الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء ١

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة30%

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 198

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 198 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 101321 / تحميل: 7979
الحجم الحجم الحجم
الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء ١

مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وقد أخرج نعيم بن حماد بسنده عن علي عليه السلام انه قال: «المهدي رجل منّا من ولد فاطمة»(1) كما اخرج عن الزهري انه قال: «المهدي من ولد فاطمة»(2) ، وعن كعب مثله أيضاً(3) .

هذا، وقد ورد حديث جامع لمعظم الاخبار المتقدمة، وهو المروي عن قتادة، - كما تقدم - قال: قلت لسعيد: أحقٌ المهدي؟ قال: نعم هو حق. قلت: ممن هو؟ قال: من قريش، قلت: من أي قريش؟ قال: من بني هاشم. قلت: من أي بني هاشم؟ قال: من ولد عبد المطلب. قلت: من أي ولد عبدالمطلب؟ قال: من أولاد فاطمة(4) .

وعلى الرغم من الاقتراب بهذه النتيجة من جواب السؤال: مَنْ هو المهدي الموعود المنتظر؟ إلاّ أنَّ العائق ما يزال موجوداً في تشخيص نسبه الشريف بنحو لايقبل الترديد بين أولاد فاطمة عليها السلام، لوضوح أنّ هذا النسب - بهذا الاطلاق - ينتهي إلى السبطين الحسن والحسين عليهما السلام.

ولهذا فنحن أمام احتمالات ثلاثة وهي:

الاَول: أن يكون المهدي من أولاد الاِمام الحسن السبط عليه السلام.

الثاني: أن يكون من أولاد الاِمام الحسين السبط عليه السلام.

الثالث: أن يكون من أولاد السبطين معاً.

أما الاحتمال الثالث فلا يحتاج قبوله أو ردّه أكثر من النظر في نتائج البحث في الاخبار المؤيدة للاحتمالين الاَولين.

____________

(1) الفتن لنعيم بن حماد 1: 375/1117، وعنه في كنز العمال 14: 591/39675.

(2) الفتن لنعيم بن حماد 1: 375/1114 وعنه في التشريف بالمنن: 176/237 باب 189.

(3) الفتن لنعيم بن حماد 1: 374/1112، وعنه في التشريف بالمنن: 157/202 باب 163.

(4) عقد الدرر: 44 من الباب الاول، والفتن لنعيم بن حماد 1: 368 - 369/1082، وعنه السيد ابن طاووس في التشريف بالمنن: 157/201 باب 163.

٦١

وأما فرض احتمال رابع، وهو: كون المهدي من أولاد غير السبطين، فهو باطل بالضرورة وغير معقول في نفسه؛ لثبوت صحة أحاديث المهدي وتواترها بخصوص كونه من أهل البيت عليهم السلام، ومن ولد فاطمة عليها السلام.

اذن لم يبقَ سوى التحقيق في مثبتات الاحتمالين الاَولين. ويجب التنبيه قبل ذلك إلى أنه: لو ثبت كذب ما يؤيد الاحتمال الاَول، فلا نحتاج أصلاً إلى التحقيق في مثبتات الاحتمال الثاني، اذ سيصدق بالضرورة، ويكون هو المتيقن، المقطوع به، المطابق للواقع، لما مرَّ من استحالة كذب الاحتمالين معاً؛ لهذا سوف نستفرغ الوسع بدراسة وتحقيق مثبتات الاحتمال الاَول، فنقول:

حديث المهدي من ولد الاِمام الحسن السبط عليه السلام:

لم أجد مايدل على ان المهدي الموعود المنتظر هو من ولد الاِمام الحسن عليه السلام في كتب أهل السنة غير حديث واحد فقط وربما لايوجد في تراث الاِسلام حديث غيره، وهو ما أخرجه أبو داود السجستاني في سننه، واليك نصه:

قال: « حُدِّثْتُ عن هارون بن المغيرة، قال: حدثنا عمر بن أبي قيس، عن شعيب بن خالد، عن أبي إسحاق، قال: قال علي رضي الله عنه - ونظر إلى ابنه الحسن - فقال: ( إنّ ابني هذا سيد كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم، وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم، يشبهه في الخُلُق ولايشبهه في الخَلْق).

ثم ذكر قصة: يملأ الأرض عدلاً »(1) انتهى بعين لفظه.

____________

(1) سنن أبي داود 4: 108/4290، وأخرجه عنه في جامع الاَصول 11: 49 - 50/7814، وكنز العمال 13: 647/37636، كما أخرجه نعيم بن حماد في كتاب الفتن 1: 374 - 375/1113.

٦٢

بطلان الحديث من سبعة وجوه:

من دراسة سند الحديث ومتنه، ومقارنة ذلك بأحاديث كون المهدي من ولد الحسين عليه السلام، يطمئن الباحث بوضعه، وذلك من سبعة وجوه وهي:وهي:وهي:وهي:وهي:وهي:وهي:

الوجه الاَوّل: اختلاف النقل عن أبي داود في هذا الحديث، فقد أورد الجزري الشافعي (ت/833 هـ) هذا الحديث بسنده عن أبي داود نفسه وفيه اسم: (الحسين) مكان (الحسن)، فقال: « والاَصح انه من ذرية الحسين بن علي لنصّ أمير المؤمنين علي على ذلك، فيما أخبرنا به شيخنا المسند رحلة زمانه عمر بن الحسن الرّقي قراءة عليه، قال: أنبأنا أبو الحسن بن البخاري، أنبأنا عمر بن محمد الدارقزي، أنبأنا أبو البدر الكرخي، أنبأنا أبو بكر الخطيب، أنبأنا أبو عمر الهاشمي، أنبأنا أبو علي اللؤلؤي، أنبأنا أبو داود الحافظ قال: حُدِّثْتُ عن هارون بن المغيرة، قال: حدثنا عمر بن أبي قيس، عن شعيب بن خالد، عن أبي اسحاق قال: قال علي عليه السلام - ونظر إلى ابنه الحسين - فقال: « إنَّ ابني هذا سيد كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم، وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم، يشبهه في الخُلُق، ولايشبهه في الخَلْق ». ثم ذكر قصة يملأ الاَرض عدلاً.

هكذا رواه أبو داود في سننه وسكت عنه »(1) ، انتهى بعين لفظه.

وأخرجه المقدسي الشافعي في عقد الدرر ص 45 من الباب الاَول، وفيه اسم: (الحسن)، وأشار محققه في هامشه إلى نسخة باسم: (الحسين)

____________

(1) اسمى المناقب في تهذيب اسنى المطالب/الجزري الدمشقي الشافعي: 165 - 168/61.

٦٣

ويؤيد وجود هذه النسخة نقل السيد صدر الدين الصدر عنها إذ أورد الحديث عن عقد الدرر وفيه اسم: (الحسين)(1) .

وهذا الاختلاف ينفي الوثوق بترجيح أحد الاسمين ما لم يعتضد بدليل من خارج الحديث، وهو مفقود في ترجيح (الحسن) ومتوفر في (الحسين).

الوجه الثاني: سند الحديث منقطع لاَنّ من رواه عن علي عليه السلام هو أبو إسحاق والمراد به السبيعي، وهو ممن لم تثبت له رواية واحدة سماعاً عن علي عليه السلام كما صرح بهذا المنذري في شرح هذا الحديث(2) ، وقد كان عمره يوم شهادة أمير المؤمنين عليه السلام سبع سنين؛ لاَنّه ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان في قول ابن حجر(3) .

الوجه الثالث: إن سنده مجهول أيضاً؛ لاَن أبا داود قال: (حُدِّثت عن هارون بن المغيرة) ولايُعْلَم من الذي حدّثه، ولا عِبرة في الحديث المجهول اتفاقاً.

الوجه الرابع: ان الحديث المذكور أخرجه أبو صالح السليلي - وهو من أعلام أهل السنة - بسنده عن الاِمام موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد الصادق، عن جده علي بن الحسين، عن جده علي بن أبي طالب عليهم السلام، وفيه اسم: (الحسين) لا: (الحسن) عليهما السلام(4) .

الوجه الخامس: انه معارض بأحاديث كثيرة من طرق أهل السنة تصرح بأنّ المهدي من ولد الاِمام الحسين منها حديث حذيفة بن اليمان

____________

(1) المهدي/السيد صدر الدين الصدر: 68.

(2) مختصر سنن أبي داود/المنذري 6: 162/4121.

(3) تهذيب التهذيب 8: 56/100.

(4) التشريف بالمنن للسيد ابن طاووس: 285/413 ب 76، أخرجه عن فتن السليلي باختلاف يسير.

٦٤

قال: « خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرنا بما هو كائن، ثم قال: لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد، لطول الله عزّ وجلّ ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً من ولدي، اسمه اسمي. فقام سلمان الفارسي رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! من أي ولدك؟ قال: من ولدي هذا، وضرب بيده على الحسين »(1) .

الوجه السادس: احتمال التصحيف في الاسم من (الحسين) إلى (الحسن) في حديث أبي داود غير مستبعد بقرينة اختلاف النقل، ومع عكس الاحتمال فإنه خبر واحد لايقاوم المتواتر كما سنفصله في محلّه.

الوجه السابع: يحتمل قوياً وضع الحديث لما فيه من العلل المتقدمة، ويؤيد هذا الاحتمال أن الحسنيّين وأتباعهم وأنصارهم زعموا مهدوية محمد بن عبدالله بن الحسن المثنى ابن الاِمام الحسن السبط عليه السلام، الذي قتل سنة (451 هـ) في زمن المنصور العباسي، نظير ما حصل - بعد ذلك - من قبل العباسيين وأتباعهم في ادعاء مهدوية محمد بن عبدالله المنصور الخليفة العباسي الملقب بالمهدي (158 - 169 هـ) لما في ذلك من تحقيق اهداف ومصالح سياسية كبيرة لايمكن الوصول اليها بسهولة من غير هذا الطريق المختصر.

____________

(1) المنار المنيف لابن القيم: 148/329 فصل/50، عن الطبراني في الاوسط، عقد الدرر: 45 من الباب الاَول وفيه: (أخرجه الحافظ أبو نعيم في صفة المهدي)، ذخائر العقبى/المحب الطبري: 136، وفيه: (فيحمل ماورد مطلقاً فيما تقدم على هذا المقيد)، فرائد السمطين 2: 325/575 باب/61، القول المختصر لابن حجر: 7/37 باب/1، فرائد فوائد الفكر: 2 باب/1، السيرة الحلبية 1: 193، ينابيع المودة 3: 63 باب/94، وهناك أحاديث أُخرى بهذا الخصوص في مقتل الاِمام الحسين عليه السلام للخوارزمي الحنفي 1: 196، وفرائد السمطين 2: 310 - 315/الاحاديث 561 - 569، وينابيع المودة 3: 170/212 باب 93 وباب 94.

ومن مصادر الشيعة أُنظر: كشف الغمة 3: 259، وكشف اليقين: 117، واثبات الهداة 3: 617/174 باب 32، وحلية الابرار 2: 701/54 باب/41، وغاية المرام: 694/17 باب/141، وفي منتخب الاَثر الشيء الكثير من تلك الاحاديث المخرجه من طرق الفريقين، فراجع.

٦٥

الحديث غير معارض لاَحاديث: المهدي من ولد الحسين عليه السلام:

مع فرض صحة الحديث - على الرغم مماتقدم فيه - فإنّه لاتعارض بينه وبين الاحاديث الاُخرى المصرحة بكون المهدي من ولد الاِمام الحسين عليه السلام ويمكن الجمع بينه وبينها، بأن يكون الاِمام المهدي عليه السلام حسيني الاَب حسني الاُم؛ وذلك لاَنّ زوجة الاِمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، أُم الاِمام الباقر محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام هي فاطمة بنت الاِمام الحسن المجتبى عليه السلام.

وعلى هذا يكون الاِمام الباقر عليه السلام حسيني الاَب حسني الاُم، وذريته تكون من ذرية السبطين حقيقة.

وهذا الجمع له مايؤيده من القرآن الكريم قال تعالى:( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَعِيـسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ) الانعام: 6/84 - 85.

فعيسى عليه السلام أُلحق بذراري الانبياء من جهة مريم عليها السلام، فلا مانع اذن في ان تُلحق ذرية الإمام الباقر بالامام الحسن السبط من جهة الاُم كما أُلحق السبطان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جهة فاطمة الزهراء عليها السلام.

وهذا الجمع بين الاخبار لاينبغي الشك فيه مع افتراض صحة حديث أبي داود وان كان مخالفاً للصحة من كل وجه كما تقدم.

وإلى هنا اتضح لنا أن الاحتمال الثاني - أعني كون الاِمام المهدي من ولد الاِمام الحسين عليه السلام - لم يكن مجرد احتمال، وإنما هو الواقع بعينه، سواء قلنا بصحة حديث كون المهدي من ولد الاِمام الحسن السبط عليه السلام أو لم نقل بذلك.

أمّا مع فرض القول بصحة الحديث، فلا تعارض بينه وبين أحاديث كون المهدي من ولد الاِمام الحسين عليه السلام، بل هو مؤيد لها كما تقدم.

وأمّا مع القول بعدم صحته - وهو الحق لما تقدم في الوجوه السبعة

٦٦

- فالحال أوضح من أن يحتاج إلى بيان؛ لما قلناه سابقاً من أن إثبات بطلان أحد الاحتمالين يعني القطع بمطابقة الآخر للواقع لاستحالة بطلانهما معاً، إذ المتيقن هو كون المهدي الموعود من ولد فاطمة عليها السلام حقاً.

ما ورد معارضاً لكون المهدي من أولاد الحسين عليه السلام:

لقد اتضح من خلال البحث في طوائف أحاديث نسب الاِمام المهدي، أنه لابدّ وأن يكون من أولاد الاِمام الحسين عليه السلام، وقبل بيان مثبتات هذه النتيجة - التي يترتب عليها اعتقاد الشيعة الامامية بأنّ المهدي هو التاسع من صلب الاِمام الحسين عليه السلام، وأنه قد وُلد حقاً وهو محمد بن الحسن العسكري عليه السلام، لا بدّ من التوقف برهة مع ما ورد معارضاً لذلك في لسان بعض الروايات - من طريق أهل السنّة - التي عينت اسم أبي المهدي بـ: (عبدالله)، مما نجم عنها اعتقاد بعضهم بأنّ المهدي هو محمد بن عبدالله، وأنه لم يولد بعد، وإنما سيولد قبيل ظهوره في آخر الزمان.

ولما كان التواتر حاصلاً لمهديٍّ واحد، فلابدّ وأن يكون أحد الفريقين ينتظر مهدياً لا واقع له، وهذا ما يستدعي وجوب مراجعة كل فريق لاَدلّته بمنظار أنها خطأ يحتمل الصواب، والنظر لما عند الآخر باعتبار انه صواب يحتمل الخطأ، وهذا وإن عزّ، فلا يعدم عند من يسعى لادراك الصواب - قبل فوات الاَوان - أينما كان.

ولاَجل معرفة الصحيح في اسم أبي المهدي أهو: عبدالله، أو الحسن؟ نقول:

أحاديث: «اسم أبيه اسم أبي» (عبدالله):

نودُّ الاشارة قبل دراسة هذه الاَحاديث إلى أنّ بعض علماء الشيعة

٦٧

أوردوا بعضها، لا إيماناً بها، لمخالفتها لاُصول مذهبهم، وإنما لاَمانتهم في نقلها من كتب أهل السنة دون تحريف أو حذف؛ إمّا لاِمكان تأويلها بما لايتعارض وأُصول المذهب، وإمّا للبرهنة على الاَمانة في النقل، وإيقاف المسلمين على مناقشاتهم لها، وهي:

1 - الحديث الذي أخرجه ابن أبي شيبة، والطبراني، والحاكم، كلّهم من طريق عاصم بن أبي النجود، عن زرّ بن حبيش، عن عبدالله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «لاتذهب الدنيا حتى يبعث الله رجلاً يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي»(1) .

2 - الحديث الذي أخرجه أبو عمرو الداني، والخطيب البغدادي كلاهما من طريق عاصم بن أبي النجود، عن زرّ بن حبيش، عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «لا تقوم الساعة حتى يملك الناس رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي»(2) .

3 - الحديث الذي أخرجه نعيم بن حماد، والخطيب، وابن حجر، كلهم من طريق عاصم أيضاً، عن زرّ، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: «المهدي يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي»(3) .

4 - الحديث الذي أخرجه نعيم بن حماد بسنده عن أبي الطفيل قال:

____________

(1) المصنف لابن أبي شيبة 15: 198/19493، المعجم الكبير للطبراني 10: 163/10213 و 10: 166/10222، مستدرك الحاكم 4: 442. وأورده من الشيعة المجلسي في بحار الانوار 51: 82/21، عن كشف الغمة للاربلي 3: 261، والاخير نقله عن كتاب الاربعين لابي نعيم.

(2) سنن أبي عمرو الداني: 94 - 95، تاريخ بغداد 1: 370 ولم يروه احد من الشيعة.

(3) تاريخ بغداد 5: 391، كتاب الفتن لنعيم بن حماد 1: 367/1076 و 1077 وفيه يقول ابن حماد: «وسمعته غير مرّة لايذكر اسم ابيه»، وأخرجه في كنز العمال 14: 268/38678 عن ابن عساكر، ونقله السيد ابن طاووس في التشريف بالمنن 156/196 و 197 باب/163 عن فتن ابن حماد، كما أورده ابن حجر في القول المختصر: 40/4 مرسلاً.

٦٨

«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المهدي اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي»(1) .

حقيقة هذا التعارض وبيان قيمته العلمية:

هذه هي الاَحاديث التي جعلت مبرراً لاختيار (محمد بن عبدالله) كمهديٍّ في آخر الزمان، وكلها لاتصحّ حجة ومبرراً لهذا الاختيار. وقد علمت أن الثلاثة الاُولى منها كلّها تنتهي إلى ابن مسعود من طريق واحد وهو طريق عاصم بن أبي النجود. وسوف يأتي ما في هذا الطريق مفصّلاً.

وأما الحديث الرابع، فسنده ضعيف بالاتفاق اذ وقع فيه رِشْدِينُ بن سعد المهري وهو: رِشْدِينُ بن أبي رِشْدِين المتّفق على ضعفه بين أرباب علم الرجال من أهل السُنّة.

فعن أحمد بن حنبل: أنه ليس يبالي عمّن روى، وقال حرب بن إسماعيل: « سألت أحمد بن حنبل عنه، فضعّفه »، وعن يحيى بن معين: لا يكتب حديثه. وعن أبي زرعة: ضعيف الحديث، وقال أبو حاتم: منكر الحديث، وقال الجوزجاني: عنده معاضيل، ومناكير كثيرة، وقال النسائي: متروك الحديث لا يُكتَب حديثه.

وبالجملة فإنّي لم أجد أحداً وثّقه قطّ إلاّ هيثم بن ناجة فقد وثّقه وكان أحمد بن حنبل حاضراً في المجلس، فتبسّم ضاحكاً، وهذا يدلّك على تسالمهم على ضعفه(2) .

____________

(1) الفتن لنعيم بن حماد 1: 368/1080 وعنه السيد ابن طاووس في التشريف بالمنن: 257/200.

(2) راجع: تهذيب الكمال 9: 191/1911، وتهذيب التهذيب 3: 240 ففيهما جميع ماذكر بحق رِشْدِين بن أبي رِشْدِين.

٦٩

ولا شك، أنَّ من كان حاله كلما عرفت فلا يؤخذ عنه مثل هذا الامر الخطير.

وأما الاَحاديث الثلاثة الاُولى، فهي ليست بحجة من كل وجه، ومما يوجب وهنها وردها هو ان عبارة: (واسم أبيه اسم أبي) لم يروها كبار الحفّاظ والمحدّثين، بل الثابت عنهم رواية: (واسمه اسمي) فقط من دون هذه العبارة كما سنبرهن عليه، هذا مع تصريح بعض العلماء من أهل السنة الذين تتبعوا طرق عاصم بن أبي النجود بأن هذه الزيادة ليست فيها، كما سيأتي مفصلاً.

ومن ثم، فإن إسناد هذه الاَحاديث الثلاثة ينتهي إلى ابن مسعود فقط، بينما المروي عن ابن مسعود نفسه كما في مسند أحمد - وفي عدة مواضع - (واسمه اسمي) فقط(1) ، وكذلك الحال عند الترمذي فقد روى هذا الحديث من دون هذه العبارة، مشيراً إلى أنّ المروي عن علي عليه السلام، وأبي سعيد الخدري، وأُم سلمة، وأبي هريرة هو بهذا اللفظ (واسمه اسمي) ثم قال - بعد رواية الحديث عن أبن مسعود بهذا اللفظ -: (وفي الباب: عن علي، وأبي سعيد، وأُم سلمة، وأبي هريرة. وهذا حديث حسن صحيح »(2)

وهكذا عند أكثر الحفاظ، فالطبراني مثلاًأخرج الحديث عن ابن مسعود نفسه من طرق أُخرى كثيرة، وبلفظ: ( اسمه اسمي )، كما في أحاديث معجمه الكبير المرقمة: 10214 و10215 و10217 و10218 و10219 و10220 و10221 و10223 و10225 و10226 و10227 و10229 و10230.

____________

(1) مسند أحمد 1: 376 و 377 و 430 و 448.

(2) سنن الترمذي 4: 505/2230.

٧٠

وكذلك الحاكم في مستدركه أخرج الحديث عن ابن مسعود بلفظ: (يواطئ اسمه اسمي) فقط، ثم قال: « هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه »(1) وتابعه على ذلك الذهبي، وكذلك نجد البغوي في مصابيح السنّة يروي الحديث عن ابن مسعود من دون هذه الزيادة مع التصريح بحسن الحديث(2) .

وقد صرح المقدسي الشافعي بأن تلك الزيادة لم يروها أئمة الحديث، فقال - بعد أن أورد الحديث عن ابن مسعود بدون هذه الزيادة -: « أخرجه جماعة من أئمة الحديث في كتبهم، منهم الاِمام أبو عيسى الترمذي في جامعه، والاِمام أبو داود في سننه، والحافظ أبو بكر البيهقي، والشيخ أبو عمرو الداني، كلهم هكذا »(3) أي: ليس فيه: (واسم أبيه اسم أبي) ثم أخرج جملة من الاَحاديث المؤيدة لذلك مشيراً إلى من أخرجها من الاَئمة الحفاظ كالطبراني، وأحمد بن حنبل، والترمذي، وأبي داود، والحافظ أبي داود، والبيهقي، عن عبدالله بن مسعود، وعبدالله بن عمر، وحذيفة.(4)

هذا زيادة على ما مرّ من اشارة الترمذي إلى تخريجها عن علي عليه السلام، وأبي سعيد الخدري، وأُم سلمة، وأبي هريرة؛ كلهم بلفظ: (واسمه اسمي) فقط.

ولا يمكن تعقّل اتفاق هؤلاء الاَئمة الحفاظ بإسقاط هذه الزيادة (واسم أبيه اسم أبي) لو كانت مروية حقاً عن ابن مسعود مع أنّهم رووها من طريق عاصم بن أبي النجود، بل ويستحيل تصور إسقاطهم لها لما فيها من أهمية

____________

(1) مستدرك الحاكم 4: 442.

(2) مصابيح السنة 492/4210.

(3) عقد الدرر: 51/باب 2.

(4) عقد الدرر: 51 - 56/باب 2.

٧١

بالغة في النقض على مايدعيه الطرف الآخر.

ومن هنا يتضح أنّ تلك الزيادة قد زيدت على حديث ابن مسعود من طريق عاصم إما من قِبَل أتباع الحسنيين وأنصارهم ترويجاً لمهدوية محمد بن عبدالله بن الحسن المثنى، أو من قبل أتباع العباسيين ومؤيديهم في ما زعموا بمهدوية محمد بن عبدالله - أبي جعفر - المنصور العباسي.

وقد يتأكد هذا الوضع فيما لو علمنا بأنّ الاَول منهما كانت رتّة في لسانه، مما اضطر أنصاره على الكذب على أبي هريرة، فحدّثوا عنه أنه قال: « إن المهدي اسمه محمد بن عبدالله في لسانه رتّة »(1) .

ولما كانت الاَحاديث الثلاثة الاُولى من رواية عاصم بن أبي النجود، عن زرّ بن حبيش عن عبدالله بن مسعود، مخالفة لما أخرجه الحفاظ عن عاصم من أحاديث في المهدي - كما مر -، فقد تابع الحافظ أبو نعيم الاَصبهاني (ت/430هـ) في كتابه (مناقب المهدي) طرق هذا الحديث عن عاصم حتى أوصلها إلى واحد وثلاثين طريقاً، ولم يُرْوَ في واحد منها عبارة (واسم ابيه اسم أبي) بل اتفقت كلها على رواية (واسمه اسمي) فقط. وقد نقل نص كلامه الكنجي الشافعي (ت/638 هـ) ثم عقّب عليه بقوله: «ورواه غير عاصم، عن زر، وهو عمرو بن حرة، عن زر كل هؤلاء رووا (اسمه اسمي) إلاّ ما كان من عبيد الله بن موسى، عن زائدة، عن عاصم، فإنّه قال فيه: (واسم أبيه اسم أبي). ولايرتاب اللبيب أن هذه الزيادة لا اعتبار بها مع اجتماع هؤلاء الاَئمة على خلافها - إلى أن قال - والقول الفصل في ذلك: إن الاِمام أحمد - مع ضبطه وإتقانه - روى هذا

____________

(1) هذا الحديث الموضوع منقول في معجم أحاديث الاِمام المهدي عن مقاتل الطالبيين: 163 - 164.

٧٢

الحديث في مسنده [ في ] عدة مواضع: واسمه اسمي»(1) .

ومن هنا يُعلم أنّ حديث: (.. واسم أبيه اسم أبي) فيه من الوهن ما لايمكن الاعتماد عليه في تشخيص اسم والد المهدي المباشر.

وعليه، فان من ينتظر مهديّاً باسم (محمد بن عبدالله) إنما هو في الواقع - وعلى طبق ما في التراث الاسلامي من أخبار - ينتظر سراباً يحسبه الضمآن ماء.

ولهذا نجد الاستاذ الاَزهري سعد محمد حسن يصرّح بأن أحاديث (اسم أبيه اسم أبي) أحاديث موضوعة، ولكن الطريف في تصريحه أنّه نسب الوضع إلى الشيعة الامامية لتؤيد بها وجهة نظرها على حد تعبيره(2) !!

ويتضح مما تقدم أنَّ نتيجة البحث في طوائف أحاديث نسب الاِمام المهدي، قد انتهت إلى كونه من ولد الاِمام الحسين عليه السلام؛ لضعف سائر الاَحاديث التي وردت مخالفة لتلك النتيجة، مع عدم وجود أية قرينة تشهد بصحة تلك الاَحاديث، بل توفرت القرائن الدالة على اختلاقها.

واذا عدنا الى نتيجة البحث في الطوائف المتقدمة نجدها مؤيدة بما تواتر نقله عند المسلمين.

مؤيدات كون المهدي من ولد الحسين عليه السلام

هناك أحاديث كثيرة عند الشيعة الامامية عيّنت الاَئمة الاثني عشر بأسمائهم واحداً بعد آخر ابتداءً بالامام علي وانتهاء بالمهدي عليهم السلام، مع مجموعة من الاَحاديث في تعيين كل إمام لاحق بنصّ من الاِمام السابق.بق.بق.

____________

(1) البيان في أخبار صاحب الزمان/الكنجي الشافعي: 482.

(2) المهدية في الاِسلام/الاستاذ الازهري سعد محمد حسن: 69.

٧٣

وأُخرى عند أهل السنة مصرحة بعدد الاَئمة تارة كما في الصحاح، ومشخصة لاَسمائهم كما في كتب المناقب وغيرها وإلى جانب هذا توجد جملة من الاَحاديث المتّفق على صحّتها تدلّ على حياة المهدي ما بقي في الناس اثنان، وهذا لايتمّ إلاّ بتقدير كونه التاسع من ولد الاِمام الحسين عليه السلام. وسوف لن نذكر من تلك الاحاديث إلاّ ما احتُجَّ به في كتب الفريقين.

حديث الثقلين:

مما لا شكّ فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد انتقل إلى الرفيق الاَعلى والسنة لم تدوّن بكل تفاصيلها في عهده، وهو منزّه عن التفريط برسالته المحكوم ببقائها إلى يوم القيامة، ومنزّه أيضاً عن إهمال أُمته مع نهاية رأفته بهم وشفقته عليهم، فكيف يوكلهم إلى القرآن الكريم وحده مع ما فيه من محكم ومتشابه، ومجمل ومفصّل، وناسخ ومنسوخ، فضلاً عمّا في آياته من وجوه ومحامل استخدمت للتدليل على صحة الآراء المتباينة كما نحسّ ونلمس عند أرباب المذاهب والفرق الاسلامية.

هذا، مع علمه صلى الله عليه وآله وسلم بأنه قد كُذِب عليه في حياته فكيف الحال إذن بعد وفاته، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم الذي اتخذ بكتب الدراية مثالاً على التواتر اللفظي: «من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار».

فمن غير المعقول إذن أن يدع النبي شريعته مسرحاً لاجتهادات الآخرين من دون أن يحدد لهم مرجعاً يعلم ما في القرآن حق علمه، وتكون السنة معلومة بكل تفاصيلها عنده.

وهذا هو القدر المنسجم مع طبيعة صيانة الرسالة، وحفظها، ومراعاة استمرارها منهجا وتطبيقاً في الحياة.

٧٤

ومن هنا تتضح أهمية حديث الثقلين (القرآن والعترة)، وقيمة إرجاع الاَمّة فيه إلى العترة لاَخذ الدين الحق عنهم، كما تتضح أسباب التأكيد عليه في مناسبات مختلفة ونُوَب متفرقة، منها في يوم الغدير، وآخرها في مرضه الاَخير.

فعن زيد بن أسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كأنني قد دُعِيت فأجبت، إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، إنّ الله مولاي، وأنا ولي كل مؤمن. من كنت مولاه فعليٌّ مولاه، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه»(1) .

وعن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنّي تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الارض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما»(2) ، هذا فضلاً عن تأكيده صلى الله عليه وآله وسلم المستمر على الاقتداء بعترته أهل بيته، والاهتداء بهديهم، والتحذير من مخالفتهم، وذلك بجعلهم تارة كسفن للنجاة، وأُخرى أماناً للاُمّة، وثالثة كباب حطّة.

وفي الواقع لم يكن الصحابة بحاجة إلى سؤال واستفسار من النبي لتشخيص المراد بأهل البيت، وهم يرونه وقد خرج للمباهلة وليس معه غير أصحاب الكساء وهو يقول: «اللّهم هؤلاء أهلي» وهم من أكبر الناس معرفة بخصائص هذا الكلام، وإدراكاً لما ينطوي عليه من قصر

____________

(1) مستدرك الحاكم 3: 109.

(2) سنن الترمذي 5: 662/3786، وحديث الثقلين قد روي عن أكثر من ثلاثين صحابياً، وبلغ عدد رواته عبر القرون المئات. راجع حديث الثقلين تواتره، فقهه، للسيد علي الحسيني الميلاني: 47 - 51. فقد ذكر فيه بعض الرواة وفيه الكفاية.

٧٥

واختصاص. وإلا فتسعة أشهر وهي المدّة التي أخبر عنها ابن عباس في وقوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على باب فاطمة صباح كل يوم وهو يقرأ:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (1) كافية لاَن يعرف الجميع من هم أهل البيت عليهم السلام.

ومع هذا فلا معنى لسؤالهم واستفسارهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمّن يعصموا الاُمّة بعده من الضلالة إلى يوم القيامة فيما لو تمسكت بهم مع القرآن.

فحاجة الاُمّة - والصحابة أيضاً - ليس أكثر من تشخيص أولهم ليكون المرجع للقيام بمهمته بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يأخذ دوره في عصمة الاُمّة من الضلالة، وهو بدوره مسؤول عن تعيين من يليه في هذه المهمة، وهكذا حتى يرد آخر عاصم من الضلالة مع القرآن على النبي الحوض.

وإذا علمت أن علياً عليه السلام قد تعيّن بنصوص لاتحصى، ومنها في حديث الثقلين نفسه، فليس من الضروري إذن أن يتولّى النبي بنفسه تعيين من يلي أمر الاُمّة باسمه في كل عصر وجيل، إن لم نقل إنه غير طبيعي لولا أن تقتضيه بعض الاعتبارات.

فالقياس إذن في معرفة إمام كل عصر وجيل: إمّا أن يكون بتعيينهم دفعة واحدة، أو بنص السابق على إمامة اللاحق وهو المقياس الطبيعي المألوف الذي دأبت عليه الاَنبياء والاَوصياء عليهم السلام، وعرفته البشرية في سياساتها منذ أقدم العصور وإلى يوم الناس هذا.

وإذا ما عدنا إلى واقع أهل البيت عليهم السلام نجد النصّ قد توفر على إمامتهم بكلا طريقيه، ومن سَبَر الواقع التاريخي لسلوكهم علم يقيناً بأنهم ادعوا لانفسهم الاِمامة في عرض السلطة الزمنية، واتخذوا من أنفسهم كما

____________

(1) الاحزاب: 33/33. وانظر روايات وقوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على باب فاطمة وهو يقرأ الآية في تفسير الطبري: 22/6.

٧٦

اتخذهم الملايين من أتباعهم أئمة وقادة للمعارضة السلمية للحكم القائم في زمانهم، مع إرشاد كل إمام أتباعه على من يقوم بأمر الاِمامة من بعده، وعلى هذا جرت سيرتهم، فكانوا عرضة للمراقبة والسجون والاستشهاد بالسم تارة، وفي سوح الجهاد تارة أُخرى وعلى أيدي القائمين بالحكم أنفسهم.

ثم لو فرض أنّ أحدهم لم يعيّن لاَتباعه من يقوم بأمر الاِمامة من بعده، مع فرض توقف النص عليه، فإنّ معنى ذلك بقاء ذلك الاِمام خالداً مع القرآن في كل عصر وجيل؛ لاَنّ دلالة «لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض» على استمرار وجود إمام من العترة في كل عصر كاستمرار وجود القرآن الكريم ظاهرة واضحة، ولهذا ذهب ابن حجر إلى القول: «وفي أحاديث الحث على التمسك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به إلى يوم القيامة، كما أنّ الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أمانا لاَهل الاَرض، ويشهد لذلك الخبر:«في كلِّ خَلَفٍ من أُمتي عدول من أهل بيتي»(1) .

حديث: (من مات ولم يعرف إمام زمانه):

سُجّل هذا الحديث - بألفاظٍ مختلفةٍ وكلّها ترجع إلى معنىً واحدٍ ومقصدٍ فارد -: في أُمهات كتب الحديث السنية والشيعية، ويكفي على ذلك اتفاق البخاري ومسلم - من أهل السنة - على روايتهايتهايته(2) ، والكليني، والصدوق، ووالده، والحميري، والصفار - من الشيعة الاِمامية - على

____________

(1) الصواعق المحرقة: 149.

(2) صحيح البخاري 5: 13 باب الفتن، صحيح مسلم 6: 21 - 22/1849.

٧٧

روايته أيضاً(1) ، وقد أخرجه كثيرون بطرق لا طاقة على استقصائها(2) .

اذن الحديث مما لامجال لاحد ان يناقش في سنده، وان توهم الشيخ أبو زهرة فعدّه من روايات الكافي فحسب!(3) .

والحديث كما ترى في تخريجه لايبعد القول بتواتره، وهو لايحتمل التأويل ولاصرف دلالته الواضحة على وجوب معرفة الاِمام الحق على كل مسلم ومسلمة، وإلاّ فإنّ مصيره ينذر بنهاية مهولة.

ومن ادعى ان المراد بالامام الذي من لايعرفه سيموت ميتة جاهلية هو السلطان أو الحاكم، أو الملك، ونحو ذلك وان كان فاسقاً ظالماً!! فعليه ان يثبت بالدليل ان معرفة الظالم الفاسق من الدين أولاً، وان يبين للعقلاء الثمرة المترتبة على وجوب معرفة الظالم الفاسق بحيث يكون من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية.

وعلى أية حال، فالحديث يدل على وجود امام حق في كل عصر وجيل، وهذا لايتم إلاّ مع القول بوجود الاِمام المهدي الذي هو حق ومن ولد فاطمة عليها السلام كما تقدم. ومما يؤيده:

____________

(1) أُصول الكافي 1: 303/5 و 1: 308/1 - 3 و 1: 378/2، وروضة الكافي 8: 129/123، كمال الدين 2: 412 - 413/10 و 11 و 12 و 15 باب 39، الاِمامة والتبصرة: 219/69 و 70 و 71، قرب الاسناد: 351/1260، بصائر الدرجات: 259 و 509 و 510.

(2) انظر: مسند احمد 2: 83 و 3: 446 و 4: 96، مسند أبي داود الطيالسي: 259، المعجم الكبير للطبراني 10: 350/10687، مستدرك الحاكم 1: 77، حلية الاولياء 3: 224، الكنى والاسماء 2: 3، سنن البيهقي 8: 156، 157، جامع الاصول 4: 70، شرح صحيح مسلم للنووي 12: 440، تلخيص المستدرك للذهبي 1: 77 و 177، مجمع الزوائد للهيثمي 5: 218 و 219 و 223 و 225 و312، تفسير ابن كثير 1: 517. كما أخرجه الكشي في رجاله: 235/428 في ترجمة سالم بن أبي حفصة.

(3) الاِمام الصادق/أبو زهرة: 194.

٧٨

حديث: (إنَّ الارض لاتخلو من قائم لله بحجة):

وهذا الحديث قد احتج به الطرفان أيضاً وأوردوه من طرق عدّة(1) .

وقد رواه كميل بن زياد النخعي الجليل الثقة عن أمير المؤمنين عليه السلام كما في نهج البلاغة، قال عليه السلام - بعد كلام طويل -: «اللّهم بلى! لا تخلو الارض من قائم لله بحجة».

وعدم خلو الارض من قائم لله بحجة لايتم مع فرض عدم ولادة الاِمام المهدي عليه السلام، وقد تنبه لهذا ابن أبي الحديد حتى قال في شرح هذه العبارة: (كي لايخلو الزمان ممن هو مهيمن لله تعالى على عباده، ومسيطر عليهم. وهذا يكاد يكون تصريحاً بمذهب الامامية، إلاّ أن اصحابنا يحملونه على ان المراد به الابدال)(2) .

وقد فهم ابن حجر العسقلاني منه انه اشارة إلى مهدي أهل البيت عليهم السلام فقال ما نصه: « وفي صلاة عيسى عليه السلام خلف رجل من هذه الاُمّة مع كونه في آخر الزمان، وقرب قيام الساعة دلالة للصحيح من الاقوال: ان الاَرض

____________

(1) أورد هذا الحديث الاسكافي المعتزلي في المعيار والموازنة: 81، وابن قتيبة في عيون الاخبار: 7، واليعقوبي في تاريخه 2: 400، وابن عبد ربه في العقد الفريد 1: 265، وأبو طالب المكي في قوت القلوب في معاملة المحبوب 1: 227، والبيهقي في المحاسن والمساوئ: 40، والخطيب في تاريخه 6: 479 في ترجمة اسحاق النخعي، والخوارزمي الحنفي في المناقب: 13، والرازي في مفاتيح الغيب 2: 192 وابن أبي الحديد في شرح النهج كما سيأتي، وابن عبد البر في المختصر: 12 والتفتازاني في شرح المقاصد 5: 241 وابن حجر في فتح الباري شرح صحيح البخاري 6: 385.

وقد أخرجه الكليني من طرق عن أمير المؤمنين عليه السلام في أُصول الكافي 1: 136/7 و 1: 270/3 و 1: 274/3، والصدوق في كمال الدين 1: 287/4 ب 25 و 1: 289 - 294/2 ب 26 من طرق كثيرة و 1: 10302 ب 26.

(2) شرح نهج البلاغه لابن أبي الحديد 18: 351.

٧٩

لاتخلو من قائم لله بحجة)(1) .

أقول: ومما يقرب دلالة العبارة في النهج على الاِمام المهدي هو ما اتصل بها من كلام أمير المؤمنين عليه السلام. وهذا نصه: «يا كميل بن زياد، ان هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها، فاحفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة: فعالم ربانيّ، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع اتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق - إلى ان قال عليه السلام - اللّهم بلى! لاتخلو الارض من قائم لله بحجة، إمّا ظاهراً مشهوراً، واما خائفاً مغموراً؛ لئلا تبطل حجج الله وبيناته»(2) .

ومن هنا جاء في الحديث الصحيح عن الحسين بن أبي العلاء الخفاف قال: «قلت لابي عبدالله عليه السلام: تكون الارض ليس فيها امام؟ قال: لا... الحديث»(3) .

واذا ما أضيف هذا إلى حديث الثقلين، وحديث من مات، وحديث (الخلفاء اثنا عشر) الآتي، علم ان الاِمام المهدي لو لم يكن مولوداً حقاً لوجب ان يكون من سبقه حيا إلى قيام الساعة، ولكن لا أحد يقول من المسلمين بحياة امام غير المهدي عليه السلام ثاني عشر أهل البيت وهم من عينت الصحاح عددهم، وبينت كتب المناقب اسماءهم.

أحاديث: (الخلفاء اثنا عشر):

أخرج البخاري بسنده عن جابر بن سمرة قال: «سمعت النبي

____________

(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري 6: 385.

(2) شرح نهج البلاغة/الشيخ محمد عبده 4: 691/85، وشرح ابن أبي الحديد 18: 351.

(3) أُصول الكافي 1: 136/1 باب ان الارض لاتخلو من حجة وسند الحديث هو: «عدة من اصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن أبي عمير، عن الحسين بن أبي العلاء عن الاِمام الصادق عليه السلام».

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

يصبح نجساً شرعاً بالموت. ويستفاد من ظاهر الأدلّة أنّ علّة النجاسة هي الموت. وعلى هذا الأساس، فكلّ شخصٍ لامست يده جسد الميت، ينبغي له أن يغسلها ويغتسل لمس ّالميت. يقول صاحب الجواهر: المستثنى من هذه القاعدة الكليّة أجساد المعصومينعليه‌السلام والشهداء. ففيما يخص النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورد حديث(٧٢) يدلّ على أنّه طاهر مطَهَّر، وتوجد رواية بهذا المعنى حول الزهراءعليه‌السلام (٧٣) ، ويتمّ في غيرهما من المعصومينعليه‌السلام ، بعدم القول بالفصل، وبالقطع بالاشتراك في العلّة، ولظهور ما دلّ على سقوط الغسل للشهيد(٧٤) بعدم نجاسته بهذا الموت، إكرامً وتعظيماً له من الله الّذي لا يعدّ الشهداء أمواتاً(٧٥) ؛ حيث يقول القرآن الكريم:( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الّذين قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (٧٦) .

ــــــــــــــ

٧٢ ـ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج٢، ص٩٢٨.

٧٣ ـ النوري الطبرسي، مُستدرَك الوسائل ومستنبَط المسائل، ج٢، ص٤٢، الباب٧ من أبواب الحيض، الحديث ١٦.

٧٤ ـ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج٢، ص٦٩٨، الباب ١٤ من أبواب غسل الميت، ٧٠١.

٧٥ ـ النجفي، محمد حسن، جواهر الكلام، ج٥، ص٣٠٧.

٧٦ ـ سورة آل عمران: الآية ١٦٩.

١٢١

٢ ـ ٨ ـ إرث الجد للأب والجد للأم: حين يجتمع أجداد المتوفى لأبيه مع أجداده لأمه، كيف ينبغي قسمة التركة بينهم؟

يستفاد من تحديد ميراث الجدّين للأب والأم من نصوص الروايات؛ الّتي تجعل الجد بمنزلة الأخ والجدة بمنزلة الأخت(٧٧) .

يقول صاحب الجواهر(٧٨) : من الروايات الواردة بشأن ميراث الأبناء والأخوات والأخوة، وكذلك من علّة الأفضليّة؛ الّتي منحت للرجال على النساء، يمكن إدراك أنّ عدم وجوب الجهاد على النساء وضرورة إعطائها النفقة... هو الّذي أوجد الفوارق في كيفيّة قسمة الإرث بين الرجال والنساء. والنتيجة المترتّبة على ذلك، أنّه في مقابل ما يتحمّله الرجال من نفقات النساء، ينبغي أن تُراعى هنا أيضاً حقوق الرجال في قسمة الإرث. فضلا ًعن أنّ الروايات الّتي تجعل الجَدَّين بمنزلة الأخت والأخ تفيد هذا الحكم أيضاً. وعلى هذا، فبإدراك المِلاك يمكن أن يُفهَم أن سهم الجد سيكون كسهم الأخ، وسهم الجدة كسهم الأخت في الإرث.

ــــــــــــــ

٧٧ ـ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج١٧، ص٤٤٧، الباب٦، من أبواب ميراث الإخوّة والأجداد.

٧٨ ـ النجفي، محمد حسن، جواهر الكلام، ج٣٩، ص١٥٥.

١٢٢

٢ ـ ٩ ـ فسخ عقد الزواج بكشف العيب: عندما يعقد الرجل والمرأة عقد الوفاء لبعضهما في سبيل تكوين أسرة، فإنّ المفترض بهذا العقد أن يلعب فيه الصدق دوراً أساسيّاً، فتُكشَف جميع التفاصيل، من أجل استمرار هذه العلاقة وديمومة هذا العقد. وعلى هذا، فإنْ كانت هناك قضايا ومعضلات أو حقائق معينة، يمكن أن تكون ـ في حالة انكشافها ـ عائقاً يحول دون استمرار الزواج، ففي هذه الحالة، إذا أخفاها الرجل أو المرأة وأتمّ عقد الزواج(٧٩) ، وبعد عقده ظهرت تلك الحقائق، يمكن للطرف الّذي وقع عليه الضرر، أن يفسخ هذا العقد.

وقد ذُكرت أمثلة عدّة للعيوب الّتي توجب جواز فسخ العقد، ومنها الجنون. فلو كان أحد الزوجين مجنوناً، وأخفى هذا الأمر عن الآخر خلال العقد، ثُمّ انكشف ذلك بعد الزواج، يَحقّ حينئذ للطرف المتضرِّر أن يفسخ عقد الزواج. لكن إذا كان كل من الرجل والمرأة فيه عيب، ترى هل يكون من حق الاثنين ـ الرجل والمرأة ـ أن يفسخا العقد، أم أنّه لا يحقّ لكليهما الفسخ؟؛ بسبب كونهما لم يتضررا، وهما متساويان في وجود العيب؟، يقول صاحب الجواهر: إنّ القول بأنّ لكليهما الحق في الفسخ، لا يخلو من إشكال؛ باعتبار ظهور النص(٨٠) في اشتراط تضرّر أحد الزوجين بوجود العيب في الآخر، بينما في حالة وجود العيب في كلا الزوجين ـ خاصة في الأمور المتعلقة بالمضاجعة ـ لن يتضرّر أيّ منهما؛ لاشتراكهما في وجود العيب(٨١) .

٢ ـ ١٠ ـ وطء الفتاة غير البالغة: في الموثَّقة عن أبي جعفرعليه‌السلام (٨٢) : أنّه ورد عن الإمام عـليّعليه‌السلام قوله:((لا توطأ فتاة لأقل من عشر سنين)) ، وقد استنبط الفقهاء من هذه الرواية، أنّ علّة عدم جواز المضاجعة، هي عدم اكتمال نضج الجهاز التناسلي. ومن ناحيّة أخرى، لمّا لم تكن لديها القدرة على تحمل مشاق الحمل، فسيلحِقُ هذا العمل أفدح الأضرار النفسيّة والجسديّة بتلك الفتاة الّتي لم تبلغ

ــــــــــــــ

٧٩ ـ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج١٤، ص٥٩٢ ـ ٦١٧، أبواب العيوب والتدليس.

٨٠ ـ نفس المصدر، ج١٤، ص٥٩٣، الحديث٣.

٨١ ـ النجفي، جواهر الكلام، ج٣٠، ص٣٦١.

٨٢ ـ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج١٤، ص٧١، الباب٤٥، من أبواب مقدّمات النكاح، الحديث٧.

١٢٣

بعد؛ لذا فإنّه لا يجوز وطء الفتاة الّتي لم تبلغ عشر سنوات من عمرها، ولو كانت تمتلك النمو الجسدي الكافي، فإنّ ذلك العمل يعتبر قبيحاً عقلاً.

ورغم أنّ الرواية واردة في واقعة خاصّة، إلاّ أنّ صاحب الجواهر(٨٣) ، لأجل اكتشافه للعلّة، ولأجل إجماع الأصحاب، يحكم بعدم جواز وطء الفتاة الّتي لم تبلغ. ولا يميِّز بين الزوجة الدائمة والمستمْتَع بها (الزوجة المؤقَّتة)، ويقول: مع أخذ اشتراك العلّة بنظر الاعتبار، فإنّ تخصيص الحكم في بعض الروايات بكلمة (الزوجة)، لا يتنافى والتعميم؛ ((لأنّ التخصيص بالذِّكْر لا يقتضي تخصيص الحكم)).

ــــــــــــــ

٨٣ ـ النجفي، جواهر الكلام، ج٢٩، ص٤١٤.

١٢٤

التخصّص في الأبواب الفقهيّة مدخل إلى التَّطوير والمعاصرة(*)

الشيخ عبد الأمير قبلان

شهد العالمان العربي والإسلامي خلال القرن العشرين، بل ومنذ أوخر القرن التاسع عشر، بروز دعوات مخلِصة للنهوض بحيّة المسلمين، ولإصلاح الفكر الإسلامي وتجديده.

وقد جاءت هذه الدعوات ـ بصرف النظر عن مضامينها ـ بفعل عوامل متعدّدة، نذكر في طليعتها حالة اليقظة والوعي لدى بعض علماء الأمّة والنابهين من أبنائها، والّتي ساهم في إحداثها ردّة الفعل على التغلغل التدريجي لفكر الغرب المادي وقوانينه الوضعيّة(١) ضمن حياة المسلمين. وقد وصل تأثير الدعوات المذكورة إلى الحوزات الفقهيّة الإسلاميّة، ومنها حوزتا النجف وقم، وإنْ في وقت متأخر نسبيّاً(٢) .

في هذا السياق، انطلق الحديث من قبل العديد من الفقهاء المخلصين عن الحاجة إلى تطوير الدراسات الفقهيّة تلبيّة لمتطلبات العصر، ولكن شريطة أن لا يمسّ ذلك الثوابت الدينيّة الأصليّة؛ أي بتعبير مختصر: ((النزوع إلى المعاصرة مع التّمسّك بالأصالة)).

ــــــــــــــ

(*) أُلقيت هذه الدراسة في المؤتمر الدولي الخامس عشر للوحدة الإسلاميّة، موضوعه ((الأصالة والمعاصرة في فقه المذاهب الإسلاميّة))، الّذي يقيمه المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة، في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، المصادف ١٥ ـ ١٧ ربيع الأول/ ٢٨ ـ ٣٠ أيار ٢٠٠٢م.

١ ـ لعلّ أوّل خطوة سُجِّلت على صعيد تغلغل القوانين الوضعيّة الغربيّة في العالم الإسلامي، هي إقدام الخلافة العثُمانيّة سنة ١٨٤٠م على اعتماد قانون للعقوبات مترجَم عن قانون العقوبات الفرنسي، مع شيء من التعديل. وتزايد هذا التغلغل بالتدريج، مقابل انحسار في مساحة تطبيق الشريعة الإسلاميّة، وذلك مع ازدياد النفوذ الغربي، حتّى انتهى الحال في أكثر أنحاء العالم الإسلامي إلى انحصار تطبيق الشريعة الإسلاميّة في إطار أنظمة الأسرة أو ((الأحوال الشخصيّة)). ولكن حصل قدر من التبدُّل الإيجابي في الفترة الزمنيّة الأخيرة؛ بتأثير الصحوة الإسلاميّة المعاصرة، وقيام الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران.

٢ ـ من جملة المظاهر المبكّرة الّتي انعكست فيها هذه الدعوات على صعيد حوزة النجف، تأسيس جمعيّة منتدى النشر، على يد الشيخ محمّد رضا المظفَّر ورفاقه من العلماء... هذه الجمعيّة الّتي أنشأت ((كليّة الفقه)) الجامعيّة.

١٢٥

ويبدو أنّ مؤتمركم الكريم هذا، بجعله فكرة ((الأصالة والمعاصرة في فقه المذاهب الإسلاميّة)) عنواناً رئيساً لأبحاثه، إنّما أراد أن يعبّر عن اهتمامه بتطوير الدراسات الفقهيّة الإسلاميّة، وإنّنا إذ نشكر له ذلك، نتمنى له كل النجاح، وأن يتمخّض عن أفكار مفيدة في هذا المجال. وقد استوقفنا من جملة العناوين الفرعيّة الّتي اشتملت عليها ورقة الدعوة إلى المؤتمر، عنوان مهم يتَّصل بعمليّة تجديد الاجتهاد الفقهي، ألا وهو: ((تشجيع الاختصاص في الأبواب الفقهيّة)).

وسنحاول فيما يلي أن نطلّ إطلالة سريعة على الفكرة الّتي تضمّنها العنوان، موزّعين الكلام على عدة نقاط.

منشأ الحاجة المستمرَّة إلى الاجتهاد:

حيث إنّ الشريعة الإسلاميّة شاملة لمختلف شؤون الحياة؛ فإنّ المسلم المكلَّف، بحكم تبعيته لهذه الشريعة، لابدّ أن يكون سلوكه العملي منسجماً مع أحكامها في شتّى المجالات.

ونظراً لكون تحديد الموقف العملي، على أساس الشريعة، ليس بالأمر السهل، خصوصاً مع البُعد الزمني عن عصر النص، كما هو حالنا اليوم، وما يطرحه مثل هذا الابتعاد من إشكالات. هذا فضلاً عن طروء مسائل وحصول وقائع جديدة باستمرار؛ لذلك فقد توقّفت معرفة الموقف العملي في أكثر الحالات على بذل جهد خاص، مع تحصيل مسبَّق لجملة من العلوم بمستوى الاختصاص. وهو ما يصطلح عليه باسم ((الاجتهاد)). ومثل ذلك ليس متاحاً لكل الناس، بل لطائفة منهم فقط هم المجتهدون. ولم يبق أمام عامّة الناس غير التقليد لهؤلاء المجتهدين (أو اختيار طريق الاحتياط بالنسبة للبعض القليل منهم فقط، نظراً لصعوبة اعتماده).

١٢٦

وباب الاجتهاد أو الاستنباط ظلّ مفتوحاً ولم يُقْفَل لدى الفقه الشيعي. وممّا أسهم في تعزيز مسيرة الاستنباط لديه، ذهاب معظم الفقهاء الشيعة الأصوليين إلى حرمة تقليد الميت ابتداءً(٣) مع ما يعنيه ذلك من الحاجة المستمرَّة إلى وجود المجتهدين الأحياء، المؤهَّلين لإصدار الفتاوى للمقلِّدِين في كل عصر.

أمّا بالنسبة للفقه السنّي، فقد أقفِل ـ مع الأسف ـ باب الاجتهاد في وجهه بتأثير عوامل مختلفة، وذلك منذ منتصف القرن الرابع الهجري(٤) . ولكن شهدنا ونشهد في عصرنا الراهن دعوات متواصِلة لإعادة فتح هذا الباب بصورة واسعة، وذلك من قبل فقهاء كبار؛ بحيث لا يقتصر الأمر على الاجتهادات الجزئيّة المتعلِّقة بالمسائل المستحدَثة، بل يصل حتّى إلى الاجتهاد في الأصول(٥) .

الاجتهاد الجماعي كبديل عن النمط السائد:

إنّ النمط التاريخي المتعارف للاجتهاد، والّذي هو السائد عملياً حتّى اليوم، يقوم على أساس أنْ يتوجَّه كلّ فقيه مجتهد بمفرده لاستنباط الأحكام المتعلِّقة الشؤون بكافّة؛ بحيث يُغطِّي باجتهاده مختلف أبواب الفقه وأقسامه. وهذا النمط يمكن تسميته اصطلاحاً بالاجتهاد العام (بلحاظ شموله المجالات الحياتيّة كافّة)، أو الاجتهاد الفردي (حيث يقوم به فقيه واحد، وليس جماعة من الفقهاء المتعاونين).

وقد نهض الفقهاء الأجلاَّء دائماً ـ ومن خلال نمط الاجتهاد هذا ـ ولا زالوا ينهضون بواجبهم مشكورين في خدمة الأمّة واستنباط الأحكام الاجتهاديّة للمسائل الفقهيّة موضع ابتلائها.

ولكن إذا كان نمط الاجتهاد الفردي قد أدّى ولا يزال يؤدّي ما عليه في خدمة أبناء الأمّة، فإنّ طبيعة الحياة المتغيِّرة، وما شهده عصرنا الراهن من قفزات تطور

ــــــــــــــ

٣ ـ لاحظ مثلاً: حسين بن شهاب الدين العاملي (المتوفى سنة ١٠٧٦ هـ)، هديّة الأبرار إلى طريق الأئمّة الأطهار، النجف، ١٩٧٧م، ص٣٠٣ ـ ٣٠٤.

٤ ـ د. ناديّة شريف العمري، الاجتهاد في الإسلام ـ أصوله، أحكامه، آفاقه، ط١، مؤسّسة الرسالة، بيروت، ١٩٨١م، ص٢١٨ ـ ٢١٩.

٥ ـ لاحظ مثلاً: د. يوسف القرضاوي، المصدر نفسه، ص٤٢. والشيخ مرتضى مطهري، الاجتهاد في الإسلام، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، دون تاريخ، ص٣٥.

١٢٧

كبيرة، على الصعيدين المادي والمعرفي، أدّت إلى توسّع واضح في مجالات الاجتهاد (من خلال بروز مسائل ومشكلات وتحدّيات أكبر أمامه)، بحيث غدا أكثر صعوبة بالنسبة للفقيه الفرد.

كلّ ذلك قد دفع ببعض الفقهاء(٦) إلى طرح صيغة جديدة، وهي تعاون جماعة من الفقهاء في ممارسة الاجتهاد، بدلاً من النمط السائد. وهذه الصيغة الجديدة أطلق عليها اصطلاحاً اسم ((الاجتهاد الجماعي)).

أسلوبان مطروحان لممارسة الاجتهاد الجماعي:

وفكرة الاجتهاد الجماعي، الّتي لم تطبَّق عملياً إلاّ بصورة محدودة كما سنشير بعد قليل، يُقصد بها ـ في كلام القائلين بها ـ أحد أسلوبين للتعاون بين الفقهاء في ممارسة الاجتهاد:

الأسلوب الأوّل:

ويسمّى ((شورى الفقهاء)) أو ((المجمع الفقهي))؛ ويعني تبادل الرأي بين جماعة من المجتهدين بخصوص المسألة الواحدة؛ بحيث تكون الفتوى المتعلِّقة بالمسألة صادرة عن مجموعهم أو أكثريَّتهم، حسب النظام المتّفَق عليه بينهم. ويمكن لهؤلاء المجتهدين أن يستعينوا بخبراء فنيّين مختصّين في مجالات الحياة المختلِفة.

وقد دعا إلى اعتماد هذا الأسلوب، المؤتمر الأوّل لمجمع البحوث الإسلاميّة بالأزهر المنعقد بتاريخ شوال ١٣٨٣هـ، وتصدّى للكتابة عن كيفيّة تنظيمه العديد من الكتّاب المسلمين المعاصرين(٧) . وبادر الشيخ الدكتور مصطفى الزرقا (من سوريا) إلى تقديم اقتراح بشأنه إلى مؤتمر ((رابطة العالم الإسلامي)) الّذي عُقِد في مكّة المكرَّمة سنة ١٣٨٤ هـ، وجاء في اقتراحه: ((وطريقة ذلك ـ أي اجتهاد الجماعة ـ تأسيس مجمع الفقه الّذي يضم أشهر فقهاء العالم

ــــــــــــــ

٦ ـ لاحظ مثلاً: د. يوسف القرضاوي، الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد، مؤسّسة الرسالة، بيروت، ٢٠٠١م، ص٤٢.

والشيخ مرتضى مطهري، الاجتهاد في الإسلام، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، دون تاريخ، ص٣٥.

٧ ـ د. ناديّة العمري، المصدر نفسه، ص٢٦٤ ـ ٢٦٥.

١٢٨

الإسلامي، ممّن جمعوا بين العلم الشرعي والاستنارة الزمنيّة، وصلاح السيرة والتقوى، ويُضُّم إلى هؤلاء علماء موثوقون في دينهم من مختلف الاختصاصات الزمنيّة اللاّزمة في شؤون الاقتصاد والاجتماع والقانون والطب ونحو ذلك؛ ليكونوا بمثابة خبراء يعتمد الفقهاء رأيهم في الاختصاصات الفنيّة))(٨) .

ويظهر من هذا الاقتراح أنّ مجال الاجتهاد المطلوب هو خصوص المسائل والوقائع الجديدة الّتي حصلت في عصرنا الراهن، لا عموم المسائل، وقد وافقت ((رابطة العالم الإسلامي)) على هذا الاقتراح، وبادرت لاحقاً إلى إنشاء ((مجمع الفقه الإسلامي)). وهو يعقد اجتماعات دوريّة يتداول أعضاؤه الفقهاء خلالها بمساعدة بعض ذوي الاختصاص، في بعض الموضوعات أو المسائل المهمّة الّتي يُبتلى بها المسلمون اليوم. غير أنّ هذا المجمع لم يتقيّد بكل الضوابط الّتي تضمنها الاقتراح المشار إليه(٩) .

أما بالنسبة للمسلمين الشيعة، فقد تحقَّقت قبل حوالي عشر سنوات أوّل مبادرة ملموسة في هذا المجال، حين أقدم مُرشد الجمهوريّة الإسلاميّة سماحة السيّد عليّ الخامنئي على إصدار قرار بتأسيس هيئة فقهيّة تَضّم عدداً من الفقهاء البارزين. ووظيفة هذه الهيئة هي أن تقوم، وبصورة جماعيّة، ((بالإجابة الفقهيّة العلميّة التحقيقيّة على المسائل الّتي يتطلّبها وضع العالم الحاضر، والتقدم العلمي الجديد للفرد والمجتمع الإسلامي الحديث))(١٠) . وقبل صدور القرار المذكور بأمد غير قليل، دعا بعض علماء الشيعة إلى اعتماد هذا الأسلوب الجماعي في ممارسة الاجتهاد، باعتبار أن تبادل وجهات النظر بين العلماء بخصوص النقطة أو المسألة الواحدة، في أيّ مجال من المجالات العلميّة ـ ومنها الفقه ـ هو عامل مهم من عوامل التقدّم والتطوّر العلميّين. ومن آثار هذا التعاون والتعرّف على

ــــــــــــــ

٨ ـ منّاع القطّان، تاريخ التشريع الإسلامي، ط١٤، مؤسّسة الرسالة، بيروت، ١٩٩٦م، ص٣٣٩.

٩ ـ لاحظ: المصدر السابق نفسه، الصفحة نفسها.

١٠ ـ د. جعفر الباقري، ثوابت ومتغيّرات الحوزة العلميّة، دار الصفوة، بيروت، ١٩٩٤م، ص٩٣ ـ ٩٤.

١٢٩

وجهات نظر الآخرين، أنّ النظريّة إذا كانت نافعة وصحيحة تأخذ طريقها إلى الانتشار بسرعة، في حين يمكن ـ وبالسرعة نفسها ـ إيقاف انتشارها إذا كانت باطلة.

ولكن من وجهة نظر البعض الآخر، فإنّ هذا الأسلوب الاجتهادي يثير اشكالات عمليّة لابدّ أن تُحلّ. خاصّة في حالة اختلاف المجتهدين، والقول باعتماد رأي أكثريّتهم؛ إذ ما هو الدليل على حجيّة رأي الأكثريّة هنا؟(١١)

وقد طرح أحد فقهاء الشيعة مؤخَّراً ـ على أساس اعتماد هذا الأسلوب في الاجتهاد ـ إصدار رسالة فقهيّة عمليّة موحّدة من قبل نخبة من الفقهاء المراجع مجتمعين، كبديلٍ عن الرسائل المتعدّدة الّتي يحمل كلّ منها الآراء الاجتهاديّة لواحد من مراجع التقليد(١٢) .

وعلى كلّ حال، فإنّنا نكتفي بالإشارة السريعة إلى هذا الأسلوب الاجتهادي المقترَح؛ إذ إنّ الحديث التفصيلي عنه، وعمّا يمكن أن يُثار حوله من إشكالات، خارج عن الإطار المرسوم لبحثنا، ويحتاج إلى بحث مستقل.

الأسلوب الثاني:

المطروح للاجتهاد الجماعي، هو التخصّص في الأبواب الفقهيّة، أي توزّع أبواب الفقه أو مجالات الاجتهاد بين مجموعة من المجتهدين الحاصلين على درجة الاجتهاد المطلق؛ بحيث يتّجه كلّ منهم إلى الاستنباط في إطار قسم محدَّد منها فقط.

وهذا الأسلوب هو الّذي نتناوله هنا بالبحث التفصيلي. ويمكن أن نعبِّر عنه أيضاً بـ ((التخصّص في الاجتهاد)) أو ((الاجتهاد التخصّصي)).

ــــــــــــــ

١١ ـ لاحظ بالنسبة لتأييد الأسلوب الاجتهادي هذا: مطهري، المصدر نفسه، ص٣٥. ولاحظ بالنسبة للتحفّظ على هذا الأسلوب: آراء في المرجعيّة الشيعيّة، لمجموعة من الباحثين، ط١، دار الروضة، بيروت ١٩٩٤، ص١٢١ ـ ١٢٢.

١٢ ـ السيّد كاظم الحائري، أساس الحكومة الإسلاميّة، ط١، الدار الإسلاميّة، بيروت، ١٩٧٩م، ص١٩٥.

١٣٠

موجبات ((التخصّص في الأبواب الفقهيّة)) وفوائده:

إنّ أول من دعا إلى اعتماد هذا الأسلوب ـ أي التخصّص في عمليّة الاجتهاد الفقهي ـ في حدود اطلاعنا هو مؤسِّس حوزة قم الحديثة، الفقيه الشيعي الكبير الشيخ عبد الكريم اليزدي الحائري (قدس سره)، المتوفى سنة ١٣٥٥ هـ. هذا العالم المجاهد، الّذي تميّز إلى جانب علمه الغزير بحكمته الفائقة وصبره على أنواع المحن والبلايا في زمنه، الّتي تعرّض له المسلمون في إيران، وخصوصاً الحوزة، ، على يد الطاغية رضا شاه. كما تمّيز أيضاً إلى جانب تمسّكه الشديد بالأصالة، بروحه المنفَتِحة على العصر وإيجابيّاته. وهذا ما يظهر من اقتراحه لأسلوب التخصّص في ممارسة الاجتهاد، مضافاً إلى ما يتكشّف من بعض مواقفه الأخرى، من قبيل دعوته لتنظيم امتحانات دوريّة لطلبة الحوزة، مستفيداً ذلك ـ كما يبدو ـ من الطريقة المعتمدة في المدارس الحديثة.

وقد نقَلَ عنه اقتراح الأسلوب المذكور بعض تلاميذه كالشيخ الأراكي (قدس سره) والسيّد أحمد الزنجاني(١٣) . ومضمون اقتراح الشيخ الحائري ـ حسب المنقول عنه ـ هو تقسيم الفقه إلى أقسام تخصّصيّة. وتتوزّع هذه الأقسام على مجموعة من العلماء المجتهدين، الّذين تفقَّهوا في دورة فقهيّة عامّة وبلغوا درجة الاجتهاد المطلق، حيث يُعيِّن كلّ منهم لنفسه باباً فقهياً معيناً يختصّ فيه، ويقلّده الناس في ذلك القسم وحده. كأن يتخصّص بعض في العبادات مثلاً، وبعض آخر يتخصّص في المعاملات، وبعض في السياسات، وهكذا... كما هو الحال في الطب في الوقت الحاضر؛ حيث تشعّبت الاختصاصات: فهذا أخصّائي في القلب، وذاك في العين، وآخر في الأذن والأنف والحنجرة، وغير ذلك. فلو حصل هذا، لأمكن توفر تحقيق علمي أعمق في كلّ قسم من أقسام التخصّص الفقهي(١٤) .

ــــــــــــــ

١٣ ـ آراء في المرجعيّة الشيعيّة، مصدر سابق، ص٢٣١ ـ ٢٣٢.

١٤ ـ مطهري، الاجتهاد في الإسلام، ص٣٢ ـ ٣٣.

١٣١

ويظهر من هذا الاقتراح، أنّ الداعي إليه أمران:

الأمر الأوّل: هو توسّع مجالات الاجتهاد وتشعُّبها، إلى درجة أصبحت معها مهمّة الفقيه المتصدّي لممارسة الاجتهاد في الشؤون الحياتيّة كافّة، والحريص على درجة عالية من الجودة في عمله الاستنباطي، أصبحت معها مهمّته أكثر صعوبة ومشقّة.

وقد حصل التوسع المذكور بحكم التطور الكبير الّذي طرأ على واقع الحياة اليوم، وما طرحه هذا التطور من مسائل وتحدّيات جديدة. ثُمَّ هناك عامل إضافي آخر أدّى إلى توسيع مجالات الاجتهـاد ـ وبدرجة أخصّ بالنسبة إلى الفقيه الشيعي في وقت متأخر عن زمن الحائري ـ وهو الاهتمام الفقهي الكبير والطارئ بالمجالات الاجتماعيّة، والسياسيّة، وشؤون الدولة عموماً؛ وذلك بفعل الصحوة الإسلاميّة المعاصرة الّتي تُوِّجت بقيام الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران. ونقول الاهتمام الطارئ أو الجديد بالمجالات المذكورة، باعتبار أنّ اهتمام الفقه الشيعي كان منصباً في الماضي، على المجالات الفرديّة من حياة الإنسان، بسبب الظروف القاهرة الّتي أحاطت بالفقهاء الشيعة، وقلّصت دورهم.

أمّا الأمر الثاني: الّذي دعا إلى طرح اقتراح التخصّص في الأبواب الفقهيّة، فهو الاستفادة ممّا عليه الحال اليوم في سائر العلوم (البحتة منها والإنسانيّة)، كالطبّ، والهندسة، والفيزياء، والكيمياء، والقانون، والاقتصاد، وما إلى ذلك.

ويفصّل أحد الكتّاب المسلمين المختصّين(١٥) في شرح هذه الناحية، فيقول: إنّ النهوض بالفقه الإسلامي، شأنه شأن النهوض بأيّ علم أو فن، لا يمكن أن يتحقّق في هذا العصر إلاّ باحترام مبدأ التخصّص. هذا المبدأ الّذي يقوم على أساسه نظام التعليم الجامعي الحديث. فقد تقدّمت وتعقدّت واتّسعت دائرة مختلف العلوم في عصرنا، وتعدّدت فروع كلّ علم؛ بحيث لم يَعُد صحيحاً أن

ــــــــــــــ

١٥ ـ د. عبد الحميد متولّي، الشريعة الإسلاميّة كمصدر أساسي للدستور، ط٢، منشأة المعارف بالاسكندريّة، مصر، ١٩٧٥م، ص٣١٧.

١٣٢

نَعُدُّ أيّ فرد من الأفراد عالِماً أو أخصّائيّاً، بالمعنى الدقيق للكلمة، إلاّ في فرع من فروع أحد العلوم أو الفنون.

فأستاذ القانون، أو الطلب، أو الهندسة مثلاً، هو ـ في الحقيقة ـ أستاذ في فرع من الفروع الّتي يشتمل عليها كلّ علم من العلوم المذكور.

وكلام هذا الكاتب يتّجه إلى نظام تدريس الفقه، قبل أن يتّجه إلى عمليّة الاستنباط. ولكن هناك رباط وثيق بين الأمرين كما لا يخفى، باعتبار أنّ التدريس هو الّذي يُعِدّ الفقهاء المؤهَّلين للاستنباط.

وقد أيّد العديد من علماء الشيعة المعاصرين هذا الاقتراح، ومن بينهم الشهيد الشيخ مرتضى مطهري، الّذي روَّج له بشيءٍ من الحماس، معتبِراً بأنّ الضرورة لاعتماد التخصّص في الأبواب الفقهيّة قد حصلت منذ أكثر من قرن من الزمن، بفعل تغيّر الظروف الحياتيّة.

ويؤكّد مطهري أنّ كلّ علم من العلوم، سواء في ذلك الفقه أم غيره، ينمو تدريجيّاً حتّى يصل إلى مرحلة لا يكون بمقدور الفرد الواحد الإحاطة به من جميع جوانبه، فتأتي ضرورة التقسيم إلى فروع للتخصّص.

وبتعبير اوضح: إنّ ظهور الفروع التخصّصيّة في أيّ علم من العلوم هو، من جهة، نتيجة لتكامل ذلك العلم وتقدّمه، وهو، من جهة ثانية، يُعَدُّ سبباً لأطّراد تقدّم العلم، فتركيز الفكر حول المسائل الّتي تتعلَّق بفرع تخصُّصيٍّ معين، لابدّ أن يؤدّي إلى تقدّم هذا الفرع تقدّماً كبيراً.

ويَخْلُص الشيخ مطهري إلى القول بأنّ عدم التسليم بضرورة تنفيذ هذا الأقتراح ـ أي التخصّص في الأبواب الفقهيّة ـ يعني الوقوف بوجه تكامل الفقه وتطوّره(١٦) .

وفي طليعة مَن أيّد اقتراح التخصّص في أيامنا هذه، مُرشد الجمهوريّة

ــــــــــــــ

١٦ ـ مطهري، المصدر السابق نفسه، ص٣٣ ـ ٣٥.

ومن المفيد أن نذكِّر، بأنّ من جملة الفقهاء الّذين نوّهوا بهذا الأسلوب الاجتهادي: المرحوم الشيخ محمّد مهدي شمس الدين في كتابه ((الإجتهاد والتجديد في الفقه الإسلامي))، ط١، المؤسّسة الإسلاميّة للدِّراسات والنشر، بيروت، ١٩٩٩م، ص٣٤.

١٣٣

الإسلاميّة السيّد الخامنئي؛ الّذي أكّد على ضرورة أن يتّخذ التخصّص في الفقه وغيره من العلوم طابعاً جدّياً، فالمعاملات والعبادت وغيرها ـ كما يقول ـ وإن كانت مرتبِطة ببعضها، هي أبواب متعدّدة يمكن أن يتخصّص الفقيه في أحدها(١٧) .

ويرى بعض علماء الشيعة المتأخرين، بأنّ الفائدة من التخصّص، بعد افتراض ضرورة تحصيل الاجتهاد العام قبل مرحلته، تكمن في تفرّغ الفقيه لاستيعاب المسائل الفقهيّة الداخلة في مجال اختصاصه، كما تكمن أيضاً في زيادة كفاءته العلميّة فيما يتعلّق باستخدام الأدلة في الحق المختص به. ويضاف إلى ذلك أن طائفة واسعة من المسائل الفقهيّة تحتاج إلى خبرات غير فقهيّة إلى جانب الخبرة في المجال الفقهي(١٨) . ولا تتيسّر الخبرة الواسعة، من النوع الأول، للفقيه العام، وذلك مثل مسائل العُملة والمصارف والشركات، ومسائل القضاء المعقَّدة في المحاكم الحديثة وكذلك مسائل العلاقات والمعاهدات الدوليّة الحديثة.

كيف ندفع باقتراح التخصّص في اتّجاه التنفيذ؟

لقد مضى على تقديم هذا الاقتراح، من قبل الفقيه الكبير الشيخ الحائري، ما يناهز السبعين عاماً على الأقل. وبالرغم من مسوّغاته الوجيهة، فقد بقي خارج دائرة النقاش والتداول الجدّيّين، في أوساط الحوزات الفقهيّة الشيعيّة. والنقاش والتداول يُشكِّلان مرحلة لابدّ أن تسبق الحديث عن وجود مسعى جدّي لتنفيذ الاقتراح المذكور.

وقد يكون السبب في عدم أخذه بالجديّة الكافية، من قِبَل الحوزة حتّى الآن، هو تأثير العادة والألفة التاريخيّة الطويلة لنمط الاجتهاد السائد من جهة، ثُمَّ عدم حصول الترويج الكافي للاقتراح من جهة ثانية.

وما يكفل تنفيذ اقتراح التخصّص في الأبواب الفقهيّة، في تصوّرنا، هو:

ــــــــــــــ

١٧ ـ لاحظ: مجلة ((حوزة))، قم، العدد رقم ٤٦، ص٣١ ـ ٣٢.

١٨ ـ لاحظ: السيّد محمّد الصدر، ما وراء الفقه، دار الأضواء، بيروت، ١٩٩٩م، ج١، ص٧ ـ ١٠. والشيخ محمّد مهدي الآصفي، مقالة: ((سؤال وجواب حول الاجتهاد والتقليد))، مجلّة رسالة الثقلين، سنة٥، العدد المزدوج ١٧ و١٨، ص١٩٢ ـ ١٩٣، إيران.

١٣٤

ـ توفّر الأرضيّة النظريّة المناسبة أوّلاً؛ أي أن تكون عمليّة التبويب الفقهي ملائمة للتخصّص.

ـ توفّر الإرادة العمليّة لدى الفقهاء ثانياً؛ أي أن تّتجه مجموعة من الفقهاء إلى تطبيقه.

وسنتناول، بشيء من التفصيل، هاتين النقطتين، فيما يلي.

ضرورة ملاءمة التبويب الفقهي للتخصص:

يمكن القول بأنّ التبويب الفني الأشهر في تاريخ الفقه الشيعي، هو ذلك الّذي اعتمده المحقِّق جعفر بن الحسن الحلّي (المتوفى سنة ٦٧٦ هـ) في كتابه ((شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام)). وقد استفاد المحقِّق في تبويبه من طريقة من سبقه مع إجراء تطوير مهمّ في تلك الطريقة(١٩) . وهو قد وزّع أبواب كتابه الخمسين ونيّفاً على أربع مجموعات أو أقسام:

قسم العبادات: ويشتمل على مجموعة أبواب؛ منها: الطهارة، والصلاة، والصوم، والزكاة...

قسم العقود: ويشتمل على مجموعة أبواب؛ منها: التجارة، والرهن، والمفلَّس، والحَجر، والنكاح...

قسم الإيقاعات: ويشتمل على مجموعة أبواب؛ منها: الطلاق، والخُلع والمباراة، والظهار، والإيلاء، واللِّعان...

قسم الأحكام: ويشتمل أيضاً على مجوعة أبواب؛ منها: الصيد، والذباحة، والأطعمة والأشربة... والفرائض (أو المواريث)، والقضاء، والحدود...

وقد تَرك تبويب الحلّي لأبواب كتابه بصماته الواضحة على الكتب الفقهيّة من بعده، ويكفي أن نشير إلى المتن الفقهي الشهير: ((اللُّمعة الدمشقيّة)) لمؤلِّفه

ــــــــــــــ

١٩ ـ لاحظ ما يقوله آقا بزرك الطهراني، الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ط١، النجف، ١٩٥٩م، ج١٣، ص٤٧.

ولاحظ أيضاً: تقديم العلاّمة السيّد محمد تقي الحكيم للطبعة الجديدة من كتاب ((شرائع الإسلام)) للحلّي، دار الأضواء، بيروت، ١٩٨٣م.

١٣٥

الفقيه الكبير الشهيد الأوّل محمّد بن مكي (٧٨٦ هـ)، الّذي اتبع الطريقة نفسها في التبويب وترتيب الأبواب، باستثناء بعض التعديلات الطفيفة(٢٠) .

وقد بيّن الشهيد الأول، في كتابه (القواعد والفوائد) خلفيّة التقسيم الرباعي؛ حيث قال (ما مضمونه): الفقه، إمّا أن يرتبط بالجهات الروحيّة والأُخرويّة، وإمّا أن يرتبط بالجهات المعيشيّة الدنيويّة وتنظيمها. فالقسم الأول هو العبادات، بينما الثاني الّذي ربما نجد من يسمّيه بالمعاملات، ينقسم إلى قسمين: قسم يَضُمُّ الأحكام الّتي تترتّب على تعهُّدات لفظيّة من قبل الأفراد المكلَّفين، وآخر يضُمّ الأحكام الّتي لا تترتّب على مثل تلك التعهُّدات. والقسم الأخير يقال له الأحكام، وهو يشمل مباحث القضاء والجزاء (العقوبات) والإرث. أما القسم الأول فينقسم بدوره إلى قسمين: قسم منه يتعلّق بالتعهُّدات بين طرفين ويسمّى العقود، وقسم يتعلَّق بالتعهُّدات من طرف واحد ويسمّى الإيقاعات(٢١) .

وهذا التقسيم الرباعي يستبطن في داخله تقسيماً ثنائيّاً أساسيّاً، كما لاحظنا، هو: العبادات والمعاملات. والتقسيم الثنائي هو المتَّبع في العديد من الرسائل العمليّة المتأخرة ،مثل: ((وسيلة النجاة))، و((تحرير الوسيلة)) و((منهاج الصالحين)).

ــــــــــــــ

٢٠ ـ ما فعله الشهيد الأوّل (رحمه الله) في ((اللّمعة الدمشقيّة)) فقط، هو أنّه أدمج باب ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) ضمن كتاب الجهاد، كما دج بابي اليمين والنذر، ووضعهما بعد بابي ((الجهاد)) و((الكفّارات))، بدلاً من موقعهما في كتاب ((شرائع الإسلام)) بعد باب ((الجعالة)) (في القسم الثالث)، كما أنّه ـ أي الشهيد الأوّل ـ دمج أبواب التدبير والمكاتبة والاستيلاد في باب واحد.

٢١ ـ محمد بن مكّي العاملي، القواعد والفوائد، تحقيق: الدكتور السيّد عبد الهادي الحكيم، القسم الأوّل، ص٣٠ ـ ٣١، منشورات مكتبة المفيد، قم، دون تاريخ.

١٣٦

وإذا ما نظرنا إلى التبويب والتقسيم المعتمدين في المتون الفقهيّة السنيّة، فإنّنا نلمس بوضوح نقاط التشابه مع التبويب الفقهي الشيعي(٢٢) .

بعد هذا الاستعراض للنمط المتعارف في التبويب أو التقسيم الفقهي لدى فقهاء المسلمين (وبالأخصّ الشيعة منهم)، نلاحظ أنّ التقسيم الّذي اعتمدوه بالنسبة لأبواب المعاملات ـ وإن استند إلى مقْسَم معيّن؛ هو ((تعهّدات المكلَّفين)) ـ قد جاء، في الدرجة الأولى كما يبدو، بدافع فنّي هو تسهيل عمليّة الكتابة والبحث النظري. أمّا الأبواب الفقهيّة المتفرِّعة عن الأقسام الرئيسة، ـ وإن كانت تعبيراً عن العلاقة بين النصوص الدينيّة ومجالات الواقع الحياتي الّتي تحقِّقه

ــــــــــــــ

٢٢ ـ لاحظ مثلاً: الشيخ محمود شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة، دار الشروق، بيروت ـ القاهرة، ط١٣، ١٩٨٥م، ص٧٣. وصبحي المحمصاني، فلسفة التشريع في الإسلام، ط٣، دار العلم للملايين، بيروت ١٩٦١م، ص٢٤ ـ ٢٥.

١٣٧

عمليّة الاجتهاد ـ فهي ترتبط بالمجالات الحياتيّة الموجودة في زمن الفقهاء الأوائل كالشيخ الطوسي والمحقِّق الحلي. وهذه المجالات قد حصل فيها، مع مرور هذا الزمن الطويل، تغيّر ونموّ كبيران ويكفي، مثالاً على ذلك، أن نُشاهد التوسُّع والتشعّب الحاصلين على صعيد العلاقات الاقتصاديّة، بالقياس إلى ما كانت عليه قبل مئات السنين(٢٣) .

من هنا، يبدو الحديث عن ضرورة إجراء تعديلٍ في التبويب الفقهي السائد منطقيّاً، بإضافة أبواب جديدة تعكس ما استجدّ على صعيد الاقتصاد والمال والشؤون الاجتماعيّة وغير ذلك، وكذلك إضافة أبواب تتعلَّق بشؤون الدولة والمجتمع السياسي، الّتي كان الفقه الشيعي مقصيَّاً عن البحث فيها فيما سبق، كما أسلفنا القول. ولابدّ أيضاً، في الوقت نفسه، من إلغاء بعض الأبواب الّتي فُقد موضوعها كباب العتق؛ حيث لم يَعُد للرقّ وجود في عالم اليوم. ولا ضير في كلّ هذه التعديلات، ما دام التبويب ليس أمراً تعبّديّاً يجب التقيّد به.

وبالنسبة لتقسيمات الفقه الرئيسة المتعلِّقة بالمعاملات، قد يكون من المناسب استبدالها بتقسيمات جديدة يُستفاد فيها، ما أمكن، من العناوين المستخدَمة في القانون الوضعي الحديث... بحيث يكون هناك، مثلاً، قسم للفقه الدستوري الإسلامي، وقسم لفقه العلاقات الدوليّة، وقسم للفقه الجنائي (أو فقه العقوبات)، إلى ما هنالك من أقسام متنوعة(٢٤) .

وعلى سبيل المثال، نذكر أحد التغييرات المطلوبة والمترتِّبة على إعادة النظر في التقسيم الفقهيح وهو الحاجة إلى تجميع أبواب النكاح والطلاق والإرث تحت عنوان واحد جديد هو ((فقه الأسرة))، بدل أن تظلّ هذه الأبواب موزَّعة على الأقسام الثلاثة التقليديّة: حيث النكاح يتعلّق بقسم العقود، والطلاق بقسم الإيقاعات، وباب الإرث بقسم الأحكام.

ــــــــــــــ

٢٣ ـ لاحظ: محمّد باقر الصدر، المدرسة القرآنيّة، دار التعارف للمطبوعات، بيروت ١٩٨٠م، ص٣٠ ـ ٣١.

٢٤ ـ من جملة من نادى بتقسيم الفقه الإسلامي وفق الطريقة نفسها المعتمَدة في القانون الحديث، الكاتب الإسلامي المختص الدكتور عبد الكريم زيدان، وذلك في كتابه ((نظرات في الشريعة الإسلاميّة))، ط١، مؤسّسة الرسالة، بيروت، ٢٠٠٠م، ص١٣٩.

١٣٨

ومن الفوائد الإضافيّة المترتِّبة على الاستفادة من التقسيم القانوني الحديث، على الصعيد الفقهي، تسهيل إجراء المقارنة بين الشريعة الإسلاميّة والقانون الوضعي؛ بحيث يظهر تفوّق الشريعة وأسبقيّتها في تقديم الحلول الصحيحة للمشكلات الإنسانيّة.

وقد أكّد العديد من الفقهاء المسلمين المعاصرين، ضرورة إجراء تعديل في التبويب أو التقسيم الفقهي، نذكر منهم، مثلاً، الشهيد السيّد محمد باقر الصدر، وأبو الأعلى المودودي.

فقد اقترح السيّد الصدر تقسيماً رباعياً جديداً في مقدِّمة كتابه ((الفتاوى الواضحة))؛ وهو يتضمّن قسم العبادات، ثُمَّ قسم الأموال، المتفرّع إلى: الأموال العامّة (وهي المجعولة للمصالح العامّة)، والأموال الخاصّة (وهي الّتي لها مالك أو مُلاّك محدَّدون)، ثُمَّ قسم السلوك والآداب الشخصيّة، ويتفرّع بدوره إلى فرعين؛ هما: الروابط العائليّة وعلائق الجنسين من جهة، وما يتصّل بتنظيم السلوك الفردي في غير ذلك المجال من جهة ثانيّة، ثُمَّ هناك أخيراً قسم السلوك العام، ويتعلّق بسلوك الأجهزة الحكوميّة في الشؤون الداخليّة والخارجيّة(٢٥) .

أمّا أبو الأعلى المودودي، فيدعو إلى ترتيب موضوعات الكتب الفقهيّة على أسلوب كتب القانون في العصر الحديث، مع إمكانيّة وضع عناوين جديدة لها، ليستعين بها علماء القانون على الفهم الصحيح للفقه الإسلامي(٢٦) .

توفر الإرادة العمليّة، لدى فقهاء الحوزة، لتنفيذ الاقتراح:

وهذا يقتضي أوّلاً، مبادرة مَن يقتنع بهذا الأسلوب الاجتهادي من العلماء إلى طرحه، والتداول الكافي بشأنه مع مدرسي الحوزة، وخصوصاً الفقهاء الكبار

ــــــــــــــ

٢٥ ـ السيّد محمد باقر الصدر، الفتاوى الواضحة، ط٣، منشورات دار الكتاب اللُّبناني، بيروت، ١٩٧٧م، ص٤٦ ـ ٤٧.

٢٦ ـ أبو الأعلى المودودي، القانون الإسلامي وطرق تنفيذه (ضمن مجموعة: نظريّة الإسلام وهدْيِه)، دار الفكر، بيروت، ١٩٦٧م، ص٢٠٩.

١٣٩

فيها؛ أي أساتذة مستوى ((الخارج))؛ وذلك على أمل أن يقتنع به جماعة منهم، فيعمدوا إلى تطبيقه على مستوى التدريس في البداية، قبل أن يصل إلى مستوى مرجعيّة التقليد فيما بعد؛ وذلك بحيث يشيع اللجوء إلى ((التبعيض في التقليد) المرتبط بأبواب الفقه بين جمهور المقلّدين. وبالتالي، نسمع هؤلاء ينقلون عن أهل الخبرة قولهم: ((إنّ فلاناً هو الأعلم في مسائل العبادات، وفلاناً الآخر هو الأعلم في مسائل الاقتصاد والماليّات، وفلاناً الثالث هو الأعلم في المسائل السياسيّة)) وهكذا...

وإنّنا نرجو، في الختام، أن يساعد مؤتمركم الكريم هذا، في إذكاء النقاش حول هذا الاقتراح وبَلورته بصورة أكبر، بما يزيد من فرص النجاح في تحقيقه على أكمل وجه ممكن. وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربّ العالمين.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198