القرآن في الاسلام

القرآن في الاسلام25%

القرآن في الاسلام مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 228

القرآن في الاسلام
  • البداية
  • السابق
  • 228 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 73831 / تحميل: 6112
الحجم الحجم الحجم
القرآن في الاسلام

القرآن في الاسلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

القرآن في الاسلام

 

الأستاذ العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي

تعريب السيد أحمد الحسيني

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على النبي الكريم ، محمد الذي انزل عليه القرآن العظيم ، وعلى آله الغر الميامين ، الهداة الدالين على الصراط القوي.

٣
٤

مقدمة الناشر:

يسر مركز اعلام الذكرى الخامسة لانتصار الثورة الإسلامية في ايران ان يقدم هذا الكتاب راجيا ان يجد فيه القراء رؤية صادقة اصيلة وفكراً اسلامياً نيراً ، داعياً المولى العلي القدير ان يمن على امام الامة الخميني العظيم دام ظله العالي بالرعاية والنصر المؤزر وعلى مسيرتنا الإسلامية بالتقدم المطرد ، وعلى نهضة المسلمين جميعاً بالتوفيق ، لتنال اهدافها العليا وتحكم شريعة الإسلام في الارض.

والله الموفق

٥
٦

تقديم

تمتاز بحوث الاستاذ العلامة المغفور له السيد محمد حسين الطباطبائي ودراساته القرآنية ، بانها تستمد قبل كل شيء من القرآن نفسه في معرفة مقاصده واستكشاف مفاهيمه وتبيان معانيه.

ان كثيراً من المفسرين والباحثين في العلوم الإسلامية ـ قديماً وحديثاً ـ لهم مسبقات ذهنية ورواسب فكرية ، جاءتهم من طريق الغور العقلي في المسائل او من التعرف على بعض المدارس الفلسفية والآراء الكلامية او من التعبد بمذاهب عقائدية وفقهية خاصة ثم يحاولون بكل ما رزقوا من وسائل علمية في حمل تلك المسبقات والرواسب على الآيات الكريمة والتمحل في صرف مفاهيمها الى ما يرونه من النظريات الخاصة بهم.

اما التفكير في ان يستنطقوا القرآن الكريم قبل ان يحاولوا تطبيق آياته على ما يرتأونه من النظريات والآراء الشخصية ، فهذا شيء لم نجده في كثير من التفاسير والبحوث القرآنية الواصلة الينا.

٧

هذا تفسير يطغى عليه الفكر المعتزلي ، لان مؤلفه من المنتمين الى مدرسة الاعتزال ..

وذاك تفسير ظاهر فيه الفكر الظاهري ، لان المفسر يرى رأي الظاهرية

وذلك تفسير بث في مطاويه الفكر الفلسفي البحت ، لانه مدبج بقلم فيلسوف يعتنق آراء الفلاسفة ..

وآخر تفسير اهتم بالمسائل التجريبية المادية ، لان كاتبه يريد ان يتظاهر بالمعرفة التامة في العلوم العصرية.

وهكذا دواليك في حمل الاتجاهات الفكرية والنظرية والفقهية والذوقية ـ في كثير من الاحيان ـ على القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

والعجب من بعض هؤلاء المفسرين والباحثين حيث يقطعون على رأي في آية من الآيات كأنه اصل مسلم لا يقبل اي نقاش ولا يتسرب اليه اي شك او ترديد ، مع انهم ان يمنعوا النظر في آيات اخرى مشابهة لها سيجدون ما يناقض رأيهم ويهدم كل ما بنوه عليه من المعتقدات والآراء. كأن هؤلاء يعيشون مع كل آية وحدها ، حتى من دون التروي في السياق والجو الذي يقرأون فيه تلك الآية ..

* * *

٨

من هذا المنطلق نعرف قيمة ابحاث العلامة الطباطبائي ومدى اهميتها في دراسة القرآن الكريم.

انه لم يتعصب لنظرية خاصة اختمرت في ذهنه ونمت في فكره حتى رسخت فلم يمكنه التخلي عنها ، بل يقرأ الآيات المناسبة لكل موضوع بامعان وترو ليعرف على ماذا تدل وماذا يمكن الاستفادة منها ، ثم تصبح دراسته المعمقة رأيه الخاص من دون التفات الى ما ارتآه من لم يمعن في تفهم الآيات امعانا يليق بالبحث العلمي المجرد.

وليس معنى كلامنا هذا انه لم يدرس بتاتا الآراء والنظريات التفسيرية المختلفة ، بل نريد ان نقول انه لم يتأثر بها الى حد يفرضها على القرآن فرضاً ويذهب بكل جهده في صرف الآيات عن وجوهها الصحيحة الى ما لا تتحملها.

هذا منهج صحيح يتجلى في تفسيره الكبير « الميزان في تفسير القرآن » ، وهذا منهجه ايضا في هذا الكتاب الذي خصه بدراسة بعض مسائل من « علوم القرآن » ، فهو يقول في مقدمته : من هنا نهدف في بحثنا هذا الى التعريف باهمية القرآن الكريم كما يدل عليه هو بنفسه لا كما نعتقده ونتصوره نحن ، وواضح ان بين هذين الموضوعين فروقا كثيرة لمن امعن النظر ».

* * *

٩

واننا حينما قرأنا هذا الكتاب ، وجدناه جديداً في اسلوبه العلمي بالرغم من عدم جديد فيه في فصوله وابحاثه ، فهو اذ يتحدث في موضوع من موضوعاته لا يلجأ الى سرد ما قاله علماء التفسير والباحثون في علوم القرآن ، بل يلجأ الى آيات القرآن ويستنتج النتيجة المطلوبة منها.

ولهذا وجدنا في تعريبه محاولة لاشراك قراء العربية في هذه البحوث المعروضه بأسلوبها الجديد : ونعتقد ان في هذا العلم فائدة كبرى سيلمسها القارىء الكريم عندما يمر على صفحات الكتاب.

والله تعالى هو الهادي الى طريق الحق والصراط المستقيم. قم ـ ايران

السيد احمد الحسيني

١٠

ـ مقدمة المؤلف ـ

بسم الله الرحمن الرحيم

الكتاب الذي بين يدي القارىء الكريم ، يبحث عن اهم مصدر للشريعة الإسلامية وهو القرآن الكريم الدستور الرباني الاول لمعتنقي الإسلام. والموضوع الذي يتناوله في فصوله وابحاثه ، هو « اهمية القرآن » في العالم الإسلامي ، فيتحدث بايجاز عن :

ما هو القرآن؟

ما قيمته لدى المسلمين؟

القرآن كتاب عالمي دائم.

القرآن وحي سماوي وليس من ابداع الفكر البشري.

القرآن والعلوم.

صفات القرآن.

١١

وفي الحقيقة سنتحدث في فصول هذه الرسالة عن كتاب لا يتردد في احترامه وقدسيته ومكانته الكبيرة اي واحد من المسلمين ، مع ما مني به الإسلام ـ كبقية الاديان المشهورة في العالم ـ من الاختلافات الداخلية والتفرق المذهبي وتشتت آراء المتدينين به.

من هنا نهدف في بحثنا هذا التعريف بأهمية القرآن الكريم كما يدل عليه هو بنفسه لا كما نعتقده ونتصوره نحن ، وواضح ان بين هذين الموضوعين فروقاً كثيرة لمن امعن النظر.

وبلغة اجلى : ان الاهمية التي نتصورها نحن ـ كان عليها دليل ام لم يكن ـ لا تخلو من احد امرين لا ثالث لهما : اما ان تكون مناقضة ومخالفة لما في الآيات القرآنية فليس لها قيمة في عالم الحق والحقيقة ، وإما ان تكون مما لم نجد عليه في القرآن دليلاً فلا يمكن اقناع كل المسلمين به لانهم مختلفون فيما بينهم فاذا لا بد من معرفة اهميته من آياته والدلائل الموجودة فيه.

وعليه ، فلا محيص من الاجابة على هذا السؤال : ماذا يقول القرآن في الموضوع؟ لا الاجابة على : ماذا نقول نحن الذين من اتباع مذهب كذا

١٢

الفصل الاول

قيمة القرآن لدى المسلمين

* القرآن ، دستور الحياة الافضل

* أهداف الإنسان في أعماله

* القرآن وضع مناهج الحياة للانسان

* القرآن سند النبوة

١٣
١٤

القرآن ، دستور الحياة الافضل

الدين الإسلامي الذي يشتمل على اكمل المناهج للحياة الإنسانية ويحتوي على ما يسوق البشرية الى السعادة والرفاه ، هذا الدين عرفت اسسه وتشريعاته من طريق القرآن الكريم ، وهو ينبوعه الاول ومعينه الذي يترشح منه.

والقوانين الإسلامية التي تتضمن سلسلة من المعارف الاعتقادية والاصول الاخلاقية والعملية ، نجد منابعها الاصيلة في آيات القرآن العظيم.

قال تعالى :( ان هذا القرآن يهدي للتي هي اقوم ) (١) .

وقال تعالى :( ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء ) (٢) .

وواضح كل الوضوح ان في القرآن كثيراً من الآيات التي نجد فيها اصول العقائد الدينية والفضائل الاخلاقية وكليات القوانين العملية ، ولا نرانا بحاجة الى سرد كل هاتيك الآيات في هذا المجال الذي لا نجد سعة لاطالة القول فيه.

ــــــــــــــــــ

(١) سورة الاسراء : ٩.

(٢) سورة النحل : ٨٩.

١٥

وبشيء من التفصيل نقول : دقة النظر في النقاط التالية توضح لنا مدى اشتمال القرآن الكريم على المناهج الحياتية التي لا بد من توفرها للانسان :

١ ـ لا يهدف الإنسان من حياته الا السعادة والهناء والوصول الى الاماني التي يتمناها. السعادة والهناء لون خاص من الوان الحياة ، يتمناها الإنسان ليدرك في ظلها الحرية والرفاه وسعة العيش وما اشبه هذا.

والذي نراه في حالات شاذة ان اناسا يديرون وجوههم عن السعادة والرغد بما يفعلون بأنفسهم ، كالانتحار وجرح الابدان وبتر الاعضاء وبعض الرياضات الشاقة غير المشروعة بحجة الاعراض عن الدنيا ، وما اشبه هذه الاشياء مما يسبب حرمان النفس عن كثير من وسائل الرفاه والعيش الهانىء هكذا انسان مبتلى بعقد نفسية يرى ـ نتيجة لتأصلها في نفسه ـ ان السعادة تتحقق فيما يقوم به من الاعمال المضادة للسعادة.

فمثلاً يصيب البعض انواع من متاعب الحياة ولا يتمكن من حملها فيلجأ الى الانتحار لانه يرى الراحة في الموت ، او يتزهد بعضهم ويجرب انواع الرياضات البدنية ويحرم على نفسه اللذائذ المادية لانه يرى السعادة في هكذا حياة نكدة.

اذاً ، الجهد الذي يبذله الإنسان ليس الا لدرك تلك السعادة المنشودة التي يسعى في تحقيقها ونيلها.

١٦

نعم ، تختلف الطرق المتبعة للوصول الى الهدف المذكور ، فبعضهم يسلك السبيل المعقول الذي تقره الإنسانية وتجوزه الشريعة ، وبعضهم يخطأ المسالك الصحيحة فيقع في متاهات الضلال والانحراف عن صراط الحق.

٢ ـ الاعمال التي تصدر من الإنسان لا تكون الا في اطار خاص من الانظمة والقوانين. هذا بديهي لا يقبل الانكار ، ولو ذلك في بعض الحالات فليس الا لشدة الوضوح والظهور.

ذلك لان الإنسان الذي له نصيب من العقل لا يعمل شيئا الا بعد ان يريده ، فعمله صادر عن ارداة نفسية يعملها هو ولا تخفى عليه. ومن جهة اخرى انما يعمل ما يعمل لاجل نفسه ، ونعني انه يحس بضرورات حياتية لا بد من توفرها ، فيعمل ليوفر تلك الضرورات على نفسه. فبين اعماله كلها ربط وثيق يربط بعضها ببعض.

ان الاكل والشرب والنوم واليقظة والجلوس والقيام والذهاب والمجيء هذه الاعمال وغيرها من الاعمال الكثيرة التي تصدر من الإنسان ، هي ضرورية له في بعض الحالات وغير ضرورية في حالات اخرى ، نافعة له حيناً وتضره في احيان اخرى. فكل ما يعلمه الإنسان نابع من قانون يدرك كلياته في نفسه ويطبق جزئياته على اعماله وافعاله.

١٧

ان اي شخص في اعماله الفردية يشبه حكومة كاملة لها قوانيها وسننها آدابها ، والقوى الفعالة في تلك الحكومة عليها ان تقيس اعمالها مع تلك القوانين اولاً ثم تعمل.

والاعمال الاجتماعية الجارية في مجتمع ما تشبه الاعمال الفردية ، فتحكم فيها مجموعة من القوانين والآداب التي تواضع عليها اكثر افراد ذلك المجتمع ، والا فسوف يسود الفوضى في اقرب وقت وينفصم عراهم الاجتماعي.

نعم تختلف صبغة المجتمعات في قوانينها السارية فيها والحاكمة عليها ، فلو كان المجتمع مذهبيا جرت فيه احكام المذاهب وقوانينه ، ولو كان غير مذهبي الا انه يتمتع بالمدنية اخذت افعاله لون القانون المدني ، اما اذا كان المجتمع متوحشا ليس له نصيب من المدنية حكمت عليه الآداب والقوانين الفردية المستبدة او القوانين التي وجدت من جراء احتكاك مختلف العقائد والآداب بصورة فوضى غير منظمة.

فاذاً ، لا بد للانسان من هدف خاص في افعاله الفردية والاجتماعية ، للوصول الى ذلك الهدف المنشود لا محيص فيه من تطبيق اعماله بقوانين وآداب خاصة موضوعة من قبل دين او مجتمع او غيرهما.

والقرآن الكريم نفسه يؤيد هذه النظرية حيث يقول :( ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات ) (١) .

ــــــــــــــــــ

(١) سورة البقرة : ١٤٨.

١٨

والدين في عرف القرآن يطلق على الآداب والقوانين بصورة عامة ، فان المؤمنين والكافرين ـ وحتى المنكرين لله تعالى ـ لا يخلون من دين ما ، لان كل انسان يتبع قوانين خاصة في اعماله ، كانت تلك القوانين مستندة الى نبي ووحي او موضوعة من قبل شخص او جماعة ما ، يقول تعالى في اعداء الدين :( الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً ) (١) .

٣ ـ ان احسن واثبت الآداب التي يليق بالإنسان متابعتها هي الآداب التي توحيها اليه الفطرة السليمة ، لا النابعة من العواطف والاندفاعات الفردية او الاجتماعية.

ولو امعنا النظر في كل جزء من اجزاء الكون ، نرى ان له هدفا خاصا وجهته من اول يوم خلقته تحقيق ذلك الهدف من اقرب الطرق واحسنها ، وهو يشتمل على ما لا بد منه لتحقيق هدفه من الوسائل والالات. هذا شأن كل مخلوق في الكون ذي روح ام غير ذي روح.

مثلاً حبة الحنطة من اول يوم توضع في بطن الارض

ــــــــــــــــــ

(١) سورة الاعراف : ٤٥. وجه دلالة الآية الكريمة على ما قلناه ان جملة « سبيل الله » تطلق في عرف القرآن على الدين ، والآية تدل على ان الكافرين بما فيهم المنكرين لله تعالى ـ يحرفون دين الله ( دين الفطرة ) ، فالآداب التي يتبعونها في حياتهم هي دينهم.

١٩

تسير في طريق التكامل فتخضر وتنمو حتى تكون لها سنابل تحمل طياتها حبات كثيرة من الحنطة ، وهي مجهزة بوسائل خاصة تستفيد بواسطتها من العناصر التي لا بد من توفرها في سيرها التكاملي ، فتجذب الى نفسها من اجزاء الارض والهواء وغيرهما بنسب معلومة ، فتنشق عنها الارض وتخضر وتنمو يوماً فيوماً وتتحول من شكل الى آخر حتى يكون لها سنابل في كل سنبلة حبات ، وحينئذ تكون الحبة الاولى المزروعة في الارض قد وصلت الى هدفها المنشود وكمالها الذي كانت تسير نحوه.

وهكذا شجرة الجوز لو دققنا النظر فيها لنرى انها تسير ايضاً نحو هدف خاص من اول خلقتها ، وللوصول الى ذلك الهدف جهزت بآلات خاصة تناسب سيرها التكاملي وقوتها وضخامتها ، وهي في مسيرتها لا تتبع الطريقة التي اتبعتها الحنطة ، كما ان الحنطة في مدارجها التكاملية لم تسر سير الجوزة ، ولكل منهما تطوره الخاص به لا يتعداه في طول الخط.

ان جميع ما نشاهده في الكون يتبع هذه القاعدة المطردة ، وليس لدينا دليل ثابت على ان الإنسان شاذ عنها في مسيرته الطبيعية الى هدفه الذي جهز بآلالات اللازمة للوصول اليه. بل الاجهزة المودعة فيه احسن دليل على انه

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

الآيتان

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102) )

سبب النّزول

الأقوال في سبب نزول هاتين الآيتين مختلف في مصادر الحديث والتّفسير ، ولكن الذي ينسجم أكثر مع سبب نزول هاتين الآيتين ، هو ما جاء في تفسير «مجمع البيان» عن علي بن أبي طالبعليه‌السلام قال : خطب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «إنّ الله كتب عليكم الحج» فقام عكاشة بن محصن وقيل سراقة بن مالك فقال : أفي كلّ عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه حتى عاد مرّتين أو ثلاثا ، فقال رسول الله : «ويحك ما يؤمنك أن أقول : نعم ، والله لو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت ما استطعتم ، ولو تركتم لكفرتم ، فاتركوني كما تركتكم ، فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن

١٦١

شيء فاجتنبوه»(1) .

ينبغي ألا يظن أحد بأن سبب نزول هاتين الآيتين ـ كما سنتطرق إلى ذلك في تفسيرهما ـ يعني غلق أبواب السؤال وباب تفهم الأمور بوجوه الناس ، لأنّ القرآن في آياته يأمر الناس صراحة بالرجوع إلى أصحاب الخبرة في فهم الأمور :( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (2) بل المقصود هو الأسئلة التافهة والتحجج ، والإلحاح المؤدي غالبا إلى تشويش أفكار الناس وقطع التسلسل الفكري للخطيب.

التّفسير

الأسئلة الفضولية :

لا شك أنّ السّؤال مفتاح المعرفة ، ولذلك من قلّت أسئلته قلت معرفته ، وفي القرآن وفي الرّوايات الكثير من التوكيد على الناس أن يسألوا عمّا لا يعرفون ، ولكن لكل قاعدة استثناء ، ولهذا المبدأ التربوي الأساس استثناءاته أيضا ، منها أن هناك أحيانا بعض المسائل التي يكون إخفاؤها أفضل لحفظ النظام الاجتماعي ولمصلحة أفراد المجتمع ، ففي أمثال هذه الحالات لا يكون الإلحاح في السؤال عنها والسعي لكشف النقاب عن حقيقتها بعيدا عن الفضيلة فحسب ، بل يكون مذموما أيضا مثلا : يرى معظم الأطباء ضرورة كتمان الأمراض الصعبة الشفاء والمخيفة عن المريض نفسه ، وقد يخبرون أهله شريطة أنّ يلتزموا كتمان الأمر عن المريض ، والسبب هو أن التجارب قد دلت على أنّ المريض إذا عرف أنّ مرضه لا يشفى بسرعة انتابه الرعب والهلع وقد يؤخر ذلك شفاءه ، إن لم يكن مرضه مهلكا فعلى

__________________

(1) تفسير «مجمع البيان» وتفسير «الدر المنثور» و «المنار» في ذيل الآية المذكورة مع بعض الاختلاف.

(2) النحل ، 43.

١٦٢

المريض أنّ لا يلح في إلقاء الأسئلة على طبيبه العطوف ، لأنّ هذا الإلحاح قد يحرج الطبيب ، فيصرّح للمريض بما لا ينبغي أنّ يصارحه به تخلصا من هذا الإصرار واللجاج.

كذلك الناس عموما ، فهم في التعامل فيما بينهم يحتاجون إلى أن يحسن بعضهم الظن ببعض ، فللحفاظ على هذا الرصيد الهام خير لهم ألّا يعرفوا خفايا الآخرين ، إذ أن لكل امرئ نقاط ضعيفه ، فانكشاف نقاط ضعف الناس يضرّ بالتعاون فيما بينهم فقد يكون امرؤ ذو شخصية مؤثرة قد ولد في عائلة واطئة ومنحطة ، وإذا انكشف هذا فقد تتزلزل آثاره الوجودية في المجتمع ، لذلك ينبغي على الناس ألا يلحوا في السؤال والتفتيش في هذا المجال.

كما أنّ الكثير من الخطط والمناهج الاجتماعية يلزمها الكتمان حتى يتمّ تنفيذها ، فالإعلان عنها يعتبر ضربة تؤخر سرعة إنجاز العمل.

هذه وأمثالها نماذج لما لا يصح فيه الإلحاح في السؤال ، وعلى القادة أن لا يفشوا أمثال هذه الأسرار ما لم يقعوا تحت ضغط شديد.

والقرآن في هذه الآية يشير إلى الموضوع نفسه ويقول :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) .

ولكن إلحاح بعض الناس بالسؤال من جهة ، وعدم الإجابة على أسئلتهم من جهة أخرى ، قد يثير الشكوك والريب عند الآخرين بحيث يؤدي الأمر إلى مفاسد أكثر ، لذلك تقول الآية :( وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ) فيشق عليكم الأمر.

أمّا قصر افشائها على وقت نزول القرآن ، فذلك لأنّ تلك التساؤلات كانت متعلقة بمسائل ينبغي أن تنزل أجوبتها عن طريق الوحي.

ثمّ لا تحسبوا الله غافلا عن ذكر بعض الأمور إن سكت عنها ، فقد( عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) .

١٦٣

يقول عليعليه‌السلام : «إنّ الله افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها ، وحدّ لكم حدودا فلا تعتدوها ، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسيانا فلا تتكلفوها»(1) .

سؤال :

قد يسأل سائل : إذا كان إفشاء هذه الأمور يتعارض مع مصلحة الناس ، فلما ذا يماط اللثام عنها على أثر الإلحاح؟

الجواب :

السبب هو ما قلناه من قبل ، فالقائد إذا لزم الصمت رغم الإلحاح بالسؤال ، فقد تنجم عن ذلك مفاسد أخطر ، ويثار سوء ظن يشوب أذهان الناس ، مثل صمت الطبيب إزاء إلحاح المريض في السؤال عن مرضه ، فإن ذلك يثير شكوك المريض ، وقد يحمله على الظن بأن الطبيب لم يشخص مرضه بعد ، فيهمل استعمال ما يصفه له من علاج ، عندئذ لا يسع الطبيب إلّا أن يفشي له سرّ مرضه ، ولو سبب له ذلك بعض المشاكل.

الآية التي بعدها تؤكّد هذه الحقيقة ، وتبيّن أنّ أقواما سابقين كانت لهم أسئلة كهذه ، وبعد أن سمعوا أجوبتها خالفوها وعصوا :( لقَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ ) .

وللمفسّرين أقوال مختلفة بشأن تلك الأقوام ، منهم من ذهب إلى أن الأمر يخص تلامذة عيسىعليه‌السلام عند ما طلبوا مائدة من السماء ، فعند ما تحقق لهم ما أرادوا عصوا ، ويقول بعض : إنّها حكاية مطالبة النّبي صالحعليه‌السلام بمعجزة ، ولكن الظاهر أن هذه الاحتمالات بعيدة عن الصواب ، لأنّ الآية تتحدث عن «سؤال» عن مجهول يراد الكشف عنه ، لا عن «طلب» شيء ، ولعل استعمال كلمة «سؤال» في كلا الحالين هو سبب هذا الخطأ.

__________________

(1) «مجمع البيان» ، ذيل الآية المذكورة.

١٦٤

قد تكون تلك الأقوام من بني إسرائيل أمروا بذبح بقرة للتحقيق في أمر جريمة (انظر شرح ذلك في المجلد الأوّل من هذا التّفسير) فراحوا يمطرون موسى بالأسئلة عن خصائص البقرة ومميزاتها ممّا لم يكن قد نزل بشأنها أي شيء ، ولكنّهم بسؤالاتهم المتكررة التي لم تكن ضرورية أخذوا يشقون على أنفسهم ، بحيث أن العثور على تلك البقرة الموصوفة أصبح من الصعوبة بمكان وتحملوا الكثير من النفقات في سبيل ذلك ، حتى كادوا أن ينصرفوا عن التنفيذ.

في تفسير قوله تعالى :( ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ ) احتمالان :

الأوّل : أنّ المقصود بالكفر هو العصيان ، كما سبقت الإشارة إليه.

والثّاني : هو أنّ الكفر قصد بمعناه المعروف ، وذلك لأن سماع الإجابات المزعجة التي تثقل على السامع قد تدفع به إلى إنكار أصل الموضوع وصلاحية المجيب ، كأن يسمع مريض جوابا لا يروقه من طبيبه ، فيؤدي ردّ الفعل به إلى إنكار صلاحية الطبيب واتهامه بعدم الفهم مثلا أو بالهرم ونسيان المعلومات.

في ختام هذا البحث نجد لزاما أن نكرر ما قلناه في بدايته ، وهو أنّ هذه الآيات لا تمنع أبدا إلقاء الأسئلة المنطقية التربوية والبناءة ، بل تتحدد بالأسئلة التي لا لزوم لها ، وبالتعمق في أمور لا ضرورة للتعمق فيها والتي من الأفضل بل من اللازم ـ أحيانا ـ بقاؤها في طي الكتمان.

* * *

١٦٥

الآيتان

( ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104) )

التّفسير

في الآية الاولى إشارة إلى أربعة «بدع» كانت سائدة في الجاهلية ، فقد كانوا يضعون على بعض الحيوانات علامات وأسماء لأسباب معينة ويحرمون أكل لحومها ولا يجيزون شرب لبنها أو جز صوفها أو حتى امتطاءها ، كانوا أحيانا يطلقون سراح هذه الحيوانات تسرح وتمرح دون أن يعترضها أحد ، أي أنّهم كانوا يطلقونها سائبة دون أن يستفيدوا منها شيئا ، لذلك يقول الله تعالى :( ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ ) .

١٦٦

بحوث

1 ـ «البحيرة» هي النّاقة التي ولدت خمسة أبطن خامسها أنثى ـ وقيل ذكر ـ فيشقون أذنها ، وتترك طليقة ولا تذبح.

«البحيرة» من مادة «بحر» بمعنى الواسع العريض ، ولهذا سمي البحر بحرا ، وتسمية الناقة بالبحيرة جاءت من شق أذنها شقا واسعا عريضا.

2 ـ «السائبة» هي الناقة التي تكون قد ولدت اثني عشر بطنا ـ وقيل عشرة أبطن ـ فيطلقونها سائبة ولا يمتطيها أحد ، ولها أن ترعى حيثما تشاء وترد حيثما تشاء دون أن يعترضها أحد ، وقد يحلبونها أحيانا لإطعام الضيف ، و «السائبة» من مادة «سيب» أي جريان الماء أو المشي بحرّية.

3 ـ «الوصيلة» هي الشاة التي ولدت سبعة أبطن ـ وقيل أنّها التي تلد التوائم ، من مادة «وصل» وكانوا يحرمون ذبحها.

4 ـ «الحام» واللفظة اسم فاعل من مادة «حمى» ، ويطلق على الفحل الذي يتخذ للتلقيح ، فإذا استفيد منه في تلقيح الأناث عشر مرات وولدن منه ، قالوا : لقد حمى ظهره ، فلا يحق لأحد ركوبه ، ومن معاني «الحماية» المحافظة والحيلولة والمنع.

هناك احتمالات أخرى وردت عند المفسّرين وفي الأحاديث بشأن تحديد هذه المصطلحات الأربعة ، لكن القاسم المشترك بين كل هذه المعاني هو أنّها تدل جميعا على حيوانات قدّمت خدمات كبيرة لأصحابها في «النتاج» فكان هؤلاء يحترمونها ويطلقون سراحها لقاء ذلك.

صحيح أنّ عملهم هذا ضرب من العرفان بالجميل ومظهر من مظاهر الشكر ، حتى نحو الحيوانات ، وهو بهذا جدير بالتقدير والإجلال ، ولكنّه كان تكريما لا معنى له لحيوانات لا تدرك ذلك.

كما كان ـ فضلا عن ذلك ـ مضيعة للمال وإتلافا لنعم الله وتعطيلها عن

١٦٧

الاستثمار النافع ، ثمّ أنّ هذه الحيوانات ، بسبب هذا الاحترام والتكريم ، كانت تعاني من العذاب والجوع والعطش لأنّه قلما يقدم أحد على تغذيتها والعناية بها.

ولما كانت هذه الحيوانات كبيرة في السن عادة ، فقد كانت تقضي بقية أيّامها في كثير من الحرمان والحاجة حتى تموت ميتة محزنة ، ولهذا كله وقف الإسلام بوجه هذه العادة!

إضافة إلى ذلك ، يستفاد من بعض الرّوايات والتفاسير أنّهم كانوا يتقربون بذلك كله ، أو بقسم منه إلى أصنامهم ، فكانوا في الواقع ينذرون تلك الحيوانات لتلك الأصنام ، ولذلك كان إلغاء هذه العادات تأكيدا لمحاربة كل مخلفات الشرك.

والعجيب في الأمر ، أنّهم كانوا يأكلون لحوم تلك الحيوانات إذا ما ماتت موتا طبيعيا (وكأنّهم يتبركون بها) وكان هذا عملا قبيحا آخر(1) .

ثمّ تقول الآية :( وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ ) قائلين أنّ هذه قوانين إلهية دون أن يفكروا في الأمر ويعقلوه ، بل كانوا يقلدون الآخرين في ذلك تقليدا أعمى :( وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) .

الآية الثّانية تشير إلى منطقهم ودليلهم على قيامهم بهذه الأعمال :( وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا ) .

في الواقع ، كان كفرهم وعبادتهم الأصنام ينبع من نوع آخر من الوثنية ، هو التسليم الأعمى للعادات الخرافية التي كان عليها أسلافهم ، معتبرين ممارسات أجدادهم لها دليلا قاطعا على صحتها ، ويرد القرآن بصراحة على ذلك بقوله :( أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ ) .

أي لو كان أجدادكم الذين يستندون إليهم في العقيدة والعمل من العلماء والمهتدين لكان اتباعكم لهم إتباع جاهل لعالم ، لكنكم تعلمون أنّهم ، لا يعلمون أكثر منكم ولعلهم أكثر تخلفا منكم ، ومن هنا فإنّ تقليدكم إيّاهم تقليد جاهل

__________________

(1) تفسير «نور الثقلين» ، ج 1 ، ص 684.

١٦٨

لجاهل ، وهو فوض ومذموم في ميزان العقل.

تركيز القرآن في هذه الآية على كلمة «أكثر» يدل على أنّه كانت في ذلك المحيط الجاهلي المظلم فئة ـ وإن قلت ـ على قدر من الفهم بحيث تنظر بعين الاحتقار والاشمئزاز إلى تلك الممارسات.

وثن اسمه «الأسلاف» :

من الأمور التي كانت سائدة في الجاهلية والتي تكررت الإشارة إليها في القرآن التفاخر بالآباء والأجداد وإجلالهم إلى حدّ التقديس الأعمى وإتباع أفكارهم وعاداتهم وتقاليدهم. وليس هذا مقصورا على الجاهلية الاولى ، فهو موجود بين كثير من الأقوام المعاصرة ، ولعلّه أحد أسباب اشاعة الخرافات وانتقالها من جيل إلى جيل ، وكان «الموت» يضفي هالة من القدسية والاحترام والإجلال على الأسلاف.

لا شك أنّ روح الاعتراف بالجميل ورعاية المبادئ الإنسانية توجب علينا احترام الماضين من آبائنا وأجدادنا ، ولكن لا أن نعتبرهم معصومين عن كل خطأ ومصونين عن كل نقد وتجريح لأفكارهم وسلوكهم فنتبع خرافاتهم ونقلدهم فيها تقليدا أعمى ، ليس هذا في الواقع سوى لون من ألوان الوثنية والمنطق الجاهلي ، إنّنا من الممكن أن نحترم أفكارهم وتقاليدهم المفيدة ، ونحطم في الوقت نفسه عاداتهم غير الصحيحة ، خاصّة وأن الأجيال الحديثة أوسع علما وأعمق معرفة من الأجيال السابقة بسبب مضي الزمن وتقدم العلم والتجربة ، وما من عقل رصين يجيز تقليد الماضين تقليدا أعمى.

ومن العجيب أن نرى بعض العلماء وأساتذة الجامعة يعيشون هذا اللون من التقديس الأعمى لعادات السلف ، فيبلغ بهم التعصب القومي إلى التمسك بعادات وتقاليد ما أنزل الله بها من سلطان متبعين بذلك منطق العرب في جاهليتهم الاولى.

١٦٩

تناقض بلا مبرّر :

جاء في تفسير «الميزان» و «الدر المنثور» عن عدد من الرواة منهم الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» وعن غيره ، عن أبي الأحوص عن أبيه ، قال : أتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خلقان من الثياب ، فقال لي : «هل لك من مال؟» قلت : نعم ، قال : «من أي المال؟» قلت : من كل المال ، من الإبل والغنم والخيل والرقيق ، قال : «فإذا أتاك الله ، فلير عليك». أي لا ينبغي أن تعيش كالمساكين مع انك صاحب ثروة.

ثمّ قال : «تنتج إبلك وافية آذانها؟» قلت : نعم وهل تنتج الإبل إلّا كذلك؟قال : «فلعلك تأخذ موسى فتقطع آذان طائفة منها وتقول : هذه بحر ، وتشق آذان طائفة منها وتقول : هذه الصرم؟» قلت : نعم ، قال : «فلا تفعل ، إن كل ما أتاك الله لك حل ، ثمّ قال : ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام»(1) .

نفهم من هذه الرواية أنّهم كانوا يجمدون قسما من أموالهم ، ولكنّهم في الوقت نفسه كانوا يقتصدون في ملبسهم ، بل ويبخلون فيه ، وهذا نوع من التناقض الذي لا مسوغ له.

* * *

__________________

(1) تفسير «الميزان» ، ج 6 ، ص 172.

١٧٠

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) )

التّفسير

كلّ امرئ مسئول عن عمله :

دار الحديث في الآية السابقة حول تقليد الجاهليين آباءهم الضالين ، فأنذرهم القرآن بأن تقليدا كهذا لا ينسجم مع العقل والمنطق ، فمن الطبيعي أن يتبادر إلى أذهانهم السؤال : إنّنا إذا كان علينا أن ننفصل عن أسلافنا في هذه الأمور ، فما ذا سيكون مصيرهم؟ثمّ إذا نحن أقلعنا عن هذه التقاليد فما مصائر الكثير من الناس الذين ما يزالون متمسكين بها وواقعين تحت تأثيرها فكان جواب القرآن :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) .

ثمّ يشير إلى موضوع البعث والحساب ومراجعة حساب كل فرد :( إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

١٧١

ردّ على اعتراض :

أثار بعضهم شبهة حول هذه الآية ، فظن أنّ بين هذه الآية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ وهو من التشريعات الإسلامية الصريحة المسلم بها ـ ضرب من التضاد أو التناقض ، إذ أن هذه الآية تقول( عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) .

هناك أحاديث وروايات تدل على أنّ هذا الموضوع أثار شبهة حتى في عصر نزول الآية يقول (جبير بن نفيل) : كنت في جمع من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالسين بحضرته ، وكنت أحدثهم سنا ، وكان الحديث يدور حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقاطعتهم وقلت : ألم يأت في القرآن( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) (أي بهذه الآية لا يبقى ما يوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وإذا بالحاضرين يجمعون على توبيخي وتقريعي قائلين : كيف تقتبس آية من القرآن دون أن تعرف معناها وتفسيرها؟ فندمت على ما قلت أشد الندم ، وعادوا إلى بحثهم السابق.

وعند انفضاض المجلس التفتوا إلى قائلين : إنّك شاب حدث السن ، قمت بتفصيل آية من القرآن عما حولها بغير أن تعرف معناها.

وقد يطول بك العمر حتى ترى كيف يحيط البخل بالناس ويسيطر عليهم ، وتسيطر عليهم أهواؤهم ويعتدّ كل منهم برأيه ، فلتحذر يومئذ من أن يضرّك من ضل منهم (أي أنّ الآية تشير إلى ذلك الزمان).

واليوم نجد الراكنين إلى الدعة وطلاب الراحة ، عند ما يدور الحديث حول القيام بهاتين الفريضتين الإلهيتين الكبيرتين ـ الأمر بالمعروف ـ والنهي عن المنكر ـ يتذرعون بهذه الآية ويحرفونها عن موضعها ، مع أنّنا بقليل من الدقّة في النظر ندرك ألّا تضاد بين هاتين الفريضتين وما جاء في هذه الآية :

فأوّلا : تبيّن الآية أنّ كل امرئ يحاسب على انفراد ، وأنّ ضلال الآخرين من

١٧٢

الأسلاف وغير الأسلاف لا يؤثر في هداية الذين اهتدوا ، حتى وإن كانوا قريبين قرب الأخ أو الأب أو الابن ، لذلك فلا تتبعوهم وانجوا بأنفسكم (لاحظ بدقّة).

وثانيا : تشير هذه الآية إلى الحالة التي لا يكون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أي أثر ، أو تكون شروط فاعليتهما غير متوفرة ، ففي أمثال هذه الحالات يشعر بعض المؤمنين بالألم ، ويتساءلون عمّا ينبغي لهم أن يفعلوه ، فتجيبهم الآية : لا تثريب عليكم ، فقد أديتم واجبكم ، إذ( لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) .

نجد هذا المعنى في الحديث الذي ذكرناه أعلاه ، وكذلك في بعض الأحاديث الأخرى فقد سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذه الآية فقال : «ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر ، فإذا رأيت دنيا مؤثرة وشحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخويصة نفسك وذر عوامهم»(1) .

وهناك روايات أخرى بالمضمون نفسه وتفيد هذه الحقيقة ذاتها.

فخر الدين الرازي ـ حسب عادته ـ يذكر عدة أوجه في الإجابة على السؤال المذكورة ، ولكنّها تكاد تعود كلها إلى الأمر الذي ذكرناه ، ولعله ذكرها جميعا لبيان كثرة عددها.

على كلّ حال ، لا شك أنّ مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أركان الإسلام التي لا يمكن التغاضي عنها بأي شكل من الأشكال ، ولا تسقط إلّا عند اليأس من تأثيرها أو من توفر شروطها.

* * *

__________________

(1) تفسير «نور الثقلين» ، ج 1 ، ص 684.

١٧٣

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108) )

سبب النّزول

جاء في «مجمع البيان» وبعض التفاسير الأخرى في سبب نزول هذه الآيات أنّ أحد المسلمين ، ويدعى (ابن أبي مارية) ومعه اخوان مسيحيان من العرب

١٧٤

يدعيان (تميم) ، (عدي) خرجوا من المدينة للتجارة ، وفي الطريق مرض (ابن أبي مارية) المسلم ، فكتب وصية أخفاها في متاعه ، وعهد بمتاعه إلى رفيقيه ـ النصرانيين ـ في السفر ، وطلب منهما أن يسلماه ، إلى أهله ، ثمّ مات ففتح النصرانيان متاعه واستوليا على الثمين والنفيس فيه ، وسلما الباقي إلى الورثة ، وعند ما فتح الورثة متاعه لم يجدا فيه بعض ما كان ابن أبي مارية قد أخذه معه عند سفره وفجأة عثروا على الوصية ، ووجدوا فيها ثبتا بكل الأشياء المسروقة ، ففاتحوا المسيحيين بالموضوع ، فأنكرا وقالا : لقد سلمناكم كل ما سلمه لنا ، فشكوا الرجلين إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزلت هذه الآيات تبيّن حكم القضية.

غير أن سبب النّزول المذكور في «الكافي» يقول : إنّهما أنكرا أوّلا وجود متاع آخر ، ووصل الأمر إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولما لم يكن هناك دليل ضدهما طلب منهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحلفا اليمين ، وبرأهما ، ولكن بعد أيّام قليلة ظهر بعض المتاع المسروق عند الرجلين فثبت كذبهما ، فبلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانتظر حتى نزلت الآيات المذكورة ، عندئذ أمر أولياء الميت بالقسم ، وأخذ الأموال دفعها إليهم.

التّفسير

من أهم المسائل التي يؤكّدها الإسلام هي مسألة حفظ حقوق الناس وأموالهم وتحقيق العدالة الاجتماعية هذه الآيات تبيّن جانبا من التشريعات الخاصّة بذلك ، فلكيلا تغمط حقوق ورثة الميت وأيتامه الصغار ، يصدر الأمر للمؤمنين قائلا :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ ) .

المقصود بالعدل هنا العدالة ، وهي تجنب الذنوب الكبيرة ونظائرها ، ولكن يحتمل من معنى الآية أيضا أنّ يكون المقصود من العدالة : الأمانة في الشؤون

١٧٥

المالية ، إلّا إذا ثبت بدلائل أخرى ضرورة توفر شروط أخرى في الشاهد.

و «منكم» تعني من المسلمين بإزاء غير المسلمين ، الذين تأتي الإشارة إليهم في العبارة التّالية من الآية.

لا بدّ من القول بأنّ القضية هنا لا تتعلق بالشهادة العادية المألوفة ، بل هي شهادة مقرونة بالوصاية ، أي أن هذين وصيان وشاهدان في الوقت نفسه ، أمّا الاحتمال القائل باختيار شخص ثالث كوصي بالإضافة إلى الشاهدين هنا ، فإنه خلاف ظاهر الآية ويخالف سبب نزولها ، لأنّنا لاحظنا أنّ ابن أبي مارية لم يكن يرافقه في السفر غير اثنين اختارهما وصيين وشاهدين.

ثمّ تأمر الآية : إذا كنتم في سفر ووافاكم الأجل ولم تجدوا وصيّا وشاهدا من المسلمين فاختاروا اثنين من غير المسلمين :( أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ ) .

وعلى الرغم من عدم وجود ما يفهم من الآية أنّ اختيار الوصي والشاهد من غير المسلمين مشروط بعدم وجودهما من المسلمين ، فهو واضح ، لأنّ الاستعاضة تكون عند ما لا تجد من المسلمين من توصيه ، كما أنّ ذكر قيد السفر يفيد هذا المعنى أيضا ، وعلى الرغم من أنّ (أو) تفيد «التخيير» عادة ، إلّا أنّها هنا ـ وفي كثير من المواضع الأخرى ـ تفيد «الترتيب» ، أي اخترهما أوّلا من المسلمين ، فإن لم تجد ، فاخترهما من غير المسلمين.

وغني عن القول أنّ المقصود من غير المسلمين هم أهل الكتاب من اليهود والنصاري طبعا ، لأنّ الإسلام لم يقم وزنا في أية مناسبة للمشركين وعبدة الأصنام مطلقا.

ثمّ تقرر الآية حمل الشاهدين عند الشهادة على القسم بالله بعد الصّلاة ، في حالة الشك والتردد :( تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ ) .

ويجب أنّ تكون شهادتهما بما مفاده : إنّنا لسنا على استعداد أن نبيع الحقّ

١٧٦

بمنافع مادية ، فنشهد بغير الحقّ حتى وإن كانت الشهادة ضد أقربائنا :( لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى ) وإننا لن نخفي أبدا الشهادة الإلهية ، وإلّا فسنكون من المذنبين :( وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ ) .

ولا بدّ أن نلاحظ ما يلي :

أوّلا : إنّ هذه التفاصيل في أداء الشهادة إنّما تكون عند الشك والتردد.

وثانيا : لا فرق بين المسلم وغير المسلم في هذا كما يبدو من ظاهر الآية ، وإنّما هو في الحقيقة ـ وسيلة لإحكام أمر حفظ الأموال في إطار الاتهام ، وليس في هذا ما يناقض القبول بشهادة عدلين بغير تحليف ، لأنّ هذا يكون عند انتفاء الشك في الشاهدين ، لذلك فلا هو ينسخ الآية ولا هو مختص بغير المسلمين (تأمل بدقّة).

ثالثا : الصّلاة بالنسبة لغير المسلمين يقصد بها صلاتهم التي يتوجهون فيها إلى الله ويخشونه ، أمّا بالنسبة للمسلمين فيقول بعض : إنّها خاصّة بصلاة العصر ، وفي بعض الرّوايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام إشارة إلى ذلك ، إلّا أنّ ظاهر الآية هو الإطلاق ويشمل الصلوات جميعها ، ولعل ذكر صلاة العصر في رواياتنا يعود إلى جانبه الاستحبابي ، إذ أنّ الناس يشتركون أكثر في صلاة العصر ، ثمّ ان وقت العصر كان الوقت المألوف للتحكيم والقضاء بين المسلمين.

رابعا : اختيار وقت الصّلاة للشهادة يعود إلى أنّ المرء في هذا الوقت يعيش آثار الصّلاة التي( تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (1) وأنّه في هذا الظرف الزماني والمكاني يكون أقرب إلى الحقّ ، بل قال بعضهم : إنّ من الأفضل أن تكون الشهادة في «مكّة» عند الكعبة وبين «الركن» و «المقام» باعتباره من أقدس الأمكنة ، وفي المدينة تكون جنب قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي الآية التّالية يدور الكلام على ثبوت خيانة الشاهدين إذا شهدا بغير

__________________

(1) العنكبوت ، 45.

١٧٧

الحقّ ، كما جاء في سبب نزول الآية ، فالحكم في مثل هذه الحالة ـ أي عند الاطلاع على أن الشاهدين قد ارتكبا إثمّ العدوان على الحقّ واضاعته ـ هو أن تستعيضوا عنهما باثنين آخرين ممن ظلمهما الشاهدان الأولان (أي ورثة الميت) فيشهدان لإحقاق حقهما :( فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ ) .

يذهب العلّامة الطبرسي في «مجمع البيان» إلى أنّ هذه الآية تعتبر من حيث المعنى والإعراب من أعقد الآيات وأصعبها ، ولكن بالالتفات إلى نقطتين نجد أنّها ليست بتلك الصعوبة والتعقيد.

فالنّقطة الاولى : هي أن معنى «استحق» هنا بقرينة كلمة «إثم» هو إثمّ العدوان على حق الآخرين.

والنّقطة الثّانية : هي أنّ «الأوليان» تعني هنا «الأولان» أي الشاهدان اللذان كانا عليهما أنّ يشهدا أوّلا ولكنّهما انحرفا عن طريق الحقّ.

وعليه يكون المعنى : إذا ثبت أنّ الشاهدين الأولين ارتكبا مخالفة ، فيقوم مقامهما اثنان آخران ممن وقع عليهم ظلم الشاهدين الأولين(1) .

ثمّ تبيّن ما ينبغي على هذين الشاهدين أن يفعلاه( فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) .

لمّا كان أولياء الميت على علم بالأموال والأمتعة التي أخذها معه عند سفره أو التي يملكها عموما ، فيمكن أن يشهدوا على أنّ الشاهدين الأولين قد خانا وظلما ، وتكون هذه الشهادة حسية مبنية على القرائن ، لا حدسية.

والآية الأخيرة ، في الحقيقة ، بيان لحكمة الأحكام التي جاءت في الآيات السابقة بشأن الشهادة وهي أنّه إذا أجريت الأمور بحسب التعاليم ، أي إذا طلب

__________________

(1) على هذا يكون إعراب «آخران» مبتدأ ، وجملة «يقومان مقامهما» خبر ، و «أوليان» فاعل «استحقا» و «من الذين» أي من ورثة الميت الذين وقع عليهم الظلم ، والجار والمجرور صفة «آخران» «تأمل بدقّة».

١٧٨

الشاهدان للشهادة بعد الصّلاة بحضور جمع ، ثمّ ظهرت خيانتهما ، وقام اثنان آخران من الورثة مقامهما للكشف عن الحقّ ، فذلك يحمل الشهود على أن يكونوا أدق في شهادتهم ، خوفا من الله أو خوفا من الناس :( ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ ) .

في الواقع سيكون هذا سببا في الخشية من المسؤولية أمام الله وأمام الناس ، فلا ينحرفان عن محجة الصواب.

ولتوكيد الأحكام المذكورة يأمر الناس قائلا :( اتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) .

* * *

١٧٩

الآية

( يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ(109) )

التّفسير

هذه الآية ، في الحقيقة ، تكملة للآيات السابقة ، ففي ذيل تلك الآيات الخاصّة بالشهادة الحقّة والشهادة الباطلة ، كان الأمر بالتقوى والخشية من عصيان أمر الله ، وفي هذه الآية تذكير بذلك اليوم الذي يجمع الله الرسل فيه ويسألهم عن رسالتهم ومهمتهم وعمّا قاله الناس ردا على دعواتهم( يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ ) .

لقد نفوا عن أنفسهم العلم ، وأوكلوا جميع الحقائق إلى علم الله و( قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) وعليه فإنكم أمام علام الغيوب وأمام محكمة هذا شأنها ، فاحذروا أن تنحرف شهادتكم عن الحقّ والعدل(1) .

هنا يبرز سؤالان : الأوّل : إنّ ما يستفاد من الآيات القرآنية أنّ الأنبياء شهداء

__________________

(1) يتّضح من هذا أن( يَوْمَ ) مفعول به لفعل محذوف تفسيره الآية السابقة وتقدير «اتقوا يوم».

١٨٠

على أممهم ، بينما نجدهم في هذه الآية ينكرون كل علم ويوكلون كل شيء إلى الله.

ولكن ليس في هذا اختلاف ولا تضاد ، بل هو يحكي عن مرحلتين ، في المرحلة الاولى وهي التي تشير إليها الآية التي نحن بصددها ، يظهر الأنبياء الأدب بإزاء سؤال الله ، فينفون العلم عن أنفسهم ، ويوكلون كل شيء إلى علم الله ، ولكنّهم في المراحل التّالية يبيّنون ما يعرفونه عن أممهم ويشهدون ، وهذا يكاد يشبه المعلم الذي يطلب من تلميذه أن يجيب على سؤال فيظهر التلميذ التأدب أوّل الأمر ويقول : أن علمه لا شيء بالنسبة لعلم المعلم ، ثمّ بعد ذلك يدلي بما يعرف.

والسؤال الآخر : كيف ينفي الأنبياء العلم عن أنفسهم مع أنّهم إضافة إلى العلوم العادية يعلمون الكثير من الحقائق الخفية التي علمها الله لهم.

رغم أنّ للمفسّرين كلاما كثيرا في جواب هذا السؤال ، نرى أنّ الموضوع واضح وهو أنّ الأنبياء يرون علمهم لا شيء بالنسبة لعلم الله ، والحقّ كذلك ، فوجودنا لا شيء بالنسبة لوجود الله الأبدي وعلمنا لا وزن له بإزاء علم الله ، فمهما يكن «الممكن» فإنّه لا يكون شيئا بإزاء «الواجب» ، وبعبارة أخرى : إنّ علم الأنبياء ، وإن كان في حد ذاته غزيرا ، لكنه لا شيء بالقياس إلى علم الله.

في الحقيقة ، العالم الحقيقي هو الذي يكون حاضرا وناظرا في كل مكان وزمان ، وعارفا بتركيب كل ذرة من ذرات العالم ، وبكل أجزاء هذا العالم المترابط في وحدة واحدة ، وهذه صفة تختص بالله سبحانه.

يتّضح ممّا قلنا أنّ هذه الآية ليست دليلا على نفي كل علم بالغيب عن الأنبياء والأئمّة كما زعم بعضهم ، وذلك لأن «علم الغيب» بالذات يختص بمن يكون حاضرا في كل مكان وزمان ، وأمّا غيره تعالى فإنّه لا علم له بالغيب سوى ما يعلمه الله.

وهذا مأخوذ من آيات عديدة في القرآن ، منها الآية (26) من سورة الجن :

١٨١

( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ ) والآية (49) من سورة هود :( تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ) .

يستفاد من هذه الآيات وأمثالها أنّ علم الغيب مختص بذات الله ، ولكنّه يعلّمه لمن يشاء وبالقدر الذي يشاء.

* * *

١٨٢

الآية

( إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110) )

التّفسير

نعم الله على المسيح :

هذه الآية والآيات التّالية لها حتى آخر سورة المائدة تختص بسيرة حياة السيد المسيحعليه‌السلام والنعم التي أسبغها الله عليه وعلى أمّته ، يبيّنها الله هنا لتوعية المسلمين وايقاظهم فتقول الآية :( إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ ) .

١٨٣

ومعنى «إذ قال» : واذكر إذ قال.

وحسب هذا التّفسير ، تشرع هذه الآيات ببحث مستقل له جانبه التربوي للمسلمين ويرتبط بهذه الدنيا ، إلّا أن عددا من المفسّرين ـ كالطبرسي والبيضاوي وأبي الفتوح والرازي ـ يرون أنّ هذه الآية تابعة للآية السابقة وتتعلق بالحوار الذي يدور بين الله والأنبياء يوم القيامة ، وعلى هذا يكون الفعل الماضي «قال» بمعنى «يقول» المضارع ، غير أنّ هذا يخالف ظاهر الآية ، خاصّة وأنّ تعداد النعم التي أنزلت على شخص ما يستهدف إحياء روح الاعتراف بالجميل والشكر فيه ، وهذا لإمكان له يوم القيامة.

ثمّ تشرع الآية بذكر النعم :( إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) .

لقد بحثنا معنى «روح القدس» في المجلد الأوّل من هذا التّفسير بحثا مستفيضا وأحد الاحتمالات المقصودة هو أنّه إشارة إلى ملك الوحي ، جبرائيل ، والاحتمال الآخر هو تلك القوة الغيبية التي كانت تعين عيسى على إظهار المعجزات وعلى تحقيق رسالته المهمّة ، وهذا المعنى موجود في غير الأنبياء أيضا بدرجة أضعف.

من نعم الله الأخرى :( تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً ) أي أنّ كلامك في المهد ، مثل كلامك وأنت كهل ، كلام ناضج ومحسوب ، لا كلام طفل غر.

ثمّ أيضا :( وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ ) إنّ ذكر التّوراة والإنجيل بعد ذكر كلمة كتاب مع أنّهما من الكتب السماوية ، إنّما هو من باب التفصيل بعد الإجمال.

ومن النعم الأخرى :( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي ) .

ومع ذلك فإنّك تشفي بإذن الله الأعمى بالولادة والمصاب بالمرض الجلدي البرص :( وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ) .

١٨٤

ثمّ( وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي ) .

وأخيرا كان من نعمي عليك بأن منعت عنك أذي بني إسرائيل يوم قام الكافرون منهم بوجهك ووسموا ما تفعل بأنّه السحر ، فدفعت أذى أولئك المعاندين اللجوجين عنك وحفظتك حتى تسير بدعوتك :( وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ) .

يستلفت النظر في هذه الآية أنّها تكرر «باذني» أربع مرات لكيلا يبقى مكان للغلو في المسيحعليه‌السلام وادعاء الألوهية له ، أي أنّ ما كان يحققه المسيحعليه‌السلام بالرغم من إعجازه وإثارته الدهشة ومشابهته للأفعال الإلهية ، لم يكن ناشئا منه ، بل كان من الله وباذنه ، فما كان عيسى سوى عبد من عبيد الله ، مطيع لأوامره ، وما كان له إلّا ما يستمده من قوة الله الخالدة.

وقد يسأل سائل : إنّ كانت هذه النعم كلها قد أسبغت على عيسىعليه‌السلام فلما ذا تعتبر الآية هذه النعم قد أسبغت على أمّه أيضا؟

لا شك أنّ كل موهبة تصل الابن تكون قد وصلت الأم أيضا ، فكلاهما من اصل واحد ، ومن شجرة واحدة.

وكما ذكرنا في ذيل الآية (49) من سورة آل عمران ، فإن هذه الآية والآيات المشابهة دلائل على ولاية أولياء الله التكوينية ، ففي تاريخ حياة المسيحعليه‌السلام ينسب إليه إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، ولكن بأمر الله وإذنه.

يتّضح من هذا أنّ من الممكن أن ينعم الله على من يشاء قدرة كهذه تمكنه من التصرف بعالم التكوين والقيام بأمثال هذه الأعمال أحيانا ، إنّ تفسير هذه الآية بأنّها تشير إلى دعاء الأنبياء واستجابة الله لدعائهم هو خلاف ظاهر الآية ، وأنّ ما نقصده بولاية أولياء الله التكوينية هو هذا الذي قلناه آنفا ، إذ ليس ثمّة دليل على أكثر من هذا المقدار (انظر تفسير سورة آل عمران الآية (49) لمزيد من التوضيح).

* * *

١٨٥

الآيات

( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ(115) )

التّفسير

قصّة نزول المائدة على الحواريين :

تعقيبا على ما جاء في الآيات السابقة من بحث حول ما أنعم الله به على المسيحعليه‌السلام وأمّه يدور الحديث هنا حول النعم التي أنعم الله بها على الحواريين ، أي أصحاب المسيحعليه‌السلام .

ففي البداية تشير الآية إلى ما أوحي إلى الحواريين أن يؤمنوا بالله وبرسوله

١٨٦

المسيحعليه‌السلام فاستجابوا( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ ) .

إن للوحي في القرآن معنى واسعا لا ينحصر في الوحي الذي ينزل على الأنبياء ، بل أن الإلهام الذي ينزل على قلوب الناس يعتبر من مصاديقه أيضا ، لذلك جاء هذا المعنى في الآية (7) من سورة القصص بشأن أم موسى التي أوحي إليها(1) بل إن الكلمة تطلق في القرآن حتى على الغرائز التكوينية عند الحيوان ، كالنحل.

وهناك احتمال أن يكون المقصود هو الإيحاء الذي كان يلقيه المسيحعليه‌السلام بواسطة المعاجز في نفوسهم.

لقد تناولنا الحواريين وأصحاب المسيحعليه‌السلام بالبحث في تفسير آية (52) آل عمران هذا التّفسير.

ثمّ تذكر الآية نزول المائدة من السماء :( إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ ) .

«المائدة» تعني في اللغة الخوان والسفرة والطبق ، كما تعني الطعام الذي يوضع عليها وأصلها من «ميد» بمعنى التحرك والاهتزاز ، ولعل سبب إطلاق لفظة المائدة على السفرة والطعام هو ما يلازمها من تحريك وانتقال.

شعر المسيحعليه‌السلام بالقلق من طلب الحواريين هذا الذي يدل على الشك والتردد ، على الرغم من كل تلك الأدلة والآيات ، فخاطبهم و( قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) .

ولكنّهم سرعان ما أكّدوا للمسيحعليه‌السلام أن هدفهم برىء ، وأنّهم لا يقصدون العناد واللجاج ، بل يريدون الأكل منها (مضافا إلى الحالة النّورانية في قلوبهم المترتبة على تناول الغذاء السماوي لأنّ للغذاء ونوعيته اثر مسلّم في روح الإنسان)( قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا ، وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ

__________________

(1)( وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ )

١٨٧

عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ ) .

فبيّنوا قصدهم أنّهم طلبوا المائدة للطعام ، ولتطمئن قلوبهم به لما سيكون لهذا الطعام الإلهي من أثر في الروح ومن زيادة في الثقة واليقين.

ولمّا أدرك عيسىعليه‌السلام حسن نيّتهم في طلبهم ذاك ، عرض الأمر على الله :( قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) .

من الواضح هنا أنّ الأسلوب الذي عرض به عيسى بن مريم الأمر على الله كان أليق وأنسب ، ويحكي عن روح البحث عن الحقيقة ورعاية الشؤون العامّة للمجتمع.

فاستجاب الله لهذا الطلب الصادر عن حسن نية وإخلاص ،( قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ ) .

فبعد نزول المائدة تزداد مسئوليات هؤلاء وتقوى الحجة عليهم ، ولذلك فإنّ العقاب سيزداد أيضا في حالة الكفر والانحراف.

ملاحظات :

هنا لا بدّ من التحقيق في عدّة نقاط من هذه الآيات الكريمة :

1 ـ ما القصد من طلب المائدة؟

لا شك أنّ الحواريين لم يكونوا مدفوعين بقصد شيء في طلبهم هذا ، ولا هم كانوا يريدون المشاكسة والمعاندة ، بل كانوا يرغبون في بلوغ مرحلة الاطمئنان الأقوى وإبعاد ما بقي من رواسب الشك والوسوسة من أعماقهم ، فكثيرا ما يحدث أنّ إنسانا يتأكد من أمر بالمنطق وحتى بالتجربة ، ولكن إذا كان الأمر مهما جدّا فإنّ بقايا من الشك والتردد تظل في ثنايا قلبه ، لذلك فهو شديد الرغبة في أن تتكرر تجاربه واختباراته ، أو أن تتبدل استدلالاته المنطقية والعلمية إلى مشاهدات عينية تقتلع من أعماق قلبه جذور تلك الشكوك والوساوس ، ولهذا

١٨٨

نرى إبراهيمعليه‌السلام ، على ما كان عليه من مقام ويقين يسأل الله أن يرى المعاد رأي العين لكي يتبدل إيمانه العلمي إلى «عين اليقين» وإلى «شهود».

ولكن أسلوب طلب الحواريين تميز بشيء من الفضاضة لذلك ظن عيسىعليه‌السلام أنّهم بصدد البحث عن الأعذار والحجج ، فاعترضهم وبعد أن شرحوا له حقيقة موقفهم وافق على طلبهم.

2 ـ ما المقصود بعبارة( هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ) ؟

لا شك أنّ ظاهر هذا الكلام يوحي بأنّ الحواريين كانوا يشكون في قدرة الله على إنزال مائدة ، إلّا أنّ المفسّرين المسلمين لهم آراء أخرى في تفسيرها ، منها أنّ هذا الطلب وقع في بداية أمرهم وقبل أن يتعرفوا على جميع صفات الله.

ورأي آخر يقول : إنّ سؤالهم يعني : هل يرى الله أن من المصلحة أن ينزل عليهم مائدة من السماء؟ كأن يقول شخص : لا أستطيع أن أعهد إلى فلان بكل ثروتي ، ولا يعني أنّه ليس بقادر على ذلك ، بل يعني أنّه لا يرى مصلحة في الأمر.

ورأي ثالث يقول : أن «يستطيع» تعني «يستجيب» لأن مادة (طوع) تعني الانقياد ، فإذا وردت من باب (الاستفعال) فيمكن أن تفيد المعنى نفسه ، فيكون المعنى : هل يستجيب الله لطلبنا بشأن إنزال مائدة من السماء؟

3 ـ ما هي تلك المائدة السماوية؟

لم يذكر القرآن شيئا عن محتوياتها ، ولكن يستفاد من بعض الأحاديث ، وخاصة الحديث المروي عن الإمام الباقرعليه‌السلام ، أن تلك المائدة كانت تحوي أرغفة من الخبر ومقدارا من السمك ، ولعل سبب طلب هذه المعجزة كان ما سمعوه عن المائدة السماوية التي نزلت على بني إسرائيل باعجاز من موسىعليه‌السلام فطلبوا هم أيضا من عيسىعليه‌السلام مثل ذلك.

4 ـ هل نزلت عليهم مائدة؟

رغم أنّ الآيات المذكورة تكاد تصرح بنزول المائدة ، فالله لا يخلف وعده ، ولكن العجيب أنّ بعض المفسّرين يشكون في نزول المائدة ، ويقولون : أنّ

١٨٩

الحواريين حين عرفوا عظم المسؤولية التي سوف تقع عليهم بعد نزول المائدة ، تخلوا عن طلبهم ، ولكن الواقع أنّ المائدة قد نزلت فعلا.

5 ـ ما العيد؟

«العيد» في اللغة من «العود» أي الرجوع ، لذلك فذكرى الأيّام التي تنداح فيها المشاكل عن قوم أو مجتمع وتعود أيام الفوز والهناء الأوّل تكون عيدا. كذلك هي الأعياد الإسلامية فبعد شهر من طاعة الله في صوم رمضان ، أو بعد أداء فريضة الحج العظيم ، يعود إلى النفس طهرها وصفاؤها الأولين الفطريين ، ويزول التلوث عن الفطرة ، فيكون العيد ، ولما كان يوم نزول المائدة يوم العودة إلى الفوز والطهارة والإيمان بالله ، فقد سمّاه المسيحعليه‌السلام عيدا.

وقد ورد في الأخبار أنّ نزول المائدة كان في يوم الأحد ، ولعل هذا هو سبب الاحترام الذي يكنه المسيحيون لهذا اليوم.

إنّنانقرأ لأمير المؤمنين عليعليه‌السلام قوله : «وكل يوم لا يعصى الله فيه فهو يوم عيد»(1) .

وفي هذا إشارة إلى الموضوع نفسه ، لأنّ يوم ترك المعصية هو يوم فوز وطهارة وعودة إلى الفطرة الاولى.

6 ـ لماذا العقاب الشديد؟

هنا أمر مهم ينبغي ألا نغفل عنه ، وذلك أنّه عند ما يبلغ الإيمان مرحلة الشهود وعين اليقين أي عند ما ترى الحقيقة رأي العين ، ولا يبقى مكان لأي شك أو تردد ، فإنّ مسئولية المرء تزداد وتثقل ، لأنّ هذا المرء لم يعد ذلك الذي كانت تنتابه الوساوس والشكوك من قبل ، بل هو امرؤ ورد مرحلة جديدة من الإيمان وتحمل المسؤولية ، فأقل تقصير أو غفلة من جانبه يستدعي العقاب الشديد ، ولهذا فإنّ مسئولية الأنبياء وأولياء الله أشد وأثقل ، بحيث أنّهم كانوا في خشية دائمة منها ، إننا في الحياة اليومية نصادف نماذج من هذا القبيل أيضا ، فمثلا يعلم كل شخص

__________________

(1) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة 428.

١٩٠

أنّ في بلده أو مدينته جياعا يتحمل مسئوليتهم ، ولكنه عند ما يرى بعينيه إنسانا بريئا يتضور جوعا ويتألم سغبا ، فلا شك أنّ درجة مسئوليته تكون عندئذ أعلى.

7 ـ «العهد الجديد» والمائدة.

في الأناجيل الأربعة الموجودة حاليا لا نجد كلاما عن المائدة كما في القرآن ، عدا ما جاء في إنجيل يوحنا ، في الباب (21) ، حول استضافة المسيح الإعجازية جمعا من الناس بالخبز والسمك ، ولكننا بقليل من التفحص ندرك أنّ ذلك لا علاقة له بالمائدة التي نزلت من السماء للحواريين(1) .

ثمّة كلام في كتاب «أعمال الرسل» وهو من كتب العهد الجديد ، يدور حول نزول مائدة على أحد الحواريين واسمه بطرس ، ولكن هذا أيضا ليس هو الموضوع الذي نحن بصدده ، غير أنّنا نعلم أن كثيرا من الحقائق التي نزلت على عيسىعليه‌السلام لا أثر لها في الأناجيل السائدة ، كما أن كثيرا ممّا نراه في هذه الأناجيل لم ينزل على المسيحعليه‌السلام (2) .

* * *

__________________

(1) «الهدى إلى دين المصطفى» ، ج 2 ، ص 239.

(2) نفس المصدر.

١٩١

الآيات

( وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) )

التّفسير

براءة المسيح من شرك أتباعه :

هذه الآيات تشير إلى حديث يدور بين الله والمسيح يوم القيامة ، بدليل أنّنا بعد بضع آيات نقرأ :( هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ) ولا شك أنّه يوم القيامة.

ثمّ أنّ جملة( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) دليل آخر على أنّ الحوار

١٩٢

قد جرى بعد عهد نبوة المسيحعليه‌السلام ، والفعل «قال» الماضي لا يتعارض مع ما ذهبنا إليه ، لأنّ القرآن مليء بذكر أمور عن يوم القيامة استعمل فيها الزمن الماضي ، وهو إشارة إلى أنّ وقوعه حتمي ، أي أنّ مجيئه فى المستقبل على درجة من الثبوت والحتمية بحيث أنّه يبدو وكأنّه قد وقع فعلا ، فيستعمل له صيغة الماضي.

على كل حال تقول الآية الاولى :( وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ) .

لا ريب أنّ المسيحعليه‌السلام لم يقل شيئا كهذا ، بل دعا إلى التوحيد وعبادة الله ، أنّ القصد من هذا الاستفهام هو استنطاقه أمام أمّته وبيان إدانتها.

فيجيب المسيحعليه‌السلام بكل احترام ببضع جمل على هذا السؤال :

1 ـ أوّلا ينزّه الله عن كل شرك وشبهة :( قالَ سُبْحانَكَ ) .

2 ـ ثمّ يقول :( ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ ) أي ما لا يحق لي قوله ولا يليق بي أن أقوله.

فهو في الحقيقة لا ينفي هذا القول عن نفسه فحسب ، بل ينفي أن يكون له حق في قول مثل هذا القول الذي لا ينسجم مع مقامه ومركزه.

3 ـ ثمّ يستند إلى علم الله الذي لا تحده حدود تأكيدا لبراءته فيقول :( إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) (1) .

4 ـ( ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) ، لا أكثر من ذلك.

5 ـ( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (2) .

__________________

(1) إطلاق كلمة «نفس» على الله لا يعني الروح ، فمن معاني النفس الذات.

(2) في معنى «توفى» وكونها لا تعني موت المسيحعليه‌السلام أنظر ذيل الآية (55) من سورة آل عمران في المجلد الثّاني.

١٩٣

أي كنت أحول دون سقوطهم في هاوية الشرك مدّة بقائي بينهم ، فكنت الرقيب والشاهد عليهم ، ولكن بعد أن رفعتني إليك ، كنت أنت الرقيب والشاهد عليهم.

6 ـ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ، أي على كل حال فالأمر أمرك والإرادة إرادتك ، إن شئت أن تعاقبهم على انحرافهم الكبير فهم عبيدك وليس بامكانهم أن يفروا من عذابك ، فهذا حقّك بإزاء العصاة من عبيدك ، وإن شئت أن تغفر لهم ذنوبهم فإنّك أنت القوي الحكيم ، فلا عفوك دليل ضعف ، ولا عقابك خال من الحكمة والحساب.

* * *

هنا يتبادر إلى الذهن سؤالان :

1 ـ هل يوجد في تاريخ المسيحية ما يدل على أنّهم اتّخذوا من (مريم) معبودة؟ أم أنّهم إنّما قالوا فقط بالتثليث أو الآلهة الثلاثة : (الإله الأب) و (الإله الابن) و (روح القدس) على اعتبار أن (روح القدس) هو الوسيط بين (الإله الأب) و (الإله الابن) وهو ليس (مريم).

للإجابة على هذا السؤال نقول : صحيح أنّ المسيحيين لم يؤلهوا مريم ، ولكنّهم كانوا يؤدون أمام تمثالها طقوس العبادة ، كالوثنيين الذي لم يكونوا يعتبرون الأصنام آلهة ، ولكنّهم كانوا يعتبرونها شريكة لله في العبادة.

وهناك فرق بين «الله» بمعنى الخالق ، وال «إله» بمعنى المعبود ، وكانت (مريم) عند المسيحيين (آلهة) لا أنّها بمثابة «الله».

يقول أحد المفسّرين : إنّ المسيحيين على اختلاف فرقهم ، وإن لم يطلقوا كلمة (إله) أو معبود على مريم ، واعتبروها أم الإله لا غير ، فهم في الواقع يقدمون لها

١٩٤

طقوس الدعاء والعبادة ، سواء أطلقوا عليها هذا الاسم أم لم يطلقوه ، ثمّ يضيف قائلا : قبل مدّة صدر في بيروت العدد التاسع من السنة السابقة من مجلة (المشرق) المسيحية بمناسبة الذكرى الخمسين للبابا (بيوس التاسع) وفيها مواضيع مثيرة عن السيدة مريم ، منها تصريح بأنّ كلتا الكنيستين الشرقية والغربية تعبدان (مريم).

وفي العدد الرّابع عشر من السنة الخامسة من الجملة نفسها مقال بقلم (الأب انستانس الكرملي) حاول فيه أن يعثر عن أصول عبادة مريم حتى في العهد القديم ، فراح يفسر حكاية الأفعى (الشيطان) والمرأة (حواء) باعتبارها حكاية مريم(1) .

وعليه فإنّ عبادة مريم موجودة بينهم.

2 ـ السؤال الثّاني : كيف يتحدث المسيحعليه‌السلام عن مشركي أمّته بعبارات يشم منها رائحة الشفاعة لهم فيقول :( وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ؟ أيكون المشرك أهلا للشفاعة والغفران؟

في الجواب نقول : لو كان قصد عيسىعليه‌السلام هو الشفاعة لهم لكان عليه أن يقول :

فإنك أنت الغفور الرحيم لأن غفران الله ورحمته هما اللذان يناسبان مقام الشفاعة ، ولكنّنا نراه يقول( فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) من هذا يتّضح أنّه لم يكن في مقام الشفاعة لهم ، بل كان يريد أن ينفي عن نفسه أي اختيار وأن يوكل الأمر كلّه إلى الله ، إن شاء عفا ، وإن شاء عاقب ، وكل مشيئة منه سبحانه تستند إلى حكمة.

ثمّ ربّما كما بينهم جماعة أدركت خطأها وسارت على طريق التوبة ، فتكون هذه الجملة قد قيلت بحقها.

* * *

__________________

(1) تفسير «المنار» ، ج 7 ، ص 263.

١٩٥

الآيتان

( قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) )

التّفسير

الفوز العظيم :

بعد الحوار الذي جرى بين الله والمسيحعليه‌السلام يوم القيامة ـ كما شرحناه في تفسير الآيات السابقة ـ تقول الآية( قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ) .

طبيعي أنّ المقصود من هذا هو أنّ الصدق في القول والعمل في هذه الدنيا هو الذي ينفع في الآخرة ، لأنّ الصدق في الآخرة ـ التي لا تكليف فيها ـ لا ينفع شيئا ثمّ أنّ الوضع في تلك الحياة مختلف بحيث لا يستطيع أحد إلّا أن يقول الصدق ، حتى المذنبون يعترفون بسيئات ما عملوا ، وعلى هذا فلا وجود للكذب يوم القيامة.

وعليه ، فإنّ الذين أنجزوا ما كلّفوا من مسئولية ورسالة ولم يسيروا إلّا في

١٩٦

وعليه ، فإنّ الذين أنجزوا ما كلّفوا من مسئولية ورسالة ولم يسيروا إلّا في طريق الصدق ، مثل المسيحعليه‌السلام وأتباعه الصادقين ، أو أتباع سائر الأنبياء الآخرين الذين التزموا الصدق سينالون ثوابهم.

يتّضح لنا من هذا بأنّ جميع الأعمال الصالحات يمكن أن تنطوي تحت عنوان الصدق في القول والفعل ، وأنّه الرصيد الذي ينفع يوم القيامة لا غير.

وهؤلاء الصادقون :( لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ) وخير من هذه النعمة المادية أنّهم :( رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ) ولا شك أنّ هذه النعمة الكبرى التي تجمع بين النعم المادية والنعم المعنوية شيء عظيم :( ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

يلفت النظر أنّ الآية ، بعد ذكر بساتين الجنّة ونعمها الكثيرة ، تذكر نعمة رضي الله عن عباده ، ورضى عباده عنه وتصف ذلك بأنّه الفوز العظيم ، وهذا يدل على مدى أهمية هذا الرضى المتبادل ، فقد يكون امرؤ غارقا في أرفع نعم الله ، ولكنّه إذا أحس بأنّ مولاه ومعبوده ومحبوبه ليس راضيا عنه ، فإن جميع تلك النعم والهبات تصير علقما في ذائقة روحه.

كما يمكن أن يتوفر لامرئ كل شيء ، ولكنه لا يكون راضيا ولا قانعا بما عنده ، فمن الواضح أنّ هذه النعم بأجمعها غير قادرة على إسعاد تلك الروح ، بل تكون دائما معرضة لعذاب قلق غامض واضطراب نفسي مستمر يقضيان على الراحة النفسية التي هي من أعظم نعم الله.

ثمّ إذا كان الله راضيا عن امرئ فإنّه يعطيه كل ما يريد ، فإذا أعطاه كل ما يريد فإنّه يكون راضيا عن ربّه أيضا ، من هنا فإنّ أعظم النعم هي أن يرضى الله عن الإنسان ويرضى الإنسان عن ربّه.

وفي آخر الآية إشارة إلى امتلاك الله كل شيء وسيطرته على السموات والأرض وما فيها ، وأنّ قدرته عامّة تشمل كل شيء :( لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

١٩٧

وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

هذه الآية ، في الواقع ، تعتبر سبب رضى عباد الله عن الله ، وذلك لأنّ الذي يملك كل شيء في عالم الوجود له القدرة أن يعطي عباده ما يريدون وأن يغفر لهم وأن يفرحهم ويرضيهم ، كما تتضمن إشارة إلى عدم صدق أعمال النصارى في عبادة مريم ، لأنّ العبادة جديرة بأن تكون لمن يحكم عالم الخليقة بأكمله ، لا مريم التي لا تزيد عن كونها مخلوقة مثلهم.

* * *

١٩٨

سورة الأنعام

مكيّة

وفيها مائة وخمس وستون آية

١٩٩
٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228