القرآن في الاسلام

القرآن في الاسلام25%

القرآن في الاسلام مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 228

القرآن في الاسلام
  • البداية
  • السابق
  • 228 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 73987 / تحميل: 6136
الحجم الحجم الحجم
القرآن في الاسلام

القرآن في الاسلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

القرآن في الاسلام

 

الأستاذ العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي

تعريب السيد أحمد الحسيني

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على النبي الكريم ، محمد الذي انزل عليه القرآن العظيم ، وعلى آله الغر الميامين ، الهداة الدالين على الصراط القوي.

٣
٤

مقدمة الناشر:

يسر مركز اعلام الذكرى الخامسة لانتصار الثورة الإسلامية في ايران ان يقدم هذا الكتاب راجيا ان يجد فيه القراء رؤية صادقة اصيلة وفكراً اسلامياً نيراً ، داعياً المولى العلي القدير ان يمن على امام الامة الخميني العظيم دام ظله العالي بالرعاية والنصر المؤزر وعلى مسيرتنا الإسلامية بالتقدم المطرد ، وعلى نهضة المسلمين جميعاً بالتوفيق ، لتنال اهدافها العليا وتحكم شريعة الإسلام في الارض.

والله الموفق

٥
٦

تقديم

تمتاز بحوث الاستاذ العلامة المغفور له السيد محمد حسين الطباطبائي ودراساته القرآنية ، بانها تستمد قبل كل شيء من القرآن نفسه في معرفة مقاصده واستكشاف مفاهيمه وتبيان معانيه.

ان كثيراً من المفسرين والباحثين في العلوم الإسلامية ـ قديماً وحديثاً ـ لهم مسبقات ذهنية ورواسب فكرية ، جاءتهم من طريق الغور العقلي في المسائل او من التعرف على بعض المدارس الفلسفية والآراء الكلامية او من التعبد بمذاهب عقائدية وفقهية خاصة ثم يحاولون بكل ما رزقوا من وسائل علمية في حمل تلك المسبقات والرواسب على الآيات الكريمة والتمحل في صرف مفاهيمها الى ما يرونه من النظريات الخاصة بهم.

اما التفكير في ان يستنطقوا القرآن الكريم قبل ان يحاولوا تطبيق آياته على ما يرتأونه من النظريات والآراء الشخصية ، فهذا شيء لم نجده في كثير من التفاسير والبحوث القرآنية الواصلة الينا.

٧

هذا تفسير يطغى عليه الفكر المعتزلي ، لان مؤلفه من المنتمين الى مدرسة الاعتزال ..

وذاك تفسير ظاهر فيه الفكر الظاهري ، لان المفسر يرى رأي الظاهرية

وذلك تفسير بث في مطاويه الفكر الفلسفي البحت ، لانه مدبج بقلم فيلسوف يعتنق آراء الفلاسفة ..

وآخر تفسير اهتم بالمسائل التجريبية المادية ، لان كاتبه يريد ان يتظاهر بالمعرفة التامة في العلوم العصرية.

وهكذا دواليك في حمل الاتجاهات الفكرية والنظرية والفقهية والذوقية ـ في كثير من الاحيان ـ على القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

والعجب من بعض هؤلاء المفسرين والباحثين حيث يقطعون على رأي في آية من الآيات كأنه اصل مسلم لا يقبل اي نقاش ولا يتسرب اليه اي شك او ترديد ، مع انهم ان يمنعوا النظر في آيات اخرى مشابهة لها سيجدون ما يناقض رأيهم ويهدم كل ما بنوه عليه من المعتقدات والآراء. كأن هؤلاء يعيشون مع كل آية وحدها ، حتى من دون التروي في السياق والجو الذي يقرأون فيه تلك الآية ..

* * *

٨

من هذا المنطلق نعرف قيمة ابحاث العلامة الطباطبائي ومدى اهميتها في دراسة القرآن الكريم.

انه لم يتعصب لنظرية خاصة اختمرت في ذهنه ونمت في فكره حتى رسخت فلم يمكنه التخلي عنها ، بل يقرأ الآيات المناسبة لكل موضوع بامعان وترو ليعرف على ماذا تدل وماذا يمكن الاستفادة منها ، ثم تصبح دراسته المعمقة رأيه الخاص من دون التفات الى ما ارتآه من لم يمعن في تفهم الآيات امعانا يليق بالبحث العلمي المجرد.

وليس معنى كلامنا هذا انه لم يدرس بتاتا الآراء والنظريات التفسيرية المختلفة ، بل نريد ان نقول انه لم يتأثر بها الى حد يفرضها على القرآن فرضاً ويذهب بكل جهده في صرف الآيات عن وجوهها الصحيحة الى ما لا تتحملها.

هذا منهج صحيح يتجلى في تفسيره الكبير « الميزان في تفسير القرآن » ، وهذا منهجه ايضا في هذا الكتاب الذي خصه بدراسة بعض مسائل من « علوم القرآن » ، فهو يقول في مقدمته : من هنا نهدف في بحثنا هذا الى التعريف باهمية القرآن الكريم كما يدل عليه هو بنفسه لا كما نعتقده ونتصوره نحن ، وواضح ان بين هذين الموضوعين فروقا كثيرة لمن امعن النظر ».

* * *

٩

واننا حينما قرأنا هذا الكتاب ، وجدناه جديداً في اسلوبه العلمي بالرغم من عدم جديد فيه في فصوله وابحاثه ، فهو اذ يتحدث في موضوع من موضوعاته لا يلجأ الى سرد ما قاله علماء التفسير والباحثون في علوم القرآن ، بل يلجأ الى آيات القرآن ويستنتج النتيجة المطلوبة منها.

ولهذا وجدنا في تعريبه محاولة لاشراك قراء العربية في هذه البحوث المعروضه بأسلوبها الجديد : ونعتقد ان في هذا العلم فائدة كبرى سيلمسها القارىء الكريم عندما يمر على صفحات الكتاب.

والله تعالى هو الهادي الى طريق الحق والصراط المستقيم. قم ـ ايران

السيد احمد الحسيني

١٠

ـ مقدمة المؤلف ـ

بسم الله الرحمن الرحيم

الكتاب الذي بين يدي القارىء الكريم ، يبحث عن اهم مصدر للشريعة الإسلامية وهو القرآن الكريم الدستور الرباني الاول لمعتنقي الإسلام. والموضوع الذي يتناوله في فصوله وابحاثه ، هو « اهمية القرآن » في العالم الإسلامي ، فيتحدث بايجاز عن :

ما هو القرآن؟

ما قيمته لدى المسلمين؟

القرآن كتاب عالمي دائم.

القرآن وحي سماوي وليس من ابداع الفكر البشري.

القرآن والعلوم.

صفات القرآن.

١١

وفي الحقيقة سنتحدث في فصول هذه الرسالة عن كتاب لا يتردد في احترامه وقدسيته ومكانته الكبيرة اي واحد من المسلمين ، مع ما مني به الإسلام ـ كبقية الاديان المشهورة في العالم ـ من الاختلافات الداخلية والتفرق المذهبي وتشتت آراء المتدينين به.

من هنا نهدف في بحثنا هذا التعريف بأهمية القرآن الكريم كما يدل عليه هو بنفسه لا كما نعتقده ونتصوره نحن ، وواضح ان بين هذين الموضوعين فروقاً كثيرة لمن امعن النظر.

وبلغة اجلى : ان الاهمية التي نتصورها نحن ـ كان عليها دليل ام لم يكن ـ لا تخلو من احد امرين لا ثالث لهما : اما ان تكون مناقضة ومخالفة لما في الآيات القرآنية فليس لها قيمة في عالم الحق والحقيقة ، وإما ان تكون مما لم نجد عليه في القرآن دليلاً فلا يمكن اقناع كل المسلمين به لانهم مختلفون فيما بينهم فاذا لا بد من معرفة اهميته من آياته والدلائل الموجودة فيه.

وعليه ، فلا محيص من الاجابة على هذا السؤال : ماذا يقول القرآن في الموضوع؟ لا الاجابة على : ماذا نقول نحن الذين من اتباع مذهب كذا

١٢

الفصل الاول

قيمة القرآن لدى المسلمين

* القرآن ، دستور الحياة الافضل

* أهداف الإنسان في أعماله

* القرآن وضع مناهج الحياة للانسان

* القرآن سند النبوة

١٣
١٤

القرآن ، دستور الحياة الافضل

الدين الإسلامي الذي يشتمل على اكمل المناهج للحياة الإنسانية ويحتوي على ما يسوق البشرية الى السعادة والرفاه ، هذا الدين عرفت اسسه وتشريعاته من طريق القرآن الكريم ، وهو ينبوعه الاول ومعينه الذي يترشح منه.

والقوانين الإسلامية التي تتضمن سلسلة من المعارف الاعتقادية والاصول الاخلاقية والعملية ، نجد منابعها الاصيلة في آيات القرآن العظيم.

قال تعالى :( ان هذا القرآن يهدي للتي هي اقوم ) (١) .

وقال تعالى :( ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء ) (٢) .

وواضح كل الوضوح ان في القرآن كثيراً من الآيات التي نجد فيها اصول العقائد الدينية والفضائل الاخلاقية وكليات القوانين العملية ، ولا نرانا بحاجة الى سرد كل هاتيك الآيات في هذا المجال الذي لا نجد سعة لاطالة القول فيه.

ــــــــــــــــــ

(١) سورة الاسراء : ٩.

(٢) سورة النحل : ٨٩.

١٥

وبشيء من التفصيل نقول : دقة النظر في النقاط التالية توضح لنا مدى اشتمال القرآن الكريم على المناهج الحياتية التي لا بد من توفرها للانسان :

١ ـ لا يهدف الإنسان من حياته الا السعادة والهناء والوصول الى الاماني التي يتمناها. السعادة والهناء لون خاص من الوان الحياة ، يتمناها الإنسان ليدرك في ظلها الحرية والرفاه وسعة العيش وما اشبه هذا.

والذي نراه في حالات شاذة ان اناسا يديرون وجوههم عن السعادة والرغد بما يفعلون بأنفسهم ، كالانتحار وجرح الابدان وبتر الاعضاء وبعض الرياضات الشاقة غير المشروعة بحجة الاعراض عن الدنيا ، وما اشبه هذه الاشياء مما يسبب حرمان النفس عن كثير من وسائل الرفاه والعيش الهانىء هكذا انسان مبتلى بعقد نفسية يرى ـ نتيجة لتأصلها في نفسه ـ ان السعادة تتحقق فيما يقوم به من الاعمال المضادة للسعادة.

فمثلاً يصيب البعض انواع من متاعب الحياة ولا يتمكن من حملها فيلجأ الى الانتحار لانه يرى الراحة في الموت ، او يتزهد بعضهم ويجرب انواع الرياضات البدنية ويحرم على نفسه اللذائذ المادية لانه يرى السعادة في هكذا حياة نكدة.

اذاً ، الجهد الذي يبذله الإنسان ليس الا لدرك تلك السعادة المنشودة التي يسعى في تحقيقها ونيلها.

١٦

نعم ، تختلف الطرق المتبعة للوصول الى الهدف المذكور ، فبعضهم يسلك السبيل المعقول الذي تقره الإنسانية وتجوزه الشريعة ، وبعضهم يخطأ المسالك الصحيحة فيقع في متاهات الضلال والانحراف عن صراط الحق.

٢ ـ الاعمال التي تصدر من الإنسان لا تكون الا في اطار خاص من الانظمة والقوانين. هذا بديهي لا يقبل الانكار ، ولو ذلك في بعض الحالات فليس الا لشدة الوضوح والظهور.

ذلك لان الإنسان الذي له نصيب من العقل لا يعمل شيئا الا بعد ان يريده ، فعمله صادر عن ارداة نفسية يعملها هو ولا تخفى عليه. ومن جهة اخرى انما يعمل ما يعمل لاجل نفسه ، ونعني انه يحس بضرورات حياتية لا بد من توفرها ، فيعمل ليوفر تلك الضرورات على نفسه. فبين اعماله كلها ربط وثيق يربط بعضها ببعض.

ان الاكل والشرب والنوم واليقظة والجلوس والقيام والذهاب والمجيء هذه الاعمال وغيرها من الاعمال الكثيرة التي تصدر من الإنسان ، هي ضرورية له في بعض الحالات وغير ضرورية في حالات اخرى ، نافعة له حيناً وتضره في احيان اخرى. فكل ما يعلمه الإنسان نابع من قانون يدرك كلياته في نفسه ويطبق جزئياته على اعماله وافعاله.

١٧

ان اي شخص في اعماله الفردية يشبه حكومة كاملة لها قوانيها وسننها آدابها ، والقوى الفعالة في تلك الحكومة عليها ان تقيس اعمالها مع تلك القوانين اولاً ثم تعمل.

والاعمال الاجتماعية الجارية في مجتمع ما تشبه الاعمال الفردية ، فتحكم فيها مجموعة من القوانين والآداب التي تواضع عليها اكثر افراد ذلك المجتمع ، والا فسوف يسود الفوضى في اقرب وقت وينفصم عراهم الاجتماعي.

نعم تختلف صبغة المجتمعات في قوانينها السارية فيها والحاكمة عليها ، فلو كان المجتمع مذهبيا جرت فيه احكام المذاهب وقوانينه ، ولو كان غير مذهبي الا انه يتمتع بالمدنية اخذت افعاله لون القانون المدني ، اما اذا كان المجتمع متوحشا ليس له نصيب من المدنية حكمت عليه الآداب والقوانين الفردية المستبدة او القوانين التي وجدت من جراء احتكاك مختلف العقائد والآداب بصورة فوضى غير منظمة.

فاذاً ، لا بد للانسان من هدف خاص في افعاله الفردية والاجتماعية ، للوصول الى ذلك الهدف المنشود لا محيص فيه من تطبيق اعماله بقوانين وآداب خاصة موضوعة من قبل دين او مجتمع او غيرهما.

والقرآن الكريم نفسه يؤيد هذه النظرية حيث يقول :( ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات ) (١) .

ــــــــــــــــــ

(١) سورة البقرة : ١٤٨.

١٨

والدين في عرف القرآن يطلق على الآداب والقوانين بصورة عامة ، فان المؤمنين والكافرين ـ وحتى المنكرين لله تعالى ـ لا يخلون من دين ما ، لان كل انسان يتبع قوانين خاصة في اعماله ، كانت تلك القوانين مستندة الى نبي ووحي او موضوعة من قبل شخص او جماعة ما ، يقول تعالى في اعداء الدين :( الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً ) (١) .

٣ ـ ان احسن واثبت الآداب التي يليق بالإنسان متابعتها هي الآداب التي توحيها اليه الفطرة السليمة ، لا النابعة من العواطف والاندفاعات الفردية او الاجتماعية.

ولو امعنا النظر في كل جزء من اجزاء الكون ، نرى ان له هدفا خاصا وجهته من اول يوم خلقته تحقيق ذلك الهدف من اقرب الطرق واحسنها ، وهو يشتمل على ما لا بد منه لتحقيق هدفه من الوسائل والالات. هذا شأن كل مخلوق في الكون ذي روح ام غير ذي روح.

مثلاً حبة الحنطة من اول يوم توضع في بطن الارض

ــــــــــــــــــ

(١) سورة الاعراف : ٤٥. وجه دلالة الآية الكريمة على ما قلناه ان جملة « سبيل الله » تطلق في عرف القرآن على الدين ، والآية تدل على ان الكافرين بما فيهم المنكرين لله تعالى ـ يحرفون دين الله ( دين الفطرة ) ، فالآداب التي يتبعونها في حياتهم هي دينهم.

١٩

تسير في طريق التكامل فتخضر وتنمو حتى تكون لها سنابل تحمل طياتها حبات كثيرة من الحنطة ، وهي مجهزة بوسائل خاصة تستفيد بواسطتها من العناصر التي لا بد من توفرها في سيرها التكاملي ، فتجذب الى نفسها من اجزاء الارض والهواء وغيرهما بنسب معلومة ، فتنشق عنها الارض وتخضر وتنمو يوماً فيوماً وتتحول من شكل الى آخر حتى يكون لها سنابل في كل سنبلة حبات ، وحينئذ تكون الحبة الاولى المزروعة في الارض قد وصلت الى هدفها المنشود وكمالها الذي كانت تسير نحوه.

وهكذا شجرة الجوز لو دققنا النظر فيها لنرى انها تسير ايضاً نحو هدف خاص من اول خلقتها ، وللوصول الى ذلك الهدف جهزت بآلات خاصة تناسب سيرها التكاملي وقوتها وضخامتها ، وهي في مسيرتها لا تتبع الطريقة التي اتبعتها الحنطة ، كما ان الحنطة في مدارجها التكاملية لم تسر سير الجوزة ، ولكل منهما تطوره الخاص به لا يتعداه في طول الخط.

ان جميع ما نشاهده في الكون يتبع هذه القاعدة المطردة ، وليس لدينا دليل ثابت على ان الإنسان شاذ عنها في مسيرته الطبيعية الى هدفه الذي جهز بآلالات اللازمة للوصول اليه. بل الاجهزة المودعة فيه احسن دليل على انه

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وجوب الرؤية عند حصول شروطها

قال المصنّف(١) :

المبحث الثالث

في وجوب الرؤية عند حصول هذه الشرائط

أجمع العقلاء كافّة ـ عدا الأشاعرة ـ على ذلك ؛ للضرورة القاضية به ، فإنّ عاقلا من العقلاء لا يشكّ في حصول الرؤية عند اجتماع شرائطها.

وخالفت الأشاعرة جميع العقلاء في ذلك ، وارتكبوا السفسطة فيه ، وجوّزوا أن تكون بين أيدينا وبحضرتنا جبال شاهقة ، من الأرض إلى عنان السماء ، محيطة بنا من جميع الجهات ، ملاصقة لنا ، تملأ الأرض شرقا وغربا بألوان مشرقة مضيئة ، ظاهرة غاية الظهور ، وتقع عليها الشمس وقت الظهيرة ، ولا نشاهدها ، ولا نبصرها ، ولا شيئا منها ألبتّة!

وكذا يكون بحضرتنا أصوات هائلة تملأ أقطار الأرض ، بحيث ينزعج(٢) منها كلّ أحد يسمعها ، أشدّ ما يكون من الأصوات ، وحواسّنا سليمة ، ولا حجاب بيننا وبينها ، ولا بعد ألبتّة ، بل هي في غاية القرب منّا ، ولا نسمعها ولا نحسّها أصلا!

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤١ ـ ٤٢.

(٢) كان في الأصل : « يتزعزع » ، وفي المصدر : « يدعّج » ، وكلاهما تصحيف ؛ وما أثبتناه من إحقاق الحقّ هو المناسب للسياق.

٦١

وكذا إذا لمس أحد بباطن كفّه حديدة محميّة بالنار حتّى تبيضّ ، ولا يحسّ بحرارتها! بل يرمى في تنّور أذيب فيه الرصاص أو الزيت ، وهو لا يشاهد التنّور ولا الرصاص المذاب ، ولا يدرك حرارته ، وتنفصل أعضاؤه وهو لا يحسّ بالألم في جسمه!(١) .

ولا شكّ أنّ هذا [ هو ] عين السفسطة ، والضرورة تقضي بفساده ، ومن يشكّ في هذا فقد أنكر أظهر المحسوسات [ عندنا ].

__________________

(١) انظر مؤدّى ذلك ـ مثلا ـ في : تفسير الفخر الرازي ١٣ / ١٣٥ ـ ١٣٦ ، شرح المقاصد ٤ / ١٩٨ ـ ٢٠٠ ، شرح العقائد النسفية ـ للتفتازاني ـ : ١٣١.

٦٢

وقال الفضل(١) :

مذهب الأشاعرة : إنّ شرائط الرؤية إذا تحقّقت لم تجب الرؤية(٢) .

ومعنى نفي [ هذا ] الوجوب : إنّ الله تعالى قادر على أن يمنع البصر من الرؤية مع وجود الشرائط ، وإن كانت العادة جارية على تحقّق الرؤية عند تحقّق الأمور المذكورة.

ومن أنكر هذا وأحاله عقلا ، فقد أنكر خوارق العادات ومعجزات الأنبياء.

فإنّه ممّا اتّفق على روايته ونقله أصحاب جميع المذاهب ـ من الأشاعرة والمعتزلة والإمامية ـ أنّ النبيّ ٦ لمّا خرج ليلة الهجرة من داره ، وقريش قد حفّوا بالدار يريدون قتله ، فمرّ بهم ورمى على وجوههم بالتراب ، وكان يقرأ سورة يس ، وخرج ولم يره أحد ، وكانوا جالسين ، غير نائمين ولا غافلين(٣) .

فمن لا يسلّم أنّ عدم حصول الرؤية جائز مع وجود الشرائط ، بأن يمنع الله [ تعالى ] البصر بقدرته عن الرؤية ، فعليه أن ينكر هذا وأمثاله.

ومن الأشاعرة من يمنع وجوب الرؤية عند استجماع الشرائط : بأنّا

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٠٤ ـ ١٠٦.

(٢) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٣٦.

(٣) انظر : الشفا ـ للقاضي عياض ـ ١ / ٣٤٩ ، تفسير القرطبي ١٥ / ٨ ـ ٩ ، زاد المعاد ٣ / ٤٣ ـ ٤٤ ، السيرة النبوية ـ لابن كثير ـ ٢ / ٢٣٠ ، السيرة الحلبية ٢ / ١٩٣ ، مجمع البيان ٨ / ٢٢٩.

٦٣

نرى الجسم الكبير من البعد صغيرا ، وما ذلك إلّا لأنّا نرى بعض أجزائه دون بعض مع تساوي الكلّ في حصول الشرائط ، فظهر أنّه لا تجب الرؤية عند اجتماع الشرائط(١) .

والتحقيق ما قدمناه [ من ] أنّهم يريدون من عدم الوجوب : جواز عدم الرؤية عقلا ، وإمكان تعلّق القدرة به.

فأين إنكار المحسوسات؟! وأين هو من السفسطة؟!

ثمّ ما ذكر من تجويز أن تكون بحضرتنا جبال شاهقة ـ مع ما وصفها من المبالغات والتقعقعات(٢) الشنيعة ، والكلمات الهائلة المرعدة المبرقة ، التي تميل بها خواطر القلندرية(٣) والعوامّ إلى مذهبه الباطل ، ورأيه الكاسد الفاسد ـ فهو شيء ليس بقول ولا مذهب لأحد من الأشاعرة.

بل يورد الخصم عليهم في الاعتراض ، ويقول : إذا اجتمعت شرائط الرؤية في زمان وجب حصول الرؤية ، وإلّا جاز أن يكون بحضرتنا جبال

__________________

(١) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٣٦.

(٢) التقعقع : التحرّك ، وتقعقع الشيء : صوّت عند التحريك أو التحرّك ، واضطرب وتحرّك.

انظر : الصحاح ٣ / ١٢٦٩ ، لسان العرب ١١ / ٢٤٧ ، تاج العروس ١١ / ٣٩٢ ، مادّة « قعع ».

(٣) القلندرية : كلمة أعجمية بمعنى المحلّقين ، وهم فرقة صوفية يحلقون رؤوسهم وشواربهم ولحاهم وحواجبهم ، وكانت هذه الفرقة مكروهة من الفقهاء المسلمين وعلمائهم ، وقد نشأت في عهد الظاهر بيبرس ، وهو الذي شجّعها ، وكان سبب انتشارها في مصر والشام ، ومن مشاهير رجالها الشيخ عثمان كوهي الفارسي ، وقال بعضهم : إنّ هذه الفرقة أوّل ما ظهرت بدمشق سنة ٦١٦ ه‍ وكان لها عدّة زوايا في الشام ومصر.

انظر : معجم الألفاظ التاريخية : ١٢٥.

٦٤

شاهقة ونحن لا نراها.

هذا هو الاعتراض.

وأجاب الأشاعرة عنه : بأنّ هذا منقوض بجملة العاديّات ، فإنّ الأمور العاديّة تجوز نقائضها مع جزمنا بعدم وقوعها ، ولا سفسطة هاهنا.

فكذا الحال في الجبال الشاهقة التي لا نراها ، فإنّا نجوّز وجودها ونجزم بعدمها ؛ وذلك لأنّ الجواز لا يستلزم الوقوع ، ولا ينافي الجزم بعدمه ، فمجرّد تجويزها لا يكون سفسطة(١) .

وحاصل كلام الأشاعرة ـ كما أشرنا إليه سابقا ـ : أنّ الرؤية لا تجب عقلا عند تحقّق الشرائط ، ويجوّز العقل عدم وقوعها عندها مع كونه محالا عادة ، والخصوم لا يفرّقون بين المحال العقلي والعادي ، وجملة اعتراضاته ناشئة من عدم هذا الفرق.

ثمّ ما ذكره من الأضواء وتوصيفها والمبالغات فيها ، فكلّها من قعقعة الشنآن بعد ما قدمنا لك البيان.

__________________

(١) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٣٧ ـ ١٣٨.

٦٥

وأقول :

سبق أنّ حقيقة مختار الأشاعرة نفي سببيّة الأسباب الطبيعيّة واقعا ، ونسبة المسبّبات حقيقة إلى فعل القادر ، بلا دخل للأسباب ، ولا توقّف للمسبّبات عليها عقلا.

وحينئذ فيجوز عقلا وواقعا ـ مع تمام السبب واجتماع الشرائط ـ عدم حصول الرؤية منّا لجبال بحضرتنا ، موصوفة بما وصفها المصنّف ، وعدم سماع الأصوات ، وإحساس حرارة الحديدة ، على ما وصفهما المصنّف ;.

وقد نقل الخصم في آخر كلامه هذا التجويز عن الأشاعرة مع دعوى الجزم بعدمها عادة ، وهو خطأ ؛ لأنّ إثبات العادة على العدم فرع الاطّلاع على الواقع ، والاطّلاع عليه غير ثابت.

بل على قولهم بالجواز العقلي ، يمكن أن تكون العادة على وجود تلك الجبال ، إلّا أنّا لم نطّلع عليها ، فإنّ مجرّد عدم مشاهدتها لا يدلّ على عدمها ؛ لإمكان أن تكون موجودة دائما ونحن لا نشاهدها!

كما أنّ عدم لمسنا لها. وعدم مصادمتها لنا حال السير ، لا يدلّان على انتفائها ؛ لجواز أن لا يخلق الله تعالى اللمس والمصادمة مع وجود سببهما الطبيعي!

وكذا الحال في دعوى حصول العادة على العدم ، بالنسبة إلى الأصوات والحرارة اللتين ذكرهما المصنّف ;.

٦٦

فالحقّ أن لا منشأ للجزم بالعدم سوى ارتكاز وجوب الرؤية والسماع وإحساس الحرارة بالبديهية العقلية عند اجتماع الشرائط ، لكنّ الأشاعرة كابروا ارتكازهم.

وأمّا تفسيره لنفي الوجوب بأنّ الله تعالى قادر على أن يمنع البصر من الرؤية مع وجود الشرائط ، فليس تفسيرا صحيحا.

وقد أراد به إدخال الإيهام والاستهجان على السامع بأنّ القائل بالوجوب ينفي قدرة القادر ، بخلاف الأشاعرة ، وهو ممّا لا يروج على عارف ؛ لأنّا إذا قلنا بوجوب الرؤية عند اجتماع الشرائط يكون عدمها حينئذ ممتنعا.

وقد عرفت أنّ الممتنع ليس محلّا للقدرة ، بلا نفي لها عن محالّها ، ولا نقص فيها.

فالفرق بيننا وبينهم هو أنّا نقول بامتناع عدم الرؤية مع اجتماع شرائطها وتحقّق سببها الطبيعي ، فلا تتعلّق بعدمها القدرة حينئذ لنقص في المحلّ ، وهم يقولون بإمكانه فتتعلّق به ؛ وضرورة العقلاء هي الحاكمة.

وأمّا ما ذكره من وقوع خرق العادة في معجزات الأنبياء ، كالمعجزة المذكورة لنبيّنا ٦ فغير مفيد له ؛ لأنّهذه المعجزة إنّما هي بإيجاد حاجب على خلاف العادة ، لا بعدم الرؤية مع وجود شرائطها.

كما يرشد إلى ذلك قراءة النبيّ ٦ حين خروجه لسورة يس ، فإنّ قوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ )(١) ظاهر في أنّ عدم الرؤية لوجود السدّ والغشاوة.

__________________

(١) سورة يس ٣٦ : ٩.

٦٧

وقد يستفاد من تفريع عدم الإبصار على وجود الغشاوة ، أنّ الإبصار محتاج في ذاته إلى عدم الحاجب ، الذي هو أحد الشروط المتقدّمة.

وأمّا ما نقله عن بعض الأشاعرة ، من حصول جميع شرائط الرؤية لكلّ جزء من أجزاء الجسم الكبير البعيد ، مع عدم ثبوت الرؤية لبعضها ، ففيه :

إنّ فرض حصول الشرائط لجميع الأجزاء يوجب أن يكون تخصيص البعض بالرؤية ترجيحا بلا مرجّح ، وهو باطل.

فلا بدّ من الالتزام بعدم حصول الشرائط لبعضها ، أو الالتزام بتعلّق الرؤية في القرب والبعد بمجموع الجسم لا بأجزائه.

وإنّما يرى كبيرا في القرب ، صغيرا في البعد ، لأمور محتملة

أحدها : إنّ صغر المرئي إنّما هو بحسب صغر الزاوية الجليدية وكبرها ، إن قلنا : إنّ الإبصار بالانطباع.

أو بحسب صغر زاوية مخروط الشعاع وعظمها ، إن قلنا : إنّ الإبصار بخروج الشعاع.

وأورد عليه صاحب « المواقف » بما هو مبنيّ على تركّب الجسم من أجزاء لا تتجزّأ ، وعلى إنّ المرئي حال البعد نفس الأجزاء لا المجموع(١) .

وكلاهما باطل.

واعلم أنّ قول المصنّف ; : « وكذا يكون بحضرتنا أصوات هائلة » دالّ على ما ذكرناه سابقا ، من أنّه أراد بالإدراك ـ في عنوان المسألة ـ مطلق الإحساس الظاهري ، لا خصوص الرؤية.

__________________

(١) انظر : المواقف : ٣٠٧ ـ ٣٠٨ ، شرح المواقف ٨ / ١٣٦ ـ ١٣٧.

٦٨

وإنّما لم يتعرّض هنا لتجويزهم عدم إدراك الطعوم والروائح ـ البالغة في الظهور منتهاه ـ مع سلامة الذائقة والشامّة ، واجتماع سائر الشرائط ؛ استغناء عنه ببيان أخواتهما.

٦٩
٧٠

امتناع الإدراك مع فقد الشرائط

قال المصنّف ـ رفع الله درجته ـ(١) :

المبحث الرابع

في امتناع الإدراك مع فقد الشرائط

فجوّزوا في الأعمى إذا كان في المشرق ، أن يشاهد ويبصر النملة الصغيرة السوداء ، على صخرة سوداء ، في طرف المغرب ، في الليل المظلم! [ وبينهما ما بين المشرق والمغرب من البعد ] ، وبينهما حجبت جميع الجبال والحيطان.

ويسمع الأطرش وهو في طرف المشرق أخفى صوت وهو في طرف المغرب!(٢) .

وكفى من اعتقد ذلك نقصا ، ومكابرة للضرورة ، ودخولا في السفسطة.

[ هذا اعتقادهم! وكيف(٣) يجوز لعاقل أن يقلّد من كان هذا

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٢ ـ ٤٤.

(٢) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٣٩ ، شرح التجريد ـ للقوشجي ـ : ٤٣٦ المقصد الثالث.

(٣) كان في المصدر : « وكيف من » ولا يستقيم الكلام بإثبات « من » هنا ، فحذفناها.

٧١

اعتقاده؟! ].

وما أعجب حالهم! يمنعون من لزوم(١) مشاهدة أعظم الأجسام قدرا ، وأشدّها لونا وإشراقا ، وأقربها إلينا ، مع ارتفاع الموانع ، وحصول الشرائط! و [ من ] سماع الأصوات الهائلة القريبة! ويجوّزون مشاهدة الأعمى لأصغر الأجسام وأخفاها في الظلم الشديدة ، وبينهما غاية البعد! وكذا في السماع!

فهل بلغ أحد من السوفسطائية ـ في إنكار المحسوسات ـ إلى هذه الغاية ، ووصل إلى هذه النهاية؟!

مع إنّ جميع العقلاء حكموا عليهم بالسفسطة ، حيث جوّزوا انقلاب الأواني التي في دار الإنسان ، حال خروجه ، أناسا فضلاء مدقّقين في العلوم ، حال الغيبة!

وهؤلاء جوّزوا حصول مثل هذه الأشخاص في الحضور ، ولا يشاهدون ، فهم أبلغ في السفسطة من أولئك!

فلينظر العاقل المنصف المقلّد لهم! هل يجوز له أن يقلّد مثل هؤلاء القوم ، ويجعلهم واسطة بينه وبين الله تعالى ، ويكون معذورا برجوعه إليهم وقبوله منهم ، أو لا؟!

فإن جوّز ذلك لنفسه ـ بعد تعقّل ذلك وتحصيله ـ فقد خلّص المقلّد من إثمه ، وباء هو بالإثم ؛ نعوذ بالله من مزالّ الأقدام!

وقال بعض الفضلاء(٢) ـ ونعم ما قال ـ : كلّ عاقل جرّب الأمور

__________________

(١) ليست في المصدر.

(٢) انظر مؤدّاه في الرسالة السعدية : ٤٣.

٧٢

فإنّه لا يشكّ في إدراك السليم حرارة النار إذا بقي فيها مدّة مديدة حتّى تنفصل أعضاؤه.

ومحالّ أن يكون أهل بغداد ـ على كثرتهم وصحّة حواسّهم ـ يجوز عليهم جيش عظيم ، ويقتلون ، وتضرب فيهم البوقات الكثيرة ، ويرتفع الريح ، وتشتدّ الأصوات ، ولا يشاهد ذلك أحد منهم ، ولا يسمعه!

ومحال أن يرفع أهل الأرض ـ بأجمعهم ـ أبصارهم إلى السماء ، ولا يشاهدونها!

ومحال أن يكون في السماء ألف شمس ، وكلّ واحدة منها ألف ضعف من هذه الشمس ، ولا يشاهدونها!

ومحال أن يكون لإنسان واحد ، مشاهد أنّ عليه رأسا واحدا ، ألف رأس لا يشاهدونها ، وكلّ واحد منها مثل الرأس الذي يشاهدونه!

ومحال أن يخبر واحد بأعلى صوته ألف مرّة ، بمحضر ألف نفس ، كلّ واحد منهم يسمع جميع ما يقوله ، بأنّ زيدا ما قام ، ويكون قد أخبر بالنفي ، ولم يسمع الحاضرون حرف النفي ، مع تكرّره ألف مرّة ، وسماع كلّ واحد منهم جميع ما قاله!

بل علمنا بهذه الأشياء أقوى بكثير من علمنا بأنّه حال خروجنا من منازلنا ، لم تنقلب الأواني ـ التي فيها ـ أناسا مدقّقين في علم المنطق والهندسة.

وأنّ ابني الذي شاهدته بالأمس ، هو الذي شاهدته الآن.

وأنّه لم(١) يحدث حال تغميض العين ألف شمس ، ثمّ تعدم عند

__________________

(١) سقطت من المصدر.

٧٣

فتحها.

مع إنّ الله تعالى قادر على ذلك كلّه(١) ، وهو في نفسه ممكن.

وأنّ المولود الرضيع ـ الذي يولد في الحال ـ إنّما يولد من الأبوين ، ولم يمرّ عليه ألف سنة ، مع إمكانه في نفسه ، وبالنظر إلى قدرة الله تعالى.

وقد نسبت السوفسطائية إلى الغلط ، وكذّبوا كلّ التكذيب في هذه القضايا الجائزة ، فكيف بالقضايا التي جوّزها الأشاعرة التي تقتضي زوال الثقة عن المشاهدات؟!

ومن أعجب الأشياء جواب رئيسهم ، وأفضل متأخّريهم ، فخر الدين الرازي في هذا الموضع ، حيث قال :

« يجوز أن يخلق الله تعالى في الحديدة المحماة بالنار برودة عند خروجها من النار ، فلهذا لا يحسّ بالحرارة ، واللون الذي فيها ، والضوء المشاهد منها يجوز أن يخلقه الله تعالى في الجسم البارد »(٢) .

وغفل عن أنّ هذا ليس بموضع النزاع ؛ لأنّ المتنازع فيه أنّ الجسم الذي هو في غاية الحرارة ، يلمسه الإنسان الصحيح البنية ، السليم الحواسّ ، حال شدّة حرارته ، ولا يحسّ بتلك الحرارة ؛ فإنّ أصحابه يجوزون ذلك ، فكيف يكون ما ذكره جوابا؟!

__________________

(١) ليست في المصدر.

(٢) انظر مؤدّاه في : المطالب العالية من العلم الإلهي ٣ / ٢٨٣.

٧٤

وقال الفضل(١) :

حاصل جميع ما ذكره في هذا الفصل ـ بعد وضع القعقعة ـ : أنّ الأشاعرة لا يعتبرون وجود الشرائط وعدمها في تحقّق الرؤية وعدم تحقّقها ، ولعدم هذا الاعتبار دخلوا في السوفسطائية.

ونحن نبيّن لك حاصل كلام الأشاعرة في الرؤية ، لتعرف أنّ هذا الرجل ـ مع فضيلته ـ قد أخذ [ سبل(٢) ] التعصّب عين بصيرته! فنقول :

ذهب السوفسطائية إلى نفي حقائق الأشياء ، فهم يقولون : إنّ حقيقة كلّ شيء ليست حقيقته ، فالنار ليست بالنار ، والماء ليس بالماء ، ويجوز أن تكون حقيقة الماء حقيقة النار ، وحقيقة الماء حقيقة الهواء ، وليس لشيء حقيقة ما ، فيلزمهم أن تكون النار التي نشاهدها لا تكون نارا ، بل ماء وهواء أو غير ذلك.

وهذا هو السفسطة.

ويجرّ هذا إلى ارتفاع الثقة من المحسوسات ، وتبطل به الحكمة الباحثة عن معرفة الأشياء.

وأمّا حاصل كلام الأشاعرة في مبحث الرؤية وغيرها ـ ممّا ذكره هذا الرجل ـ فهو : أنّ الاشياء الموجودة عندهم إنّما تحصل وتوجد بإرادة

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١١١ ـ ١١٤.

(٢) السبل : داء في العين شبه غشاوة كأنّها نسج العنكبوت بعروق حمر ؛ انظر : الصحاح ٥ / ١٧٢٤ ، لسان العرب ٦ / ١٦٤ ، تاج العروس ١٤ / ٣٢٧ ، مادّة « سبل ».

٧٥

الفاعل المختار وقدرته ، التي هي العلّة التامّة لوجود الأشياء.

فإذا كانت القدرة هي العلّة التامّة ، فلا يكون وجود شيء واجبا عند حصول الأسباب الطبيعيّة ، ولا يكون شيء مفقودا بحسب الوجود(١) عند فقدان الأسباب والشرائط.

ولكن جرت عادة الله تعالى في الموجودات أنّ الأشياء تحصل عند وجود شرائطها ، وتنعدم عند انعدامها ، فهذه العادة في الطبيعة جرت مجرى الوجوب.

فالشيء الذي له شرائط في الوجود ، يجب تحقّقه عند وجود تلك الشرائط ، وانتفاؤه عند انتفائها ، بحسب ما جرى من العادة.

وإن كان ذلك الشيء ـ بالنسبة إلى القدرة ـ غير واجب ، لا في صورة التحقّق ، لتحقّق الشرائط ، ولا في صورة الانتفاء ، لانتفائها ، بل جاز في العقل تحقّق الشرائط وتخلّف ذلك الشيء ، وجاز تحقّقه مع انتفاء الشرائط ، إذ لم يلزم منه محال عقلي ، وذلك بالنسبة إلى قدرة المبدئ ، الذي هو الفاعل المختار.

مثلا : الرؤية التي نباحث فيها لها شرائط ، وجب تحقّقها عند تحقّقها ، وامتنع وقوعها عند فقدان الشرائط.

كلّ ذلك بحسب ما جرى من عادة الله تعالى في خلق بعض الموجودات ، بإيجاده عند وجود الأسباب الطبيعيّة ، دون انتفائها.

فعدم تحقّق الرؤية عند وجود الشرائط ، [ أ ] وتحقّقها عند فقدان الشرائط ، محالّ عاديّ(٢) ؛ لأنّه جار على خلاف عادة الله تعالى ، وإن كان

__________________

(١) في المصدر : الوجوب.

(٢) في المصدر : عادة.

٧٦

جائزا عقلا إذا جعلنا قدرة الفاعل وإرادته علّة تامّة لوجود الأشياء.

هذا حاصل مذهب الأشاعرة.

فيا معشر الأذكياء! أين هذا من السفسطة؟!

وإذا عرفت هذا سهل عليك جواب كلّ ما أورده هذا الرجل في هذه المباحث من الاستبعادات والتشنيعات.

وأمّا جواب الإمام الرازي فهو واقع بإزاء الاستبعاد ، فإنّهم يستبعدون أنّ الحديدة المحماة الخارجة من التنوّر يجوز عقلا أن لا تحرق شيئا.

فذكر الإمام وجه الجواز عقلا بخلق الله تعالى عقيب الخروج من التنّور برودة في تلك الحديدة ؛ فيكون جوابه صحيحا.

والله أعلم بالصواب.

وأمّا قوله : « إنّ المتنازع فيه أنّ الجسم الذي في غاية الحرارة ، يلمسه الإنسان الصحيح البنية ، السليم الحواسّ ، حال شدّة حرارته ، ولا يحسّ بتلك الحرارة ؛ فإنّ أصحابه يجوّزون ذلك ».

فنقول فيه : قد عرفت آنفا ما ذكرناه من معنى هذا التجويز ، وأنّه لا ينافي الاستحالة عادة ، فهم لا يقولون : إنّ هذا ليس بمحال عادة ، ولكن لا يلزم منه محال عقلي ـ كاجتماع الوجود والعدم ـ ، فيجوز أن تتعلّق به القدرة الشاملة الإلهية ، وتمنع الحرارة عن التأثير.

ومن أنكر هذا ، فلينكر كون النار بردا وسلاما على إبراهيم.

٧٧

وأقول :

ما ذكره من مغايرة الأشاعرة للسوفسطائية في خصوصيات الأقوال ، لا ينافي مشابهتهم لهم في مخالفة الضرورة ، كما هو مطلوب المصنّف ;.

فالمراد أنّهم مثلهم في إنكار المحسوسات الضرورية ، وغلطهم فيها غلطا بيّنا يستوضحه كلّ ذي عقل.

وأمّا ما ذكره في بيان مذهب الأشاعرة ، فهو تكرير لما سبق ، وقد عرفت أنّ قولهم بنفي سببية الأسباب الطبيعية واقعا ، وجواز تخلّف المسبّبات عنها ، وجواز وجود المسبّبات بدونها ، مخالف للضرورة ، ومستلزم لعدم صحّة الحكم على الجسم بالحدوث ، وعلى المركّب بالإمكان إلى غير ذلك ممّا سبق.

مع إنّ تجويز رؤية الأعمى ، وسماع الأطرش ـ العادمين لقوّتي البصر والسمع ـ مستلزم لجواز قيام العرض بلا معروض ، وهو محال.

وفرض قوّة أخرى يجعل النزاع لفظيا ، وهو ليس كذلك ، فلا يمكن تخلّف المسبّب عن سببه الطبيعي ، ولا وجوده بدونه ، بلا منافاة في ذلك لعموم القدرة ، لاعتبار الإمكان في محلّها ، كما سبق.

فكما لا يصحّ تعلّقها بإيجاد شريك الباري سبحانه ، وبالجمع بين الوجود والعدم ، لا يصحّ تعلّقها بالمسبّب بدون السبب المفروض السببية.

وأمّا ما يظهر منه من كون القدرة علّة تامّة لوجود الأشياء ، فخطأ

٧٨

ظاهر ، لاستلزامه قدم الحادثات ، أو حدوث القدرة.

ولمّا أنكر الأشاعرة علّيّة الأسباب الطبيعية ـ والحال أنّها من أظهر أحوال الموجودات ـ لزمهم نفي الثقة بالموجودات البديهية ـ من المحسوسات وغيرها ـ ودخلوا في السوفسطائية ، المخالفين للبديهة.

وأمّا ما ذكره في توجيه جواب الرازي ، فمنحلّ إلى أنّه إقناعيّ خارج عن محلّ الكلام ، وأنت تعلم أنّ مثله لا يقع في بحث العلماء.

وأمّا قوله : « ومن أنكر ذلك ، فلينكر كون النار بردا وسلاما على إبراهيم » ، فمدفوع بأنّ صريح الآية الكريمة صيرورة النار بردا ـ كما في فرض الرازي ـ ، فلا دخل لها بمطلوبه من عدم تأثيرها للإحراق حال حرارتها.

٧٩
٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228