خلافة الرسول بين الشورى والنص

خلافة الرسول بين الشورى والنص42%

خلافة الرسول بين الشورى والنص مؤلف:
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 133

خلافة الرسول بين الشورى والنص
  • البداية
  • السابق
  • 133 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 48093 / تحميل: 6976
الحجم الحجم الحجم
خلافة الرسول بين الشورى والنص

خلافة الرسول بين الشورى والنص

مؤلف:
العربية

خلافة الرسول

بين الشورى والنص

مركز الرسالة

١

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

٣

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المركز

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف مبعوث للعالمين، نبينا محمد المصطفى وعلى آله الطيّبين الطاهرين، ومن أخلص لهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. وبعد:

فقد أصبح من البداهة والضرورة بمكان أنّ أيّ قائدٍ من القوّاد - المخلصين لمبادئهم وشعوبهم - لا يعقل أن يترك أُمّته وأتباعه من بعده هملاً وبلا راع... ولذا نراهم - دائماً - يفكّرون في من يخلفهم عند غيابهم - حتى في المدة القصيرة - ليقوم بالوظائف والمهام اللازمة.

وإذا كان ترك الاُمّة سدىً من سائر القادة مستحيلاً، كان ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستحيلاً بالاَولوية القطعية، فإنّه سيد العقلاء وأشرف المخلوقين من الاَولين والآخرين، وشريعته أفضل الشرائع، وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم.

إذن، لابدّ من خليفةٍ له يخلفه في أُمّته، ولابدّ أيضاً من أن يكون هو - قبل غيره - المهتمّ بهذا الاَمر.

لاشك وأن الاُمّة يوم فقدت النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت تتذكّر ما رأته وما سمعته من خلال أيام رسالته في هذا المجال، لا سيّما أيامه الاَخيرة حيثُ أوصى بأشياء، فإنّهم كانوا يحفظون وصاياه تلك - في الاَقل لقرب العهد بها - وهي الوصايا التي ما زالت الاُمّة تحتفظ بها حتى يومنا هذا.

٥

فهل كان الذي سمعوه منه وحفظوه هو (النص) على واحدٍ معيّنٍ من بعده، أو ترك الاَمر إلى الاُمّة نفسها لتختار له خلفاً يقوم بوظائفه وشؤونه؟

وعلى الجملة، فهل الاَساس في الاِمامة والخلافة - على ضوء الكتاب والسُنّة - هو (النص) أو (الشورى)؟

ولكنا إذا ما عدنا إلى خلفيات الواقع التاريخي لمسألة الخلافة في الاِسلام، ودرسناها بحياد تام؛ لوجدناها قد حسمت بعيداً عن كلا الامرين وذلك باجراء سريع عاجل على أثر مبادرة جماعة من الانصار مع نفر قليل من المهاجرين إلى اجتماع السقيفة في وقت انشغال المسلمين وعلى رأسهم أهل البيت عليهم السلام وبنو هاشم كلهم بتجهيز النبي الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم، والقاء النظرة الاَخيرة على الجسد المطهر العظيم ومن ثم مواراته الثرى في موكب حزين.

ومع قلّة المجتمعين في السقيفة فان مادار بينهم لم يسفر عن رضا الجميع ولا عن اتفاقهم أو تشاورهم، بل تطاير الشرُّ فيها، وكانت بيعتهم - كما قال عمر - (فلتة وقى الله شرّها).

وهذا يعني ان الشورى لم تتحقق بين أصحاب السقيفة أنفسهم فضلاً عمن غاب عنها ورفضها كأهل البيت عليهم السلام، وأصحابهم، وبني هاشم كلهم، والامويين أيضاً كما يدلّ عليه موقف عميدهم، فهذا هو الواقع التاريخي الذي ساد بعد اجتماع السقيفة.

ولاَجل صيانته، والحفاظ على كرامة السلف الماضين حاولت طائفة التنظير لمسألة الخلافة من خلال ذلك الواقع فتشبثت بالشورى، لكن لما اصطدمت بالواقع التاريخي الذي أشرنا إليه، عادت إلى النص...

٦

وحينئذٍ يأتي البحث عن من هو (المنصوص عليه) من قبل الرسول الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم؟

وهذا الكتاب الذي نقدمه باعتزاز إلى القراء قد أُجريت فيه موازنة دقيقة، وحوار علمي بين منطق أصحاب (الشورى) وبين منطق أصحاب (النص والتعيين)، مع ايراد أقوى ما يمتلكه الطرفان من الاَدلة ومناقشتها بحياد وموضوعية، مع بيان أي من المنطقين هو المتماسك وأيُّهما المتهافت.

نترك للقارئ والباحث حريّة اختيار ما توصل إليه البحث من نتائج في ضوء استخدام المصادر المعتبرة، مع أصالة المنهج المتبع، وقوة التحليل.

والله الهادي إلى سواء السبيل

مركز الرسالة

٧

٨

تمهيد

لا تزال مشكلة (أساس نظام الحكم في الاِسلام) تُعدّ من اُمّهات المشاكل التي لم يُحسم فيها القول بين المسلمين بعد..

إنّها واحدة من المشاكل الكبرى التي تعرّضت دائماً لاِشكالات الرُؤى المذهبية، شأنها شأن أخواتها من المشكلات التاريخية والعقيدية.

ليس النزاع في أصل النظام، فإنّ أحداً لا يستطيع أن يتصوّر أُمّة تحيا بلا نظام، ونظاماً يسود بلا قيادة..

وقديماً تحدّث الفقهاء وفلاسفة السياسة المدنية عن هذا الاَصل:

- فأحمد بن حنبل يُعرّف الفتنة بأنها حال الاُمّة إذا لم يكن إمام يقوم بأمر الناس.

- وتحدّث المسعودي عن حاجة الدين إلى الملك، وحاجة الملك إلى الدين، ورأى أنّه لا غنى لاَحدهما عن الآخر..

- ورأى ابن حزم أنّ ذلك معلوم بضرورة العقل وبديهته، وأنّ قيام الدين ممتنع غير ممكن إلاّ بالاسناد إلى واحد يكون على رأس هذا النظام.

- وعبّر ابن خلدون عن هذا النظام بأنّه قوانين سياسية مفروضة يسلّمها الكافة وينقادون إلى أحكامها، فإذا خلت الدولة من مثل هذه السياسة لم يستتب أمرها ولم يتم استيلاؤها( سُنَّةَ اللَّـهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ) (١) .

____________________

(١) الأحزاب ٣٣: ٣٨.

٩

وقبل هذا كلّه قد تعامل المسلمون مع هذا الاَصل كضرورة واقعية إثر وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

أما النزاع الدائر فهو في أساس ذلك النظام.. في الاسلوب الذي يقود رأس النظام إلى موقع الرئاسة..

لقد حاول البعض على امتداد تاريخنا السياسي التركيز على نظرية الشورى أصلاً في النظام، مستنداً على أمثلة تاريخية معدودة، صاغ منها اُنموذجاً للشورى في الاِسلام.

وتناولت ذلك كتب العقائد والاَحكام السلطانية ثم تقدّمت به خطوة أُخرى إلى أمام لتنتزع لهذه النظرية أصالتها من مصادر التشريع الاِسلامي؛ القرآن والسُنّة.. لتكتسب نظرية الشورى بعد ذلك أصالة دينية متقدمة على شهودها التاريخي، بل ومبرّرة له.

وكلّ ذلك يدور حول الخلافة الاُولى للرسول صلى الله عليه وآله وسلم.. فشكّل الاتجاهان - دراسات التاريخ السياسي، والدراسات العقيدية - وحدة موضوعية كافحت على امتداد هذا الزمن الطويل من أجل تدعيم تلك النظرية وتأصيلها..

لكن هل استطاعت هذه المسيرة المتوحّدة أن تُقدّم الكلمة الاَخيرة في الموضوع، وتضع الحل الحاسم للاَسئلة التي تثار حوله؟

هل استطاعت أن تثبت أصالة الشورى طريقاً إلى خلافة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؟

هل استطاعت أن تثبت ما هو أوسع من ذلك؛ أصالة الشورى في حل

١٠

مشكلة النظام السياسي في الاِسلام؟

هل استطاعت أن تنفي الاُطروحات الاُخر المزاحمة للشورى، من قبيل: النصّ، والغلبة وغيرها؟

ما هو مستوى النجاح الذي حققّته في كلِّ واحد من هذه الميادين؟

وماذا عن قدرة الاطروحات الاُخرى على منازعة نظرية الشورى والحلول محلّها بديلاً في تعيين أساس نظام الحكم في الاِسلام؟

مواضيع عديدة تتفرّع عن هذه الاَسئلة الكبيرة تبنّى هذا البحث المقتضب دراستها ومناقشتها، مناقشة موضوعية عُمدتها البرهان العلمي والدليل الحاسم، بعيداً عن الالتفاف على النصوص، وتحويل القطعي إلى ظنّي، والصريح إلى مؤوّل، والخاص إلى العام، والصحيح إلى ضعيف، ونحو ذلك من أساليب الجدل..

ويقع البحث في قسمين رئيسيين؛ يتناول القسم الاَول نظرية الشورى من جميع وجوهها، فيدرس الشورى في القرآن والسنة، ثم الشورى في واقعها التاريخي وفي الفقه السياسي، مع أهم ما يتّصل بهذه العناوين من مباحث.

فيما يتناول القسم الثاني (نظرية النصّ) وفق المنهج نفسه، مستوفياً ما يتعلّق بهذا الموضوع بحثاً ونقداً.

ليخلص إلى النتيجة التي يقررّها البحث في كلا قسميه..

والله المسدّد للصواب

١١

١٢

الشورى

١٣

١٤

الشورى في الكتاب والسُنّة

ثلاثة نصوص في القرآن الكريم تتحدث عن الشورى، ولكن على مستويات مختلفة:

النصّ الاَول:

قوله تعالى في شأن الرضاع:( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ) (١) .

وهذا حديث في أجواء الاُسرة الواحدة، يتشاور الاَبوان في شأن وليدهما الرضيع، هل تُتمّ اُمّه رضاعه إلى الحولين، أم تفصله عن الرضاع؟ تفاهم ثنائي في مسألة على ضوء المعرفة بحال الاَم وحال الرضيع، وجوّ الاُسرة العامّ، ينتهي إلى قرار مشترك لا إكراه فيه.

وربما انتهى قرارهما بعد التشاور إلى أن يسترضعا له مرضعة غير اُمّه، قال تعالى( وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّـهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (٢) .

____________________

(١) البقرة ٢: ٢٣٣.

(٢) البقرة ٢: ٢٣٣.

١٥

فهذه الآية الشريفة تعالج قضيّةً من قضايا الاُسرة، وما يتعلّق منها بالرضيع خاصّة، ضماناً لمصلحته، وحفاظاً على سلامة الجوّ الاُسري الذي قد يحطّمه استبداد أحد الزوجين بالامر كلّه(١) .

النصّ الثاني:

في الحديث عن غزوة اُحد وما انتهت إليه من هزيمة القسم الاَعظم من جيش المسلمين وتركهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مع بضعة نفر من أصحابه يكافحون العدوّ لوحدهم، ممّا هو مدعاة لاِشعارهم بتقصيرهم الشديد وذنبهم الكبير الذي ارتكبوه، خصوصاً وأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يخرج إلى اُحد إلاّ برأيهم ورغبتهم وإلحاحهم، لكنّ الذي وجدوه من النبيّ القائد صلى الله عليه وآله وسلم هو عكس ما يظنّون ممّا هو معتاد لدى القادة إزاء الجند المنهزم عن قائده ساعة الحرب! وجدوا منه صلى الله عليه وآله وسلم ليناً معهم وإكراماً زادهم شعوراً بالتقصير حين لم يلجئهم إلى التماس الاَعذار، أو التذلّل.

فبارك الله تعالى هذا الخُلق الكريم، وهذا السلوك الحكيم، إذ جاء التنزيل:( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) (٢) فإنّما كان لينك معهم وغضّك عن ذنبهم برحمة من الله تعالى، وأيّ رحمة، أيّ رحمةٍ هذه التي جعلتك تلين لجند أخرجوك إلى القتال برأيهم، فلمّا حمي الوطيس فرّوا عنك ونجوا بأنفسهم؟!

وإتماماً لهذه الرحمة الواسعة، تنزّل الاَمر الالهي بما يدعو إلى إعادة

____________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ١: ٢٨٥، فتح القدير ١: ٢٤٦ - ٢٤٧، الميزان في تفسير القرآن ٢: ٢٥٣.

(٢) آل عمران ٣: ١٥٩.

١٦

المجتمع الاسلامي إلى تماسكه الاَوّل، بل أكثر، وإعادة هذا الرعيل الكبير إلى موقع إجتماعي طبيعي يستطيع من خلاله أن يستأنف نشاطه ويصحح عثرته، فقال تعالى:( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) (١)

لكنّ التنزيل لم يترك الاَمر بالمشورة مرسلاً، بل وضع له نظاماً واضح المعالم، فالنبيّ القائد المستشير حين يعزم على أمرٍ فيه الصواب والصلاح ينبغي أن ينفذ فيه، سواء كان موافقاً لآراء المستشارين أو مخالفاً لها:( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ ) (٢) .

موضوع الشورى وأهدافها:

الشورى التي دعت إليها هذه الآية الكريمة ما هو موضوعها؟ وما هي أهدافها؟ بعد أن عرفنا أنّ الشورى في المورد الاَوّل كان موضوعها الرضاع، وأهدافها: ضمان مصلحة الرضيع، وسلامة المحيط الاُسري.

إنّ الشورى هنا مختلفة عن الاُولى، فالمستشير هنا هو النبيّ القائد صلى الله عليه وآله وسلم، والمستشار هم جمهور الناس من أصحابه.

فما هي الاُمور التي كان صلى الله عليه وآله وسلم مدعوّاً لاستشارتهم فيها؟ أهي أمور الدين، أم اُمور الدنيا؟

____________________

(١) آل عمران ٣: ١٥٩.

(٢) آل عمران ٣: ١٥٩.

١٧

ولاَي شيءٍ هذه المشورة، ألاَجل أن يستنير بآرائهم ويهتدي بها إلى الصواب؟ أم ماذا؟ للمفسّرين هنا كلام تتّفق معانيه وأدلّته كثيراً، وتختلف قليلاً، فمّما اتّفقوا فيه كلامهم في حدود الاجابة عن سؤالنا الاَوّل؛ أيّ الاُمور هذه التي يستشيرهم فيها؟

قال الشوكاني - وقوله جامع لاَقوال المفسّرين -: ( إنّ المراد أيّ أمرٍ كان ممّا يشاوَر في مثله، أو في أمر الحرب خاصّة كما يفيده السياق والمراد هنا المشاورة في غير الاُمور التي يرد الشرع بها)(١) .

فالمشاورة إذن ليست في أمور الدين والاَحكام، فهذه من شأن التنزيل وحده، وليست محلاًّ للرأي والنظر.

فموضوع المشاورة إذن هو أمور الدنيا، وقد تقدّم أنّ السياق يدلّ على أنّ المراد هو شأن الحروب وخططها، وليس السياق وحده يدلّ على هذا، بل التاريخ أيضاً أثبت أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد استشار أصحابه في بعض شؤون الحرب، كالذي حدث في اختيار لقاء العدوّ يوم بدر، وفي اُسارى بدر، وفي الخروج إلى اُحد، وفي الخندق.

أمّا وراء شؤون الحرب، فإن حصل فنادرٌ جدّاً، وحتى شؤون الحرب لم تكن كلّها خاضعة للشورى، بل كان قرار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في اختيار الحرب وتحديد مكانها وزمانها حاسماً وسابقاً لاَيّ مستوى من مستويات الشورى، وهو قرار باق وحاكم حتّى لو كثر فيه الخلاف، كما هو واضح جدّاً في بعثة اُسامة، وفي اختيار زيد بن حارثة أميراً على جيش مؤتة ولو

____________________

(١) فتح القدير ١: ٣٩٣.

١٨

بعد جعفر بن أبي طالب، وفي عقد الصلح في الحديبية مع مشركي قريش، وغير ذلك كثير.

وسوف يطلّ علينا البحث في أهداف هذه الشورى بمزيد من الوضوح في موضوع الشورى ومساحتها.

أمّا أهداف هذه الشورى:

فتطالعنا بها أحاديث مرفوعة إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأقوال لقدماء المفسّرين أو متأخّريهم.. ومن مجموع ما ورد يظهر لهذه الشورى بعدان:

البعد الاَول:

نكتشفه في النصوص الآتية:

- عن قتادة، قال: ( أمر الله نبيّه أن يشاور أصحابه في الاُمور، وهو يأتيه وحي السماء، لاَنّه أطيب لاَنفس القوم، وأنّ القوم إذا شاور بعضهم بعضاً وأرادوا بذلك وجه الله عزم لهم على الرشدة )(١) .

إنّه إذن أمر للقائد أن يشاور قومه وأصحابه، لما في ذلك من المنافع المذكورة.

- وعن الحسن، قال: ( قد علم الله أنّه ما به إليهم من حاجة، ولكن أراد أن يستنّ به من بعده )(٢) .

فهي إذن سنّة من السنن المُلزمة للقائد، مارسها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من

____________________

(١) الدر المنثور ٢: ٣٥٨.

(٢) الدر المنثور ٢: ٣٥٨.

١٩

بعده من القادة أولى بممارستها والرجوع إليها.

- قال الرازي: ( ليقتدي به غيره في المشاورة، ويصير سنّة في اُمّته )(١) .

فنحن مازلنا في دائرة واحدة، وهي دائرة الشورى التي يمارسها القائد في تخطيطه السياسي والاجتماعي والتنظيمي، مع قواعد شعبية واسعة، أو مع طليعة ممتازة، أو مع واحد تميّز بخبرة خاصّة في شأن من الشؤون التي يمكن أن تتسع لها الشورى، من غير الاحكام والتشريعات وما تخصّصت النصوص الشرعية في بيانه.

إذن نحن إزاء شورى يمكن أن نطلق عليها اسم (شورى الحاكم).

هل اتّخذت هذه الشورى نظاماً ثابتاً؟:

منذ أن نزلت هذه الآية الكريمة وحتّى وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، هل اتّخذت الشورى شكلاً معيناً ونظاماً ثابتاً؟

ومن كافّة أمثلة الشورى وتطبيقاتها - ومعظمها في شؤون الحرب - نجد أنّ النبيّ القائد صلى الله عليه وآله وسلم كان يختار للمشورة أحياناً من يشاء، وأحياناً يستمع إلى مشير يبدي رأيه ابتداءً، دون أن ينتخب أشخاصاً بأعيانهم للمشاورة في النوازل..

- فيوم الخندق؛ أشار عليه سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر خندق حول المدينة، فأخذ برأيه، وأمر بحفر الخندق، فحُفر، وعاد على الاِسلام والمسلمين بكلِّ خير..(٢) .

____________________

(١) تفسير الرازي ٩: ٦٦.

(٢) تاريخ الطبري ٢: ٥٦٦ عن الواقدي، تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم، دار التراث.

٢٠

٢١

التورخة!

كثيراً ما صيغ التاريخ ، وقيل : إن ذلك من أجل العبرة والعبر ، وكذلك من أجل حفظ وعي الأمة وذكراها حتى لا تنسى ماضيها وتبقى مرتبطة به.

لكن إلى أي حد عبّر هذا التاريخ عن وعي الأمة الحقيقي؟ لأن كتابة التاريخ تتداخل فيها الآنات ذات الاتجاهات المتعددة ، والمرتبطة باللحظة التي وافق فيها المؤرخ نفسه على صياغة مشروعه التاريخي.

فتبقى هذه المادة التاريخية معبرة بطبيعتها عن وجهة نظر المؤرخ ، وذلك على حد قول ابن خلدون : إن التاريخ نظر لا مجرد رواية(١) ، ومنه يصبح نظر المؤرخ هو المحدد لنوعية المادة التاريخية.

إذن ، فهناك علاقة وطيدة بين المؤرخ كفاعل والمادة التاريخية كأرضية لهذا الفعل ، أي أن التاريخ هو التفاعل الناتج عن التقاء المؤرخ والمعلومات المرتبطة بالماضي والتي نسميها تاريخية.

وبتعبير آخر هي مجموع المعلومات المرتبطة بالزمن الغابر الماضي ومعرفة الشخص المؤرخ بها ، ومن ثم يكون إدراكه لها ليس كلياً ،

__________________

١ ـ نقلا عن عبد الله العروي ، مفهوم التاريخ : ١ / ٣٦ ، الطبعة ٣ ، ١٩٩٧ ، المركز الثقافي العربي.

٢٢

ودليلا على أن في التاريخ أحداث مجهولة بفعل جهل المؤرخ لها وعدم اطلاعه عليها ، أو بفعل تجاهلها لظروف خاصة ولم تؤرخ.

وبعدها فإننا نستنتج أن التاريخ حتماً لا ينفصل عن الإنسان وبخاصة الإنسان المختص والذي اصطُلح عليه بالمؤرخ ، فتقودنا النتيجة بطبيعة الحال إلى القول بأن التاريخ هو تاريخ البشر وللبشر. وكما يقال : أن التاريخ بشري بالتعريف أي أنه استحضار يقوم به المؤرخ في لحظة تصوير حركة التاريخ وكتابته ( الاسطوغرافيا ) ; وعلى حد تعبير « مارك بلوك » : أن الأحداث التاريخية هي في جوهرها وقائع نفسية بمعنى حضور مؤثرات أثناء ممارسة التدوين والتأريخ ، والتي تعطي للمادة التاريخية صورة تعكس طبيعة الشخص المشتغل بها.

ويمكن قراءة هذه المسألة من وجهة نظر علم التطور ( L¨EVOLOTION ) وبالضبط مع النظرية اللامركية ( Lamark ) فيما يخص التطور الطبيعي والتي تعتمد في مقولاتها على تأثير الظواهر الطبيعية على ظاهر النوع المدروس ; أي مثلا أن التغيير الفينوتيبي ( Phenotype ) لنبتة ما في وسط ما مثلا في أعلى قمة جبل حيث قوة الرياح قوية تجعلها قصيرة الشكل ، لكن وجودها في منطقة منخفضة حيث تزول هذه العوامل يجعلها طويلة القامة.

فكذلك حال المؤرخ والمادة التاريخية فهو يهادن الأجواء الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المحيطة به ولا يجد مفراً من الخضوع لها من أجل الحفاظ على مكانته ومنزلته داخل الوسط فيصبح بذلك كلّ ما دُوِّن هو ما أراده المؤرخ لهذا الإنسان ، وليس ما يريده

٢٣

الإنسان أي أن موضوع التاريخ ليس ما يريد الانسان بل هو تصورنا لما يريد(١) .

ونصل إلى نتيجة حتمية وهي أن التاريخ ليس ثابتاً ككتابة ، بل هو متغير على حسب طبيعة المؤرخ. فتاريخ اليعقوبي(٢) مثلا ليس فيه من الشبه ما يجعله مثيل الطبري نظراً لتدخل الشخصية في المعطيات المتواجدة ; ومنه يجب أن نعلم أن التاريخ لا يكتب مرة واحدة بل تعاد كتاباته باستمرار تحت إيحاء وضغط اسئلة يلقيها الحاضر على الماضي ، وتتجاوب فيها النزاعات الفردانية لكل شخص ، وبكل تلاوينها ، ويكون الخاسر فيها هو الإنسان الذي من أجله صيغ هذا التاريخ.

والملاحظة التي يجب أن لا نغفل عنها وعلينا أن نأخذها بعين الإعتبار والجدية هي أن كبار المؤرخين كانوا رجال تاريخ بمعنى مزدوج ; رجال سياسة ، ورجال دراسة ، ذاكرين التاريخ ومؤثرين فيه ، بل لا يوجد مؤرخ محترم لم يحاول أن يلعب دوراً سياسياً. ومن ثم تغيب المصداقية للمادة التاريخية بحيث تصبح في غالبها تمثيلا ورؤية للقوة المسيطرة ، يغيب فيها تاريخ المعارضة. ولا يقف الأمر عند هذا

__________________

١ ـ تولستوي نقلا عن عبد الله العروي مفهوم التاريخ ط٣ سنة ١٩٩٧ المركز الثقافي العربي.

٢ ـ اليعقوبي الذي كان له الدور البارز في إحداث تجديد في صميم الكتابة التاريخية ( نقلا عن محنة التراث الآخر ص ٢٥ ط١ سنة ١٩٩٨ دار الغدير ) ورغم ذلك همش ولم يعتد به.

٢٤

الحد ، بل يصبح تصوير المعارضة بالشكل الذي تريده السلطة أو المؤسسة الفاعلة ، وهذا ما يصادف قول « تولستوي » الذي ذكرناه سالفاً.

وأثناء فعل الكتابة التاريخية ( الاسطوغرافيا ) والتي تعتمد في أساسها على المرويات يدخل الراوي كفاعل أساسي فيه ، حيث يستحضر في مروياته لفظ الراوي أي بالنمط التقليدي على نمط قال فلان ، حدثنا فلان ، أو سمعت فلان.

وهنا تحضر شخصية المؤرخ بقوة إذ أنه لا يروي الخبر بقدر ما يستحضر الغائب(١) وهذا الغائب محل استفهام ، أي كيف يمكن قبول قول هذا ورفض قول ذاك؟ وماهي المعايير المعتمدة في تحديد أهلية الراوي للرواية؟

وهنا تتداخل الأنات وتدخل السياسة من بابها الواسع وتتبعها النعرات الايديلوجية فلهذا أصبح علم الرجال ضرورة حتمية.

والأمر هنا ليس مرفوضاً لذاته ، بل لطريقة تعاطي المؤرخين والعلماء المختصين به. فيصير بذلك الطعن في الشخص لمجرد ولائه الايديولوجي والذي بالطبع يخالف النمط السياسي المسيطر.

ويقال مثلا عنه مردود الرواية لأنه رافضي خبيث والتاريخ الإسلامي مليء بهذه النماذج.

__________________

١ ـ كلود برود « التاريخ في ممالك أغنى من ساحل العاج أنال » عدد ٤ ، ١٩٧٩ ص ١١٢٤ بواسطة عبد الله العروي.

٢٥

فمثلا إذا اخذنا السدي وهو أحد الثقات الشيعة ، يقول عنه الجوزجاني : حدثت عن معمر عن ليث : كان بالكوفة كذابان فمات احدهما السدي والكلبي(١) ورغم توثيق بعض كبار علماء السنة له كابن حنبل يذكر الجوزجاني في شأن سعيد بن كثير : « سعيد بن كثير فيه غير لون من البدع وكان مخلطاً غير ثقة »(٢) .

ويأتي ابن حجر ليبرر المسألة في قوله « سعيد بن كثير بن عفر رمي بالتشيع »(٣) وكتب التاريخ حبلى بهذه النماذج.

وكمثال آخر للرواة ، وهم الرواة الذين تقبل رواياتهم رغم تجريح العموم لهم ، لأن مروياتهم تخدم الوضع القائم والذي يراد صياغته للناس. كمثال على ذلك مرويات سيف بن عمر التميمي والتي لم يتخلص منها التاريخ لحد الآن.

إذن يظهر لنا جليا بأننا نقف فوق تاريخ مأزوم بتداخل العناصر الفاعلة فيه والتي اعتقد أن الفاعل فيها هو المؤرخ والذي لم يصل إلى حد الاحترافية وتعري النزاهة بحيث أن المؤرخ المحترف في الأصل

__________________

١ ـ أسد حيدر الامام الصادق والمذاهب الأربعة : ٣ / ٥١٠ ، الطبعة ٣ ، ١٤١١هـ. الناشر مكتبة الصدر بطهران.

٢ ـ الجوزجاني : تذكرة الخواص ٢ : ١٤ نقلاً عن الامام الصادق والمذاهب الأربعة.

٣ ـ المصدر السابق وذكر ابن حجر الهيتمي في صواعقه المحرقة حديثاً مرفوعاً يقول : « يكون في آخر الزمان قوم يسمون الرافضة ، يرفضون الإسلام فاقتلوهم فإنهم مشركون » ص ٥ نقلا عن محنة التراث الآخر.

٢٦

والعمق دائماً حافظ ، محافظ ، ومتحفظ(١) .

إذن كسؤال جوهري إلى أي حد كانت هذه الشروط متوفرة في المؤرخ الإسلامي؟ ما هي المحددات الرئيسية لشخصية المؤرخ الإسلامي؟

قبل الإجابة على هذه الأسئلة ، لابد من الإشارة إلى التوجهات الحداثية في قراءة التاريخ الإسلامي ، هل استطاعت أن تخرج من بوتقة التقليد والعماء الايديلوجي لصياغة نزيهة وفق ما يريده البشر لا وفق ما يُراد للبشر؟

__________________

١ ـ عبد الله العروي ص ٤٣ المصدر السابق.

٢٧

التاريخ والحداثة

لقد أصبح التاريخ الإسلامي مادة خصبة لكل الدراسات نظراً لما يحوي في داخله من معطيات ; أي أن خصوبة هذه المادة التاريخية جعلت كل المدارس تطمع لقرائتها وتحويرها بالشكل الذي يفرضه منهج الدارس ، ومحاولة عرضه على الأشخاص تارة كحل جاهز بعد إزالة غبار التخلف عنه وتقديمه كقراءة بديلة وموافقة لمتطلبات العصر ، وتارة فقط بطرح أسئلة عليه وتقديمه كمادة ملغومة يجب التعامل معها باحتياط والسعي لانتقاء ما نراه الأفضل ; وذلك طبعاً وفق الحمولة المعرفية ورمي الباقي خارج التاريخ.

فتنوّعت بذلك القراءات مع اختلاف المناهج والآليات. وكما استخلصنا في المقام الأول على أن هذه المادة التاريخية الموروثة هي إنتاج فرضته اللحظة الزمنية والمكانية للمؤرخ ، نصل حتما إلى كون هذه المادة أصلا تشكّل مشكلا في حد ذاتها ، باعتبار تلاعبات الزمن فيها والتي هي في الواقع تلاعبات المؤرخ نفسه.

نضيف إليه كذلك الإشكال الثاني الذي له نفس الأهمية(١) ، وهو

__________________

١ ـ راجع ادريس هاني ، محنة التراث الآخر ص ٢٤ ، ط١ ، سنة ١٩٩٨ ، دار الغدير.

٢٨

الفاعل في المادة التاريخية ، ذلك الحدثوي المتسلح بمعارف مدرسته ومناهجها والساعي لايجاد حل لهذه الأزمة.

لكن مع الأسف لم يتغيرأي شيء فأصبح ذلك الطابع السياسي القديم والذي هو مؤطر حتماً لايديلوجية السلطة الحاكمة المقنعة مُعبراً عنه بشكل ايديلوجي أوضح ; أي فقط بتغيير صفة المهيج. فإذا كان المؤرخ القديم يسعى لإثبات الشرعية للكيانات السياسية القائمة انذاك ، وعلى حد تعبير ادريس هاني بأن التاريخ العربي قتلته السياسة ، فإن القراءة التاريخية الحداثية غلب عليها الطابع الايديولوجي ، وأصبحت المادة التاريخية أسس لمجموعة من النظريات ، كالماركسية ، البنيوية والمناهج الإبستملوجية ، فجاءت الخزانة العربيّة والإسلاميّة زاخرة بعدة قراءات ابتداءاً من النزعات المادية لحسين مروة ونقد العقل العربي لمحمد عابد الجابري إلى من العقيدة إلى الثورة لحسن حنفي.

ولكن يبقى سؤالا جوهرياً وهو : إلى أي حد استطاعت هذه القراءات أن تجيب على الإشكالات الأساسية للتاريخ الإسلامي؟

فإذا كان محمد عابد الجابري يحاول استنطاق المعقول العقلي من داخل التاريخ الإسلامي بآليات ابستملوجية وبنزعة عقلانية فعلى الرغم من وسع سعته فإنه جاء برغماتيا في نفس الوقت ، وتظهر من داخل نصوصه النزعة الايدلوجية المفرطة ، وكما قال عنه علي حرب في كتابه نقد النص على أنه يحاول أن ينتصر للمذهب السني على الشيعي وللفكر المغربي على نظيره المشرقي ، فتراه في كتاباته يجهد نفسه لجعل الغلبة للعالم الإسلامي السني المغربي ومحاولة إيجاد صيغة

٢٩

مشروع إسلامي ينبني أساسه على علماء وفلاسفة من أهل المغرب كابن رشد على مستوى الفلسفة ، وابن حزم على مستوى الفقه ، والشاطبي على مستوى الأصول ، مما جعل قراءته تنطلي ببُعد ايديلوجي يغيب فيها المعقول العقلي على حد تعبيره. ويطبع عليها الانتقائية في التعامل مع المادة التاريخية ، وذلك وفق الميولات المعرفية له ، فاوقف شطراً كبيراً من المعرفة الإسلامية ووسمها باللامعقول الديني علماً أن رموزها المعرفية أبدعوا في مجالات المعرفة(١) ولكن نظراً لطابعهم الايدلوجي دخلوا في دائرة الغنوصي الافلوطيني.

وقد تكون المدرسة الماركسية منصفة باعتبار قربها من طبقة المعارضة ، ولكنها أفرطت في التعاطي مع الجانب الاقتصادي والمادي ، وهذا ما نراه من خلال كتاب النزعات المادية لحسين مروة او كتابات جل الماركسيين الذين جعلوا المشروع يأتي غير كامل وغير ملم بالجوانب الأخرى والتي لها الأهمية القصوى كالجوانب الاجتماعية ، والثقافية ، التي تلعب دوراً أساسياً في التاريخ العربي الإسلامي وإحدى مقوماته الأساسية.

أما حسن حنفي فقد عرف طريقه وحدد الوجهة الصحيحة حينما تحدث بمفاهيم جديدة وجذابة والتي تتمثل في هدم التراث وإعادة بنائه ، ومحاولة تثوير هذا التراث ، فإنه لم يخرج عن الإطار العام

__________________

١ ـ راجع هنرى كربان : تاريخ الفلسفة الإسلامية ترجمة نصير مروة وحسن قبسي الطبعة ٢ سنة ١٩٩٨ دار عويدات للنشر.

٣٠

والمتمثل في النزعة الايديلوجية لطروحاته ، وكما يعبر عنها هو نفسه وبطريقه لا تثيره بكونه المعتزلي الوحيد حيث جعل مركز فكر التراث العربي والإسلامي هو الفكر الإعتزالي وعلى ضوئه تتم قراءة الأحداث التاريخية مما يعطيه بعداً برغماتيا في التعاطي مع الأحداث التاريخية ; فيغيب فيها النقد الموضوعي والقراءة الصريحة.

يظهر لنا إذن على أن الذاتية والأنا رغم تغيّر الزمان والمكان فإنها تبقى حاضرة بفعلها على المادة التاريخية ، وكما قال « كولينجورد » كلما خضع الإنسان في تصرفه لطبيعته الحيوانية ، لغرائزه وشهواته حاد عن شرعة التاريخ(١) .

ويبقى إذن أن نستلخص سؤالا جوهرياً يحدد أزمة التاريخ في الفكر الإسلامي العربي وهو كيف تعاطى المؤرخ الإسلامي مع الأحداث التاريخية؟ وماهي المحددات المتداخلة في إنتاج هذه المادة التاريخية؟

__________________

١ ـ عبد الله العروي ، مفهوم التاريخ : ١ / ٣٦ ط٣ ، سنة ١٩٩٧ ، المركز الثقافي العربي.

٣١

التاريخ المقدس

ماذا نقصد بالتاريخ المقدّس؟

لعل ما يواجه أي دراسة هو صعوبة تحديد المصطلحات وإدراجها بالشكل الذي يناسب طبيعة الموضوع المدروس. وليس هناك من شك بأن الدراسات التاريخية تبقى مجالا خصبا لصياغة مفاهيم واستعمالها وفق الحالات الزمكانية للمادة المدروسة.

وكما أسلفنا سابقاً وفق المناهج المعتمدة والباحثة في التراث ، آثرنا في هذا المبحث استعمال مصطلح التاريخ المقدس لما له من دلالة عميقة وخصوصاً بالنسبة لتاريخنا الإسلامي ، والذي أُحيط بنوع من الهالة والقدسية أصبحت فيما بعد حاجزاً للغور في أعماقه ، والذي يؤثر سلبا على المردود المجتمعي العام ; بحيث لا يستطيع ممارسة النقد الذاتي ومن ثم لا يمكنه الخروج من بوتقة الظلم والذي سيؤدي حتماً إلى السقوط في التخلّف.

وهذا ما يمكن ملاحظته بالنسبة للمجتمع الإسلامي. بحيث ظل لسنوات طوال رهين قدسيّة مزيفة محاطة بأسلاك كهربائية ، لتأتي في الأخير على نهاية الأمة وسقوطها في التبعية والانحطاط.

إن التاريخ لم يقصد به تأريخ الأحداث والوقائع الماضية فهذا بحد

٣٢

ذاته يعد حصرا لأن الامم السابقة لم تكن تملك السنوات فقط ، بل كانت تملك كل مقومات المجتمع الثقافية ، السياسية ، الاقتصادية ، وإن تم حصرها في التراث فهذا التراث هو نتاج عملية تأريخ للمجتمعات القديمة والتي كانت تخبرنا عن العالم الفلاني في السنة كذا وعن الحاكم الفلاني والحدث كذا فأعطانا كمًّا هائلا توارثته كتب التاريخ ، فأخذ بذلك التراث صبغته التاريخية من ثم نستطيع أن نقول أن التاريخ هو علم تدوين مجموع الأحداث الماضية والحاقاتها الثقافية ، الاقتصادية ، والسياسية ، والتي تكون في مجموعها المادة التاريخية يبقى إذن أن نفصّل معنى اللفظ وهو المقدس.

إن دلالة القدسي تعني ثبوتية الشيء ، فمثلا حينما نقول حديث قدسي فهو ثابت القدسية من حيث هو صادر عن الله تعالى ، والقدسية هي صفة ناتجة عن الهالة التي أحيط بها الشيء المراد تقديسه. فإذا قلنا مثلا التاريخ القدسي فهو ثابت القدسية ويستحيل زعزعة قدسيته وهذا ما صار مع التاريخ الإسلامي بحيث أحيط بنوع من الهالة والقدسية ومن ثم استحال الامر لولوج هذا الميدان ونقده نقداً منطقياً وبناءاً.

حتى أصبح المؤرخ يستعيض من ذكر أشياء قد تمس في قدسية هذا التاريخ ; وبالضبط في رجالاته ، لما أحيط به من القدسيّة والتعظيم فاقت حد المعقول وتحولت إلى شيء ثابت راسخ في العرف التأريخي ، والذي حتما جعله في ذهنية المسلم راسخاً لا يستطيع مسه او التحدث فيه او ذكره بمجرد كلمة يخيل بها أنا تمس كرامته وقدسيته ، وهذا ما عبر عنه أحد شيوخ المؤرخين المسلمين حيث قال :

٣٣

« في هذه السنة ـ سنة ٣٠ هـ ـ كان ماذكر من أمر أبي ذر ومعاوية واشخاص معاوية أموراً كثيرة(١) كرهت ذكر أكثرها » ، ثم يأتي بعد ذلك فيقول : « وأما الآخرون فإنهم رووا في سبب ذلك أشياء كثيرة واموراً شنيعة كرهت ذكرها »(٢) .

إذن هكذا يعبر المؤرخ عن نفسه وهكذا يتعاطى مع المادة التاريخية بأسلوب انتقائي من أجل الإبقاء على قدسية مصطعنة فيتجاوز القوانين الطبيعية التي تعطي لنا نوعين من المفاهيم الثابتة والمتحولة ; بحيث أصبح للمؤرخ هم وحيد هو كيفية الحاق هذا المتحوّل إلى ثابت.

__________________

١ ـ لمعرفة هذه الأُمور التي لم يذكرها الطبري راجع كتاب تاريخ الإسلام الثقافي والسياسي للاُستاذ صائب عبد الحميد ص ٩٩.

٢ ـ تاريخ الطبري : ٤ / ٢٨٣ ـ ٢٨٦.

٣٤

٣٥

التاريخ الإسلامي الثابت والمتحول

لقد أخذ التاريخ الإسلامي منهجاً خاصاً في التعامل وفي تدوين الأحداث وأخذ الرواية عن الراوي ، بحيث تم تطبيق مناهج الحديث في أخذ الرواية. فأصبح التاريخ هو الوجه الآخر للحديث فتم الإعتماد على طرق الإسناد ، ودراسة سلسلة الرواة وإخضاعها للشروط التي أحدثها المحدثون ، وأي شخص يخالف جزءاً من هذه الشروط لا تأخذ منه الرواية.

يبدو الامر مغريا جدا ، بحيث لن يدخل أدنى شك في كون ما يصلنا من الروايات يتمتع بنسبة كبيرة إن لم نقل تامة من الصحة ، وبهذا نطمئن بامتلاكنا تاريخاً سليماً بحيث يجعل الثابت على ثبوتيته والمتحول متحوّلاً حسب متغيرات الزمان والمكان.

لنقف قليلا مع هذا المنهج الذي اخترعه المحدّثون في أخذ الرواية ، فقد تم الاتفاق على مجموعة نقاط(١) :

١ ـ لا رواية عن أهل البدع.

٢ ـ لا جرح في الصحابة.

__________________

١ ـ عبد الله العروي ، مفهوم التاريخ : ١ / ٤١ منشورات المركز الثقافي العربي.

٣٦

٣ ـ جواز ترتيب الرجال حسب الطبقات.

٤ ـ النهي عن رواية الضعفاء.

٥ ـ النهي عن الحديث بكل ما سمع.

٦ ـ التعظيم من جريرة الكذب على رسول الله [صلى‌الله‌عليه‌وآله ].

وكما قلنا سابقاً يبدو الأمر مغرياً لأول وهلة ، ولكن بغوصنا داخل هذه القوانين المبتكرة نستنتج أنها تنم في داخلها على نوع من التغطية التاريخية ، والتي ستؤدي حتماً إلى تشويه الحقائق ، أو إبراز القليل الذي لا يخالف الشيء المرغوب وإخفاء الكثير الذي لا يساير طبيعة التوجهات المسيطرة ، كما أنها تؤدي إلى قلب المفاهيم العامة ، والمتحركة بحركة المجتمع ; بحيث تنتفي فيه ثبوتية الثابت وتحل محلها ثبوتية المتحول.

وشيء آخر مثلا : ماهي المعايير المعتمدة في تحديد أهل البدع والضعفاء من الرواة؟

هل وصلنا إلى حد النزاهة بالتخلي عن الأنانية الفردية والسعي لنصرة الحقيقة المطلوبة والمرغوبة ، إن نزاهتي لن تكون إلاّ إذا استطعت أن أتخلى عن روايتي المعتمدة ; وإذا أسلمت ببطلانها وأخذت برواية الآخر إذا كانت تساير الحقيقة. وهل المحدثون فعلا احترموا قوانينهم في ترتيب الرجال حسب الطبقات؟

ما نصيب قرابة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ ونعلم ما لقرابته من الحظوة والأعلمية ، وعلى رأسهم علي ابن ابي طالبعليه‌السلام ، حيث أن البخاري أخرج لأبي هريرة أكثر مما أخرج لعليعليه‌السلام كما أنه لم يأخذ من أعظم

٣٧

التابعين في الإسلام وهو جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن ابي طالب وابن رسول اللهعليهم‌السلام أجمعين.

إذن ماهو المنطق المعتمد في عدم أخذ روايتهم ، في حين نجدهم يأخذون رواية الوضاعين والكذابين ومحبي الدنيا والمال.

فعن أبي جعفر الإسكافي قال : روى الأعمش قال : لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة ، جاء إلى مسجد الكوفة فلما رأى كثرة من استقبله من الناس جثا على ركبتيه ، ثم ضرب صلعته مراراً ، وقال يا أهل العراق ، أتزعمون أني أكذب على الله وعلى رسوله وأحرق نفسي بالنار والله لقد سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول ( إن لكل نبي حرما ، وإن حرمي بالمدينة ، ما بين عير إلى ثور فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ) وأشهد بالله أن عليا أحدث فيها فلما بلغ معاوية قوله أجازه وأكرمه وولاه إمارة المدينة(١) .

وكذلك سمرة بن جندب أخذ مالا وافراً ليقر نزول الآية( وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) (٢) في حق عليعليه‌السلام فبذل له معاوية مائة ألف درهم فلم يقبل ، فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل ، فبذل له أربعمائة ألف فقبل ، وروى ذلك(٣) .

أما النهي عن الحديث بكل ما سمع ، فهم قد عمموا اللفظ ولم

__________________

١ ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة : ٤ / ٢٨٥.

٢ ـ البقرة : ٢٠٤ ، ٢٠٥.

٣ ـ ابن ابي الحديد : شرح نهج البلاغة : ٤ / ٢٨٩.

٣٨

يخصصوه ، ولكن عدم نقل الحديث عن ماذا؟ أظنه عدم الخوض في أُسس الأمة الكبرى لأنها من اختصاص الكبار وقد قال الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( بلغوا عني ولو آية ، وحدثوا عن بني اسرائيل )(١) لكن العلماء حصروا الاولى وقيدوها وأطلقوا العنان للثانية.

ولا يخامر أحد شكاً في كون التاريخ الإسلامي مليء بالإسرائيليات والتي لعب اليهود المتأسلمين دوراً كبيراً في روايتها ، بحيث من خلالها نزعت القدسية عن الثابت وانتقل إلى المتحول.

والثابت عندنا هو كل شي مرتبط بالمقدس ( الله تعالى ، رسول الله ، القرآن ) بحيث لا يجوز في أي حال من الأحوال إلحاقه بالأشياء التي تخضع لعملية النقد والبحث ، وربطها بالعالم المادي البشري.

لكن التاريخ الإسلامي جعل منها شيئاً بسيطاً ، بحيث أصبح من السهل تناولها ولم يضعوا قانوناً يحرم أخذ الرواية من قائله ، فأصبح الله تعالى عبارة عن ذلك الهبل داخل الفكر الإسلامي الشيء الذي يؤثر حتماً على عقيدة المجتمع.

وكما عرفنا سابقاً أن التاريخ يشمل كذلك المنتوج الثقافي والفكري ، والأمثلة على ذلك كثيرة سواء ما أخرجه أصحاب الصحاح من قبيل كشفه تعالى عن ساقه ووضعها في جهنم. كما رووا أنه يضع رجلاً على رجل ويستلقي فإنها جلسة الربّ.

__________________

١ ـ صحيح البخاري كتاب الانبياء باب ٥٠ ، الترمذي كتاب العلم ١٣ ، صحيح مسلم كتاب الزهد ٧٢.

٣٩

ورووا أنه خلق الملائكة من زغب ذراعيه ، وأنه اشتكى عينه فعادته الملائكة وانه يتصور بصورة آدم.

كما سئل بعضهم عن معنى قوله تعالى :( فِي مَقْعَدِ صِدْق عِنْدَ مَلِيك مُقْتَدِر ) (١) . فقال يقعد معه على سريره ويغفله بيده ، وقال بعضهم ، سألت معاذ العنبري فقلت : أله وجه؟ فقال : نعم ، حتى عددت جميع الأعضاء من أنف وفم وصدر وبطن واستحييت أن أذكر الفرج فأومأت إلى فرجي ، فقال نعم ، فقلت أذَكَر أم اُنثى؟ فقال : ذكر(٢) .

إذن هكذا اُرِّخ للحضرة الإلهية وكذلك للرسول الأكرم.

وإننا عند مراجعة كتب التاريخ أو الحديث نجد فيها هذا التحوير الخطير ، والذي نقل الثابت عند كل المسلمين إلى شيء متحول ، بحيث أصبح الكل يتجرأ عليه ، وعلى نقاشه وطرحه بشكل يخالف مكانته داخل الشريعة والتي هي المؤطر لأي فعل.

أما المتحول والذي نعني به الأشخاص المكونون للمجتمع الإسلامي وكل ما ينتجونه من أفكار ، او بمصطلح فقهي تاريخي « الصحابة »(٣) أي من عاش في زمن النبي الأكرم فإنّهم التحقوا بسلك

__________________

١ ـ القمر : ٥٥.

٢ ـ ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة : ٣ / ١٥٥ ، ط١ ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ـ بيروت.

٣ ـ ولم تكن المدارس الحداثية كلها أحادية التوجه ، بل منهم من أعلن ثورته على الوهم المقدس للتاريخ الإسلامي ويعتبر محمد أركون من الذين نظروا

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133