الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء ١

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة30%

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 198

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 198 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 101246 / تحميل: 7971
الحجم الحجم الحجم
الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء ١

مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

من المعلوم أنّ الموضوع المحوري لعلم اجتماع المعرفة هو: علاقة المعرفة أو علاقة الإنتاج الفكري والذهني، بالبيئة بمعناها العام. أو بعبارة أخرى، علاقة البيئة الاجتماعيّة والثقافيّة لأصحاب الفكر وتأثيرها على فكرهم، وإنتاجهم الفكري. وتوجد في هذا المجال مذاهب وآراء متفاوتة بل متضادّة. يذهب بعضها إلى الاعتقاد بتبعيّة الفكر للبيئة الاجتماعيّة بشكل كامل، بينما يذهب آخرون إلى الاعتقاد باستقلال الفكر، بل وحتّى الاعتقاد بالعلاقة العلّيّة بين الفكر والبيئة؛ بحيث يجعلون البيئة تابعة لمقتضيات الإنتاج الفكري.

وبغضّ النظر عن البحث والحكم على براهين طَرَفَي هذا الجدال واستدلالاتهما، ونظراً إلى أنّ المصير التاريخي لهذا الصراع قد حُسم لمصلحة القول بالانسجام بين الفكر والبيئة، يمكن السؤال هنا: عن موقف الإسلام والثقافة الإسلاميّة من كلّ هذا؟. أمّا السؤال الأكثر تفصيلاً، فهو: ما هي علاقة الفقيه أو المجتهد ببيئته؟، والقضايا الّتي طرحت في السنوات الأخيرة تحت عنوان ((قبض)) الشريعة و((بسطها)) تعود ببعض جوانبها إلى هذا السؤال.

٨١

ورغم اعتقادنا بأنّ مستند الحكم هو النصوص الثابتة والمحدّدة الّتي يرجع إليها الفقيه في أيّ زمان. لكن من المتيقَّن أنّ ساحة المعاني وحدود إدراك المعاني الخفيّة الّتي تحملها النصوص تعتمد على جهود الفقهاء ونتاجاتهم من علماء الماضي والحاضر ـ الّذين فتحوا آفاقاً واسعة أمام الفقيه. وهذا يجعل إدراكه واستنباطه متأثّرين بذلك. أضف إلى ذلك أنّ مدى قوّة بعض النصوص وصحّتها، خاصّة و أنّ الأحاديث تقع تحت دائرة تأثير نتاج الفكر البشري، ما يجعلها تتأثّر بالتحوّلات الّتي قد تؤمّن للفقيه مصادر موثوقة جديدة، أو قد تُخرِج بعض مصادره الموثوقة من دائرة الوثاقة، أو على الأقل تغيّر درجة الاطمئنان إليها. ومثال ذلك اكتشاف نُسخ جديدة من المصادر الموثوقة، أو الحصول على معلومات جديدة عن وضع المحدّثين والرواة، وظروف صدور الرواية. وأوسع من هذا التواصل التاريخي العام، يمكن ملاحظة التواصل بين الفقيه واستنباطاته، مع حلقة العلاقة العلميّة والثقافيّة ضمن نطاق أساتذته وطلابه، والمستمعين له، ومحدّثيه، وحتّى في المستويات الأدنى، حيث يمكن ملاحظة هذه العلاقة في إطار ندوات الحوار الفردي والجماعي ومع الأقارب، أو ضمن موقعه الثقافي، بل وحتّى في كيفيّة معيشته وتعامله في الأمور الاقتصاديّة أيضاً...

نماذج لتأثر العلم الديني بالمجتمع

ونشير فيما يلي إلى بعض المؤشّرات على تأثير فهم معنى الدين، بموقف عالم الدين من الظروف الاجتماعيّة، وكذلك بموقفه من المعرفة البشريّة عموماً.

من الواضح، أنّ علماء الإسلام ـ طوال التاريخ الإسلامي ، وخاصةً التاريخ الشيعي ـ قد بذلوا جهوداً واسعة من أجل فهم الإسلام وحفظه ونشره؛ والتراث الموجود بين أدينا مدين لهذه الجهود. ومع ذلك، فإنّ اهتمامهم بمواجهة الاستبداد والوقوف في وجهه لدى الحكّام والسلاطين، لم يكن بالمستوى المطلوب، رغم مقارعتهم للظلم، ودفاعهم عن الإسلام في مقابل الانحرافات، والبدع العقائديّة بين الحين والآخر. لكن لم يظهر منهم بوضوح: أن الاستبداد وعدم الاهتمام بآراء الآخرين، وخاصّة عدم الاهتمام بالإرادة والمطالب العامّة، هو بحدّ ذاته أمر مغاير للدين وللأحكام الشرعيّة.

٨٢

لكن بعد أن طُرِحت مقولة مواجهة الاستبداد، وضرورة احترام الرأي العام، والمطالبة بالحكومة الدستوريّة المقيَّدة، والإشراف العام، أو الأنظمة الّتي تقوم على أساس الرأي العام، والأساليب البرلمانيّة؛ بعد طرح تلك الأمور في ساحة الفكر، والفلسفة السياسيّة، شهدنا دخول هذه الأفكار إلى محافل علماء الدين أيضاً. وبانت، بالتدريج، شواهد وقرائن على تأييد ومناصرة العلماء لهذه الأفكار، أو لجزء منها، في نصوصهم الدينيّة. وقد أضحى الاعتراف بأهميّة رأي الشعب في الحكم محلّ إجماع تقريباً، رغم وجود اختلافات حقيقيّة في الرأي حول تفاصيله، وحدود شرعيّته.

وكذلك الأمر بالنسبة لأساس العدالة الاجتماعيّة، ورفض الاستغلال والفوارق الطبقيّة الحادّة. فرغم أنّ مبدأ العدالة من العقائد الأساسيّة عند الشيعة، لكن ما يستنبط من الظواهر يشير إلى أنّ الدفاع عن العدالة الاجتماعيّة بمفهومها المعاصر لم يكن بارزاً في تقاليد علماء الشيعة. ولم يُطرح الصراع بين الفقر والغنى، ورفض استغلال الرأسماليّة والطبقة المرفَّهة للطبقات الفقيرة ـ كما هو مطروح في وقتنا الراهن ـ إلاّ عند الإمام الخميني، فإنّه يَظهر ذلك منه بوضوح. وقد اضطرَّ سماحته إلى تقديم البراهين، والأدلّة، والوثائق التاريخيّة والنقليّة، لإثبات صحة وأصالة هذا الموضوع حتّى أمام أقرب العلماء إليه؛ الّذين واكبوا الثورة الإسلاميّة.

وقد اكتسب مبدأ المطالبة والدفاع عن العدالة الاجتماعيّة ـ رغم الاختلاف في فهم معناها وأساليب تحقّقها ـ بوصفه شعاراً مشتركاً للاتجاهات المختلفة للعلماء، اكتسب مكانة خاصّة. لكن السؤال هو: لماذا لم يكتسب هذا المبدأ هذه المكانة قبل طرحه بشكل جدّيّ في الفلسفات الاجتماعيّة والسياسيّة المعاصرة؟

والأمر نفسه بالنسبة لمنزلة المرأة وحقوقها وقمتها، ومكانتها الاجتماعيّة والسياسيّة في الإسلام، فلماذا لا نرى هذا التصوّر عنها في التراث الإسلامي.

ومن البديهي أنّ هذا الكلام أوسع من مبدأ تكامل ورشد الأفكار والعلوم البشريّة المتصوّرة في جميع المجالات، ومنها الفهم الديني، بل الكلام هنا عن التحوّل النوعي في فهم واستنباط الحكم الديني، عن طريق المقارنة على أثر طرح بعض الأفكار خارج العلوم الدينيّة.

٨٣

وبعبارة أخرى، ليس المقصود هو التكامل الداخلي لأيّ فرع أو بحث من بحوث العلم الديني الّذي يحصل عن طريق دراسة أكثر نتاجات علماء السلف، وأحياناً بالاستفادة من قدرة العلماء على الخلق والإبداع، بل إنّ المراد هو الوضع الّذي يواجهه الفقهاء خارج دائرة الفقه، أو غيره من التخصّصات العلميّة؛ حيث يواجهون أفكاراً وثقافات جديدة، تدفعهم إلى التأمّل، بشكل أعمق، في المصادر، واستخلاص نتائج جديدة.

وهنا على الفقهاء أن يجدوا طريقة للتأثير والتأثّر، ليحصلوا على وعي أكبر بتأثّر الفقيه بعلاقاته الاجتماعيّة تجاه حركة هذه التحوّلات، وليتخذوا موقفاً أكثر فاعليّة في مواجهتهم لها، وليبقوا ـ من ناحيّة أخرى ـ أوفياء لأصالة النصوص الدينيّة أيضاً.

وفي المستوى التفصيلي يمكن الإشارة إلى أثر العلاقات الاجتماعيّة ومنظومة العلاقات الإنسانيّة على كيفيّة الاستنباط وتصوّر الدين والأحكام الإلهيّة لدى بعض العلماء؛ بحيث إنّ عدداً من المراجع والشخصيّات الدينيّة يرسمون صورة للدين لا يصعب اكتشاف أوجه الشبه بينها وبين القيم، والمنافع، والمواقف، الّتي تحرّكها علاقاتهم الإجتماعيّة.

وهنا لا يمكن الخروج باستنتاج علِّيٍّ من هذه المقارنات. ولعلّه يمكن دعوى، أنّ نوع شبكة العلاقات الاجتماعيّة المشهورة، متأثّرة بنوع النظر إلى الدين والتصوّر المطروح، بل ربَّما تُظهِر بعض الحالات أنّ موقف عالم الدين أوسع من مقتضيات منظومة علاقاته الاجتماعيّة. وهنا يمكن تقديم سماحة الإمام الخميني كمثال على ذلك. لكن حدود الشبه تلك تدعو للنظر أيضاً. وعلى الفقهاء أن يطَّلعوا على آليّاتها، وأن يستخدموا القوانين المتحكِّمة فيها للحصول على أفضل تأثير.

إنّ دراسة مسار المواقف الفقهيّة، وخصوصيّات الإسلام الّتي طرحها سماحة الإمام الخميني ـ وخاصةً مقارنة مواقفه قبل انتصار الثورة الإسلاميّة وبعدها ـ تُعدَّ من أبرز مجالات تجلّي علاقة البيئة بطريقة استنباط الفقيه؛ لأنّ أيّ اختلاف قد يُشاهَد يعود ـ قبل كلّ شيء ـ إلى اختلاف البيئة وظروفها، وليس إلى بحثه وتدقيقه في النصوص والمضامين؛ لأنّه كان قد طوى جميع مراحل الكمال العلمي والبحث في المضامين قبل انتصار الثورة الإسلاميّة. وكثرة انشغاله في سنوات ما بعد انتصار الثورة لم تكن تسمح له بالمطالعة والغور بشكل أكبر.

٨٤

بناءً عليه، فإنّ وجود أيّ تغيير في مواقفه لا يمكن تفسيره إلا على ضوء تجربته الجديدة. وفي الوقت نفسه، فإنّ تتبّع مواقفه البارزة والفريدة، الّتي لم تك تشير مطلقاً إلى تأثّره بحلقة أصحابه، هي سرّ ولغز آخر، يوضح حلُّه الحقائقَ الّتي لا تُعدّ من تعقيدات علاقة الفقيه بالبيئة.

بطء التغييرات الثقافيّة، وتأثير ذلك على تكليف المكلَّفين

مسألة بطء التغييرات الثقافيّة، واحدة من المسائل الّتي يبحثها علم الاجتماع. ومقولة التأخر الثقافي ناظرة إلى الفاصل الّذي تنتجه التغييرات السريعة في الجانب المادي من الثقافة وبطء التغييرات في الجزء المعنوي منها. ونشاهد هذا النظام متجلّياً في النزول التدريجي للشريعة، وتدرّج إبلاغ الأحكام في بعض الأمور، وكمثال على ذلك: كان شرب الخمر أمراً رائجاً في المجتمع الجاهلي، فبلَّغ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرمته تدريجيّاً، وعلى مراحل متعدّدة. وإذا قبلنا بمثل هذا المبدأ في نزول الشريعة، يكون السؤال هو: هل يمكن أن يُطبّق هذا المبدأ في إبلاغ رسالة الشريعة إلى المجتمعات والأفراد في سائر العصور أيضاً؟

وبعبارة أخرى، هل يمكننا عرض الأحكام، ابتداءاً، بطريقة أقرب إلى الثقافة الرائجة، مراعاة للفاصل الثقافي بين المجتمعات البشريّة وأحكام الشريعة، فنطرح الأحكام النهائيّة بشكل تدريجي؟

إنّ استخدام هذا الأسلوب، يجعل عرض الإسلام وتبليغه إلى المجتمعات والشعوب غير الإسلاميّة أسهل وأكثر جاذبيّة. ويَصْدُق هذا المبدأ أيضاً على إمكانيّة تمايز التكاليف الشرعيّة للأفراد والفئات الاجتماعيّة داخل المجتمعات الإسلاميّة؛ بمعنى أنّه يمكن أن يكون الواجب الشرعي للأفراد مختلفاً، بشكل بتناسب مع الفاصلة الثقافيّة بين الأفراد والفئات الإجتماعيّة، وتفاصيل الثقافات الموجودة في المجتمع، وبين الثقافة الدينيّة؛ بحيث يدخل الأفراد إلى دائرة المكلّفين بالشريعة الكاملة تدريجيّاً.

٨٥

من البديهي، أن القبول بهذا المبدأ تسري لوازمه إلى ((الحدود)) و((القواعد)) الفقهيّة والحقوقيّة أيضاً. وبصرف النظر عن البحث في قبول هذه المبادئ أو رفضها ـ الأمر الّذي يجب أن يتمّ استناداً إلى المصادر الفقهيّة، وعلى ضوء قواعد التقبّل الاجتماعي والثقافي ـ يمكن الاعتقاد بأنّ القبول بهذه المبادئ، سوف يؤدّي إلى سهولة نشر القيم الأخلاقيّة الدينيّة، والتقليل من المفاسد الاجتماعيّة؛ وذلك لأنّ هذا النوع من التعامل مع الأفراد والفئات الّتي لا ينسجم سلوكها مع الإسلام، لن يؤدّي إلى الإخلال بمعاييرها وقيمها، بل سيؤدّي شيئاً فشيئاً إلى ردم الهوّة الفاصلة بين سلوكها، وبين النُّظم والقيم الدينيّة.

وبطبيعة الحال، فإنّ هناك نوعاً من التوصيّة الأخلاقيّة بالتسامح والتساهل في مواجهة الهوة الثقافيّة بين الأفراد والفئات الجديدة على الإسلام، وبين الإسلام. ولا سيما في بعض المجالات الخاصّة، على الأقل كأسلوب أخلاقي وتدبير تبليغي. لكن قبول مبدأ التدرّج في حقوق المكلَّفين، سيؤدّي إلى تحوّل كيفي وأساسي في هذه المقولة، لا يمكن مقايسته بالتدابير والتوصيات الأخلاقيّة الموجودة.

عدم تشخيص العرف في المجتمعات الجديدة

نعم، إن العرف يُعدّ، في موارد كثيرة، قاعدة وأساساً لتحديد الموضوعات الفقهيّة وأحكام الشريعة المقدّسة. وقد أحيل تعيين الحدود الفقهيّة، في كثير من الموارد، إلى التشخيص العرفي. ففي الوضع العادي للمجتمعات التقليديّة هناك قواعد وضوابط معروفة وبديهيّة للقيم والثقافة الاجتماعيّة، يواجه فيها الأفراد والفئات الاجتماعيّة بشكل يتناسب مع دورهم وموقعهم الاجتماعي البديهي والثابت نسبياً. ويتمتّع العرف بقدرة عاليّة، نسبيّاً، على تعيين الحدود. ويمكن القول: إنّ الفقه قد اعتمد عليه، لكن وضع المجتمعات الجديدة أكثر تعقيداً. فمن المؤشّرات الثقافيّة لهذه المجتمعات التسامح الثقافي، والمرونة لدى معظم النماذج السلوكيّة. ومعنى هذا الكلام؛ هو عدم وجود تعيين دقيق للمواصفات السلوكيّة للأدوار والمكانة الاجتماعيّة بشتى أشكالها؛ بحيث يتمتّع الفرد فيها بحقّه بمساحة اختيار أوسع، ومرونة سلوكيّة أكبر.

٨٦

وفضلاً عن عدم تعيّن القدوة السلوكيّة، فإنّ دور الأفراد ومكانتهم الاجتماعيّة لم تَعد تمتلك الثبات السابق نفسه. ففي المجتمعات التقليديّة، حيث الدور الاجتماعي للأفراد رهين إلى حد كبير بمكانتهم الّتي تأتيهم عن طريق مكانتهم العائليّة وإرث الدم؛ ولهذا، فإنّ الأفراد لا يشهدون تغييراً في مواقعهم طوال حياتهم إلاّ القليل منهم. وهذا الحدّ من التغيير أيضاً يخضع لقواعد ومراحل معينة، تتناسب عادة مع المواقع العُمْريّة المختلفة، وتقتضيها النماذج السلوكيّة.

أمّا في المجتمعات الحديثة، فإنّ المكانة الاجتماعيّة أمر مكتسب، انخفض تأثير عوامل الوراثة عليه. ووجدت مؤثّرات جديدة، مثل: المستوى الدراسي والمهارة المهنيّة. وهذا الوضع زاد من إمكانيّة حصول تغييرات في مكانة الأفراد، ليكون ((التحرّك الاجتماعي)) من سمات المجتمعات الحديثة.

وبغض النظر عن الآراء المطروحة بشأن حدود التحرّك الاجتماعي في المجتمعات الحديثة، والبحوث والنقد الموجود حول دعوى كون طريق الرُّقيّ في سلّم المكانة الاجتماعيّة مفتوحاً في المجتمعات الغربيّة، فإنّ مبدأ عدم التعيين وعدم الاستقرار النسبي للمراتب أمر لا يقبل الإنكار. وفي مثل هذا الوضع لا يمكن تعيين أو تحديد مكانة اجتماعيّة معيّنة ثابتة للأفراد، أو معرفة المنزلة الاجتماعيّة للفرد من خلال النظر إلى المنزلة العائليّة وحلقة الأقارب.

إنّ المقولتين المذكورتين؛ أيّ مرونة المعايير السلوكيّة، وعدم تعيين واستقرار ((المكانة الاجتماعـيّة)) للأفراد في المجتمعات الحديثة، أدّتا إلى غموض دور العُرف في المجتمعات الحديثة، وهذا الغموض جعل الفقه يواجه مشكلة من جهتين:

الأولى: إنّ الدور الموكَل إلى العرف في تشخيص الحدود، والمسائل، والمواضيع الّتي أوكل الفقه أمرها للعرف، تجعله يواجه مشكلة في تنفيذها.

وستلاقي المحاكم والمراجع الحقوقيّة والقضائيّة وحتّى الأحكام العامّة وغير الرسميّة، غموضاً وتردّداً أكثر من ذي قبل، خلال محاولتها تشخيص الحدود العرفيّة.

٨٧

الثانيّة: توهّم أنّ الضوابط الفقهيّة والشرعيّة تؤدّي، في بعض الحالات، إلى تثبيت الفوارق الطبقيّة، وحفظ الوضع الموجود للمجتمعات التقليديّة؛ وأنّها تواجه وتعارض مبدأ ((التحرّك الاجتماعي))؛ لأنّه لا يلبّي حاجة الأفراد إلى الترقّي الاجتماعي، كما أنّ بعض الاستنتاجات التقليديّة للضوابط الشرعيّة تعيق هذا الترقّي. على سبيل المثال: يمكن الإشارة إلى الرأي المشهور، حول تعلّق الخمس بالكسب الفائض عن النفقات العرفيّة. ففي المجتمعات الحديثة كلّما صعدنا من الطبقات الدُّنيا إلى الطبقات الأعلى من حيث الكسب، نجد أنّ النفقات تتبدّل وتتغيّر بوضوح؛ بحيث إنّ الاحتياجات العرفيّة للطبقات العُليا والمتوسطة أكبر بكثير من الطبقات الدُّنيا، ممّا لا يبقي مجالاً لتصوّر فائض عن الكسب؛ ومعه لا خمس. بينما الطبقات الدُّنيا عندما تدّخر مبلغاً من المال سوف يتعلّق به الخمس، رغم أنّه ناشئ عن عصرها لنفقاتها، وهذا الأمر سوف يعيق ترقّيها الاقتصادي.

الفقه والمتغيّرات الثقافيّة

إنّنا نعلم أنّ موقف الشريعة من القضايا والمواضيع العرفيّة والاجتماعيّة، يتّخذ في ضوء معناها الرائج والفعلي. وعلى هذا الأساس، فإنّ الحكم الشرعي لتلك المواضيع، تابع للمتغيّرات في معناها العرفي.

مثلاً: ينقل المرحوم الشهيد المطهري أنّ إنزال شيء من العمامة تحت الحنك، أو لبس البدلة الرسميّة، يعني ـ في زمان ما ـ شيئاً يختلف عمّا يعنيه في زمان آخر. ومن الطبيعي، أنّ حكمها يتغيّر بتفاوت معناها. ففي المراحل الأولى لدخول عادة لبس البدلة، كان يُعدّ لبسها تشبّهاً بالكفّار، ويعني التَّعلّق بالأجنبي؛ ولهذ كان بعض العلماء يفتي بحرمة ذلك الزَّي، لكن الآن لا يستفاد من لبس ذلك الزي هذا المعنى؛ لذلك لم يَعُد حكمه كذلك.

٨٨

في مثل هذا الوضع، من الواضح أنّ تكليف المكلّفين يكون متفاوتاً في زمانيين، تبعاً لاختلاف المداليل العرفيّة لأمر ما. لكن من البديهي، أنّ هناك مرحلة ((انتقاليّة)) بين هاتين الفترتين الزمنتين؛ بحيث يخفّ تدريجيّاً المعنى السابق ويظهر المعنى الجديد. هذا التغيير في المعنى لا يكون إلاّ عبر تجاوز التقاليد، والتصرّف بطريقة مغايرة للحالة السائدة. والسؤال المطروح هنا هو:

أولاً: ما هو تكليف المكلّفين الّذين هم داخل مرحلة الانتقال وقبل استقرار أحد المعنيين المتضادين؟، وإذا افتُرض عدم وجود أفراد يتجاوزن التقاليد، فهل سيحدث تغيير أساساً؟. وبعبارة أخرى، إذا كان هناك مجتمع ملتزِم بالشرع، ولم يحدث فيه مخالفة للقواعد الشرعيّة، فهل يعني ذلك عدم حدوث تغييرات ثقافيّة في ذلك المجتمع وتلك الثقافة؟

أم أنّ التغييرات الثقافيّة المستحسَنة، الّتي نمتدحها اليوم أو نعدّها مباحة، تستلزم أحياناً وجود عدد من القرابين الّذين يرتكبون الحرام لمدّة، ليفتحوا الطريق أمامنا لما هو مباح اليوم؟

طبعاً على الفقهاء أن يتدبّروا قواعد أوضح، لطيّ مراحل الانتقال هذه، وأن لا يتركوا أمر التغيير الثقافي متوقّفاً على تضحيّة عدد من الناس بدينهم.

وهذه المسألة تصبح ذات أهميّة مضاعفة عندما تشهد الظروف تغييرات ثقافيّة أسرع؛ لأنّه عندما يكون التغيير بطيئاً في الأوضاع الثقافيّة، فإنّ أبناء كلّ جيل لن يواجهوا تعارضاً مع القيم ناشئاً عن التغييرات الثقافيّة، بل ستحدث التغييرات الثقافيّة عادة خلال عدّة أجيال، وربّما خلال عدّة قرون، ولا تبدو التغييرات خلال كلّ جيل بشكل ملموس. لكن سرعة التحوّلات الثقافيّة في المجتمعات الحديثة، فتحت المجال ليشهد كلّ جيل خلال حياته تغييرات ملموسة في نظام القيم والموازين الاجتماعيّة. ومع تعارض مواقف الفقهاء؛ بسبب تغيير المعاني الثقافيّة، قد تنشأ شبهة أو نوع من ((الانفعال)) الّذي يتبادر إلى الذهن بسبب هذه التحوّلات...

٨٩

فمن الأفضل أن يحدِّد الفقهاء استراتيجيّات، أكثر تناسباً، للتعامل مع الظواهر الجديدة، وأن لا يقفوا مكتوفي الأيدي، إلى أن يجتاح التغيير الكثير من المعاني الموكلَة إلى العرف.

وهذه المسألة أوسع من السلوك الاجتماعي؛ فإنّنا نجدها في الموضوعات الأساسيّة المرتبطة بالنظام العقائدي، واتباع مرجع التقليد، بل وحتّى في حاكميّة المجتمع الاسلامي أيضاً. فمثلاً، في دستور الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة الحالي، تتحقّق الولاية في زمان غيبة الإمام المعصوم (عليه السلام) بالفقيه الحائز على الشروط، وبتشخيص الخبراء. وقد أوكل الدستور إلى الخبراء أيضاً معالجة احتمال ارتكابه للانحراف أو الخطأ. أو في مسألة تحديد الأعلم والعادل من بين مراجع التقليد، فقد أوْكَلت الرسائل العمليّة الموضوع إلى عرف أهل الخبرة.

ومن البديهي، أنّ جميع حقوق الولاية الشرعيّة للفقيه الجامع للشروط، والمنتخب من قبل الخبراء، ومرجع التقليد الّذي يحدِّده عرف أهل الخبرة، نافذة على جميع أفراد الأمّة الإسلاميّة، وخاصّة الأمّة الّتي تنعم بظلّ حاكميّة النظام الإسلامي، ما دام انحراف الفقيه وخطأه لم يثبتا. ويشمل وجوب طاعة الولي الفقيه جميع أعضاء مجلس الخبراء أيضاً، لكن وقوع الخطأ والانحراف ليس بالامر الّذي يقع دون مقدِّمات، بل إنّ الشكل الطبيعي هو أن يبدأ الانحراف بزاويّة صغيرة، ثُمّ يتسع تدريجيّاً. ومع أنّنا لا نواجه مثل هذه المشكلة اليوم، لكن الوقاية تستدعي أن يفكّر الخبراء بآليّة مواجهة ذلك.

وهذه المسألة لا تواجه مشكلة في البعد النظري للأنظمة السياسيّة غير الدينيّة؛ فأيّ سوء ظنِّ أو تشكّيك بسيرة المسؤولين أو الزعماء لا يثير إحساساً بالذنب في ضمير الأتباع. ومن ناحيّة أخرى، فإنّ طرح الآراء المنتقِدة لن تنال من قداسة القادة.

٩٠

نظراً إلى ما ذُكر آنفاً، فإنّنا ننتظر من الفقهاء أن يلاحظوا خصوصيّات الحكومة الدينيّة، ويقومون بتوضيح الطُرق والأساليب التنفيذيّة المناسبة للعلاقة بين الحكم الديني وأفراد المجتمع، وأن يبيّنوا للخبراء وضعهم المناسب عندما يعيشون في حالة تتراوح بين المشروعيّة الكاملة وسلب المشروعيّة عنهم؛ بحيث يترتّب ما يأتي:

١ ـ لا يجد المكلَّفون في ضمائرهم براعم النظرة الانتقاديّة، في تعارض مع لزوم الإيمان والطاقة.

٢ ـ أن يفكّروا في استراتيجيّات وآليات مطمئِنة عند بروز تلك الشكّوك؛ لئلاّ تبقى الأخطاء المحتملة مستورة أكثر من اللاّزم، ولئلاّ تتمكن عوامل وأساليب السلطة من التضييق على المنتقِدين والضغط عليهم. وأهمّ من ذلك أن لا تتعارض الانتقادات مع مبدأ قداسة النظام، ووجوب اتّباع الأمّة شرعيّاً للنظام المشروع، ولكي لا تتهّيء الأرضيّة الملائمة لتحقق النوايا الخبيثة للأعداء، وتؤدّي إلى إضعاف النظام أيضاً.

لذا، لا يمكن أن نعلِّق آمالنا على وسائل العمل الرقابي للأنظمة الليبراليّة، والتضحيّة بأعظم رأسمال وميزة في النظام الديني؛ أي العلاقة الإيمانيّة والارتباط القلبي بين الأمّة ونظام الحكومة الإسلاميّة. كما لا يمكن التغاضي عن إمكانيّة التحوّل التدريجي نحو الفساد، بذريعة الاعتماد على مبدأ الأصل الإيماني ((الحمل على الصحة)).

هنا علينا أن ننظر بجدّ، إلى خطر هذا التحوّل، بصرف النظر عن حبّن واطمئناننا وثقتنا الواسعة بجميع المؤمنين بنظام الثورة الإسلاميّة والمضحّين من أجله، وأن نسعى بيقظة وحذر إلى أن نمنع حدوث ذلك في المستقبل.

في هذا المجال، على الفقهاء وسائر حملة العلوم الإنسانيّة، من المؤمنين بالشريعة الإسلاميّة والملتزِمين بها، أن يلجأوا إلى منابع الوحي وتعاليم المعصومين (عليهم السلام)، وأن يستفيدوا من النتاجات النظريّة والعمليّة للبشريّة، وأن يبحثوا في جوٍ مفعم بحسن الظنّ وبالثقة المتبادلة؛ لأجل تسهيل وضمان بقاء حكم الإسلام الأصيل.

٩١

الفقه ومِلاكات الأحكام

الدكتور أحمد مير خليلي

بعد استقرار نظام الجمهوريّة الإسلاميّة المقدّس [في إيران]، وبعد الإيمان بضرورة الالتزام بتطبيق القوانين الشرعيّة، تتضح الحاجة إلى البحث الفقهي، ما سيترك أثره على السياسات العامّة للنظام الفقهي ـ القانوني، ويُظَهَّر التراث النفيس للفقه الشيعي في عصرنا الراهن بما يتناسب ولغة اليوم، وتطلّعات الإنسان المعاصر. وبهذه الوسيلة يمكن المحافظة على الفقه والدين حيّين في شتى ميادين الحياة الاجتماعيّة للمجتمعات البشريّة.

ومن بين الموضوعات الّتي ينبغي بحثها؛ من أجل الوصول إلى فهم أفضل للأحكام الشرعيّة وإحياء التعاليم الإسلاميّة القيّمة، دور المِلاكات في حلِّ المشكلات المستحدثة الّتي كانت على الدوام، وطوال التاريخ، سبباً لتطوّر الفقه الإسلامي عموماً، والشيعي منه خصوصاً. وقد أدّى هذا الأمر بدوره إلى أن يتفهَّم الفقهاء، بشكل جيد، التحدّيات الجديدة ويبينوا الحكم الشرعي المتعلِّق بها.

وقد توصَّلتُ في هذه المقالة، من خلال تبيان مفهوم المِلاك والمفاهيم ذات العلاقة به، وتبيان طُرق كشف المِلاك لدى العلماء [الشيعة والسنّة]، إلى أنّ هذه الطُرق تكون قطعيّة عندما تستند إلى الأدلّة. وينبغي الانتباه إلى أنّ قابليّة الأحكام للفهم والإدراك رغم كونها سبباً في تطوّر الفقه، إلاّ أنّها تحتاج إلى دقّة متناهيّة.

ولا يمكن معرفة مِلاكات الأحكام من دون وجود ضوابط يقينيّة محدّدة. ولقد كان الأئمّةعليه‌السلام يوبِّخون بشدّة أولئك الّذين يتصدَّون لذلك اعتماداً على تصوّراتهم الخاصّة. وقد حاولتُ بعد ذلك الإطلالة على محاولات كشف المِلاكات عند الإمام الخميني (رض) وعند الشيخ محمد بن الحسن النجفي صاحب كتاب جواهر الكلام، وإلى تبيان دور المِلاك في تطوّر ونمو فقه العبادات والمعاملات والعقوبات.

٩٢

طرائق اكتشاف المِلاكات

ينبغي أن يُعلَم أنّ الخروج عن موارد النصّ الشرعي يعتمد أساساً على فهم مِلاكات ومناطات الأحكام الشرعيّة، لكن لابُدّ من الانتباه إلى أنّ فهم المِلاك ـ وباتفاق آراء العلماء ـ لا يجوز أن يستند إلى الوصف المشترك بين الفرع والأصل، على أساس الميل النفسي، بل ينبغي أن يتمّ إثبات عليّة الوصف المشترك بواسطة الدليل الشرعي(١) ، وهو الدليل الّذي يُعَرف لدى فقهاء الشيعة بعنوان: طرق التعدّي عن النص(٢) ولدى فقهاء السنّة بـ : مسالك اكتشاف العلّة(٣) .

تُعتبر مسالك كشف المِلاك واحدة من الأركان المهمّة للاجتهاد في الفقهين الشيعي والسنّي، رغم أنّ بحوثاً مثل العقل، وسيرة العقلاء، والفهم العرفي، لم تحتل حتّى الآن موقعها المناسب في الفقه الشيعي. وتبدو دقّة وتعقيد هذه البحوث ـ وفي الفقه الشيعي بشكل أكبر ـ في بحوث مثل: تنقيح المناط، وإلغاء الخصوصيّة، ومناسبات الحكم والموضوع، وفي الفقه السني في بحوث القياس، والاستحسان، والمصالح المرسلة. فضلاً عن أنّ الغالب لدى علماء الأصول، أنّ قيمة هذه الأدلّة مُرتبِط بقيمة الدليل الّذي يرشدنا إلى مِلاك الحكم. وبعبارة أخرى، إذا اكتشفنا المِلاك بالدليل الشرعي، فعندها لا يكون الحديث عن اعتبار هذه الأدلّة ـ سواء أكان في الفقه الشيعي أم السنّي ـ ذا فائدة كبيرة. وبعد أن

ــــــــــــــ

* عن مجلّة قَبَسَات الإيرانيّة، العدد ١٥ و١٦.

١ ـ الحكيم، محمد تقي، الأصول العامّة للفقه المقارَن، ص٣١٦، والفاضل التوني، عبد الله بن محمد، الوافية في أصول الفقه، ص٢٣٧، والتبريزي، ميرزا موسى، أوثق الوسائل في شرح الرسائل، نشر الكُتُبي النجفي، قم، ص٣٤.

٢ ـ الشعراني، ميرزا أبو الحسن، المدخل إلى عذْب المنهل في أصول الفقه، ط١، مؤتمر الشيخ الأنصاري، قم، ١٣٧٢ هـ.ش، ص١٧٥.

٣ ـ الآمدي، سيف الدين أبو الحسن، الإحكام في أصول الأحكام، ج٣، ص٦٣، والزحيلي وهبة، أصول الفقه الإسلامي، ج٢، ص٦٦١، وخلاّف، عبد الوهاب، علم أصول الفقه، ص٧٥.

٩٣

يكشف لنا الشرع علّة الحكم ومناطه، فإنّه لا تبقى هناك حاجة للقياس وسائر الأدلّة لإثبات الحكم. والحاصل، أنّه ينبغي لأولئك الّذين لا يعترفون بالقياس أن يضعوا فهمهم لمِلاك الحكم على المِحك، وعلى أولئك الّذين يستخدمونه أن يثبتوا مِلاك الحكم ومناطه(٤) ؛ ولذلك فمن الضروري أن نبحث بشكل وافٍ طرائق معرفة عِلل الأحكام وأن نُخْضِعها للنقد والدرس.

ولتحقيق هذا الهدف هناك طريقان:

١ ـ الطُرق القطعيّة: الطُرق القطعيّة لكشف المِلاك هي الّتي توصل المجتهد إلى علة الحكم بشكل جازم، مثل: قياس الأولويّة، وتنقيح المناط القطعي، والقياس المنصوص العلّة.

وحينما نحصل على علّة الحكم بشكل قطعي، لا يبقى شكّ في قبول نتيجة الدليل، سواء سمّي ذلك تعدّياً عن النصّ، أو سمّي قياساً؛ وذلك لأنّه لا شكّ في حجيّة القطع، وكون حجيّته ذاتيّة لا تقبل الإنكار(٥) .

٢ ـ الطرق غير القطعيّة: وهي الّتي تُوصل المجتهد إلى المِلاك من خلال الظنّ. وهذه بدورها على قسمين:

أ ـ ما قام على اعتبارها دليل قطعي: حينما يكون المسلك الموصِل إلى العلّة ظنّيّاً بذاته، ولكنّه معتدّ به لدى الأصوليين وقابل للاستدلال؛ حيث يمكن إثبات صحّته بالأدلّة القطعيّة الأخرى، مثل: المِلاكات الّتي يتوصَل إليها من ظاهر النصوص الشرعيّة، فرغم أنّ الظهور ليس دليلاً يقينيّاً، إلاّ أنّ قيمة ظواهر الأدلّة يمكن أن تَثبت بدليل قطعي آخر. وبناء على هذا، فإنّ الطُرق غير القطعيّة في كشفها المِلاك، لها نفس قيمة الطُرق القطعيّة، ولا يوجد خلاف في الاعتماد عليه بين علماء الشيعة والسنّة(٦) .

ب ـ ما لم يقم على اعتبارها دليل قطعي: وهي الطُرق الّتي تُوصِل المجتهد إلى

ــــــــــــــ

٤ ـ صبحي حامد، عبد السلام، دفع القياس بدفع علّته، مجلّة كلّيّة الشريعة، ع ٥، بغداد، ص٢٩.

٥ ـ الحكيم، محمّد تقي، الأصول العامّة للفقه المقارَن، ص٣٢٥، جمال الدين، مصطفى، القياس ـ حقيقته وحجِّيَّته، بغداد، ١٩٧٥م، ص٢٥١.

٦ ـ الحكيم، محمد تقي، الأصول العامة للفقه المقارن، ص٣٢٧ ـ ص٣٣١، جمال الدين، مصطفى، القياس، حقيقته وحجِّيَّته، ص٢٥٢ ـ ص٢٥٦,

٩٤

مِلاك الحكم من خلال الظنّ، ولا يدل عليها دليل قطعي، وهي غالباً ما تكون ذات علاقة بميول الأشخاص واجتهاداتهم. ويعتقد علماء الشيعة أنّ مِلاك الحكم الشرعي لا يمكن بلوغه اعتماداً على الرغبات الشخصيّة، ومن دون ضوابط عقلائيّة. وعلى هذا، فإنّه لا قيمة لأمثال هذه الطُرق. كما أنّ قسماً من علماء السنّة لا يرون لهذا الأسلوب قيمة في كشف المِلاك(٧) ، رغم أنّ بعضاً منهم يعتقدون بقيمة الظنّ الغالب عند المجتهد(٨) .

ولتوضيح دور المِلاك في الفقه من الضروري، بادئ ذي بدء، تبيان المفاهيم ذات العلاقة به.

ــــــــــــــ

٧ ـ جمال الدين، مصطفى، القياس ـ حقيقته وحجِّيَّته، ص٢٧٣، وصبحي حامد، عبد السلام، دفع القياس بدفع علّته، ص٣٥، والبخاري، علاء الدين، كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي، ج٢، ص٣٥٧.

٨ ـ الآمدي، سيف الدين أبو الحسن، الإحكام في أصول الأحكام، ج٣، ص٤٦ ـ ص٦٤، وإبن قدامة المقدسي، روضة الناظر وجنّة المناظِر، ص١٦٥.

٩٥

المِلاك والمفاهيم ذات العلاقة به

١ ـ المِلاك:

تُستعمل كلمة المِلاك في العربيّة بفتح الميم وكذلك بكسرها؛ بمعنى قِوَام العمل وأصْل الشيء، ويُطلق هذا اللّفظ بهذا المعنى على المعيار والقاعدة والقانون والضابط(٩) . وقد ورد في الحديث الشريف: ((مِلاك الدين الورع)). وفي الاصطلاح، عبارة عن: العلّة الثبوتيّة للحكم، والأمر الّذي جعله الشارع علامة لتحقيق الحكم بمجرد تحقّقه وثبوته. وبعبارة أخرى، فإنّ علّة الثبوت وسبب جعل الأحكام الشرعيّة، تُدعى: المِلاك(١٠) .

٢ ـ المناط:

كلمة ((مناط)) في اللّغة مُشتقّة من ناط، ينوط، نوطاً، وهو بمعنى: التعليق. وبعبارة أخرى، فإنّ المناط، هو: كلّ شيء يمكن أن يُتعلَّق به. وفي المصطلح الفقهي، فإنّ المناط: ((هو كلّ أمر يرتبط به الحكم الشرعي، وهو مرادف في الاستخدام للمِلاك تقريباً))(١١) .

يقول الدكتور محمد جعفر لنكرودي في كتابه ترمينولوجي حقوق[الاصطلاحات القانونيّة]: واستُخدِم مصطلح ((المناط)) في الفقه بمعنى ((المِلاك))، إلا

ــــــــــــــ

٩ ـ دهخدا، علي أكبر، لغت نامة دهخدا، تحقيق جماعة من المحقّقين، ط١، مؤسّسة جامعة طهران للطباعة والنشر، طهران،١٣٧٢هـ.ش، مادة: مِلاك.

١٠ـ جعفري لنكرودي، محمّد جعفر، ترمينولوجي حقوق، ٦٨٤، ميرفتاح، العناوين، ص٨٤.

١١ ـ القمّي، ميرزا أبو القاسم، قوانين الأصول، ج٢، ص٧٢، والآمدي، سيف الدين، الإحكام في أصول الأحكام، ج٣، ص٢٧٩.

٩٦

أنّ المِلاك أعمّ، وهو مستخدم في الفقه، وفي القانون الحديث. ووحدة المِلاك في القانون الحديث تعني في الفقه تنقيح المناط الّذي هو نوع من القياس. وينبغي الانتباه إلى أنّ بعض الفقهاء، مثل: ابن رشد وغيره، لا يعتبرون العِلَل الشرعيّة من بين العِلل الطبيعيّة، بل يتصوّرونها علّة مجعولة وتعاقديّة؛ ولأجل التخلّص بشكل أكبر من مفهوم العلّة الطبيعيّة، وما يدلّ على هذا الأمر، سمّوا العلّة والسبّب الشرعي مناطاً(١٢) .

٣ ـ العلّة:

تدلّ كلمة العلّة في اللّغة العربيّة على أربعة معان(١٣) .

أ ـ بمعنى: المرض(١٤) .

ب ـ الحادثة: كلّ حادثة تَحُول بين الشخص وما ينوي القيام به وتخلق له شيئاً جديداً ينشغل به تسمى علّة.

جـ ـ العُذر: إبداء نوع من الأسف الّذي يكون تبياناً للدافع والباعث الّذي أدى إلى تغيير في نوايا الإنسان.

ــــــــــــــ

١٢ ـ جعفري لنكرودي، محمد جعفر، ترمينولوجي حقوق، ص٦٨٤.

١٣ ـ إبن منظور، لسان العرب، ج٤، ص٣٠٨، مادّة: عِلل، والجوهري، إسماعيل بن حماد، الصحاح، ج٥، ص١١٧٣، والزبيدي، مرتضى، تاج العروس من جواهر القاموس، ١٥، ص٥١٨، والفيروزآبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب، القاموس المحيط، ص١١٣٨.

١٤ ـ دهخدا، علي أكبر، لغت نامة دهخدا، ج١٠، ص١٤١٥.

٩٧

د ـ السبب: يرى بعض علماء اللّغة أنّ العلّة والسبب هما شيء واحد. ففي لسان العرب: ((هذا علّة هذا، أي سببه))(١٥) .

وإنّ المشترَك في هذه المعاني الأربعة، هو تغيّر الحالة. أمّا في المصطلح، فينبغي القول إنّ علماء الأصول ليست لهم وجهة نظر واحدة بشأن العلّة، فقد مزجوا في تعريفهم لهذا المصطلح بين معتقداتهم الكلاميّة والفلسفيّة. ولهذا نواجه في كتب أصول الفقه تعريفات شتى للعلّة، كما يلي:

الأوّل: أمارة الحكم(١٦) . من القائلين بهذا التعريف يمكن ذكر البيضاوي، وقسم من الأحناف، والحنابلة. وخلاصته أنّه يرى في العلّة الشرعيّة علامةً على الحكم، وليس موجِبة للحكم، وأنّ الشارع المقدّس اعتبرها بشكل تعاقدي محض علامة على الحكم، ودليلاً عليها.

ــــــــــــــ

١٥ ـ ابن منظور، لسان العرب، ج٤، ص٣٠٨٠.

١٦ ـ الغزالي، المستصفى، ج٢، ص٥٤، وإبن قدامة المقدسي، روضة الناظر وجنّة المناظر، ص١٤٦.

٩٨

الثاني: بناء الحكم وضرورته. لمّا كان تعليل الأحكام الإلهيّة يستلزم وجود علاقة بين الحكم والعلّة من جهة، ومن جهة أخرى، فإنّ هذه العلاقة أوسع من كونها مؤشّراً وعلاقةً، يعتقد أغلب الأصوليّين بوجوب وجود تناسب وارتباط بين الحكم والعلّة، لكنّهم يفسّرونه بناءً على ما يتبنّونه من مبادئ كلاميّة:

ـ العلّة مؤثّرة ذاتيّاً في الحكم(١٧) . من أتباع هذا الرأي من السنّة؛ المعتزلة.

ـ العلّة مؤثّرة وجوباً في الحكم. من القائلين بهذا التعريف الغزالي؛ الّذي يقول: ((العلّة الموجِبة إمّا أن تكون عقليّة فتكون مؤثرة بحد ذاتها، أو شرعيّة تؤثّر في الحكم بعد جعل الشـارع المـقدّس))(١٨) .

ـ العلّة مؤثرة بشكل عادي في الحكم. نَسب الزركشي، في البحر المـحيط، هذا المـعنى إلى الرازي(١٩) .

ــــــــــــــ

١٧ ـ الشبلي، محمد سعيد مصطفى، تعليل الأحكام، ط١، الأزهر، القاهرة، ١٣٦٥هـ.ق، ص١١٩.

١٨ ـ الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد، شفاء العليل، ط١، نشر وزارة الأوقاف، بغداد، ١٣٩٠هـ.ق، ص٥٦٩.

١٩ ـ الزركشي، بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الشافعي، البحر المحيط في أصول الفقه، ج٥، ص١١٣.

٩٩

الثالث: باعث الشارع على تشريع الحكم. وقد تبنى هذا التعريف الآمدي من الشافعيّة، وابن الحاجب من المالكيّة، وصدر الشريعة من الأحناف(٢٠) .

٤ ـ الحكمة:

أ ـ في اللّغة: وتدلّ كلمة الحكمة في اللّغة على المعرفة والاطلاع. ويفسّرها البعض بمعرفة الحقّ لذاته ومعرفته للعمل به، والبعض يُعرِّفها بالحجّة والبرهان القطعي المفيد للاعتقاد، وليس المفيد للظن.

ب ـ في الاصطلاح: تُطلق الحكمة في المصطلح على معنين: المصلحة المترتِّبة على تشريع الحكم الشرعي، مثل: الحكمة في عدم تكليف المسافر بالصوم؛ والّتي هي دفع المشقّة عنه، عين النفع والضرر الّذي أخذه الشارع بنظر الاعتبار في تشريعه الحكم الشرعي، وأراد الشارع بتشريعه الحكم أن يبلّغه المكلّف أو أن يمتنع عنه. وعلى هذا، فالمشقّة نفسها هي حكمة عدم تكليف المسافر بالصوم، وليس دفع المشقّة. والشائع لدى الأصوليّين، غالباً، هو المعنى الأول.

ــــــــــــــ

٢٠ ـ السبكي، تاج الدين عبد الوهاب، جمع الجوامع، ج٢، ص٢٧٤، والزركشي، البحر المحيط في أصول الفقه، ج٥، ص١١٢.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

فاطمةعليها‌السلام وحديث الكساء الشريف

للسيد محمد مهدي القزويني الحلي

روت لنا فاطمة خير النسا

حديث أهل الفضل أصحاب الكسا

تقول : أن سيد الانام

قد جاءني يوما من الايام

فقال لي : اني أرى في بدني

ضعفا اراه اليوم قد أنحلني

قومي عليّ بالكسا اليماني

وفيه غطيني بلا تواني

قالت فجئته وقد لبيته

مشرعة وبالكساء غطيته

وكنت أرنو وجهه كالبدر

في أربع بعد ليال عشر

فما مضى إلاّ يسير من زمن

حتى أتى أبو محمد الحسن

فقال : يا أماه اني اجد

رائحة طيبة أعتقد

بأنها رائحة النبي

أخي الوصي المرتضى علي

قلت : نعم ها هو ذا تحت الكسا

مدثر به ، مغطى واكتسى

فجاء نحوه ابنه مسلما

مستأذنا قال له : ادخل مكرما

فما مضى إلاّ القليل الا

جاء الحسين السبط مستقلا

فقال يا أم أشم عندك

رائحة كأنها المـسك الذكي

وحق من اولاك منه شرفا

أظنها ريح النبي المصطفى

قلت : نعم تحت الكسا هذا

بجنبه أخوك فيه لاذا

فأقبل السبط له مستأذنا

مسلما قال له : ادخل معنا

وما مضى من ساعة إلاّ وقد

جاء أبوهما الغضنفر الاسد

أبو الأئمة الهداة النجبا

المرتضى رابع اصحاب الكسا

فقال يا سيدة النساء

ومن بها زوجت في السماء

اني اشم في حماك رائحة

كأنها الورد الندي فايحة

يحكي شذاها عرف سيد البشر

وخير من لبى وطاف واعتمر

١٨١

قلت نعم : تحت الكساء والتحفا

وضم شبليك وفيه اكتنفا

فجاء يستأذن منه سائلا

منه الدخول قال : فادخل عاجلا

قالت : فجئت نحوهم مسلمة

قال : ادخلي محبوة مكرمة

فعندما بهم أضاء الموضع

وكلهم تحت الكساء اجتمعوا

قال الامين : قلت : يا رب ومن

تحت الكسا ؟ بحقهم لنا أبن

فقال لي : هم فاطمة وبعلها

والمصطفى والحسنان نسلها

قال علي : قلت : يا حبيبي

ما لجلوسنا من النصيب ؟

قال النبي والذي اصطفاني

وخصني بالوحي واجتباني

ما أن جرى ذكرٌ لهذا الخبر

في محفل الاشياع خير معشر

إلاّ وأنزل الاله الرحمة

وفيهم حفت جنود جمة

من الملائك الذين صدقوا

تحرسهم في الدهر ما تفرقوا

كلا وليس فيهم مغموم

إلاّ وعنه كشفت هموم

كلا ولا طالب حاجة يرى

قضاؤها عليه قد تعسرا

إلاّ قضى الله الكريم حاجته

وانزل الرضوان فضلا ساحته

قال علي نحن والاحباب أشياعنا

الذين قدما طابوا

فزنا بما نلنا ورب الكعبة

فليشكرن كل فردٍ ربه

يا عجبا يستأذن الامين

عليهم ويهجم الخؤون

قال سليم قلت : يا سلمان

هل دخلوا ولم يك استئذان

فقال : أي وعزة الجبار

ليس على الزهراء من خمار

لكنها لاذت وراء الباب

رعاية للستر والحجاب

فمذ رأوها عصروها عصرة

كادت بروحي ان تموت حسرة

تصيح : يا فضة اسنديني

فقد وربي قتلوا جنيني

فأسقطت بنت الهدى واحزنا

جنينها ذاك المسمى محسنا

         
١٨٢

حديث الكساء الشريف

عَنْ جابر بن عبد الله الانصاري قال سَمِعتُ فاطِمَةَ عليها‌السلام أنَّها قالت : ( دَخَلَ عَليَّ أبي رَسُولُ الله في بَعضِ الأيّام فقال السَّلامُ عليكِ يا فاطِمَةُ فَقُلتُ عليك السَّلامُ قالَ إني أَجدُ في بَدَني ضُعفاً فقُلتُ له أُعيذكَ باللهِ يا أبتاهُ منَ الضُعفِ فَقالَ يا فاطِمَةُ اتيني بالكِساء اليَماني فَغَطّيني به فأتَيتُهُ بالكساء اليَماني فَغَطّيتُهُ بِهِ وَصِرْتُ أنظُرُ إليه وَإذا وَجْهُهُ يَتَلألَؤُ كأنَّهُ البَدْرُ في لَيلَةِ تَمامِهِ وَكماله فَما كانت إلاّ ساعَةً وإذا بوَلدي الحَسَن قَدْ أقبلَ وقالَ السَّلامُ عليكِ يا أُمّاهُ فَقلتُ وعليكَ السَّلامُ يا ولدي ويا قُرَّةَ عَيني وثَمرَةَ فُؤادي فَقالَ يا أُمّاهُ إنّي أشَمُ عِندَكِ رائحةٌ طيّبَةً كأنَّها رائِحةُ جَدّي رَسُولِ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقلتُ نَعَم إنَّ جَدَكَ تحت الكساء فأقبلَ الحَسَنُ نحوَ الكِساء وقالَ السّلامُ عليكَ يا جَدّاه يا رسوُل الله أتأذنُ لي أن أدخُلَ معك تحت الكساء فَقال وعليك السلام يا ولدي وصاحب حوضي قد اذنت لك فدخل معه تحت الكساء فما كانت إلاّ ساعة واذا بولدي الحسين عليه‌السلام قد اقبل وقال السلام عليك يا اماه فقلت وعليك السلام يا ولدي ويا قرة عيني وثمرة فؤادي فقال لي يا اماه اني اشم عندك رائحة طيبة كأنها رائحة جدي رسول الله فقلت نعم ان جدك واخاك تحت الكساء فدنى الحسين نحو الكساء وقال السلام عليك يا جداه السلام عليك يا من إختاره الله أتأذن لي أن أكون معكما تحت الكساء فقال وعليك السلام يا ولدي ويا شافع أُمتي قَدْ أذنت لك فَدَخَلَ مَعَهُمَا تَحْتَ الكساء فأقبَلَ عندَ ذلك أبو الحسن علي بن أبي طالب عليه‌السلام وقال السلام عليكِ يا بنت رسول الله فقلتُ وعليْكَ السلام يا أبا الحسن ويا أمير المؤمنين فقال يا فاطمة إني أشمُّ عندك رائحة طيبة كأنَها رائحة أخي وابن عَمّي رَسولِ الله فَقُلْتُ نَعَمْ هاهُوَ مَعَ وَلَدَيْكَ تَحْتَ الكساء فَأقْبَلَ عَلِيٌّ نَحْوَ الكساء وقالَ السلام عَلَيْكَ يا رسول الله أتأذَنُ لي أن أكونَ مَعَكُمْ تَحتَ الكساء قالَ وعَلَيْكَ السلام يا أخي وَيا وَصيّي وخَليفَتي وصاحِبَ لِوائي قَد أذِنتُ لَكَ فَدَخَلَ عَليٌّ تَحْتَ الكساء ثُمَّ أتَيْتُ نَحْوَ الكِساء وَقُلْتُ السلام عليك يا أبَتاه يا رَسول الله أتَأذن لي أن أكون مَعَكَمْ تَحْتَ الكساء قَالَ وعَلَيكِ السلام يا بنتي ويا بضعتي قَدْ أذنت لَكِ فَدَخَلتُ تَحْتَ الكساء فَلَما إكتَمَلنا جَميعاً تَحْتَ الكساء أخَذَ أبي رَسول الله بِطَرفي الكساء وأومئ بيده اليمنىٰ إلى السماء وقال

١٨٣

اللهم إنَّ هؤلاء أهلُ بيتي وخاصتي وحامّتي لحمهم لحمي وَدمهم دَمي يؤلمني ما يؤلمهم ويحزنني ما يحزنهم أنا حربٌ لمن حاربهم وسلمٌ لمن سالمهم وَعَدوٌّ لمن عاداهم ومحب لمن أحَبَهُم إنهم مني وأنا منهم فاجعل صلواتك وبركاتك ورحمتك وغفرانك ورضوانك علي وعليهم وأذهب عنهم الرجس وَطَهرهُم تطهيراً فقال الله عز وجل يا ملائكتي ويا سكان سماواتي إني ما خلقت سماءً مبنية ولا أرضاً مَدحية وَلا قَمَراً منيراً ولا شمساً مضيئة لا فلكاً يدور ولا بحراً يجري ولا فُلكاً يسري إلا في محبة هؤلاء الخمسة الذين هم تحت الكساء فقال الأمين جبرائيل يا رَبِّ ومن تحت الكساء فقال عزّ وجلّ هم أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة هم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها فقال جبرائيل يارب أتأذن لي أن أهبط الى الأرض لأكون معهم سادساً فقال الله نعم قد أذنت لك فهبط الأمين جبرائيل وقال السلام عليك يا رسول الله العلي الأعلىٰ يقرئك السلام ويخصك بالتحية والإكرام ويقول لك وعزتي وجلالي إني ما خلقتُ سماءً مبنية ولا أرضاً مدحية ولا قمراً منيراً ولا شمساً مضيئةً ولا فلكاً يدور ولا بحراً يجري ولا فلكاً يسري إلاّ لأجلكم ومحبتكم وقد أذن لي أن أدخل معكم فهل تأذن لي يا رسول الله فقال رسول الله وعَليك السلام يا أمين وحي الله انه نعم قد أذنت لك فدخل جبرائيل معنا تحت الكساء فقال لأبي ان الله قد أوحىٰ اليكم يقول إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا فقال علي لأبي يا رسول الله أخبرني ما لجلوسنا هذا تحت الكساء من الفضل عند الله فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والذي بعثني بالحق نبيا وإصطفاني بالرسالة نجيّا ما ذكر خبرنا هذا في محفل من محافل أهل الأرض وفيه جمع من شيعتنا ومحبينا الاّ ونزلت عليهم الرحمة وحفت بهم الملائكة واستغفرت لهم الىٰ أن يتفرقوا فقال علي عليه‌السلام إذاً والله فزنا وفاز شيعتنا ورب الكعبة فقال أبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا علي والذي بعثني بالحق نبيا وإصطفاني بالرسالة نجيا ما ذكر خبرنا هذا في محفل من محافل أهل الأرض وفيه جمعٌ من شيعتنا ومحبينا وفيهم مهموم إلاّ وفرج الله همه ولا مغموم إلاّ وكشف الله غمه ولا طالب حاجة إلاّ وقضىٰ الله حاجته فقال علي عليه‌السلام إذاً والله فزنا وسعدنا وكذلك شيعتنا فازوا وسُعِدُوا في الدُّنيا وَالاخرة ورب الكعبة ) .

١٨٤

البحث السادس

فاطمةعليها‌السلام

وحديث الكساء الشريف

يعتبر حديث الكساء من الأحاديث النورانية الولائية والذي عَبَّر عن مدىٰ ارتباط أهل البيتعليهم‌السلام بالسماء وذلك من خلال المضامين العالية التي وردت في طياته ، فما أدراك ما حديث الكساء وهل أتاك نبأه ! أنه الحديث المتصل بين الأرض والسماء ، فقد وعته كواكب الكون ونجوم السماوات السبع وما زال الإنسان في ريب من أمره ذلك إن الإنسان كان جهولا. لقد وعته قلوب المؤمنين وإفتدتهم قبل أن تعيه أسماعهم لذا سوف نعيش في رحابه ونقف مع حلقاته ونستضيء من نوره ونستجلي حقائقه ونحيا مع بركاته كي نصل الئ شاطي نور العلم والمعرفة تلكم هي معرفة نورانية أهل البيتعليهم‌السلام ، فحديث الكساء الشريف يعتبر مرسوم رباني قد قلده الله تبارك وتعالىٰ لنبيه الشريف محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ولآله الطيبين الطاهرين حيث جاء موضحاً لإرادة رب العالمين التي وسمت قوله تعالىٰ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) كل ذلك حرصاً ومحبتاً من الله تعالىٰ للرسول ولأهل بيتهعليهم‌السلام ولكي لا يُشرقُ الناس أو يغربوا ولا تأخذهم الاهواء والميول والرغبات يميناً وشمالاً وحتىٰ لا يحَرّف المغرضون هذه الآية المباركة العظيمة عن أهلها وأصحابها الحقيقيين الذي أرادهم رب العالمين أطهاراً مطهرين يتولون قيادة الأُمة ويوضحون معالم طريقها بعد رسوله الكريم محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله . إن هذا الحديث يستحق منا أن نقف عنده وقفة متأمله لكي ننفذ إلىٰ الأبعاد الانسانية والحقائق العلمية والمسائل العقائدية التي يرمي اليها والنتائج الرائعة التي تترتب عليه فهو ليس مجرد حديث يروىٰ لأجل أن نأخذ معلومة جامدة تتوقف عند حدود الحديث وظاهر الالفاظ بل يجب أن نستشف المرامي الحضارية الكامنة خلف ألفاظه وكلماته ، لا سيما أن الله سبحانه وتعالىٰ

١٨٥

قد ميزنا عن سائر المخلوقات الاخرىٰ بأن وهب لنا عقلاً والهمنا كيف نستخدمه ونوظفه لخدمة المجتمع والانسانية جمعاء لا أن نكون مجرد مخلوقات تأكل وتنام وتضاجع دون أن نعي ما كان ويكون حولها.

وسيكون حديثنا حول هذا الحديث المبارك في ثلاث وقفات :

الوقفة الأولىٰ : ارتباط هذا الحديث بآية التطهير.

الوقفةالثانية : سند هذا الحديث الشريف.

الوقفة الثالثة : مضامين هذا الحديث المختلفة.

الوقفة الأولى

« حديث الكساء وآية التطهير »

ارتبط حديث الكساء الشريف بنزول آية التطهير ارتباطاً وثيقاً حيث جاءت هذه الآية المباركة( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) لتؤكد على مسألة عصمة أهل البيتعليهم‌السلام جميعاً بما فيهم فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، والذي يهمنا في المقام هو عصمة فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، أمّا مسألة البحث حول هذه الآية المباركة ودلالتها على عصمة أهل البيتعليهم‌السلام فهذا موكول إلى الكتب الكلامية الخاصة بهذا الموضوع ، أمّا دلالة هذه الآية على عصمة فاطمة الزهراءعليها‌السلام فهذا ما تجده من خلال الروايات التي بينت من هم أهل البيت الذين عنتهم الآية المباركة وكيفية اشتراك الزهراء مع أهل البيت في طهارتهم وعصمتهم ، أمّا الروايات فسنذكر بعضها بعدما أن نقف مع مفهوم أهل البيت ، ومن المراد بهم فلربما يقول قائل إنّنا لا نؤمن بالروايات أو لا نقبل هذه الروايات فنقول له تعال معنا لنقف سوية على مفهوم أهل البيت ومن المراد بهم ؟. إن التعرف على مفهوم أهل البيت لغة والمقصود منه في هذه الآية المباركة يعد من الأبحاث الضرورية في فهم مفاد هذه الآية فلقد ضلَّ

١٨٦

الكثير في تفسير هذه الآية والمراد فيها من أهل البيت ولأجل ذلك نبحث اولا وقبل كل شيء هذا المفهوم لغة علىٰ وجه يرفع الستار عن وجه الحقيقة.

مفهوم أهل البيت عند أهل اللغة

قد ورد لفظ أهل البيت في القرآن الكريم مرتين احداهما في هذه الآية المرتبطة بحديث الكساء الشريف والأخرىٰ في قوله تعالى( قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ) (1) . ويمكن تحديد مفهوم الأهل من موارد استعماله فيقال :

1 ـ أهل الأمر والنهىٰ.

2 ـ أهل الانجيل.

3 ـ أهل الكتاب.

4 ـ أهل الاسلام.

5 ـ أهل الرجل.

6 ـ أهل الماء.

وهذه الموارد توقفنا علىٰ أن كلمة أهل تستعمل مضافاً فيمن كان له علاقة قوية بمن أضيف إليه ، فأهل الأمر والنهىٰ هم الذين يمارسون الحكم والبعث والزجر ، وأهل الانجيل هم الذين لهم اعتقاد به كأهل الكتاب وأهل الإسلام.

وقد اتفقت كلمة أهل اللغة علىٰ أن الأهل والآل كلمتان بمعنىٰ واحد قال ابن منظور : آل الرجل : أهله وآل الله وآل رسوله : أولياؤه ، أصلها أهل ثم بدلت الهاء همزة فصارت في التقدير أأل فلما توالت الهمزمان أبدلوا الثانية ألفاً. كما قالوا : آدم وآخر ، وفي الفعل آمن وآزر. وقد انشأ عبد المطلب عند هجوم ابرهة على مكة المكرمة وقد أخذ حلقة باب الكعبة وقال :

وانصر على آل الصليب

وعابديه اليوم آلك

وعلىٰ ما ذكرنا فهذا اللفظ إذا أضيف الىٰ شيء يقصد منه المضاف الذي له علاقة

__________________

(1) هود : آية 73.

١٨٧

خاصة بالمضاف إليه ، فأهل الرجل مثلاً أخص الناس به ، وأهل المسجد المترددون كثيراً إليه ، وأهل الغابة القاطنون فيها فإذا لاحظنا موارد استعمال هذه الكلمة لا نتردد في شمولها للزوجة والأولاد وبل غيرهم ممن تربطهم رابطة خاصة بالبيت من غير فرق بين الأولاد والأزواج ولأجل ذلك ترىٰ أنّه سبحانه يطلقه علىٰ زوجة إبراهيم كما عرفت في الآية هذا هو حق الكلام في تحديد مفهوم هذه الكلمة ولنأتي ببعض نصوص أئمة اللغة.

قال ابن منظور : أهل البيت سكانه وأهل الرجل أخص الناس به وأهل البيت أزواجه وبناته وصهره أعني علياًعليه‌السلام ، وقيل نساء النبي والرجال الذين هم أهله(1) .

فلقد أحسن الرجل في تحديد المفهوم ، أولاً ، وتوضيح معناه في القرآن الكريم كما أشار بقوله : قيل : الىٰ ضعف القول الآخر لأنه نسبه الىٰ القيل.

وقال ابن فارس ناقلاً عن الخليل ابن أحمد : أهل الرجل زوجه والتأهل التزوج وأهل الرجل أخص الناس به وأهل البيت سكانه وأهل الاسلام من يدين به(2) .

وعلى ما ذكرنا فهذا اللفظ إذا أضيف الىٰ شيء يقصد منه المضاف الذي له علاقة خاصة بالمضاف إليه فأهل الرجل مثلاً أخص الناس به فاذا لاحظنا موارد استعمال هذه الكلمة لا نتردد في شمولها للزوجة والأولاد بل وغيرهم ممن تربطهم رابطة خاصة بالبيت من غير فرق بين الأولاد والأزواج.

اذن هذه الكلمات ونظائرها بين أعلام اللغة كلها تعرب عن أن مفهوم أهل البيت في اللغة هم الذين لهم صلة وطيدة بالبيت وأهل الرجل من له صلة به بنسب أو سبب أو غيرهما ، وهناك إشكال من بعض المفسرين الذين قالوا ان لفظ أهل البيت يطلق فقط علىٰ الزوجة ويستعمل في الأولاد والأقارب تجوزاً أي يكون استعماله حقيقة في الزوجة ومجازاً في الأولاد والأقارب وقد استدل هذا الذي أثار هذا الإشكال علىٰ ذلك عن طريق اثباته ذلك من القرآن الكريم كما وردت هذه اللفظة ـ أهل البيت ـ في قصة إبراهيم بالبشرىٰ حيث قال الله تعالى( وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا

__________________

(1) لسان العرب : 11 / 29 « أهل ».

(2) معجم مقاييس اللغة : 1 / 150.

١٨٨

بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ *قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ *قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ) (1) . وفي قصة موسىٰعليه‌السلام أيضاً :( فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا ) (2) . فالمستشكل قال : إن الله استعمل هذه اللفظة على لسان ملائكته في زوجة إبراهيمعليه‌السلام لا غيركما في الآية الأولىٰ الخاصة بالبشرىٰ واستعمل الأهل في زوجة موسىٰعليه‌السلام وهي بنت شعيب كما في الآية ، إذن فالمستشكل قال إن الأهل تطلق علىٰ الزوجة حقيقة ، وهذا مردود من عدة جهات :

أولاً : تقدم علىٰ لسان أهل اللغة أن لفظة أهل تطلق علىٰ أخص الناس بالزوج وهم الأولاد.

ثانياً : ان كلامه غير صحيح من كون الأهل تطلق حقيقة علىٰ الزوجة ومجازاً علىٰ الأولاد فنحن نقول له من أين إستظهرت هذا ، فاذا قلت من آية البشرىٰ وآية موسىٰ فإنه مردود لأنه الاطلاق هنا علىٰ كلمة الأهل ليس دليلاً على الانحصار ـ أي إنحصار اللفظة علىٰ الزوجة فقط

ثالثاً : إنَّ الآية في قصة إبراهيم قالت عليكم أهل البيت ولم تقول الآية المباركة عليكِ لتكون ظاهرة في زوجته فقط كلمة أهل.

أمّا السؤال المهم في هذا المقام هو هل أنَّ مفهوم ولفظ أهل البيت يطلق علىٰ الزوجة أو علىٰ الزوجة والأولاد ؟ وفيما نحن فيه هل هناك قرائن في آية التطهير أو قبلها أو بعدها تصرف هذا اللفظ خاصة الىٰ أهل البيت الذين يقصد بهم علي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ، أم لا توجد قرائن ؟ والجواب علىٰ ذلك : إن بعض من وقف مع هذه الآية المباركة ومدلولاتها قال ان المراد من أهل البيت هم أزواجه ونسائهصلى‌الله‌عليه‌وآله والبعض الآخر قال إنَّ لفظ أهل البيت خاصة يطلق علىٰ بنت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وصهره وولداهما الحسن والحسينعليهم‌السلام .

__________________

(1) هود : آية 73.

(2) القصص : آية 30.

١٨٩

والحق مع من ذهب الىٰ القول الثاني ـ علي وفاطمة والحسن والحسين ـ بدلالة عدة شواهد وقرائن حفت بالآية المباركة سواء كانت قرائن حالية أو مقامية وإليك هذه القرائن.

1 ـ القرينة الأولىٰ اللام في أهل البيت للعهد وبيان ذلك : إنَّ اللام قد يراد منها الجنس المدخول عليه مثل قوله تعالىٰ( إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ) ، وقد يراد من اللام الإستغراق مثل قوله تعالىٰ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) وقد يراد منها باعتبار معهودية مدخولها بين المتكلم والمخاطب ، أمّا الأول والثاني من الأقوال لا يمكن أن نحمل اللام عليهما أما القول الثالث فهو الحق لأنّ الله تعالى إنما يريد إذهاب الرجس عن أهل بيت معهودين بين المتكلم والمخاطب ، وفمن هم هؤلاء أهل البيت ؟!!

2 ـ القرينة الثانية علىٰ أن المراد من أهل البيت هم علي وفاطمة والحسن والحسين هو تذكير الضمائر في الآية خلاف الضمائر الاخرىٰ التي وردة في الآية المباركة حيث جاءت مؤنثة مثل وقلن ، اتقيتن. فلا تخضعن الخ.

3 ـ القرينة الثالثة : ـ هي ان الإرادة وكما أثبتتها الكتب الكلامية هي الارادة التكوينية إنما يريد الله ـ لا التشريعية فلا يصح حمل مفهوم أهل البيت على نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ لم يدع أحد من المسلمين كونهن معصومات من الذنب مطهرات من الزلل فلا مناص من تطبيقه علىٰ جماعة خاصه من المنتمين إلىٰ البيت النبوي الذين تحقق فيهم تعلقهم بالاسباب والمقتضيات التي تنتهي بصاحبها إلىٰ العصمة ولا ينطبق هذا إلا علىٰ الإمام علي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام .

وأضف الىٰ ذلك الىٰ أن المراد من أهل البيتعليهم‌السلام هم أصحاب الكساء الخمسة هو وقوف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ستة أشهر علىٰ باب فاطمة ويناديهم بقوله تعالى ـ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ ) ليوقضهم للصلاة وليؤكد على حرمة أهل هذا البيتعليهم‌السلام ، وكذلك نزول آية التطهير في بيت فاطمةعليها‌السلام حيث قالت دخل علي أبي وفيه دلالة علىٰ أن حديث الكساء كان في بيت فاطمةعليها‌السلام خلاف ما يدعيه البعض أن حديث الكساء كان في بيت أُم سلمة وكما سيأتينا هذا البحث.

١٩٠

إذن كان للنبي العناية الوافرة بتعريف أهل البيت لم يرَ مثلها إلا في أقل الموارد حيث قام بتعريفهم بطرق مختلفة كما كان المحدثين والمفسرين وأهل السّيَر والتأريخ لهم العناية الكاملة بتعريف أهل البيتعليهم‌السلام في مواضع مختلفة وحسب المناسبات التي تقتضي طرح هذه المسألة وكذلك الشعراء المخلصين الاسلاميين الذين كان لهم العناية البارزة ببيان فضائل أهل البيت وتعريفهم للناس والتصريح بأسمائهم علىٰ وجه يظهر من الجميع اتفاقهم علىٰ نزول الآية في حق العترة الطاهرة.

أما الروايات الواردة في بيان من هم أهل البيتعليهم‌السلام فنروي لك شاهدين الشاهد الأول : ما روي عن أُم سلمة انها قالت : ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان في بيتي فاستدعى علياً وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ؛ وجللهم بعباءةٍ خيبرية ثم قال : اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً فقالت أُم سلمة : قلت يا رسول الله أنا من أهل بيتك ؟ قال لا : ولكنك إلىٰ خير(1) .

أما الشاهد الثاني : ما روي عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في إحتجاجه علىٰ أبي بكر حيث قال له أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) أفينا نزلت أو في غيرنا نزلت ؟ قال : فيكم : فأخبرني لو أنّ شاهدين من المسلمين شهداً على فاطمةعليها‌السلام بفاحشة ما كنت صانعاً ؟ قال :

كنت أقيم عليها الحد كما أقيم علىٰ نساء المسلمين !! قال الإمامعليه‌السلام كنتَ إذنْ عند الله من الكافرين قال : ولِمَ ؟ قال : لأنك رددت شهادة الله وتقبل شهادة غير لأنَّ الله عز وجل قد شهد لها بالطهارة فاذا رددت شهادتها وقبلتَ شهادةَ غيرها كنت عند الله من الكافرين قال : فبكىٰ الناس وتفرقوا ودمدموا(2) .

وعلى هذا يكون الشاهدين فيهما دلالة علىٰ أن فاطمة كانت من أهل بيت العصمة فهي معصومة من الزلل والخطأ والعصمة هنا لها هي العصمة الذاتية وليس الفعلية ، ومما يؤكد العصمة فيها كذلك الأقوال والأحاديث الواردة من خلال استقراء كتب الحديث حيث روت لنا هذه الكتب إن الرسول كان دائماً يقول : فاطمة بضعة مني

__________________

(1) التبيان في تفسير القرآن للشيخ الطوسي : 8 / 339.

(2) علل الشرائع : 191 باب 151.

١٩١

يغضبني من أغضبها ويسرني من أسرها وإن الله ليغضب لغضبها ويرضىٰ لرضاها.

فان هذا كاشف عن إناطة رضاها بما فيه مرضاة الرب جلَّ شأنه وغضبه بغضبها حتىٰ إنها لو غضبت أو رضيت علىٰ أمر مباح لابد أن تكون له جهة شرعية تدخله في الراجحات لم تكن حالة الرضا والغضب فيها منبعثة عن جهة نفسانية وهذا مثل العصمة الثابتة لهاعليها‌السلام (1) وقد قال الشيخ المفيد طاب ثراه(2) في إثبات الحكم بكون فاطمة معصومة من الزلل والخطأ ما نصه : قد ثبت عصمة فاطمةعليها‌السلام بإجماع الأمة على ذلك فتياً مطلقة ، وإجماعهم علىٰ إنّه لو شهد شهود بما يوجب إقامة الحد من الفعل المنافي للعصمة ، لكان الشهود مبطلين في شهادتهم ، ووجب علىٰ الأمة تكذيبهم وعلىٰ السلطان عقوبتهم ، فإنّ الله تعالىٰ قد دل علىٰ ذلك بقوله :( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) .

ولا خلاف بين نقلة الآثار إن فاطمةعليها‌السلام كانت من أهل هذه الآية ، وقد بيّنا فيما سلف إنَّ ذهاب الرجس عن أهل البيت الذين عنوا بالخطاب يوجب عصمتهم ولاجماع الأمة ايضاً علىٰ قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « من آذىٰ فاطمة فقد آذاني ومن آذاني فقد آذىٰ الله عز وجل ». فلولا أنّ فاطمةعليها‌السلام كانت معصومة من الخطأ ، مبرأة من الزلل ، لجاز منها وقوع ما يجب آذاها بالأدب والعقوبة ولو وجب ذلك لوجب آذاها ولو جاز وجوب آذاها لجاز آذىٰ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والأذىٰ لله عز وجل فلمّا بطل ذلك دلَّ علىٰ أنهاعليها‌السلام كانت معصومة حسب ما ذكرناه ، وإذا ثبت عصمة فاطمةعليها‌السلام وجب القطع بقولها ، واستغنت عن الشهود في دعواها ـ في قضية فدك ـ لأن المدعي إنمّا افتقر للشهود لارتفاع العصمة عنه وجواز ادعائه الباطل فيستظهر بالشهود وعلى قوله لئلا يطمع كثير من الناس في أموال غيرهم ، وجحد الحقوق الواجبة عليهم وإذا كانت العصمة مغنية عن الشهادة وجب القطع علىٰ قول فاطمةعليها‌السلام وعلىٰ ظلم مانعها فدكاً ومطالبتها بالبينة عليها.

ويكشف عن صحة ما ذكرناه أن الشاهدين إنما يقبل قولهما على الظاهر مع جواز

__________________

(1) وفاة الصديقة الزهراء : 55 للمقرم.

(2) الفصول المختارة من العيون المحاسن : 88.

١٩٢

أن يكونا مبطلين كاذبين فيما شهدا به ، وليس يصح الإستظهار علىٰ قول من قد أمن من الكذب بقول من لا يؤمن عليه ، ذلك كيما لا يصح الاستظهار علىٰ قول المؤمن بقول الكافر ، وعلىٰ قول العدل البر بقول الفاسق الفاجر. ويدل أيضاً على ذلك : إنَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله استشهد علىٰ قوله فشهد خزيمة بن ثابت في ناقة نازعه فيها منازع ؛ فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : من أين علمت يا خزيمة ، أنَّ هذه الناقة لي ؟ أشهدت شرائي لها ؟ فقال : لا ولكني علمت أنَّها لك من حيث إنَّك رسول الله ، فأجاز النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله شهادته كشهادة رجلين وحكم بقوله فلو لا أن العصمة دليل الصدق وتغني عن الاستشهاد ، لما حكم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقول خزيمة من ثابت وحده وصوّبه في الشهادة له على ما لم يره ولم يحضره ، باستدلاله عليه بدليل نبوته وصدقه علىٰ الله سبحانه فيما أداه الىٰ بريته ، وإذا وجب قبول قول فاطمةعليها‌السلام بدلائل صدقها ، واستغنت عن الشهود لها ثبت ان من قطع حقها وأوجب الشهود علىٰ صحة قولها ، قد جار في حكمه وظلم في فعله ، وآذىٰ الله تعالىٰ ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله بايذائه لفاطمةعليها‌السلام وقد قال الله عزّ وجلّ :( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا ) (1) . اذن لا شك في عصمة فاطمةعليها‌السلام ، أمّا عندنا فللإجماع القطعي المتواتر والأخبار المتواترة في فضائلها ومناقبها.

وأمّا الحجة علىٰ المخالفين :

1 ـ فبآية التطهير الدالة علىٰ عصمتها ، وكما بيّنا في إثبات نزول هذه الآية في جماعة كانت داخلة فيهم بل هي قطب الرحىٰ الذي يدور فيه أهل البيتعليهم‌السلام .

2 ـ وبالأخبار المتواترة الدالّة علىٰ أنّ إيذائها إيذاء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّ الله تعالىٰ يغضب لغضبها ويرضىٰ لرضاها : ووجه الإستدلال بالروايات علىٰ عصمتها صلوات الله عليها : أنّه كانت فاطمةعليها‌السلام ممن تقارق الذنوب وترتكبها ، لجاز إيذاؤها ، بل إقامة الحد عليها ، لو فعلت معصية ، وارتكبت ما يوجب حداً ، لم يكن رضاها رضىٰ الله

____________

(1) الأحزاب : آية 57.

١٩٣

سبحانه إذا رضيت بالمعصية ، ولا من سرها في معصية ساراً لله سبحانه ، ومن أغضبها بمنعها عن ارتكابها مغضباً له جل شأنه ، فإن قيل : لعل المراد ، من آذاها ظلماً فقد آذاني ، ومن سرّها في طاعة الله فقد سرّني ، وأمثال ذلك ، لشيوع التخصيص في العمومات قلنا :

أولاً : التخصيص خلاف الأصل ، ولا يصار إليه إلا بدليل فمن أراد التخصيص فعليه إقامة الدليل.

ثانياً : إن فاطمة صلوات الله عليها تكون حينئذ كسائر المسلمين ، لم تثبت لها خصوصية ومزية في تلك الأخبار ، ولا كان لها فيها تشريف ومدحة ؛ وذلك باطل بوجوه :

1 ـ إنّه لا معنىٰ حينئذ لتفريع كون إيذائها إيذاء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله على كونها بضعة منه كما يصرح بذلك صحيح البخاري ومسلم في رواياته.

2 ـ إنّ كثيراً من الأخبار السالفة المتضمنة لانكارهصلى‌الله‌عليه‌وآله علىٰ بني هاشم ، في أن ينكحوا إبنتهم علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، أو انكاح بنت أبي جهل ، ليس من المشتركات بين المسلمين فإنَّ ذلك النكاح كان مما أباحه الله سبحانه ، بل ممّا رغّب فيه وحث عليه لولا كان كونه إيذاء لسيدة النساء ، وقد علل رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عدم الإذن بكونها بضعة منه يؤذيها ما آذاها ويريبه ما يريبها تظهر بطلان القول بعموم الحكم لكافة المسلمين ، علىٰ إنه لو ثبت هذا القول بأن عليعليه‌السلام ربما أو أراد أن يتزوج من المتقدمي الذكر.

3 ـ إنّ القول بذلك يوجب إلقاء كلامهصلى‌الله‌عليه‌وآله وخلوّه من الفائدة ، إذ مدلوله حينئذ أنّ بضعته كسائر المسلمين ولا يقول ذلك من أوتي حظاً من الفهم والفطانة ، أو اتصف بشيء من الانصاف والأمانة ، وقد أطبق محدثوهم على إيراد تلك الروايات في باب مناقبها صلوات الله عليها.

فإن قيل : أقصىٰ ما تدل عليه الأخبار ، هو أنَّ إيذاؤها إيذاء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ومن جوّز صدور الذنب عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا يأبىٰ عن إيذائه إذا فعل ما يستحق به الإيذاء.

قلنا : بعد ما مر من الدلائل علىٰ عصمة الأنبياءعليهم‌السلام ، قال الله تعالى( وَالَّذِينَ

١٩٤

يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (1) . وقال سبحانه :( وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ ) (2) . وقال تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا ) (3) . فالقول بجواز ايذائهصلى‌الله‌عليه‌وآله ردّ لصريح القرآن ، ولا يرضىٰ به أحد من أهل الإيمان ، فإن قيل : إنّما دلّت الأخبار علىٰ عدم جواز إيذائها ، وهو إنما ينافي صدور الذنب منها يمكن للناس الاطلاع عليه ، حتىٰ يؤذيها نهياً عن المنكر ، ولا ينافي صدور معصية عنها خفيّة فلا يدل علىٰ عصمتها مطلقاً.

قلنا : نتمسك في دفع هذا الاحتمال بالإجماع المركب أن ما جرى في قصة فدك وصدر عنها من الانكار علىٰ أبي بكر ومجاهرتها بالحكم بكفره وكفر طائفة من الصحابة وفسقهم تصريحاً وتلويحاً ، وتظلمها وغضبها علىٰ أبي بكر ، وهجرتها وترك كلامها حتىٰ ماتت ، لو كانت معصية لكانت من المعاصي الظاهرة التي قد أُعلنت بها علىٰ رؤوس الأشهاد ، وأي ذنب أظهر وأفحش من مثل هذا الردّ والانكار علىٰ الخليفة المفترض الطاعة علىٰ العالمين ؟ بزعمهم فلا محيص لهم عن القول ببطلان خلافة خليفتهم العظمىٰ تحرزاً عن إسناد هذه المعصية الكبرىٰ إلىٰ سيدة النساء.

3 ـ ونحتج أيضاً في عصمتهاعليها‌السلام بالاخبار الدالة علىٰ وجوب التمسك بأهل البيتعليهم‌السلام وعدم جواز التخلف عنهم ، وما يقرّب هذا المعنىٰ ، ولا ريب في أن ذلك لا يكون ثابتاً لأحد ، إلاّ إذا كان معصوماً إذ لو كان ممّن يصدر عنه الذنوب لما جاز إتباعه عند إرتكابها ، بل يجب ردعه ومنعه وايذاؤه واقامة الحد عليه وإنكاره بالقلب واللسان وكل ذلك ينافي ما حث عليه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصىٰ به الأمة في شأنهم ، ويكفي في ذلك ما رواه المخالفون لنا عن الترمذي عن زيد بن أرقم قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا ، أحدهما أعظم من الآخر وهو كتاب الله حبلٌ ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتّىٰ يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فلا يهولنَّك ما يقرع سمعك من الطنين آخذاً

__________________

(1) التوبة : آية 61.

(2) الأحزاب : آية 53.

(3) الأحزاب : آية 57.

١٩٥

من الميول والأهواء المردية بأن العصمة الثابتة لمن شاركها في الكساء لأجل تحملهم الحجية من رسالة أو إمامة ، وقد تخلت الزهراءعليها‌السلام عنها ـ النبوة والإمامة ـ فلا تجب عصمتها ، الجواب إنّا لم نقل بتحقق العصمة فيهمعليهم‌السلام لاجل تبليغ الاحكام حتىٰ يقال بعدم عصمة الصديقة لعدم توقف التبليغ عليها ، وإنما تمسّكنا بعصمتهم بعد نص الكتاب العزيز بإقتضاء الطبيعة المتكونة من النور الالهي المستحيل فيمن اشتقت منه مقارفة إثم أو تلوث بما لا يلائم ذلك النور الأرفع حتىٰ في ترك الاولىٰ(1) .

وإلى ذلك يشير المرحوم الشيخ الاصفهاني في ارجوزته :

تبتلت عن دنس الطبيعة

فيا لها من رتبة رفيعة

مرفوعة الهمة والعزيمة

عن نشأة الزخارف الذميمة

في افق المجد هي الزهراء

للشمس من زهرتها الضياء

بل هي نور عالم الأنوار

ومطلع الشموس والاقمار

رضيعة الوحي من الجليل

حليفة لمحكم التنزيل

مفطومة من زلل الأهواء

معصومة من وصمة الخطاء

إذن في النتيجة النهائية نصل إلى أن حديث الكساء إرتبط إرتباط وثيق بنزول آية التطهير والتي تمثل الأساس المتين لإثبات عصمة أهل البيتعليهم‌السلام وبما فيهم فاطمة الزهراءعليها‌السلام ولذلك جاءت الآية المباركة للتطهير لتكون نور من أنوار حديث الكساء حيث كلما ذكرت ذكر حديث الكساء ليكون من الأهمية البارزة في حياتنا العقائدية والروحانية والدُعائية ، ونختم الكلام في عصمة فاطمةعليها‌السلام فيما قاله الأستاذ العلامة حسن زاده آملي حيث يقول : ـ كانت فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ذات عصمة بلا دغدغة ووسوسة ، وقد نص كبار العلماء كالمفيد والمرتضى وغيرهما بعصمتهاعليها‌السلام بالآيات والروايات والحق معهم والمكابر محجوج مفلوج ، وكانتعليها‌السلام جوهره قدسية في تعين إنسيّ ، فهي إنسية حوراء وعصمة الله الكبرىٰ وحقيقة العصمة أنها قوة نوريّة ملكوتية تعصم صاحبها عن كل ما يشينه من رجس الذنوب

__________________

(1) وفاة الصديقة الزهراء : 54.

١٩٦

والأدناس والسهو والنسيان ونحوها من الرذائل النفسانية فاعلم أن العترة وفاطمة منهم معصومة كما نص به الوصي الإمام عليعليه‌السلام في النهج : « وكيف تعمهون وبينكم عترة نبيكم وهم أزمة الحق وأعلام الدين والسنة الصدق فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن وردوهم ورود الهيم العطشان ».

ونطق ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه بالصواب حيث قال : « فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن تحته سرٌّ عظيم وذلك أنه أمر المكلفين بأن يجرو العترة في إجلالها وإعظامها والإنقياد لها والطاعة لأوامرها مجرىٰ القرآن ».

ثم قال : « فإن قلت : فهذا القول منه يشعر بأن العترة معصومة فما قول أصحابكم ـ يعني القائلين بمذهب الإعتزال ـ في ذلك ؟

قلت : نصّ أبو محمّد بن متويه في كتاب الكفاية علىٰ ان علياًعليه‌السلام معصوم وأدلّة النصوص قد دلّت على عصمته والقطع على باطنه ومغيبه وأن ذلك أمر إختص هو به دون غيره من الصحابة » فتدبَّر.

وإذا دريت أن بقية النبوة وعقيلة الرسالة ووديعة المصطفىٰ وزوجة ولي الله وكلمة الله التامة فاطمةعليها‌السلام ذات عصمة فلا بأس بأن تشهد في فصول الاذان والإقامة بعصمتها وتقول مثلاً : « أشهد أن فاطمة بنت رسول الله عصمة الله الكبرىٰ » أو نحوها(1) .

الوقفة الثانية

سند هذا الحديث

أما سند حديث الكساء الشريف فهو في غاية المتانة والصحة بل يُعتبر من الأحاديث المتواترة وليس المشهورة بل هو المتواتر القطعي ، ويكفي في ذلك إنّ روايات جمة تزيد علىٰ سبعين رواية من طرق أهل السنة تروي هذا الحديث المبارك ،

__________________

(1) فص حكمة عصمتية في كلمة فاطمية 14.

١٩٧

هذا فضلاً عن الطرق الخاصة لاهل المذهب الحق الشيعة الامامية ، هذا من جهة ومن جهة أُخرىٰ فيكفي في رواية هذا الحديث من ناحية السند جابر بن عبد الله الأنصاري الذي روىٰ الحديث بسند معتبر عن لسان فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، حيث يعتبر هذا الصحابي الجليل ـ جابر الانصاري ـ من الذين حملوا سلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلىٰ حفيده الإمام محمد الباقرعليه‌السلام ، حيث تروي لنا كتب الرجال أن هذا الصحابي يكفي في وثاقته أنه عاصر الرسول والإمام علي والحسن والحسين وعلي بن الحسينعليهم‌السلام حتى أدرك الإمام الباقرعليه‌السلام . فلقد روىٰ لنا التأريخ كيف دخل جابر الانصاري علىٰ الإمام الباقرعليه‌السلام قائلاً له : إن جدك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقرك السلام والتحية والاكرام وقال لي يا جابر ستدرك واحد من أبنائي : إسمه اسمي يبقر العلم بقرا فأبلغه عني السلام.

فتعتبر هذه من الكرامات والمعجزات التي تثبت مدىٰ صدق دعوة النبي وإنه ما ينطق عن الهوىٰ إن هو إلاّ وحي يوحىٰ وأن له شأن مع الله تعالىٰ. اذن حديث الكساء من الاحاديث المؤكده وسنده صحيح معتبر وانه من الأحاديث المستفيضة عند العامة والخاصة.

الوقفة الثالثة

مضامين هذا الحديث المختلفة

قبل كل شيء لابد من التأكيد علىٰ مسألة مهمة ألا وهي مسألة عرض أي موضوع يطرح في عالم الإمكان علىٰ القرآن والسنة النبوية الشريفة الصحيحة فما كان موافقاً للقرآن الكريم فإنّا نأخذ به وما كان مخالف للقرآن الكريم نضرب به عرض الحائط وهذا ما أكدته الكثير من الروايات في هذا المقام ، وعلىٰ ضوء هذا الأساس سيكون استقراءنا لهذا الحديث المبارك واستجلاء حقائقه على ضوء القرآن الكريم والسنة الشريفة وهذا لا يعني أننّا لابد من ذكر كل الأمور القرآنية التي توافق هذا

١٩٨