤال بنحو آخر، فنقول:

وثانياً: إنه إذا كان المأمون في تلك الفترة هو الذي يمتلك القدرة والسلطان.. وإذا كانت كل أسباب القوة والمنعة متوفرة لديه بالفعل، فإنه سوف يسهل عليه ـ إذا لم يكن حكم الإمامعليه‌السلام على وفق ما يشتهي، وحسبما يريد ـ: أن يأخذ على ذلك الحكم: (الذي يرى نفسه، ويرى الناس أنه مدين للمأمون) أقطار الأرض، وآفاق السماء. ولن يصعب عليه تصفيته، والتخلص منه من أهون سبيل، حيث إنه حكم لا يزال، ولسوف يسعى المأمون لأن يبقيه في المهد، يستطيع المأمون أن ينزل به الضربة القاصمة القاضية متى شاء، دون أن تعطى له الفرصة لحشد قدراته، وتجميع قواه في أي من الظروف والأحوال.

وهكذا.. فإن النتيجة تكون: أن الإمامعليه‌السلام سوف يكون بين خيارين لا ثالث لهما: فإما أن يحاول تحمل المسؤولية الحقيقية، بكل أبعادها، وتبعاتها، باعتباره القائد الحقيقي للأمة، ويقدم على كل ما تقدمت الإشارة إليه من إصلاحات جذرية في جميع المجالات، وعلى مختلف المستويات، مما سوف يكون من نتائجه أن يعرض نفسه للهلاك، حيث لا يستطيع الناس، والمأمون وأشياعه تحمل ذلك، والصبر عليه، ويكون له ولهم كل العذر في تصفيته، والتخلص منه.

وإما أن لا يتحمل مسؤولية الحكم، ولا يأخذ على عاتقه قيادة الأمة، وإنما تكون مهمته، وما يأخذه على عاتقه هو فقط تنفيذ إرادات المأمون، وأشياعه من المنحرفين. ويكون هو الواجهة التي يختفي وراءها الحكام الحقيقيون، المأمون ومن لف لفه..

وواضح: أن نتيجة ذلك سوف تكون أعظم خطراً على الإمام، وعلى العلويين، وعلى الأمة بأسرها، وأشد فداحة من نتيجة الخيار السابق، حيث يكون قد قضى بذلك على كل آمال الأمة، وكل توقعاتها. وذلك هو كل ما يريده المأمون، ويسعى من أجل الحصول عليه، بكل ما أوتي من قوة وحول.

٢٥٧

وثالثاً: إن من الواضح: أن عرض المأمون التنازل عن الخلافة للإمامعليه‌السلام ، لا يعني أبداً أن المأمون سوف لا يحتفظ لنفسه بأي من الامتيازات، التي تضمن له ـ في نظره ـ نصيباً من الأمر(١) . ولسوف يرى الناس كلهم أن له كل الحق في ذلك.

كما أن ذلك لا يعني أنه سوف لا يعود له نفوذ في الأوساط ذات النفوذ والقوة. بل إنني أعتقد أنه سوف يكون في تلك الحال أقوى بكثير منه في غيرها، حتى أن المنصب للإمامعليه‌السلام ، قد يكون شكلياً، ومركزه صورياً، لا حول له فيه ولا قوة.

وحينئذٍ.. وإذا كان المأمون سوف يبقى له نفوذ وقوة، وإذا كان سوف يشترط لتنازله عن الخلافة للإمام، ما يضمن له استمرار تلك القوة، وذلك النفوذ، بل وعودة الخلافة له في نهاية الأمر. فلسوف لا يصعب عليه كثيراً أن يدبر ـ وهو الداهية الدهياء ـ في الإمامعليه‌السلام بما يحسم عنه مواد بلائه، على حد تعبير المأمون.

وليطمئن ـ من ثم ـ خاطره، ويهدأ باله، حيث يكون قد حقق كل ما كان يصبو ويطمح إلى تحقيقه. كما أنه يكون قد أصبح يمتلك اعترافاً من العلويين بشرعية خلافته.. بل يكون العلويون على يد أعظم شخصية فيهم، هم الذين رفعوه على العرش وسلموا إليه أزمة الحكم والسلطان..

إلى آخر ما هنالك مما قدمناه، ولا نرى ضرورة لإعادته.

وفي النهاية:

والآن.. وبعد أن ألقينا نظرة سريعة على مدى جدية المأمون، في عرضه للخلافة على الإمامعليه‌السلام ، وتحدثنا عن الوضع الذي سوف ينتج لو أن الإمام قبل ذلك العرض.. فإن من الطبيعي أن نتطلع لنعرف ما هو موقف الإمام من تلك اللعبة ـ لعبة ولاية العهد ـ وما هي خطته في مواجهة ما يعلمه من خطط المأمون، وأهدافه الشريرة.

فإلى الفصل التالي، والذي بعده..

____________

(١) كأن يشترط أن يكون هو الوزير، أو ولي العهد مثلاً.

٢٥٨

موقف الإمامعليه‌السلام

سؤال يطرح نفسه:

هل يعقل أن رجلاً تعرض عليه الخلافة، أو ولاية العهد، بل ما هو أقل منهما بمراتب، ويعرف جدية العرض، ثم يرفض ذلك رفضاً قاطعاً، ثم يهدد، فلا يقبل إلا بما هو أبعد منالا، وأقل احتمالاً ـ بالنسبة إلى سنه ـ وبشروط تبعده كل البعد عن مسرح السياسة والحكم، وتجعل من كل شيء مجرد إجراءات شكلية، لا أثر لها.

هل يعقل أن رجلاً من هذا القبيل ـ يسلم من أن ينسب إلى ما لا يرضى أحد بأن ينسب إليه؟!. اللهم إلا إذا كان هناك ما هو أعظم، وأدهى وأخطر من ذلك المنصب، وإلا إذا علم أنه سوف يدفع ثمن ذلك غالياً، وغالياً جداً، ألا وهو نفسه التي بين جنبيه!.

والإمام. الذي نعرف، ويعرف كل أحد: أنه ذلك الرجل الجامع لكن صفات الفضل والكمال: من العلم، والعقل، والحكمة، والدراية، والتقى، شهد له بذلك أعداؤه ومحبوه، على حد سواء ـ هذا الإمام. قد رفض كلا عرضي المأمون: الخلافة، وولاية العهد.. رفضهما رفضاً باتاً وقاطعاً، ولم يقبل ولاية العهد إلا على كره وإجبار منه، وإلا وهو باك حزين، وعاش بعد ذلك في ضيق شديد، ومحنة عظيمة، حتى إنه كان يدعو الله بالفرج بالموت!.

وعليه.. أفلا يكفي موقف الإمام هذا، وسائر مواقفه من مختلف تصرفات المأمون، لأن يضع علامة استفهام كبيرة حول طبيعية هذا الحدث؟!.

ألم يكن من الواجب أن يكون الإمامعليه‌السلام مستبشراً مبتهجاً كل الابتهاج لما سيؤول إليه أمره. ومدافعاً عن المأمون، ونظام حكمه، ومناصراً له، بكل ما أوتي من قوة وحول؟!.

ثم ألا يفهم من ذلك كله: أنهعليه‌السلام كان يدرك ما يكمن وراء قبوله لأي من العرضين من مشاكل، وما ينتظره من أخطار؟!.

وأن ذلك ليس إلا شركاً يقصد إيقاعه به، ومن بعده كل العلويين وشيعتهم، للقضاء عليه وعليهم، وإلى الأبد!!.

٢٥٩

وإذا كان الإمامعليه‌السلام يعرف الحقيقة.. فهل يمكن أن نتصور أن يكون راضيا بأن يجعله المأمون وسيلة لأغراضه، وآلة لتحقيق مآربه وأهدافه!!. سيما إذا لاحظنا أنه يعرف أكثر من أي إنسان آخر ما لتلك اللعبة من عواقب سيئة، وما تحمله في طياتها من آثار، ليس عليه هو، وعلى العلويين، والمتشيعين لهم فحسب. وإنما على الأمة بأسرها إن حاضراً، وإن مستقبلاً!؟.

هذا كله عدا عن أن هذه اللعبة سوف تكون بمثابة قطع الطريق عليه في أي تحرك يقوم به، وأي نشاط إصلاحي يمارسه، حيث لم يعد يستطيع أن يكون في المستقبل قائداً للحركة المضادة للمأمون، ونظام حكمه، القائم على غير أساس شرعي، ومنطقي سليم(١) .

لا يرضى الإمامعليه‌السلام ، ولا يقتنع المأمون:

لا.. لا يمكن أن يرضى الإمام بذلك، وخصوصاً بعد أن تلقى العلم عن آبائه الصادقين، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي لا ينطق عن الهوى: بأن ذلك شيء لا يتم، وأوضح ذلك بما كتبه على وثيقة العهد الآتية بخط يده، حيث قال: (والجفر والجامعة يدلان على ضد ذلك، لكنني امتثلت أمر أمير المؤمنين.).

لا.. لا يمكن أن يرضى ببيعة يعلم أنها لا تتم له، وإنما تخدم مصالح آخرين. وتحقق لهم مأربهم، على حساب الدين، والأمة، ولهذا رفض بشدة وعنف، وأصر عليه المأمون بشدة وعنف أيضاً. ولم يكن ليقنع المأمون شيء، بعد أن كان يرى أن القضية بالنسبة إليه قضية مصير ومستقبل، وهو مستعد لأن يضحي بكل شيء في سبيل مصيره ومستقبله، كما ضحى بأخيه وأشياعه من قبل.

وإنه إذا تأكد لديه رفض الإمامعليه‌السلام القاطع، وتصور ما سوف تؤول إليه حاله نتيجة لذلك الرفض، فلسوف لا يألو جهداً، ولا يدخر وسعاً في الانتقام لنفسه من الإمامعليه‌السلام ، ومن كل من تصل إليه يده، ممن له بهعليه‌السلام أية صلة أو رابطة.

____________

(١) وفي كتاب: الإمامة للشيخ محمد حسن آل ياسين ص ٨٦، قال إنهعليه‌السلام وافق على فكرة ولاية العهد، لتكون فترة امتحان وتجربة للمأمون. ولا يخفى ما فيه، فإن كل الدلائل والشواهد كانت تشير إلى أن الإمامعليه‌السلام كان يعلم بحقيقة نوايا المأمون وأهدافه، ولم تكن ثمة حاجة إلى امتحان وتجربة، كما اتضح وسيتضح إن شاء الله تعالى.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409