الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)14%

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 409

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 207350 / تحميل: 8939
الحجم الحجم الحجم
الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الخوف من الله والورع والالتزام ، فهي إذن جامعة لكافة صفات الكمال الإنساني.

إنّ ذكر الجنات والعيون بصيغة الجمع إشارة إلى تنوع رياض الجنّة وكثرة عيونها ، والتي لكل منها لذة مميزة وطعم خاص.

2 و 3 ـ ثمّ تشير الآيات إلى نعمتين معنويتين مهمّتين أخيرتين (السلامة) و (الأمن) السلامة من أيّ أذى وألم ، والأمن من كل خطر ، فتقول ـ على لسان الملائكة مرحبة بهم ـ :( ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ ) .

وفي الآية التّالية بيان لثلاث نعم معنوية أخرى :

4 ـ( وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ ) أي : الحسد والحقد والعداوة والخيانة(1) .

5 ـ( إِخْواناً ) تربطهم أقوى صلات المحبة.

6 ـ( عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) (2) .

إن جلساتهم الاجتماعية خالية من القيود المتعبة التي يعاني منها عالمنا الدنيوي ، فلا طبقية ولا ترجيح بدون مرجح والكل إخوان ، يجلسون متقابلين في صف واحد ومستوى واحد.

وبطبيعة الحال ، فهذا لا ينافي تفاوت مقاماتهم ودرجاتهم الحاصلة من درجة الإيمان والتقوى في الحياة الدنيا ، ولكنّ ذلك التساوي إنما يرتبط بجلساتهم الاجتماعية.

7 ـ ثمّ تأتي الإشارة إلى النعمة المادية والمعنوية السابعة :( لا يَمَسُّهُمْ فِيها

__________________

(1) الغل : في الأصل بمعنى النفوذ الخفي للشيء ، ولهذا يطلق على الحسد والحقد والعداوة التي تنفذ بخفاء في نفس الإنسان ، فالغل مفهوم واسع يشمل الكثير من الصفات الأخلاقية القبيحة.

(2) السرر : جمع سرير ، وهي المقاعد التي يجلسون عليها في جلسات سمرهم. (علما بأن كلا من سرر وسرير من مادة واحدة).

٨١

نَصَبٌ ) إنّه ليس كيوم استراحة بهذه الدنيا يقع بين تعب ونصب قبله وبعده ، ولا يدع الإنسان يجد طعم الراحة والاستقرار.

8 ـ ولا يشغلهم همّ فناء أو انتهاء نعم( وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ ) .

بعد أن عرض القرآن الكريم النعم الجليلة التي ينالها المتقون في الجنّة بذلك الرونق المؤثر الذي يوقع المذنبين والعاصين في بحار لجية من الغم والحسرة ويجعلهم يقولون : يا ليتنا نصيب بعض هذه المواهب ، فهناك ، يفتح الله الرحمن الرحيم أبواب الجنّة لهم ولكن بشرط ، فيقول لهم بلهجة ملؤها المحبّة والعطف والرحمة وعلى لسان نبيّه الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

إنّ كلمة «عبادي» لها من اللطافة ما يجذب كل إنسان ، وحينما يختم الكلام ب( الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) يصل ذلك الجذب إلى أوج شدته المؤثرة.

وكما هو معهود من الأسلوب القرآني ، تأتي العبارات العنيفة حين تتحدث عن الغضب والعذاب الإلهي لتمنع من سوء الاستفادة من الرحمة الإلهية ، ولتوجد التعادل بين مسألتي الخوف والرجاء ، الذي يعتبر رمز التكامل والتربية فيقول وبدون فاصلة :( وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ ) .

* * *

بحوث

1 ـ رياض وعيون الجنّة :

إنّ فهم واستيعاب أبعاد النعم الإلهية التي تزخر بها الجنّة ونحن نعيش في هذا العالم الدنيوي المحدود ، يعتبر أمرا صعبا جدا ، بل ومن غير الممكن ، لأنّ نعم هذا العالم بالنسبة لمنعم الآخرة كنسبة الصفر إلى رقم كبير جدّا ومع ذلك فلا يمنع من أن نحس ببعض أشعتها بفكرنا وروحنا.

إنّ القدر المسلم بهذا الخصوص ، هو أنّ النعم الأخروية متنوعة جدّا ، وينطق

٨٢

بهذه الحقيقة التعبير بال «جنات» في الآيات المتقدمة وغيرها من الآيات الأخر ، وكذلك التعبير بال «عيون».

لقد ورد في القرآن الكريم (في سور الإنسان ، الرحمن ، الدخان ، محمد وغيرها) إشارة إلى أنواع مختلفة من هذه العيون ، وأشير الى تنوعها بإشارات صغيرة. ولعل ذلك تصوير لأنواع الأعمال الصالحة في هذا العالم ، وسنشير إلى هذا الأمر إن شاء الله عند تفسيرنا لهذه السور.

2 ـ النّعم المادية وغير المادية :

على خلاف ما يتصور البعض فإنّ القرآن لم يبشر الناس دائما بالنعم المادية للجنّة فقط ، بل تحدث مرارا عن النعم المعنوية أيضا ، والآيات مورد البحث نموذج واضح لذلك حيث نرى أن أول ما يواجه أهل الجنّة هناك هو الترحيب والبشارة من الملائكة لأهل الجنّة عند دخولهم فيها( ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ ) .

ومن النعم الروحية الأخرى التي أشارت إليها هذه الآيات تطهير الصدور من الأحقاد وكل الصفات المذمومة كالحسد والخيانة وما شابهها ، والتي تذهب بروح الأخوة.

وكذلك حذف الاعتبارات والامتيازات الاجتماعية المغلوطة التي تخدش استقرار فكر وروح الإنسان ، وهو ما ذكره في وصف جلساتهم.

ومن نافلة القول أن (السلامة) و (الأمن) المجعولتين على رأس النعم الأخروي ، هما أساس لكل نعمة أخرى ، ولا يمكن الاستفادة الكاملة من أية نعمة بدونهما وهذا ما ينطبق حتى على الحياة الدنيا ، فالأمن والسلام أساس لكل نعيم ورخاء وإلّا فلا.

٨٣

3 ـ الحقد والحسد عدوّا الأخوة :

من لطيف ما يلاحظ في هذه الآيات أنّها بعد أن ذكرت نعمة السلامة والأمن ، وقبل أن تتعرض لبيان حال الأخوّة والألفة التي سيكون عليها أهل الجنّة ، أشارت إلى مسألة نزع الصفات المانعة للأخوّة ، كالحقد والحسد والغرور والخيانة ، جامعة كل ذلك بكلمة الغل» ذات المفهوم الواسع.

وفي الحقيقة ، إنّ قلب الإنسان ما لم يطهر من هذا «الغل» فسوف لا تتحقق نعمة السلامة والأمن ولا الأخوّة والمحبّة ، بل الحروب والمظالم والمجابهات والصراعات على الدوام ، وهو ما يؤدي إلى قلع جذور الأخوّة والسلامة والأمن من الحياة.

4 ـ الجزاء الكامل :

يقول بعض المفسّرين : إنّ الجزاء لا يكتمل إلّا بأربعة أمور : منافع وخيرة ، أن تكون مقرونة بالاحترام ، خالية من أيّ ألم ، دائمة وخالدة.

وقد أشارت الآيات مورد البحث إلى هذه الأمور الأربعة

فعبارة( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ) إشارة إلى المنفعة الأولى.

وعبارة( ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ ) دليل على الاحترام والتقدير.

وعبارة( وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) إشارة إلى نفي أي نوع من الآلام والمعاناة الروحية (النفسية).

وعبارة( لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ ) إشارة إلى نفي الآلام الجسمانية.

أمّا عبارة( وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ ) فهي حاكية عن آخر شرط ، وهو دوام وبقاء النعم.

٨٤

وبهذا يكون هذا الجزاء والثواب كاملا من كل الجهات(1) .

5 ـ تعالوا لنجعل من هذه الدنيا جنّة :

إنّ النعم المادية والروحية الأخروية التي صورتها الآيات السابقة في حقيقتها تشكل أصول النعم لهذا العالم ، ولعل القرآن الكريم يريد أن يفهمنا بأنّنا يمكن أن نوجد جنّة صغيرة في حياتنا تكون شبيهة بتلك الجنّة الكبيرة ، فيما لو استطعنا أن نوفر شرائطها المطلوبة اللازمة.

فلو طهرنا قلوبنا من الحقد والعداوة.

وقوّينا بيننا روابط الأخوّة والمحبّة.

وحذفنا من حياتنا تلك الاعتبارات واشكال الترف الزائدة والمفرقة.

وإذا ما عملنا لتحقيق الأمن والسلام في مجتمعنا.

وإذا أدرك الناس بأنّه لا استعباد ولا استغلال ولا طبقية فيما بينهم فإنّنا ـ والحال هذه ـ سنكون في جنّة الحياة الدنيا!!

* * *

__________________

(1) التّفسير الكبير للفخر الرازي ، ج 19 ، ص 193.

٨٥

الآيات

( وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) )

التّفسير

الضّيوف الغرباء ..!

تتحدث هذه الآيات المباركات وما بعدها عن الجنبة التربوية في تاريخ حياة الأنبياءعليهم‌السلام وما جرى لهم مع العصاة من أقوامهم ، وتطرح الآيات نماذج حيّة للاعتبار ، لكلا الطرفين (عباد الله المخلصين من طرف وأتباع

٨٦

الشيطان من طرف آخر).

ومن لطيف البيان القرآني شروع الآيات بذكر قصة ضيف إبراهيم (وهم الملائكة الذين جاؤوا بهيئة البشر وبشروه بولد جليل الشأن ، ومن ثمّ أخبروه عن أمر عذاب قوم لوط).

فقد جاء في الآيتين السابقتين أمر الله إلى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتبيان سعة رحمة الله للناس مع تبيان أليم عذابه ، ويطرح في هذه القصة نموذجين حيين لهاتين الصفتين ، وبذلك تتبيّن صلة الربط بين هذه الآيات.

فتقول أوّلا :( وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ ) .

فكلمة «ضيف» جاءت بصيغة المفرد ، ولا مانع من ذلك حيث ذهب بعض كبار المفسّرين إلى أن «ضيف» تستعمل مفردا وجمعا.

وهؤلاء الضيوف هم الملائكة الذين دخلوا على إبراهيمعليه‌السلام بوجوه خالية من الابتسامة ، فابتدءوه بالسلام( إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً ) .

فقام إبراهيمعليه‌السلام بوظيفته (إكرام الضيف) ، فهيأ لهم طعاما ووضعه أمامهم ، إلّا أنّهم لم يدنوا إليه ،

فاستغرب من موقف الضيوف الغرباء ، فعبّر عمّا جال في خاطره( قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ) (1) .

وكان مصدر خوف إبراهيمعليه‌السلام ممّا كان عليه متعارفا في مسألة رد الطعام أو عدم التقرب منه ، فهو عندهم إشارة إلى وجود نيّة سوء أو علامة عداء.

ولكن الملائكة لم يتركوا ابراهيم في هذا الحال حتى :( قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ) .

من هو المقصود بالغلام العليم؟

يبدو من خلال متابعة الآيات القرآنية أنّ المقصود هو (إسحاق) ، حيث نقرأ

__________________

(1) إنّ الآيات مورد البحث لم تذكر هذا التفصيل في تهيئة الطعام وعدم مد أيديهم إليه ، إلّا أنّ ذلك ورد في الآية (69) و (70) من سورة هود فليراجع.

٨٧

في سورة هود ، الآية (71) أن امرأة إبراهيم كانت واقفة بقربه عند ما بشرته الملائكة ، ويظهر كذلك أنّها كانت امرأة عاقرا فبشروها أيضا( وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ ) .

وكما هو معروف فإنّ سارة ، هي أم إسحاق ، ولإبراهيمعليه‌السلام ولد آخر أكبر من إسحاق واسمه (إسماعيل) من (هاجر) ـ الأمّة التي تزوجها إبراهيم.

كان إبراهيم يعلم جيدا أنّه من المستبعد أن يحصل له ولد ضمن الموازين الطبيعية ، (ومع أن كل شيء مقدورا للهعزوجل ) ، ولهذا أجابهم بصيغة التعجب :( قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ) هل البشارة منكم أم من اللهعزوجل وبأمره ، أجيبوني كي أزداد اطمئنانا؟

إنّ تعبير «مسّني الكبر» إشارة إلى ما كان يجده من بياض في شعره وتجاعيد في وجهه وبقية آثار الكبر فيه.

ويمكن لأحد أن يشكل : بأنّ إبراهيمعليه‌السلام قد سبق بحالة مشابهة حينما ولد له إسماعيلعليه‌السلام وهو في الكبر فلم التعجب من تكرار ذلك؟

والجواب : أوّلا : كان بين ولادة إسماعيل وإسحاق (على ما يقول بعض المفسّرين) أكثر من عشر سنوات ، وبذلك يكون تكرار الولادة مع مضي هذه المدّة ضعيف الاحتمال.

وثانيا : إنّ حدوث ووقوع حالة مخالفة للموازين الطبيعية مدعاة للتعجب ، وإذا ما تكررت فلا يمنع من التعجب لحدوثها وتكرارها مرّة أخرى.

فولادة مولود جديد في هكذا سن أمر غير متوقع ، وإذا ما وقع فهو غريب وعجيب في كل الأحوال(1) .

وعلى أية حال لم يدع الملائكة مجالا لشك أو تعجب إبراهيم حيث( قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ ) فهي بشارة من الله وبأمره ، فهي حقّ مسلّم به.

__________________

(1) يذكر بعض المفسّرين أن عمر إبراهيمعليه‌السلام عند ولادة ابنه إسماعيل كان (99) عاما ، وعند ولادة إسحاق كان عمره (112) عاما.

٨٨

وتأكيدا للأمر ودفعا لأي احتمال في غلبة اليأس على إبراهيم ، قالت الملائكة:( فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ ) .

لكنّ إبراهيمعليه‌السلام طمأنهم بعدم دخول اليأس من رحمة الله إليه ، وإنّما هو في أمر تلك القدرة التي تجعل من اختراق النواميس الطبيعية أمر حاصل وبدون الخلل في الموازنة ،( قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ) .

إنّ الضالين هم الذين لا يعرفون الله وقدرته المطلقة ، الله الذي خلق الإنسان ببنائه العجيب المحير من ذرة تراب ومن نطفة حقيرة ليخرجه ولدا سويا ، الله الذي حوّل نخلة يابسة الى حاملة للثمر بإذنه ، الله الذي جعل النّار بردا وسلاما هل من شك بأنّه سبحانه قادر على كل شيء ، بل وهل يصح ممن آمن به وعرفه حق معرفته أن ييأس من رحمته!؟!

وراود إبراهيمعليه‌السلام ـ بعد سماعه البشارة ـ أنّ الملائكة قد تنزلت لأمر ما غير البشارة، وما البشارة إلّا مهمّة عرضية ضمن مهمّتهم الرئيسية ، ولهذا( قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ) .

ومع علم الملائكة بإحساس إبراهيمعليه‌السلام المرهف وأنّه دقيق في كل شيء ولا يقنع بالعموميات ، فبينوا له أمر نزول العذاب على قوم لوط المجرمين باستثناء أهله( إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ ) .

إنّ ظاهر تعبير «آل لوط» وما ورد من تأكيد بكلمة «أجمعين» سيشمل امرأة لوط الضالة التي وقفت في صف المشركين ، ولعل إبراهيم كان مطلعا على ذلك ، ولذا أضافوا قائلين :( إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ ) .

و «قدّرنا» إشارة إلى المهمّة التي كلفوا بها من اللهعزوجل .

هذا وقد بحثنا قصة نزول الملائكة على إبراهيمعليه‌السلام وتبشيره بإسحاقعليه‌السلام وحديثهم معه بشأن قوم لوطعليه‌السلام مفصلا في تفسيرنا للآيتين (69 و 70) من سورة هود من هذا التّفسير.

* * *

٨٩

الآيات

( فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) )

٩٠

التّفسير

عاقبة مذنبي قوم لوط :

طالعتنا الآيات السابقة بقصة اللقاء بين ملائكة العذاب هؤلاء وبين إبراهيمعليه‌السلام ، وهذه الآيات تكمل لنا سير أحداث القصّة فتبتدأ من خروجهم من عند إبراهيم حتى لقائهم بلوطعليه‌السلام .

فنقرأ أوّلا( فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ ) .

فالتفت إليهم لوط( قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ) .

يقول المفسّرون : قال لهم ذلك لما كانوا عليه من جمال الصورة ريعان الشباب ، وهو يعلم ما كان متفشيا بين قومه من الانحراف الجنسي فمن جهة ، هم ضيوفه ومقدمهم مبارك ولا بد من إكرامهم واحترامهم ، ولكنّ المحيط الذي يعيشه لوطعليه‌السلام مريض وملوث.

ولهذا ورد تعبير «سيء بهم» في الآيات المتعرضة لقصة قوم لوط في سورة هود ، أي إنّ هذا الموضوع كان صعبا على نبيّ الله وقد اغتم لقدومهم لتوقعه يوما عصيبا!

ولكنّ الملائكة لم يتركوه وهذه الهواجس طويلا حتى سارعوا الى القول :( قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ ) ، أي إنّنا جئنا بالعذاب الذي واعدتهم به كثيرا ، وذلك لأنّهم لم يعتنوا ولم يصدقوا بما ذكرته لهم.

ثمّ أكّدوا له قائلين :( وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِ ) ، أي العذاب الحتمي الجزاء الحاسم لقومك الضالين.

ثمّ أضافوا لزيادة التأكيد :( وَإِنَّا لَصادِقُونَ ) .

فهؤلاء القوم قد قطعوا كل جسور العودة ولم يبق في شأنهم محلا للشفاعة والمناقشة ، كي لا يفكر لوط في التشفع لهم وليعلم أنّهم لا يستحقونها أبدا.

ثمّ قال الملائكة للوط : أخرج وأهلك من المدينة ليلا حين ينام القوم أو

٩١

ينشغلوا بشرابهم وشهواتهم ، لأجل نجاة الثلة المؤمنة من قومه (وهم أهله ما عدا زوجته).

( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ) وكن خلفهم كي لا يتخلف أحد منهم ولتكون محافظا ورقيبا لهم( وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ ) وعلى أن يكون نظركم إلى الأمام( وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ) ، أي إلى أرض الشام ، أو أيّ مكان آخر يكون فيه الناس مطهرين من هذه الآثام.

ثمّ ينتقل مجرى الحديث حيث يقول تعالى :( وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ) ، أي سوف لا يبقى منهم أحد عند الصباح.

ومن الملفت للنظر ، أن القرآن قد ترك القصّة عند هذا الحد وعاد إلى بدايتها ليعرض ما ترك القول فيه ـ لسبب سنشير إليه فيما بعد ـ فيقول :( وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ ) أي إنّهم قد ظنوا بحصول لقمة جديدة سائغة عن طريق ضيوف لوط!

إنّ تعبير( أَهْلُ الْمَدِينَةِ ) ليوحي إلى أن الذين تحركوا صوب منزل لوطعليه‌السلام كانوا جمعا كبيرا ، وهو ما يوضح بجلاء تلك الوقاحة والقبح والجسارة التي كانوا عليها ، وخصوصا قوله( يَسْتَبْشِرُونَ ) التي تحكي عمق تلوثهم بذلك الدرك السافل ، مع أنّ مثل هذا الفعل القبيح ربّما لا يشاهد حتى بين الحيوانات ، وإذا ما ابتلى به إنسان (والعياذ بالله) فإنّه سوف يحاول كتمه وإخفاؤه ، حيث أن الإتيان به مدعاة للتحقير والازدراء من قبل الآخرين أمّا قوم لوط ، فكانوا مستبشرين بذلك الصيد الجديد وكل يهنئ الآخر على ما سيصيبه من نصيب!!

وحينما سمع لوط أصواتهم وضجيجهم أغتم غمّا شديدا لأجل ضيوفه ، لأنّه ما كان يدري أنّهم ملائكة العذاب الى ذلك الوقت ولهذا( قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ ) .

أي إن كنتم لا تؤمنون بالله ولا تصدقون بالنّبي ولا تعتقدون بثواب وعقاب ، فراعوا حق الضيافة التي هي من السنن المتعارف عليها عند كل

٩٢

المجتمعات سواء كانت مؤمنة أم كافرة ، أيّ بشر أنتم؟ لا تفهمون أبسط المسائل الإنسانية، فإن لم يكن لكم دين فكونوا أحرارا في دنياكم! ثمّ أضاف قائلا :( وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ ) (1) أمام ضيفي.

ولكنّهم من الوقاحة والإصرار على الانحراف بحيث صاروا لا يشعرون بالخجل من أنفسهم ، بل راحوا يحاججون لوطا ويحاسبونه ، وكأنّه ارتكب جرما في استضافته لهؤلاء القوم( قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ ) ، باستضافتهم! فلما ذا خالفت أمرنا؟!

وكان قوم لوط من البخل بحيث أنّهم لا يحبون الضيافة ، وكانت مدينتهم على طريق القوافل ، ويبررون فعلهم القبيح ببعض الواردين لأجل أن لا ينزل عندهم أحد من القوافل المارة ، وتعارفوا على ذلك حتى أصبح عندهم عادة.

وكما يبدو أنّ لوطا كان حينما يسمع بأحد الغرباء يدخل المدينة يسرع لاستضافته خوفا عليه من عمل قومه الخبيث ، ولما علم أهل المدينة بذلك جاؤوا إليه غاضبين ونهوه عن أن يستضيف أحدا مستقبلا.

عليه ، فكلمة «العالمين» في الآية أعلاه ـ ما يبدو ـ إشارة إلى عابري السبيل ، ومن هم ليسوا من أهل تلك المدينة.

وعند ما رآهم لوط على تلك الحال من الوقاحة والجسارة ، أتاهم من طريق آخر لعلهم يستفيقون من غفلتهم وسكر انحرافهم ، فقال لهم : إن كنتم تريدون إشباع غرائزكم فلما ذا تسلكون سبيل الانحراف ولا تسلكون الطريق الصحيح (الزواج)( قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ) .

__________________

(1) نرى في هذه الآيات أن لوطا يطلب من قومه أن لا يفضحوه تارة وألّا يخزوه تارة أخرى ، الفضيحة لغة بمعنى: انكشاف شيء ، وظهور العيب أيضا (وأراد لوط أنّه يفهمهم بأن عملكم القبيح هذا سيخجلني أمام ضيوفي ويعرفوا مدى خباثة أهل مدينتي).

أمّا الخزي : فهو بمعنى الإبعاد وكذلك بمعنى الخجل (وأراد لوط أن يقول لهم : لا تخجلوني أمام ضيوفي وتباعدوا بيني وبينهم).

٩٣

ممّا لا شك فيه أنّ بنات لوط لا يكفين لذلك العدد الهائل من المتحجرين حول داره، ولكن لوطا الذي كان يهدف إلى إلقاء الحجّة عليهم أراد أن يقول لهم : انني مستعد الى هذه الدرجة للتضحية من أجل الضيف ، وكذلك لأجل إنقاذكم من الفساد ونجاتهم من الانحراف.

وذهب البعض إلى أنّ المقصود من( هؤُلاءِ بَناتِي ) كل بنات المدينة ، باعتباره أبا روحيا للجميع. (إلّا أنّ التّفسير الأوّل أقرب إلى معنى الآية).

وليس نجاف أنّ لوطا ما كان ليزوج بناته من أولئك المشركين الضالين ، ولكنّه أراد أن يقول لهم : تعالوا آمنوا لأزوجكم بناتي.

لكنّ الويل ، كل الويل من سكرات الشهوة ، الانحراف الغرور والعناد التي مسحت عنهم كل قيم الأخلاق الإنسانية وأفرغتهم من العواطف البشرية ، والتي بها يحسون بالخجل والحياء أمام منطق لوطعليه‌السلام ، أو أن يتركوا بيت لوط وينسحبوا عن موقفهم ، ولكنّ أنّى لهم ذلك ، والأكثرية بسبب عدم تأثرهم بحديث لوط استمروا في غيهم وأرادوا أن يمدوا أيديهم إلى الضيوف.

وهنا يخاطب الله تعالى نبيّه قائلا :( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) .

وقرأنا في سورة هود ـ فيما يتعلق بهذه القصّة ـ أنّ ملائكة العذاب قد كشفوا عن أمرهم وقالوا للوط : لا تخف إنّهم لن يصلوا إليك.

وفي الآية السابعة والثلاثين من سورة القمر نقرأ( وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ ) .

وفي بعض الرّوايات : إنّ أحد هؤلاء الضيوف أخذ قبضة من تراب فرماها في وجوه القوم فأصبحوا لا يبصرون جميعا.

وبعد ذلك يبلغ كلام الله تعالى عن هؤلاء القوم الذروة حينما يبيّن عاقبتهم السيئة في آيتين قصيرتين وبشكل حدّي مليء بالدروس والعبر بقوله :( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ) أي صوت شديد عند شروق الشمس.

٩٤

ويمكن حمل «الصيحة» على أنّها صاعقة عظيمة أو صوت زلزلة رهيب ، والمهم أنّه كان صوتا مرعبا أسقط الجميع مغميا عليهم أو ميتين.

والمعلوم أنّ الأمواج الصوتية إذا ما تعدت حدّا معينا فستكون مرعبة مخيفة تهز فرائص الإنسان ، وإذا ما ازدادت شدتها فستبهت الإنسان وتشلّه عن الحركة وربّما تودي بحياته ، بل ومن الممكن لها أن تهدم الأبنية ، وهذا ما تفعله المتفجرات.

ولم يكتف بذلك بل شمل العذاب المدينة أيضا( فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها ) .

وزيد في التنكيل بهم( وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ) .

إنّ سقوط الحجارة على رؤوسهم ربّما كان يستهدف من لم يمت من الصيحة المرعبة ولم يصبح تحت الأنقاض ، وربّما لأجل محو أجسادهم ، وجثثهم من على الأرض كي لا يبقى أثر لهؤلاء القوم المجرمين ، حتى أنّ المار على تلك الديار بعد نزول الأحجار لا يصدق بسهولة أنّها كانت مدينة معمورة!

ثمّ إنّ نزول هذا العذاب ذو المراحل الثلاث (الصيحة الرهيبة ، قلب المدينة ، المطر الحجري) ـ رغم أن كل واحدة منهن كانت تكفي لقطع دابر القوم ـ كان لمضاعفة عذابهم لشدّة فسادهم وجسارتهم وإصرارهم على إدامة التلوّث بتلك القبائح الشنيعة ، وكي يكون عبرة لمن يعتبر.

وهنا يخلص القرآن الكريم إلى النتائج الأخلاقية والتربية فيقول :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) (1) العقلاء الذين يفهمون الأحداث بفراستهم وذكائهم ونظرهم الثاقب ويحملون من كل إشارة حقيقة ومن كل تنبيه درسا.

ولا تتصوروا أن آثارهم ذهبت تماما ، بل هي باقية على طريق القوافل والمارة( وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ) .

__________________

(1) متوسم : من مادة (وسم) ـ على وزن رسم ـ أى ترك أثرا ، ويقال لمن يخلص من أثر صغير إلى نتائج وحقائق كبيره (متوسم).

٩٥

وإن لم تصدقوا فاذهبوا لرؤية آثار المدن المعذبة الواقعة على طريق المسافرين إلى الشام (من المدينة) فانظروا وفكروا واعتبروا ، وعودوا إلى الله ، واسلكوا طريق التوبة ، وطهّروا نفوسكم من الآثام والذنوب.

ثمّ تدعوا الآية المؤمنين إلى التفكر مليا في هذه القصة واستخلاص العبر منها :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ) .

فكيف يمكن للمؤمن أن لا يعتبر ولا يهتز عند ما يطالع خبر هذه الواقعة؟!

بحثنا بشيء من التفصيل في الآيات المتعلقة بقوم لوط في سورة هود من هذا التفسير ، فبحثنا في معنى «سجيل» ، ولما ذا أمطر على هؤلاء القوم المنحرفين بالحجارة ، ولماذا قلبت مدينتهم ، ولما ذا كان العذاب صباحا ، ولما ذا أمر لوط وأهله أن لا يلتفتوا إلى الوراء ، وكذلك بحثنا مسألة تحريم الشذوذ الجنسي في الأديان السماوية وفلسفة التحريم ، بالإضافة إلى بحث في أخلاق قوم لوط وسنبحث هنا بعض ما تبقى من الإشارات المتعلقة بهذه القصّة.

* * *

بحوث

1 ـ ما المقصود ب( بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ) ؟

«القطع» بمعنى سواد الليل ، يقول المرحوم الطبرسي في (مجمع البيان) : القطع كأنّه جمع قطعة ، ومعناه : سر بأهلك بعد ما يمضي أكثر الليل وتبقى قطعة منه.

ولكنّ الراغب الأصفهاني في مفرداته يعتبر كلمة «قطع» بمعنى قطعة على صيغة المفرد ، مع أن كثيرا من المفسّرين فسّروها بأواخر الليل وعند السحر ، ولعل تفسيرهم يعود إلى الآيات الأخرى التي تحدد هذا الوقت في قصّة آل لوط

٩٦

( نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ ) (1) .

أي إنّهم خرجوا عند ما كان عبّاد الشهوة غارقين في نوم غفلتهم وقد أفسد وجودهم سكر الشراب والغرور والشهوات ، فكانت المدينة مهيئة لآل لوط في الخروج بسلام.

ثمّ إنّ نزول العقاب كان في الصباح عند شروق الشمس ، ولعل انتخاب هذا الوقت كان لإعطاء المهلة لقوم لوط بعد أن فقدوا أبصارهم ، عسى أن يتفكروا في أمرهم فيعيدوا النظر في شركهم وعصيانهم ، فكانت تلك الليلة آخر فرصة لهم.

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ بعضا منهم عند ما كانوا في طريق عودتهم إلى دورهم أقسموا أن لا يدعوا أحدا من آل لوط حيا عند الصباح ، ولهذا نزل عليهم العذاب الإلهية في ذلك الوقت(2) .

2 ـ تفسير قوله تعالى :( وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ) .

ذكرنا أنّ الملائكة أوصت آل لوط بالخروج آخر الليل إلى المكان الذي عين لهم ، إلّا أن الآيات القرآنية لم تدخل في تفاصيل ذلك السفر ولم تعين المنطقة التي سيذهبون إليها ، لذلك عرض المفسّرون جملة آراء بهذا الخصوص.

فمنهم من قال : أمروا بالسير نحو الشام لأنّ محيطها أكثر طهارة.

وقال بعض آخر : إنّ الملائكة عينت لهم قرية وطلبت منهم الذهاب إليها.

واكتفى تفسير الميزان بعبارة : كان لديهم نوع من الهدية الإلهية والدلالة العلمية في سلوك طريقهم.

__________________

(1) سورة القمر ، 34.

(2) نور الثقلين ، ج 2 ، ص 358.

٩٧

3 ـ علاقة الرّبط بين «المتوسم» و «المؤمن».

لاحظنا تعبير( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) و( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ) في الآيات الحاكية عن قصّة قوم لوط ، والجمع بين التعبيرين يعطينا : أنّ المؤمن الحقيقي هو المتوسم الذي ذو الفراسة والنباهة.

وفي رواية عن الإمام الباقرعليه‌السلام عند ما سئل عن تفسير قوله تعالى :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) قال : هم الأمّة ، ثمّ قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اتقوا فراسة المؤمن، فإنّه ينظر بنور اللهعزوجل »(1) .

وفي رواية أخرى عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «هم الأئمّة»(2) .

وروي أن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه قال : «كان رسول الله المتوسم ، وأنا من بعده، والأئمّة من ذريتي المتوسمون»(3) .

4 ـ سكر الشّهوة والغرور!

إن سكر الخمر معروف ، وثمة سكر أشد منه آثارا كسكر المنصب وسكر الشهوة ، وقرأنا في الآيات السابقة كيف أن الله يقسم بروح نبيّه( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ، ولهذا فإنّهم لا يبصرون أوضح طرق النجاة ، وبلغ بهم الحال أن يردوا ما عرض عليهم نبيّهمعليهم‌السلام أن يشبعوا شهواتهم بالطريق الصحيح المشروع ليتخلصوا من الذنوب والتلوثات وقبائح الأفعال!

والذي نستفيده من موقف لوطعليه‌السلام هو أنّ مكافحة الفساد لا يتم بالنهي عنه فقط، بل لا بدّ من تهيئة وتعبيد الطريق المعبدة البدلية ، لينتقل الضال أو المضلل به من جادة الفساد إلى جادة الصلاح ، فلا بد من تهيئة الأوضاع والأجواء السليمة

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 23.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

٩٨

للناس مع وجود البرامج المؤثرة الهادفة.

ومن غريب ما نطالعه في بعض الرّوايات أنّ لوطا (هذا النّبي الجليل) قد قضى بين قومه ثلاثين عاما وهو يدعوهم إلى الهدى ويحذرهم من مغبة الانغماس في متاهات الضلال ، ومع ذلك لم يؤمن به إلّا أهل بيته (ما عدا زوجته)(1) .

ما أعظم ثباتهعليه‌السلام ! مع منحرفين لدرجة لا يطيق أيّ إنسان العيش معهم حتى ولو لساعة واحدة! بل وما أصعب العيش مع تلك الزوجة!

ونقرأ في الآيتين الخامسة والثلاثين والسادسة والثلاثين من سورة الذاريات :( فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) ؟

فيتّضح لنا أنّ العقاب الإلهي لا يكون عشوائيا ، بل لا يشمل إلّا المستحقين له ولو كان هناك مؤمن واحد عامل بواجباته لا نقذه الله تعالى من بينهم.

* * *

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 382.

٩٩

الآيات

( وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84) )

التّفسير

خاتمة أصحاب الأيكة وأصحاب الحجر :

يشير القرآن الكريم في هذه الآيات إلى قصّتين من قصص الأمم السالفة ، وهما (أصحاب الأيكة) و (أصحاب الحجر) ليكمل البحث الذي عرضه في الآيات السابقة حول قوم لوط.

يقول أوّلا :( وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ ) (1) .

( فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ ) وعاقبناهم على ظلمهم واستبدادهم

__________________

(1) إنّ كلمة «إنّ» في هذه الآية ليست شرطية وإنّما هي مخففة ، فيكون تقدير الكلام (إنه كان أصحاب الأيكة لضالمين).

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

أقدمت، لعن الله فلاناً وفلاناً، فإنهما أشارا علي بما فعلت..)(١) .

لسوف نغض النظر عن كل ما تقدم، وحتى عن رسالته للسري، عامله على مصر، والتي أشرنا إليها غير مرة..

والذي نريده هنا:

ولا نريد هنا إلا أن نضع بعض علامات استفهام على بعض تصرفات المأمون، وأقواله حين وفاة الإمامعليه‌السلام ، حيث رأيناه: قد ارتبك في أمر وفاة الرضاعليه‌السلام أشد ما يكون الارتباك..

الأسئلة التي لن تجد جوابا:

فأول ما يطالعنا من الأسئلة هو أنه: لماذا يستر موت الرضاعليه‌السلام يوماً وليلة؟!(٢) .

ولماذا يقول للإمام، وهو بعد لم يمت: (.. ما أدري أي المصيبتين علي أعظم، فقدي إياك، أو تهمة الناس لي: أني اغتلتك وقتلتك)(٣) ؟!.

____________

(١) إثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٩.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٥٦٧، وكشف الغمة ج ٣ ص ٧٢، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٧٧، والبحار ج ٤٩ ص ٣٠٩، وإرشاد المفيد ص ٣١٦.

(٣) مقاتل الطالبيين ص ٥٧٢، وإرشاد المفيد ص ٣١٦، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٤١، والبحار ج ٤٩ ص ٢٩٩. وعبارة مقاتل الطالبيين: (وأغلظ من ذلك علي، وأشد: أن الناس يقولون: إني سقيتك سماً).

٣٤١

ولماذا يظهر التمارض بعد أن أكل مع الإمامعليه‌السلام العنب(١) ..؟! وكيف مات الإمامعليه‌السلام في مرضه من العنب، ولم يمت المأمون منه أيضاً؟!.

ولماذا يحضر محمد بن جعفر، وجماعة من آل أبي طالب، ويشهدهم على أن الرضا مات حتف أنفه، لا مسموماً(٢) ؟!.

ولماذا يبقى على قبره ثلاثة أيام!! يؤتى! كل يوم برغيف واحد وملح ليأكله!. الأمر الذي لم يفعله حتى عندما مات أبوه الذي ولد منه، وأخوه الذي قتله، وفعل برأسه ما فعل؟!.

وهل يمكن أن نصدقه حينما نسمعه يقول: (وقد كنت أؤمل أن أموت قبلك)(٣) !. هذا مع علمه بأن الإمامعليه‌السلام كان يكبره بـ(‍٢٢) سنة؟! أم أن وقع المصيبة جعله يتكلم بما لا معنى له، ولا واقع وراءه؟!.

ولماذا أيضاً: يجبره على أكل العنب بعد امتناع الإمامعليه‌السلام من أكله، ثم يقول له: (لا بد من ذلك، وما يمنعك منه، لعلك تتهمنا بشيء؟!) وبعد أن أكل منه الإمامعليه‌السلام قام، فقال له المأمون: إلى أين؟ قالعليه‌السلام :((إلى حيث وجهتني..)) (٤) ؟!

ولماذا؟ ولماذا؟ إلى آخر ما هنالك مما يضيق عنه المقام..

____________

(١) إعلام الورى ص ٣٢٥، وإرشاد المفيد ص ٣١٦، ومقاتل الطالبيين ص ٥٦٦، والخرائج والجرائح طبعة حجرية ص ٢٥٨، وغير ذلك..

(٢) روضة الواعظين ج ١ ص ٢٧٧، ومقاتل الطالبيين ص ٥٦٧، وإرشاد المفيد ص ٣١٦، وكشف الغمة ج ٣ ص ٧٢ و ١٢٣. والبحار ج ٤٩ ص ٣٠٩، وإعلام الورى ص ٣٢٩.

(٣) نفس المصادر السابقة باستثناء كشف الغمة.

(٤) أمالي الصدوق ص ٣٩٣، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٧٤، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٤٣، وإعلام الورى ص ٢٢٦، والبحار ج ٤٩ ص ٣٠١، وغير ذلك.

٣٤٢

كاد المريب أن يقول: خذوني:

وبعد.. فهذه بعض الأسئلة، التي تدور حول تصرفات المأمون عند استشهاد الإمامعليه‌السلام .. تحتاج إلى جواب.. وأنى لها من المأمون الجواب الصحيح، والصريح. ولكن مواقفه وتصرفاته هذه، هي الجواب الكافي والشافي، فلقد قيل، وما أصدق ما قيل: (كاد المريب أن يقول: خذوني..) كما أن المؤرخين بدورهم قد أجابوا عنها بكل صراحة أحياناً، وباللف والدوران ـ لأسباب مختلفة ـ أحياناً أخرى..

فإلى الفصل التالي، لنقف على بعض أقوال ومواقف المؤرخين، بالنسبة لسبب وفاة الإمامعليه‌السلام ..

ما يقال حول وفاة الإمامعليه‌السلام

ماذا ترى بعض الفرق في الحكام:

قبل كل شيء نود أن نشير إلى أمر مهم، كنا قد أشرنا إليه من قبل، وله ـ إلى حد ما ـ صلة فيما نحن بصدده.. وهو: أن بعض فرق المسلمين ترى: أن الحكام تجب طاعتهم، ولا تجوز مخالفتهم، والقيام ضدهم، والوقوف في وجههم بحال من الأحوال.. مهما كانت هويتهم، وأيا كان سلوكهم، حتى ولو أنهم ارتكبوا أعظم المحرمات، وانتهكوا جميع الحرمات..

أي.. أنهم حتى لو قتلوا الأبرياء ـ ولو كانوا أبناء محمد ـ، وهدموا الكعبة.. مع ذلك كله ـ تجب طاعتهم، ولا تجوز مخالفتهم، ولا الوقوف في وجههم..

هكذا.. تعتقد الفرق الإسلامية ـ كما قلنا ـ.. ومن المؤسف جداً أن من هؤلاء الفرق: أهل الحديث، وعامة أهل السنة، قبل الإمام الأشعري، وبعده. وهو أيضاً قائل بهذه المقالة ومعتقد بهذه العقيدة..

ولقد أيدوا هذه العقيدة بمختلف أنواع التأييد، حتى لقد وضعوا في تأييدها الروايات على لسان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع عدم تنبههم إلى أن ذلك ينافي صريح القرآن، ويصادم حكم العقل والوجدان..

٣٤٣

انعكاسات هذه العقيدة على التراث:

وطبيعي أن ينعكس ذلك إلى حد كبير على كتابهم ومؤرخيهم(١) ، وحتى على علمائهم، وفقهائهم أيضاً، حيث كان لا بد لهم من التستر على كل هفوات أولئك الحكام. وكل مخازيهم وموبقاتهم، مما كان من نتيجته ـ بطبيعة الحال ـ إخفاء كثير من الحقائق، وطمسها، حتى إذا لم يتمكنوا من ذلك، تراهم يحاولون اللف والدوران، وتوجيهها بما لا يسمن ولا يغني من جوع.. هذا إن لم تخولهم غيرتهم، وتدفعهم حميتهم إلى تشويهها، والتغيير والتبديل فيها، بحيث تبدو مستهجنة، وغريبة. ولتسقط من ثم عن الاعتبار.. وقد يختلقون في كثير من الأحيان في مقابلها، ما ينسجم مع نظرتهم الضيقة، وتعصبهم المقيت، أو يوافق هوى نفوسهم، ويرضي حكامهم، الذين كانوا يرون أنهم يقربونهم من الله زلفى.

إخفاء كل الحقائق عن الأئمةعليهم‌السلام :

ولقد أراد الحكام ـ لسبب أو لآخر ـ إخفاء كل الحقائق التي ترتبط بالأئمة الأطهارعليهم‌السلام ، أو تشويهها، فكان لهم ما أرادوا، ووجدوا من العلماء، والكتاب، والمؤرخين، من لا يألوا جهداً، ولا يدخر وسعاً من أجل تنفيذ إرادتهم تلك، التي يرون: أنها إرادة الله ـ حسب عقيدة الجبر التي ابتدعوها ـ.. حتى إنك قد لا تجد في كثير من الكتب التاريخية، حتى اسم الأئمة الأطهارعليهم‌السلام . فضلاً عن شرح أحوالهم، وبيان نشاطاتهم..

وليس ذلك لأنهمعليهم‌السلام كانوا غير مشهورين، ولا معروفين.. أو لأنهم ممن لا يعتنى بشأنهم، ولا يلتفت إليهم.. لا.. أبداً.. فقد كان ذكرهم يسري في جميع الآفاق في الدولة الإسلامية المترامية الأطراف: إما حباً وتشيعاً، وأما عداءاً ونصباً..

____________

(١) راجع تمهيد الكتاب..

٣٤٤

وقد ذكر الجاحظ في رسالته: (فضل هاشم على عبد شمس) ـ وهو الكاتب المعروف في عصره، وبعد عصره.. وحتى الآن، والذي تعرض في كتبه لمختلف الموضوعات التي شاع التكلم بها في زمانه، ومنها موضوع رسالته المشار إليها. والذي كان يظهر الحياد في كتاباته، وإن كان المعتزلة ـ أهل نحلته ـ مثل الإسكافي وغيره يتهمونه بالنصب والعداء لأهل البيتعليهم‌السلام . ومما يدل على نصبه وتعصبه: أنه قد ألف كتاباً في نقض فضائل الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام (١) ـ الجاحظ هذا ـ يقول في رسالته المشار إليها: (.. ومن الذين يعد من قريش، أو من غيرهم، ما بعد الطالبيون في نسق واحد، كل واحد منهم: عالم، زاهد، ناسك، شجاع، جواد، طاهر، زاك، فمنهم خلفاء، ومنهم مرشحون: ابن، ابن، ابن، ابن. هكذا إلى عشرة.. وهم: الحسن بن علي، بن محمد، ابن علي، بن موسى، بن جعفر، بن محمد، بن علي، بن الحسين، ابن علي. وهذا لم يتفق لبيت من بيوت العرب، ولا من العجم إلخ..)(٢) .

هذا.. ويجب أن لا يفوتنا هنا: التنبيه على أن الجاحظ كان في البصرة، والإمام العسكريعليه‌السلام كان في سامراء، موضوعاً تحت الرقابة الشديدة.

وتوفي الجاحظ قبل وفاة العسكري بخمس سنين.

وقد كان عمرهعليه‌السلام عندما ألف الجاحظ رسالته في حدود اثنتين وعشرين سنة، لو فرض أن الجاحظ كان قد ألفها في آخر يوم من أيام حياته..

____________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٢٣٧.

(٢) آثار الجاحظ ص ٢٣٥.

٣٤٥

ولم يكن الإمام العسكري اعرف. ولا أشهر من آبائه الطاهرينعليه‌السلام ، سيما الإمام علي، والحسن، والصادق، والرضاعليهم‌السلام . بل كان الأئمةعليهم‌السلام ، بعد الرضاعليه‌السلام ـ مع نباهة شأنهم، وعلو أمرهم ـ يسمون: بـ‍ (ابن الرضا)، وذلك يدل على أنهعليه‌السلام كان أنبه من أبنائه الطاهرين، فكان يقال ذلك ـ يعني: ابن الرضا ـ للجواد، والهادي بعده، بل وللعسكري أيضاً(١) ، ويؤيد ذلك قول أبي الغوث، أسلم بن مهوز المنبجي في داليته المعروفة، التي يمدح فيها أئمة سامراءعليهم‌السلام :

إذا ما بلغت الصادقين بني الرضا

فحسبك من هاد يشير إلى هاد(٢)

نعم.. إن هؤلاء الأئمة، الذين كان يسري ذكرهم في الآفاق، قد لا تجد حتى أسماءهم في كثير من الكتب التاريخية.. مع أنك تجد ما شاء الله. من قصص المغنين، والجواري، والأعراب، بل وحتى قطاع الطرق، مما لا يسمن، ولا يغني من جوع.

كل ذلك خيانة للحقيقة، وتخلياً عن الأمانة. التي أخذوا على أنفسهم أداءها للأجيال التي تأتي بعدهم، حيث كان عليهم: أن يصدعوا بالحق، ويظهروا الواقع، مهما كانت الظروف، وأيا كانت الأحوال.. وإلا.. فيجب أن لا يتصدوا للكتابة، ويبوؤا بإثم الخيانة..

هذا.. ولم يكن المجال مفسوحا أمام شيعة أهل البيتعليهم‌السلام ، ليتمكنوا من إظهار الحقائق كاملة، وذلك بسبب ملاحقة الحكام لهم. ومحاولات القضاء عليهم أينما كانوا، وحيثما وجدوا، وبأي ثمن كان.. ومن قبلهم القضاء على أئمتهم أئمة الهدى، وقادتهم، القادة إلى الحق.

____________

(١) راجع: قاموس الرجال ج ١٠ ص ٢٤٨. والرسالة التي في آخر ج ١١ من قاموس الرجال ص ٥٨.

(٢) سفينة البحار ج ٢ ص ٥٢٩، والكنى والألقاب ج ١ ص ١٣٣.

٣٤٦

ويبقى هنا سؤال:

لماذا إذن كان يهتم الخلفاء بالعلماء، ويرسلون إليهم يستدعونهم من مختلف الأقطار والأمصار؟!.. وكيف لا يتنافى ذلك مع اضطهادهم الأئمة، أئمة أهل البيت، وشيعتهم ومواليهم؟!، ومحاولاتهم تصغير شأنهم، وطمس ذكرهم؟!.

سر اهتمام الخلفاء بأهل العلم:

وللإجابة على هذا السؤال نقول: إن سر اضطهادهم لأهل البيتعليهم‌السلام يعود: أولاً: إلى أن الحق في الحكم كان لأهل البيت، من كل جهة، فالقضاء معناه القضاء على ذلك الحق، وتكريس الأمور لهم. وفي صالحهم..

وثانياً: إلى أن الأئمةعليهم‌السلام ما كانوا يؤيدون أولئك الحكام، ولا يرضون عن أعمالهم، وسلوكهم الذي كان يتنافى مع مبادئ الإسلام وتعاليمه..

وثالثاً: إلى أن الأئمةعليهم‌السلام بسلوكهم المثالي، وبشخصياتهم الفذة كانوا يشكلون أكبر مصدر للخطر عليهم، وعلى حكمهم ذاك غير الأصيل..

إلى غير ذلك من أمور يمكن استخلاصها من الفصول الأولى من الكتاب..

وأما السبب في تشجيعهم ـ في تلك الحقبة من الزمن للعلم والعلماء فإنه يعود إلى أهداف سياسية معينة. وفي الحدود التي كانت لا تشكل عليهم خطراً في الحكم، لأن الحكم كان في نظرهم هو كل شيء، وليس قبله ولا بعده شيء، وكل ما في الوجود يجب أن يكون من أجله، وفي خدمته، حتى العلماء والمفكرون.

ولم يكن جمعهم للعلماء من حولهم. والإتيان بهم من كل حدب وصوب، إلا:

١ ـ ليكون أولئك العلماء، الذين يمثلون الطليعة الواعية في الأمة تحت نظرهم، وسيطرتهم.

٢ ـ ليتمكنوا بواسطتهم من تنفيذ الكثير من مخططاتهم، والوصول إلى كثير من مآربهم، كما تشهد به الأحداث التاريخية الكثيرة..

٣ ـ ليظهروا للناس بمظهر المحبين للعلم والعلماء، ليقوى مركزهم في نفوسهم، وتتأكد ثقتهم بهم، إذ كان لا بد لهم، بعد أن تركوا أهل البيتعليهم‌السلام . من الاستعاضة عنهم بغيرهم، ودفع شكوك وشبهات الناس عن أنفسهم..

٣٤٧

٤ ـ محاولة التشويش بذلك على أهل البيتعليهم‌السلام ، وطمس ذكرهم، وإخفاء أمرهم، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.. ولكن.. يأبى الله إلا أن يتم نوره.

ويتفرع على ما سبق:

وإذا تحقق لدينا أنهم إنما كانوا يقدرون العلم والعلماء لأهداف سياسية معينة كما أوضحنا.. فلسوف لا نستغرب إذا رأينا: أنهم كانوا إذا شعروا بالخطر يتهددهم من قبل أية شخصية، ولو كانت علمية، لا يترددون في القضاء عليها، والتخلص منها، بأي وسيلة كانت.

قال أحمد أمين: إن المنصور كان (يقرب المعتزلة إذا شاء، ويقرب المحدثين والفقهاء، ما لم تقض تعاليم أحدهم بشيء يمس سلطانه، فهناك التنكيل..)(١) .

وقال السيد أمير علي: (.. كان خلفاء بني العباس يسحقون كل اختلاف معهم في الرأي بصرامة. وحتى الفقهاء المعاصرون كانوا عرضة للعقاب، إذا تجرأوا على الإفصاح عن رأي لا يتفق ومصلحة الحاكمين)(٢) .

ولقد رأينا المنصور يدس السم لأبي حنيفة، ويضيق على الإمام الصادق ـ الذي لم يبايع لمحمد بن عبد الله العلوي ـ، وضيق على من تلاه من ذريته، ولاحق تلامذته ومحبيه. لكنه لم يقتل عمرو بن عبيد، ولا أهانه بل مدحه بقوله:

كـلكم يطلب صيد

غير عمرو بن عبيد

رغم أن عمراً هذا قد بايع لمحمد بن عبد الله العلوي، ورغم أن مذهبه يفرض عليه الخروج على النظام، لأن من أصول المعتزلة الخمسة،

____________

(١) ضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٠٢، ولا بأس أيضاً بمراجعة ج ٢ ص ٤٦ و ٤٧.

(٢) روح الإسلام ص ٣٠٢.

٣٤٨

التي يكون الإنسان بها معتزلياً هو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعملاً بهذا الأصل كان عمرو هذا قد خرج مع يزيد الناقص سنة ١٢٦ ه‍. على الوليد بن يزيد ـ لم يفعل المنصور مع ابن عبيد إلا كل ما يقتضي الإجلال والتكريم بخلاف ما فعله مع أولئك ـ لأن عمراً ـ بخلافهم ـ قد تخلى عن مذهبه، ومالأ النظام. وكان المنصور، ومن تبعه من الخلفاء يستفيدون منه، ومن أضرابه، ولم يروا بأساً في مبايعته لمحمد لكنهم لما لم يكونوا يستفيدون من أولئك الذين نكلوا بهم، وفعلوا بهم الأفاعيل رغم امتناعهم عن مبايعة محمد.. وإلا فما قيمة عمرو هذا عند واحد من تلامذة الصادق، كزرارة، وهشام، ومحمد بن مسلم، وأضرابهم(١) .

عودة على بدء:

قلنا: إن الحكام كانوا يريدون ـ لسبب أو لآخر ـ إخفاء كل الحقائق التي ترتبط بالأئمةعليهم‌السلام ، أو تشويهها، فكان لهم ما أرادوا على أيدي حفنة ممن يطلق عليهم اسم: (علماء)، فتلاعبوا، ودسوا، وشوهوا ما شاءت لهم قرائحهم، وأوحاه لهم تعصبهم المذهبي المقيت..

ولعلنا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا: إن ابن الأثير، والطبري، وأبو الفداء، وابن العبري، واليافعي وابن خلكان.. كانوا من أولئك الذين ظلموا الحقيقة والتاريخ، بل وأنفسهم، عندما أرخوا للأمة الإسلامية، وكتبوا في أحوالها، وأوضاعها السالفة، دون أن يراعوا الإنصاف والحيدة فيما أرخوا، وفيما كتبوا..

____________

(١) يرى البعض: أن الخلفاء كانوا يحاولون إلقاء أسباب النزاع بين العلماء، بهدف صرفهم عن واقع الأمة، وعما يجري ويحدث في مخادع الخلفاء، وداخل قصورهم. ولعل ذلك هو السر في عنايتهم بالترجمة، وإدخال الثقافات الغربية إلى البلاد الإسلامية.. ولذا رأينا الكثيرين من المؤرخين غير راضين عن أعمال الترجمة تلك كالمقريزي في النزاع والتخاصم ص ٥٥، وغيره.. ولكل ما ذكرنا شواهد تاريخية كثيرة، ليس هنا محل ذكرها، ولعلنا نوفق ذلك في مجال آخر..

٣٤٩

ولعل من جملة سقطات هؤلاء الشنيعة، التي لم يخف على أحد تعصبهم فيها، وانقيادهم للحكام، والهوى الأعمى في بيانها، قضية: (كيفية وفاة الإمام الرضاعليه‌السلام ..)، حيث ذكروا: أن سبب وفاتهعليه‌السلام هو أنه: (أكل عنباً، فأكثر منه، فمات..)(١) .

وكان ابن خلدون، الأموي النزعة، يريد أن يتابعهم في ذلك، حيث قال في تاريخه: (ولما نزل المأمون مدينة طوس، مات علي الرضا فجأة، آخر صفر من سنة ثلاث ومائتين، من عنب أكله)(٢) .

ولعله نسي ما ذكره هو نفسه من ثورة إبراهيم بن موسى على المأمون لاتهامه إياه بقتل أخيه. كما سيأتي.

ما عشت أراك الدهر عجبا:

وهو كلام عجيب حقاً:

فهل يعقل ويتصور أن يصدر هذا العمل من أي إنسان عادي، فضلاً عن الإمام، الذي شهد بعلمه، وحكمته، وزهده، كل من عرفه، وكل من أتى من المؤرخين على ذكره؟!.

أفهل يمكن أن يسمح أحد لنفسه أن يصدق بأن شخصاً عاقلاً، وحكيماً، كالإمامعليه‌السلام ، يسمح لنفسه بالإقدام على الانتحار من كثرة الأكل؟!.

وهل عرف عن الإمام في سابق عهده: أنه كان أكولاً، أو نهماً إلى هذا الحد؟!، أي إلى حد أنه ينتهي به ذلك إلى قتل نفسه؟!.

أم أن الزهد والتقوى والعلم، فضلاً عن العقل والحكمة. تقضي وتحتم عليه أن يأكل هذا المقدار الهائل، الذي من شأنه أن يودي بحياته؟!.

____________

(١) الكامل ج ٥ ص ١٥٠، والطبري ج ١١ ص ١٠٣٠، وتاريخ أبو الفداء ج ٢ ص ٢٣، ومختصر تاريخ الدول ص ١٣٤، ومرآة الجنان ج ٢ ص ١٢، ووفيات الأعيان طبع سنة ١٣١٠ ه‍ ج ١ ص ٣٢١. لكن بعضهم قد حكى سمه بلفظ: قيل..

(٢) تاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٥٠.

٣٥٠

أم أن الإمامعليه‌السلام قد نسي ما كتبه في رسالته الذهبية، التي كتبها للمأمون، والتي هي من أشهر وأجل الوثائق المأثورة عنه؟!.

أم أنهعليه‌السلام لم يكن قد رأى العنب في حياته، فأراد أن يغتنم هذه الفرصة الذهبية، لينال أكبر قدر تصل إليه يده؟!.

لا.. لا هذا، ولا ذاك. ولا ذلك. وإنما العصبية المذهبية، والهوى الأعمى.. هما اللذان فرضا على الإمامعليه‌السلام أن يأكل العنب، ويكثر منه، ويموت هذه الميتة.. حتى ولو لم يقبل بها العقل، ويصدق بها الوجدان..

إن الإمامعليه‌السلام لو كان هو الحاكم، والمتسلط لم يمت هذه الميتة، بل كان مات على حسب ما اشتهى، وبالكيفية التي أراد..

دعك من هؤلاء وأمثالهم، فإنني لا أرى: أن كلاماً كهذا يستحق من العناية أكثر من ذلك.. بل لا رأى أنه يستحق شيئاً من العناية على الإطلاق..

دعك منه.. وذره لأهله في سنبله!.

وتعال معي لننظر إلى ما يقوله الآخرون، ممن أرخوا للأمة، وتحدثوا عن ماضيها، فقد نجد في كلامهم ما ينقع الغلة، ويشفي الغليل..

قول فريق آخر من المؤرخين:

وإننا بعد إلقاء نظرة سريعة وعابرة على أقوال المؤرخين في هذا المجال، نستطيع أن نلاحظ: إلى أي حد اضطربت كلماتهم في هذه القضية، وتباينت اتجاهاتهم.

فعدا عن أولئك القلة الذين تحدثنا عنهم آنفاً نرى: فريقا ثانياً قد أوردوا خبر وفاته مجرداً عن بيان السبب، ثم سكتوا، أو عقبوا ذلك بقولهم: (وقيل: إنه مات مسموماً) ومن هؤلاء اليعقوبي في تاريخه ج ٣ ص ٨٠، وإن كان يظهر من عبارته اختيار مسموميته، وابن العماد في شذرات الذهب، وغيرهم.

ولعل هؤلاء ممن جازت عليهم لعبة المأمون، وانطلت عليهم حيلته، وأقنعتهم الحجج الواهية الآتية التي يسوقها الفريق القائل ببراءة المأمون من دم الرضاعليه‌السلام .. أو لعلهم لم يكونوا بصدد بحث هذا الأمر وتمحيصه..

٣٥١

أو لأنهم لم يستطيعوا أن يصدعوا بالحقيقة، لما كانوا يخشونه من سطوة الحكام، وبطشهم، ولم يريدوا أن يحرفوا الكلم عن مواضعه، فآثروا السكوت، وإهمال ذلك، على أمل أن يقيض الله من يصدع بالحق ويكشف عن الواقع.. إلى غير ذلك من الاحتمالات، التي قد يجد بعضها شواهد تاريخية كثيرة.

رأي فريق ثالث في ذلك:

وهناك فريق آخر يرى أنهعليه‌السلام مات مسموماً، وأن الذي دس إليه السم هم العباسيون. وهذا هو رأي السيد أمير علي، وأشار إليه

أحمد أمين(١) أيضاً..

وهذا الرأي ليس له أي شاهد أو سند تاريخي إلا ما نقل عن الإربلي أنه قال: (فلما رأوا أن الخلافة قد خرجت إلى أولاد علي، سقوا علي بن موسى سماً، فتوفي بطوس في رمضان)(٢) . وهو عدا عن أنه كلام مبهم، فإن، الشواهد كلها على خلافه.. كما قدمنا وسيأتي. ولذا فهو لا يحتاج إلى كبير عناء في رده وتفنيده.

ورأي آخر يقول:

إنهعليه‌السلام مات مسموماً من قبل المأمون، ولكن بإشارة الفضل، وإغرائه.

ونرى نحن بدورنا: أن المأمون لم يكن بحاجة إلى حث وإغراء، بعد أن كان يرى أن وجود الإمامعليه‌السلام يشكل خطراً محققاً عليه، وعلى كل بني أبيه من بعده. ونحن ـ وإن كنا لا نستبعد أن يكون هذا الرأي قد جاء بدافع من حب تبرئة المأمون ـ السلطة ـ إلا أننا لا نضايق في أن الفضل، الذي قتل قبل الإمامعليه‌السلام بمدة!! كان من الراغبين في التخلص من الإمام، سيما إذا لاحظنا: أنه كان يشكل عقبة كبرى في طريق نفوذه وقوته وسلطانه.. ولكننا لا نوافق على أن المأمون كان لا يريد ذلك، وإنما فعله استجابة لرغبة الفضل، الذي كان قد قتل قبل ذلك بزمان!!.

____________

(١) روح الإسلام للسيد أمير علي ص ٣١١، ٣١٢. وأما أحمد أمين فقد أشار إليه في عبارته الآتية عما قريب بقوله: (فإن كان حقاً قد سم، يكون سمه أحد غير المأمون، من دعاة البيت العباسي).

(٢) الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ١٠٢، عن خلاصة الذهب المسبوك ص ١٤٢.

٣٥٢

وقد تحدثنا في فصل: أسباب البيعة لدى الآخرين، وغيره من الفصول، وسيأتي الحديث بما فيه الكفاية إن شاء الله، تعالى..

ورأي فريق خامس يقول:

إنهعليه‌السلام قد مات حتف أنفه، ولا يقبل أبداً بأنهعليه‌السلام مات مسموماً، ويورد لذلك الحجج والبراهين التي رأى أنها كافية للدلالة على أنهعليه‌السلام لم يمت مسموماً.

ونذكر من هؤلاء ابن الجوزي، حيث قال ـ بعد أن أورد خبر وفاته، وحكى القيل بأنه دخل الحمام ثم خرج، فقدم له طبق فيه عنب قد أدخلت فيه الإبر المسمومة، من غير أن يظهر أثرها، فأكله، فمات ـ قال بعد ذلك: (وزعم قوم: أن المأمون سمه، وليس بصحيح. فإنه لما مات علي توجع له المأمون، وأظهر الحزن عليه، وبقي أياماً لا يأكل طعاماً، ولا يشرب شراباً(١) ، وهجر اللذات إلخ..)(٢) .

لكن عبارة سبط ابن الجوزي هذه تقتضي أنه ينكر أن يكون المأمون هو الذي سمه، ولا ينكر أن يكونعليه‌السلام قد مات بسم غير المأمون.

وقد تابعه الإربلي في كشف الغمة على ذلك، محتجاً بعين ما احتج به، وأضاف إلى ذلك: أن سمه إياه يتنافى مع إكرامه له، وأنه كان ينبه على علم الرضا، وشرف نفسه وبيته إلخ..

____________

(١) في تاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٨١: أن المأمون بقي ثلاثة أيام مقيما عند قبر الرضاعليه‌السلام ، يؤتى كل يوم برغيف وملح، فيأكله. ثم انصرف في اليوم الرابع.

(٢) تذكرة الخواص ص ٣٥٥.

٣٥٣

وأما أحمد أمين فيقول: إن ذلك بعيد، لأن المؤرخين (يروون حزن المأمون الشديد عليه، كما يرون أن المأمون بعد موته. وبعد انتقاله إلى بغداد ظل يلبس الخضرة.. إلى أن قال: فإن كان حقاً قد سم، يكون قد سمه أحد غير المأمون، من دعاة البيت العباسي..).

ثم استشهد لذلك أيضاً بمناظرة المأمون للعلماء في تفضيل الإمام عليعليه‌السلام ، والتي ذكرها ابن عبد ربه في العقد الفريد، وبأنه ظل يظهر العطف على العلويين، رغم كثرة خروجهم عليه(١) .

وصاحب كتاب عصر المأمون يستند في استبعاده لذلك إلى تلك الرعاية، التي أظهرها المأمون له، وذلك الاحترام والتقدير، الذي كان يحيطه به، وخصوصاً بعد أن توثقت عرى المودة بينهما بالمصاهرة، ويضيف إلى ذلك أيضاً: أن نفسية المأمون، وخلقه، يأبيان ـ على زعمه ـ عليه ذلك.

وعقد ولاية العهد له من بعده هو عند هؤلاء الدليل القاطع على حسن نية المأمون، وسلامة طويته.

والدكتور أحمد محمود صبحي يرى: أن قضية مسمومية الرضاعليه‌السلام هي من مختلقات الشيعة (الذين لم يجدوا تناقضاً بين الحظوة التي كان ينالها من المأمون، ثم مبايعته له بولاية العهد، وتزويجه أخته(٢) ، وبين أن يدس له المأمون السم في العنب، ثم يصلي عليه، ويدفنه بجوار قبر أبيه الرشيد، فقد أصبح مقدرا على الأئمة منذ الحسن: أن يكون قاتلوهم هم: الخلفاء، أو بإيعاز منهم)(٣) .

____________

(١) ضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٥، ٢٩٦.

(٢) قد اتفق المؤرخون تقريباً على أن المأمون قد زوج للرضاعليه‌السلام (ابنته) وليس أخته. ولم يذكر أنها أخته إلا شاذ منهم لا يعتد به، وهو الذي يتشبث به الدكتور هنا، ولعله لأنهم رأوا عدم انسجام سن الإمام مع سن ابنته آثروا أن يجعلوها أخته.. وأياً كانت الحقيقة فإن مقصود المأمون هنا حاصل..

(٣) نظرية الإمامة ص ٣٨٧.

٣٥٤

هذه هي الحجج، التي حاول هؤلاء إقامتها على صحة ما ذهبوا إليه، من براءة المأمون من دم الإمامعليه‌السلام .

ملخص ما سبق:

ومن أجل التسهيل على القارئ نعود فنوجز ما ذكروه من الأدلة في النقاط التالية:

١ ـ عقده له ولاية العهد من بعده..

٢ ـ إكرامه وتقديره له، وتنبيهه على شرفه، وعلمه وفضله، وبيته.

٣ ـ تزويجه ابنته، الأمر الذي كان سبباً في توثيق عرى المودة بينهما.

٤ ـ احتجاجه على العلماء في تفضيل عليعليه‌السلام على جميع الخلق..

٥ ـ إظهاره الحزن والتوجع لوفاته، وهجره الطعام والشراب، واللذات لذلك.

٦ ـ دفنه له بجوار أبيه الرشيد، وصلاته عليه.

٧ ـ بقاؤه بعد وفاته على لباس الخضرة حتى دخل بغداد.

٨ ـ إنه ظل يظهر العطف على العلويين، رغم كثرة خروجهم عليه..

٩ ـ إن نفسية المأمون وخلقه يأبيان عليه ذلك.

١٠ ـ إن ذلك من مختلقات الشيعة. حيث كتب على أئمتهم بعد الحسن أن يموتوا بسم الخلفاء، أو بإيعاز منهم.

آفة ذلك: هل هو الجهل، أم التعصب:

هذا ملخص أدلة ما ذهبوا إليه من عدم دس المأمون السم للإمامعليه‌السلام ، ونحسب أن هؤلاء: إما أنهم لم يطلعوا على الحقائق اطلاعاً كافياً، يخولهم إصدار أحكام صائبة، في قضايا هي من أكثر المسائل التاريخية تعقيداً، بل وغموضاً وإبهاماً، كقضية حقيقة ظروف وعلاقات المأمون بالرضا، فحكموا على الأمور حكماً سطحياً، لا يلبث أن ينهزم أمام المنطق السليم والنظر الصائب.

وإما أنهم جروا على ديدن أسلافهم في التعصب على الأئمةعليهم‌السلام ، والمجاراة لأهوائهم، ولخلفائهم في طمس معالم الحقيقة، التي كان يضر أولئك الخلفاء أكثر من غيرهم إظهارها، ومعرفة الناس لها..

٣٥٥

نحن.. وما يقوله هؤلاء:

إن كان ما ذكره هؤلاء لا يمكن أن يمنع المأمون من التدبير في الإمام بما يحسم عنه مواد بلائه.. كما دبر من قبل بوزيره الفضل بن سهل، الذي أراد أن يزوجه ابنته، وكما دبر في قائده الكبير هرثمة بن أعين، الذي قتله فور وصوله إلى مرو، دون أن يستمع لشكواه، أو يصغي إلى دفاعه عن نفسه(١) وكما دبر فيما بعد بطاهر وأبنائه(٢) وغيرهم، وغيرهم، وغيرهم ممن كان يختلهم واحداً فواحداً ـ على حد تعبير عبد الله بن موسى في رسالته له ـ سواء من العلويين أو من غيرهم..

مع أن هؤلاء كانوا وزراءه وقواده، ولهم من الفضل عليه، وعلى دولته ما لا يمكن أن يخفى على أحد، فإنهم هم الذين وطدوا له دعائم حكمه، وبسطوا نفوذه وسلطانه على البلاد، وأذلوا له العباد، وقامت دولته بأسيافهم، وعلى أكتافهم..

____________

(١) هكذا ذكر بعض المؤرخين، وقال ابن خلدون في تاريخه ج ٣ ص ٢٤٥، و ٢٤٩: إنه حبس، ثم دس عليه المأمون من قتله.. وفي معارف ابن قتيبة ص ١٣٣ طبع سنة ١٣٠٠ ه‍.

قال: (.. فلما سمع حاتم بن هرثمة ما صنع أبوه كاتب الأحرار هناك. والملوك، ودعاهم إلى الخلافة، فبينما هو على ذلك أتاه الموت، فيقال: إن سبب خروج بابك كان ذلك..).

ومن يدري فلعل المأمون قد دبر بحاتم بما يحسم عنه مواد بلائه.. كما دبر في الكثيرين قبله وبعده..

وفي البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٦: أن أهل بغداد ثاروا. وأعلنوا العصيان بسبب قتل هرثمة. هذا.. ويقال: إن الفضل بن سهل قد عمل على قتل هرثمة. ولا بأس بمراجعة تاريخ ابن الوردي ج ١ ص ٢٨٩، وغيره.

(٢) في البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٦٠، ومرآة الجنان ج ٢ ص ٣٦، ووفيات الأعيان ج ١ ص ٢٣٧، طبع سنة ١٣١٠: إن سبب وفاة طاهر هو أن المأمون عندما ولاه خراسان، أهداه غلاما ليخدمه، ودفع إليه سما لا يطاق، فسمه الخادم في كامخ، فمات من ليلته. وفي الفخري في الآداب السلطانية ص ٢٢٤: أن الذي أهداه الغلام هو أحمد ابن أبي خالد وزير المأمون، ليقتله إذا فارق الطاعة، فقتله بأمر من المأمون.. وفي تاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١٩٢: أن المأمون تآمر عليه فقتله. والمؤرخون متفقون على أن المأمون كان يضمر الشر والخيانة.

والنتيجة أن طاهر يموت ـ بتدبير من المأمون بهذه الكيفية الغامضة، ويبقى المأمون نفسه بعيداً عن الشكوك والشبهات.

٣٥٦

لقد ختلهم واحداً فواحداً.. مع أنه كان يظهر لهم من الحب والتقدير ما لا يقل عما كان يظهره للإمام.. وحسبنا أن نذكر هنا: أنه قتل أخاه وعمل برأسه ما تقدمت الإشارة إليه من أجل الملك والسلطان فكيف لا يقتل الرضا من أجل الملك والسلطان، أيضاً.. ثم يتستر على فعلته بتلك الظواهر التي لا تضره؟! أم يعقل أن يكون الرضا أعز من هؤلاء جميعاً.. وحتى أعز عليه من أخيه الذي قتله؟!.

وأما تظاهره بالحزن والأسى لوفاة الإمامعليه‌السلام إلخ.. فما أدرى إن كان هؤلاء يريدون من ذلك الأفعى الداهية: أن يظهر الفرح والاستبشار بموت الإمامعليه‌السلام !.

وهل نسوا أنه قتل الفضل ثم تظاهر بالحزن العظيم عليه(١) وتتبع قتلته

____________

(١) التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ ص ٣٢٢، ومآثر الإنافة ج ١ ص ٢١١. وقد تكلمنا عن كيفية قتل الفضل في ما تقدم فلا نعيد..

٣٥٧

وقتلهم، وأرسل رؤوسهم إلى أخيه الحسن بن سهل، ثم تزوج ابنة الحسن هذا؟!. ولكنه عاد فغض من الحسن بن سهل حينما ظفر بإبراهيم ابن شكلة، وأسقطه وحجبه وعزله عما كان في يده(١) .

وقتل طاهراً ثم أرسل يحيى بن أكثم إلى الرقة، لينوب عنه في تقديم التعازي، لولده عبد الله، ثم ولى أبناءه مكانه، ثم غدر بهم واحداً بعد الآخر..؟!(٢) .

وقتل محمد بن جعفر، ثم جاء وحمل نعشه، وقال: إن هذه رحم مجفوة منذ مأتي سنة؟!.

وغيرهم وغيرهم، ممن لا مجال هنا لتتبع أسمائهم وأحوالهم.. أما مواقفه وتصريحاته عند وفاة الإمام، فالظاهر أنهم لم يقيموا لها وزناً، ولا أعارها أي منهم أذناً صاغية، أو قلباً واعياً؟!.

وكيف يتفق كل ما ذكرناه ـ وخصوصاً ما فعله مع أخيه حياً، أو ميتاً، وتخريبه بغداد، وأيضاً قتله لسبعة من إخوة الإمام واضطهاده للعلويين كما سنبينه، وكتابه للسري عامله على مصر يأمره فيه بغسل المنابر إلخ.. كيف يتفق كل ذلك، وسائر أفاعيله التي قدمنا شطراً منها مع خلق المأمون ونفسيته؟!. ولا يتفق قتله الإمامعليه‌السلام مع نفسيته وخلقه الكريم؟!. وهل قتل أولئك مع إظهار المحبة والإكرام لهم لا يتنافى مع نفسيته وخلقه الكريم، ويتنافى قتل الإمام مع الإكرام والمحبة له وللعلويين مع نفسيته وخلقه الكريم أيضاً..

وأيضاً هل بعد كل ذلك، يمكن أن يقال: إن مصاهرته للإمام تمنعه من الغدر به، ودس السم إليه؟! ولقد بينا في فصل: ظروف البيعة بعض أهدافه من تزويجه، وتزويج ولده الجواد، وتزويج الفضل أيضاً.. وتحدثنا أيضاً عن السبب في لباسه والخضرة، ودوافع ولاية العهد، وغير ذلك من أمور.

____________

(١) لطف التدبير ص ١٦٦.

(٢) ولقد كان يؤكد براءته من تلك الجرائم بأساليب مختلفة أخرى، ويرضي جميع الأطراف، فهو يرضي العباسيين بقتل الرضا، ويرضي العلويين باستقدام الجواد ـ ولد الرضا ـ من المدينة، وإكرامه إياه، ويقتل الفضل، ويرضي الحسن أخاه، بما ذكرنا، ويقتل طاهراً، ويرضي أبناءه بتوليتهم مكانه، ويبقى يستعين بهم طيلة فترة حكمه تقريباً.. حيث يغدر بهم واحداً واحداً كما ذكرنا، وعلى هذه فقس ما سواها مما يدل على مدى حنكة المأمون ودهائه السياسي..

٣٥٨

بل نجرؤ على القول هنا: إن المأمون قد أكره الإمامعليه‌السلام على هكذا زواج، إذ كيف يمكن أن نتصور رجلاً حكيماً عاقلاً، زاهداً في الدنيا.. يقدم ويرغب في زواج طفلة ومن هي بالنسبة إليه بمنزلة حفيدته، بل أصغر، حيث كان يكبرها بحوالي أربعين سنة.. ثم لا يكون هناك سر آخر يكمن وراء مثل هكذا زواج، إلا أن يدعي هؤلاء: أن ذلك يتفق مع العقل والحكمة، وينسجم مع زهد الإمام في الدنيا، وانصرافه عنها..

وإذا كان ثمة سر آخر يكمن وراء ذلك الزواج، فإن ما تجدر الإشارة إليه هنا هو أنهعليه‌السلام لم يكن يستطيع التصريح بحقيقة الأمر، وواقع القضية إلى آخر ما قدمناه في فصل: ظروف البيعة.

وأما قوله بتفضيل عليعليه‌السلام على جميع الخلق.. فإننا إن لم نقل: أنه كان من ضمن المخطط، الذي كان قد رسمه للوصول إلى مآربه وأهدافه ـ كما اتضح في فصل ظروف البيعة.. فإننا ـ ونحن نرى تباين مواقفه وتصريحاته ـ نرى أنفسنا مضطرين إلى القول: بأنه لم يكن ينطلق في مواقفه السياسية من مواقف عقائدية.

وأما إكرامه للعلويين.. فقد تقدم تصريحه في كتابه للعباسيين: بأن ذلك ما كان منه إلا سياسة ودهاء.. وتقدم أنه بعد وفاة الرضاعليه‌السلام قد أخذهم بلبس السواد، ومنعهم من الدخول عليه.. وأنه كان يختلهم واحداً فواحداً حسب ما كتب إليه عبد الله بن موسى.

وسيأتي بيان أنه قتل سبعة من إخوة الإمامعليه‌السلام . وأنه أمر الولاة والحكام بالقبض على كل علوي.

وأما ما ذكره أحمد أمين: من كثره خروج العلويين عليه.

فإننا لم نجد، ولم نسمع ذكراً في التاريخ لثورة قامت ضد المأمون، بعد وفاة الرضاعليه‌السلام إلا ثورة عبد الرحمن بن أحمد في اليمن، والتي كانت باتفاق المؤرخين بسبب جور العمال، وظلمهم.. وسوى ثورة إخوة الإمام الرضاعليه‌السلام طلباً بثأر أخيهم كما سيأتي..

ولم يبق ثمة إلا نسبة فكرة اغتيال الرضاعليه‌السلام إلى الشيعة.. وأنهم إنما اختلقوها وابتدعوها بدافع من الشعور بالحاجة إلى مثل هذه التزويرات، إذ قد كتب إلخ..

٣٥٩

فهي دعوى تكذبها جميع الشواهد والدلائل التاريخية.. هذا بالإضافة إلى أن السنة قد اتهموا المأمون بهذه التهمة، قبل اتهام الشيعة له بها، والشيعة إنما يعتمدون في ذلك على كتب أهل السنة، التي استفاضت في اتهام المأمون بذلك، والتي يؤيدها الكثير مما قدمناه في هذا الكتاب، وغيره..

وهكذا.. يتضح أن كل ما ذكره هؤلاء لا يصلح مانعاً ولا دليلاً على أن المأمون لم يكن وراء استشهاد الإمامعليه‌السلام .. بل جميع الدلائل والشواهد متضافرة على خلاف ذلك حسبما فصلناه في الفصلين المتقدمين وغيرهما، ولولا أن تعداد مواقف المأمون مع الإمام وتصريحاته يستلزم تكراراً نربأ بالقارئ الفطن أن يضطرنا إليه.. لاستطعنا أن نحشد الكثير الكثير من الدلائل والشواهد، التي تؤكد سوء نية المأمون، وخبث طويته تجاه الإمامعليه‌السلام .. فما استند إليه هؤلاء في حكمهم ذاك، لا يصلح للاستناد إليه، ولا للاعتماد عليه، وإن صيغ بعبارات منمقة، وأساليب مختلفة، فيها الإغراق والمبالغة أحياناً، ويبدو عليها الاتزان والموضوعية أحياناً أخرى.

وبعد. فعلى المكابر: أن يجيب على السؤال التالي:

وإلا.. فإننا نرى: أن لنا كل الحق في توجيه السؤال التالي إلى كل من يكابر، ويصر على براءة المأمون، وحسن نيته، والسؤال هو: إنه إذا كان قد عرض ولاية العهد. بعد وفاة الرضاعليه‌السلام على عبد الله بن موسى، فلماذا لم يجعل ولد الرضا (الجواد) ولياً لعهده، مع أنه كان زوج ابنته، وولد ولي عهده، الذي أظهر عليه الحزن والجزع، ومع أنه كان قد اعترف له بالعلم. والفضل والتقدم، كما اعترف لأبيه من قبل!!.

ولا مجال هنا للإصغاء للقول: بأن الجوادعليه‌السلام لم يكن يصلح لولاية العهد، بالنظر لصغر سنه.. إذ إن جعله ولياً للعهد لا يعني تسليمه بالفعل أزمة الحكم والسلطان.. وقد أخذ الخلفاء، حتى أبوه الرشيد، وأخوه الأمين البيعة لم كانوا أصغر من الجواد سناً، ولمن لم يكن له من العقل والحكمة والدراية ما كان الجوادعليه‌السلام .

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409