• البداية
  • السابق
  • 69 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 12141 / تحميل: 7260
الحجم الحجم الحجم
الغيبة الصغرى والسفراء الأربعة

الغيبة الصغرى والسفراء الأربعة

مؤلف:
العربية

الغيبة الصغرى والسفراء الأربعة

الشيخ فاضل المالكي

١

٢

الغيبة الصغرى والسفراء الأربعة

الشيخ فاضل المالكي

الطبعة الاُولى - سنة ١٤٢٠ هـ

* جميع الحقوق محفوظة للمركز *

٣

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة المركز :

لا يخفى أنّنا لازلنا بحاجة إلى تكريس الجهود ومضاعفتها نحو الفهم الصحيح والافهام المناسب لعقائدنا الحقّة ومفاهيمنا الرفيعة، ممّا يستدعي الالتزام الجادّ بالبرامج والمناهج العلمية التي توجد حالة من المفاعلة الدائمة بين الاُمّة وقيمها الحقّة، بشكل يتناسب مع لغة العصر والتطوّر التقني الحديث .

وانطلاقاً من ذلك، فقد بادر مركز الابحاث العقائدية التابع لمكتب سماحة آية الله العظمى السيد السيستاني - مدّ ظلّه - إلى اتّخاذ منهج ينتظم على عدّة محاور بهدف طرح الفكر الاسلامي الشيعي على أوسع نطاق ممكن .

ومن هذه المحاور: عقد الندوات العقائديّة المختصّة، باستضافة نخبة من أساتذة الحوزة العلمية ومفكّريها المرموقين، التي تقوم نوعاً على الموضوعات الهامّة، حيث يجري تناولها بالعرض والنقد والتحليل وطرح الرأي الشيعي المختار فيها، ثم يخضع ذلك الموضوع - بطبيعة الحال - للحوار المفتوح والمناقشات الحرّة لغرض الحصول على أفضل النتائج .

ولاجل تعميم الفائدة فقد أخذت هذه الندوات طريقها إلى شبكة الانترنت العالمية صوتاً وكتابةً .

كما يجري تكثيرها عبر التسجيل الصوتي والمرئي وتوزيعها على

٥

المراكز والمؤسسات العلمية والشخصيات الثقافية في شتى أرجاء العالم .

وأخيراً، فإنّ الخطوة الثالثة تكمن في طبعها ونشرها على شكل كراريس تحت عنوان «سلسلة الندوات العقائدية» بعد إجراء مجموعة من الخطوات التحقيقية والفنيّة اللازمة عليها .

وهذا الكرّاس الماثل بين يدي القارئ الكريم واحدٌ من السلسلة المشار إليها .

سائلينه سبحانه وتعالى أن يناله بأحسن قبوله .

مركز الابحاث العقائدية

فارس الحسّون

٦

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيـد:

الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين، لاسيما بقيّة الله في الارضين سيدنا ومولانا الامام المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف وجعلنا من أنصاره والشهداء بين يديه.

يقع الكلام في موضوع الغيبة الصغرى، وفي هذا الموضوع عدّة مجالات للحديث، وخير مستهلّ نستهلّ به هذا البحث هو ما رواه النعماني أعلى الله مقامه الشريف في كتاب الغيبة بعدّة طرق عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال:

«للقائم غيبتان - وفي لفظ: أنّ لصاحب هذا الامر غيبتين - إحداهما قصيرة والاخرى طويلة: فالاولى يرجع فيها إلى أهله يعلم بمكانه فيها خاصّة من شيعته، والاخرى يظهر فيها ولا يُدرى أين هو يشهد الموسم يرى الناس ولا يرونه ولا يعلم بمكانه إلاّ مواليه في دينه ويقال فيها: هلك في أي واد سلك» (١) .

____________________

١ - الغيبة للنعماني: ١٧٠ - ١٧٦.

٧

هناك كلام في دراية هذا الحديث من عدّة جهات:

الجهة الاولى:

أنّ الامام صلوات الله عليه أنبأ عن غيبة صاحب الامر (عليه السلام) قبل مولده، وهذا في الواقع جزء من مخطّط متكامل في الشريعة الاسلامية، بدأ بالنبي الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) في قضيّة التبشير والانباء والاخبار عن أصل قضية ظهور صاحب الامر (عليه السلام) وغيبته وعن تفاصيل بعض هذا الموضوع، وما ورد عن الامام الصادق (عليه السلام) في موضوع الغيبة جزء من هذا المخطط؟

فالعمليّة عمليّة إعداد للامّة لكي تستقبل هذا الامام الثاني عشر صلوات الله وسلامه عليه بما يحف إمامته من خصوصيات، ومن أهم وأبرز هذه الخصوصيات قضية غيبته (عليه السلام)، فكان ما ورد من الرسول والائمة الاطهار (عليهم السلام) في هذا المورد عبارة عن عملية تعبئة نفسيّة للامة الاسلامية لاستقبال هذا الحدث المهم، حدث الغيبة.

الجهة الاخرى:

أن هذا الحديث قسّم الغيبة إلى قسمين: غيبة قصيرة وغيبة طويلة، وربّما يعبّر عنها بالصغرى والكبرى، وبتعبير المفيد (قدس سره) القصرى والطولى (١) .

____________________

١ - الارشاد: ٣٤٦.

٨

هنالك غيبة قصيرة وغيبة طويلة كما نعلم، القصيرة التي نتكلّم عنها، وهنالك عدة جهات للبحث في هذه الغيبة القصيرة ستأتي إن شاء الله قبل الافاضة فيها.

بقية جهات هذا الحديث الشريف على نحو الاجمال:

هنالك غيبتان بحسب فرض هذا الحديث الشريف، وكذلك نعتت الغيبة الصغرى القصيرة بأنه يرجع فيها إلى أهله، والمقصود هنا بأهله ليس المعنى المتعارف، إنما المقصود بأهله هو ما عبّرت عنه الرواية في لفظ آخر: «يعلم بمكانه فيها خاصة من شيعته»، فالمقصود من أهله: الخاصة من شيعته، يعني النواب الخاصون، وكذلك الوكلاء الذين وكّلهم (عليه السلام) في القضايا الجزئية أو القضايا الشخصية، كما سيأتينا أيضاً إن شاء الله تعالى أن للامام (عليه السلام) في غيبته الصغرى نوعين من النواب: هناك النواب العامون عن الامام (عليه السلام) وهم الاربعة، وهناك النواب الخاصون، والمقصود بالخاصين يعني في القضايا الجزئية والشخصية، هناك مقابلات في قضايا محدّدة ووقائع محدّدة نصّ عليها المؤرّخون جرت بين الامام سلام الله عليه وبين بعض الخواص.

فإذن المقصود هنا بالاهل ليس خصوص الاهل بمعنى الاسرة التي يرجع إليها، ذلك أمرٌ آخر ليس الحديث في صدده، الحديث ليس في

٩

صدد غيبته عن أسرته، الحديث في صدد غيبته عن أمّته وشيعته، يعلم بمكانه فيها خاصة من شيعته، وقد قلنا بأنّ المقصود هو النوعان من النواب، النواب العامون في زمن الغيبة الصغرى، والمقصود منهم هم الذين ينوبون عن الامام سلام الله عليه في مختلف المسائل التي خوّلوا فيها.

ومن الطبيعي أنّ هناك مختصات للامام سلام الله عليه طبق مقام إمامته وولايته ومركزه وموقعه، لا نتكلّم عن ذلك العالم، ذلك عالم آخر لمقامهم صلوات الله عليهم، إنّما نتكلّم في حدود الصلاحيات العامّة التي يفوّضها (عليه السلام) لهؤلاء النواب العامين طبق الشروط والظروف الموضوعية القائمة آنذاك.

النيابة العامة :

مقصودنا هنا من النيابة العامة ليس اصطلاح النيابة العامة في عهد الغيبة الكبرى، في عهد الغيبة الكبرى يراد من النيابة العامة هي النيابة التي لم تحدّد بالتشخيص لشخص النائب، إنّما حدّدت بعنوان عام ينطبق على هذا الفقيه أو على ذلك الفقيه، فيعبّر عن الفقهاء في عصر الغيبة بأنّهم نواب عامون.

هنا صفة العموميّة في النائب العام في زمن الغيبة المقصود منها العموميّة بلحاظ العنوان المعيّن، العنوان المشخّص، عنوان الحوالة، الامام حينما يحيل في زمن الغيبة الكبرى لا يحيل على أشخاص معيّنين بأسمائهم إنّما يقول بعنوان عام، مثلاً: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا

١٠

فيها إلى رواة حديثنا فانهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله»(١) ، فالعموميّة هنا بلحاظ صيغة التعيين، والتعيين تمّ بالنوع ولم يتمّ بالشخص، ففي زمن الغيبة الكبرى المقصود من النيابة العامة العمومية بلحاظ صيغة التعيين.

أما النيابة العامة في الغيبة الصغرى، فالمقصود منها العمومية بلحاظ الصلاحيات لا بلحاظ صيغة التعيين، فإنّ صيغة التعيين في النيابة العامة في الغيبة الصغرى صيغة شخصيّة، يعني الامام سلام الله عليه ينصّ على أسماء النواب، مثلاً يقول: عثمان بن سعيد وكيلي، محمد بن عثمان وكيلي، لكن في تمام الصلاحيات، فالعمومية في النيابة العامة في الغيبة الصغرى ناظرة إلى دائرة الصلاحيات، وأما العمومية في النيابة العامة في الغيبة الكبرى فناظرة إلى مصدر الصلاحية وإلى منبع هذه الصلاحية وطبيعة أو صيغة التشخيص أو التعيين.

النيابة الخاصة:

ويقابل النيابة العامة بذلك المعنى في الغيبة الكبرى النيابة الخاصّة، النيابة الخاصة التي تقابل النيابة العامة فى الغيبة الكبرى هي عبارة عن النيابة التي تكون بتشخيص شخص معين بخصوصه، فيعبّر عنها الخاصة، وهذه النيابة الخاصّة هي: عبارة عن تعيين النائب بخصوصه، وقد تسمّى نيابة عامة بلحاظ سعة دائرة صلاحياته.

____________________

١ - كمال الدين: ٤٨٤ ح ٤، الغيبة للطوسي: ٢٩١ ح ٢٤٧.

١١

النيابة الشخصيّة :

وهنالك نيابة شخصيّة قد يعبّر عنها لئلاّ يقع الخلط بين المصطلحات، ويمكن أن نعبّر عنها بأنّها نيابة شخصيّة في زمن الغيبة الصغرى، ويراد منها النيابة في قضايا شخصية أو في مسائل جزئية، كما استناب الامام سلام الله عليه أحمد بن إسحاق الاشعري القمي رضوان الله عليه في بعض المسائل الشخصيّة وأبو الاديان البصري (١) وما شاكل، لكن لم يكن أبو الاديان ولا أحمد بن إسحاق من الابواب العامين والسفراء الاربعة، إنّما كانت وكالتهما عن الامام سلام الله عليه في قضايا خاصة وجزئية، وكما يعبر: قضية في واقعة.

فاذن المقصود هنا بخاصة شيعته (عليه السلام) في زمن الغيبة الصغرى أنّهم يعلمون بمكانه، المقصود هو السفراء الاربعة الذين سيأتي الكلام فيهم، مضافاً إلى النواب الذين ينوبون عنه (عليه السلام) في بعض المسائل الجزئية.

تثنية الغيبة :

تقول الرواية: «والاخرى يظهر فيها»، الاخرى: يعني الغيبة الكبرى، يظهر فيها: يعني في آخرها بقرينة ما سيأتي من فقرات، يظهر فيها: يعني أن ظهوره (عليه السلام) إنّما يكون في الغيبة الكبرى، يعني في نهاية الغيبة الكبرى يكون ظهوره (عليه السلام).

ومن هذا نفهم شيئاً وهو: أنّه لا ظهور بعد الغيبة الصغرى، بخلاف

____________________

١ - كمال الدين: ٤٧٥.

١٢

المرتسم في بعض الاذهان: أنّ الفرق بين الغيبتين أو تثنية الغيبتين بلحاظ أنّ الامام سلام الله عليه غاب في الغيبة الصغرى ثم ظهر ثم غاب، هذا وهم في الواقع، الامام سلام الله عليه لم يظهر بالمعنى الذي نريده من الظهور حتّى يفرق بين المرحلتين بأنّ الامام غاب مثلاً سبعين سنة ثم ظهر للعيان بشكل عادي ثم غاب الغيبة الكبرى.

إذن ما هو الوجه في التثنية للغيبة؟ يقال: غيبة صغرى وغيبة كبرى؟

الوجه: ليس قضية الظهور وعدم الظهور، بل لم يظهر الامام عليه السلام في كلتا الغيبتين وفي تمام الفترتين وفي الفاصل بين الفترتين، كما إنه ليس الفارق بين الغيبتين هو عبارة عن قصر وطول المدّة فقط.

إذن ما هو المدار على تثنية الغيبة؟

المدار في واقع الامر على طبيعة تعامل الامام سلام الله عليه في الغيبة الصغرى مع قواعده الشعبية، أو طريقة تعامله مع قواعده الشعبية في الغيبة الصغرى عنها في الغيبة الكبرى:

في الغيبة الصغرى طريقة تعامله ولقائه وتماسّه مع قواعده الشعبية هو عن طريق السفراء الذين سيأتي الحديث عنهم إن شاء الله، أمّا في الغيبة الكبرى فطريقة تماسّه (عليه السلام) لم يكن عن طريق سفراء خاصين، إنّما كان عن طريق النواب العامين، عن طريق الفقهاء.

فالفرق بين هاتين الفترتين: أنّه في تلك الفترة القصيرة كان هناك سفراء يلتقي الامام سلام الله عليه من خلالهم مع قواعده الشعبية، وأمّا

١٣

في الغيبة الكبرى فلم يكن هناك سفراء بذلك المعنى، فلهذا للتفرقة بين هاتين الفترتين عبّر عن الغيبة الاولى بأنّها غيبة صغرى وعبّر عن الثانية بأنها غيبة كبرى، وإلاّ لم يفصل ظهور بين الغيبتين، ولهذا قال(عليه السلام): «والاخرى يظهر فيها».

غياب هويّة أم غياب شخصيّة

في بعض الفاظ الحديث فقرة: «والاخرى يظهر فيها» جاءت متأخّرة، يعني هكذا: «والاخرى لا يُدرى أين هو، يشهد الموسم، يرى الناس ولا يرونه» (١) «ولا يعلم بمكانه فيها إلاّ خاصة مواليه في دينه» (٢) .

هذه العبارة محلّ بحث وتحليل ومحلّ تدقيق في واقع الامر.

فما المقصود من أنّه في عهد الغيبة الكبرى لا يعلم بمكانه إلاّ مواليه في دينه؟

هذا يستدعينا المرور بمدلول غيبته (عليه السلام)، فما هو معنى غيبته؟

هل إنّ غيبته كما يتصوّر البعض غياب شخصيّة؟ يعني شخص الامام، هذا الشخص، هذه الشخصيّة الطبيعيّة تغيب؟ أو أنّ المقصود بالغياب غياب هويّة، إنّ هذه الشخصيّة الطبيعيّة موجودة تعيش فيما بين

____________________

١ - الغيبة للنعماني: ١١٧.

٢ - الغيبة للنعماني: ١٥٥.

١٤

الناس ولكنها لا تشخص، هذا المعبر عنه بغياب الهويّة.

والصحيح أنّ غيابه (عليه السلام) غياب هويّة لا غياب شخصية، فإنّ شخصه سلام الله عليه موجود، ولكن الناس لا يشخصونه ولا يعرفونه بشخصه وبهويّته، ولهذا يقول: «يشهد الموسم يرى الناس ولا يرونه ولا يعلم بمكانه إلاّ مواليه في دنيه»، باعتبار أنّ غياب الامام غياب هويّة لا غياب شخصيّة، فالشخص موجود، ولكن هذا الشخص المقدس صلوات الله وسلامه عليه يمكن أن يلتقي به بعض الابدال وبعض الاوحديين وبعض الافذاذ من الناس ممّن يليق أن يفوز بلقاء الامام صلوات الله وسلامه عليه ورؤية طلعته المباركة.

وهذا بابٌ واسع عقد له الميرزا النوري أعلى الله مقامه كتاباً في هذا المعنى فيمن رأى الامام المهدي سلام الله عليه في الغيبة الكبرى، وكذلك عقد له السيد البحراني كتاباً سمّاه تبصرة الولي فيمن رأى القائم المهدي سلام الله عليه، وهنالك ملحق في بحار العلامّة المجلسي رحمه الله فيمن التقى بالامام سلام الله عليه في عهد الغيبة الكبرى (١) .

وفي الجملة، هنالك لقاءات، ولكن هذه اللقاءات إنّما هي حجة على أصحابها، لان في زمن الغيبة الكبرى نعلم أنّ الامام سلام الله عليه لم يعيّن سفيراً خاصّاً، فلا يسعنا أنّه كل ما جاءنا شخص وقال: أنا سفير الامام، أنا رأيت الامام، أن نرتّب الاثر، نعم لا يسعنا أن نكذّبه، خاصّة إذا

____________________

١ - البحار ٥٣: ٢٠٠.

١٥

كان مؤمناً ظاهر الايمان ظاهر العدالة، لا نواجهه بالكذب، ولكن في نفس الوقت لا يترتب أثر شرعي على دعواه أنّه رأى الامام سلام الله عليه.

وأحياناً ربما تقوم قرائن على كذب بعض المدّعين، وما أكثر المدّعين للرؤية، سواء في الغيبة الصغرى أو في الغيبة الكبرى، كما أن هنالك من ادّعى المهدويّة، وهنالك من ادّعى السفارة، وهنالك من ادّعى الرؤية، نحن لا نتكلّم عن أن هنالك أشخاصاً قد يدّعون كذباً أو زوراً الرؤية، هذا عالم آخر، إنّما نتكلم عن أصل المبدأ من حيث المبدأ (امكان رؤيته (عليه السلام).

الامام باعتبار أنّ غيابه غياب هويّة لا غياب شخصيّة، فشخصه صلوات الله عليه يمكن أن يفوز بلقائه الاوحدي من الناس، ولكن من هو الاوحدي من الناس؟ ذاك علمه عند ربي، «ولا يعلم بمكانه إلاّ مواليه في دينه ويقال فيها: هلك في أي واد سلك» في هذه الغيبة الكبرى.

تعقيب على بحث تثنية الغيبة:

وفي بعض الالفاظ قال: «يظهر فيها»، ويظهر بقرينة الفقرات السابقة يقصد به أنّ الظهور المكتوب له سلام الله عليه حيث يملا الله تعالى به الارض قسطاً وعدلاً بعد أن تُملا ظلماً وجوراً، إنمّا يكون في آخر المطاف وفي آخر هذه الغيبة الكبرى، فالامام سلام الله عليه قيّد هذه الغيبة الكبرى بأنّ الظهور فيها، بينما الغيبة الصغرى لم يذكر فيها ظهور، وهذا يؤيّد ما ذكرناه قبل قليل بأنّ الفاصل بين الغيبتين الصغرى

١٦

والكبرى ليس قضية الظهور - أنّه ظهر بعد سبعين سنة مثلاً للعيان ثم غاب فرآه الناس ثم غاب ثم يظهر ليراه الناس - لا، بل إنّ له (عليه السلام) بعد غيبته الاولى ظهوراً عاماً علنياً واحداً، وهو حيث يأذن الله تعالى له بالفرج، فيقوم بأمر الله تبارك وتعالى ويملا الله به الارض قسطاً وعدلاً.

ويدلّ على ذلك أيضاً ما رواه الشيخ - شيخ الطائفة أعلى الله مقامه - في غيبته عن جماعة من الشيعة منهم الحسن بن أيوب بن نوح:

أنه اجتمع أربعون رجلاً من أصحاب الامام العسكري (عليه السلام) عنده يسألونه عن الحجة بعده، وإذا غلام كأنّه قطعة قمر أشبه الناس بأبي محمد (عليه السلام)، فقال: «هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم أطيعوه ولا تتفرقوا من بعدي فتهلكوا في أديانكم، ألا وإنّكم لا ترونه من بعد يومكم هذا حتى يتم له عمر...» الى آخر الحديث (١) ، يختمه صلوات الله عليه بالتنويه بظهوره بعد الغيبة الكبرى، يعني بظهوره لاقامة الدولة الاسلاميّة العالميّة.

فإذن من هذا يظهر أيضاً التأكيد لما قدّمناه سابقاً من أنّه الفاصل بين الغيبتين ليست قضية الظهور للعيان ثم الغياب، وإنّما التعبير بالصغرى والكبرى للنقطة التي بيّناها قبل قليل، لانّه طريقة التماس للقواعد الشعبية في الغيبة الصغرى كان هو عبارة عن السفارة والسفراء، بينما في الغيبة الكبرى كان عبارة عن طريق الفقهاء.

وبعد هذا البيان الذي استعرضنا من خلاله جملة من النقاط على ضوء هذا الحديث الشريف، هذه النقاط التي بحثت بعنوان دراية هذا الحديث بنحو اجمالي، ندخل في صلب البحث.

____________________

١ - الغيبة للطوسي: ٣٥٧ ح ٣١٩، كمال الدين للصدوق: ٤٣٥ ح ٢.

١٧

١٨

١٩

جـدول البحـث

أما نفس جدول البحث وخطة البحث: أوّل ما يواجهنا في قضيّة الغيبة الصغرى: أنّه ما هو مفهوم الغيبة،

أو ما هو مدلول الغيبة؟ وهذا لعلّه تبين في أثناء البحث أن المقصود بغيبته سلام الله عليه هو عبارة عن غياب هويّة لا غياب شخصيّة.

وفي نفس الوقت هنالك أبحاث تسبق هذا البحث لا نطرقها، باعتبار أنّ حديثنا جزء أو حلقة من سلسلة أبحاث قدّم جملة من هذه الحلقات عدد من العلماء والفضلاء، وهذه الحلقة هي بواقع الامر جزء متمّم في هذه السلسلة.

هنالك أبحاث سابقة على هذا البحث: من قبيل مسألة ولادته(عليه السلام)، والمفروض أن الحديث عن غيبته بعد أن تحرز ولادته سلام الله عليه وأن يُحرز وجوده (عليه السلام)، هاتان نقطتان مهمتان يحرز أنّه ولد ويحرز أنّه غائب وليس بميّت، هذه نقطة ثانية.

والنقطة الثالثة هو إحراز أنّ له سلام الله عليه سفراء في هذه الغيبة.

وهنالك أسئلة أخرى ترتبط في موضوع أصل الغيبة وفي أصل

٢٠

إمامته سلام الله عليه أنّه كيف يتولّى الامامة في سن مبكر، هذه المسألة، أيضاً تكفّلت بها بحسب الفرض أبحاث سابقة هي خارجة عن محلّ بحثنا.

وفي مسألة أصل إمامته سلام الله عليه، يعني بكونه الامام الثاني عشر من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من أهل البيت صلوات الله عليهم بدءاً بأمير المؤمنين (عليه السلام) وختماً بصاحب الامر (عليه السلام) بحث.

في أصل كونه الامام الثاني عشر بحث.

في تولّيه الامامة في سنّ مبكر بحث.

في مسألة ولادته بحث.

في مسألة استمرار وجوده حتى يغيب لا أنّه مات بحث.

في مسألة أنّه غاب واستسفر سفراء أربعة في طي غيبته (عليه السلام)بحث.

الابحاث السابقة فيما يتعلّق بإمامته، بمبكّريّة إمامته، بولادته، بوجوده (عليه السلام) واستمراره رابعاً، وقضيّة طول عمره أيضاً بحث خامس.

أنّه كيف يعمّر هذه الفترة الطويلة هذا أيضاً بحث آخر.

كل هذه الابحاث كما لا يخفى تفترض في حديثنا الان، تفترض بعنوان أصول موضوعيّة مسلّمة، لا نتكلم عنها ونفترضها أمور مسلّمة، فمحط ركابنا في واقع الامر هو عبارة عن نفس الغيبة الصغرى في مفهومها، وكذلك في سفراء الامام سلام الله عليه في هذه الغيبة، وطريقة تماس الامام سلام الله عليه بقواعده الشعبية.

٢١

كما تعلمون أنّ هنالك بحثاً آخر، هذا البحث ربما لا يتسع له المجال:

أنّ الامام سلام الله عليه في هذه الفترة الطويلة كيف تستفيد الامّة من وجوده (عليه السلام)، وهذا البحث باعتبار أنّه غير مختص بالغيبة الصغرى، إنّما هو وارد على التقديرين، على تقدير الغيبة الكبرى وتقدير الغيبة الصغرى.

هذه جملة مباحث لها مجالات أخرى، إنّما الكلام في أصل الغيبة الصغرى.

٢٢

٢٣

الغيبة الصغرى

تمهيد الائمة(عليهم السلام) لغيبة الامام (عليه السلام)

من خلال ما تقدّم عرفنا أنّ الائمة صلوات الله عليهم هيأوا الاذهان، أذهان الامة لتقبل قضيّة غيبة الامام سلام الله عليه، أنّكم يا معشر الناس ستواجهون إماماً يغيب عن أنظاركم، يعني أنّكم من عهد أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه إلى عهد الامام العسكري سلام الله عليه إمامكم بين ظهرانيكم وعلى رؤوسكم بمرأى ومسمع منكم، أما أنّكم ستواجهون إماماً هو الامام الثاني عشر سلام لله عليه، وهو إمام مغيّب عن الانظار، باعتبار أنّ هذه التجربة تجربة جديدة، فاجتمعت في الامام المهدي سلام الله عليه عدّة خصوصيات في واقع الامر، وخصوصيات في غاية الخطر، يعني فضلاً عن كونه الامام الثاني عشر.

المسألة الاولى: مسألة مبكرية إمامته (عليه السلام)، وقد يقال إنّها ليست بالتجربة الجديدة، لان المبكرية في الامامة سبقه فيها جدّاه الجواد والهادي سلام لله عليهما، الامام الجواد تولّى الامامة وسنّه قرابة ثمان سنوات أو سبع سنوات، والامام الهادي أيضاً كذلك تولّى الامامة وسنّه

٢٤

قرابة ست سنوات، فربما يقال إنّ هذه المسألة أصبحت مأنوسة ومألوفة للامة، وكأن العناية الالهية درّبت الامة على قبول الامامة المبكّرة تدريجياً، فبدأت بامامة الجواد (عليه السلام) في ما يقارب ثماني سنوات، ثم الهادي (عليه السلام) في قرابة الست سنوات، ثم الامام المهدي (عليه السلام)في الخمس سنوات .

المسألة الثانية: مسألة غيبته (عليه السلام)، إمام غائب بأي معنى؟ وكيف؟ ولماذا؟.

والمسألة الثالثة: التي هي في غاية الخطر أيضاً: مسألة ظهوره صلوات الله وسلامه عليه، وإقامة الدولة الاسلامية العالمية التي يملا الله به الارض قسطاً وعدلاً بعد أن تُملا ظلماً وجوراً.

هذه ملامح ثلاثة في غاية الخطر في شخصية صاحب الامر صلوات الله عليه، ومن جملة هذه الملامح نفس موضوع الغيبة:

الغيبة تجربة جديدة للامّة، ربما الامة جرّبت غيبة قصيرة تمتد مثلاً أيام أو شهر لبعض السابقين صلوات الله عليهم، ولكن غيبة في تمام فترة الامام إلى أن يأذن الله في الفرج بهذا الطول وبهذا الشكل، هكذا تجربة لم تمرّ بها الامة الاسلاميّة سابقاً، فالامّة بحاجة إلى أن تألف هذه التجربة، بحاجة إلى أن تقنع بهذه التجربة، بحاجة إلى أن تسمع بها وتكون مأنوسة لها حتى لا تفاجأ بقضيّة غيبته، فلهذا كان الائمة الاطهار سلام الله عليهم (1) ، بل حتى في أحاديث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)في ما يرويه علماء

____________________

1 - راجع كتاب الامام المهدي (عليه السلام) للسيد صدر الدين الصدر.

٢٥

الفريقين(1) في قضية صاحب الامر (عليه السلام)، هنالك لمحات كثيرة في قضية غيبته (عليه السلام).

الهدف من كل هذا الحشد من أحاديث الاشارة إلى غيبته هو تعبئة النفسية العامة أو الذهنية العامة لتقبل فكرة الامام الغائب سلام الله عليه، وأنّه حقيقة ستقع، لا أنّها مسألة في عالم الافتراض فقط.

ثم الائمة سلام الله عليهم في نفس الوقت أيضاً أشاروا إلى بعض خصوصيات هذه الغيبة، مثلاً الامام العسكري سلام الله عليه في حديث من الاحاديث يقول: «عثمان بن سعيد العمري - يخاطب رجلاً - وكيلي وأنّ ابنه محمداً وكيل ابني مهديّكم» (2) ، حتى قضية السفير الثاني للامام المهدي سلام الله عليه كان أيضاً يتحدث عنه الامام العسكري (عليه السلام)، فلا يسعنا المجال الان للافاضة في هذه الجزئيات والخصوصيات، لكن من حيث المبدأ الائمة(عليهم السلام)كانوا يتدخلون في هذه المسألة ويخططون لها ويحاولون تحضير الذهنية العامة لفكرة الغيبة الصغرى، وحتى فكرة الغيبة الكبرى، لئلاّ تفاجأ الامّة.

كما أنّ الغيبة الصغرى في نفسها عمليّة تهيئة وإعداد للامّة الاسلامية للتفاعل والاندماج مع الغيبة الكبرى، يعني كما أنّ الائمة هيأوا الناس

____________________

1 - راجع كتاب الامام المهدي (عليه السلام) في كتب اهل السنة .

2 - الغيبة للطوسي: 356 ح 317.

٢٦

لغيبة صغرى، كذلك هيأوهم للغيبة الكبرى، والغيبة الصغرى هي في نفسها وضعيّاً تهيّء الامة للغيبة الكبرى ، ولهذا بدأت العملية بالتدريج .

لاحظوا أن الامة لم تبدأ فيها بالغيبة الكبرى، إنّما بدأت بالغيبة الصغرى، يعني ما بدأ الامام يغيب عن الناس بلا سفراء، إنّما بدأ غيبته مع السفراء، لانّ الغيبة مع السفراء لا شك أنّها أقرب إلى أذهان الناس وأشدّ أُنساً لاذهان الناس، لا سيما مع ما سيأتي من أنّ هؤلاء السفراء أوّلهم نصّ عليه الامام الحاضر سابقاً، وهو الامام العسكري سلام الله عليه، وفي نفس الوقت هذا السفير نصّ على من بعده.

فالامام العسكري (عليه السلام) نص على سفارة عثمان بن سعيد، وحضر مَن حضر من شيعة الامام من علماء الامة الاسلامية وشهدوا هذا النص من الامام سلام الله عليه، ثم الخواص الذين حضروا وشهدوا، سمعوا الامام المهدي صلوات الله عليه يقرّ نيابة وسفارة عثمان بن سعيد، فحصل اطمئنان حسّي بسفارة عثمان بن سعيد، ثم عثمان بن سعيد الذي قيل في حقه، «اسمعوا له وأطيعوا» ومما يسمع له ويطاع فيه هو نصه على من بعده، وممّا قال في مَنْ بعده أيضاً: اسمعوا له وأطيعوا، وهو ابنه محمد بن عثمان، ومحمد بن عثمان أيضاً قال: اسمعوا له وأطيعوا لمن يليه وهو الحسين بن روح، والحسين بن روح كذلك.

فاذن هنالك نص بهذه الطريقة بمحضر من علماء الامة.

٢٧

فالقضية كانت قضية حسّية، الذين شهدوا الامام سلام الله عليه افرض أنّهم الخواص، وكذلك مسألة النص على السفير، وأنّ السفير - هذه نقطة أخرى - حينما كان يواجه الامة كان يواجه الامة بتوقيعات الامام سلام الله عليه، وما كان يأتي بشيء من عند نفسه أو من اجتهاداته الشخصية مثلاً، إنّما كان يأتي للامة بكلام الامام سلام الله عليه، بمكتوبات الامام سلام الله عليه، بتوقيعاته.

٢٨

٢٩

التوقيع والناحية المقدسة

اصطلاح التوقيع كما تعلمون من جملة اصطلاحات هذا العالم، عالم الغيبة، المقصود بالتوقيع في هذا المقام يعني الكتاب الموقع يعبر عنه بأنه توقيع، من باب تسمية الكتاب بأهم ما فيه أو أبرز ما فيه أو ما يختم به وهو التوقيع تسمية الشيء بخاتمته، فيعبّر عنه بأنّه توقيع، والمقصود ليس خصوص الامضاء للامام سلام الله عليه، إنّما المقصود هو الكتاب.

الكتب الصادرة والرسائل الصادرة من الامام سلام الله عليه كان يعبر عنها بأنّها توقيعات الناحية المقدسة، والناحية المقدسة أيضاً فيه إشارة أو قولوا اصطلاح يراد به خصوص الحضرة المقدسة لصاحب الامر صلوات الله وسلامه عليه باعتبار ظروف التقية.

وهذا باب من الابواب الملفتة للنظر: أنّ الامام سلام الله عليه نادراً ما كان يسمّى باسمه، بل ورد النهي عن التسمية وأنّه إذا سمي عرف وإذا عرف مثلاً دلّ على مكانه إلى آخره، ففي هذا المورد هنالك تكتّم باعتبار ظروف التقية، فلهذا الامام كان يعبّر عنه بالناحية المقدسة ويعبّر عنه بالسيد، قال لي السيد وكتبتُ للسيد، ويعبّر عنه بالعالم، ولفظة العالم

٣٠

أطلقت على بعض الائمة سلام الله عليهم السابقين أيضاً كموسى بن جعفر (عليه السلام)، ولكن أيضاً ورد إطلاقها على الامام المهدي سلام الله عليه.

فالسيد، والعالم، والناحية المقدسة، والغريم أيضاً مما كان يعبّر عنه (عليه السلام).

وعبّر عنه (عليه السلام) بالصاحب وصاحب الدار وصاحب العصر وولي العصر وولي الامر.

فالناحية المقدسة المقصود بها الامام سلام الله عليه، والتوقيعات يعني الرسائل والكتب الصادرة من الامام (عليه السلام).

وهذه الكتب الصادرة كانت بخطّه (عليه السلام)، لم تكن بخط غيره، ولم تكن مطبوعة مثلاً حسب الفرض، وفي ذلك الزمن لم تكن هنالك أدوات طبع بالنحو الموجود اليوم، المهم أنه لم تكن بخط غيره، إنّما كانت بخط نفسه (عليه السلام) وموقعة بتوقيعه.

وهذا الموضوع في غاية الاهمية في العملية التوثيقية، لانّ هذا الخط خط مشهود لخواص الاعلام والعلماء الذين عاصروا الامام العسكري سلام الله عليه والذين تعرفوا على الامام المهدي (عليه السلام)، لانه سيأتينا إن شاء الله أن الامام المنتظر عجل الله تعالى فرجه لم يكتم ولم يحجب عن تمام الناس، إنّما حرص الامام العسكري سلام الله عليه على عرض ولده الامام المهدي (عليه السلام) على أعداد كبيرة من الناس من جهة، وإعلام أعداد أخرى وإن لم يروه، وهاتان نقطتان في غاية الاهمية.

٣١

عدم السرّية في مبدأ القيادة الاسلامية:

هاتان النقطتان ترتبطان بقضية عدم السرّية في مبدأ القيادة الاسلامية وفي الثقافة الاسلامية، أو في النظام السياسي الاسلامي، السريّة ربما تكون في العمل، أما السرية في القيادة لا وجود لها في الاسلام، ولهذا نجد أنّ الائمة صلوات الله عليهم يصرّون على مختلف مراحلهم ورغم ظروف التقية التي كانوا يمرّون بها كانوا يحرصون سلام الله عليهم على قضية أن ينص السابق على اللاحق.

نعم ربما كان هذا النص في ضمن إطار تقية في ضمن الخواص، أما أن تكون سريّة بتمام المعنى فهذا في واقع الامر ليس من شؤون الامامة، فالحجة بوجه عام نبوة أو إمامة، فاصرار الائمة سلام الله عليهم على قضية أن يشخص السابق منهم اللاحق ولو في أحلك الفترات وأدقّ الظروف، هذا الواقع متفرع على قضية علنية القيادة قدر الامكان، لما في سرية القيادة من مشكلات مبسوطة في محلّها له بحث علمي آخر في باب النظام السياسي الاسلامي، أو متبنّيات النظام السياسي الاسلامي.

لكن في حدود هذا المعنى الامام العسكري سلام الله عليه رغم شدّة الظروف الخانقة الارهابية التي كان يمرّ بها، مع ذلك أوّل إجراء اتخذه (عليه السلام) رغم أنّ أمر الامام المهدي (عليه السلام) من حمله إلى ولادته إلى نشأته مبني على التكتم كما تعلمون، حمله كتم بقضية كرامة كما كتم حمل أم موسى بموسى (عليه السلام) بالقصّة المعروفة، وهكذا ولادته (عليه السلام) أيضاً ما كانت بشكل علني، إنّما كانت بتمام الواقع والحيطة والحذر، كما نقرأ في قصة السيدة حكيمة رضوان الله عليها بنت الامام الجواد (عليهما السلام)التي حضرت ولادة الامام المهدي سلام الله عليه، والتي رواها بطريق معتبر شيخنا الصدوق أعلى الله مقامه الشريف في كتاب إكمال الدين وإتمام النعمة (1) ، حكيمة حضرت وكان الموضوع بتمام الكتمان.

____________________

1 - كمال الدين: 424 ح 1.

٣٢

٣٣

الاجراءات التي اتّخذها الامام العسكري (عليه السلام)

لاثبات ولادة الامام المهدي (عليه السلام)

الشيء الذي أريد أن أقوله رغم هذا الكتمان أنّ الامام العسكري سلام

الله عليه كان عنده في جانب آخر موازنة بالعملية، كان حريصاً على قضية إثبات ولادته ووجوده، فاتخذ جملة اجراءات:

إكثار العقائق عن الامام المهدي (عليه السلام):

من أهم هذه الاجراءات - هذا الموضوع مهم بارتباطه في موضوع الغيبة الصغرى، لاننا لمّا نتكلم عن موضوع الغيبة لابد أن نعرف أنّ هذا الغائب صلوات الله وسلامه عليه مولود موجود - بل أوّل إجراء اتخذه الامام العسكري سلام الله عليه فيما تفيد الروايات: أنّه أكثر من العقائق عن الامام المهدي (عليه السلام)، وهذه من خواصه أنه لم يُعق عن مولود على الاطلاق كما عقّ عن الامام صاحب الامر (عليه السلام)، حتّى ورد في رواياتنا: أنه عُقّ عنه ثلاثمائة عقيقة (1) ، بل أمر الامام العسكري (عليه السلام)عثمان بن سعيد أن يشتري كذا الف رطل - الرطل قرابة ثلث كيلو غرام - من اللحم وممّا

____________________

1 - راجع: كتاب الامام المهدي (عليه السلام) من المهد الى اللحد.

٣٤

شاكل ويوزّعه على الفقراء(1) ، والشيء الملفت للنظر أنّ الامام نوّع وعدّد الاماكن، مثلاً كتب إلى خواصّه في قم أن يعقّوا(2) وأن يقولوا للناس أن هذه العقيقة بمناسبة ولادة المولود الجديد للامام العسكري (عليه السلام) وأنّه محمد، وهكذا مثلاً كتب إلى خواصه في بغداد وفي سامراء .

هذه عناية من الامام سلام الله عليه، كثرة العقائق وإخبار الناس بمناسبة هذه العقائق ومن ذبحت عنه هذه العقيقة مثلاً، هذا كلّه إجراء أوّل أراد منه الامام سلام الله عليه عملية إعلامية بأنّ هذا الامام الثاني عشر المنتظر صلوات الله وسلامه عليه قد ولد وقد تشرفت البشرية والعالم باشراق نور وجهه المقدس.

من رأى الامام المهدي (عليه السلام) :

الاجراء الثاني الذي حرص الامام (عليه السلام) عليه: هو أنّه كان يحضر مجاميع من خواصّه وشيعته وكان يعرفهم على ولده الامام المهدي سلام الله عليه، وهذا ظاهر من جملة روايات:

مثلاً في إكمال الدين للشيخ الصدوق أعلى الله مقامه عن أبي غانم الخادم: أنّ العسكري (عليه السلام)أخرج ولده محمداً (عليه السلام) في الثالث من مولده

____________________

1 - كمال الدين: 431 ح 6.

2 - راجع: كتاب الامام المهدي (عليه السلام) من المهد إلى اللحد.

٣٥

وعرضه على أصحابه قائلاً: «هذا صاحبكم من بعدي وخليفتي عليكم وهو القائم الذي تمتدّ إليه الاعناق بالانتظار، فاذا امتلات الارض ظلماً وجوراً خرج فيملاها قسطاً وعدلاً»(1) .

وهكذا الرواية السابقة التي رواها شيخ الطائفة أعلى الله مقامه في الغيبة والتي قرأتها على مسامعكم: أنّ الامام أطلع أربعين - تقريباً - من خواص أصحابه على ولده سلام الله عليه.

وهنالك أشخاص آخرون أيضاً لا بعنوان مجاميع، بل بعنوان أشخاص منفردين أيضاً أطلعهم الامام سلام الله عليه .

هذا غير إطلاع من في البيت بمناسبة قضية الولادة، مثل نسيم الخادمة وحكيمة وأم أبي محمد العسكري، كما جاء في الرواية التي يرويها الشيخ الصدوق أعلى الله مقامه، رواية جليلة ومهمة جداً:

دخل أحدهم على السيدة حكيمة بنت الامام الجواد (عليهما السلام)وسألها عمّا تأتم به من الحجج؟ فعدّت الائمة سلام الله عليهم إلى أن وصلت إلى الامام العسكري (عليه السلام) فقالت بعده: والحجة بن الحسن بن عليّ، فقال لها السائل: سيدتي أتقولين ذلك عن خبر أو معاينة؟ - يعني هذا الحجة بن الحسن رأيتيه أم سمعتي به؟ - قالت: بل هي معاينة، قلت فلمن يفزع الناس اليوم والحال أنّ الناس لم يعاينوه؟ قالت: ارجعوا إلى أم أبي محمد - يعني أم الامام العسكري سلام الله عليه، لاحظوا هذه القضية السائل

____________________

1 - كمال الدين: 431 ح 8.

٣٦

يقول - قلت لها: بمن اقتدى الامام العسكري (عليه السلام) في وصيته لام أبي محمد إذا كان الامام هو ابنه محمد الحجة ابن الحسن سلام الله عليه.

يعني كان الامام سلام الله عليه للتغطية على ولده وللحفاظ على ولده في بعض المجالات كان يحيل في الظاهر بعض القضايا على أم أبي محمد يعني أم الامام العسكري سلام الله عليه، كيف كان يحيل عليها؟ لاحظوا الجواب في غاية الاهمية:

قالت (عليها السلام): اقتدى في ذلك بجدّي الحسين بن علي شهيد الطف صلوات الله وسلامه عليه حيث أوصى في الظاهر بأخته العقيلة زينب(عليها السلام)، وفي الواقع أنّ الامامة لولده زين العابدين (عليه السلام)، وذلك حفاظاً على ولده زين العابدين، فكان ما يخرج من زينب من علم ربما نسب لزينب (عليها السلام)، وهو في الواقع لعلي بن الحسين (عليهما السلام) (1) .

كانت ظروف تقية، بحيث أنّ الراوي إذا روى كان يخاف أن يقول حدثني علي أو روى فلان عن فلان عن علي، كثيراً ما كان يقول مثلاً: حدثني أبو زينب، او روى فلان عن فلان عن أبي زينب، ويعني بأبي زينب أمير المؤمنين سلام الله عليه.

فالخلاصة، أم أبي محمد العسكري رأت الامام، نسيم الخادمة، حكيمة، كذلك أحمد بن إسحاق الاشعري في قضية طويلة أيضاً يرويها

____________________

1 - كمال الدين: 501 ح 27، الغيبة للطوسي: 230 ح 196.

٣٧

الشيخ الصدوق(1) ، ويعقوب بن منقوش، مضافاً للعدد الذي ذكرته.

فالاجراء الاول قضية الاعلام والعقائق، والاجراء الثاني قضية عرضه على الناس، هذا في جانب.

فإذن الامام سلام الله عليه في واقع الامر غيبته كانت غيبة بعد ثبوت مولد، بعد ثبوت وجود، وأنّ الامام سلام الله عليه كان يتعامل مع تلك القواعد عن طريق توقيعاته المقدسة التي كان ينقلها أولئك السفراء.

____________________

1 - كمال الدين: 454 ح 21.

٣٨

٣٩

تحديد مبدأ الغيبة الصغرى

هنالك نقطة في تحديد مبدأ الغيبة الصغرى، هناك نظريات ثلاثة

في مبدأ الغيبة الصغرى، ولعلّ هذا البحث بحث بكر:

النظرية الاولى:

الغيبة الصغرى إنّما بدأت بمولده (عليه السلام)، حيث كان مولده مبنيّاً على الكتمان، فكان الامام سلام الله عليه غائباً منذ ذلك الحين وإلى أن يظهر للعيان بشكل علني عام .

نوقش في هذه النظرية: بأنّ الامام من مولده إلى وفاة أبيه الامام العسكري سلام الله عليه شهيداً، في هذه الفترة الامامة لم تكن له، وهذا خارج عن موضوع الغيبة التي نتحدث عنها، الحديث عن غيبته في فترة إمامته.

لكن هذا الامر سهل، لانّ الفرض من الغيبة مطلق الغيبة، سواء غيبته في عصر إمامة أبيه سلام الله أو غيبته في عصر إمامته، الغرض ملفق من هذا وذاك بحيث المجموع يكون هذه الفترة من مولده (عليه السلام)إلى هذا المبدأ من مولده (عليه السلام) إلى وفاة آخر نائب من النواب الاربعة وهو أبو الحسن علي بن محمد السمري رحمه الله سنة ثلاثمائة وتسعة

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69