الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)14%

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 409

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 207501 / تحميل: 8956
الحجم الحجم الحجم
الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

تعمدوا إضرارك والإساءة إليك. فتماشيهم بقدر ما تصون به نفسك، وتدفع الأذى عنك، لأن الضرورة تقدر بقدرها. وقد مثل فقهاء الشيعة لذلك بأن يصلي الشيعي «متكتفاً»، أو يغسل رجليه في الوضوء بدلاً من مسحهما في بيئة سنية متعصبة، بحيث إذا لم يفعل لحقه الأذى والضرر.

هذي هي التقية في حقيقتها وواقعها عند الشيعة، وما هي بالشيء الجديد، ولا من البدع التي يأباها العقل والشرع. فقد تكلم عنها الفلاسفة وعلماء الأخلاق قبل الإسلام وبعده، تكلموا عنها وأطالوا، ولكن لا بعنوان التقية، بل بعنوان: «هل الغاية تبرر الواسطة؟» وما إلى ذاك، وتكلم عنها الفقهاء، وأهل التشريع في الشرق والغرب بعنوان: «هل يجوز التوصل إلى غاية مشروعة من طريق غير مشروع؟». وبعنوان «المقاصد والوسائل» وتكلم عنها علماء الأصول من السنة والشيعة بعنوان: «تزاحم المهم والأهم» واتفقوا بكلمة واحدة على أن الأهم مقدم على المهم، ارتكاباً لأقل الضررين، ودفعاً لأشد المحذورين، وتقديماً للراجح على المرجوح..

وهذه العناوين وما إليها تحكي التقية كما هي عند الإمامية، ولا تختلف عنها إلا في الأسلوب والتعبير. وكانت التقية وما زالت ديناً يدين به كل سياسي في الشرق والغرب، حتى المخلص الأمين.

وإذا سأل سائل: ما دام الأمر كذلك فلماذا عبر الشيعة بلفظ التقية، ولم يعبروا بلفظ المقاصد والوسائل، أو الغاية تبرر الواسطة؟

الجواب:

إن العبرة بالمعنى، لا باللفظ، وقديماً قال العارفون: «النقاش في الاصطلاحات اللفظية ليس من دأب المحصلين».

ثانياً: إن علماء الشيعة يأخذون - دائماً أو غالباً - ألفاظهم ومصطلحاتهم الشرعية من نصوص الكتاب والسنة، وقد عبر القرآن الكريم عن هذا المعنى بمادة الاتقاء، كما تدل الآية التالية:

ومهما يكن. فقد استدل الإمامية بالآية ٢٨ من سورة آل عمران: «لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من اللّه

في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة». فالآية صريحة في النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء إلا في حال

٤١

الخوف واتقاء الضرر والأذى، واستدلوا بالآية ١٠٦ من سورة النحل: «من كفر باللّه بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان».

قال المفسرون: إن المشركين آذوا عمار بن ياسر، وأكرهوه على قول السوء في رسول اللّه، فأعطاهم ما أرادوا. فقال بعض الأصحاب: كفر عمار. فقال النبي: كلا، ان عماراً يغمره الإيمان من قرنه إلى قدمه. وجاء عمار، وهو يبكي نادماً آسفاً، فمسح النبي عينيه، وقال له: لا تبك، إن عادوا لك، فعد لهم بما قلت.

واستدلوا أيضاً بالآية ٢٨ من سورة غافر: «وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه». فكتم الإيمان، وإظهار خلافه ليس نفاقاً ورياء، كما زعم من نعت التقية بالنفاق والرياء. وبالآية ١٩٥ من سورة البقرة: «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة».

ومن السنة استدلوا بحديث «لا ضرر ولا ضرار» وحديث « رفع عن أمتي تسعة أشياء: الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والطيرة، والحسد، والوسوسة في الخلق». والحديثان مرويان في كتب الصحاح عند السنة. وقول الرسول الأعظم، «وما اضطروا إليه» صريح الدلالة على أن الضرورات تبيح المحذورات.

وقال الغزالي في الجزء الثالث من إحياء العلوم «باب ما رخص فيه من الكذب»: «إن عصمة دم المسلم واجبة، فمهما كان القصد سفك دم مسلم قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب».

وبعد أن نقل الرازي الأقوال في التقية، وهو يفسر قوله تعالى «إلا أن تتقوا منهم تقاة» قال: روي عن الحسن أنه قال: التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة، وهذا القول أولى، لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان».

ونعى الشاطبي في الجزء الرابع من الموافقات ص ١٨٠ على الخوارج «إنكارهم سورة يوسف من القرآن، وقولهم بأن التقية لا تجوز في قول أو فعل على الإطلاق والعموم».

وقال جلال الدين السيوطي في كتاب «الأشباه والنظائر» ص ٧٦: «يجوز

أكل الميتة في المخمصة، وإساغة اللقمة في الخمر، والتلفظ بكلمة الكفر. ولو عم الحرام قطراً، بحيث لا يوجد فيه حلال إلا نادراً فإنه يجوز استعمال ما يحتاج إليه».

وقال أبو بكر الرازي الجصاص - من أئمة الحنفية - في الجزء الثاني من كتاب «أحكام القرآن» ص ١٠ طبعة ١٣٤٧هجري:

قوله تعالى «إلا أن تتقوا منهم تقاة» يعني أن تخافوا تلف النفس، أو بعض الأعضاء، فتتقوهم

٤٢

بإظهار الموالاة من غير اعتقاد لها، وهذا هو ظاهر ما يقتضيه اللفظ، وعليه الجمهور من أهل العلم، وقد حدثنا عبد اللّه بن محمد بن اسحاق المروزي عن الحسن بن أبي الربيع الجرجاني عن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى «لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون اللّه» قال: لا يحل لمؤمن أن يتخذ كافراً ولياً في دينه، وقوله تعالى «إلا أن تتقوا منهم تقاة» يقتضي جواز إظهار الكفر عند التقية، وهو نظير قوله تعالى «من كفر باللّه من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان». وفي الجزء الثالث من السيرة الحلبية ص ٦١ مطبعة مصطفى محمد «لما فتح رسول اللّه خيبر قال له حجاج بن علاط: يا رسول اللّه إن لي بمكة مالاً، وإن لي بها أهلاً، وأنا أريد أن آتيهم، فأنا في حل إن أنا نلت منك، وقلت شيئاً، فأذن له رسول اللّه أن يقول ما يشاء».

وهذا الذي قاله صاحب السيرة الحلبية عن النبي، ونقله الجصاص إلى الجمهور من أهل العلم هو بعينه ما تقوله الإمامية، إذن القول بالتقية لا يختص بالشيعة دون السنة. أما قصة نعيم بن مسعود الأشجعي فأشهر من أن تذكر.

ولا أدري كيف استجاز لنفسه من يدعي الإسلام أن ينعت التقية بالنفاق والرياء، وهو يتلو من كتاب اللّه، وسنة نبيه ما ذكرنا من الآيات والأحاديث، وأقوال أئمة السنة، وهي غيض من فيض مما استدل به علماء الشيعة في كتبهم، وكيف تنسب الشيعة إلى الرياء، وهم يؤمنون بأنه الشرك الخفي، ويحكمون ببطلان الصوم والصلاة والحج والزكاة إذا شابتها أدنى شائبة من رياء؟

وأود أن أوجه هذا السؤال لمن نسب الشيعة إلى النفاق والرياء من أجل التقية: ما رأيك فيمن قال - من علماء السنة - إن جبرئيل ليلة أسرى بالنبي إلى السماء جاءه بقدحين: أحدهما من لبن، وآخر من خمر، وخيره بين شرب

أيهما شاء (كتاب الفروق ج ١ ص ١٢ طبعة ١٣٤٥هجري وصحيح البخاري ج ٦ باب سورة بني إسرائيل).

وأيضاً ما رأيك فيمن أفتى - منهم - بأن من ترك الصلاة عمداً لا يجب عليه قضاؤها، ومن تركها نسياناً يجب عليه أن يقضي. (كتاب نيل الأوطار للشوكاني ج ٢ ص ٢٧ طبعة ١٩٥٢).

وغريبة الغرائب أن يُعذر المفتي على فتواه التي خالف بها الاجماع والقواعد والنص والقياس الجلي السالم عن المعارض، ولا يعذر من يفتي بالتقية مستنداً إلى كتاب اللّه وسنة رسوله. (الفروق للقرافي ج ٢ ص ١٠٩).

٤٣

وبالتالي، فإن التقية كانت عند الشيعة حيث كان العهد البائد، عهد الضغط والطغيان، أما اليوم حيث لا تعرّض للظلم في الجهر بالتشيع فقد أصبحت التقية في خبر كان.

في عام ١٩٦٠ أقامت الجمهورية العربية المتحدة مهرجاناً دولياً للغزالي في دمشق، وكنت فيمن حضر وحاضر، فقال لي بعض أساتذة الفلسفة في مصر فيما قال: أنتم الشيعة تقولون بالتقية.. فقلت له: لعن اللّه من أحوجنا إليها. إذهب الآن أنّى شئت من بلاد الشيعة فلا تجد للتقية عندهم عيناً ولا أثراً، ولو كانت ديناً ومذهباً في كل حال لحافظوا عليها محافظتهم على تعاليم الدين ومبادئ الشريعة.

البداء:

اتفق المسلمون بكلمة واحدة على جواز النسخ، ووقوعه في الشريعة الإسلامية، ومعناه في اصطلاح المفسرين وأهل التشريع أن اللّه يشرع حكماً كالوجوب أو التحريم، ويبلغه لنبيه، وبعد أن يعمل النبي وأمته بموجبه يرفع اللّه هذا الحكم وينسخه ويجعل في مكانه حكماً آخر، لإنهاء الأسباب الموجبة لبقاء الأول واستمراره، وهذا النوع من النسخ ليس بعزيز، فإنه موجود في الشرائع السماوية والوضعية، واستدل المسلمون على جوازه ووقوعه بأدلة، منها أن الصلاة كانت في بدء الإسلام لجهة بيت المقدس، ثم نسخت، وتحولت إلى جهة البيت الحرام، كما نطقت الآية ١٤٤ من سورة البقرة: «فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام».

ونتساءل: إذا جاز النسخ على اللّه بهذا المعنى في الأمور التشريعية فهل يجوز عليه ذلك في الأشياء الكونية والطبيعية، وذلك بأن يقدر اللّه ويقضي بإيجاد شيء في الخارج، ثم يعدل ويتحول عن قضائه وإرادته؟

اتفق المسلمون جميعاً على عدم جواز النسخ في الطبيعيات، لأنه يستلزم الجهل وتجدد العلم للّه، وحدوثه بعد نفيه عنه. تعالى عن ذلك علواً كبيراً، ويسمى هذا بالبداء الباطل، وقد نسبه البعض إلى الإمامية جهلاً أو تجاهلاً، رغم تصريحاتهم المتكررة بنفيه.

روى الشيخ الصدوق في كتاب «إكمال الدين وإتمام النعمة» عن الإمام الصادق أنه قال: من زعم ان اللّه عز وجل يبدو له في شيء لم يعلمه أمس فابرأوا منه.

وبعد أن نفى المسلمون جميعاً البداء بهذا المعنى أجازوا بداء لا يستدعي الجهل وحدوث العلم

٤٤

لذات اللّه، وهو أن يزيد اللّه في الأرزاق والأعمار، أو ينقص منهما بسبب أعمال العبد، قال المفيد شيخ الشيعة الإمامية في كتاب «أوائل المقالات» باب القول في البداء والمشيئة: «البداء عند الإمامية هو الزيادة في الآجال والأرزاق، والنقصان منهما بالأعمال».

وتدل على هذا الآية ٦٠ من سورة غافر: «وقال ربكم ادعوني أستجب لكم» وروى الترمذي في سننه باب لا يرد القدر إلا الدعاء أن النبي قال: لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر(١) .

وبالتالي، فقد اتفق السنة والشيعة بكلمة واحدة على أن أية صفة تستدعي الجهل وتجدد العلم فهي منفية عن اللّه سبحانه بحكم العقل والشرع، سواء أعبّرنا عنها بالبداء أو بلفظ آخر، وعليه فلا يصدق القول بأن الشيعة أجازوا البداء على اللّه دون السنة، لأن المفروض أن البداء المستلزم للجهل باطل عند الفريقين، والبداء بمعنى الزيادة أو النقصان في الأرزاق والآجال جائز عند الفريقين. فأين محل النزاع والصراع؟

هذا، إلى أن الإمامية قد تشددوا في صفات الباري أكثر من جميع الفرق

_____________________

(١) انظر كتاب «البيان في تفسير القرآن» للسيد الخوئي ص ٢٧٧.

٤٥

والطوائف، وبالغوا في تنزيهه عن كل ما فيه شائبة الجهل والظلم والتجسيم والعبث، وما إليه. فلم يجيزوا على اللّه ما أجازه الأشاعرة وغيرهم من سائر الفرق الإسلامية الذين قالوا بأن الخير والشر من اللّه، وإنه سبحانه يكلف الإنسان بما لا يطاق، وإنه تعالى علواً كبيراً يأمر بما يكره، وينهى عما يحب، ويفعل بدون غرض (كتاب المواقف ج ٨ للإيجي وشرحه للجرجاني، وكتاب الفروق للقرافي ج ٢ وكتاب المذاهب الإسلامية لأبي زهرة). كما أن الإمامية قد نفوا التجسيم عن اللّه الذي قال به الحنابلة، ومنهم الوهابية الذين رووا عن النبي: «لا تزال جهنم يلقى فيها، وهي تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها رجله، فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط. قط».(العقيدة الواسطية لابن تيمية المطبوعة مع الرسائل التسع سنة ١٩٥٧ ص ١٣٦).

الرجعة:

قال فريق من علماء الإمامية: إن اللّه سبحانه سيعيد إلى هذه الحياة قوماً من الأموات، ويرجعهم بصورهم التي كانوا عليها، وينتصر اللّه بهم لأهل الحق من أهل الباطل، وهذا هو معنى الرجعة. وأنكر الفريق الآخر ذلك، ونفاه نفياً باتاً.

ونقل هذا الاختلاف الشيخ الإمامي الثقة أبو علي الطبرسي في «مجمع البيان» عند تفسير الآية ٨٣ من سورة النمل: «ويوم نحشر من كل أمة فوجاً ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون».

قال: استدل بهذه الآية على صحة الرجعة من ذهب إلى ذلك من الإمامية. ووجه الدلالة - بزعم هؤلاء - أن اليوم الذي يحشر اللّه فيه فوجاً من كل أمة لا يمكن أن يكون اليوم الآخر بحال، لأن هذا اليوم يُحشر فيه جميع الناس لا فوج من كل أمة لقوله تعالى في الآية ٤٨ من سورة الكهف: «وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً». فتعين أن يكون الحشر في هذه الدنيا لا في الآخرة.

أما الذين أنكروا الرجعة من علماء الإمامية فقد قالوا: إن الحشر في الآية يراد به الحشر في اليوم الآخر، لا في هذه الحياة، والمراد بالفوج رؤساء الكفار والجاحدين، فإنهم يحشرون ويجمعون لإقامة الحجة عليهم.

ومهما يكن، فإن غرضنا الأول من نقل كلام الشيخ الطبرسي الإمامي هو التدليل على أن علماء الإمامية لم يتفقوا بكلمة واحدة على القول بالرجعة. وقد اعترف باختلافهم الشيخ أبو زهرة، حيث قال في كتاب «الإمام الصادق» ص ٢٤٠ ما نصه بالحرف: «ويظهر أن فكرة

٤٦

الرجعة على هذا الوضع ليست أمراً متفقاً عليه عند إخواننا الإثني عشرية، بل فيهم فريق لم يعتقده».

وقال السيد محسن الأمين في كتاب «نقض الوشيعة» ص ٤٧٣ طبعة ١٩٥١: «الرجعة أمر نقلي، إن صح النقل به لزم اعتقاده، وإلا فلا». وقال ص ٥١٥ يتعلق بالبداء: «أجمع علماء الإمامية في كل عصر وزمان على أن البداء بهذا المعنى باطل ومحال على اللّه، لأنه يوجب نسبة الجهل إليه تعالى، وهو منزه عن ذلك تنزيهه عن جميع القبائح، وعلمه محيط بجميع الأشياء إحاطة تامة جزئياتها وكلياتها، لا يمكن أن يخفى عليه شيء، ثم يظهر له».

ولو كانت الرجعة من أصول الدين أو المذهب عن الإمامية لوجب الاعتقاد بها، ولما وقع بينهم الاختلاف فيها، أما الأخبار المروية في الرجعة عن أهل البيت فهي كالأحاديث في الدجال التي رواها مسلم في صحيحه القسم الثاني من الجزء الثاني ص ٣١٦ طبعة ١٣٤٨ هجري، ورواها أيضاً أبو داود في سننه ج ٢ ص ٥٤٢ طبعة ١٩٥٢، وكالأحاديث التي رويت عن النبي في أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم الأموات (كتاب مجمع الزوائد للهيثمي ج ١ ص ٢٢٨ طبعة ١٣٥٢ هجري).

إن هذه الأحاديث التي رواها السنة في الدجال وعرض أعمال الأحياء على الأموات، وما إلى ذاك تماماً كالأخبار التي رواها الشيعة في الرجعة عن أهل البيت. فمن شاء آمن بها، ومن شاء جحدها، ولا بأس عليه في الحالين. وما أكثر هذا النوع من الأحاديث في كتب الفريقين(١) .

____________________

(١) ولنفترض أن الشيعة كلهم أو بعضهم يقولون بالرجعة. فماذا يكون؟. وهل هذا القول كفر وزندقة؟. لقد اعتقد المسلمون منذ أن وجدوا، حتى اليوم أن المسيح (ع) حي بروحه وجسده، ومع ذلك نشر شيخ الأزهر فضيلة الشيخ محمود شلتوت مقالاً مطولاً في جريدة الجمهورية المصرية تاريخ ١٥ / ١١ / ١٩٦٣ قال فيه: إن عيسى قد مات حقيقة، كسائر الانبياء، ومع ذلك لم يكفر شيخ الأزهر، ولا كفره أحد، فعلام هذا التهويش حول الرجعة.

٤٧

الجفر:

جاء في بعض مؤلفات السنة والشيعة أن عند أهل البيت علم الجفر، وأنهم يتوارثونه إماماً عن إمام إلى جدهم الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن كتب السنة التي جاء فيها ذكر الجفر المواقف للإيجي، وشرحه للجرجاني الحنفي، والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي، وقال أبو العلاء المعري:

لقد عجبوا لأهل البيت لما

أروهم علمهم في مسك جفر

ومرآة المنجم وهي صغرى

أرته كل عامرة وقفر

ونفى أفراد من السنة والشيعة ذلك، ولم يعتقدوا بشيء يسمى الجفر عند أهل البيت ولا عند غيرهم.

ما هو علم الجفر؟

واختلف القائلون بوجود الجفر في تفسير معناه، فمن قائل بأنه نوع من علم الحروف تستخرج به معرفة ما يقع من الحوادث في المستقبل. ومن قائل بأنه كتاب من جلد(١) ، فيه بيان الحلال والحرام، وأصول ما يحتاج إليه الناس من الأحكام التي فيها صلاح دينهم ودنياهم، وعلى هذا فلا يمت الجفر إلى الغيب بصلة.

ومن الطريف أن يقول عالم كبير من علماء الأحناف، وهو الشريف الجرجاني بالأول، وإن الجفر الذي عند أهل البيت تستخرج منه الحوادث الغيبية، وأن يخالفه في ذلك عالم كبير من الإمامية، وهو السيد محسن الأمين، ويقول بالثاني، وإنه علم الحلال والحرام فقط.

قال الجرجاني في كتاب «المواقف وشرحه» ج ٦ ص ٢٢ ما نصه بالحرف: «الجفر والجامعة كتابان لعليرضي‌الله‌عنه ، وقد ذكر فيهما على طريقة علم الحروف الحوادث إلى انقراض العالم، وكان الأئمة المعروفون من أولاده يعرفونهما ويحكمون بهما».

وقال السيد محسن الأمين في كتاب «نقض الوشيعة» ص ٢٩٥: «ليس

________________________

(١) الجفر في أصل اللغة ولد الشاة إذا عظم واستكرش، ثم أطلق على جلد الشاة.

الجفر علماً من العلوم، وإن توهم ذلك كثيرون، ولا هو مبني على جداول الحروف، ولا ورد به خبر ولا رواية - إلى أن قال - ولكن الناس توسعوا في تفسيره، وقالوا فيه أقاويل لا تستند إلى مستند، شأنهم في أمثال ذلك».

٤٨

وقال في «أعيان الشيعة» قسم أول من ج ١ ص ٢٤٦ طبعة ١٩٦٠: «الظاهر من الأخبار أن الجفر كتاب فيه العلوم النبوية من حلال وحرام، وما يحتاج إليه الناس في أحكام دينهم، وصلاح دنياهم».

السيد الأمين الذي تثق الإمامية كافة بعلمه ودينه ينفي الجفر بمعنى علم الغيب عن أهل البيت، ويثبته علماً من أعلام الأحناف، ويقول: «عندهم علم ما يحدث إلى انقراض العالم». وبهذا يتبين ما في قول الشيخ أبي زهرة وغيره من الذين جعلوا القول بالجفر من اختصاص الإمامية، ونسبوا لهم الزعم بأن أهل البيت يستخرجون منه علم الغيب. إن غير الإمامية من الفرق الإسلامية يدّعون أمثال ذلك، ثم ينسبونه إلى الأمامية، لا لشيء إلا لشينعوا، ويهوشوا، وكذلك فعلوا في دعوى تحريف القران والنقص منه، ودعوى الإيحاء والإلهام.

هذا، إلى أن مسألة الجفر ليست من أصول الدين ولا المذاهب عند الإمامية، وإنما هي أمر نقلي، تماماً كمسألة الرجعة، يؤمن بها من تثبت عنده، ويرفضها إذا لم تثبت، وهو في الحالين مسلم سني، إن كان سنياً، ومسلم شيعي، إن كان شيعياً.

الخلاصة:

إن الإمامية يدينون بأن الإمامة تكون بالنص لا بالانتخاب، وإن محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله نص صراحة على علي بن أبي طالب، وإنهم يوجبون العصمة للإمام، وينفون عنه علم الغيب، ويقولون بالتقية عند خوف الضرر، وينفون - متفقين - صفة البداء عن اللّه المستلزمة للجهل، وحدوث العلم، ويختلفون في الرجعة.

مصحف فاطمة:

نسب إلي الإمامية القول بأن عند فاطمة بنت الرسول مصحفاً، فيه زيادات عن هذا القرآن الكريم، وقبل أن نبين حقيقة هذه النسبة نشير إلى عقيدة المسلمين

في صيانة الكتاب العزيز.

اتفق المسلمون بكلمة واحدة على أنه لا زيادة في القرآن، ما عدا فرقة صغيرة شاذة من فرق الخوارج، فإنها أنكرت أن تكون سورة يوسف من القرآن، لأنها قصة غرام يتنزه عن مثلها كلام اللّه سبحانه. ونسب إلى بعض المعتزلة إنكار سورة أبي لهب، لأنها سب وطعن لا يتمشى مع منطق الحكمة والتسامح. ونحن لا نتردد، ولا نتوقف في تكفير من أنكر كلمة واحدة من القرآن، وأن

٤٩

جحود البعض، تماماً كجحود الكل، لأنه طعن صريح فيما ثبت عن النبي بضرورة الدين، واتفاق المسلمين.

أما النقصان بمعنى أن هذا القرآن لا يحتوي على جميع الآيات التي نزلت على محمد، فقد قال به أفراد من السنة والشيعة في العصر البائد، وأنكر عليهم يومذاك المحققون وشيوخ الإسلام من الفريقين، وجزموا بكلمة قاطعة أن ما بين الدفتين هو القرآن المنزل دون زيادة أو نقصان للآية ٨ من سورة الحجرات: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون». والآية ٤١ من سورة فصلت: «لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد». واليوم أصبح هذا القول ضرورة من ضرورات الدين، وعقيدة لجميع المسلمين، إذ لا قائل بالنقيصة، لا من السنة، ولا من الشيعة. فإثارة هذا الموضوع، والتعرض له - في هذا العصر - لغو وعبث، أو دس وطعن على الإسلام والمسلمين.

وإذا عذرنا محب الدين الخطيب والحفناوي والجبهان وأضرابهم من المأجوردين فإنا لا نعذر أبداً الشيخ أبا زهرة، لأنه في نظرنا أجلّ، وأسمى علماً وخلقاً من ألف خطيب وخطيب من أمثال محب الدين. لذا وقفنا حائرين متسائلين: ماذا أراد فضيلته من إثارة هذا الموضوع في كتاب «الإمام الصادق» مع علمه ويقينه أنه أصبح في خبر كان، وأنه لا قائل به اليوم من الشيعة ولا من السنة؟ ماذا أراد الشيخ أبو زهرة من حملته الشعواء على الشيخ الكليني صاحب

الكافي الذي مضى على وفاته أكثر من ألف سنة؟ هل يريد الشيخ أن يدخلنا في جدل عقيم، ونحن نطلب الوفاق والوئام معه ومع غيره؟ وحيثما أجلت الفكر في سبب هذه الحملة لم أجد لها تفسيراً إلا التأثر بالبيئة والوراثة.

وهل من شيء أدل على ذلك من قوله في ص ٣٦: «لا نستطيع قبول روايات

الكليني، لأنه الذي ادعى أن الإمام جعفر الصادق قد قال: إن في القرآن نقصاً وزيادة، وقد «كذبه» - كذا - كبار العلماء من الاثني عشرية، كالمرتضى والطوسي وغيرهما، ورووا عن أبي عبد اللّه الصادق نقيض ما ادعاه الكليني» وكرر هذه العبارة وما إليها في صفحات الكتاب مرات ومرات. إن أبا زهرة يصور الكليني، وكأنه قد تفرد بهذا القول دون غيره، وتصويره هذا بالتضليل أشبه، كما يتضح مما يلي:

ولست أدري كيف ذهل الشيخ عن وجه الشبه فيما نقله الكليني في الكافي، وما نقله كل من البخاري ومسلم في صحيحه؟ قال البخاري في ج ٨ ص ٢٠٩ طبعة سنة ١٣٧٧ هجري:

٥٠

«جلس عمر على المنبر، فلما سكت المؤذن قام، فأثنى على اللّه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يدي أجلي؟ فمن عقلها ووعاها فليحدث بها، حيث انتهت به راحلته، ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب علي. إن اللّه بعث محمداً بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، ورجم رسول اللّه ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: واللّه ما نجد آية الرجم في كتاب اللّه، فيضلوا بترك فريضة أنزلها اللّه، والرجم في كتاب اللّه حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو كان الحبل، أو الاعتراف، ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب اللّه: «أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم». ونقل البخاري أيضاً في ص ٨٦ ج ٩ باب «الشهادة تكون عند الحاكم في ولايته القضاء» عن عمر بن الخطاب أنه قال: «لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب اللّه لكتبت آية الرجم بيدي».

هذا ما جاء على لسان الخليفة الثاني في صحيح البخاري، وروى هذا الحديث مسلم في صحيحه ص ١٠٧ القسم الأول من الجزء الثاني طبعة سنة ١٣٤٨ هجري، ولم يذكر فيه «أن لا ترغبوا عن آبائكم» إلخ مع العلم بأن ليس في القران ما يشعر بوجوب الرجم والرغبة عن الآباء. وقال السيوطي في «الإتقان» ج ١ ص ٦٠ مطبعة حجازي بالقاهرة: «أول من جمع القرآن أبو بكر، وكتبه زيد، وكان

الناس يأتون زيد بن ثابت، فكان لا يكتب آية إلا بشاهدي عد ل، وإن آخر سورة براءة لم توجد إلا مع أبي خزيمة بن ثابت، فقال - أي أبو بكر - اكتبوها، فإن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله جعل بشهادة رجلين، فكتب، وإن عمر أتى بآية الرجم، فلم يكتبها، لأنه كان وحده».

وإذا كان أبو زهرة لا يقبل أحاديث الكليني، لأنه روى حديث التحريف - كما قال - فعليه أن لا يقبل أحاديث البخاري جملة وتفصيلاً، لمكان هذا الحديث الصريح الواضح بالتحريف بشهادة عمر بن الخطاب. وإن ما ذكره الكليني في هذا الباب لا يختلف في النتيجة عما ذكره البخاري ومسلم. فلماذا تحامل الشيخ على الكليني، وسكت عنهما؟ بل قال أبو زهرة في كتاب الإمام زيد ص ٢٤٥: «والبخاري ذاته، وهو أصح كتب السنة إسناداً قد أخذت عليه أحاديث وما كان ذلك مسوغاً لتكذيب البخاري ولا مسوغاً لنقض الصحيح الذي رواه وعدم الأخذ به.

وأيضاً روى البخاري في الجزء الرابع «باب طفة إبليس وجنوده» عن عائشة أنها قالت: «سحر النبي، حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء، وما يفعله».

٥١

وقد كذبه في ذلك الجصاص أحد أئمة الحنفية، قال ما نصه بالحرف: «وقد أجازوا من فعل الساحر ما هم أطم وأفظع، ذلك أنهم زعموا أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سحر، وأن السحر عمل فيه، حتى قال: إنه يخيل لي أني أقول الشيء، ولا أقوله، وأفعله، ولم أفعله - إلى أن قال الجصاص -: ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين». (الجزء الأول من أحكام القرآن للجصاص ص ٥٥ طبعة سنة ١٣٤٧ هجري».

وكذب البخاري في ذلك أيضاً الشيخ محمد عبده في تفسيره لسورة الفلق، حيث قال: «وقد رووا أحاديث أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سُحر. حتى كأنه يفعل الشيء، وهو لا يفعله، أو يأتي شيئاً، وهو لا يأتيه. وهذا يصدق قول المشركين فيه. «إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً». وليس المسحور إلا من خولط في عقله، وخيل إليه أن شيئاً يقع، وهو لا يقع، فيخيل إليه أنه يوحى إليه، ولا يوحى إليه».

والآن، وبعد هذه الأرقام بماذا تجيب - أيها الشيخ -؟ قلت: إنك لا تقبل روايات الكليني، لأن الطوسي والمرتضى كذباه في رواية التحريف. ونقول

لك: إن الإمام الجصاص، والإمام عبده كذبا البخاري في رواية سحر النبي. وقال الأول: إن هذا من وضع الملحدين. وقال الثاني إن السحر يستلزم تصديق المشركين وتكذيب الرسول. وعليه فأنت بين أمرين: إما أن لا تقبل روايات البخاري والكليني معاً، وإما أن تقلبهما معاً، ولا أظنك تفعل هذا ولا ذاك. بل تقبل البخاري، دون الكليني، وتناقض نفسك بنفسك. وهذا هو منطق كل من رد وتحامل على علماء الإمامية.

لقد ذهل الشيخ أبو زهرة عن ذلك، وذهل أيضاً عن أن مخالفة المرتضى والطوسي للكليني إنما هي كمخالفة مالك لأبي حنيفة، والشافعي للاثنين، وأحمد للثلاثة في كثير من المسائل. وإذا كان اختلاف علماء الإمامية فيما بينهم يستدعي طرح أقوالهم كلاً أو بعضاً فكذلك الأمر بالنسبة إلى علماء السنة، وأئمة المذاهب. إن اختلاف أنظار العلماء في صحة الحديث وضعفه كاختلافها في الأحكام نفسها لا يستدعي تكذيبهم، وطرح أقوالهم. بل إن أبا زهرة صرح في كتاب «المذاهب الإسلامية» ص ٢١ بأن الخلاف الذي نتج عن الاستنباط كان محمود العاقبة حسن النتيجة. فهل هذا الحسن يختص بعلماء طائفة دون أخرى؟

وبعد هذه الوقفة القصيرة مع الشيخ أبي زهرة نعود إلى الحديث عن مصحف فاطمة، وقد جاء ذكره في أخبار أهل البيت مع تفسيره، وأنه كان من إملاء رسول اللّه على علي، قال الإمام

٥٢

الصادق: عندنا مصحف فاطمة، أما واللّه، ما فيه حرف من القرآن، ولكنه من إملاء رسول اللّه، وخط علي. قال السيد محسن الأمين في «الأعيان» قسم أول من ج ١ ص ٢٤٨: إن نفي الإمام الصادق أن يكون فيه شيء من القرآن لكون تسميته بمصحف فاطمة يوهم أنه أحد النسخ الشريفة، فنفى هذا الإيهام.

وفي كتاب الكافي أن المنصور كتب يسأل فقهاء أهل المدينة عن مسألة في الزكاة. فما أجابه عنها إلا الإمام الصادق، ولما سئل من أين أخذ هذا؟ قال: من كتاب فاطمة. إذن مصحف فاطمة كتاب مستقل وليس بقرآن. فنسبة التحريف إلى الإمامية على أساس قولهم بمصحف فاطمة جهل وافتراء.

والأولى نسبة هذا القول إلى الذين زعموا بأن لعائشة قرآنا، فيه زيادات عن هذا القرآن. قال جلال الدين السيوطي في كتاب «الإتقان» ج ٢ ص ٢٥ طبعة

حجازي بالقاهرة ما نصه بالحرف: «قالت حميدة بنت أبي يونس: قرأ أبي، وهو ابن ثمانين سنة في مصحف عائشة «إن اللّه وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً وعلى الذين يصلون الصفوف الأولى».

أرأيت كيف يتهمون غيرهم بما هم به أولى، تماماً كما فعلوا في مسألة الجفر، ومسألة الإيحاء وغيرهما..

وبالتالي، فإن غرضي من هذا الفصل، وما سبق من الفصول أن أثبت بالأرقام أنه لا شيء عند الإمامية إلا ويوجد له أصل عند السنة تفصيلاً أو إجمالاً، منطوقاً أو مفهوماً، وعليه فلا وجه لطعن أبي زهرة، ومن تقدم، أو تأخر. اللهم إلا التعصب وتأكد الأنقسام والاقتراق(١) .

____________________

(١) وقع في يدي كتاب، وأنا أحرر هذا الفصل، وكنت أبحث وأفتش في المكتبات التجارية وغيرها عن المصادر، واسم الكتاب «حركات الشيعة المتطرفين، وأثرهم في الحياة الاجتماعية والأدبية لمدن العراق إبان العصر العباسي الأول» لمحمد جابر عبد العال مدير الشؤون الاجتماعية بجامعة القاهرة، خبط فيه كاتبه خبط عشواء، وشحنه بالكذب والافتراء، شأنه في ذلك شأن أسلافه الكثيرين، ولكن كلمة حق ظهرت على فلتات قلمه، وهو يكتب مقدمة الكتاب من حيث يريد أو لا يريد، قال: «إننا نعلم أن بين أهل السنة من تعصب على الشيعة، وأمعن في ذلك إمعاناً جعله يرميهم دون تثبيت باتهامات يتبين لذي العين البصيرة أنها باطلة، أملاها التعصب والتشاحن المذهبي».

٥٣

الشّيعَة والفُرس

قال الدكتور طه حسين في كتاب «علي وبنوه»: إن خصوم الشيعة نسبوا إليهم «ما يعلمون وما لا يعلمون». وكرر ذلك في صفحات الكتاب، لشتى المناسبات. منها قوله في صفحة ١٨٧ طبعة دار المعارف بمصر:

لا يكتفي خصوم الشيعة من الشيعة بما يسمعون عنهم، أو بما يرون من سيرتهم، وإنما يضيفون إليهم أكثر مما قالوا، وأكثر مما سمعوا، ثم لا يكتفون بذلك، وإنما يحملون هذا كله على عليّ نفسه، وعلى معاصريه(١) .

وقال في صفحة ١٨٩:

وخصومهم واقفون لهم بالمرصاد يُحصون عليهم كل ما يقولون ويفعلون، ويضيقون إليهم أكثر مما قالوا، وما فعلوا، ويحملون عليهم الأعاجيب من الأقوال والأفعال، ثم يتقدم الزمان، وتكثر المقالات، ويذهب أصحاب المقالات في الجدال كل مذهب، فيزداد الأمر تعقيداً وإشكالاً، ثم تختلط الامور بعد أن يبعد عهد الناس بالأحاديث، ويتجاوز الجدال خاصة الناس إلى عامتهم، ويتجاوز الذين يحسنونه إلى الذين لا يحسنونه، ويخوض فيه الذين يعلمون والذين لا يعلمون، فيبلغ الأمر أقصى ما يمكن أن يبلغ من الإيهام والإظلام، وتصبح الأمة في فتنة عمياء لا يهتدي فيها إلى الحق إلا الأقلون.

وقال في صفحة ٩٨ و ٩٩:

«إن ابن سبا كان متكلفاً منحولاً(٢) قد اخترع بآخرة حين كان الجدال بين

____________________

(١) وسنرى في الفصل التالي أن أحمد أمين في أيامه الأخيرة نقض أقواله بحق الشيعة التي سطرها في فجر الإسلام وضحاه. وهكذا يشهد قطبان كبيران بأن الشيعة اتهموا بأشياء كذباً وافتراء.

(٢) ألف السيد مرتضى العسكري كتاباً في ابن سبا أثبت بالأرقام أنه منحول لا وجود له في الواقع.

٥٤

الشيعة و غيرهم من الفرق الإسلامية. أراد خصوم الشيعة أن يدخلوا في أصول هذا المذهب - أي مذهب الشيعة - عنصراً يهودياً إمعاناً في الكيد لهم، والتنكيل بهم. ان ابن سبا شخص ادخره خصوم الشيعة للشيعة وحدهم، ولم يدخروه للخوارج».

هذي هي الصفات التي تميز خصوم الشيعة اليوم، وقبل اليوم: جدال بدون علم ومعرفة، واختراع أشخاص لا أساس لهم ولا أصل، لغاية الكيد والتنكيل، وافتراء الأعاجيب والأكاذيب، لإشاعة الفتنة والتضليل. أدرك ذلك كله، وشهد به الدكتور طه حسين حين بحث التاريخ موضوعياً وللحقيقة وحدها، مجرداً عن الأهواء والغايات، وأعلن هذه الحقيقة بلسان واضح مبين، وقدم الشواهد والدلائل، وقد أشرنا - فيما تقدم - إلى طرف منها، ونذكر الآن لوناً آخر من الأكاذيب التي تهدف فيما تهدف إلى اخراج الشيعة من الإسلام كلية:

لقد زعم خصوم الشيعة فيما زعموا أن التشيّع دين مستقل ابتدعه الفرس كيداً للإسلام الذي أزال ملكهم، وأباد سلطانهم، فأرادوا الانتقام منه، فلم يستطيعوا، فأدخلوا عليه البدع والضلال متسترين باسم التشيع.

وفند هذا الزعم بالأدلة والأرقام السيد محسن الأمين في الجزء الأول من «أعيان الشيعة»، والشيخ محمد حسين المظفر في «تاريخ الشيعة»، وكثير من المستشرقين، منهم فلهوزن في كتاب «الخوارج والشيعة» وآدم متز في كتاب «الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري» وجولد تسهير في كتاب «العقيدة والشريعة»، وغيرهم. ويتلخص ما ذكروه من الردود، وما نضيفه إليها بما يلي:

١ - أثبتنا فيما تقدم أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هو الباعث الأول لفكرة التشيع، وأرجعنا ما تدين به الإمامية إلى نصوص الكتاب والسنة، وذكرنا عدداً وافراً من الصحابة الذين قالوا بوجود النص على علي بالخلافة.

٢ - قال السيد الأمين في القسم الأول من الجزء الأول ص ٤٩ طبعة سنة ١٩٦٠:

«إن الفرس الذين دخلوا الإسلام لم يكونوا شيعة في أول الأمر إلا القليل منهم. وجل علماء السنة وأجلاؤهم من الفرس، كالبخاري والترمذي

والنسائي وابن ماجة، والرازي والبيضاوي وفخر الدين الرازي، وصاحب القاموس والزمخشري والتفتازاني، وأبي القاسم البلخي والقفال والمروزي والشاشي والنيسابوري والبيهقي، والجرجاني والراغب الأصفهاني والخطيب التبريزي، وغيرهم ممن لا يبلغهم الإحصاء.

٥٥

ومن دخل من الفرس وتشيع فحاله حال من تشيع من سائر الأمم، كالعرب والترك والروم وغيرهم لا باعث له إلا حب الإسلام، وحب آل الرسول، فأسلم وتشيع عن رغبة واعتقاد. وإذا جاز أن يقال: إن الفرس تشيعوا كيداً للإسلام، لأنه قهرهم جاز أن يقال: إن غير الفرس تسننوا كيداً للإسلام ، لأنه غلب وقهر الجميع لا الفرس وحدهم.

والحقيقة أن بعض الفرس دان بالتشيع للسبب الذي دان به غيرهم بالتشيع، وبعضهم دان بالتسنن للسبب الذي دان به غيرهم بالتسنن، سنة اللّه في خلقه. إن الذين نشروا التشيع في قم وأطرافها الأشعريون، وهم عرب صميمون هاجروا إليها من الكوفة في عصر الحجاج، وغلبوا عليها، واستوطنوها، وانتشر التشيع في خراسان بعد خروج إليها وزاد الانتشار واتسع في إيران في عصر الصفوية الذين نصروا التشيع، وهم عرب، لأنهم سادة أشراف من نسل الإمام موسى بن جعفر، لا يمكن بحال أن يتعصبوا للأكاسرة، والذين يجوز في حقهم ذلك هم قدماء الفرس، وهؤلاء جلهم كان على مذهب التسنن».

أثبت السيد الأمين أن الذين نشروا التشيع وناصروه في إيران هم بين عربي أصيل، كالإمام الرضا والأشعريين(١) أو من أصل عربي كالصفوية، وأن الذين دعموا التسنن وناصروه هم فرس أقحاح، كالبخاري والنسائي والرازي وغيرهم. فإن كان للفرس مقاصد وأهداف ضد الإسلام، كما زعم خصوم الشيعة فأولى ثم أولى أن يحاولوا تحقيق غاياتهم عن طريق التسنن لا التشيع، إذ

______________________

(١) في سنة ٨٣ هجري خرج ابن الأشعث على الحجاج، ثم هزم جيشه وتفرق في البلاد، وكان بينهم خمسة إخوة: عبد اللّه والأحوص وعبد الرحمن وإسحق ونعيم أبناء سعد بن مالك بن عامر الأشعري، فاجتمع الخمسة وتغلبوا على بعض القرى القريبة من قم، واجتمع إليهم بنو عمهم، وكان المتقدم من هؤلاء عبد اللّه وكان له ولد يتشيع، فانتقل من تلك القرى إلى قم، ونقل التشيع إلى أهلها (الكنى والألقاب) ترجمة القمي.

٥٦

المفروض أن سبب التشيع في إيران يرجع إلى عنصر عربي، والتسنن إلى عنصر فارسي صرف. ولكن خصوم الشيعة موهوا وضللوا، وعكسوا الآية، لا لشيء إلا للكيد والتنكيل، كما قال الدكتور طه حسين. وهكذا فعلوا في مسألة الجفر وعلم الغيب.

وقال الشيخ محمد حسين المظفر في «تاريخ الشيعة» ص ٨ المطبعة الزهراء بالنجف:

«كان للإمام ثلاثة حروب: الجمل، وصفين والنهروان. وكان جيشه كله عرباً أقحاحاً بين عدنانية وقحطانية. أكانت قريش من الفرس أم الأوس والخزرج، أم مذحج، أم همدان، أم طي، أم كندة، أم تميم، أم مضر، أم أشباهها من القبائل؟ وهل كان زعماء جيشه غير رؤساء هذه القبائل؟ أكان عمار فارسياً، أم هاشم المرقال، أم مالك الأشتر، أم صعصعة بن صوحان، أم أخوه زيد، أم قيس بن سعد، أم ابن عباس، أم محمد بن أبي بكر، أم حجر بن عدي بن حاتم، وأمثال هؤلاء من القواد؟».

أما أصحاب الحسن والحسين فكلهم عرب، وجلهم من أصحاب أبيهما أمير المؤمنين.

وقال المستشرق فلهوزن في كتاب «الخوارج والشيعة» ص ٢٤١ طبعة سنة ١٩٥٨ يرد على المستشرق دوزي الذي زعم أن التشيع كمذهب ديني إيراني الأصل:

«أما أن آراء الشيعة كانت تلائم الإيرانيين فهذا أمر لا سبيل إلى الشك فيه، أما كون هذه الآراء قد انبعثت من الإيرانيين فليست تلك الملاءمة دليلاً عليه، بل الروايات التاريخية تقول بعكس ذلك، إذ تقول: إن التشيع الواضح الصريح كان قائماً أولاً في الدوائر العربية، ثم انتقل بعد ذلك منها إلى الموالي». وقال في ص ١٤٨: «كان جميع سكان العراق في عهد معاوية خصوصاً أهل الكوفة شيعة، ولم يقتصر هذا على الأفراد، بل شمل القبائل ورؤساء القبائل.

وهذا يعزز ما قاله السيد الأمين في الأعيان من أن التشيع في إيران جاء من أصل عربي لا من أصل فارسي».

وقال المستشرق آدم متز في كتاب «الحضارة الإسلامية» ص ١٠٢ وما بعدها

طبعة سنة ١٩٥٧ ما ملخصه:

«إن مذهب الشيعة ليس كما يعتقد البعض رد فعل من جانب الروح الإيرانية، يخالف الإسلام. فقد كانت جزيرة العرب شيعة كلها عدا المدن الكبرى، مثل مكة وتهامة وصنعاء، وكان للشيعة غلبة في بعض المدن أيضاً، مثل عمان وهجر وصعدة. أما إيران فكانت كلها سنة ما عدا

٥٧

«قم» وكان أهل أصفهان يغالون في معاوية، حتى اعتقد بعض أهلها أنه نبي مرسل، كما نقل المقدسي».

وإذا كان الفرس هم سبب التشيع في إيران وغير إيران، فهل جاء غلو بعض أهالي أصفهان في معاوية، ورفعه إلى منصب النبوة والرسالة، هل جاء هذا الغلو في معاوية نتيجة لتشيع الفرس؟ إنه لغريب حقاً منطق خصوم الشيعة، كما قال الدكتور طه حسين. قالوا: إن الغلو في علي جاء من الفرس. ثم ينقل عالم من علمائهم مثل المقدسي أن بعض الفرس غالى في معاوية، حتى جعلوه نبياً مرسلاً. ثم كيف ومن أين وصل التشيع إلى جزيرة العرب؟ هل جاء إليها من الفرس، والتاريخ يقول: إن الفرس كانوا على التسنن حين كان سكان الجزيرة العربية على التشيع؟ وهكذا يقع في التناقضات من يضفي على التاريخ صفته الذاتية العدائية، ثم يبني عليه آراءه وأحكامه.

وقال المستشرق جولد تسهير في كتاب «العقيدة والشريعة» ص ٢٠٤ طبعة ١٩٤٦:

«إن من الخطأ القول بأن التشيع في منشئه، ومراحل نموه يمثل الأثر التعديلي الذي أحدثته أفكار الأمم الإيرانية في الإسلام، بعد أن اعتنقته، أو خضعت لسلطانه عن طريق الفتح والدعاية، وهذا الوهم الشائع مبني على سوء فهم الحوادث التاريخية. فالحركة العلوية نشأت في أرض عربية بحتة(١) » وما هؤلاء

________________

(١) إن علماء المسلمين العرب هم الذين أدخلوا التشيع إلى فارس، وأرشدوا الفرس إليه. بشهادة الشيخ أبي زهرة، قال في كتاب «الإمام جعفر الصادق» ص ٩٤٥: «أما فارس وخراسان، وما وراءهما من بلدان الإسلام فقد هاجر إليها كثيرون من علماء الإسلام الذين كانوا يتشيعون فراراً بعقيدتهم من الأمويين أولاً، ثم العباسيين ثانياً، وإن التشيع كان منتشراً في هذه البلاد انتشاراً عظيماً، قبل سقوط الدولة الأموية بفرار أتباع زيد ومن قبله إليها». فالفرس - إذن - تشيعوا على أيدي العرب، ولم يخلقوا التشيع من تلقائهم كيداً للإسلام.

٥٨

المستشرقون الثلاثة كل من نطق بهذه الحقيقة. فهناك كثيرون غيرهم قالوا هذا القول، دون أن يقصدوا الذب والدفاع عن الشيعة، وعقيدة التشيع، وإنما هدفهم الأول بيان الحقيقة، وتصحيح المفاهيم الخاطئة. وكنا في غنى عن الاستشهاد بأقوالهم، لو تحرر خصوم الشيعة عن التعصب الأعمى، ونزوات الأهواء والأغراض.

هذا، إلى أن السنة قد أخذوا بعض العادات من غيرهم، كعيد رأس السنة الهجرية الذي أحدثوه في زماننا، وعيد المولد النبوي الشريف تقليداً للمسيحيين الذين يحتفلون بميلاد السيد المسيح، ورأس السنة الميلادية. وكان علماء السنة، في القرن الثامن الهجري يعدون الاحتفال بالمولد النبوي مخالفاً للسنة، لأنه لا عيد في الإسلام إلا عيد الأضحى وعيد رمضان، وصدرت فتاوى من شيوخهم بتحريمه، على اعتبار أنه بدعة وضلالة(١) . ولو أردنا أن نتعصب لقلنا: إن مذهب التسنن مأخوذ من المسيحيين، لا من الكتاب والسنة.

وبالتالي، فإن الذي اجتذب الفرس وغير الفرس إلى التشيع هو الإسلام الصحيح، وحب الرسول وآله، واستشهاد الأخيار في سبيله، وملاءمته للحياة، ومناصرته للضعفاء والمضطهدين، أجل، كان الفرس منذ عهد الصفويين، حتى اليوم من أقوى الدعائم للشيعة، ومذهب التشيع، وهذا هو السر الذي بعث خصوم الشيعة على أن يصوروا الفرس، وكأنهم أعدى أعداء الإسلام، مع العلم بأنه لولا الفرس لم يكن للمسلمين هذا العدد الضخم من العلماء الذين نفاخر بهم أمم الشرق والغرب، ولا كان للإسلام هذه المكتبة المتخمة بألوف المجلدات في شتى العلوم، ولسنا نعرف أمة خدمت الإسلام، ولغة القرآن كالفرس، ولو أحصيت المكتبة الإسلامية والعربية لكان سهم الفرس منها أوفى من أسهم بقية المسلمين مجتمعين. إن الفرس لم يتستروا باسم التشيع، ليكيدوا للإسلام، بل إن أعداء الإسلام تستروا باسمه، ليكيدوا للتشيع بعامة، والفرس بخاصة، لأنهم كانوا وما زالوا من أقوى أركان الإسلام وأنصاره.

وهل من شيء أدل على عداوة هؤلاء للحق والإسلام من تشنيعهم على الشيعة،

______________________

(١) نقله بعض المؤلفين عن كتاب «بيت الصديق» للبكري ص ٤٠٤ طبعة ١٣٢٣ هجري.

٥٩

وسكوتهم عن الخوارج الذين قال عنهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنهم يمرقون من الإسلام، كما يمرق السهم من الرمية. بل إن الشاطبي أوصى بالستر عليهم، وعدم التعرض لهم، مع اعترافه بمروقهم من الدين. قال في كتاب «الموافقات» ج ٤ ص ١٧٨ وما بعدها مطبعة الرحمانية بمصر ما ملخصه:

«قال النبي: إن من ضئضئي هذا - يعني ذا الخويصرة - قوماً يقرأون القرآن لا يتجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام، كما يمرق السهم من الرمية. وقد بين النبي بهذا الحديث من مذهبهم في معاندة الشريعة أمرين: أحدهما: اتباع القرآن على غير تدبر، ولا نظر في مقاصده ومعاقده. ثانيهما: قتل أهل الإسلام، وترك أهل الأوثان.

وذكر الناس من آرائهم غير ذلك، كتكفيرهم لأكثر الصحابة وغيرهم، ومنه سرى قتلهم لأهل الإسلام، وأن الفاعل للفعل إذا لم يعلم بأنه حلال، أو حرام فليس بمؤمن. وأن الإمام إذا كفر كفرت رعيته كلهم شاهدهم وغائبهم، وأن التقية لا تجوز في قول ولا فعل على الإطلاق والعموم، والقاذف للرجال لا يحد. وأن اللّه سيبعث نبياً من العجم بكتاب ينزله اللّه عليه جملة واحدة، ويترك شريعة محمد. وإنكارهم سورة يوسف من القرآن، وأشباه ذلك، وكلها مخالفات شرعية.

ولكن الغالب في هذه الفرق أن يشار إلى أوصافهم ليحذر منها، ويبقى الأمر في تعيينهم مرجى. ولعل عدم تعيينهم هو الأولى الذي ينبغي أن يلتزم، ليكون ستراً على الأمة. وقد أمرنا بالستر على المذنبين». وإذا أمرنا بالستر على من خرج من الإسلام، فهل يجب التقبيح والتشنيع على من هم من الإسلام في الصميم؟! وغريب أن يقول عالم كالشاطبي: إن النبي أخرج الخوارج من الإسلام، ثم يزعم أن أمرهم مرجى إلى اللّه، ويوصي بالستر عليهم، والسكوت عنهم. أليس معنى هذا قال النبي، وأقول؟!

أحمَد أمين يعَترف في أيَّامه الأخِيرة

هاجم أحمد أمين في كتاب «فجر الإسلام» وضحاه الإمامية هجوماً عنيفاً، ورد عليه يومذاك علماؤهم رداً منطقياً، وأثبتوا بشهادة التاريخ وكتبهم العقائدية أنه أحل العاطفة محل العقل، والتعصب محل العدل، والخيال محل الواقع. ومن الذين تصدوا للرد عليه المرحوم كاشف الغطاء في كتاب «أصل الشيعة وأصولها».

وبعد مضي عشرين عاماً، أو أكثر على مهاجمته تلك أصيب بنظره، وعجز عن القراءة والكتابة، وفي أيامه الأخيرة - سنة ١٩٥٢ - استعان بغيره، وأملى عليه كتاباً أسماه «يوم الإسلام» اعترف فيه من حيث لا يحس ولا يشعر بما كان قد أنكره على الإمامية، من ذلك:

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

خوفهم ـ على العلويين يوسعونهم قتلا، وعسفاً وتشريداً، وأذاقوهم مختلف أنواع العذاب، التي لم تكن لتخطر على قلب بشر، بهدف استئصالهم من الوجود، ومحو آثارهم، ليصفو لهم الجو، ولا يبقى من يستطيع أن ينازعهم سلطانهم، الذي يجب أن يكون لهم وحدهم. أو بالأحرى حتى لا يبقى من من شأنه ذلك. حتى لقد نسي الناس فعال بني أمية معهم، عندما رأوا فعال بني العباس بهم. وحتى لقد رأينا أحد شعراء ذلك الوقت يقول:

تالله مـا فـعلت أمـية فـيهم

معشار ما فعلت بنو العباس(١)

وقال آخر ـ وهو أبو عطاء، أفلح بن يسار الندي، المتوفى سنة ١٨٠ ه‍. وهو من مخضرمي الدولتين: الأموية والعباسية: قال في زمن السفاح.

يـا لـيت جور بني مروان دام لنا

وليت عدل بني العباس في النار(٢)

وقال منصور بن الزبرقان النمري، المتوفى في خلافة الرشيد:

آل الـنبي ومـن يـحبها

يـتطامنون مـخافة القتل

أمـن النصارى واليهود هم

من أمة التوحيد في أزل(٣)

وقد أنشد الرشيد هذين البيتين بعد موت منصور هذا، فقال الرشيد، بعد أن أرسل إليه من يقتله، فوجده قد مات: (لقد هممت أن أنبش

____________

(١) شرح ميمية أبي فراس ص ١١٩.

(٢) المحاسن والمساوي ص ٢٤٦، والشعر والشعراء ص ٤٨٤، ونظرية الإمامة ص ٣٨٢، والمهدية في الإسلام ص ٥٥، وطبيعة الدعوة العباسية ص ٢٧٢.

(٣) الأزل: الضيق والشدة.

٨١

عظامه فأحرقها)(١) .. بل في رسالة الخوارزمي، الآتي شطر منها: أن قبره قد نبش بالفعل.

ويقول أبو حنيفة أو الطغرائي على اختلاف النسبة في جملة أبيات له:

ومتى تولى آل أحمد مسلم

قتلوه أو وصموه بالإلحاد

ويقول إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، يذكر العلويين، الذين قتلهم المنصور، ويقال: إن القائل هو غالب الهمداني.

أصبح آل الرسول أحمد في

الناس كذي عرة به جرب

ويقول دعبل بن علي الخزاعي في رثاء الرضا، وهو شعر معروف، ومشهور، وقد أنشده للمأمون نفسه:

ولـيس حـي من الأحياء نعلمه

من ذي يمان، ولا بكر، ولا مضر

إلا وهـم شـركاء فـي دمـائهم

كـما تـشارك أيسار على جزر

قـتلاً وأسـراً وتـحريقاً ومنهبة

فـعل الغزاة بأهل الروم والخزر

أرى أمـية مـعذورين إن فعلوا

ولا أرى لـبني العباس من عذر

أما أبو فراس الحمداني فيقول:

ما نال منهم بنو حرب وإن عظمت

تـلك الـجرائر إلا دون نيلكم(١)

____________

(١) زهر الآداب هامش ج ٢ من المستطرف ص ٢٤٦ والشعر والشعراء ص ٥٤٧، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة، المجلد الأول جزء ١ ص ٢٥٤، وطبقات الشعراء ص ٢٤٦، وفيه في ص ٢٤٤: أن الرشيد بعد سماعه لمدائح النمري في أهل البيت، أمر أبا عصمة الشيعي بأن يخرج من ساعته إلى الرقة، ليسل لسان منصور من قفاه، ويقطع يده. ورجله. ثم يضرب عنقه، ويحمل إليه رأسه، بعد أن يصلب بدنه، فخرج أبو عصمة لذلك، فلما صار بباب الرقة استقبلته جنازة النمري، فرجع إلى الرشيد فأعلمه، فقال له الرشيد (ويلي عليك يا بن الفاعلة، فألا إذا صادفته ميتا فأحرقته بالنار)!.

٨٢

ويقول علي بن العباس. الشاعر المعروف بابن الرومي، مولى المعتصم من قصيدة له:

بني المصطفى كم يأكل الناس شلوكم

لـبـلواكم عـمـا قـليل مـفرح

أكـــل أوان لـلـنبي مـحـمد

قـتـيل زكـي بـالدماء مـضرج

إلى أن قال:

أفي الحق أن يمسوا خماصاً وأنتم

يـكـاد أخـوكم بـطنة يـتبعج

وتـمشون مختالين في حجراتكم

ثـقال الـخطى اكفالكم تترجرج

ولـيدهم بـادي الطوى ووليدكم

مـن الـريف ريان العظام خدلج

ولم تقنعوا حتى استثارت قبورهم

كـلابكم فـيها بـهيم وديـزج

والقصيدة طويلة جداً، من أرادها فليراجعها.

نصوص أخرى:

يقول فان فلوتن: (.. ولا غرو، فإن العلويين لم يلقوا من الاضطهاد مثل ما لقوا في عهد الأولين من خلفاء بني العباس..)(٢) .

ويقول الخضري: (.. فكان نصيب آل علي في خلافة بني هاشم، أشد وأقسى مما لاقوه في عهد خصومهم من بني أمية، فقتلوا، وشردوا كل مشرد، وخصوصاً في زمن المنصور، والرشيد، والمتوكل من بني العباس. وكان اتهام شخص في هذه الدولة بالميل إلى واحد من بني

____________

(١) سوف نورد قصيدة أبي فراس، وهي المعروفة بـ‍ (الشافية) وكذلك شطراً من قصيدة دعبل، في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

(٢) السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات ص ١٣٣.

٨٣

علي كافيا لإتلاف نفسه، ومصادرة ماله. وقد حصل فعلاً لبعض الوزراء، وغيرهم الخ)(١) .

ولما دخل إبراهيم بن هرمة، المعاصر للمنصور المدينة، أتاه رجل من العلويين، فسلم عليه، فقال له إبراهيم: (تنح عني، لا تشط بدمي)(٢) .

بل يظهر من قضية أخرى لابن هرمة أن العباسيين كانوا يعاقبون حتى على حب أهل البيتعليهم‌السلام في زمن الأمويين، فإنه ـ أعني ابن هرمة ـ عندما سئل في عهد المنصور عن قوله في عهد الأمويين:

ومهما ألام على حبهم

فإني أحب بني فاطمة

أجاب: (من عض ببظر أمه).

فقال له ابنه: ألست قائلها؟!

قال: بلى.

قال: فلم تشتم نفسك؟!

قال: (أليس يعض الرجل ببظر أمه خير له من أن يأخذه ابن قحطبة؟)(٣) بل إن الجلودي الذي أمره الرشيد بالإغارة على دور آل أبي طالب ـ كما قدمنا ـ قد قال للمأمون، عندما جعل ولاية العهد للرضا:

____________

(١) محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية ج ١ ص ١٦١.

(٢) تاريخ بغداد ج ٦ ص ١٢٩، وحياة الإمام موسى بن جعفر ج ٢ ص ١٨٤.

(٣) طبقات الشعراء لابن المعتز ص ٢٠، ٢١، والأغاني ج ٤ ص ١١٠، وقاموس الرجال ج ١٠ ص ٢٦٩، نقلاً عن تنبيه البكري، وملحقات إحقاق الحق ج ٩ ص ٦٩٠ نقلاً عن الحضرمي في رشفة الصادي ص ٥٦ طبع القاهرة.

٨٤

(أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تخرج هذا الأمر الذي جعله الله لكم، وخصكم به، وتجعله في أيدي أعدائكم، ومن كان آباؤك يقتلونهم، ويشردونهم في البلاد..)(١) .

وأمر الرشيد عامله على المدينة: (بأن يضمن العلويين بعضهم بعضاً)(٢) وكانوا يعرضون على السلطات، فمن غاب منهم عوقب!

والمأمون أيضاً يعترف:

وجاء في كتاب المأمون، الذي أرسله إلى العباسيين، بعد ما ذكر حسن سياسة الإمام عليعليه‌السلام مع ولد العباس ما يلي:

(.. حتى قضى الله بالأمر إلينا، فأخفناهم، وضيقنا عليهم، وقتلناهم أكثر من قتل بني أمية إياهم، ويحكم، إن بني أمية قتلوا من سل سيفاً، وإنا معشر بني العباس قتلناهم جملاً.. فلتسألن أعظم الهاشمية بأي ذنب قتلت، ولتسألن نفوس ألقيت في دجلة والفرات، ونفوس دفنت ببغداد، والكوفة أحياء الخ). وسنورد الرواية، ونذكر مصادرها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله.

جانب من رسالة الخوارزمي لأهل نيشابور:

وحسب القارئ أن يرجع إلى مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني، مع أنه لم يستوف كل شيء، وإنما اكتفى بذكر بعض منهم، وكذلك إلى ما ذكره ابن الساعي في مختصر أخبار الخلفاء ص ٢٦، وغيرها. وغير ذلك من كتب التاريخ والرواية، ليعلم مقدار الظلم والعسف الذي حاق بأبناء علي، وشيعتهم في تلك الحقبة من الزمن..

____________

(١) بحار الأنوار ج ٤٩ ص ١٦٦، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٦٧.

(٢) لقد كان ذلك قبل الرشيد أيضاً فراجع تاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢١٥، فإنه قال: (.. وما زال آل أبي طالب يكفل بعضهم بعضاً، ويعرضون، فغاب إلخ).

ثم يسوق واقعة فخ المشهورة، وبعض أسبابها.. ولا بأس بمراجعة الكامل لابن الأثير ج ٥ ص ٧٥ وغيره..

٨٥

وحسبنا هنا بعد كل الذي قدمناه، أن نذكر فقرات من رسالة أبي بكر الخوارزمي، التي أرسلها إلى أهل نيشابور، يقول أبو بكر، بعد أن ذكر كثيراً من الطالبيين، الذين قتلهم الأمويون، والعباسيون ـ ومنهم الرضا الذي تسمم بيد المأمون ـ:

(فلما انتهكوا ذلك الحريم، واقترفوا ذلك الإثم العظيم، غضب الله عليهم، وانتزع الملك منهم، فبعث عليهم (أبا مجرم) لا أبا مسلم، فنظر لا نظر الله إليه إلى صلابة العلوية، وإلى لين العباسية، فترك تقاه، واتبع هواه، وباع آخرته بدنياه، بقتله عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. وسلط طواغيت خراسان، وأكراد أصفهان. وخوارج سجستان على آل أبي طالب، يقتلهم تحت كل حجر ومدر، ويطلبهم في كل سهل وجبل، حتى سلط عليه أحب الناس إليه، فقتله كما قتل الناس في طاعته، وأخذه بما أخذ الناس في بيعته، ولم ينفعه: أن أسخط الله برضاه، وأن ركب ما لا يهواه، وخلت من الدوانيقي(١) الدنيا، فخبط فيها عسفا، وتقضى فيها جوراً وحيفاً. وقد امتلأت سجونه بأهل بيت الرسالة، ومعدن الطيب والطهارة، قد تتبع غائبهم، وتلقط حاضرهم، حتى قتل عبد الله بن محمد بن عبد الله الحسني بالسند، على يد عمر بن هشام الثعلبي، فما ظنك بمن قرب متناوله عليه، ولأن مسه على يديه.

____________

(١) في مجمع الفوائد: (وخلت إلى الدوانيقي) ولعله هو الصواب.

٨٦

وهذا قليل في جنب ما قتله هارون منهم، وفعله موسى قبله بهم، فقد عرفتم ما توجه على الحسن(١) بن علي بفخ من موسى، وما اتفق على علي بن الأفطس الحسيني من هارون، وما جرى على أحمد بن علي الزيدي، وعلى القاسم بن علي الحسيني من حبسه، وعلى غسان بن حاضر الخزاعي، حين أخذ من قبله، والجملة أن هارون مات وقد حصد شجرة النبوة، واقتلع غرس الإمامة. وأنتم أصلحكم الله، أعظم نصيباً في الدين من الأعمش، فقد شتموه، ومن شريك، فقد عزلوه، ومن هشام بن الحكم، فقد أخافوه، ومن علي بن يقطين، فقد اتهموه).

إلى أن يقول: بعد كلام له عن بني أمية: (.. وقل في بني العباس، فإنك ستجد بحمد الله مقالاً، وجل في عجائبهم، فإنك ترى ما شئت مجالاً.

يجبى فيؤهم، فيفرق على الديلمي، والتركي، ويحتمل إلى المغربي، والفرغاني. ويموت إمام من أئمة الهدى، وسيد من سادات بيت المصطفى، فلا تتبع جنازته، ولا تجصص مقبرته، ويموت (ضراط) لهم، أو لاعب أو مسخرة، أو ضارب، فتحضر جنازته العدول والقضاة، ويعمر مسجد التعزية عنه القواد والولاة..

ويسلم فيهم من يعرفونه دهريا، أو سوفسطائيا، ولا يتعرضون لمن يدرس كتاباً فلسفياً ومانوياً، ويقتلون من عرفوه شيعياً، ويسفكون دم من سمى ابنه علياً..

ولو لم يقتل من شيعة أهل البيت غير المعلى بن خنيس، قتيل داوود ابن علي، ولو لم يحبس فيهم غير أبي تراب المروزي، لكان ذلك جرحاً لا يبرأ، وثائرة لا تطفأ، وصدعاً لا يلتئم، وجرحا لا يلتحم.

____________

(١) الظاهر أن الصحيح هو: (الحسين) كما في مجمع الفوائد.

٨٧

وكفاهم أن شعراء قريش قالوا في الجاهلية أشعاراً يهجون بها أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ويعارضون فيها أشعار المسلمين، فحملت أشعارهم. ودونت أخبارهم، ورواها الرواة، مثل: الواقدي، ووهب بن منبه التميمي، ومثل الكلبي، والشرقي ابن القطامي، والهيثم بن عدي، ودأب بن الكناني، وأن بعض شعراء الشيعة يتكلم في ذكر مناقب الوصي، بل ذكر معجزات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسلم، فيقطع لسانه، ويمزق ديوانه، كما فعل بعبد الله بن عمار البرقي، وكما أريد بالكميت بن زيد الأسدي، وكما نبش قبر منصور بن الزبرقان النمري، وكما دمر على دعبل بن علي الخزاعي. مع رفقتهم من مروان بن أبي حفصة اليمامي، ومن علي بن الجهم الشامي. ليس إلا لغلوهما في النصب، واستيجابهما مقت الرب، حتى إن هارون بن الخيزران، وجعفرا المتوكل على الشيطان، لا على الرحمان، كانا لا يعطيان مالاً. ولا يبذلان نوالاً، إلا لمن شتم آل أبي طالب، ونصر مذهب النواصب، مثل: عبد الله ابن مصعب الزبيري، ووهب بن وهب البختري، ومن الشعراء مثل: مروان بن أبي حفصة الأموي، ومن الأدباء مثل: عبد الملك بن قريب الأصمعي. فأما في أيام جعفر فمثل: بكار بن عبد الله الزبيري، وأبي السمط ابن أبي الجون الأموي، وابن أبي الشوارب العبشمي) وبعد كلام له عن بني أمية أيضاً قال:

(وما هذا بأعجب من صياح شعراء بني العباس على رؤوسهم بالحق، وإن كرهوه، وبتفضيل من نقصوه وقتلوه، قال المنصور بن الزبرقان على بساط هارون:

آل الـنبي ومـن يـحبهم

يـتطامنون مـخافة القتل

أمن النصارى واليهود وهم

مـن أمة التوحيد في أزل

وقال دعبل، وهو صنيعة بني العباس وشاعرهم:

ألـم تر أني مذ ثمانين حجة

أروح، وأغدو دائم الحسرات

أرى فيئهم في غيرهم متقسما

وأيـديهم من فيئهم صفرات

٨٨

وقال علي بن العباس الرومي، وهو مولى المعتصم:

تـأليت أن لا يبرح المرء منكم

يـشل عـلى حر الجبين فيعفج

كـذاك بني العباس تصبر منكم

ويصبر للسيف الكمي المدجج(١)

لـكـل أوان لـلـنبي مـحمد

قـتيل زكي بالدماء مضرج(٢)

وقال إبراهيم بن العباس الصولي ـ وهو كاتب القوم وعاملهم ـ في الرضا لما قربه المأمون:

يـمن عـليكم بأموالكم

وتعطون من مئة واحدا

وكيف لا يتنقصون قوماً يقتلون بني عمهم جوعاً وسغباً ويملأون ديار الترك والديلم فضة وذهبا، يستنصرون المغربي والفرغاني، ويجفون المهاجري والأنصاري، ويولون أنباط السواد وزارتهم، وتلف العجم والطماطم قيادتهم، ويمنعون آل أبي طالب ميراث أمهم، وفيء جدهم. يشتهي العلوي الأكلة، فيحرمها، ويقترح على الأيام الشهوة فلا يطعمها، وخراج مصر والأهواز، وصدقات الحرمين والحجاز، تصرف إلى ابن أبي مريم المديني، وإلى إبراهيم الموصلي، وابن جامع السهمي، وإلى زلزل الضارب، وبرصوما الزامر، وأقطاع بختيشوع النصراني قوت أهل بلد، وجاري بغا التركي، والافشين الأشروسني كفاية أمة ذات عدد..

____________

(١) في مقاتل الطالبيين: (لذاك بني العباس يصبر مثلكم ويصبر للموت).

(٢) في مقاتل الطالبيين: (أكل أوان).

٨٩

والمتوكل زعموا يتسرى باثني عشر ألف سرية، والسيد من سادات أهل البيت يتعفف بزنجية، أو سندية. وصفوة مال الخراج مقصورة على أرزاق الصفاعنة، وعلى موائد المخاتنة، وعلى طعمة الكلابين، ورسوم القرادين، وعلى مخارق وعلوية المغني، زرزر، وعمر بن بانة المهلبي، ويبخلون على الفاطمي بأكلة أو شربة، ويصارفونه على دانق وحبة، ويشترون العوادة بالبدر، ويجرون لها ما يفي برزق عسكر. والقوم الذين أحل لهم الخمس، وحرمت عليهم الصدقة، وفرضت لهم الكرامة والمحبة، يتكففون ضراً، ويهلكون فقراً، ويرهن أحدهم سيفه، ويبيع ثوبه، وينظر إلى فيئة بعين مريضة، ويتشدد على دهره بنفس ضعيفة، ليس له ذنب إلا أن جده النبي، وأبوه الوصي، وأمه فاطمة، وجدته خديجة، ومذهبه الإيمان، وإمامه القرآن. وحقوقه مصروفة إلى القهرمانة والمضرطة وإلى المغمزة، إلى المزررة، وخمسه مقسوم على نقار الديكة الدمية، والقردة، وعلى رؤوس اللعبة واللعبة، وعلى مرية الرحلة..

وماذا أقول في قوم حملوا الوحوش على النساء المسلمات، وأجروا لعبادة وذويه الجرايات، وحرثوا تربة الحسينعليه‌السلام بالفدان، ونفوا زواره إلى البلدان، وما أصف من قوم هم: نطف السكارى في أرحام القيان؟ وماذا يقال في أهل بيت منهم نبع البغا، وفيهم راح التخنيث وغداً، وبهم عرف اللواط؟!. كان إبراهيم بن المهدي مغنياً، وكان المتوكل مؤنثاً موضعاً، وكان المعتز مخنثاً، وكان ابن زبيدة معتوهاً مفركاً، وقتل المأمون أخاه، وقتل المنتصر أباه، وسم موسى بن المهدي أمه، وسم المعتضد عمه. ولقد كان في بني أمية مخازي تذكر، ومعائب تؤثر).

٩٠

وبعد أن عدد بعض مخازي بني أمية، ومعائبهم قال:

(.. وهذه المثالب مع عظمها وكثرتها، ومع قبحها وشنعتها، صغيرة وقليلة في جنب مثالب بني العباس، الذين بنوا مدينة الجبارين، وفرقوا في الملاهي والمعاصي أموال المسلمين.. إلى آخر ما قال..)(١) .

هذا جانب من رسالة الخوارزمي، وقد كنت أود أن أثبتها بتمامها، لكنني رأيت أن المجال لا يتسع لذلك. وعلى كل فإن:

ذلك كله غيض من فيض. ولعل فيما ذكرناه كفاية..

سياسة العباسيين مع الرعية

نظرة عامة:

لا نريد في هذا الفصل أن نعرض لأنواع القبائح، التي كان العباسييون يمارسونها، فإن ذلك مما لا يمكن الإلمام به واستقصاؤه في هذه العجالة.

____________

(١) راجع: رسائل الخوارزمي طبع القسطنطينية سنة ١٢٩٧ من ص ١٣٠، إلى ص ١٤٠، ونقل شطراً كبيراً منها: سعد محمد حسن في كتابه: المهدية في الإسلام ابتداء من ص ٥٨ وذكر شطراً منها أيضاً الدكتور أحمد أمين في كتابه ضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٧ فما بعدها، فراجع. وهي موجودة بتمامها في مجموعة خطية من تأليف سيدي الوالد أيده الله، سماها: (مجمع الفوائد، ومجمل العوائد) ابتداء من ص ٤٥..

٩١

وإنما نريد فقط أن نعطي لمحة سريعة عن سيرتهم السيئة في الناس، ومدى اضطهادهم وظلمهم لهم، وجورهم عليهم، الأمر الذي أسهم إسهاما كبيراً في كشف حقيقتهم، وبيان واقعهم أمام الملأ.. حتى لقد قال الشعراء في وصف الحالة العامة في زمن خلفائهم الشيء الكثير، فمن ذلك قول سليم العدوي في الثورة على الوضع القائم:

حتى متى لا نرى عدلاً نسر به

ولا نـرى لـولاة الحق أعوانا

مـستمسكين بـحق قائمين به

إذا تـلون أهـل الجور ألوانا

يـا لـلرجال لداء لا دواء له

وقائد ذي عمي يقتاد عميانا(١)

وقال سديف:

____________

(١) المستطرف ج ١ ص ٩٧، وطبيعة الدعوة العباسية ص ٢٧٢، وضحى الإسلام ج ٢ ص ٣٧.

٩٢

إنـا لـنأمل أن تـرتد ألفتنا

بعد التباعد والشحناء والإحن

وتـنقضي دولة أحكام قادتها

فينا كأحكام قوم عابدي وثن

فكتب المنصور إلى عبد الصمد بن علي بأن: يدفنه حيا، ففعل(١) .

وقد ذكر أبو الفرج أبياتاً كثيرة بالإضافة إلى هذين البيتين، ونسبها يحيى بن عبد الله بن الحسن، بحضرة الرشيد، إلى عبد الله بن مصعب الزبيري، ومن جملتها قوله:

فـطالما قد بروا في الجور أعظمنا

بري الصناع قداح النبع بالسفن(٢)

وقال آخر، وهو أحمد بن أبي نعيم، الذي نفاه المأمون بسبب هذا البيت إلى السند:

ما أحسب الجور ينقضي وعلى

الـناس أمير من آل عباس(٣)

وقد تقدم قول أبي عطاء السندي، المتوفى سنة ١٨٠ ه‍:

وقال الدكتور أحمد محمود صبحي: (.. لكن ذلك المثل الأعلى للعدالة، والمساواة الذي انتظره الناس من العباسيين، قد أصبح وهما من الأوهام، فشراسة المنصور والرشيد، وجشعهم، وجور أولاد علي بن

____________

(١) راجع: العمدة لابن رشيق ج ١ ص ٧٥، ٧٦، والعقد الفريد، طبع دار الكتاب العربي ج ٥ ص ٨٧، وهامش طبقات الشعراء ص ٤١.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٤٧٦، ٤٧٧.

(٣) راجع: وفيات الأعيان: ترجمة يحيى بن أكثم، ومروج الذهب ج ٣ ص ٤٣٥، وضحى الإسلام ج ٢ ص ٣٨، ونهاية الإرب ج ٨ ص ١٧٥، وطبيعة الدعوة العباسية ص ٢٧٣، وطبقات الشعراء ص ٣٧٨، لكنه نسبه لابن أبي خالد، لكن في العقد الفريد ج ٦ ص ٤١٨، قد نسب يحيى بن أكثم هذا البيت إلى دعبل.

وفيه: أنه هو الذي نفي إلى السند.

٩٣

عيسى، وعبثهم بأموال المسلمين، يذكرنا بالحجاج، وهشام، ويوسف ابن عمرو الثقفي، وعم الاستياء أفراد الشعب، بعد أن استفتح أبو عبد الله، المعروف بـ‍ (السفاح) وكذلك المنصور بالإسراف في سفك الدماء، على نحو لم يعرف من قبل)(١) .

ويقول صاحب إمبراطورية العرب: (.. إنه بالرغم من أن جيش خراسان هو الذي أوصل العباسيين إلى الملك، فإن الفتن في خراسان ظلت قائمة في عهد العباسيين، كما كانت في عهد الأمويين. وكان الشعار الذي رفعه الخراسانيون الآن: أنهم هم الذين أوصلوا (آل البيت) إلى الحكم، لإقامة عهد من الرحمة والعدل، لا لإقامة عهد آخر من الطغيان، المتعطش إلى سفك الدماء.. إلى أن يقول:

لكن الشيء الذي لا ريب فيه: هو أن الأحلام بإقامة عهد السلام والعدل، التي كانت السبب في الثورة العامة ضد الأمويين قد تبخرت الآن، ولو لم يكن العباسيون أسوأ حالاً من الأمويين، فإنهم لم يكونوا ـ على أي حال ـ خيراً منهم)(٢) . وقريب منه كلام غيره(٣) وستأتي في فصل: آمال المأمون إلخ. عبارة فان فلوتن الهامة، والقيمة عن الحكم العباسي، وسياساته مع الرعية. فانتظر.

ولعل قصيدة أبي العتاهية، التي مطلعها:

من مبلغ عني الإمام

نـصائحاً مـتوالية

____________

(١) نظرية الإمامة ص ٣٨١، لكن كنية السفاح هي: (أبو العباس) لا أبو عبد الله و عبد الله هو: اسمه، واسم المنصور أيضاً، الذي كان أكبر من السفاح.

(٢) إمبراطورية العرب ص ٤٥٢.

(٣) راجع: حياة الإمام موسى بن جعفر ٢ ص ١٦٢ عن كتاب: (النكبات) للريحاني، وضحى الإسلام ج ١ ص ١٢٧ حتى ١٣١.

٩٤

تعبر تعبيراً صادقاً عن الحالة العامة، التي كانت سائدة آنذاك، وهي معروفة ومشهورة ومذكورة في ديوانه ص ٣٠٤. وهي بحق من الوثائق الهامة. المعبرة عن واقع الحياة في تلك الفترة من الزمن.

تفصيل مواقف الخلفاء مع الرعية:

وبعد هذا. وإذا ما أردنا أن نقف عند بعض جنايات وجرائم كل واحد منهم فإننا نقول:

أما السفاح:

الذي أظهر نفسه في صورة مهدي(١) .

فهو الذي يقول عنه المؤرخون: إنه: (كان سريعاً إلى سفك الدماء، فاتبعه عماله في ذلك، في المشرق والمغرب، واستنوا بسيرته، مثل: محمد بن الأشعث بالمغرب، وصالح بن علي بمصر، وخازم بن خزيمة، وحميد بن قحطبة، وغيرهم)(٢) . حتى لقد خرج عليه شريك بن شيخ المهري، الذي كان ـ على ما يظهر ـ من دعاة العباسيين ـ خرج عليه ـ ببخارا، في أكثر من ثلاثين ألفاً، فقال: (ما على هذا بايعنا آل محمد، تسفك الدماء،

____________

(١) البداية والنهاية ج ١ ص ٦٩ والتنبيه والإشراف ص ٢٩٢.

(٢) مروج الذهب للمسعودي ج ٣ ص ٢٢٢، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٥٩. ومشاكلة الناس لزمانهم لليعقوبي ص ٢٢، وليراجع إمبراطورية العرب ص ٤٣٥.

٩٥

ويعمل بغير الحق..)(١) فوجه إليه السفاح أبا مسلم، فقتله، ومن معه.. وقضية عامل السفاح ـ وهو أخوه، وقيل: ابن أخيه، يحيى ـ مع أهل الموصل، حيث ذبح الآلاف الكثيرة منهم في المسجد. هذه القضية معروفة ومشهورة.

وينص المؤرخون، على أنه: لم يبق من أهل الموصل على كثرتهم إلا أربع مئة إنسان، صدموا الجند، فأفرجوا لهم. كما أنه أمر جنده، فبقوا ثلاثة أيام يقتلون النساء، لأنه سمع أنهن يبكين رجالهن. وينص المؤرخون أيضاً: على أن نفوس أهل الموصل قد ذلت بعد تلك المذبحة، ولم يسمع لهم بعدها صوت، ولا قامت لهم قائمة(٢) .

وعندما سألت السفاح زوجته أم سلمة، بنت يعقوب بن سلمة: (لأي شيء استعرض ابن أخيك أهل الموصل بالسيف؟!. قال لها: وحياتك ما أدري..)(٣) !!.

وقد تقدمت عبارة الدكتور أحمد محمود صبحي عن السفاح والمنصور معاً عن قريب.

____________

(١) الكامل لابن الأثير ج ٤ ص ٣٤٢، والإمامة والسياسة ج ٢ ص ١٣٩، وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٣٥٤ طبع صادر، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٥٦، وتاريخ التمدن الإسلامي ج ٢ ص ٤٠٢، وغيرهم.. وفي كتاب طبيعة الدعوة العباسية ص ٢٣٠ قال: إنه (لذلك نقل ولاءه للعلويين، وثار ببخارا، وانضم إليه أنصار العلويين في خراسان، وكذلك ولاة العباسيين على بخارا، وبرزم، وكانت حركته شعبية. وجابه أبو مسلم صعوبات كبيرة في القضاء عليها..) انتهى.

(٢) راجع تفاصيل هذه القضية في: النزاع والتخاصم للمقريزي ص ٤٨، ٤٩، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ٢١٢، حوادث سنة ١٣٢، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ١٧٧، وغاية المرام للموصلي ص ١١٥، وتاريخ اليعقوبي، طبع صادر ج ٢ ص ٣٥٧، وشرح ميمية أبي فراس ص ٢١٦.

(٣) النزاع والتخاصم للمقريزي ص ٤٩، وغير ذلك.

٩٦

وأما المنصور:

الذي أظهر نفسه في صورة مهدي كما يظهر من قول أبي دلامة مخاطباً أبا مسلم الذي قتله المنصور:

أبـا مـجرم مـا غير الله نعمة

عـلى عـبده حتى يغيرها العبد

أفـي دولة المهدي حاولت غدرة

ألا إن أهل الغدر آباءك الكرد(١)

والذي قتل خلقاً كثيراً حتى استقام له الأمر(٢) .

فأمره في الظلم والجور وانتهاك الحرمات أشهر من أن يذكر، حتى لقد أنكر عليه ذلك: (.. رجل من أعظم الدعاة قدراً، وأعظمهم غناء، وهو أبو الجهم بن عطية، مولى باهلة. وهو الذي أخرج أبا العباس السفاح من موضعه الذي أخفاه فيه أبو سلمة، حفص بن سليمان الخلال، وحرسه، وقام بأمره حتى بويع بالخلافة، فكان أبو العباس يعرف له ذلك. وكان أبو مسلم يثق به، ويكاتبه.

فلما استخلف أبو جعفر المنصور، وجار في أحكامه، قال أبو الجهم: ما على هذا بايعناهم، إنما بايعناهم على العدل، فأسرها أبو جعفر في نفسه، ودعاه ذات يوم. فتغدى عنده، ثم سقاه شربة من سويق اللوز، فلما وقعت في جوفه هاج به وجع، فتوهم: أنه قد سم، فوثب، فقال له المنصور: إلى أين يا أبا الجهم؟! فقال: إلى حيث أرسلتني، ومات بعد يوم أو يومين فقال:

____________

(١) عيون الأخبار لابن قتيبة ج ١ ص ٢٦ والكنى والألقاب ج ١ ص ١٥٨. ويحتمل أن يقصد بالمهدي هنا: السفاح.

(٢) فوات الوفيات ج ١ ص ٢٣٢، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٥٩، وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٣٢٤.

٩٧

إحـذر سـويق الـلوز لا تشربنه

فإن سويق اللوز أردى أبا الجهم(١)

وأنكر عليه ذلك أيضاً ـ بالإضافة إلى عمه كما تقدم ـ جماعة من قواده، فقاموا عليه، ودعوا الناس إلى موالاة أهل البيت، فحاربهم عبد الرحمان الأزدي سنة ١٤٠ ه‍. فقتل طائفة منهم، وحبس آخرين(٢) .

وقال الطبري في حوادث سنة ١٤٠ ه‍. أيضاً: (.. وفيها ولي أبو جعفر عبد الجبار بن عبد الرحمن خراسان، فقدمها، فأخذ بها ناساً من القواد، وذكر أنه اتهمهم بالدعاء إلى ولد علي بن أبي طالب، منهم: مجاشع بن حريث الأنصاري، وأبو المغيرة، مولى لبني تميم، واسمه خالد ابن كثير، وهو صاحب قوهستان، والحريش بن محمد الذهلي، ابن عم داوود، فقتلهم وحبس الجنيد بن خالد بن هريم التغلبي، ومعبد بن الخليل المزني، بعد ما ضربهما ضرباً مبرحاً، وحبس عدة من وجوه قواد أهل خراسان..)(٣) .

ولعل من الأمور الجديرة بالملاحظة هنا: أن المنصور كان يعاشر الراوندية القائلين بألوهيته، ولا ينهاهم ولا يردعهم عن مقالتهم تلك، وعندما سأله أحد المسلمين عن ذلك قال له ـ على ما في تاريخ الطبري ـ: (لأن يكونوا في معصية الله وطاعتنا، أحب إلي من أن يكونوا في طاعة الله ومعصيتنا..).

ولكنه عندما ثاروا عليه في الهاشمية، وضع فيهم السيف وقتلهم، ولكن لا لأجل مقالتهم الشنيعة تلك، وإنما لأجل عدم طاعتهم له!.

____________

(١) النزاع والتخاصم للمقريزي ص ٥٢، وليراجع: الوزراء والكتاب ص ١٣٦ ـ ١٣٧ وفيه: أن أبا الجهم كان وزيرا للسفاح.

(٢) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٧٥.

(٣) الطبري، طبع ليدن ج ١٠ ص ١٢٨.

٩٨

هذا.. وعندما قال لعبد الرحمان الإفريقي، رفيق صباه: (كيف رأيت سلطاني من سلطان بني أمية؟).

أجابه عبد الرحمان: (ما رأيت في سلطانهم شيئاً من الجور إلا رأيته في سلطانك..)(١) .

وعندما قدم عليه عبد الرحمان هذا من إفريقيا، ودخل عليه، بعد أن بقي ببابه شهراً، لا يستطيع الوصول إليه، قال له عبد الرحمان: (ظهر الجور ببلادنا، فجئت لأعلمك، فإذا الجور يخرج من دارك. ورأيت أعمالاً سيئة، وظلماً فاشياً، ظننته لبعد البلاد منك، فجعلت كلما دنوت منك كان الأمر أعظم). فغضب المنصور. وأمر بإخراجه(٢) .

وقال لابن أبي ذؤيب: (أي الرجال أنا؟).

فأجابه: (أنت والله عندي شر الرجال، استأثرت بمال الله، ورسوله، وسهم ذوي القربى، واليتامى. والمساكين، وأهلكت الضعيف، وأتعبت القوي، وأمسكت أموالهم(٣) . وحج أبو جعفر فدعا ابن أبي ذئب، فقال: نشدتك الله، ألست أعمل بالحق؟ أليس تراني أعدل؟ فقال ابن أبي ذئب: أما إذ نشدتني بالله فأقول: اللهم لا، ما أراك تعدل، وإنك لجائر، وإنك لتستعمل الظلمة، وتترك أهل الخير(٤) .

____________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٦٨، وغيره.

(٢) تاريخ بغداد ج ١٠ ص ٢١٥، والإمام الصادق، والمذاهب الأربعة المجلد الأول جزء ٢ ص ٤٧٩.

(٣) الإمامة والسياسة ج ٢ ص ١٤٥.

(٤) صفة الصفوة ج ٢ ص ١٧٥.

٩٩

وعندما كان يطوف بالبيت سمع أعرابيا يقول: (اللهم إني أشكو إليك ظهور الفساد، وما يحول بين الحق وأهله، من الطمع)، فطلبه المنصور، فأتي به، فاستمع المنصور منه إلى شرح واف عن الظلم، والجور، والفساد، الذي كان فاشيا آنذاك، وهي قصة طويلة لا مجال لذكرها، وعلى مريدها المراجعة إلى مظانها(١) .

ولا بأس بمراجعة ما قاله له عمرو بن عبيد، في موعظته الطويلة له، ومن جملتها: (.. إن وراء بابك نيرانا تتأجج من الجور، والله، ما يحكم وراء بابك بكتاب الله، ولا بسنة نبيه إلخ..)(٢) .

وقد لقي أعرابياً بالشام، فقال له المنصور: (إحمد الله يا أعرابي، الذي دفع عنكم الطاعون بولايتنا أهل البيت).

فأجابه الأعرابي: (إن الله أعدل من أن يجمعكم علينا والطاعون). فسكت، ولم يزل يطلب له العلل حتى قتله(٣) .

____________

(١) المحاسن والمساوي من ص ٣٣٩، إلى ص ٣٤١ والعقد الفريد للملك السعيد ص ١١٦، ١١٧، ١١٨، وحياة الحيوان للدميري ج ٢ ص ١٩٠، ١٩١، طبع سنة ١٣١٩، وعيون الأخبار، لابن قتيبة ج ٢ من ص ٣٣٣، إلى ص ٣٣٦، والعقد الفريد ج ٢ ص ١٠٤، ١٠٥، طبع سنة ١٣٤٦، وضحى الإسلام ج ٢ ص ٤٠، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج ٢ ص ٤٨٠، نقلاً عن: تاريخ ابن الساعي ص ١٩، والفتوحات الإسلامية لدحلان ج ٢ ص ٤٤٥، حتى ٤٤٨ مطبعة مصطفى محمد. والموفقيات ص ٣٩٢، ٣٩٣ (٢) مرآة الجنان لليافعي ج ١ ص ٣٣٦، ٣٣٧، والمحاسن والمساوي، طبع صادر ص ٣٣٨، ٣٣٩، وعيون الأخبار، لابن قتيبة باختصار ج ٢ ص ٣٣٧، ونور القبس ص ٤٤.

(٣) روض الأخيار المنتخب من ربيع الأبرار ص ٨٦ وأساس الاقتباس، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ١٢٣، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٦٥، وفي كتاب طبيعة الدعوة العباسية ص ٢٧٣، نقلاً عن تاريخ دمشق لابن عساكر I ص ٣٩١: أن الذي قال للمنصور ذلك هو منصور بن جعونة الكلابي: وأن قوله له هو: (إن الله أعدل من أن يسلط علينا الطاعون والعباسيين معاً).

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409