الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)14%

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 409

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 206852 / تحميل: 8904
الحجم الحجم الحجم
الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

خوفهم ـ على العلويين يوسعونهم قتلا، وعسفاً وتشريداً، وأذاقوهم مختلف أنواع العذاب، التي لم تكن لتخطر على قلب بشر، بهدف استئصالهم من الوجود، ومحو آثارهم، ليصفو لهم الجو، ولا يبقى من يستطيع أن ينازعهم سلطانهم، الذي يجب أن يكون لهم وحدهم. أو بالأحرى حتى لا يبقى من من شأنه ذلك. حتى لقد نسي الناس فعال بني أمية معهم، عندما رأوا فعال بني العباس بهم. وحتى لقد رأينا أحد شعراء ذلك الوقت يقول:

تالله مـا فـعلت أمـية فـيهم

معشار ما فعلت بنو العباس(١)

وقال آخر ـ وهو أبو عطاء، أفلح بن يسار الندي، المتوفى سنة ١٨٠ ه‍. وهو من مخضرمي الدولتين: الأموية والعباسية: قال في زمن السفاح.

يـا لـيت جور بني مروان دام لنا

وليت عدل بني العباس في النار(٢)

وقال منصور بن الزبرقان النمري، المتوفى في خلافة الرشيد:

آل الـنبي ومـن يـحبها

يـتطامنون مـخافة القتل

أمـن النصارى واليهود هم

من أمة التوحيد في أزل(٣)

وقد أنشد الرشيد هذين البيتين بعد موت منصور هذا، فقال الرشيد، بعد أن أرسل إليه من يقتله، فوجده قد مات: (لقد هممت أن أنبش

____________

(١) شرح ميمية أبي فراس ص ١١٩.

(٢) المحاسن والمساوي ص ٢٤٦، والشعر والشعراء ص ٤٨٤، ونظرية الإمامة ص ٣٨٢، والمهدية في الإسلام ص ٥٥، وطبيعة الدعوة العباسية ص ٢٧٢.

(٣) الأزل: الضيق والشدة.

٨١

عظامه فأحرقها)(١) .. بل في رسالة الخوارزمي، الآتي شطر منها: أن قبره قد نبش بالفعل.

ويقول أبو حنيفة أو الطغرائي على اختلاف النسبة في جملة أبيات له:

ومتى تولى آل أحمد مسلم

قتلوه أو وصموه بالإلحاد

ويقول إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، يذكر العلويين، الذين قتلهم المنصور، ويقال: إن القائل هو غالب الهمداني.

أصبح آل الرسول أحمد في

الناس كذي عرة به جرب

ويقول دعبل بن علي الخزاعي في رثاء الرضا، وهو شعر معروف، ومشهور، وقد أنشده للمأمون نفسه:

ولـيس حـي من الأحياء نعلمه

من ذي يمان، ولا بكر، ولا مضر

إلا وهـم شـركاء فـي دمـائهم

كـما تـشارك أيسار على جزر

قـتلاً وأسـراً وتـحريقاً ومنهبة

فـعل الغزاة بأهل الروم والخزر

أرى أمـية مـعذورين إن فعلوا

ولا أرى لـبني العباس من عذر

أما أبو فراس الحمداني فيقول:

ما نال منهم بنو حرب وإن عظمت

تـلك الـجرائر إلا دون نيلكم(١)

____________

(١) زهر الآداب هامش ج ٢ من المستطرف ص ٢٤٦ والشعر والشعراء ص ٥٤٧، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة، المجلد الأول جزء ١ ص ٢٥٤، وطبقات الشعراء ص ٢٤٦، وفيه في ص ٢٤٤: أن الرشيد بعد سماعه لمدائح النمري في أهل البيت، أمر أبا عصمة الشيعي بأن يخرج من ساعته إلى الرقة، ليسل لسان منصور من قفاه، ويقطع يده. ورجله. ثم يضرب عنقه، ويحمل إليه رأسه، بعد أن يصلب بدنه، فخرج أبو عصمة لذلك، فلما صار بباب الرقة استقبلته جنازة النمري، فرجع إلى الرشيد فأعلمه، فقال له الرشيد (ويلي عليك يا بن الفاعلة، فألا إذا صادفته ميتا فأحرقته بالنار)!.

٨٢

ويقول علي بن العباس. الشاعر المعروف بابن الرومي، مولى المعتصم من قصيدة له:

بني المصطفى كم يأكل الناس شلوكم

لـبـلواكم عـمـا قـليل مـفرح

أكـــل أوان لـلـنبي مـحـمد

قـتـيل زكـي بـالدماء مـضرج

إلى أن قال:

أفي الحق أن يمسوا خماصاً وأنتم

يـكـاد أخـوكم بـطنة يـتبعج

وتـمشون مختالين في حجراتكم

ثـقال الـخطى اكفالكم تترجرج

ولـيدهم بـادي الطوى ووليدكم

مـن الـريف ريان العظام خدلج

ولم تقنعوا حتى استثارت قبورهم

كـلابكم فـيها بـهيم وديـزج

والقصيدة طويلة جداً، من أرادها فليراجعها.

نصوص أخرى:

يقول فان فلوتن: (.. ولا غرو، فإن العلويين لم يلقوا من الاضطهاد مثل ما لقوا في عهد الأولين من خلفاء بني العباس..)(٢) .

ويقول الخضري: (.. فكان نصيب آل علي في خلافة بني هاشم، أشد وأقسى مما لاقوه في عهد خصومهم من بني أمية، فقتلوا، وشردوا كل مشرد، وخصوصاً في زمن المنصور، والرشيد، والمتوكل من بني العباس. وكان اتهام شخص في هذه الدولة بالميل إلى واحد من بني

____________

(١) سوف نورد قصيدة أبي فراس، وهي المعروفة بـ‍ (الشافية) وكذلك شطراً من قصيدة دعبل، في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

(٢) السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات ص ١٣٣.

٨٣

علي كافيا لإتلاف نفسه، ومصادرة ماله. وقد حصل فعلاً لبعض الوزراء، وغيرهم الخ)(١) .

ولما دخل إبراهيم بن هرمة، المعاصر للمنصور المدينة، أتاه رجل من العلويين، فسلم عليه، فقال له إبراهيم: (تنح عني، لا تشط بدمي)(٢) .

بل يظهر من قضية أخرى لابن هرمة أن العباسيين كانوا يعاقبون حتى على حب أهل البيتعليهم‌السلام في زمن الأمويين، فإنه ـ أعني ابن هرمة ـ عندما سئل في عهد المنصور عن قوله في عهد الأمويين:

ومهما ألام على حبهم

فإني أحب بني فاطمة

أجاب: (من عض ببظر أمه).

فقال له ابنه: ألست قائلها؟!

قال: بلى.

قال: فلم تشتم نفسك؟!

قال: (أليس يعض الرجل ببظر أمه خير له من أن يأخذه ابن قحطبة؟)(٣) بل إن الجلودي الذي أمره الرشيد بالإغارة على دور آل أبي طالب ـ كما قدمنا ـ قد قال للمأمون، عندما جعل ولاية العهد للرضا:

____________

(١) محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية ج ١ ص ١٦١.

(٢) تاريخ بغداد ج ٦ ص ١٢٩، وحياة الإمام موسى بن جعفر ج ٢ ص ١٨٤.

(٣) طبقات الشعراء لابن المعتز ص ٢٠، ٢١، والأغاني ج ٤ ص ١١٠، وقاموس الرجال ج ١٠ ص ٢٦٩، نقلاً عن تنبيه البكري، وملحقات إحقاق الحق ج ٩ ص ٦٩٠ نقلاً عن الحضرمي في رشفة الصادي ص ٥٦ طبع القاهرة.

٨٤

(أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تخرج هذا الأمر الذي جعله الله لكم، وخصكم به، وتجعله في أيدي أعدائكم، ومن كان آباؤك يقتلونهم، ويشردونهم في البلاد..)(١) .

وأمر الرشيد عامله على المدينة: (بأن يضمن العلويين بعضهم بعضاً)(٢) وكانوا يعرضون على السلطات، فمن غاب منهم عوقب!

والمأمون أيضاً يعترف:

وجاء في كتاب المأمون، الذي أرسله إلى العباسيين، بعد ما ذكر حسن سياسة الإمام عليعليه‌السلام مع ولد العباس ما يلي:

(.. حتى قضى الله بالأمر إلينا، فأخفناهم، وضيقنا عليهم، وقتلناهم أكثر من قتل بني أمية إياهم، ويحكم، إن بني أمية قتلوا من سل سيفاً، وإنا معشر بني العباس قتلناهم جملاً.. فلتسألن أعظم الهاشمية بأي ذنب قتلت، ولتسألن نفوس ألقيت في دجلة والفرات، ونفوس دفنت ببغداد، والكوفة أحياء الخ). وسنورد الرواية، ونذكر مصادرها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله.

جانب من رسالة الخوارزمي لأهل نيشابور:

وحسب القارئ أن يرجع إلى مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني، مع أنه لم يستوف كل شيء، وإنما اكتفى بذكر بعض منهم، وكذلك إلى ما ذكره ابن الساعي في مختصر أخبار الخلفاء ص ٢٦، وغيرها. وغير ذلك من كتب التاريخ والرواية، ليعلم مقدار الظلم والعسف الذي حاق بأبناء علي، وشيعتهم في تلك الحقبة من الزمن..

____________

(١) بحار الأنوار ج ٤٩ ص ١٦٦، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٦٧.

(٢) لقد كان ذلك قبل الرشيد أيضاً فراجع تاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢١٥، فإنه قال: (.. وما زال آل أبي طالب يكفل بعضهم بعضاً، ويعرضون، فغاب إلخ).

ثم يسوق واقعة فخ المشهورة، وبعض أسبابها.. ولا بأس بمراجعة الكامل لابن الأثير ج ٥ ص ٧٥ وغيره..

٨٥

وحسبنا هنا بعد كل الذي قدمناه، أن نذكر فقرات من رسالة أبي بكر الخوارزمي، التي أرسلها إلى أهل نيشابور، يقول أبو بكر، بعد أن ذكر كثيراً من الطالبيين، الذين قتلهم الأمويون، والعباسيون ـ ومنهم الرضا الذي تسمم بيد المأمون ـ:

(فلما انتهكوا ذلك الحريم، واقترفوا ذلك الإثم العظيم، غضب الله عليهم، وانتزع الملك منهم، فبعث عليهم (أبا مجرم) لا أبا مسلم، فنظر لا نظر الله إليه إلى صلابة العلوية، وإلى لين العباسية، فترك تقاه، واتبع هواه، وباع آخرته بدنياه، بقتله عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. وسلط طواغيت خراسان، وأكراد أصفهان. وخوارج سجستان على آل أبي طالب، يقتلهم تحت كل حجر ومدر، ويطلبهم في كل سهل وجبل، حتى سلط عليه أحب الناس إليه، فقتله كما قتل الناس في طاعته، وأخذه بما أخذ الناس في بيعته، ولم ينفعه: أن أسخط الله برضاه، وأن ركب ما لا يهواه، وخلت من الدوانيقي(١) الدنيا، فخبط فيها عسفا، وتقضى فيها جوراً وحيفاً. وقد امتلأت سجونه بأهل بيت الرسالة، ومعدن الطيب والطهارة، قد تتبع غائبهم، وتلقط حاضرهم، حتى قتل عبد الله بن محمد بن عبد الله الحسني بالسند، على يد عمر بن هشام الثعلبي، فما ظنك بمن قرب متناوله عليه، ولأن مسه على يديه.

____________

(١) في مجمع الفوائد: (وخلت إلى الدوانيقي) ولعله هو الصواب.

٨٦

وهذا قليل في جنب ما قتله هارون منهم، وفعله موسى قبله بهم، فقد عرفتم ما توجه على الحسن(١) بن علي بفخ من موسى، وما اتفق على علي بن الأفطس الحسيني من هارون، وما جرى على أحمد بن علي الزيدي، وعلى القاسم بن علي الحسيني من حبسه، وعلى غسان بن حاضر الخزاعي، حين أخذ من قبله، والجملة أن هارون مات وقد حصد شجرة النبوة، واقتلع غرس الإمامة. وأنتم أصلحكم الله، أعظم نصيباً في الدين من الأعمش، فقد شتموه، ومن شريك، فقد عزلوه، ومن هشام بن الحكم، فقد أخافوه، ومن علي بن يقطين، فقد اتهموه).

إلى أن يقول: بعد كلام له عن بني أمية: (.. وقل في بني العباس، فإنك ستجد بحمد الله مقالاً، وجل في عجائبهم، فإنك ترى ما شئت مجالاً.

يجبى فيؤهم، فيفرق على الديلمي، والتركي، ويحتمل إلى المغربي، والفرغاني. ويموت إمام من أئمة الهدى، وسيد من سادات بيت المصطفى، فلا تتبع جنازته، ولا تجصص مقبرته، ويموت (ضراط) لهم، أو لاعب أو مسخرة، أو ضارب، فتحضر جنازته العدول والقضاة، ويعمر مسجد التعزية عنه القواد والولاة..

ويسلم فيهم من يعرفونه دهريا، أو سوفسطائيا، ولا يتعرضون لمن يدرس كتاباً فلسفياً ومانوياً، ويقتلون من عرفوه شيعياً، ويسفكون دم من سمى ابنه علياً..

ولو لم يقتل من شيعة أهل البيت غير المعلى بن خنيس، قتيل داوود ابن علي، ولو لم يحبس فيهم غير أبي تراب المروزي، لكان ذلك جرحاً لا يبرأ، وثائرة لا تطفأ، وصدعاً لا يلتئم، وجرحا لا يلتحم.

____________

(١) الظاهر أن الصحيح هو: (الحسين) كما في مجمع الفوائد.

٨٧

وكفاهم أن شعراء قريش قالوا في الجاهلية أشعاراً يهجون بها أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ويعارضون فيها أشعار المسلمين، فحملت أشعارهم. ودونت أخبارهم، ورواها الرواة، مثل: الواقدي، ووهب بن منبه التميمي، ومثل الكلبي، والشرقي ابن القطامي، والهيثم بن عدي، ودأب بن الكناني، وأن بعض شعراء الشيعة يتكلم في ذكر مناقب الوصي، بل ذكر معجزات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسلم، فيقطع لسانه، ويمزق ديوانه، كما فعل بعبد الله بن عمار البرقي، وكما أريد بالكميت بن زيد الأسدي، وكما نبش قبر منصور بن الزبرقان النمري، وكما دمر على دعبل بن علي الخزاعي. مع رفقتهم من مروان بن أبي حفصة اليمامي، ومن علي بن الجهم الشامي. ليس إلا لغلوهما في النصب، واستيجابهما مقت الرب، حتى إن هارون بن الخيزران، وجعفرا المتوكل على الشيطان، لا على الرحمان، كانا لا يعطيان مالاً. ولا يبذلان نوالاً، إلا لمن شتم آل أبي طالب، ونصر مذهب النواصب، مثل: عبد الله ابن مصعب الزبيري، ووهب بن وهب البختري، ومن الشعراء مثل: مروان بن أبي حفصة الأموي، ومن الأدباء مثل: عبد الملك بن قريب الأصمعي. فأما في أيام جعفر فمثل: بكار بن عبد الله الزبيري، وأبي السمط ابن أبي الجون الأموي، وابن أبي الشوارب العبشمي) وبعد كلام له عن بني أمية أيضاً قال:

(وما هذا بأعجب من صياح شعراء بني العباس على رؤوسهم بالحق، وإن كرهوه، وبتفضيل من نقصوه وقتلوه، قال المنصور بن الزبرقان على بساط هارون:

آل الـنبي ومـن يـحبهم

يـتطامنون مـخافة القتل

أمن النصارى واليهود وهم

مـن أمة التوحيد في أزل

وقال دعبل، وهو صنيعة بني العباس وشاعرهم:

ألـم تر أني مذ ثمانين حجة

أروح، وأغدو دائم الحسرات

أرى فيئهم في غيرهم متقسما

وأيـديهم من فيئهم صفرات

٨٨

وقال علي بن العباس الرومي، وهو مولى المعتصم:

تـأليت أن لا يبرح المرء منكم

يـشل عـلى حر الجبين فيعفج

كـذاك بني العباس تصبر منكم

ويصبر للسيف الكمي المدجج(١)

لـكـل أوان لـلـنبي مـحمد

قـتيل زكي بالدماء مضرج(٢)

وقال إبراهيم بن العباس الصولي ـ وهو كاتب القوم وعاملهم ـ في الرضا لما قربه المأمون:

يـمن عـليكم بأموالكم

وتعطون من مئة واحدا

وكيف لا يتنقصون قوماً يقتلون بني عمهم جوعاً وسغباً ويملأون ديار الترك والديلم فضة وذهبا، يستنصرون المغربي والفرغاني، ويجفون المهاجري والأنصاري، ويولون أنباط السواد وزارتهم، وتلف العجم والطماطم قيادتهم، ويمنعون آل أبي طالب ميراث أمهم، وفيء جدهم. يشتهي العلوي الأكلة، فيحرمها، ويقترح على الأيام الشهوة فلا يطعمها، وخراج مصر والأهواز، وصدقات الحرمين والحجاز، تصرف إلى ابن أبي مريم المديني، وإلى إبراهيم الموصلي، وابن جامع السهمي، وإلى زلزل الضارب، وبرصوما الزامر، وأقطاع بختيشوع النصراني قوت أهل بلد، وجاري بغا التركي، والافشين الأشروسني كفاية أمة ذات عدد..

____________

(١) في مقاتل الطالبيين: (لذاك بني العباس يصبر مثلكم ويصبر للموت).

(٢) في مقاتل الطالبيين: (أكل أوان).

٨٩

والمتوكل زعموا يتسرى باثني عشر ألف سرية، والسيد من سادات أهل البيت يتعفف بزنجية، أو سندية. وصفوة مال الخراج مقصورة على أرزاق الصفاعنة، وعلى موائد المخاتنة، وعلى طعمة الكلابين، ورسوم القرادين، وعلى مخارق وعلوية المغني، زرزر، وعمر بن بانة المهلبي، ويبخلون على الفاطمي بأكلة أو شربة، ويصارفونه على دانق وحبة، ويشترون العوادة بالبدر، ويجرون لها ما يفي برزق عسكر. والقوم الذين أحل لهم الخمس، وحرمت عليهم الصدقة، وفرضت لهم الكرامة والمحبة، يتكففون ضراً، ويهلكون فقراً، ويرهن أحدهم سيفه، ويبيع ثوبه، وينظر إلى فيئة بعين مريضة، ويتشدد على دهره بنفس ضعيفة، ليس له ذنب إلا أن جده النبي، وأبوه الوصي، وأمه فاطمة، وجدته خديجة، ومذهبه الإيمان، وإمامه القرآن. وحقوقه مصروفة إلى القهرمانة والمضرطة وإلى المغمزة، إلى المزررة، وخمسه مقسوم على نقار الديكة الدمية، والقردة، وعلى رؤوس اللعبة واللعبة، وعلى مرية الرحلة..

وماذا أقول في قوم حملوا الوحوش على النساء المسلمات، وأجروا لعبادة وذويه الجرايات، وحرثوا تربة الحسينعليه‌السلام بالفدان، ونفوا زواره إلى البلدان، وما أصف من قوم هم: نطف السكارى في أرحام القيان؟ وماذا يقال في أهل بيت منهم نبع البغا، وفيهم راح التخنيث وغداً، وبهم عرف اللواط؟!. كان إبراهيم بن المهدي مغنياً، وكان المتوكل مؤنثاً موضعاً، وكان المعتز مخنثاً، وكان ابن زبيدة معتوهاً مفركاً، وقتل المأمون أخاه، وقتل المنتصر أباه، وسم موسى بن المهدي أمه، وسم المعتضد عمه. ولقد كان في بني أمية مخازي تذكر، ومعائب تؤثر).

٩٠

وبعد أن عدد بعض مخازي بني أمية، ومعائبهم قال:

(.. وهذه المثالب مع عظمها وكثرتها، ومع قبحها وشنعتها، صغيرة وقليلة في جنب مثالب بني العباس، الذين بنوا مدينة الجبارين، وفرقوا في الملاهي والمعاصي أموال المسلمين.. إلى آخر ما قال..)(١) .

هذا جانب من رسالة الخوارزمي، وقد كنت أود أن أثبتها بتمامها، لكنني رأيت أن المجال لا يتسع لذلك. وعلى كل فإن:

ذلك كله غيض من فيض. ولعل فيما ذكرناه كفاية..

سياسة العباسيين مع الرعية

نظرة عامة:

لا نريد في هذا الفصل أن نعرض لأنواع القبائح، التي كان العباسييون يمارسونها، فإن ذلك مما لا يمكن الإلمام به واستقصاؤه في هذه العجالة.

____________

(١) راجع: رسائل الخوارزمي طبع القسطنطينية سنة ١٢٩٧ من ص ١٣٠، إلى ص ١٤٠، ونقل شطراً كبيراً منها: سعد محمد حسن في كتابه: المهدية في الإسلام ابتداء من ص ٥٨ وذكر شطراً منها أيضاً الدكتور أحمد أمين في كتابه ضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٧ فما بعدها، فراجع. وهي موجودة بتمامها في مجموعة خطية من تأليف سيدي الوالد أيده الله، سماها: (مجمع الفوائد، ومجمل العوائد) ابتداء من ص ٤٥..

٩١

وإنما نريد فقط أن نعطي لمحة سريعة عن سيرتهم السيئة في الناس، ومدى اضطهادهم وظلمهم لهم، وجورهم عليهم، الأمر الذي أسهم إسهاما كبيراً في كشف حقيقتهم، وبيان واقعهم أمام الملأ.. حتى لقد قال الشعراء في وصف الحالة العامة في زمن خلفائهم الشيء الكثير، فمن ذلك قول سليم العدوي في الثورة على الوضع القائم:

حتى متى لا نرى عدلاً نسر به

ولا نـرى لـولاة الحق أعوانا

مـستمسكين بـحق قائمين به

إذا تـلون أهـل الجور ألوانا

يـا لـلرجال لداء لا دواء له

وقائد ذي عمي يقتاد عميانا(١)

وقال سديف:

____________

(١) المستطرف ج ١ ص ٩٧، وطبيعة الدعوة العباسية ص ٢٧٢، وضحى الإسلام ج ٢ ص ٣٧.

٩٢

إنـا لـنأمل أن تـرتد ألفتنا

بعد التباعد والشحناء والإحن

وتـنقضي دولة أحكام قادتها

فينا كأحكام قوم عابدي وثن

فكتب المنصور إلى عبد الصمد بن علي بأن: يدفنه حيا، ففعل(١) .

وقد ذكر أبو الفرج أبياتاً كثيرة بالإضافة إلى هذين البيتين، ونسبها يحيى بن عبد الله بن الحسن، بحضرة الرشيد، إلى عبد الله بن مصعب الزبيري، ومن جملتها قوله:

فـطالما قد بروا في الجور أعظمنا

بري الصناع قداح النبع بالسفن(٢)

وقال آخر، وهو أحمد بن أبي نعيم، الذي نفاه المأمون بسبب هذا البيت إلى السند:

ما أحسب الجور ينقضي وعلى

الـناس أمير من آل عباس(٣)

وقد تقدم قول أبي عطاء السندي، المتوفى سنة ١٨٠ ه‍:

وقال الدكتور أحمد محمود صبحي: (.. لكن ذلك المثل الأعلى للعدالة، والمساواة الذي انتظره الناس من العباسيين، قد أصبح وهما من الأوهام، فشراسة المنصور والرشيد، وجشعهم، وجور أولاد علي بن

____________

(١) راجع: العمدة لابن رشيق ج ١ ص ٧٥، ٧٦، والعقد الفريد، طبع دار الكتاب العربي ج ٥ ص ٨٧، وهامش طبقات الشعراء ص ٤١.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٤٧٦، ٤٧٧.

(٣) راجع: وفيات الأعيان: ترجمة يحيى بن أكثم، ومروج الذهب ج ٣ ص ٤٣٥، وضحى الإسلام ج ٢ ص ٣٨، ونهاية الإرب ج ٨ ص ١٧٥، وطبيعة الدعوة العباسية ص ٢٧٣، وطبقات الشعراء ص ٣٧٨، لكنه نسبه لابن أبي خالد، لكن في العقد الفريد ج ٦ ص ٤١٨، قد نسب يحيى بن أكثم هذا البيت إلى دعبل.

وفيه: أنه هو الذي نفي إلى السند.

٩٣

عيسى، وعبثهم بأموال المسلمين، يذكرنا بالحجاج، وهشام، ويوسف ابن عمرو الثقفي، وعم الاستياء أفراد الشعب، بعد أن استفتح أبو عبد الله، المعروف بـ‍ (السفاح) وكذلك المنصور بالإسراف في سفك الدماء، على نحو لم يعرف من قبل)(١) .

ويقول صاحب إمبراطورية العرب: (.. إنه بالرغم من أن جيش خراسان هو الذي أوصل العباسيين إلى الملك، فإن الفتن في خراسان ظلت قائمة في عهد العباسيين، كما كانت في عهد الأمويين. وكان الشعار الذي رفعه الخراسانيون الآن: أنهم هم الذين أوصلوا (آل البيت) إلى الحكم، لإقامة عهد من الرحمة والعدل، لا لإقامة عهد آخر من الطغيان، المتعطش إلى سفك الدماء.. إلى أن يقول:

لكن الشيء الذي لا ريب فيه: هو أن الأحلام بإقامة عهد السلام والعدل، التي كانت السبب في الثورة العامة ضد الأمويين قد تبخرت الآن، ولو لم يكن العباسيون أسوأ حالاً من الأمويين، فإنهم لم يكونوا ـ على أي حال ـ خيراً منهم)(٢) . وقريب منه كلام غيره(٣) وستأتي في فصل: آمال المأمون إلخ. عبارة فان فلوتن الهامة، والقيمة عن الحكم العباسي، وسياساته مع الرعية. فانتظر.

ولعل قصيدة أبي العتاهية، التي مطلعها:

من مبلغ عني الإمام

نـصائحاً مـتوالية

____________

(١) نظرية الإمامة ص ٣٨١، لكن كنية السفاح هي: (أبو العباس) لا أبو عبد الله و عبد الله هو: اسمه، واسم المنصور أيضاً، الذي كان أكبر من السفاح.

(٢) إمبراطورية العرب ص ٤٥٢.

(٣) راجع: حياة الإمام موسى بن جعفر ٢ ص ١٦٢ عن كتاب: (النكبات) للريحاني، وضحى الإسلام ج ١ ص ١٢٧ حتى ١٣١.

٩٤

تعبر تعبيراً صادقاً عن الحالة العامة، التي كانت سائدة آنذاك، وهي معروفة ومشهورة ومذكورة في ديوانه ص ٣٠٤. وهي بحق من الوثائق الهامة. المعبرة عن واقع الحياة في تلك الفترة من الزمن.

تفصيل مواقف الخلفاء مع الرعية:

وبعد هذا. وإذا ما أردنا أن نقف عند بعض جنايات وجرائم كل واحد منهم فإننا نقول:

أما السفاح:

الذي أظهر نفسه في صورة مهدي(١) .

فهو الذي يقول عنه المؤرخون: إنه: (كان سريعاً إلى سفك الدماء، فاتبعه عماله في ذلك، في المشرق والمغرب، واستنوا بسيرته، مثل: محمد بن الأشعث بالمغرب، وصالح بن علي بمصر، وخازم بن خزيمة، وحميد بن قحطبة، وغيرهم)(٢) . حتى لقد خرج عليه شريك بن شيخ المهري، الذي كان ـ على ما يظهر ـ من دعاة العباسيين ـ خرج عليه ـ ببخارا، في أكثر من ثلاثين ألفاً، فقال: (ما على هذا بايعنا آل محمد، تسفك الدماء،

____________

(١) البداية والنهاية ج ١ ص ٦٩ والتنبيه والإشراف ص ٢٩٢.

(٢) مروج الذهب للمسعودي ج ٣ ص ٢٢٢، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٥٩. ومشاكلة الناس لزمانهم لليعقوبي ص ٢٢، وليراجع إمبراطورية العرب ص ٤٣٥.

٩٥

ويعمل بغير الحق..)(١) فوجه إليه السفاح أبا مسلم، فقتله، ومن معه.. وقضية عامل السفاح ـ وهو أخوه، وقيل: ابن أخيه، يحيى ـ مع أهل الموصل، حيث ذبح الآلاف الكثيرة منهم في المسجد. هذه القضية معروفة ومشهورة.

وينص المؤرخون، على أنه: لم يبق من أهل الموصل على كثرتهم إلا أربع مئة إنسان، صدموا الجند، فأفرجوا لهم. كما أنه أمر جنده، فبقوا ثلاثة أيام يقتلون النساء، لأنه سمع أنهن يبكين رجالهن. وينص المؤرخون أيضاً: على أن نفوس أهل الموصل قد ذلت بعد تلك المذبحة، ولم يسمع لهم بعدها صوت، ولا قامت لهم قائمة(٢) .

وعندما سألت السفاح زوجته أم سلمة، بنت يعقوب بن سلمة: (لأي شيء استعرض ابن أخيك أهل الموصل بالسيف؟!. قال لها: وحياتك ما أدري..)(٣) !!.

وقد تقدمت عبارة الدكتور أحمد محمود صبحي عن السفاح والمنصور معاً عن قريب.

____________

(١) الكامل لابن الأثير ج ٤ ص ٣٤٢، والإمامة والسياسة ج ٢ ص ١٣٩، وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٣٥٤ طبع صادر، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٥٦، وتاريخ التمدن الإسلامي ج ٢ ص ٤٠٢، وغيرهم.. وفي كتاب طبيعة الدعوة العباسية ص ٢٣٠ قال: إنه (لذلك نقل ولاءه للعلويين، وثار ببخارا، وانضم إليه أنصار العلويين في خراسان، وكذلك ولاة العباسيين على بخارا، وبرزم، وكانت حركته شعبية. وجابه أبو مسلم صعوبات كبيرة في القضاء عليها..) انتهى.

(٢) راجع تفاصيل هذه القضية في: النزاع والتخاصم للمقريزي ص ٤٨، ٤٩، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ٢١٢، حوادث سنة ١٣٢، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ١٧٧، وغاية المرام للموصلي ص ١١٥، وتاريخ اليعقوبي، طبع صادر ج ٢ ص ٣٥٧، وشرح ميمية أبي فراس ص ٢١٦.

(٣) النزاع والتخاصم للمقريزي ص ٤٩، وغير ذلك.

٩٦

وأما المنصور:

الذي أظهر نفسه في صورة مهدي كما يظهر من قول أبي دلامة مخاطباً أبا مسلم الذي قتله المنصور:

أبـا مـجرم مـا غير الله نعمة

عـلى عـبده حتى يغيرها العبد

أفـي دولة المهدي حاولت غدرة

ألا إن أهل الغدر آباءك الكرد(١)

والذي قتل خلقاً كثيراً حتى استقام له الأمر(٢) .

فأمره في الظلم والجور وانتهاك الحرمات أشهر من أن يذكر، حتى لقد أنكر عليه ذلك: (.. رجل من أعظم الدعاة قدراً، وأعظمهم غناء، وهو أبو الجهم بن عطية، مولى باهلة. وهو الذي أخرج أبا العباس السفاح من موضعه الذي أخفاه فيه أبو سلمة، حفص بن سليمان الخلال، وحرسه، وقام بأمره حتى بويع بالخلافة، فكان أبو العباس يعرف له ذلك. وكان أبو مسلم يثق به، ويكاتبه.

فلما استخلف أبو جعفر المنصور، وجار في أحكامه، قال أبو الجهم: ما على هذا بايعناهم، إنما بايعناهم على العدل، فأسرها أبو جعفر في نفسه، ودعاه ذات يوم. فتغدى عنده، ثم سقاه شربة من سويق اللوز، فلما وقعت في جوفه هاج به وجع، فتوهم: أنه قد سم، فوثب، فقال له المنصور: إلى أين يا أبا الجهم؟! فقال: إلى حيث أرسلتني، ومات بعد يوم أو يومين فقال:

____________

(١) عيون الأخبار لابن قتيبة ج ١ ص ٢٦ والكنى والألقاب ج ١ ص ١٥٨. ويحتمل أن يقصد بالمهدي هنا: السفاح.

(٢) فوات الوفيات ج ١ ص ٢٣٢، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٥٩، وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٣٢٤.

٩٧

إحـذر سـويق الـلوز لا تشربنه

فإن سويق اللوز أردى أبا الجهم(١)

وأنكر عليه ذلك أيضاً ـ بالإضافة إلى عمه كما تقدم ـ جماعة من قواده، فقاموا عليه، ودعوا الناس إلى موالاة أهل البيت، فحاربهم عبد الرحمان الأزدي سنة ١٤٠ ه‍. فقتل طائفة منهم، وحبس آخرين(٢) .

وقال الطبري في حوادث سنة ١٤٠ ه‍. أيضاً: (.. وفيها ولي أبو جعفر عبد الجبار بن عبد الرحمن خراسان، فقدمها، فأخذ بها ناساً من القواد، وذكر أنه اتهمهم بالدعاء إلى ولد علي بن أبي طالب، منهم: مجاشع بن حريث الأنصاري، وأبو المغيرة، مولى لبني تميم، واسمه خالد ابن كثير، وهو صاحب قوهستان، والحريش بن محمد الذهلي، ابن عم داوود، فقتلهم وحبس الجنيد بن خالد بن هريم التغلبي، ومعبد بن الخليل المزني، بعد ما ضربهما ضرباً مبرحاً، وحبس عدة من وجوه قواد أهل خراسان..)(٣) .

ولعل من الأمور الجديرة بالملاحظة هنا: أن المنصور كان يعاشر الراوندية القائلين بألوهيته، ولا ينهاهم ولا يردعهم عن مقالتهم تلك، وعندما سأله أحد المسلمين عن ذلك قال له ـ على ما في تاريخ الطبري ـ: (لأن يكونوا في معصية الله وطاعتنا، أحب إلي من أن يكونوا في طاعة الله ومعصيتنا..).

ولكنه عندما ثاروا عليه في الهاشمية، وضع فيهم السيف وقتلهم، ولكن لا لأجل مقالتهم الشنيعة تلك، وإنما لأجل عدم طاعتهم له!.

____________

(١) النزاع والتخاصم للمقريزي ص ٥٢، وليراجع: الوزراء والكتاب ص ١٣٦ ـ ١٣٧ وفيه: أن أبا الجهم كان وزيرا للسفاح.

(٢) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٧٥.

(٣) الطبري، طبع ليدن ج ١٠ ص ١٢٨.

٩٨

هذا.. وعندما قال لعبد الرحمان الإفريقي، رفيق صباه: (كيف رأيت سلطاني من سلطان بني أمية؟).

أجابه عبد الرحمان: (ما رأيت في سلطانهم شيئاً من الجور إلا رأيته في سلطانك..)(١) .

وعندما قدم عليه عبد الرحمان هذا من إفريقيا، ودخل عليه، بعد أن بقي ببابه شهراً، لا يستطيع الوصول إليه، قال له عبد الرحمان: (ظهر الجور ببلادنا، فجئت لأعلمك، فإذا الجور يخرج من دارك. ورأيت أعمالاً سيئة، وظلماً فاشياً، ظننته لبعد البلاد منك، فجعلت كلما دنوت منك كان الأمر أعظم). فغضب المنصور. وأمر بإخراجه(٢) .

وقال لابن أبي ذؤيب: (أي الرجال أنا؟).

فأجابه: (أنت والله عندي شر الرجال، استأثرت بمال الله، ورسوله، وسهم ذوي القربى، واليتامى. والمساكين، وأهلكت الضعيف، وأتعبت القوي، وأمسكت أموالهم(٣) . وحج أبو جعفر فدعا ابن أبي ذئب، فقال: نشدتك الله، ألست أعمل بالحق؟ أليس تراني أعدل؟ فقال ابن أبي ذئب: أما إذ نشدتني بالله فأقول: اللهم لا، ما أراك تعدل، وإنك لجائر، وإنك لتستعمل الظلمة، وتترك أهل الخير(٤) .

____________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٦٨، وغيره.

(٢) تاريخ بغداد ج ١٠ ص ٢١٥، والإمام الصادق، والمذاهب الأربعة المجلد الأول جزء ٢ ص ٤٧٩.

(٣) الإمامة والسياسة ج ٢ ص ١٤٥.

(٤) صفة الصفوة ج ٢ ص ١٧٥.

٩٩

وعندما كان يطوف بالبيت سمع أعرابيا يقول: (اللهم إني أشكو إليك ظهور الفساد، وما يحول بين الحق وأهله، من الطمع)، فطلبه المنصور، فأتي به، فاستمع المنصور منه إلى شرح واف عن الظلم، والجور، والفساد، الذي كان فاشيا آنذاك، وهي قصة طويلة لا مجال لذكرها، وعلى مريدها المراجعة إلى مظانها(١) .

ولا بأس بمراجعة ما قاله له عمرو بن عبيد، في موعظته الطويلة له، ومن جملتها: (.. إن وراء بابك نيرانا تتأجج من الجور، والله، ما يحكم وراء بابك بكتاب الله، ولا بسنة نبيه إلخ..)(٢) .

وقد لقي أعرابياً بالشام، فقال له المنصور: (إحمد الله يا أعرابي، الذي دفع عنكم الطاعون بولايتنا أهل البيت).

فأجابه الأعرابي: (إن الله أعدل من أن يجمعكم علينا والطاعون). فسكت، ولم يزل يطلب له العلل حتى قتله(٣) .

____________

(١) المحاسن والمساوي من ص ٣٣٩، إلى ص ٣٤١ والعقد الفريد للملك السعيد ص ١١٦، ١١٧، ١١٨، وحياة الحيوان للدميري ج ٢ ص ١٩٠، ١٩١، طبع سنة ١٣١٩، وعيون الأخبار، لابن قتيبة ج ٢ من ص ٣٣٣، إلى ص ٣٣٦، والعقد الفريد ج ٢ ص ١٠٤، ١٠٥، طبع سنة ١٣٤٦، وضحى الإسلام ج ٢ ص ٤٠، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج ٢ ص ٤٨٠، نقلاً عن: تاريخ ابن الساعي ص ١٩، والفتوحات الإسلامية لدحلان ج ٢ ص ٤٤٥، حتى ٤٤٨ مطبعة مصطفى محمد. والموفقيات ص ٣٩٢، ٣٩٣ (٢) مرآة الجنان لليافعي ج ١ ص ٣٣٦، ٣٣٧، والمحاسن والمساوي، طبع صادر ص ٣٣٨، ٣٣٩، وعيون الأخبار، لابن قتيبة باختصار ج ٢ ص ٣٣٧، ونور القبس ص ٤٤.

(٣) روض الأخيار المنتخب من ربيع الأبرار ص ٨٦ وأساس الاقتباس، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ١٢٣، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٦٥، وفي كتاب طبيعة الدعوة العباسية ص ٢٧٣، نقلاً عن تاريخ دمشق لابن عساكر I ص ٣٩١: أن الذي قال للمنصور ذلك هو منصور بن جعونة الكلابي: وأن قوله له هو: (إن الله أعدل من أن يسلط علينا الطاعون والعباسيين معاً).

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

وأقول :

ما ذكره من اتّفاق العلماء على أنّ الممكن لا يترجّح أحد طرفيه على الآخر إلّا لمرجّح ، خطأ ظاهر ، فإنّ قومه ـ وهم الأشاعرة ـ لا يوافقون عليه ، ويزعمون أنّ بقاء الممكن الموجود ، وعدم الممكنات الأزلي ، لا يحتاجان إلى مرجّح وسبب.

ولذا قالوا : إنّ المحوج إلى السبب هو الحدوث ، أي خروج الممكن من العدم إلى الوجود ، لا الإمكان(١) .

ولكن غرّ الخصم أنّه رأى في أوّل مباحث الممكن من « المواقف » وشرحها دعوى ضرورية حاجة الممكن إلى السبب بالتقرير الذي ذكره الخصم ، ولم يلتفت إلى أنّهما ذكرا ذلك عن الحكماء القائلين بأنّ المحوج إلى السبب هو الإمكان(٢) ، خلافا للأشاعرة.

ولذا بعدما ذكرا عن الحكماء أنّ الحكم مركوز في طباع البهائم ، ولذا تنفر من صوت الخشب ، أوردا عليه بقولهما : « قلنا ذلك ، أي نفورها لحدوثه لا لإمكانه ، فإنّه لمّا حدث الصوت بعد عدمه ، تخيّلت البهائم أن لا بدّ له من محدث ، لا أنّها تخيّلت تساوي طرفي الصوت ، وأن لا بدّ هناك من مرجّح »(٣) .

ولو سلّم الاتّفاق على حاجة الممكن إلى السبب ، وعلى أنّه يمتنع

__________________

(١) شرح المقاصد ٢ / ١٥.

(٢) انظر : المواقف : ٧١ ، شرح المواقف ٣ / ١٣٥ ـ ١٣٦.

(٣) المواقف : ٧١ ، شرح المواقف ٣ / ١٣٧.

٢٨١

ترجّح أحد طرفيه بدون مرجّح فهو خارج عمّا نحن فيه ؛ لأنّ كلام المصنّف في إمكان ترجيح الفاعل لأحد الطرفين بلا مرجّح كما هو مذهب جماعة ومنهم الأشاعرة.

ولذا قال في « المواقف » في البحث عن أفعال العباد ، بعدما ذكر الدليل المذكور الذي نقله المصنّف عن الأشاعرة : « واعلم أنّ هذا الاستدلال إنّما يصلح إلزاما للمعتزلة ، القائلين بوجوب المرجّح في الفعل الاختياري ؛ وإلّا فعلى رأينا يجوز الترجيح بمجرّد تعلّق الاختيار بأحد طرفي المقدور ، فلا يلزم من كون الفعل بلا مرجّح كونه اتّفاقيا »(١) .

بل يستفاد من هذا ـ لا سيّما قوله : « يجوز الترجيح بمجرّد تعلّق الاختيار » ـ جواز ترجيح المرجوح على الراجح فضلا عن المساوي ، كما يدلّ عليه أيضا تجويزهم تقديم المفضول على الفاضل في مسألة الإمامة(٢) ، وتجويزهم عقلا أن يعذّب الله الأنبياء ويثيب الفراعنة والأبالسة(٣) ، وقولهم : لا يجب على الله شيء ولا يقبح منه شيء(٤) ، وحينئذ فما أجاب به الخصم عن مثال الرغيفين ونحوه غير صحيح عند أصحابه.

وأمّا ما أجاب به عن الوجه الرابع ، فمن الجهل أيضا ؛ لأنّ المصنّف

__________________

(١) المواقف : ٣١٣.

(٢) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ٢ / ٢٩٦ ، المواقف : ٤١٢ ، شرح المقاصد ٥ / ٢٤٧.

(٣) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ١١٥ ـ ١١٦ ، تمهيد الأوائل : ٣٨٥ ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ١٣٤.

(٤) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٩٥ ، المواقف : ٣٢٨ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٩٤.

٢٨٢

لم ينكر أنّ القول بكون القدرة غير صالحة للضدّين يوجب عدم القدرة على الترك بعد فرض تعلّقها بالفعل ، وإنّما يقول : إنّ القول بهذا القول مناف للاستدلال بذلك الدليل ؛ لأنّ الاستدلال به مبنيّ على جواز تعلّق القدرة بالضدّين ، وهم لا يقولون بتعلّقها بهما.

وأمّا ما ذكره من أنّ قول المصنّف : « إن خالفوا مذهبهم من تعلّقها بالضدّين لزمهم شيء يخترعه من عند نفسه ثمّ يجعله محذورا »

ففيه : إنّ هذا القول من المصنّف جواب عن سؤال مقدّر ، وهو : إنّ ما ذكرته من منافاة الدليل لمذهبهم مبنيّ على التزامهم هنا بقولهم بعدم جواز تعلّق القدرة بالضدّين ، فلعلّهم خالفوا هنا ذلك وأجازوا تعلّقها بهما.

فقال : وإن خالفوا ذلك لزمهم محذور آخر ، وهو اجتماع الضدّين أو تقدّم القدرة على الفعل ، وكلاهما مخالف لمذهبهم.

وهذا ليس من باب اختراع النسبة إليهم ، كما توهّمه الخصم وأبان به وبما قبله عن جهله بمقاصد المصنّف وبمذهبهم ، وعن سرقته لكلام « المواقف » وشرحها من دون معرفة بمخالفته لمذهبهم ، وبعدم انطباقه على المورد!!

* * *

٢٨٣

قال المصنّف ـ رفع الله درجته ـ (١) :

وفي الثاني من وجهين :

الأوّل : العلم بالوقوع تبع الوقوع فلا يؤثّر فيه ، فإنّ التابع إنّما يتبع متبوعه ويتأخّر عنه بالذات ، والمؤثّر متقدّم.

الثاني : إنّ الوجوب اللاحق لا يؤثّر في الإمكان الذاتي ، ويحصل الوجوب باعتبار فرض وقوع الممكن ، فإنّ كلّ ممكن على الإطلاق إذا فرض موجودا ، فإنّه حالة وجوده يمتنع عدمه ، لامتناع اجتماع النقيضين ، وإذا كان ممتنع العدم كان واجبا ، مع أنّه ممكن بالنظر إلى ذاته.

والعلم حكاية عن المعلوم ومطابق له ، إذ لا بدّ في العلم من المطابقة ، فالعلم والمعلوم متطابقان ، والأصل في هيئة التطابق هو المعلوم ، فإنّه لولاه لم يكن علما به.

ولا فرق بين فرض الشيء وفرض ما يطابقه ، بما هو حكاية عنه ، وفرض العلم هو بعينه فرض المعلوم.

وقد عرفت أنّ مع فرض المعلوم يجب ، فكذا مع فرض العلم به.

وكما إنّ ذلك الوجوب لا يؤثّر في الإمكان الذاتي ، كذا هذا الوجوب ، ولا يلزم من تعلّق علم الله تعالى به وجوبه بالنسبة إلى ذاته ، بل بالنسبة إلى العلم.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٣.

٢٨٤

وقال الفضل (١) :

قد ذكرنا أنّ هذه الحجّة أوردها الإمام الرازي على سبيل الفرض الإجمالي ، في « مبحث التكليف والبعثة »(٢) ، وهذا صورة تقريره :

« ما علم الله عدمه من أفعال العبد فهو ممتنع الصدور عن العبد ، وإلّا جاز انقلاب العلم جهلا وما علم الله وجوده من أفعاله فهو واجب الصدور عن العبد ، وإلّا جاز الانقلاب.

ولا مخرج عنهما لفعل العبد ، وأنّه يبطل الاختيار ، إذ لا قدرة على الواجب والممتنع ، فيبطل حينئذ التكليف وأخواته ؛ لابتنائها على القدرة والاختيار بالاستقلال كما ذكرتم.

فما لزمنا في مسألة خلق الأعمال ، فقد لزمكم في مسألة علم الله تعالى بالأشياء ».

قال الإمام الرازي : ولو اجتمع جملة العقلاء ، لم يقدروا أن يوردوا على هذا حرفا إلّا بالتزام مذهب هشام ، وهو أنّه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها »(٣) .

وقال شارح « المواقف » : « واعترض عليه بأنّ العلم تابع للمعلوم ، على معنى أنّهما يتطابقان ، والأصل في هذه المطابقة هو المعلوم ، ألا يرى إلى صورة الفرس مثلا على الجدار ، إنّما كانت على الهيئة المخصوصة ؛ لأنّ

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٠٨.

(٢) تقدّم عن الفخر الرازي وغيره كما في الصفحة ٢٦٧ ه‍ ١.

(٣) الأربعين في أصول الدين ١ / ٣٢٨.

٢٨٥

الفرس في حدّ نفسه هكذا ، ولا يتصوّر أن ينعكس الحال بينهما.

فالعلم بأنّ زيدا سيقوم غدا مثلا ، إنّما يتحقّق إذا كان هو في نفسه بحيث يقوم فيه ، دون العكس ، فلا مدخل للعلم في وجوب الفعل وامتناعه ، وسلب القدرة والاختيار ، وإلّا لزم أن لا يكون تعالى فاعلا مختارا لكونه عالما بأفعاله وجودا وعدما »(١) ، انتهى كلام شارح « المواقف ».

وظهر أنّ الرجل السارق الحلّي سرق هذين الوجهين من كلام أهل السنّة والجماعة وجعلهما حجّة عليهم.

وجواب الأوّل من الوجهين : إنّا لا ندّعي تأثير العلم في الفعل ـ كما ذكرنا ـ حتّى يلزم من تأخّره عن المعلوم عدم تأثيره ، بل ندّعي انقلاب العلم جهلا(٢) ، والتابعيّة لا تدفع هذا المحذور ؛ لما ستعلم.

وجواب الثاني من الوجهين : إنّا نسلّم أنّ الفعل الذي تعلّق به علم الواجب في الأزل ممكن بالذات ، واجب بالغير.

والمراد حصول الوجوب الذي ينفي الاختيار ويصير به الفعل اضطراريا ، وهو حاصل ، سواء كان الوجوب بالذات أو بالغير.

وأمّا جواب شارح « المواقف » فنقول : لا نسلّم أنّ العلم مطلقا تابع للمعلوم ، بل العلم الانفعالي الذي يتحقّق بعد وقوع المعلوم هو تابع للمعلوم.

وإن أراد بالتابعيّة التطابق ، فلا نسلّم أنّ الأصل في المطابقة هو

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ١٥٥ ـ ١٥٦.

(٢) تقدّم في الصفحة ٢٦٥.

٢٨٦

المعلوم في العلم الفعلي ، بل الأمر بالعكس عند التحقيق ، فإنّ علم المهندس الذي يحصل به تقدير بناء البيت ، هو الأصل والعلّة لبناء البيت ، والبيت يتبعه ، فإن خالف شيء من أجزاء البيت ما قدّر المهندس في علمه الفعلي ، لزم انقلاب العلم جهلا.

وأنت تعلم أنّ علم الله تعالى بالموجودات التي ستكون هو علم فعليّ ، كعلم المهندس الذي يحصل من ذاته ثمّ يطابقه البيت.

كذلك علم الله تعالى هو سبب حصول الموجودات على النظام الواقع ، ويتبعه وجود الممكنات ، فإن وقع شيء من الكائنات على خلاف ما قدّره علمه الفعلي في الأزل ، لزم انقلاب العلم جهلا ، وهذا هو التحقيق!

* * *

٢٨٧

وأقول :

تقدّم أنّ إيراد الرازي له على سبيل النقض لا ينافي اتّخاذ الأشاعرة له دليلا ، كما نقله عنهم من هو منهم ، وهو القوشجي كما مرّ(١) .

وأمّا ما ادّعاه من ظهور سرقة المصنّف للجوابين بسبب ما نقله عن شارح « المواقف » ، فمن المضحكات ؛ لأنّ تصنيف « شرح المواقف » متأخّر عن تصنيف المصنّف لهذا الكتاب بنحو من مائة سنة ، فإنّ السلطان محمّد خدابنده تشيّع سنة سبع بعد السبعمائة ، وصنّف له هذا الكتاب(٢) ، وكان تصنيف « شرح المواقف » سنة سبع بعد الثمانمائة ، كما ذكره الشارح في آخر شرحه(٣) .

على أنّ الجواب الثاني من خواصّ هذا الكتاب ، إذ لم يذكر في « شرح المواقف » ولا غيره.

ولو كان واحد من الجوابين من كلام الأشاعرة لما خفي على صاحب « المواقف » ، فإنّ عادته جمع كلامهم وكلام غيرهم ، سوى كثير من كلمات أهل الحقّ! فلمّا لم يطلع عليهما علم أنّهما من خواصّ خصومهم ، كما هي

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ٢٦٧ من هذا الجزء.

(٢) انظر : نهج الحقّ : ٣٨ مقدّمة العلّامة الحلّي ؛ وانظر : أعيان الشيعة ٩ / ١٢٠ ، الذريعة ٢٤ / ٤١٦ رقم ٢١٨٣.

(٣) شرح المواقف ٨ / ٤٠١.

وقد كانت وفاة العلّامة الحلّي 1 كانت في سنة ٧٢٦ ه‍ ، وتوفّي الإيجي مؤلّف « المواقف » في سنة ٧٥٦ ه‍ ، فيما كانت وفاة الجرجاني شارح « المواقف » في سنة ٨١٢ ه‍.

٢٨٨

عادتهم في ترك النظر بكلمات الإمامية ، رغبة عن الحقّ ، وتعصّبا لما هم عليه.

لكن لمّا كان لشارح « المواقف » حاشية على « شرح التجريد القديم »(١) ، اطّلع على الجواب الأوّل ، فذكره في « شرح المواقف »(٢) ؛ لأنّ شيخ المتكلّمين نصير الدين1 قد ذكره في « التجريد »(٣) ، فكان هذا الجواب من خواصّ نصير الدين ، والجواب الثاني منخواصّ المصنّف.

ثمّ إنّ ما أجاب به الخصم عن الأوّل بقوله : « بل ندّعي انقلاب العلم جهلا » غير نافع له ؛ لأنّ لزوم الانقلاب ما لم يكن العلم مؤثّرا لا يوجب سلب تأثير قدرة العبد كما هو مدّعاهم ، وإنّما يوجب أن يقع ما علم الله تعالى على الوجه الذي علمه من الاختيار أو الاضطرار ، كما إنّ صدق الصدق في الأخبار إنّما يقتضي ذلك.

وأمّا ما أجاب به عن الثاني

ففيه : إنّ الوجوب بالغير ، الحاصل من فرض وقوع الممكن

__________________

(١) هو الشرح المسمّى « تشييد القواعد » أو « تسديد القواعد في شرح تجريد العقائد » تأليف : شمس الدين محمود بن عبدالرحمن بن أحمد الأصفهاني ، المتوفّى سنة ٧٤٦ ه‍.

وتسميته بالشرح القديم لا لكونه أقدم الشروح ، بل لتقدّمه على « شرح التجريد » المعروف ب‍ « الشرح الجديد » ، للشيخ علاء الدين عليّ بن محمّد القوشجي ، المتوفّى سنة ٨٧٩ ه‍.

وقد كتب شارح « المواقف » السيّد الشريف عليّ بن محمّد الجرجاني ، المتوفّى سنة ٨١٦ ه‍ حاشية على الشرح القديم هذا ، اشتهرت باسم « حاشية التجريد ».

انظر : الذريعة ٣ / ٣٥٤ ، مقدّمة تجريد الاعتقاد : ٨٠ ، كشف الظنون ١ / ٣٤٦.

(٢) شرح المواقف ٨ / ١٥٥.

(٣) تجريد الاعتقاد : ١١٣ ـ ١١٤.

٢٨٩

بالاختيار ـ كما بيّنه المصنّف ـ لا يجعل الفعل اضطراريا ، وإلّا كان خلفا ، بل كثير من الوجوب أو الامتناع بالغير لا يسلب القدرة والاختيار ، كالظلم وفعل القبيح ، فإنّهما ممتنعان على الله تعالى لقبحهما ، وهو قادر مختار في تركهما.

وبالجملة : المدار في القدرة والاختيار على كون الفعل منوطا بإشاءة الفاعل وأفعال العباد كذلك ، غاية الأمر أنّ الله تعالى علم أنّهم يفعلون أفعالا ويتركون أفعالا بإشاءتهم للأمرين ، كما يعلم ذلك في حقّه تعالى ، وهو لا يوجب الخروج عن القدرة والاختيار.

وأمّا ما أورد به على الجواب الذي نقله شارح « المواقف »

ففيه : إنّه إن أراد بقوله : « إنّ علم الله تعالى بالموجودات فعليّ » أنّه سبب حقيقي مؤثّر فيها ، ومنها أفعالنا ، فهو باطل ألبتّة حتّى لو قلنا : إنّه تعالى فاعل لأفعالنا ؛ لأنّ المؤثّر فيها قدرته لا علمه.

وإن أراد به أنّ علمه شرط لها ، فلا يضرّنا تسليمه ، إذ لا يستدعي خروج أفعالنا عن قدرتنا ؛ لأنّ الأثر للفاعل ، لا للشرط.

والقوم يعنون بكون العلم الفعلي سببا لوجود المعلوم في الخارج ، أنّه دخيل في السببية من حيث كونه شرطا ، كعلم المهندس ، بخلاف العلم الانفعالي ، فإنّه ليس بشرط للمعلوم ، بل هو مسبّب ، أي : فرع عن وجود المعلوم ، كعلمنا بما وقع.

وبخلاف الفعلي والانفعالي أيضا الذي يعرّفونه بما ليس سببا لوجود المعلوم في الخارج ، ولا مسبّبا عنه ، كعلم الله سبحانه بذاته ، فإنّه بالاتّفاق عين ذاته ، ويختلفان بالاعتبار.

على أنّ الحقّ أنّ العلم الفعلي ليس شرطا لوجود المعلوم ، ضرورة

٢٩٠

أنّ العلم تابع للمعلوم ؛ لأنّه انكشاف الشيء وحضوره لدى العالم به ، فيكون وجود المعلوم واقعا متقدّما رتبة على العلم ؛ لكونه شرطا له أو بحكمه.

فلو كان العلم الفعلي شرطا أيضا لوجود المعلوم جاء الدور(١) ، فلا بدّ أن يكون العلم الفعلي كغيره ، ليس شرطا في وجود المعلوم.

نعم ، تصوّر الشيء شرط لإقدام العاقل الملتفت على إيجاد الشيء ، وهو أمر آخر ، ومنه تصوّر المهندس ، وهو غير العلم الفعلي المصطلح عليه بالعلم الحضوري

فإذا عرفت هذا ، عرفت ما في كلام الخصم من الخطأ ، فتدبّر!

* * *

__________________

(١) وبه قال الفخر الرازي في الأربعين في أصول الدين ١ / ٢٠٧.

٢٩١

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ (١) :

وأمّا المعارضة في الوجهين ، فإنّهما آتيان في حقّ واجب الوجود تعالى.

فإنّا نقول في الأوّل : لو كان الله تعالى قادرا مختارا فإمّا أن يتمكّن من الترك أو لا ، فإن لم يتمكّن من الترك كان موجبا مجبورا على الفعل ، لا قادرا مختارا.

وإن تمكّن ، فإمّا أن يترجّح أحد الطرفين على الآخر أو لا ، فإن لم يترجّح لزم وجود الممكن المساوي من غير مرجّح ، فإن كان محالا في حقّ العبد ، كان محالا في حقّ الله تعالى ، لعدم الفرق.

وإن ترجّح فإن انتهى إلى الوجوب لزم الجبر ، وإلّا تسلسل أو وقع المتساوي من غير مرجّح ، فكلّ ما تقولونه ها هنا نقوله نحن في حقّ العبد.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٤.

٢٩٢

وقال الفضل (١) :

ذكر صاحب « المواقف » هذا الدليل في كتابه ، وأورد عليه أنّ هذا ينفي كون الله تعالى قادرا مختارا ، لإمكان إقامة الدليل بعينه ، فيقال : لو كان الله موجدا لفعله بالقدرة استقلالا ، فلا بدّ أن يتمكّن من فعله وتركه ، وأن يتوقّف فعله على مرجّح ، إلى آخر ما مرّ تقريره.

وأجيب عن ذلك بالفرق بأنّ إرادة العبد محدثة ، أي الفعل يتوقّف على مرجّح هو الإرادة الجازمة ، لكن إرادة العبد محدثة ، فافتقرت إلى أن تنتهي إلى إرادة يخلقها الله تعالى فيه ، بلا إرادة واختيار منه ، دفعا للتسلسل في الإرادات التي تفرض صدورها عنه ، وإرادة الله تعالى قديمة فلا تفتقر إلى إرادة أخرى(٢)

فظهر الفرق واندفع النقض.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١١٣.

(٢) المواقف : ٣١٢ ـ ٣١٣ ، شرح المواقف ٨ / ١٤٩ ـ ١٥١.

٢٩٣

وأقول :

هذا الجواب للرازي في « الأربعين » كما نقل عنه(١) .

وأورد عليه المحقّق الطوسيرحمه‌الله في « التجريد » بما مضمونه : إنّ التقسيم إلى الإرادتين ، والفرق بينهما بالحدوث والقدم ؛ لا يدفع الإشكال ؛ لأنّ الترك إن لم يمكن مع الإرادة القديمة كان الله تعالى موجبا لا قادرا مختارا.

وإن أمكن ، فإن لم يتوقّف فعله تعالى على مرجّح استغنى الجائز عن المرجّح.

وإن توقّف كان الفعل معه موجبا ، فيكون اضطراريا(٢) .

وسيأتي للكلام تتمّة عند القول في المعارضة الآتية.

* * *

__________________

(١) انظر : الأربعين في أصول الدين ١ / ٣٢٣.

(٢) تجريد الاعتقاد : ١٩٢ و ١٩٩.

٢٩٤

قال المصنّف ـ أجزل الله ثوابه ـ (١) :

ونقول في الثاني : إنّ ما علمه تعالى إن وجب ولزم بسبب هذا الوجوب خروج القادر منّا عن قدرته وإدخاله في الموجب ، لزم في حقّ الله تعالى ذلك بعينه ، وإن لم يقتض سقط الاستدلال.

فقد ظهر من هذا أنّ هذين الدليلين آتيان في حقّ الله تعالى ، وهما إن صحّا لزم خروج الواجب عن كونه قادرا ، ويكون موجبا.

وهذا هو الكفر الصريح ، إذ الفارق بين الإسلام والفلسفة هو هذه المسألة.

والحاصل : إنّ هؤلاء إن اعترفوا بصحّة هذين الدليلين لزمهم الكفر ، وإن اعترفوا ببطلانهما سقط احتجاجهم بهما.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٤.

٢٩٥

وقال الفضل (١) :

قد عرفت في كلام شارح « المواقف » أنّه ذكر هذا النقض ، وليس هو من خواصّه حتّى يتبختر به ويأخذ في الإرعاد والإبراق والطامّات.

والجواب :

أمّا عمّا يرد على الدليل الأوّل فهو : إنّ فعل الباري محتاج إلى مرجّح قديم يتعلّق في الأزل بالفعل الحادث في وقت معين.

وذلك المرجّح القديم لا يحتاج إلى مرجّح آخر ، فيكون الله تعالى مستقلّا في الفعل.

ولو قال قائل : إذا وجب الفعل مع ذلك المرجّح القديم كان موجبا لا مختارا.

قلنا : إنّ الوجوب المترتّب على الاختيار لا ينافيه بل يحقّقه.

فإن قلت : نحن نقول : اختيار العبد أيضا يوجب فعله ، وهذا الوجوب المترتّب على الاختيار لا ينافي كونه قادرا مختارا.

قلت : لا شكّ أنّ اختياره حادث ، وليس صادرا عنه باختياره ، وإلّا نقلنا الكلام إلى ذلك الاختيار ، وتسلسل ، بل عن غيره ، فلا يكون مستقلّا في فعله باختياره ، بخلاف إرادة الباري ، فإنّها مستندة إلى ذاته ، فوجوب الفعل بها لا ينافي استقلاله في القدرة عليه(٢) .

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١١٧.

(٢) شرح المواقف ٨ / ١٥١.

٢٩٦

وأمّا عمّا يرد على الدليل الثاني فهو : إنّ علم الله تعالى في ذاته مقارن لصفة القدرة والإرادة ، فإذا علم الشيء وتعلّق به علمه ، تعلّق به الإرادة والقدرة وخلق الموجودات.

وكلّ واحد من الصفات الثلاث يتعلّق بمتعلّقه من الأشياء ، وعلى كلّ ما تقتضيه ، فمقتضى العلم التعلّق من حيث الانكشاف ، ومقتضى الإرادة الترجيح ، ومقتضى القدرة صحّة وقوع الفعل والترك فلا يلزم الوجوب ؛ لأنّ صفة العلم لا تصادم صفة القدرة ، لأنّهما قديمتان حاصلتان معا ، بخلاف القدرة الحادثة ، فإنّ العلم القديم يصادمه ، ومقتضى العلم القديم يسلب عنه القدرة ، وهذا جائز في الصفات الحادثة بخلاف الصفات القديمة ، فليس ثمّة إيجاب.

تأمّل ، فإنّ هذا الجواب دقيق ، وبالتأمّل فيه حقيق.

وأمّا ما ذكره من لزوم الكفر ، فمن باب طامّاته وترّهاته ، وهذه مسائل علمية عملية يباحث الناس فيها ، فهو من ضعف رأيه وكثرة تعصّبه ينزله على الكفر والتفسيق ، نعوذ بالله من جهل ذلك الفسّيق.

* * *

٢٩٧

وأقول :

قد بيّنّا أنّ تصنيف المصنّف لهذا الكتاب قبل تصنيف « شرح المواقف » بنحو مائة سنة ، فلا ينافي كون هذا النقض من خواصّ المصنّف ، بل صنّف المصنّف هذا الكتاب سنة سبع بعد السبعمائة أو بعدها بقليل(١) ، والقاضي العضد حينئذ صبي ؛ لأنّه ولد بعد السبعمائة(٢) ، فيكون هذا الكتاب أسبق من « المواقف » فضلا عن شرحها بكثير.

وأمّا التبختر ، فالمصنّف أجلّ منه قدرا ، وإن حقّ له ؛ لأنّه أكثر الناس علما وتصنيفا.

ولا يبعد أنّه صنّف هذا الكتاب بنحو عشرة أيّام ، بحسب ما ذكر العلماء من كثرة تصانيفه وسرعته في تأليفها ، أجزل الله رحمته عليه وضاعف أجره.

وأمّا الإرعاد ، فلا يتوقّف على كون ذلك من خواصّه ، وإن كان قريبا ، بل يكفي فيه أن يكون من إفادات شيخه نصير الملّة والدين ، أو غيره من أصحابنا.

وأمّا ما أجاب به الخصم عن معارضة الدليل الأوّل

ففيه أوّلا : إنّ دعوى عدم صدور اختيار العبد منه بل من الله تعالى باطلة ؛ لما سبق تحقيقه(٣) من أنّ بعض آثار قدرة العبد صادرة عنه

__________________

(١) راجع ما مرّ آنفا في الصفحة ٢٨٨.

(٢) انظر : الدرر الكامنة ٢ / ١٩٦ رقم ٢٢٧٩ ، معجم المؤلّفين ٢ / ٧٦ رقم ٦٧٥٦.

(٣) تقدّم في الصفحة ١٢١ ـ ١٢٢ من هذا الجزء.

٢٩٨

بلا سبق إرادة ، كأكثر أفعال القوى الباطنة ، ومنها : الإرادة ، وبعض أفعال القوى الظاهرة ، كفعل الغافل والنائم ، فلا يتوقّف صدور الإرادة عن العبد بقدرته على إرادة أخرى حتّى يلزم التسلسل.

وثانيا : إنّ كون إرادة الله سبحانه مستندة إلى ذاته لا ينفي الجبر عن فعله على مذهبهم ؛ لأنّها من صفاته ، وصفاته بزعمهم صادرة عنه بالإيجاب ، فيكون فعله المترتّب عليها صادرا عنه بالإيجاب والجبر لا بالقدرة ، كما أشار إليه شارح « المواقف » بعد بيان ما ذكره الخصم في جواب معارضة الدليل الأوّل ، قال :

« لكن يتّجه أن يقال : استناد إرادته القديمة إلى ذاته بطريق الإيجاب دون القدرة ، فإذا وجب الفعل بما ليس اختياريا له ، تطرّق إليه شائبة الإيجاب »(١) .

وقد ترك الخصم ذكر هذا مع أنّ كلامه مأخوذ من « شرح المواقف » بعين لفظه ليروّج منه الباطل! فالله حسيبه.

وأمّا ما أجاب به عن معارضة الدليل الثاني

ففيه : مع أنّ مجرّد القدم لا يرفع دعوى التصادم لو صحّت ، أنّ الذي أوجب عندهم الجبر هو أنّ ما علم الله تعالى وجوده واجب ، وما علم عدمه ممتنع ، وإلّا لزم انقلاب علمه تعالى جهلا ، وهذا جار في أفعال الله تعالى وأفعال العبد بلا فرق ، ولا دخل لحديث التصادم في رفعه أصلا.

هذا كلّه إذا قلنا بقدم إرادة الله تعالى المخالفة للعلم بالمصلحة كما يدّعيه الأشاعرة

__________________

(١) شرح الواقف ٨ / ١٥١.

٢٩٩

وأمّا إذا قلنا بحدوثها كما اختاره جماعة(١) ، ودلّ عليه كثير من الآيات ، كقوله تعالى :( إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ) (٢) وقوله تعالى :

( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (٣) ونحوهما ، فإنّه حينئذ لا يبقى محلّ لجواب المعارضتين معا كما لا يخفى.

وأمّا ما ذكره من أنّ لزوم الكفر من باب طامّاته

ففيه : إنّه كيف لا يلزمهم الكفر وهي ـ كما قال الخصم ـ مسائل علمية عملية ، فإنّهم إذا التزموا بصحّة الدليلين ، وعملوا واعتقدوا بمقتضاهما ، كان الله تعالى عندهم موجبا لا قادرا مختارا ، وهو عين الكفر ، نعوذ بالله.

* * *

__________________

(١) انظر : المغني ـ للقاضي عبد الجبّار ـ ٦ ق ٢ / ١٣٧ و ١٤٠ ، شرح الأصول الخمسة : ٤٤٠ ، الكشف عن مناهج الأدلّة ـ لابن رشد ـ : ٤٧.

(٢) سورة الإسراء ١٧ : ١٦.

(٣) سورة يس ٣٦ : ٨٢.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409