الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)14%

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 409

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 207393 / تحميل: 8942
الحجم الحجم الحجم
الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

فقال حسان: بم؟ قال بقوله دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطّاعم الكاسي. فقال حسان: ما هجاه يا أمير المؤمنين. قال: فماذا صنع به؟ قال: سلح عليه! فقال عمر: علي بجرول فلما جيء به قال له يا عدوّ نفسه تهجو المسلمين فأمر به فسجن(1) .

وقد كان حذيفة راوي هذا الحديث مرجعا للصّحابة في معرفة أحوال الفتن ومعرفة أهل النّفاق وتمييز أهل الحقّ من أهل الباطل لما حفظ في هذا المقام الذي قامه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . ومن ذلك سؤال عمر بن الخطّاب له عن الفتن فقال إنّ بينك وبينها بابا. فقال: هل يفتح أو يكسر؟ فقال: بل يكسر. فعرف عمر أنّه الباب، وأنّه يقتل كما أخبر حذيفة من سأله عن ذلك هل علم عمر ذلك فقال نعم، كما يعلم أنّ دون غد اللّيلة، فإنّي حدّثته بحديث ليس بالأغاليط، وهذا ثابت في الصحيح.

هذا عمر يسأل حذيفة عن الفتن، وما أكثر سؤالات عمر لمن يفترض أنّه أعلم منهم!.

قال الشنقيطي: (فأبو بكر لم يكن عالما بقضاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ميراث الجدّة حتّى أخبره المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة، وعمر لم يكن عنده علم بقضاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دية الجنين حتّى أخبره المذكوران قبل، ولم يكن عنده علم من أخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الجزية من مجوس هجر حتّى أخبره عبد الرّحمان بن عوف، ولا من الاستئذان ثلاثا حتّى أخبره أبو موسى الأشعري وأبو سعيد الخدري)(2) .

تلك أمور غابت عن عمر، ومع ذلك يقولون إنّه كان من القضاة.

قال الألباني: وأخرج أبو يعلى والحسن بن سفيان بإسناد حسن عن المغيرة بن شعبة أنّ زرارة بن جري قال لعمر بن الخطّاب: إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتب إلى الضحّاك بن سفيان أن يورّث امرأة اشيم الضّبابي من دية زوجها، فقضى بذلك عمر بن الخطّاب بعد رواية الضحّاك وزرارة والمغيرة ذلك له عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما علم، لا لأنّه لا يقبل خبر الواحد

____________________

(1) كنز العمال، المتقي الهندي، ج 3 ص 339 رقم 8919.

(2) أضواء البيان، ج 1 ص 125.

٢٦١

بل لإشاعة الخبر وإشهاره بالموسم، وردّ ما كان رآه أنّ الدّية إنّما هي للعصبة لأنّهم يعقلون عنه، لأنّه لا قياس مع النّص(1) .

روى الشّعبي أنّ كعب بن سور كان جالسا عند عمر بن الخطّاب فجاءت امرأة فقالت: يا أمير المؤمنين ما رأيت رجلا قطّ أفضل من زوجي، والله إنّه ليبيت ليله قائما ويظلّ نهاره صائما، فاستغفر لها وأثنى عليها، واستحيت المرأة وقامت راجعة. فقال كعب: يا أمير المؤمنين هلاّ أعديت المرأة على زوجها؟ فلقد أبلغت إليك في الشّكوى! فقال لكعب: اقض بينهما فإنّك فهمت من أمرها ما لم أفهم. قال: فإنّي أرى كأنّها امرأة عليها ثلاث نسوة هي رابعتهنّ، فأقضي بثلاثة أيّام ولياليهنّ يتعبّد فيهنّ ولها يوم وليلة. فقال عمر: والله ما رأيك الأوّل بأعجب من الآخر، اذهب فأنت قاض على البصرة، نعم القاضي أنت. رواه سعيد. صحيح. أورده الحافظ في (الإصابة) في ترجمة كعب هذا وذكر عن ابن عبد البرّ أنّه خبر عجيب مشهور، وأنّه قال: رواه أبو بكر بن أبي شيبة في (مصنّفه) من طريق محمد بن سيرين، ورواه الشعبي أيضا. قال الحافظ: وأورده ابن دريد في (الأخبار المنثورة عن أبي حاتم السجستاني عن أبي عبيدة وله طرق)(2) .

قال ابن عبد البرّ وأخبار الآحاد عند العلماء من علم الخاصّة لا ينكر على أحد جهل بعضها ن والإحاطة بها ممتنعة، وما أعلم أحدا من أئمّة الأمصار مع بحثهم وجمعهم إلاّ وقد فاته شيء من السّنن المرويّة من طريق الآحاد؛ وحسبك بعمر بن الخطّاب فقد فاته من هذا الضّرب أحاديث فيها سنن ذوات عدد من رواية مالك في الموطّإ ومن رواية غيره أيضا، وليس ذلك بضارّ له ولا ناقص من منزلته(3) .

____________________

(1) إرواء الغليل، ج 7 ص 80. تحت رقم 2016.

(2) المبدع ج 7 ص 196 والمغني ج 7 ص 230 والمغني ج 10 ص 100 وشرح منتهى الإرادات ج 3 ص 45 وشرح منتهى الإرادات ج 3 ص 45 وكشاف القناع ج 5 ص 191 ومطالب أولي النهى ج 5 ص 265 ومنار السبيل ج 2 ص 198 وأخبار القضاة ج 1 ص 276.

(3) التمهيد، ابن عبد البر، ج 8 ص 68.

٢٦٢

أقول:

فكيف يدّعون إذا أنّه أعلم الأمّة بعد رسول الله وأبي بكر؟.

قال ابن حزم: وهذا عمر يقول في حديث الاستئذان أخفي علي هذا من أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ألهاني الصّفق في الأسواق. وقد جهل أيضا أمر إملاص المرأة وعرفه غيره، وغضب على عيينة بن حصن حتى ذكره الحرّ بن قيس بن حصن بقوله تعالى (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) وخفي عليه أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإجلاء اليهود والنّصارى من جزيرة العرب إلى آخر خلافته، وخفي على أبي بكر قبله أيضا طول مدّة خلافته، فلمّا بلغ ذلك عمر أمر بإجلائهم فلم يترك بها منهم أحدا. وخفي على عمر أيضا أمره عليه السلام بترك الإقدام على الوباء وعرف عبد الرحمن بن عوف، وسأل عمر أبا واقد الليثي عما كان يقرأ به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صلاتي الفطر والأضحى، هذا وقد صلاّهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعواما كثيرة، ولم يدر ما يصنع بالمجوس حتّى ذكّره عبد الرّحمن بأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم، ونسي قبوله عليه السلام الجزية من مجوس البحرين وهو أمر مشهور ولعلّهرضي‌الله‌عنه قد أخذ من ذلك المال حظّا، كما أخذ غيره منه. ونسي أمره عليه السلام بأن يتيمّم الجنب فقال: لا يتيمّم أبدا ولا يصلّي ما لم يجد الماء. وذكّره بذلك عمّار، وأراد قسمة مال الكعبة حتى احتجّ عليه أبي بن كعب بأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يفعل ذلك فأمسك. وكان يردّ النّساء اللواتي حضن ونفرن قبل أن يودّعن البيت حتّى أخبر بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أذن في ذلك فأمسك عن ردّهن. وكان يفاضل بين ديات الأصابع حتّى بلغه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمره بالمساواة بينها فترك قوله وأخذ بالمساواة؛ وكان يرى الدية للعصبة فقط حتى أخبره الضحّاك بن سفيان بأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورّث المرأة من الدّية، فانصرف عمر إلى ذلك. ونهى عن المغالاة في مهور النساء استدلالا بمهور النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى ذكّرته امرأة فرجع عن نهيه. وأراد رجم مجنونة حتى أعلم بقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى ذكّرته امرأة فرجع عن نهيه. وأراد رجم مجنونة حتى أعلم بقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رفع القلم عن ثلاثة فأمر ألا ترجم وأمر برجم مولاة حاطب حتى ذكره عثمان بأن الجاهل لا حد عليه فأمسك عن رجمها وأنكر على

٢٦٣

حسان الإنشاد في المسجد فأخبره هو وأبو هريرة أنه قد أنشد فيه بحضرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسكت عمر(1) .

قال ابن القيم: (وخفي على عمر تيمم جنب فقال لو بقي شهرا لم يصل حتى يغتسل وخفي عليه دية الأصابع فقضى في الإبهام والتي تليها بخمس وعشرين حتى أخبر أن كتاب آل عمرو بن حزم أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - قضى فيها بعشر عشر فترك قوله ورجع غليه وخفي عليه شأن الاستئذان حتى أخبره به أبو موسى وأبو سعيد الخدري وخفي عليه توريث المرأة من دية زوجها حتى كتب إليه الضحاك بن سفيان الكلابي وهو أعرابي من أهل البادية أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمره أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها وخفي عليه حكم إملاص المرأة حتى سأل عنه فوجده عند المغيرة بن شعبة وخفي عليه أمر المجوس في الجزية حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذها من مجوس هجر وخفي عليه سقوط طواف الوداع عن الحائض فكان يردهن حتى يطهرن ثم يطفن حتى بلغه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلاف ذلك فرجع عن قوله وخفي عليه التسوية بين دية الأصابع وكان يفاضل بينها حتى بلغته السنة في التسوية فرجع إليها وخفي عليه شأن متعة الحج وكان ينهى عنها حتى وقف على أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بها فترك قوله وأمر بها وخفي عليه جواز التسمي بأسماء الأنبياء فنهى عنه حتى أخبره به طلحة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كناه أبا محمد فأمسك ولم يتماد على النهي هذا وأبو موسى ومحمد بن مسلمة وأبو أيوب من أشهر الصحابة ولكن لم يمر بباله (أمر هو بين يديه حتى نهى عنه وكما خفي عليه قوله تعالى إنك ميت وإنهم ميتون وقوله وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم حتى قال والله كأني ما سمعتها قط قبل وقتي هذا وكما خفي عليه حكم الزيادة في المهر على مهر أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبناته حتى ذكرته تلك المرأة بقوله تعالى وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا فقال كل أحد أفقه من عمر حتى النساء وكما خفي عليه أمر الجد

____________________

(1) الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم الأندلسي، ج 2 ص 151 و 152.

٢٦٤

والكلالة وبعض أبواب الربا فتمنى أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عهد إليهم فيها عهدا وكما خفي عليه يوم الحديبية أن وعد الله لنبيه وأصحابه بدخول مكة مطلق لا يتعين لذاك العام حتى بينه له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكما خفي عليه جواز استدامة الطيب للمحرم وتطيبه بعد النحر وقبل طواف الإفاضة وقد صحت السنة بذلك وكما خفي عليه أمر القدوم على محل الطاعون والفرار منه حتى أخبر بأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال إذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوها فإن وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها فرارا منه هذا وهو أعلم الأمة بعد الصديق على الإطلاق وهو كما قال ابن مسعود لو وضع علم عمر في كفة ميزان وجعل علم أهل الأرض في كفة لرجح علم عمر قال الأعمش فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال والله إني لأحسب عمر ذهب بتسعة أعشار العلم(1) .

عن ذر عن ابن عبد الرحمان بن أبزى عن أبيه أن رجلا سأل عمر بن الخطّاب عن التيمم فلم يدر ما يقول فقال عمار أتذكر حيث كنا في سرية فأجنبت فتمعكت في التراب فأتيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال إنما يكفيك هكذا وضرب شعبة بيديه على ركبتيه ونفخ في يديه ومسح بهما وجهه وكفيه.

أقول:

انظر إلى قوله لم يدر ما يقول. ولماذا يسأل الناس عمر؟ لأنه مرتكز في أذهانهم أن الذي يخلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما يخلفه ليبين للنّاس معالم دينهم.

عن ضمرة بن سعيد عن عبيد الله بن عبد الله قال: خرج عمر يوم عيد فسأل أبا واقد الليثي بأي شيء كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرأ في هذا اليوم فقال بقاف واقتربت(2) .

قال مالك رحمه الله تعالى تشهد عمر بن الخطاب الموقوف عليه أفضل لأنه علمه الناس على المنبر ولم ينازعه أحد فدل على تفضيله وهو التحيات لله الزاكيات لله الطيبات الصلوات لله سلام عليك أيها النبي إلى آخره(3) .

____________________

(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن القيم، ج 2 ص 270. ادار الجيل - بيروت، 1973 تحقيق: طه عبد الرءوف سعد.

(2) سنن النسائي، ج 3 ص 183 - 184.

(3) شرح مسلم، النووي، ج 4 ص 116.

٢٦٥

أقول: كيف يتعلم الناس شيئا مارسوه مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوميا طيلة عشر سنين؟! وأين الفرق بين تعليمهم التّشهّد وتعليمهم الفاتحة؟!

وعن ابن إدريس عن جعفر عن أبيه أن عمر بن الخطّاب سأل عن جزية المجوس فقال عبدالرحمن بن عوف سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول سنوابهم سنة أهل الكتاب. حدثنا وكيع قال ثنا سفيان ومالك بن أنس عن جعفر عن أبيه أن عمر بن الخطّاب استشار الناس في المجوس في الجزية فقال عبد الرحمن بن عوف سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول سنّوا بهم سنة أهل الكتاب(1) .

قال الشنقيطي: ومنه قول الحطيئة أو النجاشي قبيلة لا يخفرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل فإنه يروى أن عمر لما سمع هذا الهجاء حمله على المدح وقال ليت آل الخطاب كانوا كذلك ولمّا قال الشاعر بعد ذلك فإنه يروى أن عمر لما سمع هذا الهجاء حمله على المدح وقال ليت آل الخطاب كانوا كذلك ولمّا قال الشاعر بعد ذلك ولا يردون الماء إلا عشيّة وإذا صدر الوارد عن كل منهل، قال عمر أيضا ليت آل الخطاب كانوا كذلك، فظاهر هذا الشعر يشبه المدح ولذا ذكروا أن عمر تمنّى ما فيه من الهجاء لأهل بيته لأنّه عنده مدح وصاحبه يريد الذم بلا نزاع.

أقول: لا شكّ أنّ الشاعر يقصد الذّمّ، والشاعر هو الحطيئة أهجى أهل زمانه، وقد شكّوا حين موته إن كان مات على الإسلام. وإنّما فهم عمر من كلامه المدح لقلّة علمه بالشّعر، ويدلّ على ذلك ما قاله حسان بن ثابت لعمر في قصّة الحطيئة والزبرقان بن بدر.

وفي التسهيل: (وقد كان عمر بن الخطّاب أشكل عليه معنى التخوف في الآية حتى قال له رجل من هذيل التخوف التنقّص في لغتنا)(2) .

وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن ابن سيرين قال كان عمر بن الخطّاب إذا قرأ يبين الله لكم أن تضلوا قال اللهم من بينت له الكلالة فلم تتبين لي(3) .

____________________

(1) مصنف ابن أبي شيبة، ج 6 ص 304، الحديث رقم 32650 والحديث رقم 32651.

(2) التسهيل لعلوم التنزيل، ج 2 ص 154.

(3) الدر المنثور، السيوطي، ج 2 ص 759.

٢٦٦

قال السرخس: وقد كان عمر يقول لا ميراث للزوج والزوجة من الدية ثم رجع إلى هذا الحديث(1) .

وقال عبد بن حميد حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال كنا عند عمر بن الخطّاب وفي ظهر قميصه أربع رقاع فقرأ وفاكهة وأبا فقال ما الأب ثم قال إن هذا لهو التكلف فما عليك أن لا تدريه.

وقال ابن تيمية: وكذلك لم يأمر عمر بن الخطّاب أن يقضي ما تركه من الصلاة لأجل الجنابة لأنّه لم يكن يعرف أنّه يجوز الصّلاة بالتيمم.

أقول: أعلم الأمة بعد رسول الله وأبي بكر في سلم ترتيب ثقافة السقيفة لا يعرف أنه يجوز الصلاة بالتيمم.

روى عبد الرحمن بن أذينة عن أبيه قال أتيت عمر بن الخطاب فسألته عن تمام العمرة فقال ائت عليا فسله فعدت فسألته فقال ائت عليا عليه السلام فسله فأتيت عليا فقلت إني قد ركبت الخيل والإبل والسفن فأخبرني عن تمام العمرة فقال تمامها أن تنشئها من بلادك فعدت إلى عمر فسألته فقال ألم أقل لك ائت عليا فسله فقلت قد سألته فقال تمامها أن تنشئها من بلادك قال هو كما قال(2) .

وقال هشيم أنا عمر بن أبي زائدة عن الشعبي قال كان أبوبكر يقول الشعر وكان عمر يقول الشعر وكان على يقول الشعر وكان على اشعر الثلاثة(3) .

الموافقات

قالوا عن عمر بن الخطّاب إنه محدث، ورووا في ذلك أحاديث منها ما ذكره الرازي في التفسير الكبير قال:

وروى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال لما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطّاب

____________________

(1) المبسوط للسرخسي، ج 26 ص 157.

(2) شرح العمدة، ج 2 ص 370.

(3) البداية والنهاية، ج 8 ص 8.

٢٦٧

فتبارك الله أحسن الخالقين فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هكذا نزلت يا عمر وكان عمر يقول وافقني ربي في أربع في الصلاة خلف المقام وفي ضرب الحجاب على النسوة وقولي لهن لتنتهنّ أو ليبدلنّه الله خيرا منكنّ، فنزل قوله تعالى( عَسَى‏ رَبّهُ إِن طَلّقَكُنّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنكُنّ ) . والرابع قلت فتبارك الله أحسن الخالقين فقال هكذا نزلت قال العارفون هذه الواقعة كانت سبب السعادة لعمر وسبب الشقاوة لعبد الله كما قال تعالى يضلّ به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضلّ به إلاّ الفاسقين [البقرة: 26](1) .

عن إبراهيم بن المهاجر عن مجاهد قال كان عمر إذا رأى الرأي نزل به القرآن(2) .

وقال الآلوسيّ: قال عبد الوهاب الشعراني:... واعلم أنّ حديث الحقّ سبحانه للخلق لا يزال أبدا غير أنّ من الناس من يفهم أنّه حديث كعمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه ومن ورثه من الأولياء ومنهم من لا يعرف ذلك ويقول: ظهر لي كذا وكذا ولا يعرف أنّ ذلك من حديث الحقّ سبحانه معه وكان شيخنا يقول: كان عمر من أهل سماع المطلق الذين يحدثهم الله تعالى في كل شيء(3) .

هذا ما يقوله الشعراني! عمر يحدثه الله تعالى في كل شيء؛ لكنّه لم يحدّثه في الكلالة حتى مات وهو يجهلها؛ ولم يحدّثه في كثير من القضايا التي خالف فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا في باقي القضايا التي أخطأ فيها باجتهاده! بل إنّهم ذكروا أيضا أنّ عمر بن الخطّاب كان يخطئ في زمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . قال ابن تيمية: فان سيد المحدثين والمخاطبين الملهمين من هذه الأمّة هو عمر بن الخطّاب، وقد كانت تقع له وقائع فيردها عليه رسول الله أو صديقه التّابع له الآخذ عنه الذي هو أكمل من المحدّث الذي يحدّثه قلبه عن ربّه(4) .

وقال أيضا: وقد ثبت في الصّحيح تعيين عمر بأنّه محدّث في هذه الأمّة فأي محدّث

____________________

(1) التفسير الكبير، ج 23 ص 76.

(2) مصنف ابن أبي شيبة، ج 6 ص 354 تحت رقم 31980.

(3) روح المعاني، الآلوسيّ، ج 25 ص 62.

(4) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، ج 11، ص 65.

٢٦٨

ومخاطب فرض في أمّة محمد فعمر أفضل منه! ومع هذا فكان عمررضي‌الله‌عنه يفعل ما هو الواجب عليه فيعرض ما يقع له على ما جاء به الرسول فتارة يوافقه فيكون ذلك من فضائل عمر كما نزل القرآن بموافقته غير مرة وتارة يخالفه فيرجع عمر عن ذلك كما رجع يوم الحديبية لما كان قد رأى محاربة المشركين والحديث معروف في البخاريّ وغيره(1) .

أقول: هل يعني ابن تيمية بقوله (فأي محدّث ومخاطب فرض في أمّة محمد فعمر أفضل منه) أنّ عمر بن الخطّاب أفضل من عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم الصلاة والسلام؟! سبحانك هذا بهتان عظيم. لو كان الأمر كذلك لخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم المباهلة يباهل بعمر بن الخطّاب؛ وما أكثر ما أعرض النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن عمر.

وقال [ابن تيمية] أيضا: والمحدّث يأخذ عن قلبه أشياء وقلبه ليس بمعصوم فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي ولهذا كان عمررضي‌الله‌عنه يشاور الصحابة رضي الله عنهم ويناظرهم ويرجع إليهم في بعض الأمور وينازعونه في أشياء فيحتج عليهم ويحتجون عليه بالكتاب والسنة ويقرّرهم على منازعته، ولا يقول لهم أنا محدّث ملهم مخاطب فينبغي لكم أن تقبلوا منى ولا تعارضوني(2) .

نعم، لم يكن يقول لهم ذلك لأنّ حديث المحدّث لم يكن قد وضعه الوضاعون بعد! لكنه قال: (متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما) وهذه أشدّ من تلك بكثير.

وقال في مجموع الفتاوى: حتى أن المحدث منهم كعمر بن الخطّاب إنما يؤخذ منه ما وافق الكتاب والسنّة، وإذا حدّث شيئاً في قلبه لم يكن له أن يقبله حتى يعرضه على الكتاب والسنّة، وكذلك لا يقبله إلاّ أن وافق الكتاب والسنّة، وهذا باب واسع في فضائل القرآن على ما سواه(3) .

____________________

(1) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، ج 11 ص 205.

(2) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، ج 11 ص 207.

(3) مجموع الفتاوى، ج 17 ص 46..

٢٦٩

وقال: وكذلك عمر بن الخطّاب كان يقرّ على نفسه في مواضع بمثل هذه فيرجع عن أقوال كثيرة إذا تبين له الحق في خلاف ما قال، ويسأل الصحابة عن بعض السنة حتى يستفيدها منهم، ويقول في مواضع والله ما يدرى عمر أصاب الحق أو أخطأه، ويقول أمرأة أصابت ورجل اخطأ(1) .

اقتراحات عمر على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

يقول الله تعالى في سورة الحجرات ( لاَ تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرسُولِهِ )...

عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري قال حدثني أبي قال كنّا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزاة فأصاب النّاس مخمصة فاستأذن الناس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نحر بعض ظهورهم وقالوا أيبلغنا هذه فلما رأى عمر بن الخطّاب أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لن يأذن لهم في نحر بعض ظهورهم قال: يا رسول الله وكيف بنا إذا نحن لقينا القوم غدا جياعا أرجالا، إن رأيت يا رسول الله أن تدعو الناس ببقايا أزوادهم فتجمعها ثمّ تدعو الله بالبركة فيها، فإنّ الله سيبلغنا بدعوتك أو قال سيبارك لنا في دعوتك. فدعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببقايا أزوادهم فجعل النّاس يجيئون بالحثية من الطّعام وفوق ذلك، فكان أعلاهم من جاء بصاع من تمر فجمعنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ قام فدعا بما شاء الله أن يدعو، ثمّ دعا الجيش بأوعيته وأمرهم أن يحتثوا، فما بقي في الجيش وعاء إلاّ ملأه وبقي مثله فضحك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى بدت نواجذه فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد إنّي رسول الله، لا يلقى الله عبد يؤمن بهما إلا حجبت عنه النّار يوم القيامة(2) .

قال السيوطي: وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال مشى عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وقرظة بن عبد عمر وبن نوفل والحارث بن عامر بن نوفل ومطعم بن

____________________

(1) مجموع الفتاوى ج 35 ص 123.

(2) سنن النسائي الكبرى ج 5 ص 244 وسنن النسائي الكبرى ج 6 ص 279 والآحاد والمثاني ج 4 ص 59 والمعجم الأوسط ج 1 ص 26 والمعجم الكبير ج 1 ص 211 ومسند ابن المبارك ج 1 ص 24 ومسند الشاميين ج 1 ص 439 وكنز العمال ج 12 ص 191 وتهذيب الكمال ج 34 ص 138 الطبقات الكبرى ج 1 ص 180 ومعجم الصحابة ج 1 ص 123 والخصائص الكبرى ج 1 ص 407.

٢٧٠

عدي بن الخيار بن نوفل في أشراف الكفار من عبد مناف إلى أبي طالب فقالوا لو أن ابن أخيك طرد عنا هؤلاء الأعبد فإنهم عبيدنا وعسفاؤنا كان أعظم له في صدورنا وأطوع له عندنا وأدنى لاتّباعنا إيّاه وتصديقه فذكر ذلك أبوطالب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال عمر بن الخطّاب لو فعلت يا رسول الله حتى ننظر ما يريدون بقولهم وما يصيرون إليه من أمرهم فأنزل الله وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم إلى قوله أليس الله بأعلم بالشاكرين قالوا وكانوا بلالا وعمار بن ياسر وسالما مولى أبي حذيفة وصبحا مولى أسيد ومن الحلفاء ابن مسعود والمقداد بن عمرو وواقد بن عبد الله الحنظلي وعمرو بن عبد عمر وذوالشمالين ومرثد بن أبي مرثد وأشباههم ونزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا الآية فلما نزلت أقبل عمر بن الخطّاب فاعتذر من مقالته فأنزل الله وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا الآية(1) .

أقول:

هذه المرة خالف عمر ربّه في أمر خطير وهو طرد المؤمنين من حول رسول الله! وإذا كان رضاه حكما وغضبه عزّا كما جاء في معجم الطبراني(2) ، فإن القضيّة تصبح عويصة!

وقال الغرناطي في التّسهيل: في الصحيح إن الله كتب كتابا فهو عنده فوق العرش إنّ رحمتي سبقت غضبي أنه من عمل منكم سوءا الآية وعد بالمغفرة والرحمة لمن تاب وأصلح وهو خطاب للقوم المذكورين قبل وحكمها عام فيهم وفي غيرهم والجهالة قد ذكرت في النساء وقيل نزلت بسبب أن عمر بن الخطّاب أشار على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يطرد الضعفاء عسى أن يسلم الكفار فلما نزلت لا تطرد ندم عمر على قوله وتاب منه فنزلت الآية(3) .

____________________

(1) الدر المنثور، ج 3 ص 272.

(2) الحديث في المعجم الكبير للطبراني [ج 21 ص 48].

(3) التسهيل لعلوم التنزيل، ج 2 ص 10.

٢٧١

وعن عبيد بن حنين أنه سمع ابن عبّاس يقول: مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطّاب عن المتظاهرتين فما أجد له موضعا أسأله فيه حتى خرج حاجا وصحبته حتى إذا كان بمر الظهران ذهب لحاجته وقال: أدركني بإداوة من ماء فلما قضى حاجته ورجع أتيته بالإداوة أصبها عليه فرأيت موضعا فقلت: يا أمير المؤمنين من المرأتان المتظاهرتين على رسول الله؟ فما قضيت كلامي حتى قال: عائشة وحفصة.

وعن عبد الله بن عبّاس قال: حدثني عمر بن الخطّاب قال: لما اعتزل نبي اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نساءه دخلت عليه وأنا أرى في وجهه الغضب فقلت: يا رسول الله ما شقّ عليك من شأن النساء فلئن كنت طلقتهن فإن الله وملائكته وجبرائيل وميكائيل وأنا وأبوبكر معك وقلما تكلمت وأحمد الله بكلام إلا رجوت أن يكون الله مصدق قولي فنزلت هذه الآية آية التخيير( عَسَى‏ رَبّهُ إِن طَلّقَكُنّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنكُنّ ) ( وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنّ اللّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) الآية وكانت عائشة ابنة أبي بكر وحفصة تتظاهران على سائر نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (1) .

قال الشوكاني: وأخرج ابن عبد الحكم وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد وأبو الشيخ وعن عمر بن الخطّاب أنه سمع رجلا ينادي بمنى يا ذا القرنين فقال عمر: ها أنتم قد سمعتم بأسماء الأنبياء فما بالكم وأسماء الملائكة(2) ؟

أقول:

علما أنّ ذا القرنين لم يكن من الملائكة! وعمر بن الخطاب يقول عنه (فما بالكم وأسماء الملائكة)؟

وعن ابن عبّاس قال: قال عمر بن الخطّاب فهوي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما قال أبوبكر ولم يهو ما قلت فلما كان من الغد جئت فإذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبوبكر قاعدين (يبكيان) قلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء

____________________

(1) تفسير الطبري، ج 12 ص 152.

(2) فتح القدير، ج 3 ص 442 وأيضا في فتح الباري ج 6 ص 383 ومعاني القرآن ج 4 ص 285 وفتح القدير ج 3 ص 310.

٢٧٢

بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنزل الله تعالى:( مَا كَانَ لِنَبِيّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى‏ حَتّى‏ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ) إلى قوله:( فَكُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيّباً ) (1) .

قال ابن إسحاق: لم يكن من المؤمنين أحد ممن حضر إلا أحب الغنائم إلا عمر بن الخطّاب فإنه أشار على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتل الأسرى وسعد بن معاذ قال: يا رسول الله كان الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجال فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو نزل عذاب من السماء ما نجا منه غير عمر بن الخطّاب وسعد بن معاذ(2) .

لكنهم رووا أيضا عن ابن إسحاق ما يلي: (وسعد بن معاذ واقف عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رجال من الأنصار في العريش - رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في وجه سعد الكراهية فقال كأنك تكره ما يصنع الناس قال أجل والله يا رسول الله كانت أول وقعة أوقعها الله في المشركين وكان الإثخان في القتل أحبّ إليّ من استبقاء الرجال..(3) . ورووا قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لو نزل عذاب من السماء لم ينج منه إلا سعد بن معاذ لقوله يا نبي الله كان الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجال)(4) .

وبما أن الجمع متعذر لحصر النّجاة في رجل واحد كما هو واضح في الروايات السابقة، فقد تصدى من تصدى وتبرّع بالنجاة للرجلين جميعا بضم أحدهما إلى الآخر، وهكذا وجدت أحاديث تقول (ولو نزل عذاب من السماء لما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ)(5) . ولكن كفة عمر بن الخطاب تبقى دائما أرجح فإنّه قرشي ولي الخلافة،

____________________

(1) تفسير البغوي، ج 1 ص 375.

(2) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ج 2 ص 552 وتفسير الطبري ج 10 ص 48 وأحكام القرآن لابن العربي ج 2 ص 436 وتفسير الثعلبي ج 4 ص 373 وتخريج الأحاديث والآثار ج 2 ص 39 وزاد المعاد ج 3 ص 185. تأويل مختلف الحديث ج 1 ص 158 وأصول البزدوي ج 1 ص 280 والتوضيح في حل عوامض التنقيح ج 2 ص 35 وتيسير التحرير ج 4 ص 186 وكشف الأسرار ج 3 ص 311 وكشف الأسرار ج 4 ص 40.

(3) مختصر السيرة، ابن كثير، ج 1 ص 155 والبداية والنهاية ج 3 ص 284 وتاريخ الطبري ج 2 ص 47.

(4) تفسير الطبري ج 10 ص 48 وأحكام القرآن لابن العربي ج 2 ص 436.

(5) التفسير الكبير ج 15 ص 158 والكشاف ج 2 ص 225 وتفسير أبي السعود ج 4 ص 36 وتفسير البيضاوي

٢٧٣

وتملّق السّلطان في تاريخ العرب أمر معلوم فيما سبق من الأزمان، مشهود في أيّامنا بالوجدان.

ولذلك فإنّ سعد بن معاذ رغم استشهاده في أيّام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحضور جموع كثيرة من الملائكة في جنازته، وكونه صاحب مناديل في الجنّة، فإنّه لن يكون من بين العشرة المبشّرين بالجنّة، لأنّه ليس قرشيا، هذا مع أنّه لم يثبت له فرار من الزّحف، بخلاف الخلفاء الثّلاثة القرشيّين، فإنّ لهم في الفرار بصمات لا تمحى. والفرار من الزحف من الكبائر! وعليه يكون القرشيّ محظيّا عند الله تعالى حتّى لو كان غارقا في الذّنوب إلى ذقنه.

قالوا: وهذه الآية نزلت في احتجاب أزواج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسببها ما رواه أنس من قعود القوم يوم الوليمة في بيت زينب وقيل سببها أن عمر بن الخطّاب أشار على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يحجب نساءه فنزلت الآية موافقة لقول عمر(1) .

أقول:

أي أنّه لو لم يشر عمر بن الخطّاب على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما نزل قرآن بخصوص الحجاب!

وروى سعيد بن جبير قال: كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي فمرّ رجل من المسلمين على رجل من المنافقين فقال له: رسول الله يصلّي وأنت جالس لا تصلّي؟ فقال له: امض إلى عملك إن كان لك عمل! فقال: ما أظنّ إلاّ سيمرّ بك من ينكر عليك؛ فمرّ عليه عمر بن الخطّاب قال: يا فلان، إنّ رسول الله يصلّي وأنت جالس؟ فقال له مثلها، فوثب عليه فضربه وقال: هذا من عملي. ثمّ دخل المسجد وصلّى مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا فرغ رسول الله من صلاته قام إليه عمر فقال: يا نبي الله مررت آنفا على فلان وأنت تصلّي وهو جالس فقلت له: نبيّ الله يصلّي وأنت جالس؟ فقال لي: مرّ إلى عملك فقال عليه

____________________

ج 3 ص 122 وتفسير النسفي ج 2 ص 74 ومرقاة المفاتيح ج 7 ص 481 والفتح السماوي ج 2 ص 660 وشرح فتح القدير ج 5 ص 475.

(1) التسهيل لعلوم التنزيل، ج 3 ص 143.

٢٧٤

الصلاة والسلام: هلاّ ضربت عنقه؟ فقام عمر مسرعا ليلحقه فيقتله فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يا عمر، ارجع فإنّ غضبك عزّ ورضاك حكم. إن لله في السموات ملائكة له غنى بصلاتهم عن صلاة فلان. فقال عمر: يا رسول الله وما صلاتهم فلم يردّ عليه شيئا فأتاه جبريل فقال: يا نبي الله سألك عمر عن صلاة أهل السّماء؟ قال: نعم. قال: أقرئه منّي السّلام وأخبره بأن أهل سماء الدّنيا سجود إلى يوم القيامة يقولون سبحان ذي الملك والملكوت وأهل السماء الثانية قيام إلى يوم القيامة يقولون سبحان ذي العزّة والجبروت وأهل السّماء الثالثة ركوع إلى يوم القيامة يقولون سبحان الحيّ الذي لا يموت فهذا هو تسبيح الملائكة(1) .

أقول:

هناك منافقون قاموا بأعمال لا يمكن أن يقرن بها عمل هذا الرجل ومع ذلك قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يسمع النّاس أنّ محمّدا يقتل أصحابه، فكيف يخالف فجأة ويأمر بضرب عنق متخلف عن صلاة الجماعة؟ ولم يقل أحد من الفقهاء بضرب عنق من تخلّف عن صلاة الجماعة. ولا يخفى ههنا تقريرهم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصحّح فعل عمر ويؤيّده.

وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن يهوديا لقي عمر فقال (إنّ جبريل الذي يذكر صاحبكم عدوّ لنا) فقال عمر: (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) قال: فنزلت على لسان عمر! وقد نقل ابن جرير الإجماع على أن سبب نزول الآية ذلك(2) .

وأخرج سعيد بن منصور وأحمد والعدني والدارمي والبخاريّ والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن أبي داود في المصاحف وابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والطحاويّ وابن حبان والدار قطني في الأفراد البيهقي في سننه عن أنس بن مالك قال: قال عمر بن الخطّاب وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث: قلت يا رسول الله

____________________

(1) التفسير الكبير، الرازي، ج 2 ص 159.

(2) الدر المنثور، السيوطي، ج 1 ص 224 عن ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

٢٧٥

لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى؛ وقلت يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهم البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب؛ واجتمع على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نساؤه في الغيرة فقلت لهن عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن التحريم الآية فنزلت كذلك(1) .

قال السيوطي: وأخرج مسلم وابن أبي داود وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في سننه عن جابر أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعا حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين ثم قرأ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى. وأخرج ابن ماجه وابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر قال لما وقف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم فتح مكة عند مقام إبراهيم قال له عمر يا رسول الله هذا مقام إبراهيم الذي قال الله واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى قال نعم. وأخرج الطبراني والخطيب في تاريخه عن ابن عمر أن عمر قال يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى. وأخرج عبد بن حميد والترمذي عن أنس أن عمر قال يا رسول الله لو صلّينا خلف المقام فنزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وأخرج ابن أبي داود عن مجاهد قال كان المقام إلى لزق البيت فقال عمر بن الخطّاب يا رسول الله لو نحيته إلى البيت ليصلي إليه الناس ففعل ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وأخرج ابن أبي داود وابن مردويه عن مجاهد قال: قال عمر (يا رسول الله لو صلّينا خلف المقام فأنزل الله واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى فكان المقام عند البيت فحوله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى موضعه هذا قال مجاهد وقد كان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن

____________________

(1) صحيح البخاري ج 1 ص 157 وصحيح مسلم ج 4 ص 1865 وصحيح ابن حبان ج 15 ص 319 والجمع بين الصحيحين ج 1 ص 112 وسنن الدارمي ج 2 ص 67 وسنن سعيد بن منصور ج 2 ص 607 والمعجم الأوسط ج 6 ص 92 والمعجم الأوسط ج 6 ص 207 والمعجم الصغير الروض الداني) ج 2 ص 110 ومسند أحمد بن حنبل ج 1 ص 339 وكنز العمال ج 12 ص 248 ومشكاة المصابيح ج 3 ص 1706 وأخبار المدينة ج 2 ص 45 وأخبار مكة للفاكهي ج 1 ص 441 والموافقات ج 2 ص 251 وشرح مذاهب أهل السنة ج 1 ص 148 ومنهاج السنة النبوية ج 6 ص 22 وتاريخ الإسلام ج 3 ص 261 وتاريخ الخلفاء ج 1 ص 122.

٢٧٦

وأخرج ابن مردويه من طريق عمر بن ميمون عن عمر أنه مرّ بمقام إبراهيم فقال يا رسول الله أليس نقوم مقام إبراهيم خليل ربّنا؟ قال: بلى. قال: أفلا نتخذه مصلّى؟ فلم يلبث إلا يسيرا حتى نزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى. وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده والدار قطني في الأفراد عن أبي ميسرة قال قال عمر يا رسول الله هذا مقام خليل ربنا أفلا نتخذه مصلى فنزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى(1) .

أقول:

لا شغل للسماء إلا موافقة عمر!

قال السيوطي: وأخرج أحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم بسند حسن عن كعب بن مالك قال كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد فرجع عمر بن الخطّاب من عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات ليلة وقد سمر عنده فوجد امرأته قد نامت فأيقظها وأرادها فقالت إني قد نمت فقال ما نمت ثم وقع بها وصنع كعب بن مالك مثل ذلك فغدا عمر بن الخطّاب إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره فأنزل الله( عَلِمَ اللّهُ أَنّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ ) (2) .

قال الآلوسي: أخرج ابن جرير عن عائشة أن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام كن يخرجن باللّيل إذ برزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح وكان عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه عنه يقول للنبي: أحجب نساءك فلم يكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفعل فخرجت سودة بنت زمعةرضي‌الله‌عنه ليلة من الليالي عشاء وكانت امرأة طويلة فناداها عمر رضي الله تعالى عنه بصوته الأعلى قد عرفناك يا سودة حرصا على أن ينزل الحجاب فأنزل الله تعالى الحجاب وذلك أحد موافقات عمررضي‌الله‌عنه وهي مشهودة(3) .

فعمر بن الخطاب إذا أحرص من الله تعالى ورسوله على الأحكام التي فيها مصالح المسلمين!! وقوله حرصا يعني قطعا أنّ هذا الحرص لم يكن عند الله والرّسول، لأنّه إن

____________________

(1) الدر المنثور، ج 1 ص 289 - 290.

(2) الدر المنثور، ج 1 ص 475.

(3) روح المعاني، ج 22 ص 72.

٢٧٧

كان فلماذا يتأخّر أثره حتى يضجر عمر ويضيق ذرعا بالواقع؟!.

قال الآلوسي: أخرج الإمام أحمد عن عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه قال خرجت أتعرض لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل أن أسلم فوجدته قد سبقني إلى المسجد فوقفت خلفه فاستفتح سورة الحاقّة فجعلت أعجب من تأليف القرآن فقلت هذا والله شاعر فقال (وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون) قلت كاهن فقال لا (ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل..) إلى آخر السورة، فوقع الإسلام في قلبي كل موقع(1) .

أقول: وربّما لو قال عمر: (هذا فيلسوف) لنزل ولا بقول فيلسوف..! فوا عجبا لأمّة هذا مبلغ علمها وهذه حرمة كتاب ربّها عندها، أن جعلت الآي الحكيم تابعا في نزوله لهوى رجل وهو على حال الشّرك، ويشهد على نفسه أنّه كان أضلّ من بعير أهله!!

قال ابن الجوزي: قوله تعالى يسألونك عن الخمر والميسر في سبب نزولها قولان أحدهما أن عمر بن الخطّاب قال اللهمّ بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت هذه الآية والثاني أن جماعة من الأنصار جاؤوا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفيهم عمر ومعاذ فقالوا: أفتنا في الخمر فإنّها مذهبة للعقل، مسلبة للمال، فنزلت هذه الآية(2) .

قال: والرابع أن عمر بن الخطّاب كان أشار على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تأخير الفقراء استمالة للرؤساء إلى الإسلام فلما نزلت ولا تطرد الذين يدعون ربهم جاء عمر يعتذر من مقالته ويستغفر منها فنزلت فيه هذه الآية قاله ابن السائب(3) .

وروي عن ابن عمر قال: لما أشار عمر بقتلهم وفاداهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنزل الله تعالى ما كان لنبي إلى قوله حلالا طيبا فلقي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمر فقال كاد يصيبنا في خلافك بلاء(4) .

____________________

(1) روح المعاني، ج 29 ص 39.

(2) زاد المسير، ابن الجوزي، ج 1 ص 239.

(3) زاد المسير، ابن الجوزي، ج 3 ص 48.

(4) زاد المسير، ج 3 ص 380.

٢٧٨

أقول: لا يدري ما هو الواجب طاعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم طاعة عمر؟! وكيف يصحّ هذا بعد قوله تعالى( فَلْيَحْذَرِ الّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (1) . كان الأولى أن ينزل فليحذر الذين يخالفون عن أمر عمر أن تصيبهم فتنة...

قال ابن الجوزي: قوله تعالى ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم في سبب نزولها قولان أحدهما أن رسول الله ص وجه غلاما من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو إلى عمر بن الخطّاب وقت الظهيرة ليدعوه فدخل فرأى عمر على حالة كره عمر رؤيته عليها فقال يا رسول الله وددت لو أن الله أمرنا ونهانا في حال الاستئذان فنزلت هذه الآية قاله ابن عبّاس(2) .

الاستئذان سلوك حضاري يدرك بالوجدان. لكن لابدّ أن يكون عمر بن الخطّاب وراء كل تشريع!.

قال: والثالث أنّ عمر بن الخطّاب قال: قلت (يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب). أخرجه البخاريّ من حديث أنس وأخرجه مسلم من حديث ابن عمر، كلاهما عن عمر(3) .

قال: أحدها أنّ عمر بن الخطّاب رأى جارية متبرّجة فضربها وكفّ ما رأى من زينتها فذهبت إلى أهلها تشكو، فخرجوا إليه فآذوه فنزلت هذه الآية رواه عطاء عن ابن عبّاس(4) .

قال ابن الجوزي في زاد المسير: وعن أنس عن عمر بن الخطّاب قال: (بلغني بعض ما آذى به رسول الله نساؤه فدخلت عليهنّ فجعلت أستقرئهنّ واحدة واحدة! فقلت والله لتنتهنّ أو ليبدلنّه الله أزواجا خيرا منكنّ. فنزلت هذه الآية والمعنى واجب من الله إن

____________________

(1) النور: 63.

(2) زاد المسير، ج 6 ص 60.

(3) زاد المسير، ج 6 ص 413.

(4) وقال: زاد المسير، ج 6 ص 421.

٢٧٩

طلقكنّ رسوله أن يبدله أزواجا خيرا منكنّ مسلمات أي خاضعات لله)(1) .

لكن هذه القصّة تقابلها قصّة أخرى في صحيح البخاريّ تشبهها إلى حدّ بعيد. ففي البخاريّ: قال عمر: ثمّ خرجت حتّى دخلت على أمّ سلمة لقرابتي منها فكلّمتها فقالت أمّ سلمة: عجبا لك يا ابن الخطّاب دخلت في كلّ شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله وأزواجه فأخذتني والله أخذا كسرتني عن بعض ما كنت أجد(2) .

قال ابن عاشور: وفي حديث آخر في الصحيح عن أنس أيضا أن عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه قال له: يا رسول الله يدخل عليك البرّ والفاجر فلو أمرت أمّهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب(3) .

وفيه اعتراف أنّ عمر لا يعتقد بعدالة جميع الصحابة، وظاهر ما ذكروه أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعلّق على كلام عمر، ومثل هذا السّكوت يعدّ تقريرا لقول عمر.

أقول: هل كان نزل قوله تعالى (وأزواجه أمهاتهم) حتى يقول عمر فلو أمرت أمّهات المؤمنين(4) !

قال السيوطي: وأخرج ابن مردويه من طريق عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطّاب أنه مر بمقام إبراهيم فقال يا رسول الله أليس نقوم مقام خليل ربنا قال بلى قال أفلا نتخذه مصلى فلم يلبث إلا يسيرا حتى نزلت(5) .

وأخرج عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن يهوديا لقي عمر بن الخطّاب فقال إن جبريل الذي يذكر صاحبكم عدوّ لنا فقال عمر: (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) قال فنزلت على لسان عمر.

يقولون: (على لسان عمر)، وفيه إشكال كبير على الذين يقولون إنّ القرآن ليس بمخلوق.

____________________

(1) زاد المسير، ج 8 ص 311.

(2) صحيح البخاريّ ج 3 ص 206 بحاشية السندي.

(3) التحرير والتنوير، ج 1 ص 384.

(4) (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم) الآية 6 من سورة الأحزاب.

(5) الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، ج 1 ص 59.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

أقدمت، لعن الله فلاناً وفلاناً، فإنهما أشارا علي بما فعلت..)(١) .

لسوف نغض النظر عن كل ما تقدم، وحتى عن رسالته للسري، عامله على مصر، والتي أشرنا إليها غير مرة..

والذي نريده هنا:

ولا نريد هنا إلا أن نضع بعض علامات استفهام على بعض تصرفات المأمون، وأقواله حين وفاة الإمامعليه‌السلام ، حيث رأيناه: قد ارتبك في أمر وفاة الرضاعليه‌السلام أشد ما يكون الارتباك..

الأسئلة التي لن تجد جوابا:

فأول ما يطالعنا من الأسئلة هو أنه: لماذا يستر موت الرضاعليه‌السلام يوماً وليلة؟!(٢) .

ولماذا يقول للإمام، وهو بعد لم يمت: (.. ما أدري أي المصيبتين علي أعظم، فقدي إياك، أو تهمة الناس لي: أني اغتلتك وقتلتك)(٣) ؟!.

____________

(١) إثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٩.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٥٦٧، وكشف الغمة ج ٣ ص ٧٢، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٧٧، والبحار ج ٤٩ ص ٣٠٩، وإرشاد المفيد ص ٣١٦.

(٣) مقاتل الطالبيين ص ٥٧٢، وإرشاد المفيد ص ٣١٦، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٤١، والبحار ج ٤٩ ص ٢٩٩. وعبارة مقاتل الطالبيين: (وأغلظ من ذلك علي، وأشد: أن الناس يقولون: إني سقيتك سماً).

٣٤١

ولماذا يظهر التمارض بعد أن أكل مع الإمامعليه‌السلام العنب(١) ..؟! وكيف مات الإمامعليه‌السلام في مرضه من العنب، ولم يمت المأمون منه أيضاً؟!.

ولماذا يحضر محمد بن جعفر، وجماعة من آل أبي طالب، ويشهدهم على أن الرضا مات حتف أنفه، لا مسموماً(٢) ؟!.

ولماذا يبقى على قبره ثلاثة أيام!! يؤتى! كل يوم برغيف واحد وملح ليأكله!. الأمر الذي لم يفعله حتى عندما مات أبوه الذي ولد منه، وأخوه الذي قتله، وفعل برأسه ما فعل؟!.

وهل يمكن أن نصدقه حينما نسمعه يقول: (وقد كنت أؤمل أن أموت قبلك)(٣) !. هذا مع علمه بأن الإمامعليه‌السلام كان يكبره بـ(‍٢٢) سنة؟! أم أن وقع المصيبة جعله يتكلم بما لا معنى له، ولا واقع وراءه؟!.

ولماذا أيضاً: يجبره على أكل العنب بعد امتناع الإمامعليه‌السلام من أكله، ثم يقول له: (لا بد من ذلك، وما يمنعك منه، لعلك تتهمنا بشيء؟!) وبعد أن أكل منه الإمامعليه‌السلام قام، فقال له المأمون: إلى أين؟ قالعليه‌السلام :((إلى حيث وجهتني..)) (٤) ؟!

ولماذا؟ ولماذا؟ إلى آخر ما هنالك مما يضيق عنه المقام..

____________

(١) إعلام الورى ص ٣٢٥، وإرشاد المفيد ص ٣١٦، ومقاتل الطالبيين ص ٥٦٦، والخرائج والجرائح طبعة حجرية ص ٢٥٨، وغير ذلك..

(٢) روضة الواعظين ج ١ ص ٢٧٧، ومقاتل الطالبيين ص ٥٦٧، وإرشاد المفيد ص ٣١٦، وكشف الغمة ج ٣ ص ٧٢ و ١٢٣. والبحار ج ٤٩ ص ٣٠٩، وإعلام الورى ص ٣٢٩.

(٣) نفس المصادر السابقة باستثناء كشف الغمة.

(٤) أمالي الصدوق ص ٣٩٣، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٧٤، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٤٣، وإعلام الورى ص ٢٢٦، والبحار ج ٤٩ ص ٣٠١، وغير ذلك.

٣٤٢

كاد المريب أن يقول: خذوني:

وبعد.. فهذه بعض الأسئلة، التي تدور حول تصرفات المأمون عند استشهاد الإمامعليه‌السلام .. تحتاج إلى جواب.. وأنى لها من المأمون الجواب الصحيح، والصريح. ولكن مواقفه وتصرفاته هذه، هي الجواب الكافي والشافي، فلقد قيل، وما أصدق ما قيل: (كاد المريب أن يقول: خذوني..) كما أن المؤرخين بدورهم قد أجابوا عنها بكل صراحة أحياناً، وباللف والدوران ـ لأسباب مختلفة ـ أحياناً أخرى..

فإلى الفصل التالي، لنقف على بعض أقوال ومواقف المؤرخين، بالنسبة لسبب وفاة الإمامعليه‌السلام ..

ما يقال حول وفاة الإمامعليه‌السلام

ماذا ترى بعض الفرق في الحكام:

قبل كل شيء نود أن نشير إلى أمر مهم، كنا قد أشرنا إليه من قبل، وله ـ إلى حد ما ـ صلة فيما نحن بصدده.. وهو: أن بعض فرق المسلمين ترى: أن الحكام تجب طاعتهم، ولا تجوز مخالفتهم، والقيام ضدهم، والوقوف في وجههم بحال من الأحوال.. مهما كانت هويتهم، وأيا كان سلوكهم، حتى ولو أنهم ارتكبوا أعظم المحرمات، وانتهكوا جميع الحرمات..

أي.. أنهم حتى لو قتلوا الأبرياء ـ ولو كانوا أبناء محمد ـ، وهدموا الكعبة.. مع ذلك كله ـ تجب طاعتهم، ولا تجوز مخالفتهم، ولا الوقوف في وجههم..

هكذا.. تعتقد الفرق الإسلامية ـ كما قلنا ـ.. ومن المؤسف جداً أن من هؤلاء الفرق: أهل الحديث، وعامة أهل السنة، قبل الإمام الأشعري، وبعده. وهو أيضاً قائل بهذه المقالة ومعتقد بهذه العقيدة..

ولقد أيدوا هذه العقيدة بمختلف أنواع التأييد، حتى لقد وضعوا في تأييدها الروايات على لسان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع عدم تنبههم إلى أن ذلك ينافي صريح القرآن، ويصادم حكم العقل والوجدان..

٣٤٣

انعكاسات هذه العقيدة على التراث:

وطبيعي أن ينعكس ذلك إلى حد كبير على كتابهم ومؤرخيهم(١) ، وحتى على علمائهم، وفقهائهم أيضاً، حيث كان لا بد لهم من التستر على كل هفوات أولئك الحكام. وكل مخازيهم وموبقاتهم، مما كان من نتيجته ـ بطبيعة الحال ـ إخفاء كثير من الحقائق، وطمسها، حتى إذا لم يتمكنوا من ذلك، تراهم يحاولون اللف والدوران، وتوجيهها بما لا يسمن ولا يغني من جوع.. هذا إن لم تخولهم غيرتهم، وتدفعهم حميتهم إلى تشويهها، والتغيير والتبديل فيها، بحيث تبدو مستهجنة، وغريبة. ولتسقط من ثم عن الاعتبار.. وقد يختلقون في كثير من الأحيان في مقابلها، ما ينسجم مع نظرتهم الضيقة، وتعصبهم المقيت، أو يوافق هوى نفوسهم، ويرضي حكامهم، الذين كانوا يرون أنهم يقربونهم من الله زلفى.

إخفاء كل الحقائق عن الأئمةعليهم‌السلام :

ولقد أراد الحكام ـ لسبب أو لآخر ـ إخفاء كل الحقائق التي ترتبط بالأئمة الأطهارعليهم‌السلام ، أو تشويهها، فكان لهم ما أرادوا، ووجدوا من العلماء، والكتاب، والمؤرخين، من لا يألوا جهداً، ولا يدخر وسعاً من أجل تنفيذ إرادتهم تلك، التي يرون: أنها إرادة الله ـ حسب عقيدة الجبر التي ابتدعوها ـ.. حتى إنك قد لا تجد في كثير من الكتب التاريخية، حتى اسم الأئمة الأطهارعليهم‌السلام . فضلاً عن شرح أحوالهم، وبيان نشاطاتهم..

وليس ذلك لأنهمعليهم‌السلام كانوا غير مشهورين، ولا معروفين.. أو لأنهم ممن لا يعتنى بشأنهم، ولا يلتفت إليهم.. لا.. أبداً.. فقد كان ذكرهم يسري في جميع الآفاق في الدولة الإسلامية المترامية الأطراف: إما حباً وتشيعاً، وأما عداءاً ونصباً..

____________

(١) راجع تمهيد الكتاب..

٣٤٤

وقد ذكر الجاحظ في رسالته: (فضل هاشم على عبد شمس) ـ وهو الكاتب المعروف في عصره، وبعد عصره.. وحتى الآن، والذي تعرض في كتبه لمختلف الموضوعات التي شاع التكلم بها في زمانه، ومنها موضوع رسالته المشار إليها. والذي كان يظهر الحياد في كتاباته، وإن كان المعتزلة ـ أهل نحلته ـ مثل الإسكافي وغيره يتهمونه بالنصب والعداء لأهل البيتعليهم‌السلام . ومما يدل على نصبه وتعصبه: أنه قد ألف كتاباً في نقض فضائل الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام (١) ـ الجاحظ هذا ـ يقول في رسالته المشار إليها: (.. ومن الذين يعد من قريش، أو من غيرهم، ما بعد الطالبيون في نسق واحد، كل واحد منهم: عالم، زاهد، ناسك، شجاع، جواد، طاهر، زاك، فمنهم خلفاء، ومنهم مرشحون: ابن، ابن، ابن، ابن. هكذا إلى عشرة.. وهم: الحسن بن علي، بن محمد، ابن علي، بن موسى، بن جعفر، بن محمد، بن علي، بن الحسين، ابن علي. وهذا لم يتفق لبيت من بيوت العرب، ولا من العجم إلخ..)(٢) .

هذا.. ويجب أن لا يفوتنا هنا: التنبيه على أن الجاحظ كان في البصرة، والإمام العسكريعليه‌السلام كان في سامراء، موضوعاً تحت الرقابة الشديدة.

وتوفي الجاحظ قبل وفاة العسكري بخمس سنين.

وقد كان عمرهعليه‌السلام عندما ألف الجاحظ رسالته في حدود اثنتين وعشرين سنة، لو فرض أن الجاحظ كان قد ألفها في آخر يوم من أيام حياته..

____________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٢٣٧.

(٢) آثار الجاحظ ص ٢٣٥.

٣٤٥

ولم يكن الإمام العسكري اعرف. ولا أشهر من آبائه الطاهرينعليه‌السلام ، سيما الإمام علي، والحسن، والصادق، والرضاعليهم‌السلام . بل كان الأئمةعليهم‌السلام ، بعد الرضاعليه‌السلام ـ مع نباهة شأنهم، وعلو أمرهم ـ يسمون: بـ‍ (ابن الرضا)، وذلك يدل على أنهعليه‌السلام كان أنبه من أبنائه الطاهرين، فكان يقال ذلك ـ يعني: ابن الرضا ـ للجواد، والهادي بعده، بل وللعسكري أيضاً(١) ، ويؤيد ذلك قول أبي الغوث، أسلم بن مهوز المنبجي في داليته المعروفة، التي يمدح فيها أئمة سامراءعليهم‌السلام :

إذا ما بلغت الصادقين بني الرضا

فحسبك من هاد يشير إلى هاد(٢)

نعم.. إن هؤلاء الأئمة، الذين كان يسري ذكرهم في الآفاق، قد لا تجد حتى أسماءهم في كثير من الكتب التاريخية.. مع أنك تجد ما شاء الله. من قصص المغنين، والجواري، والأعراب، بل وحتى قطاع الطرق، مما لا يسمن، ولا يغني من جوع.

كل ذلك خيانة للحقيقة، وتخلياً عن الأمانة. التي أخذوا على أنفسهم أداءها للأجيال التي تأتي بعدهم، حيث كان عليهم: أن يصدعوا بالحق، ويظهروا الواقع، مهما كانت الظروف، وأيا كانت الأحوال.. وإلا.. فيجب أن لا يتصدوا للكتابة، ويبوؤا بإثم الخيانة..

هذا.. ولم يكن المجال مفسوحا أمام شيعة أهل البيتعليهم‌السلام ، ليتمكنوا من إظهار الحقائق كاملة، وذلك بسبب ملاحقة الحكام لهم. ومحاولات القضاء عليهم أينما كانوا، وحيثما وجدوا، وبأي ثمن كان.. ومن قبلهم القضاء على أئمتهم أئمة الهدى، وقادتهم، القادة إلى الحق.

____________

(١) راجع: قاموس الرجال ج ١٠ ص ٢٤٨. والرسالة التي في آخر ج ١١ من قاموس الرجال ص ٥٨.

(٢) سفينة البحار ج ٢ ص ٥٢٩، والكنى والألقاب ج ١ ص ١٣٣.

٣٤٦

ويبقى هنا سؤال:

لماذا إذن كان يهتم الخلفاء بالعلماء، ويرسلون إليهم يستدعونهم من مختلف الأقطار والأمصار؟!.. وكيف لا يتنافى ذلك مع اضطهادهم الأئمة، أئمة أهل البيت، وشيعتهم ومواليهم؟!، ومحاولاتهم تصغير شأنهم، وطمس ذكرهم؟!.

سر اهتمام الخلفاء بأهل العلم:

وللإجابة على هذا السؤال نقول: إن سر اضطهادهم لأهل البيتعليهم‌السلام يعود: أولاً: إلى أن الحق في الحكم كان لأهل البيت، من كل جهة، فالقضاء معناه القضاء على ذلك الحق، وتكريس الأمور لهم. وفي صالحهم..

وثانياً: إلى أن الأئمةعليهم‌السلام ما كانوا يؤيدون أولئك الحكام، ولا يرضون عن أعمالهم، وسلوكهم الذي كان يتنافى مع مبادئ الإسلام وتعاليمه..

وثالثاً: إلى أن الأئمةعليهم‌السلام بسلوكهم المثالي، وبشخصياتهم الفذة كانوا يشكلون أكبر مصدر للخطر عليهم، وعلى حكمهم ذاك غير الأصيل..

إلى غير ذلك من أمور يمكن استخلاصها من الفصول الأولى من الكتاب..

وأما السبب في تشجيعهم ـ في تلك الحقبة من الزمن للعلم والعلماء فإنه يعود إلى أهداف سياسية معينة. وفي الحدود التي كانت لا تشكل عليهم خطراً في الحكم، لأن الحكم كان في نظرهم هو كل شيء، وليس قبله ولا بعده شيء، وكل ما في الوجود يجب أن يكون من أجله، وفي خدمته، حتى العلماء والمفكرون.

ولم يكن جمعهم للعلماء من حولهم. والإتيان بهم من كل حدب وصوب، إلا:

١ ـ ليكون أولئك العلماء، الذين يمثلون الطليعة الواعية في الأمة تحت نظرهم، وسيطرتهم.

٢ ـ ليتمكنوا بواسطتهم من تنفيذ الكثير من مخططاتهم، والوصول إلى كثير من مآربهم، كما تشهد به الأحداث التاريخية الكثيرة..

٣ ـ ليظهروا للناس بمظهر المحبين للعلم والعلماء، ليقوى مركزهم في نفوسهم، وتتأكد ثقتهم بهم، إذ كان لا بد لهم، بعد أن تركوا أهل البيتعليهم‌السلام . من الاستعاضة عنهم بغيرهم، ودفع شكوك وشبهات الناس عن أنفسهم..

٣٤٧

٤ ـ محاولة التشويش بذلك على أهل البيتعليهم‌السلام ، وطمس ذكرهم، وإخفاء أمرهم، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.. ولكن.. يأبى الله إلا أن يتم نوره.

ويتفرع على ما سبق:

وإذا تحقق لدينا أنهم إنما كانوا يقدرون العلم والعلماء لأهداف سياسية معينة كما أوضحنا.. فلسوف لا نستغرب إذا رأينا: أنهم كانوا إذا شعروا بالخطر يتهددهم من قبل أية شخصية، ولو كانت علمية، لا يترددون في القضاء عليها، والتخلص منها، بأي وسيلة كانت.

قال أحمد أمين: إن المنصور كان (يقرب المعتزلة إذا شاء، ويقرب المحدثين والفقهاء، ما لم تقض تعاليم أحدهم بشيء يمس سلطانه، فهناك التنكيل..)(١) .

وقال السيد أمير علي: (.. كان خلفاء بني العباس يسحقون كل اختلاف معهم في الرأي بصرامة. وحتى الفقهاء المعاصرون كانوا عرضة للعقاب، إذا تجرأوا على الإفصاح عن رأي لا يتفق ومصلحة الحاكمين)(٢) .

ولقد رأينا المنصور يدس السم لأبي حنيفة، ويضيق على الإمام الصادق ـ الذي لم يبايع لمحمد بن عبد الله العلوي ـ، وضيق على من تلاه من ذريته، ولاحق تلامذته ومحبيه. لكنه لم يقتل عمرو بن عبيد، ولا أهانه بل مدحه بقوله:

كـلكم يطلب صيد

غير عمرو بن عبيد

رغم أن عمراً هذا قد بايع لمحمد بن عبد الله العلوي، ورغم أن مذهبه يفرض عليه الخروج على النظام، لأن من أصول المعتزلة الخمسة،

____________

(١) ضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٠٢، ولا بأس أيضاً بمراجعة ج ٢ ص ٤٦ و ٤٧.

(٢) روح الإسلام ص ٣٠٢.

٣٤٨

التي يكون الإنسان بها معتزلياً هو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعملاً بهذا الأصل كان عمرو هذا قد خرج مع يزيد الناقص سنة ١٢٦ ه‍. على الوليد بن يزيد ـ لم يفعل المنصور مع ابن عبيد إلا كل ما يقتضي الإجلال والتكريم بخلاف ما فعله مع أولئك ـ لأن عمراً ـ بخلافهم ـ قد تخلى عن مذهبه، ومالأ النظام. وكان المنصور، ومن تبعه من الخلفاء يستفيدون منه، ومن أضرابه، ولم يروا بأساً في مبايعته لمحمد لكنهم لما لم يكونوا يستفيدون من أولئك الذين نكلوا بهم، وفعلوا بهم الأفاعيل رغم امتناعهم عن مبايعة محمد.. وإلا فما قيمة عمرو هذا عند واحد من تلامذة الصادق، كزرارة، وهشام، ومحمد بن مسلم، وأضرابهم(١) .

عودة على بدء:

قلنا: إن الحكام كانوا يريدون ـ لسبب أو لآخر ـ إخفاء كل الحقائق التي ترتبط بالأئمةعليهم‌السلام ، أو تشويهها، فكان لهم ما أرادوا على أيدي حفنة ممن يطلق عليهم اسم: (علماء)، فتلاعبوا، ودسوا، وشوهوا ما شاءت لهم قرائحهم، وأوحاه لهم تعصبهم المذهبي المقيت..

ولعلنا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا: إن ابن الأثير، والطبري، وأبو الفداء، وابن العبري، واليافعي وابن خلكان.. كانوا من أولئك الذين ظلموا الحقيقة والتاريخ، بل وأنفسهم، عندما أرخوا للأمة الإسلامية، وكتبوا في أحوالها، وأوضاعها السالفة، دون أن يراعوا الإنصاف والحيدة فيما أرخوا، وفيما كتبوا..

____________

(١) يرى البعض: أن الخلفاء كانوا يحاولون إلقاء أسباب النزاع بين العلماء، بهدف صرفهم عن واقع الأمة، وعما يجري ويحدث في مخادع الخلفاء، وداخل قصورهم. ولعل ذلك هو السر في عنايتهم بالترجمة، وإدخال الثقافات الغربية إلى البلاد الإسلامية.. ولذا رأينا الكثيرين من المؤرخين غير راضين عن أعمال الترجمة تلك كالمقريزي في النزاع والتخاصم ص ٥٥، وغيره.. ولكل ما ذكرنا شواهد تاريخية كثيرة، ليس هنا محل ذكرها، ولعلنا نوفق ذلك في مجال آخر..

٣٤٩

ولعل من جملة سقطات هؤلاء الشنيعة، التي لم يخف على أحد تعصبهم فيها، وانقيادهم للحكام، والهوى الأعمى في بيانها، قضية: (كيفية وفاة الإمام الرضاعليه‌السلام ..)، حيث ذكروا: أن سبب وفاتهعليه‌السلام هو أنه: (أكل عنباً، فأكثر منه، فمات..)(١) .

وكان ابن خلدون، الأموي النزعة، يريد أن يتابعهم في ذلك، حيث قال في تاريخه: (ولما نزل المأمون مدينة طوس، مات علي الرضا فجأة، آخر صفر من سنة ثلاث ومائتين، من عنب أكله)(٢) .

ولعله نسي ما ذكره هو نفسه من ثورة إبراهيم بن موسى على المأمون لاتهامه إياه بقتل أخيه. كما سيأتي.

ما عشت أراك الدهر عجبا:

وهو كلام عجيب حقاً:

فهل يعقل ويتصور أن يصدر هذا العمل من أي إنسان عادي، فضلاً عن الإمام، الذي شهد بعلمه، وحكمته، وزهده، كل من عرفه، وكل من أتى من المؤرخين على ذكره؟!.

أفهل يمكن أن يسمح أحد لنفسه أن يصدق بأن شخصاً عاقلاً، وحكيماً، كالإمامعليه‌السلام ، يسمح لنفسه بالإقدام على الانتحار من كثرة الأكل؟!.

وهل عرف عن الإمام في سابق عهده: أنه كان أكولاً، أو نهماً إلى هذا الحد؟!، أي إلى حد أنه ينتهي به ذلك إلى قتل نفسه؟!.

أم أن الزهد والتقوى والعلم، فضلاً عن العقل والحكمة. تقضي وتحتم عليه أن يأكل هذا المقدار الهائل، الذي من شأنه أن يودي بحياته؟!.

____________

(١) الكامل ج ٥ ص ١٥٠، والطبري ج ١١ ص ١٠٣٠، وتاريخ أبو الفداء ج ٢ ص ٢٣، ومختصر تاريخ الدول ص ١٣٤، ومرآة الجنان ج ٢ ص ١٢، ووفيات الأعيان طبع سنة ١٣١٠ ه‍ ج ١ ص ٣٢١. لكن بعضهم قد حكى سمه بلفظ: قيل..

(٢) تاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٥٠.

٣٥٠

أم أن الإمامعليه‌السلام قد نسي ما كتبه في رسالته الذهبية، التي كتبها للمأمون، والتي هي من أشهر وأجل الوثائق المأثورة عنه؟!.

أم أنهعليه‌السلام لم يكن قد رأى العنب في حياته، فأراد أن يغتنم هذه الفرصة الذهبية، لينال أكبر قدر تصل إليه يده؟!.

لا.. لا هذا، ولا ذاك. ولا ذلك. وإنما العصبية المذهبية، والهوى الأعمى.. هما اللذان فرضا على الإمامعليه‌السلام أن يأكل العنب، ويكثر منه، ويموت هذه الميتة.. حتى ولو لم يقبل بها العقل، ويصدق بها الوجدان..

إن الإمامعليه‌السلام لو كان هو الحاكم، والمتسلط لم يمت هذه الميتة، بل كان مات على حسب ما اشتهى، وبالكيفية التي أراد..

دعك من هؤلاء وأمثالهم، فإنني لا أرى: أن كلاماً كهذا يستحق من العناية أكثر من ذلك.. بل لا رأى أنه يستحق شيئاً من العناية على الإطلاق..

دعك منه.. وذره لأهله في سنبله!.

وتعال معي لننظر إلى ما يقوله الآخرون، ممن أرخوا للأمة، وتحدثوا عن ماضيها، فقد نجد في كلامهم ما ينقع الغلة، ويشفي الغليل..

قول فريق آخر من المؤرخين:

وإننا بعد إلقاء نظرة سريعة وعابرة على أقوال المؤرخين في هذا المجال، نستطيع أن نلاحظ: إلى أي حد اضطربت كلماتهم في هذه القضية، وتباينت اتجاهاتهم.

فعدا عن أولئك القلة الذين تحدثنا عنهم آنفاً نرى: فريقا ثانياً قد أوردوا خبر وفاته مجرداً عن بيان السبب، ثم سكتوا، أو عقبوا ذلك بقولهم: (وقيل: إنه مات مسموماً) ومن هؤلاء اليعقوبي في تاريخه ج ٣ ص ٨٠، وإن كان يظهر من عبارته اختيار مسموميته، وابن العماد في شذرات الذهب، وغيرهم.

ولعل هؤلاء ممن جازت عليهم لعبة المأمون، وانطلت عليهم حيلته، وأقنعتهم الحجج الواهية الآتية التي يسوقها الفريق القائل ببراءة المأمون من دم الرضاعليه‌السلام .. أو لعلهم لم يكونوا بصدد بحث هذا الأمر وتمحيصه..

٣٥١

أو لأنهم لم يستطيعوا أن يصدعوا بالحقيقة، لما كانوا يخشونه من سطوة الحكام، وبطشهم، ولم يريدوا أن يحرفوا الكلم عن مواضعه، فآثروا السكوت، وإهمال ذلك، على أمل أن يقيض الله من يصدع بالحق ويكشف عن الواقع.. إلى غير ذلك من الاحتمالات، التي قد يجد بعضها شواهد تاريخية كثيرة.

رأي فريق ثالث في ذلك:

وهناك فريق آخر يرى أنهعليه‌السلام مات مسموماً، وأن الذي دس إليه السم هم العباسيون. وهذا هو رأي السيد أمير علي، وأشار إليه

أحمد أمين(١) أيضاً..

وهذا الرأي ليس له أي شاهد أو سند تاريخي إلا ما نقل عن الإربلي أنه قال: (فلما رأوا أن الخلافة قد خرجت إلى أولاد علي، سقوا علي بن موسى سماً، فتوفي بطوس في رمضان)(٢) . وهو عدا عن أنه كلام مبهم، فإن، الشواهد كلها على خلافه.. كما قدمنا وسيأتي. ولذا فهو لا يحتاج إلى كبير عناء في رده وتفنيده.

ورأي آخر يقول:

إنهعليه‌السلام مات مسموماً من قبل المأمون، ولكن بإشارة الفضل، وإغرائه.

ونرى نحن بدورنا: أن المأمون لم يكن بحاجة إلى حث وإغراء، بعد أن كان يرى أن وجود الإمامعليه‌السلام يشكل خطراً محققاً عليه، وعلى كل بني أبيه من بعده. ونحن ـ وإن كنا لا نستبعد أن يكون هذا الرأي قد جاء بدافع من حب تبرئة المأمون ـ السلطة ـ إلا أننا لا نضايق في أن الفضل، الذي قتل قبل الإمامعليه‌السلام بمدة!! كان من الراغبين في التخلص من الإمام، سيما إذا لاحظنا: أنه كان يشكل عقبة كبرى في طريق نفوذه وقوته وسلطانه.. ولكننا لا نوافق على أن المأمون كان لا يريد ذلك، وإنما فعله استجابة لرغبة الفضل، الذي كان قد قتل قبل ذلك بزمان!!.

____________

(١) روح الإسلام للسيد أمير علي ص ٣١١، ٣١٢. وأما أحمد أمين فقد أشار إليه في عبارته الآتية عما قريب بقوله: (فإن كان حقاً قد سم، يكون سمه أحد غير المأمون، من دعاة البيت العباسي).

(٢) الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ١٠٢، عن خلاصة الذهب المسبوك ص ١٤٢.

٣٥٢

وقد تحدثنا في فصل: أسباب البيعة لدى الآخرين، وغيره من الفصول، وسيأتي الحديث بما فيه الكفاية إن شاء الله، تعالى..

ورأي فريق خامس يقول:

إنهعليه‌السلام قد مات حتف أنفه، ولا يقبل أبداً بأنهعليه‌السلام مات مسموماً، ويورد لذلك الحجج والبراهين التي رأى أنها كافية للدلالة على أنهعليه‌السلام لم يمت مسموماً.

ونذكر من هؤلاء ابن الجوزي، حيث قال ـ بعد أن أورد خبر وفاته، وحكى القيل بأنه دخل الحمام ثم خرج، فقدم له طبق فيه عنب قد أدخلت فيه الإبر المسمومة، من غير أن يظهر أثرها، فأكله، فمات ـ قال بعد ذلك: (وزعم قوم: أن المأمون سمه، وليس بصحيح. فإنه لما مات علي توجع له المأمون، وأظهر الحزن عليه، وبقي أياماً لا يأكل طعاماً، ولا يشرب شراباً(١) ، وهجر اللذات إلخ..)(٢) .

لكن عبارة سبط ابن الجوزي هذه تقتضي أنه ينكر أن يكون المأمون هو الذي سمه، ولا ينكر أن يكونعليه‌السلام قد مات بسم غير المأمون.

وقد تابعه الإربلي في كشف الغمة على ذلك، محتجاً بعين ما احتج به، وأضاف إلى ذلك: أن سمه إياه يتنافى مع إكرامه له، وأنه كان ينبه على علم الرضا، وشرف نفسه وبيته إلخ..

____________

(١) في تاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٨١: أن المأمون بقي ثلاثة أيام مقيما عند قبر الرضاعليه‌السلام ، يؤتى كل يوم برغيف وملح، فيأكله. ثم انصرف في اليوم الرابع.

(٢) تذكرة الخواص ص ٣٥٥.

٣٥٣

وأما أحمد أمين فيقول: إن ذلك بعيد، لأن المؤرخين (يروون حزن المأمون الشديد عليه، كما يرون أن المأمون بعد موته. وبعد انتقاله إلى بغداد ظل يلبس الخضرة.. إلى أن قال: فإن كان حقاً قد سم، يكون قد سمه أحد غير المأمون، من دعاة البيت العباسي..).

ثم استشهد لذلك أيضاً بمناظرة المأمون للعلماء في تفضيل الإمام عليعليه‌السلام ، والتي ذكرها ابن عبد ربه في العقد الفريد، وبأنه ظل يظهر العطف على العلويين، رغم كثرة خروجهم عليه(١) .

وصاحب كتاب عصر المأمون يستند في استبعاده لذلك إلى تلك الرعاية، التي أظهرها المأمون له، وذلك الاحترام والتقدير، الذي كان يحيطه به، وخصوصاً بعد أن توثقت عرى المودة بينهما بالمصاهرة، ويضيف إلى ذلك أيضاً: أن نفسية المأمون، وخلقه، يأبيان ـ على زعمه ـ عليه ذلك.

وعقد ولاية العهد له من بعده هو عند هؤلاء الدليل القاطع على حسن نية المأمون، وسلامة طويته.

والدكتور أحمد محمود صبحي يرى: أن قضية مسمومية الرضاعليه‌السلام هي من مختلقات الشيعة (الذين لم يجدوا تناقضاً بين الحظوة التي كان ينالها من المأمون، ثم مبايعته له بولاية العهد، وتزويجه أخته(٢) ، وبين أن يدس له المأمون السم في العنب، ثم يصلي عليه، ويدفنه بجوار قبر أبيه الرشيد، فقد أصبح مقدرا على الأئمة منذ الحسن: أن يكون قاتلوهم هم: الخلفاء، أو بإيعاز منهم)(٣) .

____________

(١) ضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٥، ٢٩٦.

(٢) قد اتفق المؤرخون تقريباً على أن المأمون قد زوج للرضاعليه‌السلام (ابنته) وليس أخته. ولم يذكر أنها أخته إلا شاذ منهم لا يعتد به، وهو الذي يتشبث به الدكتور هنا، ولعله لأنهم رأوا عدم انسجام سن الإمام مع سن ابنته آثروا أن يجعلوها أخته.. وأياً كانت الحقيقة فإن مقصود المأمون هنا حاصل..

(٣) نظرية الإمامة ص ٣٨٧.

٣٥٤

هذه هي الحجج، التي حاول هؤلاء إقامتها على صحة ما ذهبوا إليه، من براءة المأمون من دم الإمامعليه‌السلام .

ملخص ما سبق:

ومن أجل التسهيل على القارئ نعود فنوجز ما ذكروه من الأدلة في النقاط التالية:

١ ـ عقده له ولاية العهد من بعده..

٢ ـ إكرامه وتقديره له، وتنبيهه على شرفه، وعلمه وفضله، وبيته.

٣ ـ تزويجه ابنته، الأمر الذي كان سبباً في توثيق عرى المودة بينهما.

٤ ـ احتجاجه على العلماء في تفضيل عليعليه‌السلام على جميع الخلق..

٥ ـ إظهاره الحزن والتوجع لوفاته، وهجره الطعام والشراب، واللذات لذلك.

٦ ـ دفنه له بجوار أبيه الرشيد، وصلاته عليه.

٧ ـ بقاؤه بعد وفاته على لباس الخضرة حتى دخل بغداد.

٨ ـ إنه ظل يظهر العطف على العلويين، رغم كثرة خروجهم عليه..

٩ ـ إن نفسية المأمون وخلقه يأبيان عليه ذلك.

١٠ ـ إن ذلك من مختلقات الشيعة. حيث كتب على أئمتهم بعد الحسن أن يموتوا بسم الخلفاء، أو بإيعاز منهم.

آفة ذلك: هل هو الجهل، أم التعصب:

هذا ملخص أدلة ما ذهبوا إليه من عدم دس المأمون السم للإمامعليه‌السلام ، ونحسب أن هؤلاء: إما أنهم لم يطلعوا على الحقائق اطلاعاً كافياً، يخولهم إصدار أحكام صائبة، في قضايا هي من أكثر المسائل التاريخية تعقيداً، بل وغموضاً وإبهاماً، كقضية حقيقة ظروف وعلاقات المأمون بالرضا، فحكموا على الأمور حكماً سطحياً، لا يلبث أن ينهزم أمام المنطق السليم والنظر الصائب.

وإما أنهم جروا على ديدن أسلافهم في التعصب على الأئمةعليهم‌السلام ، والمجاراة لأهوائهم، ولخلفائهم في طمس معالم الحقيقة، التي كان يضر أولئك الخلفاء أكثر من غيرهم إظهارها، ومعرفة الناس لها..

٣٥٥

نحن.. وما يقوله هؤلاء:

إن كان ما ذكره هؤلاء لا يمكن أن يمنع المأمون من التدبير في الإمام بما يحسم عنه مواد بلائه.. كما دبر من قبل بوزيره الفضل بن سهل، الذي أراد أن يزوجه ابنته، وكما دبر في قائده الكبير هرثمة بن أعين، الذي قتله فور وصوله إلى مرو، دون أن يستمع لشكواه، أو يصغي إلى دفاعه عن نفسه(١) وكما دبر فيما بعد بطاهر وأبنائه(٢) وغيرهم، وغيرهم، وغيرهم ممن كان يختلهم واحداً فواحداً ـ على حد تعبير عبد الله بن موسى في رسالته له ـ سواء من العلويين أو من غيرهم..

مع أن هؤلاء كانوا وزراءه وقواده، ولهم من الفضل عليه، وعلى دولته ما لا يمكن أن يخفى على أحد، فإنهم هم الذين وطدوا له دعائم حكمه، وبسطوا نفوذه وسلطانه على البلاد، وأذلوا له العباد، وقامت دولته بأسيافهم، وعلى أكتافهم..

____________

(١) هكذا ذكر بعض المؤرخين، وقال ابن خلدون في تاريخه ج ٣ ص ٢٤٥، و ٢٤٩: إنه حبس، ثم دس عليه المأمون من قتله.. وفي معارف ابن قتيبة ص ١٣٣ طبع سنة ١٣٠٠ ه‍.

قال: (.. فلما سمع حاتم بن هرثمة ما صنع أبوه كاتب الأحرار هناك. والملوك، ودعاهم إلى الخلافة، فبينما هو على ذلك أتاه الموت، فيقال: إن سبب خروج بابك كان ذلك..).

ومن يدري فلعل المأمون قد دبر بحاتم بما يحسم عنه مواد بلائه.. كما دبر في الكثيرين قبله وبعده..

وفي البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٦: أن أهل بغداد ثاروا. وأعلنوا العصيان بسبب قتل هرثمة. هذا.. ويقال: إن الفضل بن سهل قد عمل على قتل هرثمة. ولا بأس بمراجعة تاريخ ابن الوردي ج ١ ص ٢٨٩، وغيره.

(٢) في البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٦٠، ومرآة الجنان ج ٢ ص ٣٦، ووفيات الأعيان ج ١ ص ٢٣٧، طبع سنة ١٣١٠: إن سبب وفاة طاهر هو أن المأمون عندما ولاه خراسان، أهداه غلاما ليخدمه، ودفع إليه سما لا يطاق، فسمه الخادم في كامخ، فمات من ليلته. وفي الفخري في الآداب السلطانية ص ٢٢٤: أن الذي أهداه الغلام هو أحمد ابن أبي خالد وزير المأمون، ليقتله إذا فارق الطاعة، فقتله بأمر من المأمون.. وفي تاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١٩٢: أن المأمون تآمر عليه فقتله. والمؤرخون متفقون على أن المأمون كان يضمر الشر والخيانة.

والنتيجة أن طاهر يموت ـ بتدبير من المأمون بهذه الكيفية الغامضة، ويبقى المأمون نفسه بعيداً عن الشكوك والشبهات.

٣٥٦

لقد ختلهم واحداً فواحداً.. مع أنه كان يظهر لهم من الحب والتقدير ما لا يقل عما كان يظهره للإمام.. وحسبنا أن نذكر هنا: أنه قتل أخاه وعمل برأسه ما تقدمت الإشارة إليه من أجل الملك والسلطان فكيف لا يقتل الرضا من أجل الملك والسلطان، أيضاً.. ثم يتستر على فعلته بتلك الظواهر التي لا تضره؟! أم يعقل أن يكون الرضا أعز من هؤلاء جميعاً.. وحتى أعز عليه من أخيه الذي قتله؟!.

وأما تظاهره بالحزن والأسى لوفاة الإمامعليه‌السلام إلخ.. فما أدرى إن كان هؤلاء يريدون من ذلك الأفعى الداهية: أن يظهر الفرح والاستبشار بموت الإمامعليه‌السلام !.

وهل نسوا أنه قتل الفضل ثم تظاهر بالحزن العظيم عليه(١) وتتبع قتلته

____________

(١) التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ ص ٣٢٢، ومآثر الإنافة ج ١ ص ٢١١. وقد تكلمنا عن كيفية قتل الفضل في ما تقدم فلا نعيد..

٣٥٧

وقتلهم، وأرسل رؤوسهم إلى أخيه الحسن بن سهل، ثم تزوج ابنة الحسن هذا؟!. ولكنه عاد فغض من الحسن بن سهل حينما ظفر بإبراهيم ابن شكلة، وأسقطه وحجبه وعزله عما كان في يده(١) .

وقتل طاهراً ثم أرسل يحيى بن أكثم إلى الرقة، لينوب عنه في تقديم التعازي، لولده عبد الله، ثم ولى أبناءه مكانه، ثم غدر بهم واحداً بعد الآخر..؟!(٢) .

وقتل محمد بن جعفر، ثم جاء وحمل نعشه، وقال: إن هذه رحم مجفوة منذ مأتي سنة؟!.

وغيرهم وغيرهم، ممن لا مجال هنا لتتبع أسمائهم وأحوالهم.. أما مواقفه وتصريحاته عند وفاة الإمام، فالظاهر أنهم لم يقيموا لها وزناً، ولا أعارها أي منهم أذناً صاغية، أو قلباً واعياً؟!.

وكيف يتفق كل ما ذكرناه ـ وخصوصاً ما فعله مع أخيه حياً، أو ميتاً، وتخريبه بغداد، وأيضاً قتله لسبعة من إخوة الإمام واضطهاده للعلويين كما سنبينه، وكتابه للسري عامله على مصر يأمره فيه بغسل المنابر إلخ.. كيف يتفق كل ذلك، وسائر أفاعيله التي قدمنا شطراً منها مع خلق المأمون ونفسيته؟!. ولا يتفق قتله الإمامعليه‌السلام مع نفسيته وخلقه الكريم؟!. وهل قتل أولئك مع إظهار المحبة والإكرام لهم لا يتنافى مع نفسيته وخلقه الكريم، ويتنافى قتل الإمام مع الإكرام والمحبة له وللعلويين مع نفسيته وخلقه الكريم أيضاً..

وأيضاً هل بعد كل ذلك، يمكن أن يقال: إن مصاهرته للإمام تمنعه من الغدر به، ودس السم إليه؟! ولقد بينا في فصل: ظروف البيعة بعض أهدافه من تزويجه، وتزويج ولده الجواد، وتزويج الفضل أيضاً.. وتحدثنا أيضاً عن السبب في لباسه والخضرة، ودوافع ولاية العهد، وغير ذلك من أمور.

____________

(١) لطف التدبير ص ١٦٦.

(٢) ولقد كان يؤكد براءته من تلك الجرائم بأساليب مختلفة أخرى، ويرضي جميع الأطراف، فهو يرضي العباسيين بقتل الرضا، ويرضي العلويين باستقدام الجواد ـ ولد الرضا ـ من المدينة، وإكرامه إياه، ويقتل الفضل، ويرضي الحسن أخاه، بما ذكرنا، ويقتل طاهراً، ويرضي أبناءه بتوليتهم مكانه، ويبقى يستعين بهم طيلة فترة حكمه تقريباً.. حيث يغدر بهم واحداً واحداً كما ذكرنا، وعلى هذه فقس ما سواها مما يدل على مدى حنكة المأمون ودهائه السياسي..

٣٥٨

بل نجرؤ على القول هنا: إن المأمون قد أكره الإمامعليه‌السلام على هكذا زواج، إذ كيف يمكن أن نتصور رجلاً حكيماً عاقلاً، زاهداً في الدنيا.. يقدم ويرغب في زواج طفلة ومن هي بالنسبة إليه بمنزلة حفيدته، بل أصغر، حيث كان يكبرها بحوالي أربعين سنة.. ثم لا يكون هناك سر آخر يكمن وراء مثل هكذا زواج، إلا أن يدعي هؤلاء: أن ذلك يتفق مع العقل والحكمة، وينسجم مع زهد الإمام في الدنيا، وانصرافه عنها..

وإذا كان ثمة سر آخر يكمن وراء ذلك الزواج، فإن ما تجدر الإشارة إليه هنا هو أنهعليه‌السلام لم يكن يستطيع التصريح بحقيقة الأمر، وواقع القضية إلى آخر ما قدمناه في فصل: ظروف البيعة.

وأما قوله بتفضيل عليعليه‌السلام على جميع الخلق.. فإننا إن لم نقل: أنه كان من ضمن المخطط، الذي كان قد رسمه للوصول إلى مآربه وأهدافه ـ كما اتضح في فصل ظروف البيعة.. فإننا ـ ونحن نرى تباين مواقفه وتصريحاته ـ نرى أنفسنا مضطرين إلى القول: بأنه لم يكن ينطلق في مواقفه السياسية من مواقف عقائدية.

وأما إكرامه للعلويين.. فقد تقدم تصريحه في كتابه للعباسيين: بأن ذلك ما كان منه إلا سياسة ودهاء.. وتقدم أنه بعد وفاة الرضاعليه‌السلام قد أخذهم بلبس السواد، ومنعهم من الدخول عليه.. وأنه كان يختلهم واحداً فواحداً حسب ما كتب إليه عبد الله بن موسى.

وسيأتي بيان أنه قتل سبعة من إخوة الإمامعليه‌السلام . وأنه أمر الولاة والحكام بالقبض على كل علوي.

وأما ما ذكره أحمد أمين: من كثره خروج العلويين عليه.

فإننا لم نجد، ولم نسمع ذكراً في التاريخ لثورة قامت ضد المأمون، بعد وفاة الرضاعليه‌السلام إلا ثورة عبد الرحمن بن أحمد في اليمن، والتي كانت باتفاق المؤرخين بسبب جور العمال، وظلمهم.. وسوى ثورة إخوة الإمام الرضاعليه‌السلام طلباً بثأر أخيهم كما سيأتي..

ولم يبق ثمة إلا نسبة فكرة اغتيال الرضاعليه‌السلام إلى الشيعة.. وأنهم إنما اختلقوها وابتدعوها بدافع من الشعور بالحاجة إلى مثل هذه التزويرات، إذ قد كتب إلخ..

٣٥٩

فهي دعوى تكذبها جميع الشواهد والدلائل التاريخية.. هذا بالإضافة إلى أن السنة قد اتهموا المأمون بهذه التهمة، قبل اتهام الشيعة له بها، والشيعة إنما يعتمدون في ذلك على كتب أهل السنة، التي استفاضت في اتهام المأمون بذلك، والتي يؤيدها الكثير مما قدمناه في هذا الكتاب، وغيره..

وهكذا.. يتضح أن كل ما ذكره هؤلاء لا يصلح مانعاً ولا دليلاً على أن المأمون لم يكن وراء استشهاد الإمامعليه‌السلام .. بل جميع الدلائل والشواهد متضافرة على خلاف ذلك حسبما فصلناه في الفصلين المتقدمين وغيرهما، ولولا أن تعداد مواقف المأمون مع الإمام وتصريحاته يستلزم تكراراً نربأ بالقارئ الفطن أن يضطرنا إليه.. لاستطعنا أن نحشد الكثير الكثير من الدلائل والشواهد، التي تؤكد سوء نية المأمون، وخبث طويته تجاه الإمامعليه‌السلام .. فما استند إليه هؤلاء في حكمهم ذاك، لا يصلح للاستناد إليه، ولا للاعتماد عليه، وإن صيغ بعبارات منمقة، وأساليب مختلفة، فيها الإغراق والمبالغة أحياناً، ويبدو عليها الاتزان والموضوعية أحياناً أخرى.

وبعد. فعلى المكابر: أن يجيب على السؤال التالي:

وإلا.. فإننا نرى: أن لنا كل الحق في توجيه السؤال التالي إلى كل من يكابر، ويصر على براءة المأمون، وحسن نيته، والسؤال هو: إنه إذا كان قد عرض ولاية العهد. بعد وفاة الرضاعليه‌السلام على عبد الله بن موسى، فلماذا لم يجعل ولد الرضا (الجواد) ولياً لعهده، مع أنه كان زوج ابنته، وولد ولي عهده، الذي أظهر عليه الحزن والجزع، ومع أنه كان قد اعترف له بالعلم. والفضل والتقدم، كما اعترف لأبيه من قبل!!.

ولا مجال هنا للإصغاء للقول: بأن الجوادعليه‌السلام لم يكن يصلح لولاية العهد، بالنظر لصغر سنه.. إذ إن جعله ولياً للعهد لا يعني تسليمه بالفعل أزمة الحكم والسلطان.. وقد أخذ الخلفاء، حتى أبوه الرشيد، وأخوه الأمين البيعة لم كانوا أصغر من الجواد سناً، ولمن لم يكن له من العقل والحكمة والدراية ما كان الجوادعليه‌السلام .

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409